الفصل الأول

أصول الفقه

لكل فقيه من الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام، وابن تيمية رحمه الله لم يكن صاحب مذهب عُرف به كغيره من أولئك الأئمة، ولكنه مع اجتهاده كان حنبليًّا؛ ولذلك كانت أصوله في الفقه هي في جملتها أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

وقد كانت هذا الأصول التي اعتمد عليها الإمام ابن حنبل في فقهه وفتاويه، على ما يذكره أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيِّم (توفي سنة ٧٥١ﻫ)،١ خمسة أصول وهي: النص من الكتاب والحديث، فمتى ظفر بنص في المسألة أفتى بموجبه دون التفات إلى ما خالفه، ولا إلى من خالفه ولو كان من كبار الصحابة؛ ولهذا لم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية من الصحابة بتوريث المسلم من الكافر، عندما صح عنده الحديث المانع من التوارث بينهما بسبب اختلاف الدين.

وعند عدم النص يلجأ إلى فتوى الصحابي، فإذا وجد لبعض الصحابة فتوى لا يعرف لها منهم مخالفًا لم يتجاوزها إلى رأي آخر، دون أن يدعي أن ذلك إجماع بل يقول تورعًا ما يفيد أنه لا يعلم شيئًا يعارض هذه الفتوى.

وإذا تعددت الآراء من الصحابة في المسألة الواحدة، يلجأ إلى اختيار أقربها إلى كتاب الله وسنة رسوله، بمعنى أنه لا يخرج عن رأي من هذا الآراء؛ ولهذا كان يتوقف أحيانًا عن الفتوى إذا لم يجد مرجعًا لأحد تلك الآراء.

وبعد ذلك، كان يرجع إلى الحديث المرسل أو الضعيف مرجحًا له على القياس، ما دام ليس هناك أثر آخر يدفعه، ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه.

وأخيرًا، إن لم يجد شيئًا من الأصول الأربعة المتقدمة، لجأ إلى القياس فاستعمله للضرورة.

ومن ذلك نرى أن ابن حنبل رضي الله عنه كان رجل نص وأثر أكثر منه رجل فقه وقياس، وهكذا كان الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى، وإن كان له في بعضها نظر خاص أو زيادة في البيان والتفصيل؛ إذ يذكر أن طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عنها في أصول الفقه، هي بإجماع المسلمين الكتاب، والسنة على اختلاف أنواعها، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، ثم المصالح المرسلة.

وسنتكلم عن كل من هذه الأصول بإجمال؛ لنتبين ما يريده شيخ الإسلام بكل منها، ولنعرف المعين الضخم الذي استقى منه تراثه الفقهي الجليل.٢

الكتاب والسنة

أما كتاب الله فلم يختلف أحد من المسلمين في أنه الأصل الأول للإسلام عقائده وتشريعاته، وأخلاقه وآدابه، وأما السنة فهي الأصل الثاني بعد القرآن بالإجماع أيضًا. ويذكر الشيخ رحمه الله أنها في هذه الناحية أنواع ثلاثة:
  • النوع الأول: هو السنة المتواترة التي تفسر القرآن ولا تخالف ظاهره، مثل ما جاء منها في عدد صلوات اليوم والليلة، وعدد ركعات كل صلاة، ومقدار نصاب الزكاة في أنواع الأموال المختلفة، ومناسك الحج والعمرة وكيفية أدائهما، وغير ذلك كله من الأحكام التي بينتها السنة، ولم تعلم إلا بها.
  • والنوع الثاني منها: هو ما لا يفسر القرآن أو يقال يخالف ظاهره في شيء، ولكنه أتى بحكم جديد، مثل السنة التي جاءت في تقدير نِصَاب السرقة، ورجم الزاني، وما شاكل ذلك من السنن التي جاءت بأحكام غير منصوص عليها في القرآن ولا تخالف ظاهره مطلقًا.

    ومن البدهي أن السنة التي من النوع الأول تكون حجة فيما جاءت به؛ إذ إنها متممة لما جاء به القرآن من التشريعات التي جاء بها الدين، وكذلك النوع الثاني يجب العمل به إلا عند الخوارج أو بعضهم، وهو في هذا يقول عن هذا النوع من السنة: «فمذهب جميع السلف العمل بها أيضًا، إلا الخوارج، فإن من قولهم أو قول بعضهم مخالفة السنة (أي التي من هذا النوع) حيث قال أولهم للنبي في وجهه: «هذه القسمة ما أُريدَ بها وجه الله.»

    ويحكى عنهم أنهم لا يتَّبعونه إلا فيما بلَّغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره؛ ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

    وقال النبي لأولهم: «لقد خبْتَ وخسرتَ إن لم أعدل.» فإذا جوَّز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالمًا كاذبًا … وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن طعنًا في النقل لا ردًّا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم، كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك.»٣
  • والنوع الثالث من أنواع السنة: هو أحاديث أو أخبار الآحاد التي وصلت إلينا بروايات الثقات عن الثقات، والمتلقات بالقبول، ويعتبرها ابن تيمية حجة وأصلًا من أصول الفقه، ويجب تقديم العمل به على المصادر الأخرى التي تجيء بعده، وفيها يقول: «وهذه أيضًا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام … وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرًا منها بشروط اشترطها٤ ومعارضات دفعها بها ووضعها.
    كما يرد بعضهم بعضًا (أي من السنة)؛ لأنه يخالف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه،٥ أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الحديث والفقه وأصول الفقه.»

وهكذا نرى ابن تيمية يشتد في العمل بالسنة متى صحت، وفي اعتبارها أصلًا من أصول الفقه ولو كانت أخبار آحاد، ولا يرد بعضها لأنها مثلًا تخالف عموم القرآن أو ظاهره في رأي البعض، ولا يذهب مذهب أبي حنيفة ومالك في ردهما لبعضها لهذا السبب، أو لأنها تخالف ما عليه عمل أهل المدينة عند الأخير.

وإن كثيرًا من آي القرآن وأحاديث الرسول تؤيده في المنهج الذي سلكه، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وليست طاعة الله إلا العمل بكتابه، كما أن طاعة الرسول تكون بالعمل بسنته الصحيحة.

والرسول يقول محذرًا من ترك العمل بما صح عنه من السنة: «لا ألفينَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر بما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري! ما وجدناه في الكتاب اتبعناه.»٦

وبخاصة أن كثيرًا من الأحكام الشرعية مأخوذ من السنة النبوية، وكثيرًا أيضًا من هذه الأحكام التي ثبتت بالسنة هي في الواقع تخصيص لظاهر القرآن وعمومه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية، فهي بنصها وظاهره عامة في تحريم كل ميتة ودم، ولكن الرسول قال في حديث له: «أحِلَّت لنا ميتتان السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال»، فكان هذا الحديث مخصصًا لتلك الآية العامة.

الإجماع

والإجماع طريق من طرق الأحكام التشريعية، ولكنه يجيء بعد نصوص الكتاب والسنة بلا ريب، والإجماع الذي عليه اتفاق عامة المسلمين، والذي يعلمونه جميعًا، هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما كان بعد ذلك فالعلم به متعذر غالبًا.

ولذلك يقول ابن تيمية في رسالته عن المعجزات والكرامات: «ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة، واختلف في مسائل منه، كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي، وغير ذلك.»

كما يذكر في إحدى فتاويه أن معنى الإجماع هو أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت ذلك لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولكن كثيرًا من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعًا ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة.٧
وبعد هذا لا بد للإجماع الذي يعتبر حجة وأصلًا من أصول الفقه من سند من النصوص؛ وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون من الأحكام الفقهية يكون منصوصًا عليه من الرسول، وقد بينه في حديث له، ولكن قد يخفى النص على بعض الناس فيستدل بالإجماع الذي علمه، مع أنه لا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.٨

ويأتي الشيخ رحمه الله بمسائل كثيرة تُرى بادئ الرأي أن أحكامها ثبتت بالإجماع من غير نص عن الرسول فيها، كما يقول بعض الفقهاء، ولكنه بالبحث يظهر أن ثبوت هذه الأحكام هو بالسنة لا بالإجماع.

ومن ذلك مسألة المضاربة، فإنها — كما يقول — كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش، فإن الأغلب عليهم كان التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، والرسول قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان (هي العير التي جاء ذكرها في غزوة بدر) كان أكثرها مضاربة معه وغيره.

فلما جاء الإسلام أقرها الرسول، وكان أصحابه يتاجرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك، والسنة قوله وفعله وتقريره فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.٩ وفي رأينا أن هذا استدلال جيد، وفيه رد الأحكام إلى أصولها الصحيحة الأولى.

ونستطيع أن نذكر هنا مثالًا آخر، وهو عقد السلم، فإن الفقهاء الأحناف مثلًا يرون جوازه استحسانًا على خلاف القياس لأن فيه بيع المعدوم، ولكن الحق أنه ثابت بسنة الرسول ، فإنه جاء والناس في المدينة يتعاملون به، فأقرهم عليه كما هو معروف.

وفي رأينا أن الأمر كما يقول ابن تيمية بعد ذلك بحق؛ أي أن المسائل المجمع عليها قد تكون راجعة إلى أن طائفة من الفقهاء المجتهدين لم يعرفوا فيها نصًّا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم.

وابن جرير الطبري مع طائفة من الفقهاء يقولون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن نص عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس وحجيته، ونحن لا نشترط أن يكونوا جميعًا قد علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، ثم يقول: لكنا استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة.

هذا، ومن الطبعي أن تكون المسائل المجمع عليها قليلة في رأي ابن تيمية، بعدما رأيناه يشترط لحجية الإجماع أن يكون إجماعًا من علماء المسلمين كافة في عصر من العصور، ثم أن يكون سنده نصًّا عن الرسول ؛ ولهذا نجده ينكر القول بأن الإجماع هو المستند الذي يرجع إليه أكثر مسائل الشريعة الإسلامية، فيقول: «ومن قال من المتأخرين إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله، فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هو قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام.

وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام، حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يحتجُّ به عامتهم؛ إذ هم أهل الإجماع فلا إجماع قبلهم.

لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح: اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك، وفي رواية فبما أجمع عليه الناس … وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر: قدم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع.

وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر لقوله : «اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر.»

وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو القضاء، وهذا هو عين الصواب.»١٠

بقي بعد ذلك أن نعرف رأي ابن تيمية فيما إذا تعارض الإجماع مع نص عن الرسول ، هل يؤخذ بالإجماع ويكون ناسخًا للنص؟ أو يجب حينئذٍ ترك الإجماع والأخذ بالنص؟

هنا نراه يخطِّئ من قال من المتأخرين بأنه إن وجد نص يخالف الإجماع، اعتقد أن هذا النص قد نُسخ بنص آخر لم يبلغه، بل قال بعضهم إن الإجماع هو الذي نسخه، ومعنى هذا أو ذاك وجوب الأخذ بالإجماع مع مخالفته للنص الذي ظهر.

ثم يقرر بعد هذا أن الصواب هو غير ذلك، وهو ما كان عليه السلف؛ «وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ. فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ، فهذا ما لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه، وهي معصومة عن ذلك.» كما قال في رسالة «معارج الوصول».

ويختم هذه الرسالة بتأكيد أن السنة لا تنسخ الكتاب، وأن السنة لا ينسخها إجماع، وأن الإجماع الصحيح لا يعارض كتابًا ولا سنة.

القياس

وتجيء مرتبة هذا الأصل بعد الإجماع، لكنه القياس الصحيح الذي يطابق النص، وأُثِر الاحتجاج به في استنباط الأحكام الشرعية عن بعض الصحابة، وأقر الرسول من ذهب إليه في حياته، وذلك كما فعل مع معاذ بن جبل حين أراد إرساله إلى اليمن وسأله كيف يقضي إذا عرضت له قضية.

ولأن من الصحابة من عمل بالقياس، نرى ابن تيمية يقول: «وقد روي عن علي وزيد أنهما احتجَّا بقياس، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم» إلى آخر ما قال.١١

والقياس المعتبر عند ابن تيمية هو القياس الصحيح دون الفاسد، وهو الذي جاءت به شريعة الله ورسوله، هذه الشريعة التي جمعت في الحكم بين المتماثلين وفرقت بين المختلفين، وذلك إنما يكون بطريق القياس في المتماثلين في العلة دون المختلفين فيها.

ويذكر الشيخ رحمه الله في أول رسالته عن القياس١٢ صورتين للقياس الصحيح، وهما:
  • (أ)

    «أن تكون علة الحكم التشريعي في الأصل موجودة في الفرع، من غير معارض في الفرع يمنع حكمها.»

  • (ب)

    «القياس بإلغاء الفارق بين الصورتين؛ أي الأصل والفرع؛ أي ألا يكون بينهما فرق مؤثر في الشرع.»

ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، بل إذا جاءت الشريعة في بعض الأمور بحكم يخالف حكم نظائره، «فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره (أي في الحكم)، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر … فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر.»

•••

ولعل ابن تيمية يشير بذلك الكلام إلى مشكلة كبيرة ثارت قبله وبعده، ولا تزال تثور بين الفقهاء حتى اليوم على ما نعتقد، وقد لمسنا نحن هذه المشكلة في كتاب ظهر لنا منذ سنوات.١٣

إن النظَّام ومن تبعه من المعتزلة يقولون بأن من الحق أن العقل يقتضي التسوية في الحكم بين المتماثلات، والتفرقة فيه بين المختلفات، ولو اطرد الأمر كذلك في الشريعة كان القياس أمرًا يدعو إليه العقل.

ولكن الشارع نراه يفرق في الحكم بين الأمور المتماثلة،١٤ وقد يُسوِّي بين أمور مختلفة،١٥ وهذا على خلاف قضية العقل، وإذن لا يكون العقل مجوِّزًا للقياس.

وبعد هؤلاء المتكلمين، نجد ابن حزم المتوفى سنة ٤٥٦ﻫ يشتدُّ جدًّا في رفض القياس، اكتفاء بالقرآن والسنة، واستدلالًا لمذهبه الظاهري وتقبيحًا لمذهب معارضيه، وقد بسط ذلك كله في كتابه «الإحكام»، ورد على خصومه ردودًا لم تخلُ من حدة لسانه وشديد نقده ومرير تهكُّمه.

إنه يرى أن من قال بالقياس في الشريعة قد تعدى حدود الله وقفا ما لا علم له به، وقال فيها برأيه، ما دام لديه كتاب الله وسنة رسوله وفيهما كل غُنْية إذا عرفنا كل ما فيهما من الأحكام؛ ولهذا لم يقل صحابي قط بالقياس.

وأما كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري حين بعثه قاضيًا إلى اليمن، وكذلك نحوه مما روي عن الصحابة من الآثار التي تفيد الأخذ بالقياس، فقد أنكر هذه الآثار جميعًا بالطعن في أسانيدها من ناحية، وبإلزام خصومه؛ إذ خالفوا بعض ما توجبه من ناحية أخرى.

ثم ينتقل ابن حزم في كتابه «الإحكام» خطوة أخرى أبعد مما سار إليه، فيحاول أن يجد من القرآن والسنة نصوصًا يدعم بها مذهبه في رفض القياس رفضًا باتًّا شاملًا، فيرى هذه النصوص مبطلة للقياس، داعية إلى وجوب رفضه والعمل به في شريعة الله ورسوله، وبخاصة أنه يرى أن القول بالعلل في شيء من الشريعة وأحكامها باطل.

وفي رأينا أنه مهما تكن شدة معارضة ابن حزم، وقوة جدله ولَدَده في الخصومة، ومهما تكن حجج الذين رفضوا الأخذ بالقياس من الطوائف الأخرى، فإن الحق هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن القياس أصل من أصول الفقه ومصدر من مصادره، مصدر لا يستغني عنه فقيه، ولم ينكره صحابي من قبل، بل أرشد الله إليه في غير موضع من كتابه، كما يقول ابن تيمية وابن القيم.

لقد عرض ابن القيم — وكان أكبر حفيظ للتراث العلمي لشيخه الأكبر — في الجزء الأول من كتابه «إعلام الموقعين»، مسألة القياس عرضًا وافيًا، وبيَّن أدلة القائلين به وأدلة الآخرين الذين يرفضونه.

وتكلم عن عدم إحاطة النصوص أو إحاطتها بالحوادث التي تزيد كل يوم، ومعنى هذا الحاجةُ للقياس أو عدم الحاجة إليه، ولم ينسَ أن يعرض لمسألة كون أحكام الله معلَّلة —وحينئذٍ يتأتى القياس — أو غير معللة فلا يكون القياس ممكنًا.

وبعد هذه البحوث وأمثالها المتعلقة بالقياس والخلاف الشديد فيه،١٦ وبعد أن نقد كلًّا من الطرفين — الذين غلوا في الأخذ بالقياس، والذين غلوا في رفضه — نقول إنه بعد ذلك كله، ذكر بأن في نصوص الكتاب والسنة بيانًا للأحكام الشرعية كلها، والقياس الصحيح مع هذا حق مطابق للنصوص، وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس.١٧

•••

هذا، وإذا كان ابن تيمية قد أخذ بالقياس الصحيح، وجعله أصلًا من أصول الفقه، فإن هذا يوجب عليه بيان العلة التي بسببها نعطي للفرع حكم الأصل المقيس عليه.

وإذا كان قد رأى أن القياس المعتبر لا بد أن يطابق نصًّا من النصوص، كان لا بدَّ له من الذهاب إلى اشتمال نصوص الكتاب والسنة على جميع الأحكام الشرعية جملة وتفصيلًا.

وإذا كان قد قرَّر أن هذا القياس الصحيح لا تأتي الشريعة بخلافه قط، كان عليه بيان رأيه فيما يقال عن كثير من الأحكام التشريعية أنها ثبتت على خلاف القياس.

تلك مسائل ثلاث كان لزامًا على شيخ الإسلام أن يتناولها بالبحث والبيان، وقد فعل رحمه الله تعالى، ونحن نتكلم عنها على هذا الترتيب:
  • الأولى: علة القياس عند الفقهاء الأحناف ومن سلك طريقهم، هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي يبنى عليه الحكم الشرعي لأنه مظنته. وقرروا بعد تعريف العلة على هذا النحو أن تدور الأحكام الشرعية مع عللها وجودًا وعدمًا.
    ولهذا شرطوا فيها الشروط التي ذكرناها ومنها الانضباط؛١٨ لأنها هي التي تعرفنا وجوب إعطاء الفرع حكم الأصل متى وجدت العلة فيه؛ وبذلك تكون تكاليف الله لعباده مستقيمة، وأحكام معاملاتهم متسقة على اختلاف ضروبها، ما دام مناط الأحكام هي عللها على النحو الذي عرَّفوها به.

    ولكن ابن تيمية لا يسير معهم في تعريف العلة على هذا النحو، بل يختلف عنهم على ما نراه في كثير من كلامه وفتاويه، فهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع، أو الوصف المعتبر في حكم الله ورسوله، أو الوصف الملائم المناسب الذي استوجب الحكم الشرعي لما فيه من مصلحة، أو الحكمة الحقيقية التي كانت سبب تشريع هذا الحكم.

    وهذه العبارات متقاربة المعنى، وكلها تدور حول المصلحة أو الحكمة التشريعية، هذه الحكمة التي لا تخلو من أن تكون جلب منفعة أو دفع مضرة؛ وبذلك يتحقق قصد الشارع من تشريعاته، فإن كل أحكام الشريعة الإسلامية تحقق جلب المنافع ودفع المضار.

    والذي يتبادر إلى العقل أن يكون الأمر كما قال ابن تيمية، فتكون العلة التي يُبنى الحكم عليها وجودًا وعدمًا هي حكمته؛ لأنها الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، ولأن لكل حكم شرعي حكمته التي أرادها الله من العمل به.

    ولكن هذه الحكمة إن ظهرت لنا وعرفناها في كثير من الأحكام، فقد تكون خافية لا نستطيع التحقق منها وجودًا وعدمًا في كل حال؛ ومن ثم، شرط الأصوليون الآخرون في العلة ألا تكون وصفًا ظاهرًا مناسبًا فقط، بل أن يكون أيضًا منضبطًا محددًا يمكن التحقق من وجوده أو عدمه، ويتضح ذلك بهذا المثال: أباح الله للمسافر والمريض في رمضان الفطر، والعلة هي السفر في الأولى والمرض في الثاني، والحكمة هي دفع المشقة عن كل منهما، والسفر والمرض أمران منضبطان، على حين المشقة أمر تقديري غير منضبط فلا يمكن التحقق منه؛ ولهذا جُعلت العلة هنا مجرد السفر أو المرض وإن لم توجد مشقة في هاتين الحالتين.

    ولكن هؤلاء وجدوا عقبة في طريقهم الذي سلكوه؛ وذلك أنهم رأوا العلة التي جعلوها الوصف الظاهر الملائم المنضبط (أي لا الوصف الملائم وإن لم يكن منضبطًا تمامًا، أو الحكمة التي هي سبب التشريع)، موجودة في أشياء كانت توجب تحريمها، ومع هذا فقد ثبت جوازها بالسنة، فلجئوا إلى القول بجوازها استحسانًا لا قياسًا.

    وذلك مثل السلَم الذي أجازه الرسول بحديث معروف أقرَّ به هذا النوع من المعاملة؛ إذ وجد أهل المدينة يتعاملون به، ومثل عقد إجارة الأشياء أو الأشخاص، مع أن المعقود عليه في هذين العقدين معدوم غير مقدور التسليم حين العقد، فالعلة في تحريم كل منهما موجودة، ومع هذا هما جائزان شرعًا.

    ومهما يكن، فإن مسلك ابن تيمية لا يبعد كثيرًا عن مسلك الآخرين، فإن مبنى الأحكام الشرعية على جلب المنافع ودفع المضار وليس من الأحكام ما لا حكمة له أو ما لا يحقق مصلحة معروفة حقيقية أو يدفع ضررًا حقيقيًّا كذلك من تشريعه، وبذلك تلتقي الحكمة بالوصف الظاهر الملائم المنضبط في أكثر الأحوال.

    ومع هذا، فإن نظر ابن تيمية في هذه الناحية يجعل القياس الصحيح قريب الإدراك، ومعينًا على تعرف حِكَم التشريع، وأدنى إلى ما يتبادر إلى الذهن ويتعارفه الناس، ويجعل الأحكام الفقهية ذات آصرة قوية بتحقيق ما أراده الله من تحقيق المنافع ودفع المضار.

  • الثانية: لشيخ الإسلام رسالة أشرنا إليها كثيرًا فيما سبق، وهي «معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول»، وقد افتتحها بقوله: «إن رسول الله بيَّن الدين، أصوله وفروعه، باطنه وظاهره، علمه وعمله.»

    ولا ريب في أن المراد بفروع الدين وعمله هو الأحكام التشريعية التي تسمى أيضًا الفقه أو الشرع، وهذا كافٍ في بيان ما يراد من أن في النصوص بيانًا للشريعة الإسلامية وأحكامها، بالتفصيل حين يجب، وبالإجمال حين يكفي، وبالنص تارة، والحمل عليه تارة أخرى.

    والآن نذكر أنه رحمه الله قد رفعت إليه فتوى تعتبر من صميم الموضوع الذي نعالجه، وأجاب عنها بما نرى من الخير تلخيصه بعد ذكر نص الفتوى، وهو:

    «من يقول إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، هل قوله صواب، وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل أو الألفاظ الواردة المحتملة؟ ومن نفى القياس وأبطله من الظاهرية، هل قوله صواب، وما حجَّته في ذلك، وما معنى قولهم النص؟»١٩

    وقد بدأ الجواب بقوله بأن هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي، وهو خطأ، والصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أفعال العباد، ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد.

    وذلك أن الله بعث محمدًا بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قاعدة عامة تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد.

    وضرب لهذا الخمرَ مثلًا، فإن الله حرمها بنص القرآن والسنة، فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة فلم يحرِّم إلا ذلك، والبعض حرم أيضًا بعض الأنبذة المسكرة، ومن العلماء من حرم كل مسكر مائعًا كان أو جامدًا، وهذا وذاك بطريق القياس لعلة الإسكار في كل منها كالخمر المتخذة من عصير العنب.

    مع أن الصواب الذي عليه الأئمة الكبار هو أن الخمر المذكورة في القرآن والسنة تتناول كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة، لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلًا آخر يوافق النص، كما جاء أيضًا في صحيح مسلم أن الرسول قال: «إن كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.»

    فمن ظن أن النص القرآني لم يتناول إلا خمر العنب، وأن تحريم سائر المسكرات ثبت بالقياس، كان مخطئًا في فهم النص. ومما يؤيد شمول النص لكل مسكر أن الخمر لمَّا حُرِّمت لم يكن بالمدينة شيء من خمر العنب، وإنما كان عندهم النخل يتخذون من ثمره خمرًا، فلما نزلت آية التحريم أراقوا ما كان عندهم من أشربة، ومعنى هذا أنهم كانوا يعرفون من اللغة أو بيان الرسول أن لفظ الخمر ليس خاصًّا بعصير العنب وحده.

    وبعد أن أتى بأمثلة أخرى، وتكلم عن القياس صحيحه وفاسده، قال: «ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام المكلفين … ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسًا صحيحًا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح …

    ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة.

    فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة لا فرق في ذلك بين شراب وشراب.٢٠

    فالفرق بين جميع الأنواع المشتركة من هذا الجنس، تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص …» إلى آخر ما قال.

  • الثالثة: نرى أخيرًا أن شيخ الإسلام يقرر أن القياس الصحيح لا تأتي الشريعة قط بخلافه، ويقول إنه لا يوجد نص يخالف قياسًا صحيحًا، وإذن، فما رأيه فيما يقول الفقهاء في كثير من الأحكام التشريعية أنها جاءت على خلاف القياس؟

    إنه حقًّا لا يعبأ بالجواب، وعلمه بالسنة ودقة فهمه لنصوص القرآن والسنة التشريعية يبين في دقة صحة ما قال، ونكتفي هنا ببيان ذلك في بضع مسائل نعرف منها أنه سلك السبيل السويَّ لتأييد ما رآه حقًّا.

    ولكن نرى من الخير قبل تناول هذه المسائل أن نشير إلى أن الأحكام التي يقال عنها إنها جاءت على خلاف القياس نوعان كما يذكر ابن تيمية:٢١ نوع لا نزاع بين الفقهاء في حكمه، ونوع تنازعوا فيه:
    • والنوع الأول: يتبين أنه على وفق القياس ما دام متَّفَقًا عليه، ولكن الخلاف فيه هو هل يقاس عليه أو لا؟ فذهب طائفة من الفقهاء، وحكي هذا عن أصحاب أبي حنيفة، أنه لا يقاس عليه، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يقاس عليه غيره إن تحققت فيه شروط القياس، وهذا هو ما ذكره أصحاب الشافعي وابن حنبل وغيرهما.

      وذلك بأنهم قالوا كما يحكي عنهم ابن تيمية نفسه: إنما يُنظر إلى شروط القياس، فما عُلمت علته ألحقنا به ما شاركه في العلة، سواء قيل إنه على خلاف القياس أو لم يقل … أما إذا لم يقم دليل على أن الفرع كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس، سواء قيل إنه على وفق القياس أو خلافه؛ ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها (أي قياسًا) ما كان في معناها.

      وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح، بل ما قيل إنه على خلاف القياس لا بدَّ من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها واقتضى مفارقته لها في الحكم، وإذا كان كذلك، فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه، وإلا كان من الأمور المفارقة له.

      وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر (أي مخالف للقياس)، فيقول القائلون هذا بخلاف القياس أو بخلاف قياس الأصول، وهذا له أمثلة من أشهرها المُصَراة، فإن النبي قال: «لا تصرُّوا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاع مُصَرَّاة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخِطها ردَّها وصاعًا من تمر»، وهو حديث صحيح،٢٢ فقال قائلون هذا يخالف قياس الأصول من وجوه: منها أنه ردٌّ للمبيع بلا عيب ولا خُلف في صفة، ومنها أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وهنا قد ضمنه، ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال فهو مضمون بمثله، ومنها أن ما لا مثل له يُضمن بالقيمة من النقد، وهنا ضمنه بالتمر …

      فقال المتَّبعون للحديث بل ما ذكرتموه خطأ، والحديث موافق للأصول (فهو لهذا يكون موافقًا للقياس الصحيح)، ولو خالفها لكان هو أصلًا كما أن غيره أصل، فلا نضرب الأصول بعضها ببعض، بل يجب اتِّباعها كلها، فإنها كلها من عند الله.

      ثم أخذ الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك يبين بالدليل أن كل ما ذكره أولئك الفقهاء، من مخالفة هذا الحكم الذي ثبت بحديث الرسول للقياس، ليس صحيحًا في شيء منه، وأن هذا الحكم لا يخالف القياس بل يوافقه تمامًا، وقد نعرض لهذا الرد بالتفصيل بعد حين.

      هذا، ونأخذ الآن في الكلام عن بعض العقود التي يرى شيخ الإسلام بحق أنها جاءت على وفق القياس، لا مخالفة له كما قال جمهور الفقهاء الآخرين، وقد اخترنا أن نمثل لذلك بهذه العقود: السَّلم، الإجارة، المضاربة، ثم مسألة المُصَرَّاة:
      • السلم: من شروط صحة العقد عند جمهور الفقهاء أن يكون موضوعه (أي المعقود عليه) موجودًا حين العقد، فالمعدوم لا يصح إذن أن يكون محلًّا للتعاقد؛ لأنه من غير المعقول أن يتعلق حكم العقد وآثاره بشيء معدوم لا يُقدر على تسليمه إلا بعد إتمام التعاقد، وحينئذٍ قد يثور النزاع والخصومة بين المتعاقدين، على حين أن العقود يجب أن تقوم على التراضي من الجانبين.

        وترتب على هذا الشرط أو القاعدة، أنهم اضطروا للقول بأن عقود السَّلم والإجارة والمضاربة والاستصناع ونحوها مستثناة من هذه القاعدة العامة، وأنها تجوز شرعًا استحسانًا لا قياسًا، للحاجة إليها.

        ومن المعلوم أن السلم عقد على شيء معدوم، فإنه بيع شيء آجل بثمن عاجل، ومع هذا لا خلاف بين الفقهاء في جوازه شرعًا، لما رواه الشيخان عن طريق ابن عباس الذي قال: قدم النبي المدينة، وهم يُسلِفون بالتمر السنتين والثلاث فقال: «من أسلف٢٣ في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.»

        ولكن ابن تيمية ينكر ما ذهب إليه أولئك الفقهاء من اشتراط أن يكون موضوع العقد موجودًا غير معدوم، ومن ثم ينكر أن يكون جواز عقد السلم والإجارة ونحوهما ثبت على خلاف القياس، وهو في ذلك يقول: «لا تسلَّم صحة هذه المقدمة (أي القاعدة أو الشرط المذكور)، فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة، أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام ولا بمعنًى عام.

        وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما في النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في النهي لا الوجود ولا العدم، بل الذي ثبت في الصحيح عن النبي أنه نهى عن بيع الغرَر، والغرر ما لا يُقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا، كالعبد الآبق والبعير الشارد، ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه بل قد يحصل وقد لا يحصل، وهو غرر لا يجوز بيعه وإن كان موجودًا.

        فإن موجب البيع تسليم المبيع، والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة، فإن أمكنه أخذه كان المشتري قد قمر البائع،٢٤ وإن لم يمكنه أخذه كان البائع قد قمر المشتري.٢٥

        وهكذا المعدوم الذي هو غَرر نهى عن بيعه لكونه غررًا لا لكونه معدومًا، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل وقد لا يحمل، وإذا حمل فالمحمول لا يُعرف قدره ولا وصفه، فهذا من القمار، وهو من الميسر الذي نهى الله عنه.

        ومثل هذا إكراء دواب لا يُقدر على تسليمها، أو عقار لا يمكنه تسليمه، بل قد يحصل وقد لا يحصل، فإنه إجارة غرر» إلى آخر ما قال.٢٦

        هكذا فحص الشيخ رحمه الله عن العلة في منع بعض الأشياء المعدومة، ووجدها بحق أنها الغَرر الذي يكون فيها؛ أي عدم القدرة على تسليمها، فإذا وجدت هذه العلة في بعض الأشياء الموجودة كان بيعها أيضًا منهيًّا عنه؛ لأن في المبيع أو الإجارة في الحالين قمارًا ومَيْسرًا نهى عنه الله تعالى وحرمه بنص صريح من القرآن، وإذن يكون كل من السَّلم والإجارة على وَفق القياس بلا ريب.

        ولكنه مع هذا يخص كلًّا من هذين العقدين ونحوهما بكلمة خاصة يبين فيها أنه ثبت جوازه شرعًا على وفق القياس، فهو يذكر أن قول الفقهاء إن السلم على خلاف القياس هو من جنس ما رووه من أن الرسول قال: «لا تبع ما ليس عندك، وأرخص في السلم»، وهذا لم يُرو في الحديث وإنما هو من كلام بعض الفقهاء.٢٧

        وذلك أن الرسول نهى حكيم بن حزام أن يبيع ما ليس عنده فيكون جواز السلم بسنة الرسول مخالفًا للقياس. ولكنَّ نهي النبي حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده، إما أن يراد به بيع عين معينة ليست عنده ولا يملكها فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه، وفيه نظر.

        وإما أن يكون المراد به النهي عن بيع الإنسان ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وهذا أشبه، فيكون قد ضمن للمشتري شيئًا لا يدري هل يحصل أو لا يحصل، وهذا في السلم الحالِّ إذا لم يكن عنده ما يوفيه، والمناسبة فيه ظاهرة. وأما السلم المؤجل وهو المتعارف فهو أمر آخر.

        إن موضوع العقد (وهو المسَلم فيه) دين من الديون مؤجل في صحيفة إلى أجل معلوم، فهو كالابتياع بثمن مؤجل، ولا فرق بين أن يكون الثمن هو المؤجل أو يكون المؤجل هو موضوع العقد.

        وفي هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله (يريد أنه ثبت جوازه شرعًا بالقرآن، لا استحسانًا على خلاف القياس كما يقول الفقهاء الآخرون)، وقرأ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. وينتهي ابن تيمية من هذا بقوله: «فإباحة هذا على وفق القياس، لا على خلافه.»
      • الإجارة: تكلم ابن تيمية بعد عقد السلم عن عقد الإجارة وناقش أقوال الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن هذا العقد جارٍ على خلاف القياس؛ لأنه بيع معدوم وهو المنفعة التي تتحقق بعد العقد شيئًا فشيئًا، ولأنه يجب في العقود التي تجري على القياس القدرة على تسليم المعقود عليه عقب العقد، وانتهى من هذه المناقشة إلى أن الإجارة على وفق القياس لا على خلافه.٢٨

        إن قولهم بأن الإجارة نوع من البيع لا يخلو أن يكون المراد به أحد أمرين: البيع الخاص الذي يفهم من لفظ البيع عند الإطلاق، أو المعاوضة العامة. ولا يصح أن يراد بها المعنى الأول، فإنه إنما ينعقد على الأشياء المعينة المحدودة، أو المضمونة في الذمة، وليست الإجارة كذلك في كل حال.

        والقول بأنها نوع من المعاوضة العامة التي تتناول العقد على الأعيان أو المنافع، قول صحيح، لكن قولهم إن هذه المعاوضة لا تكون على معدوم دعوى مجردة من الدليل، بل هي دعوى كاذبة، وذلك بأن الشارع أجاز المعاوضة على الموجود وعلى المعدوم.

        ومن القياس الفاسد أن يقول قائلهم: «كما أن بيع الأعيان لا يكون إلا على موجود فكذلك بيع المنافع، وهذا حقيقة كلامه.» هذا القياس فاسد، بل في غاية الفساد، فإنه — كما يقول — من شرط القياس الصحيح أن يمكن إثبات حكم الأصل في الفرع، وهذا متعذر؛ لأن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها، فلا يتصور أن تباع المنافع في حال وجودها كما تباع الأعيان في حال وجودها.

        ولهذا أمرنا الشارع أن نؤخر العقد على الأعيان التي لم تُخلق إلى أن تُخلق، كما نهى عن بيع الحمل قبل أن يولد، والتمر قبل بُدُوِّ صلاحه، وعن بيع الحَب حتى يشتدَّ، وعلى هذا لا يبقى حكم الأصل مساويًا لحكم الفرع في كل حال.

        وإذا كان ذلك يُظهرنا على أحد الفروق بين عقد البيع والإجارة، فإن هناك فرقًا آخر ذكره شيخ الإسلام إجمالًا، وفصَّل القول فيه من بعده تلميذه ابن القيم.٢٩

        وهو أن الفقهاء حين لم يجيزوا بيع المعدوم في كل حال بَنوا على هذا بطلان ضمان الحدائق والبساتين؛ لأنه — كما يقولون — بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها، بل قبل وجودها، ومنهم من ذكر الإجماع على بطلانه.

        والحق أنه ليس لهم دليل صحيح لما ذهبوا إليه، فضلًا عن دعوى الإجماع، بل ربما كان الإجماع هو على جواز ضمان البساتين ونحوها شرعًا. فقد جرى العرف الصحيح على صحة هذه المعاملة من أيام الصحابة حتى اليوم، بل — كما يذكر ابن تيمية — إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن حديقة أسَيْد بن خُضَير ثلاث سنوات، وتسلف مقدار الضمان فقضى به دينًا كان على أسيد لأنه كان وصيَّه، ومثل هذا من عمر لم يكن ليخفى على أحد.

        بل قد كان ذلك — كما يذكر ابن القيم — بمشهد من الصحابة، ولم ينكره منهم رجل واحد، ومن جعل هذا إجماعًا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك، وأقل درجاته أن يكون قول صحابي بل قول الخليفة الراشد ولم ينكره منكر، وهذا حجة عند جمهور العلماء.

        فالصواب، إذن، هو ما فعله سيدنا عمر الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وبصحة هذا يتضح الفرق الآخر بين البيع والإجارة، «إذ الفرق — كما يقول شيخ الإسلام — بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة، ألا ترى أن النبي نهى عن بيع الحَب حتى يشتد، ثم إذا استأجر أرضًا ليزرعها جاز هذا مع أن مقصوده الحب؟ لكن مقصوده ذلك بعمله لا بعمل البائع.»

        بقي ما يقوله النافون لجريان الإجارة على وفق القياس، وهو أن موجب العقد تسليم المعقود عليه بعد إتمامه، وهذا مستحيل في الإجارة بالنسبة لموضوعها الذي يحدث آنًا بعد آن في الزمان.

        وهنا يذكر ابن تيمية أن هذا غير صحيح إن سلمنا أن عقد الإجارة هو عقد بيع، فإن موجب العقد هو ما أوجبه الشارع أو المتعاقدان على أنفسهما،٣٠ وكلاهما منتفٍ، فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك.

        بل تارة يكون العقد على هذا الوجه؛ أي يكون تسليم الثمن والمثمن عقبه، وتارة يشترطان التأخير في أحدهما، أو في محل العقد بصفة خاصة لما في ذلك من المصلحة للبائع أو المشتري، وهذا كما كان لسيدنا جابر حين باع بعيره للرسول واستثنى ظهره إلى المدينة.

        وإذن، لا دلالة في الشريعة على أن من موجبات العقد التسليم عقبه كما زعموا، وليس هذا أصلًا من أصولها يكون الخروج عنه خروجًا عن القياس، بل التسليم والقبض في الأعيان والمنافع على السواء كالقبض في الدين، تارة يكون موجب العقد قبضه عقبه حسب الإمكان، وتارة يكون موجبه تأخير التسليم لمصلحة من المصالح المشروعة.

        وأخيرًا، نذكر أنه إذا تركنا عقد الإجارة الذي لا يمكن فيه تسليم المعقود عليه عقب العقد، فإنه في عقد البيع إذا كان في تأخير تسليم المبيع ضرر يسير بالمشتري ومصلحة راجحة للبائع، نرى أنه من أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة يجب أرجحهما كما هو معروف، كما يجب دفع الضرر الأكبر باحتمال الضرر الأدنى.

        وهكذا وصل الإمام ابن تيمية إلى دفع ما يحتج به الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن عقد الإجارة يجوز استحسانًا لا قياسًا، وإلى التدليل بحق على أنه موافق للقياس ولأصول الشريعة.

      • المضاربة والمزارعة: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن هذين العقدين، وكذلك أيضًا عقد المساقاة٣١ تجوز شرعًا على خلاف القياس؛ وذلك لأنها من جنس عقد الإجارة، ومن ثم يجب أن يكون الربح معلومًا قدره حين العقد، ولكن الأمر في هذه العقود على غير هذا النحو.
        وذلك لأن أجر العامل في كل منها لم يعرف قدره عند التعاقد، بل يكتفى فيها بأنه حصة شائعة في الربح العام٣٢ كنصفه أو ثلته على حسب ما يتفق المتعاقدان عليه؛ ولهذا لا يجوز كل من هذه العقود قياسًا، بل استحسانًا.

        ولكن شيخ الإسلام لا يذهب مذهب أولئك الفقهاء؛ أي في إرجاع هذه العقود إلى الجنس الذي يدخل فيه عقد الإجارة وإلى ما استتبعه عندهم من جوازها استحسانًا لا قياسًا للسبب الذي ذكروه، بل يرى أنها من جنس عقد الشركة فتكون قياسية.

        وإنه ليبني ما يراه على أصل هام يجب التنبه إليه، فيه تتميز العقود الواردة على عمل العامل من عقد الإجارة، وهو يقول في هذا ما ينبغي أن نأتي به ولو بشيء من الاختصار؛ إذ يذكر أن العمل ثلاثة أنواع:
        • أحدها: «أن يكون العمل مقصودًا معلومًا مقدورًا على تسليمه، فهذا عقد الإجارة اللازمة؛ أي العقد اللازم.»
        • والثاني: «أن يكون العمل مقصودًا لكنه مجهول أو غَرَر فهذه الجعالة، وهي عقد جائز ليس بلازم. فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة، فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب أو بعيد … فمن عمل هذا العمل استحق الجُعل وإلا فلا.

          ويجوز أن يكون الجُعل فيها إذا حصل بالعمل جزءًا شائعًا ومجهولًا جهالة لا تمنع التسليم، مثل أن يقول أمير الغزو: من دل على حصن فله ثلث ما فيه، ويقول أمير السَّرية التي يسريها لكِ خمس ما تغنمين أو ربعه …

          ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلًا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي الذين جُعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فَرَقَاه بعضهم حتى برئ فأخذوا القطيع، فإن الجُعل كان على الشفاء لا على القراءة.»

        • وأما النوع الثالث: «فهو ما لا يقصد فيه العمل، بل المقصود المال، وهو المضاربة، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل، كما للجاعل والمستأجر قصد في عمل العامل؛ ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئًا لم يكن له شيء …
          بل هذه (أي عقد المضاربة) مشاركة، هذا ينفع بدنه (أي بعمله) وهذا ينفع ماله، وما قسم الله من الربح كان بينهما على الإشاعة؛ ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن القول الواجب في الشركة …»٣٣

          هكذا يرى شيخ الإسلام ابن تيمية بحق، وأما الذين ذهبوا إلى أن هذه العقود الثلاثة على خلاف القياس فقد ظنوا أنها من جنس الإجارة فيشترط فيها مثلها العلم بالعوضين، فلما رأوا أن العمل في هذه العقود غير معلوم وكذلك الربح قالوا بمخالفتها للقياس.

          وهذا من غلطهم كما يقول: فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات الخاصة التي يشترط فيها العلم بالعوضين، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضة وإن قيل إن فيها شوب المعاوضة.٣٤

          وبعد أن بحث ابن تيمية هذه العقود الخمسة وعقودًا كثيرة أخرى، وبين أنها جميعها على وفق القياس لا بخلافه كما زعم جمهور الفقهاء، قال ما ينبغي أن ننقله بنصه:

          «وبالجملة، فما عرفت حديثًا صحيحًا لا يمكن تخريجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسًا صحيحًا يخالف حديثًا صحيحًا، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسًا يخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما.

          لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء، فضلًا عمَّن هم دونهم، فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحِكَم والمعاني التي تضمنتها الشريعة، من أشرف العلوم فمنه الجليُّ الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم.

          فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفًا للنصوص لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام.»٣٥

مسألة المصراة

ولعل مصداق هذا التأكيد، فضلًا عما ذهب إليه في تلك العقود، رأيه في «مسألة المصرَّاة» وما جاء به حديث الرسول في ضمان لبنها الذي حلبه المشتري، فقد رأى الفقهاء قبله في أن جعل هذا الضمان صاعًا من تمر هو حكم مخالف للقياس للوجوه التي ذكرنا عنهم من قبل.٣٦

إن الشيخ، رضي الله عنه وأرضاه، بعد أن بيَّن هذه الوجوه أخذ في مناقشتها، وانتهى بأنه ليس في الحكم الذي جاء به حديث الرسول شيء يخالف القياس، بل هو على وفقه تمامًا، وذلك إذ يقول: «أما قولهم: «رد بلا عيب ولا فوات صفة» فليس في الأصول ما يوجب انحصار الرد في هذين الشيئين، بل التدليس نوع ثبت به الرد وهو من جنس الخُلف في الصفة، فإن المبيع تارة تظهر صفاته بالقول وتارة بالفعل، فإذا ظهر أنه على صفة وكان بخلافها فهو تدليس …

وأما قولهم: «الخراج بالضمان» (أي أن الأمر بردِّ صاع من تمر مخالف للقياس الذي يؤخذ من الأثر الذي يقول: الخراج بالضمان)، فإن حديث المُصرَّاة أصح منه باتفاق أهل العلم مع أنه لا منافاة بينهما، فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري …

وهنا كان اللبن موجودًا في الضرع فصار جزءًا من المبيع، ولم يجعل الصاع عوضًا عما حدث بعد العقد، بل عوضًا عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد.

وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع، فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره؛ فلهذا قرر الشارع البدل قطعًا للنزاع، وقُدِّر بغير الجنس لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيُفضي إلى الربا، بخلاف غير الجنس، فإنه كأنه ابتياع لذلك اللبن الذي تعذرت معرفة قدره، بالصاع من التمر، والتمر كان طعام أهل المدينة وهو مكيل مطعوم يُقتات به كما أن اللبن مكيل مقتات به، وهو أيضًا يقتات به بلا صنعة، بخلاف الحنطة والشعير فإنه لا يقتات به إلا بصنعة.

فهو (أي التمر) أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن؛ ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر، أو يكون ذلك لمن يقتات بالتمر، كأمره في صدقة الفطر بأن يخرج أهل كل بلد مقدار الصاع مما يقتاتون به كالشعير ونحوه.»

وبعد، فقد وصل الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى بيان وإثبات ما اعتقده الحق، وهو أنه ليس في الشريعة الإسلامية من الأحكام ما يخالف القياس الصحيح، وقد تأتَّى له ذلك بما أوتيه من الحظ الوافر في فهم الفقه وأصوله الأولى، والقدرة على رد الأحكام الشرعية إلى أصولها الأصلية بعد إدراك عللها، والفهم العميق لكتاب الله والإحاطة بقدر المستطاع بسنة رسوله.

وهو لهذا حقيق بأن يوصف بأنه فقيه مجتهد حقًّا وإن كان ينتسب للمذهب الحنبلي لاتفاقه مع مؤسسه في أصوله الفقهية، ولو تقدَّم به الزمن إلى عصر الأئمة الأربعة لعُدَّ بلا ريب من المجتهدين بإطلاق.

الاستصحاب

ويجيء هذا الأصل بعد الأصول السابقة، وهو حجة عنده وعند غيره من الفقهاء في الوصول إلى الأحكام الفقهية، ويقول في تعريفه وحُجِّيَّته: «وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه قولان.»٣٧

فإن عَرض للمجتهد عقد أو تصرفٌ جَدَّ في زمنه، وسُئل عن رأيه فيه، ولم يجد نصًّا من الكتاب أو السنة أو دليلًا شرعيًّا آخر يبين حكمه الشرعي بالإباحة أو التحريم، كان عليه أن يحكم بأنه مباح بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما حُرِّم شرعًا، وهذه الإباحة هي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض جميعًا، فما دام لم يقم لديه دليل على تغير هذه الحال، يجب أن يكون الحكم باقيًا على الإباحة الأصلية.

وكذلك الملك الثابت لشخص ما لشيء من الأشياء يعتبر قائمًا بدليل الاستصحاب، ما لم تتغير الحال فيجدَّ ما يثبت زوال ملكه له، وذمة الإنسان البريئة من شغلها بدين أو التزام يظل حكمها أنها بريئة حتى يثبت أنها مشغولة؛ وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيِّره.

ويقول الخوارزمي في كتابه «الكافي» عن هذا الدليل أو الأصل: «وهو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته.»٣٨
ومع هذا، فإن الحق في رأينا أن من التجوز عدَّ الاستصحاب دليلًا؛ لأن الدليل في الحقيقة هو الدليل الذي ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاء دلالة هذا الدليل على حكمه.٣٩

وأخيرًا، إن معنى قول الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه أن الاستصحاب حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وفي كونه حجة في اعتقاد العدم خلاف، أنه حجة لمن لا يعتقد تغير الحال التي لها حكمها الثابت بالدليل، فيندفع بها (أي بهذه الحجة) دعوى مدَّعي التغير إلا إذا قام عليه دليل، ولكنه مع هذا، ليس حجة متفقًا عليها في دعوى عدم تغير الحال فلا يصح حينئذٍ استصحاب الحكم، فقد تكون الحال قد تغيرت فعلًا مع أنه دليل على هذا التغير.

ويظهر هذا واضحًا لنا إذا أشرنا إلى مركز المفقود وحكمه عند الفقهاء؛ أي الذين يرون منهم أن الاستصحاب حجة لعدم الاعتقاد لا لاعتقاد العدم، فإن المركز الشرعي للمفقود عندهم هو اعتباره حيًّا في حق نفسه، وميتًا في حق غيره حتى تعرف وفاته أو يحكم بها القضاء، ويترتب على هذا أمران:
  • (أ)

    عدم قسمة أمواله بين ورثته بعد فقده؛ وذلك استصحابًا لحال حياته التي لم يقم دليل بعدُ على تغيرها.

  • (ب)
    ألَّا يرث أحد ممن مات من أقاربه بعد فقده؛ لأن الميراث يقتضي اعتقاد بقائه حيًّا، لا عدم اعتقاد موته فحسب. لكن استصحاب الحال يصلح علة وحجة لبقاء ما كان على ما كان (وهو حال الحياة) التي تمنع قسمة أمواله بين ورثته، لا لاكتساب حقوق جديدة لا تكون إلا إذا اعتقدنا عدم موته، وهذا ما لا يكون الاستصحاب حجة فيه عندهم، ومن هؤلاء الفقهاء الأحناف.٤٠

على حين أن الفقهاء الآخرين الذين ذهبوا إلى أن الاستصحاب يصلح حجة في الحالين، فإنهم يرون أنه استصحاب حال حياته لبقاء ما يملكه على ملكه حتى يثبت موته حقيقة أو حكمًا يستلزم اعتقادنا عدم موته فيكون له حينئذٍ وراثة من مات بعد فقده قبل الدليل على موته حقيقة أو حكمًا.

ونعتقد أن الرأي الأول الذي ذهب إليه بعض الأحناف هو الأصح، كما نرى أنه هو الذي يذهب إليه بعض الحنابلة ومنهم ابن تيمية وتلميذه الأكبر ابن القيِّم؛ وذلك بدليل ما جاء في كتبهم من المُثُل والأحكام الدالة على الذهاب إليه والأخذ به.

وفي هذا يذكر ابن القيِّم — وهو يتكلم عن الاستصحاب وتحميله البعض فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه (أي في الحالين) لعدم علمهم بتغير الحال، مع أنه ليس عدم العلم علمًا بالعدم — ما ينبغي أن ننقله عنه، وذلك إذ يقول لبيان معنى رأي بعض الأحناف: «إنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال، لإبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغيِّر له، فإذا لم نجد دليلًا نافيًا ولا مثبتًا أمكننا ألا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته.

فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدلِّ، فهو يمنعه الدلالة حيث يثبتها، لا أنه يقيم الدليل على نفي ما ادَّعاه، وهذا غير حال المعارض، فالمعارض لون والمعترض لون؛ المعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلِّم دلالته ويقيم على نقيضه.

وذهب الأكثرون، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيره، إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه؛ لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل (أي المغيِّر للحال الأولى)، غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه.»٤١ والله أعلم.

المصالح المرسلة

عُني ابن القيِّم بفقه الإمام أحمد بن حنبل وأصوله، فعليه تخرج وصار إمامًا من أئمة الفقه الإسلامي، ولكن نراه حين تكلم عن أصوله الفقهية لا يذكر فيها «المصالح المرسلة».٤٢

وعندما تناول شيخه ابن تيمية، في إحدى رسائله، بيان أصول الفقه التي يرجع إليها استنباط الأحكام التشريعية، نراه يذكر المصالح المرسلة من بينها، ولكنه يقف موقف المتشكك فيها، والمتردد في قبولها، كما سنعرف ذلك بعد حين.

نرى هذا وذاك من الشيخ وتلميذه، وهو أمر قد يثير الدهشة والعجب في بادئ الأمر؛ وذلك بأنه من المعروف أن هذا أصل من أصول الفقه عند الحنابلة، وقد استند إليه الإمام أحمد رضي الله عنه، وكذلك ابن تيمية وابن القيم، في كثير من الأحكام التي قالوا بها كما يتضح من تراثهم الفقهي الكبير.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى الإمام أحمد نفسه فقيهًا سلفيًّا يتبع نصوص الكتاب والحديث فإذا ظفر بنص في المسألة أفتى بموجبه دون التفات إلى ما خالفه أو من خالفه ولو كان من كبار الصحابة؛ ولهذا لم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية من الصحابة بتوريث المسلم من غير المسلم، عندما صح عنده حديث الرسول المانع من التوارث بينهما لاختلاف الدين.

ثم هو يأخذ، عند عدم النص، بفتاوى الصحابة وآرائهم ويختار عند تعددها في المسألة الواحدة أقربها من كتاب الله وسنة رسوله، فهو على كل حال لا يخرج عن رأي من هذه الآراء، حتى إنه — كما يذكر ابن القيم نفسه — كان يتوقف أحيانًا عن الفتوى إن لم يجد مرجحًا يرضاه لأحد تلك الآراء، كما كان لا يلجأ إلى استعمال القياس إلا للضرورة.

فإذا صح هذا، وهو صحيح، يكون من البدهي أنه كان يأخذ بأصل المصالح المرسلة كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في كثير من أحكامهم وآرائهم الفقهية، ونذكر فيها بعض المثل التي تبين ذلك أجلى بيان، وقد تناولناها في كتاب ظهر لنا منذ بضع سنوات،٤٣ وهي:
  • (أ)

    ليس في القرآن ولا في سنة الرسول نص يوجب أو لا يوجب جمع كتاب الله من الصدور والصحف والرقاع التي كان محفوظًا فيها، ومع هذا رأى الصحابة أيام الخليفة الصديق كتابته وجمعه رعاية للمصلحة العامة، بعد أن تحرج أبو بكر أول الأمر من هذا العمل وقال: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله ؟ ولكن عمر ظل يراجعه حتى شرح الله صدره له.

  • (ب)

    ثم جاء سيدنا عثمان ورأى اختلاف المسلمين، وقد ازداد تفرقهم في البلاد، في قراءة بعض حروف من القرآن، فخشي أن يؤدي الأمر إلى اختلافهم فيه كما اختلف اليهود والنصارى في كتبهم، فأمر بجمع القرآن في مصحف واحد، وفرَّق منه نسخًا في الأقطار المختلفة، ثم أمر بما سواه من الصحف ذات القراءات المخالفة فحرقت.

  • (جـ)
    منع سيدنا عمر إعطاء «المؤلفة قلوبهم» على الإسلام نصيبًا من الصدقات والزكاة مع ما جاء عن ذلك في القرآن وسنة الرسول العملية، وكان من قوله في هذا لعُيَيْنة بن حصن والأقرع بن حابس: «إن رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهَدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما.»٤٤
  • (د)

    إبقاؤه رضي الله عنه أرض العراق وغيرها من البلاد التي فُتِحت في عهده في أيدي أهلها، ووضْعُ الخراج عليهم، بدل توزيع أربعة أخماسها على الفاتحين أصحاب الحق في ذلك كما هو معروف، وكان هذا الصنيع توفيقًا من الله ورعاية للمصلحة العامة للمسلمين.

  • (هـ)
    جواز أن يفرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بد منه لتكثير الجند وإعداد السلاح؛ ليكون ذلك حماية للبلاد.٤٥
  • (و)

    قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع قيمة ما يضيع عندهم من حاجات الناس وأمتعتهم، مع أنها أمانات عندهم، والأمين لا يضمن، ولكن سيدنا علي بن أبي طالب خاف الخيانة والتقصير، فقال في هذا: لا يصلح الناس إلا ذاك.

والإمام أحمد، كما قلنا، فقيه سلفي بكل معنى الكلمة، فهو بلا ريب يأخذ بفتاوى الصحابة وبمنهاجهم في الاستنباط، وهو لهذا يرى بيقين أن من أصول الفقه مبدأ المصلحة المرسلة لما فيه من تحقيق الصالح العام، ودرء المفسدة العامة أيضًا.

ومن ثم، نجد له آراء وفتاوى كثيرة كان مصدرها هذا المبدأ، وبخاصة في باب السياسة الشرعية، ونحن نذكر من ذلك هذه الأمثلة مكتفين بها:
  • (أ)

    يرى أن جزاء من شرب الخمر في رمضان، أو أتى شيئًا نحو هذا، هو إقامة الحد عليه مع التغليظ فيه، كمثل الذي يقتل في الحرم — أي قتلًا خطأ — فعليه دية وثلث.

  • (ب)

    يرى وجوب نفي المخنث؛ لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله، وإن خاف عليهم حبَسه.

  • (جـ)
    ومما نص عليه أيضًا أن من طعن على الصحابة يجب على السلطان عقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة.٤٦
وبعد الإمام ابن حنبل نجد أصحابه وأتباعه يأخذون بهذا الأصل أيضًا على ذلك النحو، ومنهم أخيرًا ابن القيم ففي كتبه — مثل: «إعلام الموقعين»، و«زاد المعاد»، و«الطرق الحكمية» — الكثير من الآراء التي بنيت عليه، ونذكر المثل الآتية من كتابه الأخير:٤٧
  • (أ)

    روي عن الرسول أنه قال: «لا يحتكر إلا خاطئ»؛ ولهذا — كما يقول ابن القيم — كان لوليِّ الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، ومن اضطر إلى طعام — مثلًا — عند غيره لا يحتاج إليه، كان له أن يأخذ بقيمة المثل.

    ولو امتنع من بيعه له إلا بأكثر من سعره، فأخذه منه بما طلب، لم يجب عليه إلا قيمة مثله؛ وذلك دفعًا لضرر المحتاج، وفي الوقت نفسه لا ضرر فيه على المالك.

  • (ب)

    وكذلك يرى أن من اضطر إلى الاستدانة من الغير فأبى أن يعطيه إلا برِبًا أو معاملة ربوية، فأخذه منه بذلك، لم يستحق عليه للدائن إلا مقدار رأس ماله.

  • (جـ)

    وبعد ذلك تكلم عن التسعير وأن منه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، ثم قال ممثلًا لهذا النوع: «وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع عن بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير ها هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به، وفيه دفع مفسدة عامة وتحقيق مصلحة.»

  • (د)

    ومن هذا النوع أيضًا — كما يقول — أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة، كالفلاحة والنساجة وغير ذلك، فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.

  • (هـ)

    ونذكر أخيرًا أنه تكلم عن الاضطرار للسكنى فقال: إذا قُدِّر أن قومًا اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه، أو النزول في خانٍ مملوك — أي لغيرهم — أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحًى للطحين، أو دلو لنزع الماء، أو قِدْر، أو فأس، أو نحو ذلك، وجب على صاحبه بذله بلا نزاع.

لكن هل يجب أن يأخذ عليه أجرًا؟ فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل، قال شيخنا — يريد ابن تيمية: «والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانًا، كما دل عليه الكتاب والسنة.» إلى آخر ما قال.

•••

لعلنا عرفنا مما تقدم كيف أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وكيف أخذ بها الإمام ابن حنبل والذين اتبعوا مذهبه ومنهجه في الأخذ بها، فكان ذلك من العوامل التي جعلت فقهه خصبًا متفقًا مع مقاصد الشريعة التي هي تحقيق المصالح ودرء المفاسد عن الناس، هذه المصالح التي — وإن لم يشهد لاعتبارها دليل شرعي خاص — تتفق وما جاء به الدين، ولا تخالف أصلًا من أصوله.

والآن، علينا بعد ذلك أن نعرض لهذه المسائل: ما هي المصلحة المرسلة، وما هو موقف ابن تيمية منها، ولماذا تشكك وتردد فيها، وسنتناول كلًّا من هاتين المسألتين على هذا الترتيب:
  • الأولى: يجد الباحث العليم أن كل أمر تناوله الشارع بحكم من الأحكام لا بد فيه من معنًى أو وصف مناسب اقتضى هذا الحكم الشرعي، وهذا المناسب ينقسم باعتبار شهادة الشرع له بالملاءمة والتأثير وعدم ذلك إلى أقسام ثلاثة: ما يعلم أن الشارع اعتبره، وما يعلم أنه ألغاه، وما لا يعلم أنه اعتبره أو ألغاه.

    والمصالح المرسلة هي هذا القسم الثالث؛ أي الذي لا يشهد له أصل من أصول الشريعة لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، وعلى هذا يراد بها كل مصلحة غير مقيدة بنص من الشارع يدعو إلى اعتبارها أو عدم اعتبارها، ويكون في اعتبارها مع ذلك جلب نفع أو دفع ضرر، وقد يقال: إنها المصالح التي يرجع معناها إلى اعتبار أمر مناسب لا يشهد له أصل من الشارع معين.

    وليس صحيحًا ما يقوله بعض العلماء من اشتهار الإمام مالك ورجال مذهبه بانفرادهم بالقول بهذا الأصل والأخذ به، فإن الفقهاء — كما يقول الشوكاني — في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.٤٨ وإذن، يكفي أن نقول بأن المالكية هم أكثر الفقهاء أخذًا بهذا الأصل المختلف فيه من أصول الأحكام الفقهية.٤٩
    ومهما يكن، فإنه يشترط لاعتبار المصالح المرسلة مصدرًا أو أصلًا من أصول التشريع، في رأي القائلين بها، ثلاثة شروط وهي:
    • (أ) أن يكون ذلك في مسائل المعاملات لا العبادات؛ لأن هذه ثابتة لا تتغير باختلاف الزمن والأحوال، ولأن الله تعالى قد تعبدنا بها كما جاءت في الكتاب والسنة.
    • (ب) ألا تعارض هذه المصالح مقصدًا من مقاصد شريعة الله ورسوله، ولا دليلًا من أدلتها المعروفة.
    • (جـ) أن تكون مصالح حقيقية ضرورية للمجتمع، أو على الأقل أن يكون فيها تحصيل نفع أو درء ضرر حقيقي.
    وقد تعرَّض لها الإمام الشاطبي طويلًا، وبحثها من كل جهاتها، فإذا رجعنا إليه نجده يلاحظ أنه لا بد لاعتبار المصالح المرسلة من أمور ثلاثة لا تخرج عما ذكرناه، وهي ما يأتي بنص كلامه:
    • أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من دلائله.
    • والثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عُقل منها وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما يجري مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنًى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره، والحج ونحو ذلك.
    • والثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين، وأيضًا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى التخفيف لا إلى التشديد.٥٠
  • المسألة الثانية: هذه هي المصالح المرسلة كما حققها الفقهاء الأثبات، فكيف وقف الشيخ ابن تيمية منها، ولِمَ يبين من كلامه التردد في القول بها؟ نجد الإجابة من هذا وذاك فيما كتبه فيها، فلنرجع إليه،٥١ كما نجد إشارات إلى ذلك في كثير من رسائله ومؤلفاته الأخرى.

    إنه يعرِّف المصالح المرسلة فيذكر أن الطريق السابع من طرق الأحكام الشرعية هي المصالح المرسلة، وهو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة، ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان.

    ثم ينتقل إلى نقد من يضيقون مجالها، فيقول: «لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان، وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي رفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.»

    ومجال المصالح المرسلة عنده واسع يشمل أمور الدنيا والدين، ما دام مناطها تحصيل المنافع ودفع المفاسد، وآية ذلك بقسميه قوله: «وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي، فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم، فقد قصَّر.»

    هذا، وقد عرفنا من دراستنا لعصر ابن تيمية أنه كان زاخرًا بكثير من المتصوفة وأرباب المقالات المتعددة في الإسلام، فربما كان من أعمالهم ما لم يأذن به الله ورسوله ولكنهم مع هذا يرونها أعمالًا طيبة تحقق منافع وتدفع مضار كثيرة. كما كان فيه من الأمراء والسلاطين والملوك من جنحوا إلى أعمال زيَّنها لهم بعض من يحيطون بهم، زاعمين أنها كذلك تحقق منافع وتدفع أضرارًا، وهؤلاء وأولئك قد يصدق عليهم كثيرًا قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا!

    ولذلك نرى شيخ الإسلام يقف موقف المتريث، ويشكك في المصالح المرسلة، ويتردد في القول والأخذ بها إلا بعد التثبت وعن بينة، وهو لهذا يقول بعد الفقرة الأخير التي نقلناها عنه:

    «وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإنه من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه …

    وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعًا، بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.

    وحجة «الفريق» الأول، أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة «الفريق» الثاني، أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصًّا ولا قياسًا.»

    يتبين من هذا أن الشيخ رحمه الله وأرضاه لم يتردد في الواقع في قبول «المصالح المرسلة»، وفي اعتبارها من أصول الشريعة واستخراج أحكام ما يجدُّ من الحوادث والوقائع، شأنه في هذا شأن إمامه وجميع الحنابلة الذين أخذوا بها.

    ولكنه كان يدعو إلى الوقوف حتى يظهر بجلاء أن ذلك من المصالح المرسلة حقيقة أو ليس كذلك، وبخاصة أنه يرى بحق أن أحكام الشرع كلها تقوم على تحقيق المصالح ودفع المفاسد؛ ولذلك نراه أخيرًا يقول: «والقول الجامع: إن الشريعة لا تهمل مصلحة، بل الله تعالى قد أكمل الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرِّب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.

    لكن ما اعتقده العقل مصلحة إن كان الشرع لم يرد به، فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دلَّ عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، وإما أنه ليس بمصلحة واعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة، أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهَّم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ

    •••

    والآن، وقد وفقنا الله للكلام على أصول فقه شيخ الإسلام نأخذ في الكلام على فقهه نفسه، وسنرى إن شاء الله أثر هذه الأصول في آرائه الفقهية التي تزخر بها فتاويه ورسائله، وكم هو فقه خصب فيه توسعة على الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم.

    ولا عجب في ذلك، فإن مرجعه الأول والأخير في هذه الآراء هو كتاب الله وسنة رسوله ، والله يقول في كتابه العظيم: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ويقول أيضًا: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
١  راجع «إعلام الموقعين» ج١: ٢٣ وما بعدها، طبعة محمد منير الدمشقي.
٢  راجع «قاعدة في المعجزات والكرامات»، ص١٩ وما بعدها.
٣  «رسالة المعجزات والكرامات»، ص٢٠.
٤  يريد أن بعض الفقهاء، كالحنفية مثلًا، يعرضون أحاديث الآحاد على القرآن، ويقبلون منها ما كان متفقًا معه ويردون ما لم يكن كذلك.
٥  يشير بذلك إلى أن السنة هي الأصل الثاني من أصول مذهب الإمام مالك كما هو الأمر في المذاهب الأخرى، إلا أنه كما ذكر القاضي عياض بن موسى في كتابه «المدارك» كان يترك من السنة «ما وجد الجمهور والجم الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه.» وراجع «الديباج المذهب»، ص١٦.
٦  «الرسالة» للإمام الشافعي ص١٥، المطبعة الأميرية بالقاهرة سنة ١٣٢١.
٧  راجع المجلد الأول من مجموعة فتاويه الكبرى، ص٤٠٦، نشر فرج الله زكي الكردي بالقاهرة سنة ١٣٢٦ﻫ.
٨  راجع في هذا الإمام ابن حزم المتوفى سنة ٤٥٦ﻫ حيث يقول: «ولا يمكن ألبتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله .» «الإحكام في أصول الأحكام» ج٤: ١٢٩. وراجع أيضًا ما يذكره في موضع آخر من هذا الكتاب (ج٤: ١٤٤، ٢٣٢) من أن الذي نحتاج إليه جميعًا هو معرفة أحكام القرآن والسنة، ففيهما غنية عن كل دليل آخر.
٩  راجع «معارج الوصول» ص٢٠-٢١.
١٠  «معارج الوصول»، ص٢٣.
١١  «معارج الوصول» ص٢٢-٢٣.
١٢  هي «القياس في الشرع الإسلامي»، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة ١٣٤٦ﻫ، وهي مرجعنا فيما نذكره عن ابن تيمية في هذا الأصل.
١٣  راجع «المدخل لدراسة الفقه الإسلامي»، ص١٨٥–١٨٧، من الطبعة الأولى بمطبعة دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة ١٩٥٤م.
١٤  مثل قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير، وحد القاذف بالزنى دون القاذف بالكفر.
١٥  مثل إيجاب القتل بالردة والزنى مع الاختلاف بينهما.
١٦  أخذت هذه المباحث أكثر من ثلثي الجزء الأول وقسمًا كبيرًا من الثاني.
١٧  راجع أيضًا كتابنا «تاريخ الفقه الإسلامي» نشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة سنة ١٩٥٨م ص٢١ وما بعدها، فقد وفينا فيه البحث في بيان أن الاجتهاد بالرأي — ومنه ما عرف فيما بعد بالقياس — نشأ أيام الرسول نفسه، وناقشنا في ذلك آراء المستشرقين.
١٨  معنى انضباط الوصف الذي هو العلة، أن يكون أمرًا معينًا يمكن التحقق من وجوده، كالسفر المبيح للفطر في رمضان لأنه مظنة المشقة.
١٩  راجع في الفتوى والجواب عنها، المجلد الأول من مجموعة الفتاوى ص٤١٠–٤١٥.
٢٠  واضح أن هذا المعنى هو حكمة تحريم الخمر، وهو في الوقت نفسه حكمة هذا التحريم.
٢١  رسالة «القياس»، ص٥١ وما بعدها.
٢٢  لا تصروا الإبل … إلخ؛ أي لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها، فيظن المشتري أنها كثيرة اللبن دائمًا. والمصراة: هي الناقة والشاة ونحوهما التي فُعل بها ذلك، والتصرية في الأصل حبس الماء، ويراد بها هنا ترك حلب الناقة مثلًا اليومين أو الثلاثة لتبدو غزيرة اللبن في نظر المشتري.
٢٣  أي أسلم، كما جاء في رواية أخرى.
٢٤  أي لأنه تسلم ما اشترى بثمن بخس.
٢٥  لأنه ضاع عليه ما التزمه من ثمن وإن كان بخسًا.
٢٦  رسالة «القياس»، ص٤٠-٤١.
٢٧  كيف هذا، وقد جاء في سنن أبي داود (ج٣: ٣٨٤) عن حكيم بن حزام أنه قال: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، أفأبتاعه له من السوق؟ فقال الرسول: «لا تبع ما ليس عندك»، وهذا الحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال عنه الأول: إنه حديث «حسن»!
٢٨  راجع رسالة «القياس»، ص٣٠ وما بعدها.
٢٩  رسالة «القياس»، ص٤٤-٤٥، «إعلام الموقعين» ج١: ٣٦٠–٦٣٢.
٣٠  أي فيما يجوز لهما شرعًا أن يوجباه.
٣١  لا فرق بين المزارعة والمساقاة، إلا أن الأولى هي تسليم المالك أرضًا زراعية لمن يقوم بزراعتها على أن يكون الربح بينهما مناصفة أو مثالثة مثلًا، على حين أن المساقاة هي دفع إنسان شجرًا يملكه إلى من يقوم بخدمته ويكون الربح بينهما كذلك.
٣٢  الذي يأتي من الاتجار برأس المال في المضاربة، أو الزرع والثمر اللذين ينتجان من الأرض والشجر في المزارعة والمساقاة.
٣٣  رسالة القياس، ص٨-٩.
٣٤  رسالة القياس، ص٧، وينبغي هنا أن نشير إلى أن المضاربة وإن كانت عقدًا على خلاف القياس عند الأحناف تعتبر من الشركات عند فقهاء الأحناف؛ ولهذا توضع في كتبهم في باب الشركات، وكذلك المزارعة والمساقاة يأخذان حكم الشركات عند ظهور الناتج من الزروع والثمار.
٣٥  رسالة القياس ص٦١-٦٢.
٣٦  راجع ما سبق ص٨٩، وهو مأخوذ عن رسالة القياس ص٥٢.
٣٧  رسالة المعجزات والكرامات ص٢١.
٣٨  راجع «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» للإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة ١٢٥٥ﻫ، مطبعة صبيح بالقاهرة ص٢٠٨.
٣٩  «علم أصول الفقه» للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف، مطبعة النصر بالقاهرة سنة ١٩٥٤ ص١٠٢.
٤٠  راجع مثلًا: «شروح الكنز» للإمام الزيلعي ج٣: ٣١٠.
٤١  راجع «إعلام الموقعين»، ج١: ٢٩٤-٢٩٥، وراجع أيضًا في ذلك «أصول السرخسي» المتوفى سنة ٤٩٠، طبع دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة ١٣٧٢ﻫ ج٢ ص٢٢٣–٢٢٦.
٤٢  راجع «إعلام الموقعين»، ج١ ص٢٣ وما بعدها.
٤٣  «المدخل لدراسة الفقه الإسلامي»، الطبعة الأولى سنة ١٩٥٤م بمطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة ص١٩٢–١٩٤، وراجع أيضًا فيها وفي غيرها «الاعتصام» للشاطبي ج٢: ٩٩ وما بعدها.
٤٤  راجع: «أحكام القرآن» للإمام الجصاص، ج٣: ١٥٣.
٤٥  نستطيع القول، مستلهمين هذا المثل وسابقه، بأن قانون الإصلاح الزراعي — ونحوه من القرارات التي جاءت بعده — له سند قوي من الشريعة الإسلامية. وراجع في فرض بعض المال على الأغنياء للجند والسلاح وحماية الوطن، «المستصفى» للغزالي ج١: ٣٠٣-٣٠٤.
٤٦  راجع هذه الأمثلة في «إعلام الموقعين»، ج٤: ٣١٣-٣١٤.
٤٧  راجع صفحات ٢٨٤–٢٨٦، ٢٨٩، ٣٠٥.
٤٨  «إرشاد الفحول»، ص١٩١.
٤٩  راجع «المستصفى» للغزالي، ج١: ٢٨٤ وما بعدها، ففيه أن الغزالي وهو من الفقهاء الشافعية يأخذ بهذا الأصل بشرط أن تكون المصلحة ضرورية قطعية وإلا لتغير كثير من الأحكام بتغير الأحوال، وبالزعم بأن هذه أو تلك مصلحة حقيقية على حين أنها ليست كذلك. وراجع أيضًا «إرشاد الفحول»، ص٢١٢-٢١٣؛ حيث تكلم عن المصالح المرسلة أيضًا، وحقق من قال بها من الفقهاء من أصحاب المذاهب المعروفة ورجالها.
٥٠  راجع كتاب «الاعتصام»، ج٢: ١١٠-١١١، ٢١٤.
٥١  راجع رسالته في المعجزات والكرامات ص٢٢ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤