التطبيقات
لا نريد هنا بيان التزام الشيخ ابن تيمية لمنهجه في جميع العلوم التي كتب فيها، فذلك أمر فوق الطاقة، ولا ضرورة إليه في هذا البحث، فضلًا عن أن الكثير من كتبه لم تصل إلينا؛ ولهذا نكتفي ببيان ذلك في أهم ما كتب فيه من العلوم؛ أي في علم تفسير القرآن، وعلم الكلام، وعلم الفقه.
في التفسير
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي: «قال الشيخ أبو عبد الله بن رشيق، وكان من أصحاب شيخنا (يريد ابن تيمية)، وأكثرهم كتابة لكلامه وحرصًا على جمعه: كتب الشيخ رحمه الله نُقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال، ورأيت له سورًا وآيات يفسرها ويقول في بعضها: كتبته للتذكرة ونحو ذلك.
ثم لما حُبس في آخر عمره كتبت له أن يكتب جميع القرآن تفسيرًا مرتبًا على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بيِّنٌ بنفسه، وفيه ما قد بيَّنه المفسرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدَّة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في آية تفسيرًا ويفسر غيرها بنظيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها.
ولنا أن نقرر من هذا النص الذي نقلناه لابن رشيق، أن ابن تيمية لم يحاول تفسير القرآن الكريم كله، وإن كان قد فهمه جميعه طبعًا، ولكن هذا الذي قام ببيان معانيه وتفسيره منه، وإن كان قليلًا بالنسبة لمجموع القرآن، إلا أنه كثير حقًّا في نفسه، ومنهجه واضح كل الوضوح فيه.
ومع هذا، نرى أن نرجئ النظر فيما كتبه في التفسير نظرًا شاملًا إلى القسم الخاص ببيان آرائه في العلوم المختلفة العديدة؛ أي في التفسير والفقه والعقائد وغيرها. ونقتصر هنا في بيان تطبيق منهجه العامِّ في فهم القرآن وتفسيره، على الرجوع إلى الرسالة التي كتبها هو نفسه في أصول التفسير، فإن فيها الكفاية في هذه الناحية.
يبدأ ابن تيمية رسالته ببيان مبلغ عناية الصحابة والتابعين بمعاني القرآن، والرسول بيَّن لهم هذه المعاني كما بلَّغهم ألفاظه ونصَّه الكريم، فإن قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا وهذا.
وإذا كانت آيات كثيرة في القرآن توجب علينا تدبُّره وفهمه وعِلْم ما جاء به من عقائد وأحكام، فإن الشيخ الكبير يقول بعد ذلك: وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب دون أن يستشرحوه، فكيف بكتاب الله الذي هو عصمتهم وفيه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم! ولهذا كان النزاع بين الصحابة قليلًا جدًّا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم …
- (١)
تفسير القرآن بالقرآن، وهي أحسن طرق التفسير وأعلاها مرتبة، فإن ما أُجمل في مكان قد فُسِّر وبُيِّن في موضع آخر، وما اختُصر في مكان قد بُسط في موضع آخر.
- (٢) فإن أعيانا أن نجد تفسيرًا لبعض آيات القرآن فيه، فعلينا بالمرتبة الثانية لتفسيره وهي سنة الرسول، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، وفي هذا يقول الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ؛ ولهذا قال الرسول: «ألا إني أوتيتُ القرآن ومثلَه معه»؛ يعني السنة.
- (٣)
فإن لم نجد تفسير ما نريد لا في القرآن ولا في السنة، كانت المرتبة الثالثة هي تفسيره بأقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين ومنهم عبد الله بن مسعود والحبر البحر عبد الله بن عباس.
وابن مسعود هو الذي يقول — كما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره:٧ «والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.»وابن عباس هو ابن عم رسول الله ﷺ، وهو تَرجُمان القرآن ببركة دعاء الرسول له إذ قال: «اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل.» ويقول عنه ابن مسعود فيما رواه الطبري: «نِعم تَرجُمان القرآن ابن عباس!»
- (٤) وبعد مرتبة تفسير القرآن به أو بالسنة أو بأقوال الصحابة، تجيء مرتبة تفسيره بأقوال التابعين (إن لم نجد لأحد من الصحابة قولًا فيما نريد تفسيره من كتاب الله)، مثل مجاهد، وسعيد بن جبير، وعِكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وغيره من رجال العلم بكتاب الله ومعانيه، والذين استفادوا علمهم من الصحابة رضي الله عنهم.٨
إلا أن الشيخ رحمه الله تعالى يتكلم هنا بحذر شديد ولا يرضى كل ما نسب إلى التابعين من الأقوال في تفسير القرآن، وهو من أجل هذا يقول: «إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته في أقوال الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد فإنه كان آية في التفسير.»
ثم يذكر أنه يجب أن يتفطن اللبيب لما أثر عنهم في هذا العلم؛ لأن أقوالهم ليست حجة في الفروع، فكيف تكون حجة في التفسير على غيرهم ممن خالفهم! ويختم كلامه هنا بهذه الكلمة الموجزة الجامعة:
«أما إذا اجتمعوا على الشيء (يريد: الرأي) فلا يُرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويُرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة.»
- (١)
عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «من قال في القرآن بغير علم فلْيتبوَّأ مقعده من النار.»
- (٢)
وعن جُندُب أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»؛ أي لأنه لم يأتِ الأمر من بابه.
- (٣)
وعن معمر أن أبا بكر الصديق قال: «أيُّ أرض تُقلُّني، وأي سماء تُظلُّني، إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم.»
- (٤) وقال عبد الله بن عمر: «أدركت فقهاء المدينة وإنهم لَيُعْظمون١١ القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيِّب، ونافع.»
وبعد أن ذكر ابن تيمية آثارًا كثيرة أخرى، قال في ختام مقدمته في أصول التفسير: «فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرُّجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من يتكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه. ولهذا رُوي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد.
فإنه كما يجب السكوت عما لا علم للمتكلم به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: «من سُئل عن علم فكتمه، أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار.»
وأخيرًا، يُنقل أن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: «التفسير على أربعة أوجه، وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذَر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.» والله سبحانه وتعالى أعلم.»
وبعد، إن الشيخ الكبير رضوان الله عليه لم يكن بدعًا فيما وضعه وطبَّقه من أصول التفسير، فإن كثيرًا غيره من مفسِّري كتاب الله الذين سبقوه كانوا مثله في تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم يستأنسون بأقوال التابعين يقبلون منها ما صح عندهم ورضُوه، وهذا كله ما يُعرف بالتفسير بالمأثور.
وكذلك، كما ذكر هو نفسه وكما ذكر الإمام ابن جرير الطبري في مقدمة تفسيره الكبير، كانوا يتحرَّجون من التفسير بالرأي المجرد، ولا يذهبون إليه.
ولكن ما ينبغي لنا مع هذا أن نظن أن شيخ الإسلام حصر نفسه دائمًا وفي كل حال في دائرة التفسير بالمأثور لا يعدُوها مطلقًا، فقد كان رحمه الله عميقًا في فهم القرآن وما فيه من أسرار وحِكَم، وما يؤخذ منه من تشريعات لها عللها التي يستنبطها، وغاياتها التي يُعمل عقله في تعرفها، إلى غير ذلك كله من معاني القرآن ومراميه التي سنعرف إن شاء الله جانبًا كبيرًا منها عند بحث آرائه الفقهية والكلامية والاجتماعية والسياسية.
ومن ثم، يكون لنا أن نقرر أنه كان حقًّا يمنع تفسير القرآن «بالرأي المجرد» من غير علم، الرأي الذي لا يسنده — من قريب أو بعيد — إشارة من قرآن أو حديث أو قول مأثور، ولكنه أعمل عقله فكان له في فهم كتاب الله آراء قال بها عن علم، وإن لم تكن كلها مأثورة قبله.
ومهما يكن من اعتداد شيخ الإسلام بالعقل في فهم معاني كلام الله، فإنه يحمل حملة شديدة صادقة على تفاسير المعتزلة والشيعة الرافضة والفلاسفة ومن إليهم من أهل الفرق الأخرى المبتدعة، وعلى الطرق التي اتبعوها في التفسير.
ومن باب التطبيق، أشار إلى تفسير الكشاف للزمخشري الذي يمثل رأي المعتزلة، ثم ذكر أمثلة غير قليلة لتفاسير الشيعة الرافضة الباطلة، كقولهم: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وهما أبو بكر عمر، وإِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أي عائشة، ومَرَجَ الْبَحْرَيْنِ عليًّا وفاطمة، واللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ الحسن والحسين!
ثم يقول بعد ذلك: «وفي الجملة من عدَل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا … فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا.»
في علم الكلام
في هذا العلم نجد واضحًا كل الوضوح تطبيق الشيخ رحمه الله لمنهجه العام في إثبات العقائد الدينية، مثل وجود الله وحدوث العالم عنه، ووجوب صفات الكمال، وصلة العبد بربه وما يجب الإيمان به من القضاء والقدر، على غير ذلك من العقائد التي لا يبيِّنها ولا يستدلُّ لها إلا بالقرآن والسنة، مع الميل والاستئناس بالصحيح من آثار السلف الصالح.
وهو بذلك يُبعد عن هذا العلم كل ما أدخله فيه رجاله من العناصر الفلسفية؛ ولهذا ينتقدهم بشدة كما ينتقد المناطقة والفلاسفة ومنهم الغزالي؛ لأنهم أدخلوا في أصول الدين ما لم يأذن به الله العليم الحكيم، وأوقعوا الناس في شبهات وضلالات جعلتهم ينحرفون عما جاء به كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ولذلك تراه في رسالته المسماة «العقيدة الواسطية» يشرح ما يجب الإيمان به من العقائد الدينية، ويتكلم عنها وعن أدلتها بإجمال، ولا يلجأ فيما يقول إلا إلى الكتاب والسنة، سواء في هذا الإيمانُ بالله وصفاته، والإيمان بكتابه واليوم الآخر وأحواله، والإيمان بقضاء الله وقدره، والإيمان بكرامات الأولياء وشفاعة الرسول.
- (١) قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ! فبيَّن الله هنا أن الخلق صفة كمال، وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق، وأن من عَدل هذا بهذا فقد ظلم.
- (٢) وقال: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ؟ فبيَّن أن كونه مخلوقًا عاجزًا صفة نقص، وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وأنه ليس هذا مثل هذا، وهذا لله، وذاك لما يُعبد من دون الله.
- (٣) وقال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
يقول الله تعالى: إذا كنتم ترضَون بأن يشارك المملوك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم، فكيف ترضون ذلك لي وأنا أحق بالكمال والغنى منكم؟! وهذا يبين أنه أحق بكل كمال من كل أحد.
- (٤) وقال حكاية لقول سيدنا إبراهيم عليه السلام لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا! فدلَّ على أن السميع والبصير والغنيُّ أكمل، وأن المعبود يجب أن يكون كذلك، ومثل هذا في القرآن متعدد وكثير.
وهكذا يخلص لشيخ الإسلام الاستدلال من القرآن على ثبوت صفات الكمال لله تعالى، وعلى تنزُّهه عن كل صفات النقص، مبتعدًا عما سلكه المتكلمون والفلاسفة في هذه العقائد وناقدًا لهم أشد النقد.
يفيض شيخ الإسلام في الإجابة عن هذه المسألة المهمة الدقيقة؛ مسألة عُلُوِّ الله تعالى على خلقه، ويستدل لإثبات هذه الصفة من القرآن والحديث والآثار الصحيحة المروية عن الصحابة ومن إليهم، وهو يقول في ذلك ما نصه:
تارة يخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد ذكر الاستواء على العرش في سبعة مواضع، وتارة يخبر بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه، كقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ …
وتارة يخبر بنزولها منه أو من عنده، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ … وتارة يخبر بأنه في السماء، كقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ؟ وكذلك قال النبي ﷺ: «ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء!» وقال للجارية: «أين الله؟» قالت: «في السماء.» قال: «اعتقْها فإنها مؤمنة».»
وبعد أن أورد الشيخ رحمه الله هذه النصوص وأخرى من أمثالها، قال: إنه لا يخلو الأمر من أن يكون الحق هو ما تضافرت عليه هذه النصوص من علو الله على خلقه، أو أن يكون الحق هو نفي ذلك ونقيضه.
فإن كان نفي هذا هو الحق، فإن من المعلوم أن القرآن لم يبين هذا نصًّا ولا غير نص، ولا الرسول، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، ولا يمكن أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به، وأما ما نُقل من الإثبات عن هؤلاء فأكثر من أن يُحصى أو يُحصر، وإذن يكون الحق هو إثبات صفة العُلُوِّ؛ لأن الحق لا يخرج عن أحد النقيضين كما قلنا.
ولكن لنا ولغيرنا أن يتساءل: ما حقيقة أو كيفية استواء الله تعالى على العرش، وكيف يكون في السماء وتعرُج إليه الأشياء وتنزل من عنده؟ وذلك ما يُشْعِر بالتجسيم أو التشبيه على الأقل، فهلَّا يجب تأويل هذه الآيات والأحاديث على أي نحو من أنحاء التأويل؛ أي بما يدل على أن المراد بالعُلُوِّ فيها هو عُلُوُّه تعالى في المكانة مثلًا؟
هنا يذكر ابن تيمية أن هذا التأويل المجازي لا يمكن القول به، فإنه «معلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فلا بدَّ أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي.
يريد الشيخ رحمه الله بذلك أن يقول بأنه ليس في هذه الآيات والأحاديث وأمثالها قرينة تصرفها عن ظواهرها، وترشدنا إلى وجوب تأويلها مجازيًا.
وإذن، يكون الواجب أن نؤمن — كما قال في «العقيدة الواسطية» — بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، مع الإيمان بأنه تعالى ليس كمثله شيء كما جاء في كتابه الكريم. وهذا هو ما ذهب إليه رجال السلف الصالح، وفي ذلك يقول بعضهم: الاستواء معقول (أو معلوم)، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
وبعد، تلك مُثل تطبيقية ترينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية سار في علم الكلام على المنهج العام الذي أنار له طريق البحث في كل العلوم التي تناولها بالدراسة والبحث، هو المنهج السلفي لم يحد عنه قيد شعرة.
في الفقه وأصوله
تكلمنا فيما سبق من هذا الباب عن اعتماد شيخ الإسلام في الفقه على الكتاب والسنة أولًا، ثم عن اعتباره الإجماع الحق — إجماع الأمة — والقياس الصحيح، من أصول الفقه، على أنه يرجعهما إلى الكتاب والسنة؛ لأنهما الأصلان المقدسان في كل حال.
كما ذكر أنه رحمه الله كان يُعمل العقل في مجاله، ولا يرضى التعصب والجمود، بل لا يذهب إلى ما يذهب إليه من الآراء الفقهية أو الكلامية إلا عن دليل، ولا يبالي بعد ذلك أن يخالف غيره من الفقهاء الماضين أو المعاصرين، واستشهدنا لهذا برأيه في الحرية في العقود والشروط، ما دام لا يعارض شيء منها نصًّا محكمًا من كتاب الله أو حديثًا من أحاديث رسوله الصحيحة.
- (١)
يذكر في حكم الهدية لمن يتولى عملًا من الأعمال العامة، أن من أهدى شيئًا لواحد من هؤلاء لينال ما لا يحق له كان ذلك حرامًا على المهدِي والمهدَى له، وهي من الرشوة التي قال فيها الرسول ﷺ: «لعن الله الراشي والمرتشي.»
أما إذا فعل هذا ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب، فهذه الهدية تكون حرامًا على الآخذ، وجاز للدافع فيها أن يدفعها، كما قال النبي ﷺ: «إني لأعطي أحدهم الهدية فيخرج بها نارًا يتأبَّطها.» قيل: «يا رسول الله، فلم تعطيهم؟» قال: «يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل.»
وهذا هو الحكم في الهدية للشفاعة، مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر في أن يرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقه، أو يولِّيه ولاية يستحقها … فهذه أيضًا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه.
هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر، وقد رخَّص فيه بعض المتأخرين من الفقهاء، وجعل هذا من باب «الجعالة»، وهو مخالف للسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، فهو غلط.
وذلك لأن مثل هذا العمل من المصالح العامة التي يجب القيام بها فرض عين أو فرض كفاية، ومتى سُوِّغ أخذ الجُعل على مثل هذا لم ينل غير الباذل حقه ولم يرتفع الظلم عنه.٢١ - (٢) من المعروف أن من قتل نفسًا عمدًا بغير حق عليه القَوَد، ولكن ما الحكم فيمن لم يرَ طريقًا لاسترداد ما سُرِق منه إلا بقتل السارق فقتله عمدًا؟ هنا يقول الشيخ رحمه الله تعالى: «ومن نزل مكانًا فجاء لص سرق قماشه، فلحق السارق فضربه بالسيف فمات، وكان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق، لم يلتزم الضارب بشيء، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أن لصًّا دخل داره فقام إليه بالسيف، فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف. وفي الصحيحين: «من قُتل دون ماله فهو شهيد».»٢٢
- (٣)
ومثال آخر ذكره بعد المثال السابق بقليل، وهو أن من كذب على رجل حتى ضرب وأهين وحُبس يجب عقابه عقوبة تردعه وأمثاله، بل جمهور السلف يوجبون القصاص في مثل ذلك، فمن ضرب غيره أو جرحه بغير حق، فإنه يُفعل به كما فعل، وفي هذا قال عمر رضي الله عنه:
«أيها الناس، إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلِّموكم كتاب الله وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم، فلا يبلغني أن أحدًا ضربه عامله بغير حق إلا أقَدْتُه. فراجعه عمرو بن العاص (كان والي مصر حين ذاك) في ذلك، فقال: إن رسول الله ﷺ أقاد من نفسه.»
- (٤)
بيَّنا ونحن نتكلم عن العصر الذي عاش فيه ابن تيمية، أنه كان عصرًا مليئًا بأصحاب المقالات والمذاهب والطوائف المختلفة، وأن من هذه الطوائف طائفة «النصيرية» التي كانت تزعم الإسلام ولا تعمل به، فكان من الطبعي أن يرى الشيخ وجوب قتالهم الذي اشترك بنفسه فيه، وأن يصدر فتوى شرعيةً فيهم وفي أمثالهم.
ولهذا نجده يقول: «ويجوز، بل يجب بإجماع المسلمين قتال كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، مثل الطائفة الممتنعة عن إقامة الصلوات الخمس، أو عن أداة الزكاة، أو عن الصيام المفروض، ومثل من لا يمتنع عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم بالباطل …
فهؤلاء يجب قتالهم كما أمر رسول الله ﷺ، بقتل الخوارج مع كون الصحابة كان أحدهم يحقِر صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، فقاتلهم علي رضي الله عنه.»٢٣ - (٥) ونذكر أخيرًا من مختصر الفتاوى المصرية هذا المثال، وهو خاص بضروب من الرياضة البدنية (كالمسابقة والمصارعة) التي تعين على تربية الناشئة والمجتمع تربية طيبة.٢٤إنه يبدأ الكلام بذكر أن الأعمال التي تكون بين اثنين فصاعدًا، وفيها يطلب كل منهما الغَلَب لنفسه، ثلاثة أصناف، وهي:
- (أ)
«صنف أمر به الله ورسوله كالسِّباق بالخيل، والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب؛ لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله.»
- (ب) «الثاني ما نهى الله ورسوله عنه بقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ، ومَحطُّ الاستدلال هنا هو الميسر ونحوه.»
- (جـ)
«والثالث ما هو مباح لعدم المضرَّة الراجحة، وليس مأمورًا به أمر وجوب لعدم احتياج الدين إليه، كالمصارعة والمسابقة على الأقدام ونحوه، فهذا مباح إذا خلا عن مفسدة راجحة، وقد صارع النبي وسابق وكان أصحابه يتسابقون بحضرته على أقدامهم.
ثم أخذ بعد ذلك في بحث طويل عن اختلاف الفقهاء في جواز أو تحريم أن يكون في هذا جُعْل للسابق الفائز فبعضهم وهو أبو حنيفة، أجاز هذا بشرط، والجمهور على عدم الجواز مستندين إلى حديث للرسول ﷺ، ولأن ذلك يكون من باب الميسر الذي حرمه الله في كتابه، ولكنه رحمه الله مال إلى الجواز مبيِّنًا أن ذلك ليس من الميسر الذي حرمه الله تعالى، والله أعلم.»
- (أ)
- (٦) ونختم الأمثلة التطبيقية بهذا المسألة: هل من شرط جواز المسح على الخُفَّين أن يكون الخُفُّ غير مخرَّق حتى لا يظهر شيء من القدم؟ وهل للتخريق حد؟ وما هو القول الراجح بالدليل كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
وذكر الشيخ رحمه الله أن في المسألة قولين مشهورين للعلماء، فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه يجوز المسح على ما فيه خرق يسير مع اختلافهم في حدِّ ذلك، واختار هذا بعض أصحاب ابن حنبل، ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه لا يجوز المسح إلا على ما يستر جميع محل الغسل.
ويقول أصحاب هذا القول الثاني: «إنه إذا ظهر بعض القدم فُرض غسل ما ظهر ومسحُ ما بطن، فيلزم إذن الجمع بين الأصل والبدل وهذا لا يجوز؛ لأن على المرء أن يغسل القدمين، أو أن يمسح على الخفين.»
ولكن ابن تيمية يذهب إلى أن القول الأول أصح، وهو قياس مذهب الإمام ابن حنبل؛ وذلك بأن السنة القولية والعملية أجازت المسح على الخفين مطلقًا دون اشتراط أن يكونا ساترين لكل القدمين، فضلًا عما هو معروف من العفو عن ظهور يسير العورة وعن وجود يسير النجاسة.
ومن هذا قول صفوان بن عسَّال: أمرنا رسول الله ﷺ إذا كنا سَفْرًا أو مسافرين ألا ننزع أخفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن لا تنزع من غائط وبول ونوم.
وقد استفاض عن الرسول في الصحيح أنه ﷺ مسح على الخفين، وتلقَّى عنه أصحابه ذلك، فأطلقوا القول بجواز المسح على الخفين، ونقلوا عنه أيضًا أمره بذلك مطلقًا … ومعلوم أن الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها من فتق أو خرق، ولا سيما مع تقادم عهدها، وكان كثير من الصحابة فقراء لم يكن يمكنهم تجديد ذلك …
فلما أطلق الرسول الأمر بالمسح على الخفاف مع علمه بما هي عليه من العادة، ولم يشترط أن تكون سليمة من العيوب، وجب حمل أمره على الإطلاق، ولم يجز أن يقيَّد كلامه إلا بدليل شرعي. وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه عادة فلهم أن يمسحوا عليه، وإن كان مفتوقًا أو مخروقًا من غير تحديد لمقدار ذلك، فإن التحديد لا بد له من دليل.٢٥
وأخيرًا، بهذه الأمثلة التي ترينا أن شيخ الإسلام كان أمينًا في تطبيق منهجه العام في الفقه، أمانته في تطبيقه في سائر العلوم، انتهينا من القسم الأول من هذا الكتاب، وهو القسم الذي قصرناه على بحث عصره وحياته ومنهجه، وننتقل بعد ذلك إلى القسم الثاني الذي نقصره على فقهه وآرائه الاجتماعية والسياسية وغير ذلك من مختلف الآراء التي ذهب إليها.