الفصل الثالث

سورة الناس

في هذه السورة، كما في التي سبقتها، لا بد أيضًا من بيان هذه الأمور التي تضمنتها، وهي: الاستعاذة، المستعاذ به، المستعاذ منه. وبيان الاستعاذة قد تقدم في سورة «الفلق».

والمستعاذ به وهو الله الذي ذكر في السورة التي نحن بصدد الكلام على تفسيرها بأنه: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

ولكن، ما تفسير هذه الإضافات الثلاث، وهل بينها وبين الاستعاذة من الشيطان ووسوسته مناسبة؟

وللإجابة عن هذا، يبدأ ابن تيمية بالكلام على معنى كل من هذه الإضافات، ثم على المناسبة التي بين الله موصوفًا بها جميعها وبين المستعاذ منه.١

فهو يذكر أن الإضافة الأولى إضافة ربوبية تتضمن خلق الناس وتدبيرهم وتربيتهم، ورعاية إصلاحهم ومصالحهم، ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم، كما تضمن أنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف الكُرُبات عنهم.

والثانية إضافة المُلك، فهم مماليكه وعبيده يتصرف فيهم ويدبِّر أمورهم كما يشاء، وهو ملكهم الحق إليه مفزعهم عند الشدائد، وهو مستغاثهم ومُعاذهم وملجؤهم إذا نزل العدو بساحتهم.

والثالثة هي إضافة الألوهية، فهو إلهُهم الحق الذي لا إله لهم سواه، ومعبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده ربهم ومليكهم لا يشركه في ربوبيَّته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلهُهم ومعبودهم.

وإذا كان الأمر حقًّا كذلك، فالناس جميعًا جديرون ألَّا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، فهو كافيهم وحَسْبهم وناصرهم، هو متولي أمورهم بربوبيَّتهم وملكه وإلهيَّته لهم.

وبذلك «ظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء، وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررًا، وأبلغهم كيدًا!» وكيف لا يلجأ العبد إلى ربه ومالكه وإلهه عند النوازل والشدائد؟!

وهنا أشار شيخ الإسلام بوضوح إلى الحكمة في تقديم صفة الربوبية، وتأخير صفة الإلهية، وتوسط صفة الملك؛ وذلك — كما يقول: «لأن ربوبيته تستلزم مُلكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلهيته.»

وبعد ذلك، نراه يفرق فرقًا لطيفًا واضحًا بين الشر المستعاذ منه في كل من «المعوِّذتين»، فسورة الفلق فيها الأمر بالاستعاذة من الشرور التي تأتي الإنسان من خارج، مثل السحر والحسد، على حين أن في سورة الناس الأمر بالاستعاذة من الشر الذي يجيء الإنسان من الداخل، وهو وسوسة الشيطان التي هي سبب الذنوب والمعاصي كلها.

ثم قال: «فالشر الأول (أي جنسه الشامل لأنواعه) لا يدخل تحت التكليف، ولا يُطلب منه الكفُّ عنه؛ لأنه ليس من كسبه، والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي.»٢

ثم يجيء الكلام على «الوسواس» والوسوسة، ويبدأ ببيان أن هذه هي الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحسُّ فيحترز منه، والوسواس هو الإلقاء الخفيُّ في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من أُلْقِيَ إليه، وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى الإنسان.

وإذا تم بيان المستعاذ به، بقي المستعاذ منه، وهو شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.

فهل «الوسواس» مصدر لفعل «وسوس» أو صفة للشيطان المحذوف من الآية لوجود ما يدل عليه دلالة لا تدع لَبْسًا؟

وابن تيمية يذكر هذين الرأيين اللذين وردا عن المفسرين؛ إذ قال البعض منهم إن «الوسواس» في الآية مصدر لا وصف، وهو «مصدر وُصِف به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف تقديره: «ذو الوسواس»، والدليل عليه قول الشاعر:

تسمع للحَلْيِ وسواسًا إذا انصرفت
كما استعان بريح عِشْرِق زَجِل٣

فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.»

ولم يرضَ المصنف رحمه الله هذا الرأي وردَّ عليه، واختار أنه وصف للمستعاذ من شره وهو الشيطان، واحتج لهذا الرأي طويلًا من وجوه عديدة،٤ وقال في أحد هذه الوجوه: ويدل عليه وجه آخر، وهو أنه (أي الله تعالى)، وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرًا، بل هو متعيِّن في الوصفية، وهو «الخنَّاس»، ﻓ «الوسواس» و«الخنَّاس» وصفان لموصوف محذوف وهو الشيطان.

وحَسَّن حذف الموصوف ها هنا غلبة الوصف حتى صار كالعَلَم عليه، والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركًا فيقع اللبَّس، كالطويل، والقبيح، والحسن، ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليُعلم أن الصفة له لا لغيره.

فأما إذا غلب الوصف واختص ولم يعرض فيه اشتراك، فإنه يجري مجرى الاسم ويحسُن حذف الموصوف، ﮐ «المسلم (أي الرجل المسلم)، والكافر، والبَرِّ، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد، والوالي، ونحو ذلك، فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.»

وإذا كان «الوسواس» صفة للشيطان، فإن له في هذه السورة صفتين أخريين؛ وهما «الخناس»، و«الذي يوسوس في صدور الناس»، كما يقول ابن تيمية رحمه الله.

وهذه الصفة مأخوذة من فعل خنس يخنُس إذا توارى واختفى، وبابه «دخل»، وفي هذا يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «لقيني النبي في بعض طُرق المدينة وأنا جُنب، فانْخنَسْت منه.»٥

وحقيقة اللفظ — كما يقول شيخ الإسلام — اختفاء بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء؛ ولهذا وُصفت الكواكب في القرآن ﺑ «الخُنَّس»، قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنُس بالنهار فلا تُرى.

ثم يقول: «والخنَّاس مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر، فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس … فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض»، إلى آخر ما قال.٦

وبعد هاتين الصفتين، يشير الله تعالى إلى الصفة الثالثة بقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، ومعنى هذا هو أن وسوسة الشيطان محلها صدور الناس، ثم تتسلَّل منها إلى القلوب.

هكذا يذكر شيخ الإسلام، ولكن الظاهر فيما نرى أن هذه ليست صفة ثالثة للشيطان، بل هي بيان لمحل الوسوسة، وقد عبَّر الشيخ عن حكمة كون وسوسة الشيطان تكون في الصدر ثم تلج منها إلى القلوب بقوله: وتأمَّل السر في قوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، ولم يقل: «في قلوبهم»، إن الصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه … ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له.

ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: (سورة آل عمران، الآية رقم ١٥٤): وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ.

فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيُلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب؛ ولهذا قال تعالى (سورة طه، الآية رقم ١٢٠): فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، ولم يقل «فيه»؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه، فدخل في قلبه.٧

والوسوسة تكون من شياطين الجن، كما تكون من شياطين الإنس؛ ولذلك ختم الله تعالى السورة بقوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.

وإذا كان هذا هو رأي ابن تيمية، فقد ذكر أن في تفسير الآية رأيًا آخر ذهب إليه بعض من عُنوا بمعاني القرآن وتفسيره، وهو أن قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للموسوَس في صدورهم وهم قسمان: إنس وجن، فالشيطان يوسوس للجني كما يوسوس للإنسِيِّ.

وبعد أن أبان الشيخ رحمه الله هذا الرأي، بيَّن ضعفه الشديد بوجوه عديدة، وجَرَّه هذا إلى الكلام على اشتقاق كلمة «الناس»، وأن «الجِنَّة» لا يطلق عليهم اسم «الناس» لا أصلًا ولا اشتقاقًا، وبعد ذلك كله أخذ في الكلام على الرأي الصحيح الذي اختاره وأقام الأدلة القاطعة عليه.٨

وهو في هذا يقول: «فالصواب القول الثاني، وهو أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسيُّ أيضًا يوسوس إلى الإنسيِّ …

فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفيُّ في القلب، وهذا مشترك بين الجِنِّ والإنس، وإن كان إلقاء الإنسيِّ ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجنِّيُّ لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم …

ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.٩

فالشيطان يوحي إلى الإنسيِّ باطله، ويوحيه الإنسيُّ إلى أنسيٍّ مثله. فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني، ويشتركان في الوسوسة.

وعلى هذا، تزول تلك الإشكالات والتعسُّفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول، وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وعلى القول الأول إنما تكون الاستعاذة من شر شياطين الجن فقط، فتأمَّلْه، فإنه بديع جدًّا.

فهذا ما منَّ الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين، ولله الحمد والمِنَّة، وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النَّمط، فما ذلك على الله بعزيز، والحمد لله رب العالمين.»١٠

•••

وبعد ختام تفسير السورتين المعوذتين على هذا النحو الرائع، الذي يُظهرنا على مبلغ علم شيخ الإسلام بمعاني القرآن، ومبلغ ما آتاه الله من العقل النافذ والبيان السديد، وأتبعه بقاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره؛ وذلك عشرة أسباب كل منها يعتبر حرزًا للإنسان من الشيطان أصل كل بلاء.

وهذه الأسباب مستقاة من القرآن العظيم، وفيها مباحث جدلية وعظات بالغات، فنحيل القارئ إليها، ونحن على ثقة بأنه واجدٌ فيها خيرًا كثيرًا بإذن الله سبحانه وتعالى.

١  تفسير المعوذتين، ص٦٨–٧٠.
٢  تفسير المعوذتين، ص٧٢.
٣  العشرق: نبات. زجل: الزجل التطريب ورفع الصوت، زجل كفرح فهو زجل.
٤  راجع في بيان هذين الرأيين، وفي الاحتجاج لما ذهب إليه: تفسير المعوذتين، ص٧٣ وما بعدها.
٥  في مختار الصحاح: والخناس: الشيطان؛ لأنه يخنس (بضم النون) إذا ذُكر الله عز وجل و«الخنس» (بضم الخاء وتشديد النون المفتوحة): الكواكب؛ لأنها تخنس في المغيب، أو لأنها تختفي نهارًا.
٦  تفسير المعوذتين، ص٧٩.
٧  تفسير المعوذتين، ص٨٩.
٨  المرجع نفسه، ص٨٩ وما بعدها.
٩  سورة الأنعام: ١١٢.
١٠  تفسير المعوذتين، ص٩٤-٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤