في السياسة
(١) في الولايات
وجوب اتخاذ الإمارة
لا بد للناس من الاجتماع والتعاون والتناصر، لجلب المنافع ودفع المضار؛ ولهذا يقال بحق: إن الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بدَّ لهم من أمور يفعلونها لما فيها من المصلحة، وأخرى ينأون عنها لما فيها من المفسدة، ولا بد لهم من ناهٍ عن هذه، وآمر بتلك، وهذا الآمر الناهي هو من يكون أميرًا عليهم، أو رئيسًا أعلى إليه حكمهم وأمرهم.
وفي ذلك يقول الإمام رحمه الله: «ويجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي ﷺ: «إذا خرج ثلاثة في سفر فلْيُؤمِّروا أحدهم …»
وهكذا، يكون إقامة الحاكم الأعلى للأمة أمرًا ضروريًّا لخير المسلمين في الدنيا والأخرى، ويكون العمل على توليته قربة يُتقرَّب بها إلى الله تعالى، ويجب حينئذٍ حياطته بالنصح إذا لزم الأمر، فإن الرسول ﷺ قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة.» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.»
اختيار الولاة
فيجب على وليِّ الأمر أن يولِّي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي ﷺ: «من وَلِيَ من أمر المسلمين شيئًا، فولَّى رجلًا وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله.»
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من وَلِيَ من أمر المسلمين شيئًا، فولَّى رجلًا لمودَّة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين.»
وليس له أن يقدِّم رجلًا لأنه طلب الولاية، أو لأنه سبق غيره في طلبها، بل إن طلبه أحرى أن يكون سببًا لمنعه ما طلب، فقد جاء في الصحيحين أن قومًا دخلوا على الرسول ﷺ فسألوه ولاية، فقال: «إنَّا لا نولي أمرنا هذا من طلبه.» وقال لعبد الرحمن بن سَمُرَة: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطِيتَها من غير مسألة أُعِنتَ عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وُكلتَ إليها.»
وقد يعدل ولي الأمر فيتَّبع هدي الله ورسوله، ويولي كل ولاية الأحق بها والأصلح لها، وقد يجور فيعدِل عن الأحقِّ الأصلح لضغن عليه في قلبه، ويولي غير الأصلح؛ لأنه من ذوي قرابته أو لصلة صداقة مثلًا بينهما، أو لرشوة أخذها منه، أو لأي سبب آخر.
والحكم أمانة في يد وليِّ الأمر، وكذلك كل الولايات التي تتبعه، وفي هذا يقول الشيخ الأكبر: «وقد دلَّت سنة رسول الله ﷺ على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، في مواضع مثل ما تقدم، ومثل قوله لأبي ذَرٍّ رضي الله عنه في الإمارة: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها» رواه مسلم.
مقياس الصلاحية
ولكن كيف يعرف وليُّ الأمر أن هذا هو الأصلح من غيره للولاية؟ تلك حقًّا مشكلة يجب حلُّها بوضع مقياس للصلاحية، وهنا نجد ابن تيمية يجري على منهجه العام من الرجوع إلى الكتاب وسنة الرسول ﷺ، وليس على وليِّ الأمر إلا أن يعمل جهده في الاختيار، فالله يقول: فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، كما يقول الرسول: «إذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم.»
وهكذا يخلص لابن تيمية المقياس الذي يجب اتخاذه هاديًا ومرشدًا. على أننا نتساءل: هل القوة في كل عمل بمعنًى واحد، أو أنها تختلف في معناها باختلاف أنواع الأعمال؟ ويجيب عن ذلك بقوله بعد ما تقدم: «القوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال … ونحو ذلك، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ. وقال النبي ﷺ: «ارمُوا واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا، ومن تعلَّم الرمي ثم نسيه فليس منا.»
والقوة في الحكم بين الناس، ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.»
وبعد أن بيَّن الشيخ رحمه الله تعالى معنى القوة الذي يختلف باختلاف الولايات، نراه يذكر أن اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، وهذا حق بلا ريب؛ ولهذا كان سيدنا عمر بن الخطاب يقول: اللهمَّ إني أشكو إليك جلَد الفاجر (أي قوته وعِظم احتماله)، وعجز الثقة!
وإذن، ما العمل إذا كان ركنا الولاية هما كما عرفنا القوة والأمانة؟ هنا نرى صاحب «السياسة الشرعية» يقول ما يحسن نقله بنصه: «فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعيَّن رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية.
وضرب بعد هذا مثلًا لتولية القوي في الحرب، بتولية الرسول ﷺ سيدنا خالد بن الوليد عليها، وقوله فيه: «إن خالدًا سيف سلَّه الله على المشركين»، مع أنه أحيانًا كان يعمل ما ينكره عليه، حتى إنه مرة رفع يديه إلى السماء، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد!» وذلك حين أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، فوداهم النبي عليه الصلاة السلام، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وقد كان منه ما كان بنوع تأويل.
وإذا كان في الولاية للحروب تكون الحاجة فيها إلى الجلَد والقوة أشد وأظهر وألزم، فإنه في ولايات أخرى تكون الأمانة ألزم فيقدَّم صاحبها وإن كان فيه ضعف. والأمانة ترجع — كما يذكر الإمام — إلى خصال ثلاث: خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلًا، ترك خشية الناس.
ومن الأعمال التي يقدَّم فيها الأمين؛ لأن الحاجة فيها إلى الأمانة أشد، ولاية حفظ الأموال ونحوها، وإن كان استخراج الأموال ممن هي عليهم، ثم حِفظها كاملة لتنفَق في مصالح الأمة، لا بد فيه من قوة وأمانة، وحينئذٍ، يولَّى عليها عامل قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته.
وإذا تركنا ولاية الحرب ثم ولاية أمور المال، إلى ولاية القضاء، نجد أن منصب القضاء يحتاج إلى العلم بالأحكام الشرعية، والورع أو التقوى، ثم إلى الكفاية للقيام به. ولكن ذلك كله لا يتوافر دائمًا فيمن يصح أن يكون منهم القضاة على حد سواء، فما العمل إذن؟
يقول الشيخ في هذا: «ويقدَّم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع، قدِّم فيما يظهر حكمُه ويُخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدقُّ حكمه ويُخاف فيه الاشتباه الأعلم …
المقصود من الولايات
ومما ييسر لوليِّ الأمر معرفة الأصلح لولاية من الولايات، معرفة المقصود منها ليسندها إلى الأقدر على تحقيق هذا المقصود بالطرق المشروعة الحازمة التي تؤدي إليه، فعلى الإمام تعرُّف تلك المقاصد، وتعرُّف الوسائل إلى تحقيقها، وأن يختار بعد ذلك لكل ولاية من الكُفاة من يرى أنه القادر على تحقيقها …
ومن الطبعي أن تختلف مقاصد ولاية عن ولاية أخرى، ولكن هناك أمر يعتبر مقصودًا عامًّا من كل الولايات مهما اختلفت أنواعها، وهو إقامة دين الله الذي به صلاح أمورنا في الدنيا والأخرى؛ ولهذا يقول الإمام ابن تيمية: «المقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي إذا فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاحُ ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قَسْمُ المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد، أصلح له دينه ودنياه.
(٢) في الأموال
وجوب أدائها
إذا كانت الولايات هي النوع الأول من الأمانات التي أمر الله بأدائها بقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، فإن الأموال هي النوع الثاني منها، فأداء الأمانات المالية أمر واجب بالكتاب والسنة على الولاة والرعية معًا.
فعلى كل منهما — كما يذكر الشيخ الإمام — أن يؤدي إلى آخر ما يجب أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جُباة الأموال أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية أداء ما يجب عليهم من الحقوق المالية.
ولكن هل للرعية أن يدفعوا للسلطان ما يجب عليهم من الأموال وإن كان ظالمًا؟ يجيب الشيخ عن هذا بأنه ليس لهم أن يمتنعوا من ذلك، فإن الرسول ﷺ أمر بذلك حين ذكر جور الولاة، فقال: «أدُّوا إليهم الذي لهم، فإن الله سائلُهم عما استرعاهم.»
ومع هذا، فليس لولاة الأموال — كما يذكر الشيخ بعد ذلك — أن يقسموها حسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء، وليسوا ملَّاكًا، وفي ذلك يقول الرسول ﷺ: «إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمِرت.»
وقد سار الخلفاء الراشدين على هذا النهج النبوي، فهذا رجل يقول لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، لو وسَّعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى؟ فيجيبه الفاروق بقوله: أتدري مثَلي ومثَل هؤلاء؟ إنه كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا مالًا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحلُّ لذلك الرجل أن يستأثر عنهم بشيء من أموالهم؟!
وحُمِل إليه، رضي الله عنه، مرَّة مال عظيم من الخُمس فقال: إن قومًا أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: إنك أدَّيت الأمانة إلى الله تعالى فأدَّوا إليك الأمانة، ولو رتَعت رتَعوا!
الظلم من الولاة والرعية
وبعد أن تناول أصناف الأموال السلطانية، من الغنائم والصدقات والفَيء، أخذ في الكلام على الظلم الذي كثيرًا ما يقع من الولاة والرعية، أولئك يأخذون ما لا يحل، وهؤلاء يمنعون ما يجب.
كما قد يتظالم الجند والفلاحون، ويكنز الولاة من مال الله ما لا يحل كنزه، وكذلك العقوبات على أداء الأموال، فإنه قد يُترك منها ما يباح أو يجب، وقد يُفعل ما لا يحلَّ.
والأصل العام الذي يرجع إليه حكم الله في ذلك كله، هو أن من عليه مال يجب أن يؤديه لأنه حق واجب عليه متى كان قادرًا على أدائه بالحبس أو الضرب إذا لزم الأمر.
ويستدل ابن تيمية لهذا بما جاء في الصحيحين من قوله ﷺ: «مَطْلُ الغنيِّ ظلم»، وبما رواه أهل السنن من قوله: «لَيُّ الواجد يُحلُّ عرضه وعقوبته.»
وقد تقدم حديث «ابن اللُّتبيَّة» الذي كان عاملًا للصدقة للرسول، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فقال الرسول ﷺ: «ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولَّانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدِيَ إليَّ، فهلَّا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيُهدَى إليه أم لا؟!» إلى آخر الحديث.
ومن هذا الضرب أيضًا محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة، كل ذلك ونحوه مما يعتبر من الهدايا التي لا يجوز أخذها، وعلى وليِّ الأمر منعها والعقاب عليها، كما يذكر ابن تيمية بحق.
وإذا استردَّ ولي الأمر ما أخذ الولاة والعمال بغير حق من الرعية، كان عليه ردها إلى أصحابها إن أمكن، وإلا كان عليه صرفها في المصالح العامة، كسداد الثغور، ونفقة المقاتلة، ونحو هذا وذاك، كما يقول جمهور العلماء، وكما هو منقول عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وجوه صرف الأموال
ويجيء بعد ما تقدم الكلام على مصارف الأموال العامة التي تحصلها خِزانة الدولة، وفي هذا يذكر الشيخ الإمام أن الواجب البدء في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، فالمقاتلة الذين هم أهل النُّصرة والجهاد هم أحق الناس بالفيء، فإنه لا يحصل إلا بهم، وأما سائر الأموال العامة (أو السلطانية كما يقول) فلجميع المصالح وفاقًا إلا ما خُصَّ به نوع كالصدقات.
ومن المستحقين في هذه الأموال العامة أصحاب الولايات، كالولاة، والقضاة، والسُّعاة على المال جمعًا وحفظًا وقسمة، ومنهم أيضًا ذوو الحاجات الذين ليس لهم ما يكفيهم، فعلى وليِّ الأمر أن يكفيهم شر العوذ والسؤال.
ومن الطريف أن نذكر أن الشيخ الإمام تناول كلمة مأثورة لسيدنا عمر بن الخطاب، وجعلها شبه دستور في مصارف تلك الأموال، وهذه الكلمة هي:
- الأول: ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال.
- الثاني: من يُغني عن المسلمين في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور والعلماء الذين يجلبون لهم منافع الدين والدنيا.
- الثالث: من يُبلِي بلاءً حسنًا في دفع الضرر عنهم، كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد، والعيون … والناصحين ونحوهم.
- الرابع: ذوو الحاجات.
ثم تكلم بعد ذلك على بعض المصارف الأخرى، مثل «المؤلفة قلوبهم» على الإسلام، وتناول مسائل أخرى تتعلق بالأمور المالية، ولا نرى ضرورة لتتبُّعه في هذه النواحي، فلننتقل إلى القسم الأخير من آرائه السياسية إن شاء الله تعالى.
(٣) في الحدود والحقوق
أقسامها
بعد أن انتهى الإمام ابن تيمية من الأمانات التي أمر الله تعالى بأدائها بقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، شرع في بيان الحدود والحقوق، التي أمر الله بالحكم بالعدل فيها بقوله في الآية نفسها: … وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ …، هذه الآية تسمى آية الأمراء كما يذكر ابن تيمية نفسه وغيره من المفسرين.
وأما القسم الثاني، فسيجيء الكلام عليه، وهو كما يقول فيما بعد: الحدود والحقوق التي لآدمي معيَّن.
القسم الأول وأحكامه
ومن أمثلة هذا القسم حد قطَّاع الطريق والسُّراق والزناة ونحوهم، والحكم في الأموال العامة أو السلطانية كما يقول، والوقوف والوصايا التي ليست لمعيَّن، فهذه من أهم أمور الولايات؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لا بدَّ للناس من إمارة بَرَّةً كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذه البرَّة قد عرفناها فما بالُ الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السُّبل، ويجاهَد بها العدو، ويُقسَم بها الفيء.
وكذلك يجب إقامة هذا النوع من الحدود على الناس كافة، بلا فرق بين شريف ووضيع، أو قوي وضعيف، ولا تحلُّ الشفاعة فيه، ولا يجوز تعطيله بشفاعة أو غيرها، فإن خطره كبير على المجتمع كله.
ومن عطل إقامته لذلك ونحوه، وهو قادر على إقامته، كان حريًّا بلعنة الله وملائكته والناس جميعًا، وكان ممن اشترى بآيات الله ثمنًا قليلًا، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، كما يذكر ابن تيمية.
جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، فلما ذهب إليه قال له الرسول ﷺ:
«يا أسامة، أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسُ محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها.»
ومن أحكام هذا القسم أيضًا، أنه لا يُقبل تنازل المجنيِّ عليه إذا وصل إلى وليِّ الأمر أو القاضي، فيجب إقامة الحد رغم تنازله؛ ولهذا يذكر ابن تيمية بعد ذلك أن صفوان بن أميَّة كان نائمًا على رداء له في مسجد الرسول ﷺ، فجاء لص فسرقه، فأخذه به النبي فأمر بقطع يده، فقال صفوان: «أعلى ردائي تقطع يَده؟ أنا أهبُه له»، فقال الرسول: «فهلَّا قبل أن تأتيني به!» ثم قطع يده.
يعني ﷺ — كما يذكر ابن تيمية — أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان، فأما بعد أن رُفِع إليَّ فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا بغير ذلك.
وهذا حق بلا ريب، وبه يصان المجتمع عن كثير من الشرور والآفات، فإن كثيرًا من أمور الناس والمجتمعات يرجع إلى تعطيل إقامة حدود الله وحقوقه بسبب الجاه أو ما يبذل من مال، أو الشفاعة التي لا تحلُّ يتقدم بها بعض الناس.
القسم الثاني وأحكامه
ونحن لا نرى ضرورة للتعرض لذلك كله، فإن الأمر هنا أكثر شبهًا بالفقه العام منه بأحكام السياسة الشرعية بصفة خاصة، ولكن نرى من الخير أن نشير إلى أنه تناول حدَّ القذف في كلا القسمين من الحدود والحقوق؛ وذلك لأنه حق الله وحق الآدمي معًا.
•••
هذا، وإذا كان من الواجب إقامة دولة واتخاذ أمير أعلى لها كما عرفنا فيما تقدم، فإن للحقوق التي من هذا القسم الثاني والأخير حق المشاورة، فإن وليِّ الأمر لا يستغني عنها، وأمر الله نبيه بها بقوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه — كما يذكر ابن تيمية رحمه الله — أنه «لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ﷺ.»
وإذا استشار ولي الأمر أهل الرأي في أمر من الأمور، فإن بيَّن له بعضهم ما يجب اتِّباعه، من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتِّباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيمًا في الدين والدنيا، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.