الفصل الأول

في الاجتماع

يقول الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ،١ ويقول: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.٢

ولهذا يرى الإمام ابن تيمية — بحق — أن المجتمع المؤمن السليم يجب أن يقوم على هذين الأساسين: إخلاص الدين لله وحده، والعدل في المعاملة:

إخلاص الدين لله

أجمع كل أصحاب الملل السماوية على أنه لا بد من وسائط بين الله وعباده، وهم الرسل الذين يتلقون عنه وحيه ويبلغونه لمن أُرسِلوا إليهم، وبدون هذا كان الناس عاجزين عن معرفة ما يحبه الله ويأمر به، وما يكرهه وينهى عنه، إلى غير ذلك مما جاء به القرآن من أصول الدين وفروعه.

وأما أن يقال إن المراد بذلك هو — كما يقول الشيخ رحمه الله: «أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضارِّ، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء»، إلى آخر ما قال.٣

ويذكر بعد هذا أنه يكون كافرًا مشركًا بالله من أثبت وسائط بين الله وعباده من أئمة الدين أو غيرهم كما يكون الحجاب بين الملك ورعيته، فيجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، وهؤلاء مشبِّهون لله، شبَّهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادًا.

وذلك بأن الوسائط بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة: إما لإخبارهم إياهم بما لا يعرفونه من أحوال الناس، ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بها بعض ملائكته أو أنبيائه أو غيرهم فهو كافر بالله العليم السميع البصير.

وإما لأن الملك عاجز عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان وأنصار، والله سبحانه ليس له ظهير ولا وليٌّ من الذل.

وإما لأن الملك لا يرحم رعيته ويحسن إليهم إلا بمحرك يحرِّكه ممن حوله، والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل شيء فبمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

وهكذا ينتهي الإمام ابن تيمية إلى نفي الوسائط على النحو الذي ذكرنا، فيجب أن يكون الدين خالصًا لله الواحد الأحد الصمد الذي لا يُرجَى غيرُه، ولا يجوز أن يُقصَد سواه.

وقد تناول هذا الموضوع في كثير من فتاويه ورسائله، ومن ذلك رسالته في «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور»٤ التي افتتحها بكلام جيد جدًّا منه قوله: الذي بعث الله به رسله وأنزل به كُتُبه، هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا.

وبعد أن أتى بآيات أخرى منها قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، قال: فإذا جعل (أي الله) من اتخذ الملائكة والنبيِّين أربابًا كافرًا، فكيف من اتخذ مَن دونهم من المشايخ وغيرهم أربابًا!٥ وهكذا أشار الشيخ رضي الله عنه إلى حكمه على من يستنجد بأحد أصحاب القبور.

ثم أخذ بعد هذا في تفصيل على الكلام عمن يستنجد بميت ولو كان نبيًّا، فذكر أن من أتى إلى قبر نبي أو صالح يسأله حاجته ويستنجد به، فهذا «شرك صحيح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتِل، وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يُتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى» …

وإن قلتَ: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثاني، وهو ألا تطلب منه الفعل ولا تدعوه، ولكن تطلب منه أن يدعو لك كما تقول للحيِّ: ادع لي، وكما كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء.

فهذا مشروع في الحي، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يُشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربَّك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث.٦

بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا في زمن عمر رضي الله عنه، استسقى بالعباس وقال: اللهم إنَّا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقوْن.

ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله، ادع الله لنا، واستسقِ لنا، ونحن نشتكي إليك مما أصابَنا، ونحو ذلك، لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، إلى آخر ما قال.٧

العدل في المعاملة

كل مؤمن بالله ورسوله، محب لدينه ووطنه وأمته، يعمل بلا ريب على أن يقوم المجتمع الذي ينسب إليه على العدل، كما يعمل جهده لكفاح الظلم والظالمين. وكان ابن تيمية من رجال الدين القلائل — حاشا عصر الرسول والصحابة والتابعين — الذين عملوا كل ما يستطيعون ليكون المجتمع مجتمعًا عادلًا نقيًّا من الظلم وأعوانه، وقد قدمنا له من ذلك شيئًا كثيرًا في هذه الناحية.٨
وذكرنا من قبل أيضًا بعض فتاويه الفقهية التي تحمل على البُعد عن ظلم المرء لنفسه بعدم طاعة الله، وأخرى تحول بينه وبين ظلم غيره، أو المجتمع الذي يعيش فيه، مثل عدم جواز إعطاء الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، وتحريم قبول هدية من أحد ليشفع له في أمر لا يستحقه، وعدم إجازة بيع عصير العنب لمن يقصد إلى جعله خمرًا.٩

ولكراهة الشيخ الإمام للظلم، وإحساسه عاقبته البشعة بصفة عامة، سواء كان ظلمًا لفرد أو ظلمًا لجماعة، نراه يقول في أول رسالة الحسبة: «إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة؛ ولهذا يُروَى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة» إلى آخر ما قال.

ثم تناول بعد ذلك الكلام على واجبات المحتسب، ومنها أخْذُ الناس بأداء الأمانات، وترك الخيانة والغشِّ والتدليس فيما يتعاملون فيه، وتسعير عروض التجارة إذا لزم الأمر، وكذلك إلزام أهل الحرف والصناعات بالعمل فيما يحتاجه الناس.١٠

وذكر بعد هذا أن النبي كان يُعنى بمحاسبة العمال على المستخرج والمصرف (ومن المعروف أن للإمام أن يكل ذلك لغيره ممن يثق بهم)، ويروي في هذا حديثًا جاء في الصحيحين، وهو أن النبي استعمل رجلًا من الأزد يقال له «اللُّتبيَّة» على الصدقات، فلما رجع حاسبه فقال: هذا لكم، وهذا أهدِي إليَّ، فقال النبي : «ما بالُ الرجل نستعمله على العمل مما ولَّانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليَّ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمِّه فينظر أيهدى إليه أم لا!

والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلًا على العمل مما ولَّانا الله فيغلُّ منه شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، وإن كانت بقرة لها خُوار، وإن كانت شاة تَيْعَر! ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلَّغت، اللهم هل بلَّغت.»١١
وأخيرًا، بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله واجبات أخرى على الإمام القيام بها بنفسه أو بمن يوليهم أمرها؛ وذلك ضمانًا للعدل وإبعادًا للظلم عن المجتمع، تكلم عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا قد لا يتم على ما ينبغي إلا بالعقوبات الشرعية والمالية التي يعاقب بها الذين يخالفون عن أمر الله ورسوله؛ وبذلك يسير المجتمع على الجادَّة ويخلص من الظلم والظالمين.١٢
١  سورة البينة: ٥.
٢  سورة النساء: ٥٨.
٣  راجع رسالة الواسطة، من مجموع الرسائل طبع الخانجي سنة ١٣٢٣ﻫ، ص٤٦ وما بعدها.
٤  جاءت هذه الرسالة في المجموع الآنف ذكره، من ص١٠٣ وما بعدها.
٥  المجموع من الرسالة المذكورة ص١٠٤.
٦  راجع هذا التفصيل ص١٠٦ وما بعدها من المجموع المذكور.
٧  راجع هذا التفصيل ص١٠٦ وما بعدها من المجموع المذكور.
٨  راجع [جهاده التتار وكفاحه الظلم والمنكرات] وما بعدها تحت عنوان: كفاحه الظلم.
٩  مما تقدم من مبحث فقهه في [باب في الفقه وأصوله، من قسم: آراؤه في الدين والحياة].
١٠  راجع الرسالة المذكورة وهي ضمن مجموعة الرسائل طبع الخانجي السابق ذكره ص٣٩ وما بعدها.
١١  رسالة الحسبة: ٤٥.
١٢  المرجع نفسه ص٥٦ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤