الفصل الثاني

فقه ابن تيمية

(١) نظرة عامة

نشأ ابن تيمية حنبليًّا كما هو معروف، وأفاد كثيرًا جدًّا من أصول الإمام أحمد وفقهه، إلا أنه لم يلتزمه في آرائه وفتاويه، بل كان مجتهدًا يقول ويفتي بما قام عليه الدليل وإن خالف مذهب إمامه أو مذاهب الفقهاء الآخرين المعروفين.

كل من كتبوا عنه من معاصريه أو الذين جاءوا من بعده يصفونه بالفَوق في الفقه وسائر العلوم الإسلامية، وبالاجتهاد الذي اجتمعت له أدواته وتوافرت فيه شروطه، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وكان معاصرًا له، يقول عنه في كلام له: «واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.»١

ويذكره الحافظ الكبير أبو الحجاج المزِّي، وهو أستاذ أئمة الجرح والتعديل في زمنه، فيقول: «ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه»، كما جاء في كتاب «شذرات الذهب» في ترجمته.

كما يقول عنه الإمام الذهبي في تاريخه الكبير: «ولقد كان عجبًا في معرفة علم الحديث، فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند، فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلًا»، على ما نقله ابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة».

ويضاف إلى هذا، عنايته التامة بتتبُّع فتاوى الصحابة والتابعين، فصار عليمًا بها، كما عني كذلك بدراسة فقه كل من المذاهب المعروفة فوقف على آرائهم واختلافاتهم وأسباب هذه الاختلافات، حتى «كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء» كما يذكر ابن رجب في الطبقات.

لا عجب، بعد هذا كله، إذا رأيناه قد انكسرت عنه رِبْقة التقليد لمذهب الإمام أحمد أو غيره، بل كان يذهب إلى ما يراه حقًّا وقام الدليل عليه، غير ناظر إلى موافقته أو مخالفته لأيِّ من هذه المذاهب، كما كان فيما يختاره من مذهب إمامه ابن حنبل يصدر عن دليل لا عن تقليد.

وفي ذلك يقول الإمام الذهبي أيضًا عنه في معجم شيوخه: «وفَاق الناسَ في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده.»٢

(٢) أنواع آرائه

إن الذي يتتبَّع جمهرة آراء الشيخ الأكبر وفتاويه، يرى أنها تتنوع إلى مجموعات، لكل منها طابع خاص أو وصف تدخل تحته، وكان من عوامل هذا التنوع تدرج صاحبها في الزمن والبحث والتعمق فيه، وهذه الأنواع أو المجموعات هي:
  • (أ)

    آراء صدر فيها عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

  • (ب)

    آراء اختارها لم يلتزم فيها مذهبًا معينًا، ولكنها لا تخرج عن أقوال فقهاء المذاهب المعروفة.

  • (جـ)

    آراء خالف فيها كل هذه المذاهب، أو المشهورَ من أقوال فقهائها.

وكان من الطبعي أن يكون ترتيب آرائه وفتاويه على هذا النحو، فقد كان أول أمره حنبليًّا كما عرفنا؛ ومن ثم كان يتقيد غالبًا بمذهب إمامه بعد بحث واقتناع بأدلته. ثم انتقل به الزمن والبحث خطوة أخرى، فطوَّف في محيط المذاهب المعروفة، وحلَّق في سماواتها، فكان يفتي بما يراه الحق غير متقيد بمذهب واحد منها، وإن كانت فتاويه في هذه الحقبة لا تخرج عن دائرتها جميعًا.

وحين صارت دراساته محيطة عميقة كل العمق، واستحصد عقله وتفكيره، كانت له اجتهادات بعقله، في دائرة النصوص ومقاصد الشريعة العامة، خالف فيها هذه المذاهب جميعًا، وهذا ما يضعه بعض مؤرخيه تحت عنوان «مفرداته وغرائبه».

ولا نرى ضرورة لأن نتعرض للطائفة الأولى من فتاويه، فهي كثيرة بطبيعة الحال وبخاصة في فتاويه المصرية، وليس له أصالة في استنباط أحكامها التي تدخل في دائرة المذهب الحنبلي، وإن كان له كبير فضل في تحرير هذا الآراء وبيان أدلتها ورجحانها على غيرها ولهذا رأى الأخذ بها.

ولكننا لا نجد بدًّا من ذكر نماذج لآرائه وفتاويه الأخرى؛ أي التي اختارها من بين المذاهب الفقهية المختلفة أو انفرد بها، وبعدها نعرض لبعض مفرداته التي خالف فيها المذاهب المعروفة، كما نعرض بعدها لبعض المسائل التي يبين فيها بوضوح مقدار عنايته بالفقه المقارن، وهذا كله على النحو التالي:

(٣) نماذج من اختياراته

إذا كان لابن تيمية آراء كثيرة لم يلتزم في القول أو الإفتاء بها مذهبًا فقهيًّا معينًا، ولكنها لا تخرج عن أقوال فقهاء المذاهب الأربعة المعروفة؛ فذلك لأنه يرى أن الحق في عامة مسائل الشريعة لا يخرج عنها، وهو في هذا يقول: «قول القائل: لا أتقيد بأحد هؤلاء الأربعة، إن أراد به أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين، فقد أحسن، بل هو الصواب من القولين، وإن أراد أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها، فهو مخطئ في الغالب قطعًا؛ إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة.

ولكن تنازع الناس: هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين، وقد بسطنا ذلك في موضع آخر.»٣
هذا ونعرض هنا بعض هذه الآراء التي اختارها، وذلك من كتابه «الاختيارات العلمية»،٤ وهي آراء تعالج مسائل اجتماعية سواء ما كان منها في العبادات والمعاملات.

في الزكاة

هل يجوز نقل زكاة أهل بلد إلى فقراء بلد آخر؟ وهل يجوز نقلها من الريف إلى فقراء أهل المصر الجامع؟ في الإجابة عن هذين السؤالين يختلف الفقهاء، وقد تعرض ابن تيمية لذلك إذ يقول: «وإذا نقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع، مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر، فالصحيح جواز ذلك؛ فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم (أي مزارع أهل غير المصر)، بخلاف النقل من إقليم مع حاجة أهل الإقليم المنقول عنه.»٥
وهل يجوز إعطاء شيء من الزكاة لمن لا يقوم بما عليه من طاعة الله والعمل بشرائعه؟ يقرر ابن تيمية في ذلك أنه لا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته، فمن لا يصلي (مثلًا) من أهل الحاجات الذين هم من مصارف الزكاة، لا يعطى شيئًا حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة.٦

ويصدر ابن تيمية رحمه الله في هذا عن أصل له في باب الأطعمة من كتاب «الاختيارات العلمية» السابق ذكره، وذلك إذ يقول: «والأصل فيها (أي في الأطعمة) الحِل لمسلم يعمل صالحًا؛ لأن الله تعالى إنما أحلَّ الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا في معصيته، لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

ولهذا لا يجوز أن يُعان بالمباح على المعصية، كمن يعطي اللحم والخبز لمن يشرب عليه الخمر ويستعين به على الفواحش، إلى آخر ما قال.

ولعل مما جعل ابن تيمية يتخذ هذا أصلًا له، ويبني عليه عدم جواز إعطاء الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله (وإن كان لنا في هذا الرأي مقال)، رغبته الشديدة في جعل المجتمع الإسلامي مجتمعًا مثاليًّا لا يخالف فيه أحد عن أمر الله ورسوله في عامة أحواله.

هذا، ومن المعروف أن من عليه الزكاة تبرأ ذمته منها إذا أعطاها بنفسه لأحد مصارفها، أو سلمها له وكيله في دفعها، أو أعطاها للوالي الذي هو بحكم منصبه نائب عن المسلمين جميعًا، فهل تبرأ ذمته بإعطائها لوليِّ الأمر عادلًا كان أو ظالمًا؟

هنا نجد ابن تيمية يقول: «ويبدأ بدفع الزكاة إلى وليِّ الأمر العادل. وإن كان ظالمًا لا يصرف الزكاة في المصارف الشرعية، فينبغي لصاحبها ألَّا يدفعها إليه، فإن حصل له ضرر بعدم دفعها إليه، فإنه يجزئ عنه إذا أُخذت منه في هذه الحالة عند أكثر العلماء. وهم في هذه الحالة ظلموا مستحقها، كوليِّ اليتيم وناظر الوقف إذا قبضا المال وصرفاه في غير مصارفه الشرعية.»٧

في البيع

المعروف أن العقد يتم إذا اتصل الإيجاب بالقبول وإذا توافرت في كل منهما شروطه الصحيحة شرعًا، ولكن قد يتخذ أحد المتعاقدين من العقد سببًا غير مشروع، فهل ينعقد العقد حينئذٍ، ويكون صحيحًا شرعًا لوجود ركنه وهو مجموع الإيجاب والقبول؟ أو يعتبر غير صحيح لسببه غير المشروع؟

يرى أبو حنيفة والشافعي صحة هذا العقد لأن ركنه وهو الإيجاب والقبول قد تحقق، ونية السبب أو الغرض غير المباح شرعًا مستترة فيترك أمره لله وحده.

ولكن الصاحبين وابن حنبل يرون عدم صحة هذا الضرب من العقود، ولا يجعلون للإيجاب والقبول أثرًا متى قام الدليل أو القرينة الصحيحة على هذا القصد الآثم، وقد اختار ابن تيمية هذا الرأي.

وعلى ذلك، يكون بيع عصير ممن يتخذه خمرًا صحيحًا على الرأي الأول، ويكون باطلًا على الرأي الثاني الذي اختاره ابن تيمية إذ يقول: «ولا يصح بيع ما قصد به الحرام كعصير يتَّخذه خمرًا إذا عُلِم ذلك، كمذهب أحمد وغيره، أو ظُنَّ، وهو أحد القولين، يؤيده أن الأصحاب قالوا لو ظن الآجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية كبيع الخمر ونحوه لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة، والبيع والإجارة سواء.»٨

وفي بيان هذا الرأي نجد ابن قدامة المقدسي الحنبلي (توفي سنة ٦٢٠ﻫ) يقول: «إن بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمرًا محرم … إذا ثبت هذا، فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم قصد المشتري بذلك، إما بقوله، وإما بقرائن مختصة به تدل على ذلك، فإن كان محتملًا، مثلًا أن يشتريه من لا يُعلم حاله أو من يعمل الخمر والخل معًا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر، فالبيع جائز.

وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل، ويحتمل أن يصح وهو مذهب الشافعي»، إلى آخر ما قال، وفيه استدلال جيد لمذهب القائلين بعدم صحة العقد.٩
ونحن نرى أن الرأي الذي اختاره ابن تيمية هو الأولى بالاتِّباع، فإنه رأي يساعد على تصحيح الأوضاع الفاسدة في المجتمع، ويتفق مع قول الرسول : «إنما الأعمال بالنيات.» وليس يغني عن اتباع الإمامين أبي حنيفة والشافعي ما ذهبوا إليه لتصحيح الرأي الآخر وترجيحه، ومنهم الطحاوي إذ يقول: «ومن كان له عصير فلا بأس عليه ببيعه، وليس عليه أن يقصد بذلك إلى من يأمنه أن يتخذه خمرًا دون من يخاف ذلك عليه؛ لأن العصير حلال فبيعه حلال، كبيع ما سواه من الأشياء الحلال مما ليس على بائعها الكشف عما يفعله المشتري بها.»١٠

ليس يغني هذا التدليل من الحق شيئًا في رأينا، وبخاصة الأحناف الذين يقولون دائمًا: العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، والله أعلم.

في الهبة

يذكر ابن تيمية، في باب الهبة من كتاب الاختيارات، أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل هدية من شخص ليشفع له عند ذي أمر، أو ليرفع عنه ظلمًا، أو ليوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة، وهو مستحق لذلك.

وإذا كان لا يجوز شرعًا أن يقبل الإنسان هدايا أو هبات لهذه الأعمال وأمثالها، فإنه يجوز للإنسان أن يبذل ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، وكل هذا وذاك هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر، وفيه حديث مرفوع رواه أبو داود وغيره.

وقد تعرض الشيخ رحمه الله لهذا الموضوع بتفصيل في فتاويه المصرية، فذكر — بعد أن بيَّن ذلك الرأي الذي اختاره — أنه قد رخص بعض المتأخرين من الفقهاء في قبول الهدية لمثل تلك الأعمال ويكون ذلك من باب «الجعالة»، ثم قال: وهو مخالف للسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، فهو غلط.

وأفاض في بيان أن هذا الرأي غلط وخطأ من ناحيتين؛ الأولى: أن هذا ليس من باب الجعالة في شيء؛ لأنه في الجعالة يكون النفع للجاعل الباذل، وهنا «إنما المنفعة لعموم الناس، أعني المسلمين، فإنه يجب أن يولَّى في كل مرتبة أصلح من يقدر عليها … وهذا واجب على الإمام، وعلى الأئمة أن يعاونوه في ذلك، فمن أخذ جُعلًا من شخص معيَّن على ذلك أفضى إلى أن تطلب هذه الأمور بالعوض، ونفس طلب الولاية منهي عنه فكيف بالعوض!»

ومن الناحية الثانية، يلزم من إجازة قبول الهدية لمثل ذلك ضرر كبير تام إذا كان الأمر أمر تولية عمل من الأعمال؛ أي ينتهي الحال إلى «تولية الجاهل والفاسق والفاجر، ويترك العالم العادل القادر، وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق والجبان العاجز عن القتال، ويترك العدْلُ والشجاع النافع للمسلمين، وفساد هذا كثير.»

وبعد أن انتهى الشيخ من ذكر ما يجوز وما لا يجوز في هذه المسألة، نراه لا يترك المشكلة دون حل، بل يذكر أن على ذي الجاه أن يساعد المستحق بجاهه بلا عوض، وكذلك المظلوم حتى يصل إلى حقه ويرفع عنه ظلمه، وأن ينصح لأولي الأمر بأن يبين لهم من يستحق الولاية والعطاء ومن لا يستحق، فإن هذا من أعظم ما يجب عليه من ضروب طاعة الله ورسوله.١١

(٤) من مفرداته وغرائبه

كان الشيخ رحمه الله تعالى يفتي بما أدَّاه إليه اجتهاده، فتارة يوافق بعض أئمة المذاهب الأربعة، وتارة يخالفهم جميعًا أو يخالف المعروف من آرائهم ومذاهبهم، وهذا هو ما يسميه كثير من مؤرخيه بمفرداته وغرائبه في الفقه.

ونذكر هنا جملة من هذه المفردات والغرائب التي حوكم بسبب البعض منها ومنع من الإفتاء بها، راجعين إلى «العقود الدرية» لابن عبد الهادي، و«طبقات ابن رجب»، و«شذرات الذهب» لابن العماد،١٢ ومكتفين منها بذكر ما يلي:
  • القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرًا، طويلًا كان أو قصيرًا، كما هو مذهب الظاهرية وقول بعض الصحابة.

  • القول بأن البكر لا تُستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر، واختاره البخاري أيضًا.

  • القول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدًا أنه ليل فبان أنه نهار، لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم.

  • القول بأن المتمتِّع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما هو في القارن والمُفْرد، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.

  • القول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلَّقة آخر ثلاث تطليقات.

  • القول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين؛ أي مثل إماء أهل الكتاب.

  • القول بجواز التيمم، مع وجود الماء، لمن خاف فوات العيد والجمعة أو وقت صلاة أخرى من الصلوات المكتوبة إذا استعمل الماء.

  • القول الذي مال إليه أخيرًا بتوريث المسلم من الكافر الذمِّيِّ، وله في ذلك بحث طويل.

  • القول بعدم وقوع الطلاق بالحلف به إذا حنث، وليس على الحالف حينئذٍ إلا كفارة اليمين، وقد جرى له بسبب هذا الرأي مِحَنٌ وقلاقل معروفة.

  • القول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة، ومن الغريب أن هذا هو الحكم الذي كان عليه العمل أيام الرسول، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر!

  • القول بأن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أو شق عليها النزول إلى الحمام وتكرره، لها أن تتيمم وتصلي.

  • القول بأنه لا حدَّ لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا بسنِّ الإياس من الحيض؛ فإن ذلك يرجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.

  • القول بأن تارك الصلاة عمدًا لا قضاء عليه ولا يشرع له القضاء، بل عليه الإكثار من النوافل رجاء غفران الله له.

  • القول بأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة، كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاري.

  • القول بجواز بيع ما يُتَّخذ من الفضة للتَّحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلًا، وجعل الزيادة في الثمن في مقابل الصنعة.

  • القول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير، قليلًا كان أو كثيرًا.

تلك طائفة من اجتهادات ابن تيمية رحمه الله تعالى، التي عُدَّت من مفرداته؛ لأنه خالف بها فقهاء المذاهب الأربعة المعروفة، أو خالف على الأقل الأقوال المشهورة المعروفة لهم، وهي تدل على باع طويل في الاجتهاد، وعلى شجاعة في الجهر بما رآه حقًّا وإن خالف غيره من جِلَّة الفقهاء، وإن حصل له بلاء بسبب ما يجهر به.

(٥) من دراساته المقارنة

نتناول بالعرض هنا مسألة واحدة من أهم المسائل التي يجب بحثها في زماننا هذا وفي كل زمان، وهي مدى حرية المتعاقدين فيما يعقدان من عقود ويشترطان من شروط، وقد أفاض في بحثها بحثًا مقارنًا الشيخ ابن تيمية رحمه الله وأجزل ثوابه، وذلك على ما جاء في رسالته عن العقود والشروط التي نشرت في مجموعة فتاويه الكبرى.

ولهذه المسألة أهميتها وخطرها الكبير حقًّا؛ وذلك لأننا — كما ذكرنا في كتاب ظهر لنا منذ بضع سنين١٣ — نعلم أن لإرادة الإنسان التأثير الأول في عقوده التي يعقدها وشروطه التي يشترطها، ونعلم أن الناس يعرفون اليوم من العقود والشروط ما لم يكن يعرفه أسلافهم؛ نظرًا للحاجة التي تتجدد بتجدد الزمن.

فهل يكون للإنسان، مع هذا وذاك، أن يعقد ما شاء من عقود، ويشترط ما شاء من الشروط، ويكون ما يعمله جائزًا شرعًا؟ بمعنى هل يعتبر كل ما يكون من ذلك صحيحًا شرعًا، ما دام قد أراده والتزمه من نفسه كما أراده والتزمه من يتعاقد معه؟

وللإجابة عن هذا السؤال، نذكر أولًا أن الأمر في القانون الوضعي واضح، فإنه لم يراعِ إلا الإرادة الحرة لكل من المتعاقدين، فكل عقد أو شرط يكون صحيحًا متى صدر عن إرادة حرة؛ لهذا نرى الأستاذ الدكتور السنهوري يقول حرفيًّا ما يلي:

«قد لخص «ديموج Demogue» نظرية سلطان الإرادة في ست؛ أولًا: التعاقد وهو حر في حدود النظام العام. ثانيًا: الالتزام وهو ما أراده المتعاقدان. ثالثًا: العبرة بالإرادة الباطنة لا بالإرادة الظاهرة. رابعًا: يفسر القاضي العقد طبقًا لنية المتعاقدين الصريحة والضمنية. خامسًا: لا يجوز تعديل العقد إلا بإرادة المتعاقدين الصريحة والضمنية. سادسًا: لا ينقضي الالتزام إلا بإرادة المتعاقدين.١٤

ومعنى هذا أن السلطان الأول والأخير، في إنشاء العقد وآثاره التي تترتب عليه، هو لإرادة المتعاقدين، دون النظر إلى ما قد يكون من عدم تعادل في الغنم والغرم بينهما؛ أي دون نظر إلى ما قد يصيب أحدهما من غبن فاحش.

هذا هو شأن القانون الوضعي، ولكن الفقه الإسلامي الذي يقوم على كتاب الله وسنة رسوله ينظر إلى الأمر نظرة أخرى؛ وذلك بأنه يرى أن إرادة المتعاقدين هي التي تنشئ العقد حقًّا، ولكن الشريعة تتدخل في ترتيب ما لكل عقد من أحكام وآثار؛ ولهذا يقول الفقهاء بحق بأن العقود أسباب «جعلية شرعية» لأحكامها ومقتضياتها وآثارها.

إنهم يريدون أن يقولوا بأن الرابطة بين العقد وأحكامه وآثاره، باعتبار أنه سبب وهذه الأحكام والآثار مسبَّب عنه، ليست رابطة طبيعية عقلية، بمعنى أنه متى وُجد السبب ترتب عليه وجود المسبب حتمًا، بل هي رابطة جعلها الشارع بينهما، ولكننا اعتدنا وجودها دائمًا، فاعتقدنا أنها طبيعية يوجبها العقل وطبائع الأشياء.

ومسألة ترتب آثار العقود وأحكامها عليها، على اعتبار أن العقود أسباب جعلية من الشارع، مسألة يكاد يُجمِع عليها الفقهاء؛ ولهذا تكون إرادة الإنسان مقصورة على إنشاء العقد فقط، أما آثاره فهي من عمل الشارع؛ حتى لا يبغي بعض الناس على بعض بما يشترطون.

وفي ذلك نجد الإمام الغزالي (توفي سنة ٥٠٥ﻫ) يقرر أن الله هو الذي أضاف الأحكام إلى أسبابها؛ لأن الأسباب لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى، فالسبب هو ما يحصل الحكم عنده، لا به.١٥
وكذلك يذهب الإمام أبو إسحاق الشاطبي (توفي سنة ٧٩٠ﻫ) هذا المذهب؛ إذ يقول: «إن الذي للمكلف تعاطي الأسباب، وإنما المسببات من فعل الله تعالى وحكمه، لا كسب فيه للمكلف، وهذا يتبين في علم آخر، والقرآن والسنة دالان عليه.»١٦

هذا، وإذا كان رجال الفقه الإسلامي على اتفاق في هذه الناحية، ومنهم ابن تيمية، فإنهم ليسوا على اتفاق فيما يختص بمدى حرية المتعاقدين في إبرام العقود التي يرونها، وفي اشتراط ما يشاءون من شروط.

فهناك المضيقون وهم الظاهرية الذين يرون أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر، فلا يجوز منها إلى ما ورد به الشرع وأجازه، ومعنى هذا أنه يكاد لا يكون لإرادة المتعاقدين أي سلطان أو أثر.

وهناك الفقهاء أصحاب المذاهب الأخرى الذين يرون أن الأصل في العقود والشروط هو الحل والإباحة، فلا يحرم منها إلا ما جاء الشرع بتحريمه والمنع منه.

وهؤلاء في التوسعة على الناس في معاملاتهم على درجات مختلفة، فمنهم الأحناف ثم الشافعية الذين لا يكادون يفرقون عنهم من ناحية الأسس والأصول، وإن كانوا أقل توسعة منهم في ناحية التطبيقات.

ثم يجيء المالكية الذين وسعوا على الناس أكثر من الأحناف، وأخيرًا الحنابلة — وبخاصة ابن تيمية وأتباعه منهم — الذين جرَوا في التوسع والتيسير إلى آخر الشوط، وكانوا فيما ذهبوا إليه متفقين مع ما عرف به الإسلام من رفع للحرج وتيسير.

•••

والآن، بعد هذه المقدمة التي لم يكن منها بد في رأينا، نبدأ في بيان معالجة الإمام ابن تيمية للمسألة، وكيف كان محيطًا بالمذاهب والآراء الفقهية فيما على اختلافها، وباستدلال كل فريق لما ذهب إليه، وأخيرًا نعرض رأيه الحق الذي ذهب إليه واستدل له بما فيه مقنع وبلاغ لمن يطلب الحق ويعتنقه مع ما قام عليه الدليل.

إنه رحمه الله يذكر أن العقود في المعاملات المالية وغيرها لها قواعد جامعة عظيمة المنفعة، ثم أخذ يتكلم عن هذه القواعد واحدة بعد الأخرى، وجعل القاعدة الثالثة في العقود والشروط، ما يحل منها وما يحرم، وما يصح منها وما يفسد، ثم قال: «ومسائل هذا القاعدة كثيرة جدًّا، والذي يمكن ضبطه منها قولان؛ أحدهما: أن يقال إن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما ورد الشرع بإجازته، وهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تُبنى على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد.»١٧

وبعد هذا الإجمال أو الإشارة إلى مذاهب الفقهاء، شرع في تفصيل هذا الإجمال بالنسبة لهم جميعًا فقال: «فإن أحمد قد يعلل أحيانًا بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس، كما قال في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل.

وأما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدًا ولا شرطًا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طردًا جاريًا، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.

وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصح في العقود شرط يخالف مقتضاه المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه؛ ولهذا له أن يشترط في البيع خيارًا، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة، وإذا ابتاع شجرًا عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته …

ولم يصحح في (عقد) النكاح شرطًا أصلًا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ؛ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار ونحوهما، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقًا، وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاث للأثر وهو عنده موضع استحسان.

والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع الدليل الخاص، فلا يجوِّز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع، ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع.

ولكنه يجوِّز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح من مذهبه، وكبيع الشجر مع استبقاء الثمرة المستحقة للبقاء، ونحو ذلك، ويجوِّز في النكاح بعض الشروط دون بعض، فلا يجوِّز اشتراط دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها ولا يتسرَّى، ويجوِّز اشتراط حريتها وإسلامها، وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه …

وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة ألا ينقلها وألا يزاحمها بغيرها، فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للعاقد.

وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه يجوِّز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي، فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى، كما قد يوافق هو أبا حنيفة ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.

وهؤلاء الفرق الثلاثة يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة رضي الله عنهم، ولما قد يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر.»

هكذا يذكر ابن تيمية آراء الأئمة الفقهاء في دقة وتفصيل، ويقارن بعضها ببعض مبينًا أصل كل منهم وما رأى استثناءه عن هذا الأصل وعلة هذا الاستثناء أو أساسه.

هذا، والذين ذهبوا إلى المنع من العقود والشروط إلا ما أذن به الشارع، بأن جاء به نص أو إجماع، وعلى رأسهم أهل الظاهر، يقولون بأن الشريعة الصالحة يجب أن تنظم شئون الأمة جميعًا، وبخاصة العقود التي تقوم عليها المعاملات بين الناس، على أساس من العدل ينفي أن يضارَّ بعض الناس ببعض، وهذا ما لا يكون إن تركت لهم الحرية في عقد ما يريدون من عقود واشتراط ما يرون من شروط.

وبخاصة أن الله قد أمرنا بالوفاء بالعقود والشروط، فإذا تعاقدنا أو شرطنا ما لم يرد في الشريعة وأصولها، ثم أوجبنا على أنفسنا الوفاء بما التزمنا من عقد أو شرط، نكون قد أحللنا أو حرَّمنا على غير ما شرع الله وأذن به، وهذا ما لا يجوز بحال.

كما يستدل الظاهرية لمذهبهم أيضًا بما روي أن الرسول قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»؛ أي مردود عليه وباطل.

ولذلك نرى ابن حزم، بعد أن روى هذا الحديث ورضيه يقول: «فصحَّ بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه، إلا ما صح أن يكون عقدًا جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه.»١٨

وهم يستدلون أيضًا بحديث هو معتمدهم في هذا الباب كما يقول ابن تيمية، وهذا الحديث جاء في الصحيحين، ونصه هكذا كما رواه الإمام البخاري:

«عن عائشة رضي الله عنها أن «بريرة» جاءت تستعينها في كتابتها،١٩ ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت.

فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا.

قالت (أي السيدة عائشة): فذكرت ذلك لرسول الله ، فقال لها رسول الله : ابتاعي فأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق.

ثم قام رسول الله فقال: ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق.»

وفي رواية أخرى أنه قال في حديثه: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.»

وإذا كان مجرد شرط من الشروط في عقد من العقود يكون باطلًا؛ لأنه لم يرد به نص أو لم يثبت جوازه بالإجماع، فبالأولى يكون العقد الذي هذه صفته باطلًا ولا يجب الوفاء به.

وبعد أن ذكر الإمام ابن تيمية هذا الحديث الذي يعتمد عليه أولئك المضيقون في العقود والشروط، قال: «ولهم من هذا الحديث حجتان؛ إحداهما: قوله (أي الرسول) ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة بالإجماع.

ومن قال بالقياس، وهم الجمهور (أي غير الظاهرية)، إذا دل على صحته (أي صحة الشرط) القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله.

والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي مقتضى العقد على اشتراط الولاء؛ لأن العلة فيه كونه مخالفًا لمقتضى العقد؛ وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فإذن إرادة تغييرها تغيير لما أوجبه الشرع»، إلى آخر ما قال.٢٠

•••

وهكذا نرى الشيخ رضي الله عنه أمينًا كل الأمانة في حكاية آراء الذين ذهبوا إلى القول الأول في المسألة موضوع البحث، وفي بيان ما استدلوا به لمذهبهم.

وبعد ذلك بين أن القول الثاني هو أن الأصل في العقود والشروط هو الحل والصحة، فلا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص من الكتاب أو السنة، أو قياس صحيح عند من يقول بالقياس، ثم قال: «وأصول أحمد رضي الله عنه — المنصوص عنه أكثرها — تجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.

وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها تنبيه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعًا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطًا يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد به نص.

وكان قد بلغه ما في العقود والشروط من الآثار، عن النبي والصحابة، ما لم يجده عند غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسًا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعِّفه أو يضعف دلالته، وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحاب أحمد عمومات الكتاب — التي سنذكرها — في تصحيح الشروط.»

وبناء على هذا الأصل، يجوِّز الإمام أحمد للبائع — كما يذكر ابن تيمية — أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استثناؤها في ملك الغير.

كما يجوز أيضًا للمعتِق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته، أو مدة حياة السيد، أو مدة حياة غيرهما، وذلك اتباعًا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة وشرطت عليه خدمة النبي ما عاش.

وكذلك يجيز الإمام ابن حنبل أيضًا في عقد الزواج عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح، لما في الصحيحين عن النبي أنه قال: «إن أحق الشروط أن توافوا به ما استحللتم به الفروج.»

فيجيز للزوجة مثلًا أن تشترط ألا تسافر مع زوجها، ولا تنتقل من دارها، أو لا يتزوج عليها، أو أن يشترط كل من الزوجين في الآخر صفة يصح قصدها، كاليسار والجمال ونحو ذلك ويكون له الفسخ بفوات ما اشترطه في العقد.

•••

وبعد أن انتهى الشيخ رحمه الله من بيان القول الثاني في المسألة، وهو القول الذي ذهب إليه الإمام ابن حنبل وقاربه الإمام مالك في الأخذ به، أبان صراحة عن رأيه حيث قال:

وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوَّز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوَّز أيضًا استثناء بعض التصرفات.

وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد مطلقًا، فإن أراد الأول فكل شرط كذلك، وإن أراد الثاني لم يسلم له وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في (عقد) النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد.

فأما إذا شرط شرطًا يقصد بالعقد (كان هذا الشرط) لم ينافِ مقصوده. وهذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، والاعتبار (يريد به القياس)، مع الاستصحاب والدليل النافي.٢١
ثم أخذ بعد ذلك يفيض في الاستدلال لما ذهب إليه بهذه الأدلة الشرعية كلها، وهذا ما لا نرى ضرورة تتبُّعه فيه بالتفصيل، ونكتفي بهذه منها:٢٢
  • (أ)

    أمر الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من القرآن بالوفاء بالعقود بوجه عام، فيدخل في هذا ما التزمه الإنسان وعقده على نفسه من عقد بالمعنى المعروف، ومن شرط في عقد من العقود.

    وكذلك أمرنا برعاية العهد بعامة، وفي بعض الآيات برعاية عهد الله، فيدخل في ذلك أيضًا ما عقده المرء على نفسه، فإذا كانت رعاية العهد واجبة، فإن رعايته هي وجوب الوفاء به.

  • (ب)

    وورد عن الرسول أحاديث كثيرة تأمر بالوفاء بالوعد والعهد، وتنهى عن الغدر وتذم الغادرين ذمًّا شديدًا. وإذا كان من المسلَّم به أن كل من شرط شرطًا ثم نقضه فقد غدر، يكون من الواضح أنه «قد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشارع، لم يجز أن يؤمر بها مطلقًا ويذم من نقضها وغدر مطلقًا.»

    ومما جاء عن الرسول في ذلك قوله من حديث له: «والمسلمون على شروطهم، إلا شرط حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا»، وهو حديث حسن صحيح كما قال الترمذي، وكذلك قوله: «الناس على شروطهم ما وافقت الحق.»

  • (جـ)

    وأما قوله : «من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق»، فإن معناه أن الشرط يكون باطلًا إذا خالف كتاب الله بأن يكون المشروط مما حرم الله، فإن كان المشروط ليس مما حرمه الله، فلا يكون مخالفًا كتابه.

    وبعبارة أخرى، يكون المعنى أن من اشترط أمرًا ليس في حكم الله أو في كتابه بواسطة أو بغير واسطة فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه، وحينئذٍ يكون بالشرط واجبًا ويلزم الوفاء به.

    وأيضًا، فإن الشرط الذي دل الإجماع أو القياس على صحته، وإن لم يرد نصًّا في الكتاب والسنة، يكون قد دُلَّ عليه بأحدهما بواسطة؛ لأن الإجماع والقياس لا بد أن يكون لهما سند من كتاب الله أو سنة رسوله.

  • (د)
    وبعد ذلك، فإن الأصل في العقود، وما يكون فيها من الشروط هو رضا كل من المتعاقدين بما يوجبه على نفسه بالتعاقد؛ لأن الله يقول في كتابه (سورة النساء الآية رقم ٢٩): يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ.

    وإذا كان الله لم يشترط في صحة التجارة (ومعناها كل عقود المعاملات) إلا التراضي، فإن هذا يقتضي صحة ما يتراضى المتعاقدان من عقود وشروط بدلالة القرآن نفسه، إلا أن يكون في ذلك ما حرَّمه الله فإنه يكون باطلًا كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.

هذا، ونختم هذا البحث الفقهي الدقيق المقارن للشيخ رحمة الله في هذه المسألة الهامة، مسألة العقود والشروط، بكلمة موجزة محكمة له في وجوب رعاية مقاصد المتعاقدين ما دام ليس فيها ما يخالف الكتاب والسنة، وذلك إذ يقول:

«ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود، لم تذهب عفوًا ولم تُهدَر رأسًا، كالآجال في الأعواض، ونقود الأثمان المعينة ببعض البلدان، والصفات في المبيعات، والحرفة المشروطة في أحد الزوجين، وقد تفيد الشروط ما لا يفيده الإطلاق، بل ما يخالف الإطلاق.»٢٣

وفي رأينا أن الحنابلة ومن نحَا نحوهم، وبخاصة الإمام ابن تيمية، كانوا موفقين فيما ذهبوا إليه في هذا الموضوع الذي تقوم عليه المعاملات بين الناس، فإن في الرأي الذي قصره ابن تيمية توسيعًا كبيرًا على الناس، وهو مع هذا يستند إلى أدلة صحيحة تجعله الأحقَّ بالاتباع.

١  راجع طبقات ابن رجب، ج٢: ٣٩٠.
٢  طبقات ابن رجب، ج٢: ٣٨٩.
٣  راجع مختصر الفتاوى المصرية ص٦١.
٤  طبع هذا الكتاب ملحقًا بالمجلد الرابع من «مجموعة الفتاوى».
٥  الاختيارات، ص٥٨.
٦  الاختيارات، ص٦١.
٧  الاختيارات، ص٦٢.
٨  نفس المرجع، ص٧٢.
٩  راجع كتاب «المغني»، ج٤: ٢٢٢-٢٢٣، من طبعة دار المنار بالقاهرة سنة ١٣٦٧ﻫ.
١٠  راجع مختصر الطحاوي، طبع دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة ١٣٧٠ﻫ، ص٢٨٠.
١١  راجع في المسألة بتمامها، مختصر الفتاوى المصرية ص٤٥٨–٤٦٠.
١٢  راجع على التوالي: ٣٢٢ وما بعدها من «العقود الدرية»، ٤٠٤-٤٠٥ من ابن رجب، ج٦: ٨٤-٨٥ من الشذرات، على أن فتاويه المعروفة تشمل الكثير من ذلك.
١٣  هو كتاب «الفقه الإسلامي» راجع ص٤١٠ وما بعدها من الطبعة الثالثة نشر دار الكتب الحديثة سنة ١٩٥٨م القاهرة.
١٤  «نظرية العقد» ص١٠١ بالهامش رقم ٢ الطبعة الأولى سنة ١٩٣٤م بمطبعة دار الكتب المصرية، وانظر في تطور هذا المبدأ كتاب «الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام» ص٧٧ وما بعدها دار النشر للجامعات المصرية سنة ١٩٥٢م.»
١٥  راجع «المستصفى من علم الأصول»، ج٢: ٩٣-١٩٤.
١٦  راجع «الموافقات في أصول الأحكام»، ج١: ١٣١ وانظر أيضًا ما يليها.
١٧  راجع في هذه المسألة من كل نواحيها، «مجموعة الفتاوى» ج٣: ٣٢٣–٣٤٩.
١٨  «الإحكام في أصول الأحكام»، ج٥: ٣٢.
١٩  أي بدل كتابتها لتنال الحرية بعد أدائه لمالكيها.
٢٠  راجع الفتاوى ج٣: ٣٢٥-٣٢٦.
٢١  راجع الفتاوى ج٣: ٣٢٩.
٢٢  انظر في الأدلة كلها ج٣: ٣٢٩–٣٤٩ من مجموعة الفتاوى.
٢٣  «نظرية العقد»، ص٢١١، نشر جمعية أنصار السنة المحمدية، القاهرة سنة ١٩٤٩م، وهذا الكتاب هو كتاب «العقود» لابن تيمية كما جاء بمقدمة الناشر ولكنه استحدث له هذا الاسم بلا سبب معقول!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤