سورة الأعلى
ونبدأ بالكلام على تفسيره لسورة «الأعلى»، فنراه يقول: «إن الأعلى على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم والأكبر والأجلِّ؛ ولهذا لما قال أبو سفيان: «اعْلُ هُبَلُ! اعْلُ هُبَلُ!» قال النبي ﷺ: «ألا تجيبونه؟» قالوا: «وما نقول؟» قال: «قولوا: الله أعلى وأجلُّ».»
ثم يأخذ في بيان ما بين العلوِّ والكبرياء والعظمة من فروق، فيقول: «إن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة؛ ولهذا قال النبي ﷺ، فيما يَروِي عن ربه تعالى: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا عذبته»، فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار.
وبعد أن أشار إلي مذاهب الفقهاء في أن التسبيح في الركوع والسجود واجب أو مستحب، وإلى اختلافهم في صيغة التسبيح، ذكر أن المشهور عن الإمام أحمد وغيره وجوبه، وعن الإمامين أبي حنيفة والشافعي استحبابه، وأن الأقوى أنه يتعين التسبيح بلفظ «سبحان الله»، أو بلفظ «سبحانك»، ونحو ذلك.
ثم بيَّن بعد هذا أن ما نقل عن الإمام مالك من كراهة المداومة على التسبيح في الصلاة، ينبغي أن يصرف إلى المداومة على صيغة معينة منه مثل: «سبحان ربي العظيم»، حتى لا يظن أن الواجب هو صيغة معينة، ودون وجوب جنس التسبيح، فإن أدلة وجوبه في الكتاب والسنة كثيرة جدًّا، وقد عُلِم أنه ﷺ كان يداوم على التسبيح بألفاظ متنوعة …
هذا، والأمر بتسبيح الله يستلزم تنزيهه عن كل عيب وسوء كما عرفنا، كما يستلزم أن تكون كل صفة من صفات الكمال له، فإن التسبيح — كما يقول الشيخ رحمه الله — يقتضي إثبات المحامد التي يُحمد عليها؛ فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده.
سأل رجلٌ ميمونَ بن مهران عن «سبحان الله»، فقال: اسم يُعظَّم الله به ويُحاشَى به عن السوء، وتنزيه الله نفسه عن السوء، كما جاء في هذا الأثر وفي قول لابن عباس وفي حديث مُرسل، يقتضي تنزيهه عن فعل السيئات، وعن كل صفة من الصفات المذمومة.
ومضى الشيخ يتم تفسيره للآية الأولى من السورة في فيض ودقة تعودناهما منه، ثم انتقل إلى تفسير الآية الثانية والثالثة مبينًا أن الله خلق الخلق وسواه وهداه إلى ما قُدِّر له لحكمة قصدها، وبدأ الكلام عن الآية الأولى بقوله: «قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى فأطلق الخلق والتسوية ولم يخصَّ بذلك الإنسان، كما أطلق قوله بعد: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى لم يقيده، فكأن هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات، وقد بيَّن موسى عليه السلام شموله في قوله (أي الذي حكاه الله عنه): رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
وقد ذكر المقيَّد بالإنسان في قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (سورة الانفطار ٦، ٧)، وذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن، وهو قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
ثم شرع بعد هذا في بيان ما ذهب إليه «الجهمية» من أن الله لم يخلق شيئًا لشيء؛ أي لحكمة أرادها، وما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إثبات عناية الله وحكمته مع إنكارهم إرادته.
وأتبع هذا بالإشارة الكافية إلى ما استدل به كل من الفريقين، ثم بالرد عليهما، وأطال في ذلك حتى تم له ما أراد من هدم هذه الآراء الضالة، وبيان الحق الذي قال به جمهور المسلمين والعقلاء من إثبات إرادة الله وحكمته في جميع ما خلق.
وأتْبع ذلك بالكلام في تفسير الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، بيَّن صورًا ومُثلًا للتقدير والهداية، وتعرض لبعض ما ذكره المفسرون السابقون قبله، وقَبِل من أقوالهم ما رآه حقًّا، وبدأ ذلك كله بقوله: «فقوله سبحانه: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى يتضمن أنه قدَّر ما سيكون للمخلوقات وهداها إليه. علم ما يحتاج إليه الناس والدواب من الرزق، فخلق ذلك الرزق وسوَّاه، وخلق الحيوان وسوَّاه وهداه إلى ذلك الرزق، وهدى غيره من الأحياء …
وإلى هنا لا نجد ابن تيمية يتعرض للإنسان وهل هو خالق لأفعاله ومنها طاعة الله وعصيانه، أم الكل مخلوق لله قدَّره عليه أزلًا؟ ذلك هو محل النزاع بين الفرق الكلامية، وبخاصة أهل السنة والمعتزلة أو القَدريَّة، وهذا ما أخذ ابن تيمية يتكلم فيه حين تعرض لأقوال رجال علم التفسير السابقين.
إنه يقول بعد ما تقدم مباشرة، بأن المفسرين ذكروا أنواعًا من تقدير الله وهدايته لخلقه، فهذا ابن جرير الطبري يروي عن قتادة في بيان معنى هذه الآية أن الله قدَّر الإنسان للشقاوة والسعادة، ومعنى هذا أن الله أراد أفعال الإنسان كلها وقدَّرها عليه وهداه إليها، وهو في ذلك يمثل آراء أهل السنة الذين يرجعون كل شيء لله.
ثم يذكر عن قتادة أنه قال: «لا والله، ما أكره الله عبدًا على معصية قط، ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره (أي بها)، ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن المعصية.»
ولا يرى الشيخ رحمه الله بأسًا فيما نُقِل عن قتادة من أن الله لم يُكره أحدًا على معصيته، فهذا صحيح؛ وذلك بأن أهل السنة، الذين يثبتون تقدير الله لما كان ويكون، على اتفاق بأنه تعالى لا يُكره أحدًا على معصيته كما يُكرِه الوالي والقاضي وغيرهما، بالعقوبة والوعيد الإنسانَ بأن يعمل خلاف ما يريد.
بل إنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق إرادة العبد للعمل، كما يخلق قدرته وعمله، وهو خالق كل شيء.
ثم يمضي الشيخ رحمه الله في سيره حتى ينتهي من الكلام على هذه الآية، وبعدها يتناول ما يتلوها حتى ينتهي من السورة كلها، وهو في سيره الطويل يتعرض إلى ما يتصل بسبب إلى الآية التي يفسِّرها من آيات في سور أخرى، وما أكثر هذه الآيات الأخرى التي تجيء عرضًا فيشبع القول فيها أيضًا!
ونحن، وإن كان ضيق المقام يحول بيننا وبين تتبُّعه في طريقه الشاق الطويل، هذا الطريق الذي عرَّج فيه على مباحث كلامية وفلسفية وإسلامية مختلفة ومتعددة، لا نرى بُدًّا من التعرض بإيجاز إلى تفسيره الآيتين الأخيرتين من السورة، وهما قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.
ثم أخذ بعد هذا يتكلم عن جمع القرآن بين إبراهيم وموسى عليهما السلام في مواضع منه، وعن حكمة قرن أحدهما بالآخر في هذه المواضع، ومنها هاتان الآيتان الأخيرتان من سورة «الأعلى»، ومنها ما جاء في سورة النجم في قوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى.
وذلك لأن إبراهيم عليه السلام هو صاحب الملة وإمام الأمة، ولأن موسى عليه السلام هو كليم الله وصاحب الشريعة والكتاب الذي لم ينزل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن، ثم أرسل الله محمدًا ﷺ بملة إبراهيم إلى ذريته وإلى أتباع موسى، فصار بذلك رسولًا للعالمين جميعًا.
وفي ذلك يقول الشيخ رحمه الله تعالى: «ولما بعث الله نبيه ﷺ، بعثه إلى أهل الأرض، وهم في الأصل صنفان: أمِّيون وكتابيون، والأمِّيون كانوا ينتسبون إلى إبراهيم؛ فإنهم ذريته وخُزان بيته (أي الكعبة) وعلى بقايا من شعائره، والكتابيون أصلهم كتاب موسى.
وبذلك يكون إبراهيم وموسى عليهما السلام قد قاما بأصل الدين، وهو الإقرار بالله وعبادته وحده لا شريك له، ثم جاء محمد عليه الصلاة والسلام فأقام الدين وأكمله، فكان بهذا خاتم الأنبياء والمرسلين.
ثم استطرد الشيخ بمناسبة ذكر إبراهيم عليه السلام إلى مناظرة النمرود بن كنعان ملك بابل، في إثبات الله خالق كل شيء، وقد جاء ذكر هذه المناظرة في سورة البقرة من القرآن، وإلى مناظرته للمشركين الذين يعبدون الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئًا، وقد جاء ذكرها في سورتي: مريم والشعراء وغيرهما من القرآن.
كما استطرد بمناسبة ذكر موسى عليه السلام، إلى ما كان بينه وبين فرعون ملك مصر؛ إذ جحد ربوبية الله وإرسال موسى إليه وإلى وقومه، وإلى ما كان بينه وبين قومه حين اتخذوا العجل، وذلك كله على ما بيَّنه الله تعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولما انتهى من هذا وذاك نراه يشير إلى أنه — على هذا النحو أيضًا — كان أمر سيدنا محمد ﷺ مع المشركين من العرب، هؤلاء الذين كانوا يعبدون الأصنام وغيرها ويجعلونها أندادًا لله وشركاء له، مع أنها لا تخلق شيئًا ولا تسمعهم إذ يدعونها، ولا تستطيع لهم ضرًّا ولا نفعًا.
وهكذا بيَّن ابن تيمية بحق أن هؤلاء الثلاثة كبار الأنبياء والمرسلين، قاموا ببيان أصول الدين، وأقاموا الأدلة الحاسمة على إثبات وجود الله الخالق لكل شيء، وإثبات أنه واحد أحد لا شريك له، وأنه جل شأنه هو أهل الحمد والعبادة وحده.