المنهج
نرى قبل أن نتناول بالبحث مذهب ابن تيمية وآراءه في القرآن وتفسيره، والفقه وأصوله، وعلم الكلام والعقائد الدينية، والتصوف والمنطق والفلسفة، وما ذهب إليه من الآراء الاجتماعية والسياسية، نقول: نرى قبل ذلك كله وما إليه، أن نتكلم عن منهجه في البحث الذي سار عليه في كل هذه النواحي.
وذلك، بأننا نرى بحق أن الباحثين من العلماء يُجمعون على أنهم لا يعملون إلا للحق، ولا يبحثون إلا عنه، ولكنهم مع هذا يختلفون في نتائج بحوثهم — حتى في العلم الواحد أو المسألة الواحدة من مسائل هذا العلم — اختلافًا كثيرًا؛ وذلك بسبب اختلافهم في المناهج التي يسيرون عليها.
وتكون النتيجة الحتمية هذه الاختلافات التي رأينا الكثير منها بين الشيخ ابن تيمية ومعاصريه، بل التي لا زلنا نحسُّها بينه وبين كثير من العلماء والفقهاء في هذا العصر الذي نعيش فيه.
بيان منهج ابن تيمية ضرورة إذن لا بدَّ منها، فقد آمن بهذا المنهج إيمانًا راسخًا لا يزول، والتزمه في كل ما كتب، وصدر عنه في كل رأي ذهب إليه، ونحن نتعرض له في هذه الكلمات:
الاعتماد على الكتاب والسنة
إنه يعتمد على كتاب الله وما صح عنده من أحاديث الرسول وسنته، ثم على آراء الصحابة، على أنه قد يحتجُّ أحيانًا بأقوال التابعين والآثار التي رويت عنهم، مستأنسًا بها وبخاصَّة في الجدل والمناظرة.
وذلك بأن القرآن قد تضمن الشريعة التي أُمرنا باتِّباعها — في أصول الدين وفي فروعه وأحكامه العلمية المعروفة بالفقه، وفي غير هذا وذاك كله من الآداب والأخلاق — أحيانًا في إجمال، وأحيانًا في تفصيل. ثم بيَّن الرسول ذلك كله، وأخذ الصحابة رضي الله عنهم بيانه وتفسيره، وعنهم أخذ التابعون بإحسان.
فليس لنا بعد هذا إلا أن نسير على هذا النهج فنصل إلى ما نريد من معرفة الدين وأصوله، وشريعة الله ورسوله، وسائر ما يجب معرفته مما فيه خير الدنيا والآخرة. وليس لنا أن نتبع غير ما عرفناه عن السلف الصالح الذين بلَّغوا إلينا ما فهموه عن الرسول فأحسنوا التبليغ، وإلا ضللنا ضلالًا بعيدًا.
ويزيد الأمر بيانًا وتفصيلًا فيقول بعد ما تقدم: وأما العمليات، وما تسميه أناس الفروع والشرع والفقه، فهذا قد بيَّنه الرسول أحسن بيان، فما من شيء مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلَّله أو حرَّمه إلا بيَّن ذلك. وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.
ثم يقول: فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان للرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويُعلم الإجماع فيستدل به … وقد استقرينا فوجدناها كلها منصوصة.
وفي غير الفقه وأصوله نجده يسير على نفس المنهج، ففي أصول الدين أو علم العقائد نراه في آرائه لا سند له إلا القرآن وأحاديث الرسول وسنته وما صحَّ عنده من أقوال الصحابة والتابعين وآرائهم، وكذلك في رده على الفلاسفة وأمثالهم ممن يحكِّمون عقولهم في العقائد الدينية.
ونجد هذا ماثلًا أمامنا في جميع ما كتبه من رسائل في هذه الناحية، وما أكثر هذه الرسائل التي تتناول العقائد التي جاء بها القرآن وبينتها أحاديث الرسول ﷺ.
ومن باب التمثيل لهذا، نذكر العقيدة الواسطية التي كتبها سنة ٦٩٨ إجابة لطلب أحد قضاة واسط، ففي هذه الرسالة لا نجد الشيخ استدل لشيء من العقائد التي يجب على كل مسلم اعتقادها في الله وصفاته، وغير ذلك من العقائد الأخرى التي يُتكلَّم عنها في علم التوحيد، إلا بالكتاب والسنة والصحيح من الآثار.
ونكتفي بما قدمناه عن هذا العنصر الأساسيِّ الأول لمنهج ابن تيمية، وسنجده واضحًا تمامًا في تفسيره لكتاب الله، وفي غيره من العلوم الإسلامية التي كتب فيها، وذلك عندما نبحث في القسم الثاني آراءه ومذهبه فيها، ونعرض الآن للعنصر الثاني من المنهج الذي لم يحد عنه قيد شعرة في كل ما كتبه.
اعتماده على العقل في مجاله
وما ينبغي لنا أن نظن أن ابن تيمية يهمل العقل وتفكيره حين يجعل الكتاب والسنة وآثار الصحابة ومن إليهم سنده الأول في بحوثه وآرائه، بل مستنده الوحيد بعبارة أدق، فإن فهم كتاب الله وسنة رسوله فهما عميقًا حقًّا يحتاج بلا ريب إلى قلب واع وعقل مفكر نافذ، ولكنه كان يعرف للعقل قيمته ومجاله الذي يصول فيه ويجول، فلا يجاوز به هذا المجال ولا يرتفع به عن قدره.
ولكن معرفة هذا المجال هي المشكلة التي شغلت الفلاسفة والمفكرين في كل عصر، وبخاصة مفكري الإسلام ورجال الفلسفة فيه، فإن منهم من آمن بالعقل ونظره إيمانًا راسخًا، ووثقوا به ثقة مطلقة، فكان هذا سبب ضلال بعضهم إلى حد كبير، حين ظنوا أنهم بعقولهم وحدها قادرين على معرفة عالم الشهادة وعالم الغيب أيضًا!
إن القرآن دعا حقًّا إلى وجوب ملاحظة ما خلق الله من عوالم مختلفة، وإلى إعمال العقل فيها؛ وذلك ليصل الإنسان إلى الإيمان بإله واحد خلق ذلك كله؛ ولذلك نجد آيات كثيرة تختم بهذه الجُمَل وأمثالها التي لها دلالتها: لعلكم تعقلون، لعلكم تذكَّرون، لعلكم تهتدون، لقوم يتفكرون.
ومهما يكن من أمر، فقد كان المعتزلة أول من أشادوا مِن بين الفرق الإسلامية بالعقل، فجعلوه الفيصل في أمر الإيمان والعقيدة، حتى ليقول في مدحه أحد قدامى رجالهم، وهو بشر بن المعتمر من بغداد:
على هذا النحو افتتن كثير من المفكرين المسلمين بالعقل، وجاوزوا به قدره ومجاله، حتى رأوا فيه فيصلًا بين الحق والباطل، ومميزًا الخير من الشر، ومن ثم، عمدوا إلى تأويل كثير من نصوص القرآن والحديث الصحيح، إذا تعارضت ومن ثم، عمدوا إلى تأويل كثير من نصوص القرآن والحديث الصحيح، إذا تعارضت في ظاهرها مع نظر العقل، لتتفق وما يرونه من حقائق أدى إليها النظر العقلي الصحيح.
وإذا كان الإمام الغزالي قد اضطر للخوض في مشكلة التأويل، وكان التأويل من عناصر منهجه في البحث، فلذلك سببه الواضح؛ فهو متكلم وفيلسوف ومتصوف معًا، فهل كان الأمر كذلك بالنسبة للإمام ابن تيمية؟ وهل كان من عناصر منهجه في البحث تأويل ما لا يتفق ونظر العقل من النصوص؟
•••
لم تعرض مشكلة تأويل نصوص القرآن والحديث لابن تيمية، وإنما هو الذي رأى ضروريًّا أن يعرض لها، وذلك حتى يدفع عن النصوص المقدسة عادية «المؤولين» الذين أسرفوا في التأويل لتشهد هذه النصوص لما ذهبوا إليه من آراء، فقد كانوا يعتقدون ثم يستدلون، أما هو فكان يستدل أولًا ثم يعتقد ثانيًا ما أداه إليه الدليل النصي.
إنه يرى أولًا أن يفرق بين التأويل في عرف السلف، وبينه عند المتكلمين — وبخاصة المعتزلة منهم — والفلاسفة والمتصوفة الإسلاميين.
ولهذا لا يجوز التوقف وترك بيان معنى الآية من آيات القرآن؛ لأن الله أمرنا أن نتدبره وأن نفهمه، والرسول ﷺ لم يترك هذا من غير بيان للصحابة. اللهم إلا أن يقال إن الرسول كان لا يعلم معاني القرآن الذي أنزل عليه، أو كان يعلمها ولم يبلِّغها كلها مع أنه مأمور من الله بالتبليغ، وكل ذلك غير معقول ولا مقبول.
وأما النوع الآخر من التأويل، الذي قال به كثير من فلاسفة الإسلام ومتصوفيه ورجال علم الكلام، فهو أمر آخر غير النوع الأول. إنه في اصطلاحهم الخاص، كما يذكر ابن تيمية نفسه «صرف اللفظ عن المعنى المدلول عليه المفهوم منه إلى معنًى آخر يخالف ذلك»؛ أي صرف اللفظ عن معناه الظاهري إلى معنًى آخر خفي.
وما دام الأمر كذلك، فلا تعارض بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح عن الرسول في رأي الشيخ الكبير؛ أي لا تعارض بين ما وصل إليه العقل السليم، وبين ما ثبت نقله عن رسول رب العالمين بطريق صحيح لا ريب فيه.
هكذا يرى بحق، وهو يؤكد في مواضع كثيرة من كتبه أنه قد تحقق ذلك بنفسه؛ إذ تبين له بعد استقصاء وتفكير طويل اتفاق ما جاء به السمع عن الرسول مع ما وصل إليه العقل الصحيح النظر، وهو في هذا يقول:
«المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها بل يُعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع.
وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد، وغير ذلك.
ولنا أن نقرر بعد ما تقدم أن ابن تيمية لم ير أن هناك مشكلة تسمى مشكلة التأويل تتطلب حلًّا لها، ولم ير أن يقوم منهجه في البحث للوصول إلى الحق على التأويل الذي أمعن فيه غيره من المعتزلة والفلاسفة وغيرهم.
وذلك لأن هذه المشكلة عرضت لهؤلاء من المسلمين لما قام لديهم من وجود تعارض بين ما جاء به الشرع؛ قرآنه وحديثه، وبين ما أدتهم إليه عقولهم، فقام منهجهم على تأويل ما لا يتفق ونظرهم العقلي من النصوص الدينية الوحيية.
ولكنه هو لا يرى وجود تعارض مطلقًا بين طريق النقل الصحيح وطريق العقل الصريح، والمنقول الذي يخالف العقل لا يكون إلا حديثًا موضوعًا أو نصًّا آخر لا يدل دلالة قاطعة على ما يراد الاستدلال به عليه، وعلى فرض وجود تعارض بين العقل والنص، يجب ترجيح الأخذ بالنص الثابت عن الأنبياء على ما يؤدي إليه العقل واستدلاله.
وكل هذا ينتهي بنا إلى النتيجة التي استخلصناها آنفًا، وهو أن مشكلة التأويل لم تعرض لابن تيمية بل هو الذي عرض لها، وأن التأويل ليس من عناصر منهجه الذي اتبعه بأمانة في كل بحوثه ومناظراته وكتاباته.
ومن البدهي مع ذلك كله، أنه لم يكن يهمل العقل والفكر في دراساته، وما كان لمثله أو لأي باحث آخر أن يهمل أشرف جزء في الإنسان، وبه كرمه الله وأعلاه على كل ما خلق، ولكنه لم يجاوز به قدره ومجاله، ولم يجعله حاكمًا على نص قرآني أو حديث صحيح، بل أراد له أن يكون دائمًا في مدار الشريعة وكتابيهما المقدسين: كتاب الله المحكم، وسنة رسوله الصحيحة، فإذا خرج به الإنسان عن هذا المدار ضل ضلالًا بعيدًا.
عدم التعصب والجمود
لم يكن الشيخ ابن تيمية بالرجل الذي يتبع غيره في رأي له بغير بينة أو دليل، ولا بالذي يتعصب لرأي ويجمد عليه، وقد بان له خطؤه، بل كان حرًّا في تفكيره في دائرة الكتاب والسنة، وما صح عن الصحابة من الآثار، غير متعصب إلا للحق وللحق وحده.
خلع عن عنقه ربقة التقليد للغير، ولم يقيد نفسه إلا بالقرآن وسنة الرسول ﷺ وآثار السلف الصالح، إذا تبين له صحة صدورها عنهم. وفي هذه المصادر الأولى للإسلام وشريعته كان له جولات ومجال أي مجال.
على كل هذا يجمع مؤرخوه، وبكل هذا تنطق رسائله وكتبه وآراؤه التي تفرد بها وهي غير قليلة، كما تنطق به حياته وما لقي من سجن واعتقال مرات بسبب بعض هذه الآراء حتى لحق بربه تعالى وهو سجين بقلعة دمشق.
وهو وإن كان حنبلي المذهب في نشأته، إلا أن ما أخذ به نفسه — من الرجوع إلى المعين الصافي الذي أخذ منه أئمة الفقه المعروفون — أداه بعد دراسات وتمحيص إلى أن يخالف مذهب الإمام ابن حنبل، بل مذاهب الفقهاء الآخرين أيضًا في بعض ما ذهب إليه.
ويظهر لنا أيضًا ما يتسم به منهج ابن تيمية من حرية الفكر، وعدم الجمود على ما رآه الفقهاء قبله مهما بلغت شهرتهم وجلالتهم في الفقه، من رأيه الذي ذهب إليه في حرية المتعاقدين في الشروط التي يريانها ويرتضيانها فيما يعقدون من عقود، سواء في هذا عقود المعاوضات والزواج وغيرها.
ثم يقول في موضع آخر كلمة موجزة جيدة جامعة، تعبر عن مذهبه بصفة عامة في العقود والشروط، وهي:
وبعد:
تلك عناصر منهج الشيخ ابن تيمية في البحث والدراسة، وسماته: الاعتماد على كتاب الله وما صح عنده من أحاديث الرسول وسنته وآثار السلف الصالح، معرفة قيمة العقل والانتفاع به غير مجاوز به قدره ومجاله، رحابة صدر وعدم تعصب وجمود، فلننظر الآن كيف كان أمينًا لهذا المنهج، وكيف التزمه وطبقه في دراساته ورسائله وكتبه.