الفصل الثاني

تفسير سورة الفلق

تشتمل هذه السورة و«الناس» التي تليها، وهما المعوذتان، على أصول الاستعاذة، وهي: الاستعاذة، والمستعاذ به، ثم المستعاذ منه. وقد تكلم الشيخ رحمه الله على كل هذه الأصول على حدة، وقدَّم لذلك ببعض الأحاديث التي وردت في هاتين السورتين، وهذا إذ يقول: روى مسلم في صحيحه أن الرسول قال، فيما روى عقبة بن عامر: «ألم ترَ آيات أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قط: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس.»

وفي لفظ آخر أنه قال له: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوَّذ به المتعوذون؟ قلت: بلى. قال: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.»

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بِقُل هو الله أحد والمعوذتين جميعًا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسمه، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.»

وفي رواية أخرى — وهي التي يرضاها ابن تيمية — أن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن النبي كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها.»

وهنا يقول ابن تيمية: «وهذا هو الصواب، أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي ، لم يأمرها ولم يمنعها، وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه، فلا.»١

وبعد هذا، نرى الشيخ الأكبر يبين ما أراده بتفسير هاتين السورتين فيقول: «والمقصود الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًّا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس.»

وهكذا أبان ابن تيمية سبب اهتمامه بتفسير هاتين السورتين في فيض من القول السديد وإطالة، ثم أخذ في الكلام على الاستعاذة لبيان معناها فقال: «حقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه؛ ولهذا يسمى المستعاذ به معاذًا كما يسمى ملجأً ووزرًا.

وقيل إن معناها لغة يرجع إلى الستر؛ لأن العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة فاستتر بها «عُوَّذ»، فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه.

وقيل إن معناها هو لزوم المجاورة، فإن العرب تقول لِلَّحْم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص به «عُوَّذ»؛ لأنه اعتصم به واستمسك، فكذلك العائذ يستمسك بالمستعاذ به ويعتصم به ويلزمه.»

على أن معنى استعاذة المؤمن حين يستعيذ بالله حقًّا هو شيء فوق ذلك كله؛ ولهذا يقول ابن تيمية بعد أن أورد تلك المعاني: «وبعد، فمعنى الاستعاذة القائم بقلب المؤمن وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارات وتفهيم، وإلا، فما يقوم بالقلب حينئذٍ من الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة.»

وفي معنى الفلق يقول: «واعلم أن الخلق كله فَلَق، وذلك أن «فلق» فَعَلٌ بمعنى مفعول كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص، والله عز وجل فالق الإصباح وفالق الحب والنوى، وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنة، والظلام عن الإصباح»؛ وإذن يكون المستعاذ به هو الله الخالق لكل شيء.

وبعد أن فرغ من بيان معنى الاستعاذة ومعنى الفلق، انتقل إلى الكلام على المستعاذ به، وهو رب الفلق في هذه السورة، والملك والرب والإله في سورة الناس، فهل اختلاف صفات الله على هذا النحو في السورتين، هو لِمَعانٍ تتناسب والمستعاذ منه في كل منهما؟

وللإجابة عن هذا السؤال يقول الشيخ: «ولا بد من أن يكون ما وصف (الله) به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة ويقضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.

وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى، فيُسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه … فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.»٢

ومن البدهي أنه لبيان هذه المناسبات بين ما وصف، أو سُمِّي الله المستعاذ به وبين الشر المستعاذ منه، يجب الكلام على أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين، وهي في سورة الفلق: شر المخلوقات التي لها شر عمومًا، شر الغاسق إذا وقب، شر النفاثات في العقد، وشر الحاسد إذا حسد، وفي سورة الناس نجد المستعاذ منه شيئًا واحدًا، وهو شر الوسواس الخناس.

وقبل الكلام على كل من الشرور الأربعة التي ذكرت بتلك السورة تكلم على بيان الشر: ما هو، وما حقيقته، وعلى الاستعاذة من الشر الموجود والشر المعدوم، وعلى الدعاء الجامع لمصادر الشر وموارده والاستعاذة منها، ثم أخذ في بيان تلك الشرور الأربعة المستعاذ منها في سورة الفلق:
  • (أ)
    شر المخلوقات: إن «ما» في قوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ موصولة ليس إلا، فالشر في هذه الآية مسند إلى الخلق لا الخالق، فإن الشر لا يدخل مطلقًا في شيء من صفاته أو أفعاله، فإن أفعاله خير محض كلها، ولو كان من أفعاله ما هو شر لاشتق له منه اسم، فلا تكون أسماؤه كلها حُسْنَى.

    وما يكون منه تعالى من العدل بعباده الذي يقتضي عقوبة من يستحق العقوبة منهم، هو خير محض لأنه محض العدل والحكمة، ولا يكون شرًّا إلا بالنسبة إليهم؛ أي في تعلقه وقيامه بهم.

    ثم الشر من الأمور الإضافية، فهو خير بالنسبة لله خالقه، وشر بالنسبة للعبد؛ وذلك — كما يذكر الشيخ — أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى الناس جميعًا؛ وهذا لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وإذن، يكون الشر هو ما قام بالسارق من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الله من إرادته لهذا فهو عين الخير والحكمة.٣

    ومن ثم، كما يذكر الشيخ رحمه الله، نرى الرسول ينزه الله تنزيهًا تامًّا عن نسبة الشر إليه، فيقول في الحديث الصحيح: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك.»

    إنه بهذا ينزه ربه سبحانه وتعالى عن نسبة الشر إليه في أسمائه وصفاته وأفعاله وإن دخل في أفعال مخلوقاته.

    هذا وقد دخل في قوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، الاستعاذة من كل شر أي مخلوق قام به الشر من الإنس أو الجن أو الدواب، أو الريح والصواعق، أو من أي نوع آخر من أنواع البلاء؛ ولذلك كان الرسول يستعيذ من هذا كله كما ورد في الحديث الصحيح.
  • (ب)

    شر الغاسق إذا وقب: جاء في كتب التفسير لهذا معاني عديدة، وأكثر المفسرين أن المراد به — والله أعلم — هو الليل إذا أظلم، قال ابن عباس: الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق ودخل في كل شيء وأظلم، والغسق الظلمة.

    ومن معانيها أيضًا كما يقول البعض: الليل إذا برد، والغَسَقُ البرد، وربما يستدلون بقوله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا،٤ فيذكرون أن الغساق هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرِّها.
    ولكن الشيخ يختار المعنى الأول، ويقول في هذا: «والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة؛ فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل؛ ولهذا، استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور، ومن شر الغاسق الذي هو الظلمة، فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة.»٥

    وكان من الطبعي ألا يفوت الشيخ الأكبر بيان وجه الاستعاذة من شر الليل، وهو أن الليل — كما يقول — محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين … والليل هو محل الظلام، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار؛ فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل الظلمة.

  • (جـ)

    شر النَّفاثات في العُقد: هذا الشر هو السحر، فإن النفاثات هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر. والنَّفث هو النفخ مع ريق خفيف، وبهذا يتم السحر بإذن الله، وفي ذلك يقول الشيخ الأكبر: «فإذا تكيفت نفسه (أي نفث النافث) بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَسٌ ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك.

    وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري، لا الأمري الشرعي.»٦
  • (د)
    شر الحاسد إذا حسد: هذا الشر الرابع الأخير من الشرور التي جاء الأمر في سورة الفلق بالاستعاذة منها، يقول ابن تيمية: «وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه.»٧
    على أن من في طبعه الحسد قد يغفل عن المحسود فلا يصيبه منه شر، ولكن إذا خطر المحسود بباله انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، فيكون من ذلك الأذى يقع به إن لم يتعوذ بالله ويتحصن به من شر الحاسد، فقوله تعالى: إذا حسد بيان أن شره يتحقق إذا حصل الحسد بالفعل إن لم يعذه الله منه.

    ولهذا يقول الشيخ رحمه الله ما نذكره بنصه: «ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها؛ إذ لو نظر إليه نظر لاهٍ ساهٍ عنه، كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيرهما، لم يؤثر فيه شيئًا.

    وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة، واتسمت واحتدت فصارت نفسًا غضبية خبيثة حاسدة، أثرت في المحسود تأثيرًا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أعطبه وأهلكه … وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.»

    هكذا بين ابن تيمية الحسد وحقيقته وكيف يكون، ثم تأثيره وما ينجم عنه من شر، فإنه لم يكتفِ بذلك، بل نراه يتكلم في فصول أخرى على مباحث أخرى، مثل الفروق بين الحسد والعين والسحر، واشتمال السحر على عبادة الشيطان، ومراتب الحسد الثلاث، وأن سورة الفلق جاءت بدوائه الناجع.٨
    ثم ذكر بعد ذلك في فصل طويل، أن شر الحاسد يندفع عن المحسود بعشرة أسباب، وهي: الاستعاذة، والتقوى، والصبر، والتوكل على الله، والتخلي عما سواه، والإقبال عليه، والتوبة، والصدقة، والإحسان، والتوحيد.٩

    وختم تفسير السورة ببيان الأقوال المختلفة في النفوس الناطقة والجن وتأثيرهما؛ وذلك لأن هذا البيان لا بد منه في رأيه بعد أن انكشف من أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير، وأن الأرواح الشيطانية لها تأثير أيضًا بواسطة السحر والحسد، وكان رحمه الله تعالى في بيانه موجزًا ودقيقًا.

١  راجع «تفسير المعوذتين» ص١–٣ نشر مطبعة ق. ببمباي، الهند سنة ١٩٥٥م.
٢  تفسير سورة المعوذتين ص٩-١٠.
٣  راجع تفسير المعوذتين، ص١٨–٢٠.
٤  سورة النبأ، آية ٢٤-٢٥.
٥  تفسير المعوذتين، ص٢٦.
٦  تفسير المعوذتين، ص٣٣.
٧  تفسير المعوذتين، ص٤٣-٤٤.
٨  تفسير المعوذتين، ص٤٦ وما بعدها.
٩  نفس المرجع، ص٥٥ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤