الفصل الثاني عشر

قصة جوناثان سمول الغريبة

كان المفتش الذي تركته بعربة الأجرة رجلًا صبورًا للغاية، فقد مر وقتٌ طويل حتى عدت إليه. أظلم وجهه عندما أريته الصندوق الفارغ.

قال بكآبة: «ها قد ضاعت المكافأة! فإن لم تكن توجد أموال فلن أحصل على أجري. كنا سنحصل على عشرة جنيهات لكلٍّ منا أنا وسام براون إن كان الكنز بداخل الصندوق.»

قلت: «السيد ثاديوس شولتو رجلٌ غني، أعتقد أنه سيكافئك على مجهودك سواء كان الكنز موجودًا أو لا.»

لكن هزَّ المفتش رأسه بخيبة أمل وكرر: «سيعتقد السيد أثيلني جونز أني لم أقم بعملي على أكمل وجه.»

صدق تنبؤه بالفعل؛ فقد بدا وجه المحقِّق خاليًا من التعبير عندما وصلت إلى شارع بيكر وأريته الصندوق الفارغ. كانوا قد وصلوا للتوِّ هو وهولمز والسجين، لأنهم غيروا خطتهم بحيث يتمكنون من المرور بمركز شرطة للإبلاغ عن التطورات في طريقهم إلى هنا. جلس رفيقي مسترخيًا في مقعده ذي الذراعين، وعلى وجهه ذلك الفتور المعتاد، بينما جلس سمول قبالته في تبلُّد وهو يضع ساقه الخشبية فوق السليمة. وعندما أريتُهم الصندوق الفارغ استرخى في مقعده وضحك بصوت عالٍ.

قال أثيلني جونز بغضب: «أنت الذي فعلت هذا يا سمول.»

صاح باغتباط: «أجل، لقد خبَّأته حيث لن تطولوه أبدًا؛ إنه كنزي أنا، وإن لم يكن بإمكاني الحصول على غنيمتي فسأضمن ألا يحصل عليها غيري. أنا أؤكد لكم أنه ليس لأحد حق فيه غيري أنا وثلاثة رجال محبوسين في زنازين المساجين في جزر أندمان. أنا أعلم الآن أنه ليس بإمكاني الحصول عليه، وكذلك هم؛ فقد كنت أتصرف طوال الوقت لصالحهم هم أيضًا، تمامًا مثلما كنت أتصرف لصالحي؛ فطالما لازمتْنا علامة الأربعة. وأعلم أنهم كانوا سيرغبون في أن أفعل ما فعلته بالضبط، وألقي الكنز في نهر التيمز بدلًا من أن يحصل عليه ورثة شولتو أو مورستان. فلم نفعل ما فعلناه بأشميت كي يَصيروا هم أغنياء. ستجدون الكنز حيث يرقد المفتاح وجسد تونجا الضئيل. فعندما رأيت أن زورقكم سيدركنا حتمًا، خبأت الغنيمة في مكانٍ آمن. لن تخرجوا بأي مكاسب من هذه الرحلة.»

قال جونز بصرامة: «أنت تخدعنا يا سمول. فإن كنت أردت إلقاء الكنز في التيمز حقًّا، لكان من الأسهل عليك إلقاء الصندوق بأكمله.»

أجاب وهو يرمقه بنظرةٍ جانبيةٍ خبيثة: «لكان أسهل عليَّ أن ألقيه، وأسهل عليكم أن تستعيدوه. فالرجل الذي يملك الذكاء الكافي لتعقُّبي يملك الذكاء الكافي لإخراج صندوقٍ حديدي من قاع النهر. لكن بعد أن بعثرته على مسافة حوالي خمسة أميال، فقد يُصعِّب ذلك مهمته أكثر. ومع أنه آلمني بشدة أن أفعل ذلك، فقد جُنَّ جنوني عندما أدركتمونا. لكني لا أحزن على ذلك؛ فقد عشت الحياة بحلوها ومرِّها، لكني تعلمت ألا أبكي على اللبن المسكوب.»

قال المحقق: «هذا أمرٌ جسيم جدًّا يا سمول. فإن كنت أعنت العدالة على أن تأخذ مجراها بدلًا من عرقلتها بتلك الطريقة، لأصبحت فرصك أفضل أثناء المحاكمة.»

صاح المحكوم السابق بغضب: «العدالة! أي عدالة؟ من صاحب الحق في هذه الغنيمة إن لم نكن نحن؟ أين العدالة في إعطائها لمن لم يستحقَّها يومًا؟ أتعرف كيف استحققتُها أنا! لقد قضيت عشرين عامًا طويلة في ذلك المستنقع الموبوء، أعمل طوال ساعات النهار تحت شجرة القُرم، وأقضي ساعات الليل مقيدًا داخل أكواخ المساجين القذرة، أعاني لدغات الناموس ونوبات الحمَّى، وأتحمَّل تنمُّر رجال الشرطة السود الملاعين الذين يُحبون صبَّ جام غضبِهم على رجلٍ أبيض. هكذا استحققت كنز أجرا. وأنت تُحدثني عن العدالة لأني لم أتحمل أن أشعر بأني دفعت ذلك الثمن كي يتمتَّع غيري بالكنز؟ لأن أُشنق عشرين مرة أو يَغرِس أحد سهام تونجا في جلدي خير لي من أن أقضي حياتي في زنزانة سجن وأنا أعرف أن رجلًا آخر يعيش مرتاحًا في قصر بأموالي.» خلع سمول قناع الهدوء، وخرج منه ذلك الكلام في زوبعة انفعال، وعيناه تشتعلان غضبًا، وأصفاده تصطكُّ من حركة يدَيه المنفعلة. وعندما رأيته في ذروة غضبه وانفعاله، أدركتُ أن الرعب الذي تملَّك الرائد شولتو عندما علم بأن ذلك السجين الجريح يسعى وراءه كان طبيعيًّا ومبررًا.

قال هولمز بهدوء: «لا تنسَ أننا لا نعلم أي شيء عن ذلك كله؛ فنحن لم نسمع قصتك بعدُ، ولا نعلم إلى أي مدًى كانت العدالة في صفك.»

قال سمول: «حسنًا يا سيدي، أنت لم تعاملني إلا بكل احترام حتى الآن، مع أنك مَن تسبَّب في وضع تلك الأصفاد حول يديِّ. ومع ذلك، أنا لا أحمل لك أي ضغينة لقيامك بذلك؛ فالأمر كله عادل وقانوني. فإن كنت تريد سماع قصتي فلن أُخفيَها عنك. كل كلمة مما سأحكيه لك هي الحقيقة المطلَقة. شكرًا لك، بإمكانك أن تضع الكأس هنا بجواري كي أرتشف منه كلما جفَّ حلقي.

أنا رجل من ورسترشاير، ولدت بالقرب من بيرشور. وأعتقد أنك ستجد العديد من أفراد عائلة سمول يعيشون هناك الآن إن بحثْت. كثيرًا ما فكرت في أن أذهب لأبحث عنهم هناك، لكني في الحقيقة لم أكن أبدًا محلَّ فخر للعائلة، وأشك في أنهم كانوا سيَسعدون لرؤيتي. فقد كانوا جميعهم أشخاصًا مستقرِّين ومتديِّنين من صغار المزارعين، معروفين في الريف بحُسن السمعة، بينما كنت أنا مشاغبًا نوعًا ما. لكن على الأقل عندما كنت في الثامنة عشرة تقريبًا، أعفيتُهم من مشاكلي؛ فقد تورطتُ في مشكلة بسبب فتاة، ولم يكن بإمكاني الفكاك منها إلا بالتطوع في صفوف الجيش، والانضمام إلى كتيبة كنت الشرقية الملكية، والتي كانت حينها على وشك الانطلاق إلى الهند.

لكن لم يكن مقدَّرًا لي أن أواصل العمل في الجيش؛ فلم أكد أتعلم المشية العسكرية وكيفية استخدام بندقيتي، عندما هدَتني حماقتي لأن أذهب للسباحة في نهر الجانج. لحسن حظي، كان جون هولدر، رقيب فرقتي في النهر في ذلك الوقت، وهو أحد أمهر السباحين في الخدمة. هاجمني تمساح وأنا في منتصف الطريق للضفة الأخرى، وقضم رجلي اليُمنى وقطعها تمامًا من فوق الركبة مباشرة كما لو كان جراحٌ هو مَن قطعها؛ فقدتُ وعيي بفعل الصدمة والنزيف، وكنت سأموت غرقًا لولا أن أمسك بي هولدر وسبح بي إلى الشاطئ. قضيت خمسة شهور في المشفى بسبب ذلك، وعندما أصبحت قادرًا على مغادرته سائرًا على قدمي بصعوبة بمساعدة ذلك الطرف الخشبي المربوط بجذعتي، وجدتني قد سُرِّحْت من الجيش وصرت غير لائق لأي مهنة تتطلَّب جهدًا بدنيًّا.

كان الحظ قد أدار ظهره لي في ذلك الوقت كما تتخيَّلون؛ فقد صرت كسيحًا عاطلًا وأنا لم أبلغ بعدُ العشرين من عمري. لكن ما لبث أن اتضح لي أن سوء حظي كان منحة في صورة محنة؛ فقد احتاج رجل يسمى أبلوايت — قدِم إلى البلاد لإقامة مزرعة لنبات النيلة — إلى مُشرف لملاحظة العمال وحثِّهم على العمل. صادف أنه كان صديقًا للكولونيل الذي كان يوليني اهتمامًا منذ الحادث. كي لا أطيل عليكم، رشحني الكولونيل بشدة لذلك المنصب، ولأن أغلب العمل كان من المفترض أن يُقضى من على ظهر الحصان، فلم تُمثِّل ساقي عقبةً كبيرة؛ لأن الجزء المتبقي من ساقي كان يكفي لأن أتشبث جيدًا بالسرج. كان كل ما عليَّ فعله هو أن أتجول بحصاني في المزرعة، لأراقب الرجال أثناء عملهم، وأُبلغ عن المتكاسلين. كان الأجر مُجزيًا، وكان محل إقامتي مريحًا، وكنت في المجمل قانعًا بقضاء ما تبقى من أيامي في مزرعة نبات النيلة. كان السيد أبلوايت رجلًا طيبًا، وكان كثيرًا ما يمر على كوخي الصغير كي يشاركني تدخين الغليون؛ فالرجال البيض هناك في الغربة يشعر الواحد منهم بالألفة تجاه الآخر أكثر مما يفعلون هنا في وطنهم.

لكن الحظ لم يلازمني طويلًا؛ ففجأة، ودون سابق إنذار، اندلع تمردٌ عظيم ضدَّنا. فقبلها بشهر، كانت الهند تبدو للعيان هادئة ومسالمة، كما لو كانت سوري أو كنت، ثم فجأة انطلق مائتا ألف من الشياطين السود يَعيثون في الأرض فسادًا، وتحولت البلد كلها إلى جحيم. بالطبع أنتم تعرفون عن ذلك الأمر أيها السادة أكثر مما أعرف بكثير على الأغلب؛ فالقراءة ليست من اهتماماتي؛ فأنا لا أعرف إلا ما شاهدته بعيني. كانت مزرعتنا في مكان يُدعى ماثورا، بالقرب من حدود المقاطعات الشمالية الغربية للهند. وكل ليلة كانت السماء بأكملها تضيء بالنيران المشتعلة في البيوت الريفية، وكل يوم كانت تمرُّ بأرضنا جماعاتٌ صغيرة من الأوروبيين بزوجاتهم وأطفالهم في طريقهم إلى أجرا، حيث كانت تتمركز أقرب قواتٍ عسكرية. كان السيد أبلوايت رجلًا عنيدًا؛ فقد كان يتصور أن الناس يعطون الأمر أكبر من حجمه، وأنه سيهدأ فجأة كما بدأ. كان يجلس في شرفته يَحتسي الويسكي الممزوج بالصودا ويُدخِّن سجائر الشيروت، بينما كان البلد يحترق من حوله. بالطبع اخترنا البقاء معه، أنا وداوسن، الذي كان يساعده هو وزوجته في أعمال الحسابات والإدارة. وفي أحد الأيام، حدثت الواقعة. كنت حينها في مزرعةٍ بعيدة، وكنت عائدًا على مهل إلى المنزل في المساء ممتطيًا جوادي، عندما وقعت عيناي على كومةٍ سوداءَ في أسفل مجرًى مائيٍّ صغيرٍ منحدر. اقتربت على جوادي لأتبيَّنها، وصُعقت عندما وجدت أنها جثة زوجة داوسن، وقد قُطِّعَت إلى أشلاء وأكل نصفَها الكلابُ المحلية وبنات آوى. وعلى مسافة غير بعيدة منها، كان داوسن نفسه مستلقيًا على وجهه وقد فارق الحياة وفي يده مسدسٌ فارغ، وأمامه جثث أربعة مجندين هنود. شددتُ عنان جوادي، وأنا في حيرة! إلى أين أذهب؟ لكن في تلك اللحظة، رأيت دخانًا كثيفًا يتصاعد من بيت السيد أبلوايت الريفي، وألسنة النيران قد بدأت تتصاعد عبر سطحه. حينها أدركت أني إن حاولت التدخل، فلن أستطيع مساعدة رب عملي، بل سألقي بنفسي إلى التهلكة؛ فمن مكاني كنت أرى مئات الرجال السود المتوحِّشين، بمعاطفهم الحمراء لا تزال على ظهورهم، يرقصون ويعْوُون حول المنزل المشتعل. أشار بعضهم إليَّ، وسمعت أزيز رصاصات تطاير بجانب رأسي؛ لذلك انطلقتُ هاربًا عبر حقول الأرز حتى وجدت نفسي بحلول الليل داخل أسوار أجرا الآمنة.

لكن اتَّضح لي أنه حتى أجرا لم تكن آمنة تمامًا؛ فقد كانت البلدة بأكملها تئزُّ مثل خلية نحل. أينما استطاع الإنجليز التجمع في مجموعاتٍ صغيرة، كانوا يسيطرون فقط على المواقع التي يستطيعون حمايتها بالسلاح؛ وخارج تلك المناطق، كانوا مجرد هاربين لا حول لهم ولا قوة. كانت معركة يخوضها الملايين ضد المئات؛ وأصعب شيء فيها هو أن أولئك الرجال الذين كنا نُقاتلهم، من جنود المشاة والخيالة والمدفعية، كانوا المجندين الذين انتقيناهم وعلَّمناهم ودرَّبناهم، يقاتلوننا بأسلحتنا وينفخون في أبواقنا. في أجرا، اجتمعتْ كتيبة المشاة البنغالية الثالثة، وبعض السيخ، وفرقتا خيالة، وكتيبة مدفعية. وتكوَّنت هيئةٌ تطوعية من الكتبة والتجار، وقد انضممت إليها على الرغم من ساقي الخشبية. خرجنا للقاء المتمرِّدين في شاهجونج في مطلع شهر يوليو، وأجبرناهم على التراجع لبعض الوقت، لكن نفدت ذخيرتنا واضطررنا إلى التراجع إلى داخل أسوار المدينة. كانت الأخبار السيئة تنهال علينا من كل حدب وصوب، وهو ليس بالأمر المُستَغرَب، فإذا نظرت إلى الخريطة ستجد أننا كنا في قلب المعركة؛ فلكناو تبعد أكثر من مائة ميل جهة الشرق، وكاونبور تبعد نفس المسافة تقريبًا جهة الجنوب. كان التعذيب والقتل والاعتداءات تحيط بنا من جميع الجهات.

وأجرا مدينة كبيرة تعجُّ بجميع أنواع المتطرفين وعبدة الشيطان المتوحِّشين. ورجالنا المعدودون كانوا يتوهون في أزقَّتها الضيقة المتعرجة؛ ولهذا جاوز قائدنا بنا النهر، واتخذ من الحصن القديم بمدينة أجرا مقرًّا لنا. لا أعلم إن كان أيٌّ منكم أيها السادة قد قرأ أو سمع أي شيء عن ذلك الحصن القديم في المدينة. إنه مكانٌ غريب للغاية — أغرب مكان دخلته، وقد زرت في حياتي أماكنَ شديدة الغرابة. بادئ ذي بدء، كانت مساحته ضخمةً جدًّا. أعتقد أن الأراضي داخل أسواره امتدت لأفدنةٍ شاسعة. كان ثمة جزء منه حديث البناء، وهو الذي استوعب حاميتنا؛ فوضعنا فيه نساءنا وأطفالنا ومؤننا وكل شيءٍ آخر، ومع ذلك ظلت هناك مساحةٌ كبيرةٌ شاغرة. لكن حجم ذلك الجزء الحديث لا يقارن بحجم المبنى القديم، الذي لا يطؤه أحد، وتسكنه العقارب. كان مليئًا بالردهات المهجورة، والأروقة المتعرِّجة، والممرات الطويلة الملتوية؛ لذا يسهل أن يتوه المرء فيه. ولهذا السبب، نادرًا ما كان يدخله أحد، على الرغم من ذهاب مجموعة من الأفراد بين الحين والآخر لاستكشافه حاملين المشاعل.

كان النهر يجري بمحاذاة أسوار واجهة الحصن القديم وبالتالي كان يحمي تلك الجهة، لكن كانت توجد العديد من الأبواب على الجوانب والخلفية، وبالطبع كان من الضروري حراستها، في المبنى القديم وكذلك في المبنى الحديث الذي تتمركز فيه قواتنا. كان ينقصنا الرجال وبالكاد كان عددهم كافيًا لحراسة جميع زوايا المبنى وتشغيل الأسلحة؛ لذا كان من المستحيل وضع حارسٍ قوي على كل بوابة من البوابات العديدة. ما فعلناه هو أن أقمنا مركز حراسة في وسط الحصن، ووضعنا على كل بوابة رجلًا أبيضَ ورجلَين أو ثلاثة من السكان المحليين للحراسة. وقع الاختيار عليَّ لأتولى حراسة بابٍ منعزل على الجانب الجنوبي الغربي للمبنى في أثناء بضع ساعات من الليل. ووُضِع تحت قيادتي جنديان من السيخ من فرقة الفرسان، وتلقيتُ تعليمات بأن أطلق النار من بندقيتي حال حدثت مشكلة وسيأتيني الدعم فورًا من مركز الحراسة. لكن المركز كان يبعد عن تلك البوابة نحو مائتي خطوة، ولأن المسافة بيننا كانت تقطعها متاهة من الأروقة والممرات، لم أكن متأكدًا من أنهم سيصلون في الوقت المناسب إذا وقع هجومٌ فعلي.

كنت أشعر بالفخر الشديد لتولي تلك المهمة البسيطة، نظرًا لأني كنت لا أزال مجنَّدًا جديدًا بساقٍ عرجاء. لليلتين على التوالي، تولَّيتُ نوبة الحراسة مع الجنديين البنجابيين. كانا رجلين طويلَي القامة بملامحَ شرسة، أحدهما يدعى محمد سينج، والآخر عبد الله خان، وكلاهما كانا رجلَي حرب قديمين، حملا السلاح ضدنا في معركة تشيليانوالا. كانا يجيدان التحدث بالإنجليزية لكني لم أستطع حثَّهما على تبادل الحديث معي إلا قليلًا؛ فقد كانا يفضِّلان الوقوف معًا والثرثرة طوال الليل بلغة السيخ الغريبة تلك. أما أنا فقد اعتدت أن أقف خارج البوابة أنظر إلى النهر المتعرِّج العريض وأضواء المدينة الكبيرة المتلألئة. كان قرع الطبول وصلصلة الطُّمطُم، وصياح المتمرِّدين وعواؤهم وهم ثملون من أثر الأفيون وعشبة القنب المخدِّرة، كفيلًا بتذكيرنا طوال الليل بجيراننا الخطرين على الجانب الآخر من النهر. كل ساعتَين طوال الليل كان الضابط المسئول عن الوردية الليلية يمرُّ بجميع المواقع ليتأكد من أن كل شيء على ما يُرام.

وفي الليلة الثالثة، قضيتُ نوبة حراستي وسط الظلام والوحل، مع هطول قليل من المطر العنيف، وكان الوقوف في المدخل في مثل ذلك الجو ساعة تلو الأخرى أمرًا موحشًا. حاولت مرارًا أن أحمل السيخيَّين على الحديث معي، لكن دون جدوى. وفي الثانية صباحًا، مرت دوريات الحراسة وكسرت ضجر الليل لوهلة. وبعد أن فقدت الأمل في فتح حديث مع رفيقيَّ، أخرجت غليوني وتركتُ بندقيتي كي أُشعل عود الثقاب. في تلك لحظة، انقضَّ عليَّ السيخيان. خطف أحدهما بندقيتي وصوَّبها إلى رأسي، بينما وضع الآخر سكينًا كبيرة على عنقي وأقسم وهو يجزُّ على أسنانه أن يغرسها في جسدي إن صدرت مني أي حركة.

ظننت للوهلة الأولى أن هذين الرجلَين متواطئان مع المتمرِّدين وأن تلك بداية هجومٍ مدبر. إذا وقعت بوابتنا في أيدي المتمردين الهنود، فسيسقط ذلك الحصن حتمًا، وستُعامل نساؤنا وأطفالنا كما عوملوا في كاونبور. قد تظنون أيها السادة أني أقول ذلك كي أدعم موقفي، لكني أقسم لكم أني عندما راودتني تلك الفكرة، مع أني كنت أشعر بحدِّ السكين على عنقي، فتحت فمي وأنا أنوي الصراخ لتنبيه حراس المركز الرئيسي؛ حتى ولو كانت هذه صرختي الأخيرة. بدا أن الرجل الذي كان يمسك بي قرأ أفكاري، لأني وأنا أستجمع قوَّتي لأصرخ، همس في أذني قائلًا: «لا تحدث جلبة، فهذا الحصن بأمان، ولا يوجد مُتمردون على تلك الجهة من النهر.» كان ثمة نبرة تنم عن صدق ما يقوله، وكنت أعرف أني إن رفعت صوتي فسيقتلني؛ فقد كنت أرى ذلك في عينَيه البُنِّيتَين؛ لذا أطبقت فمي منتظرًا سماع ما يريدان مني.

قال الأطول والأشرس بينهما ويدعى عبد الله خان: «اسمعني يا صاحب، إما أن تنضم لنا الآن أو نُسكتك للأبد. الأمر أعظم من أن نتردَّد. إما أن تكون معنا قلبًا وقالبًا، وتقسم بصليب المسيحيِّين على ذلك، أو نلقي بجثتك الليلة في قاع القناة ونعبر إلى إخواننا في جيش الثوار. لا يوجد اختيارٌ آخر، فماذا تختار، الحياة أم الموت؟ أمامك ثلاث دقائق لتُقرر؛ فالوقت يمر، ويجب أن نفعل ما يجب علينا فعله قبل أن تمر الدوريات مرةً أخرى.»

قلت: «وكيف لي أن أُقرر وأنتما لم تخبراني ماذا تطلبان مني؟ لكني أقول لكما إن كان ما تطلبانه سيُعرِّض الحصن للخطر، فلن أشارك فيه أبدًا؛ لذا يمكنك أن تغرس ذلك السكين في عنقي إن أردت.»

قال: «إنه لا يعرض الحصن للخطر؛ فجُلُّ ما نطلبه منك هو أن تفعل ما أتى بأهل بلادك إلى هنا، جلُّ ما نطلبه منك هو أن تصبح غنيًّا. إن انضممت لنا الليلة، فسنُقسم بحدِّ السكين، وبالقَسم الثلاثي الذي لم يحدث وأن نقضه أيُّ سيخي من قبلُ، أن تحصل على حصتك العادلة من الغنيمة. سيكون ربع الكنز ملكَك، وهذا هو العدل.»

سألت: «لكن ما هو ذلك الكنز؟ أنا على أتم الاستعداد لأن أصبح ثريًّا، إن أخبرتماني ما السبيل إلى ذلك.»

قال: «أتقسم إذن برفات أبيك، وشرف أمك، وصليب عقيدتك، ألا تبطش علينا بيدك أو تتحدث عنا بسوء الآن أو بعدئذٍ؟»

أجبت: «أقسم على ذلك، بشرط ألَّا يتعرض الحصن للخطر.»

«إذن، أقسم أنا ورفيقي أن نعطيك ربع الكنز الذي سنقسمه بالتساوي بيننا نحن الأربعة.»

قلت: «لكننا ثلاثة فقط.»

قال: «لا، بل يجب أن يحصل دوست أكبر على حصته أيضًا؛ سنخبرك بالقصة بينما ننتظرهم. هلا وقفت أمام البوابة يا محمد سينج ونبهتنا لقدومهم؟ قضيَ الأمر إذن يا صاحب، سأُخبرك بالأمر لأني أعرف أن الفرنجي يحترمُ يمينه، وأنه بإمكاننا الوثوق بك. أما إن كنت هنديًّا كاذبًا، لكُنَّا أرقنا دمك وألقينا بجثتك في الماء حتى وإن حلفتَ بكل الآلهة في معابدها المزيَّفة. لكن السيخ يعرفون الإنجليز كما يعرف الإنجليز السيخ. أصغِ إذن لما سأقوله لك.»

وأردف: «يوجد أميرٌ حاكم في المقاطعات الشمالية لديه ثروة طائلة، مع أن أراضيه ليست شاسعة. لقد ورث عن أبيه الكثير وجمع الكثير أيضًا بنفسه، فهو بخيل بطبعه يكتنز الذهب ولا يُنفق منه. عندما اندلعت المشاكل، صار حليفًا لكلا الطرفين؛ المتمرِّدين ورجال شركة الهند الشرقية. ولكن سرعان ما بدا له أن أيام الرجال البيض قد ولَّت؛ فقد كانت أخبار موتهم والإطاحة بهم تأتيه من كل مكان. لكن لأنه رجلٌ شديد الحرص، وضع خطة تضمن له الاحتفاظ بنصف ثروته على الأقل مهما حدث. احتفظ بالذهب والفضة بالقرب منه في خزائن قصره، لكنه وضع أقيم الأحجار الكريمة النفيسة واللآلئ النادرة التي يمتلكها داخل صندوقٍ حديدي وأرسله مع خادمٍ أمين متنكِّر في هيئة تاجر إلى حصن أجرا كي يُخبِّئه هناك حتى تستقر الأوضاع في البلاد. وبهذا، إن انتصر المتمردون يكون لديه أمواله، لكن إن غلبهم جنود شركة الهند الشرقية، فستكون جواهره في الحفظ والصون. وبعد أن قسم ثروته على هذا النحو، وجَّه كامل مجهوداته إلى دعم قضية المتمردين لأنهم كانوا هم الأقوى على حدود مقاطعته. وبقيامه بذلك، يا صاحب، صارت ممتلكاته حقًّا مكتسبًا لأولئك المخلصين لقضيتهم.

أما ذلك التاجر المتنكر، الذي يرتحل تحت اسم أشميت، فهو موجود الآن في مدينة أجرا ويريد أن يدخل إلى الحصن. يرافقه في سفره أخي غير الشقيق دوست أكبر، الذي يعرف سرَّه. وعده دوست أكبر بأن يرشده الليلة إلى بوابةٍ خلفية جانبية للحصن واختار تلك البوابة بالتحديد. وسيأتي إلى هنا عما قريب، وسيجدني أنا ومحمد سينج بانتظاره. المكان هنا معزول ولن يعرف أحد بقدومه. سيختفي التاجر أشميت من على ظهر الأرض وسنقسم كنز الأمير العظيم بيننا. فما قولك يا صاحب؟»»

وتابع سمول سرد حكايته قائلًا: «في ورسترشاير، حياة الإنسان لها هيبة وقدسية، لكن الأمر يختلف عندما تكون محاطًا بالنيران والدم، وتعتاد أن تلاقي الموت عند كل زاوية. لم أُعر اهتمامًا لمسألة حياة التاجر أشميت أو موته فلم يكن ثمة فرق بالنسبة إليَّ، لكن الحديث عن الكنز أجَّج رغبتي في امتلاكه، وتصوَّرتُ ما يمكنني فعله به عندما أعود إلى بلدتي القديمة، وكيف ستندهش عائلتي من عودة ابنهم العديم النفع وقد امتلأت جيوبه بالعملات الذهبية. حينها حسمتُ أمري بالفعل، لكن عبد الله خان، ظنًّا منه بأني ما زلت متردِّدًا، ألحَّ عليَّ أكثر قائلًا: «فكِّر يا صاحب، إن اعتقل قائد الوحدة ذلك الرجل، فسيشنقه أو يرديه بالرصاص، وستستولي الحكومة على الكنز، ولن ينال أحد منه روبيةً واحدة. لكن بما أنه سيقع في أيدينا نحن، فلم لا نستولي على الكنز أيضًا؟ ستكون الجواهر في أمان معنا تمامًا كما لو كانت في خزائن شركة الهند الشرقية. وسيحصل كلٌّ منا على ما يكفي لجعله رجلًا ثريًّا عظيم الشأن. لن يعرف أحد بالأمر، فنحن هنا بمعزل عن الجميع. أين يمكننا العثور على مكان أنسب من هذا لتنفيذ غرضنا؟ مرةً أخرى، أخبرنا يا صاحب، هل أنت معنا أم نعتبرك عدونا؟»

قلت: «معكم قلبًا وقالبًا.»

أجابني وهو يناولني بندقيتي: «هذا جيد، نحن نثق بك، فعليك الالتزام بكلمتك كما سنلتزم نحن بكلمتنا. ما علينا الآن سوى انتظار أخي والتاجر.»

سألته: «هل يعرف أخوك بما تنوي فعله؟»

«إنه صاحب الخطة، فهو مَن وضعها. والآن سنذهب إلى البوابة ونشارك محمد سينج في حراستها.»

كان المطر لا يزال ينهمر دون انقطاع؛ فقد كنا في بداية موسم المطر. كانت السحب البنية الكثيفة تغطي السماء، وكان يصعب الرؤية إلا لمسافةٍ قصيرة. كان ثمة خندقٌ مائيٌّ أمام الباب، لكن كانت المياه قد جفَّت في بضعة مواضع منه فكان عبوره سهلًا. كان من الغريب عليَّ أن أقف هناك مع هذَين البنجابيَّين المتوحشَين في انتظار الرجل الذي يأتي ليَلقى حتفه.

فجأةً لمحت بصيص مصباحٍ مغطًّى على الجانب الآخر من الخندق. اختفى بين أكوام الركام ثم عاود الظهور مرةً أخرى وهو يتقدم ببطء في اتجاهنا.

هتفت: «ها هما ذان!»

همس عبد الله: «ستَعترض طريقه أنت يا صاحب كالمعتاد، لا تفعل ما قد يُثير خوفه. أرسلنا إلى الداخل معه وسنتكفَّل نحن بالباقي، وأنت ابقَ هنا للحراسة. استعدَّ لإزالة غطاء المصباح كي نتأكد من أنه رجلنا المطلوب.»

استمر الضوء في التأرجُح نحونا، تارة يتوقَّف وتارة يتقدم، حتى تراءى لي جسمان داكنان على الجانب الآخر من الخندق. تركتهما ينزلان ضفة الخندق المنحدرة ويخوضان في الوحل، ثم يصعدان حتى منتصف الطريق إلى البوابة قبل أن اعترض طريقهما.

قلت بصوتٍ خافت: «من هناك؟»

أتتني الإجابة: «صديقان.» رفعت الغطاء عن مصباحي فغمر فيض من الضوء وجهَيهما. كان أحدهما سيخيًّا ضخمًا له لحيةٌ سوداء تمتد حتى خصره تقريبًا. وفي حياتي لم أرَ رجلًا بذلك الطول إلا في العروض الترفيهية. أما الآخر فقد كان رجلًا قصيرًا بدينًا مكتنزًا، يرتدي عمامةً صفراءَ كبيرة ويحمل في يده صرةً ملفوفة بوشاح. بدا كأنه يرتجف رعبًا، فقد كانت يداه ترتعشان كما لو أنه يعاني من حمَّى الملاريا، وظل يتلفَّت برأسه يمينًا ويسارًا بعينَين ضيقتَين لامعتَين مثل فأر يقدم على الخروج من جحره. سرَت في جسدي قشعريرة عندما فكرت في أننا على وشك قتله، لكني تذكرت الكنز، وعندها تحجَّر قلبي في صدري كحجر صوان. حين رأى وجهي الأبيض، أطلق صيحة سعادة قصيرة وأتاني يركض.

قال لاهثًا: «أرجو حمايتك يا صاحب، أرجو حمايتك للتاجر التعيس أشميت. لقد قطعتُ راجبوتانا مسافرًا كي أحتمي بحصن أجرا. لقد سُلِبت وضُربت واستُغلِلت لأني مناصر للشركة. ستكون هذه ليلة سعدي إذ أصبحت آمنًا مرةً أخرى، أنا وممتلكاتي المتواضعة.»

سألته: «ماذا معك في الصرة؟»

أجاب: «صندوقٌ حديدي يحتوي على بضعة متعلقاتٍ عائلية لا قيمة لها لدى الآخرين لكني سأحزن كثيرًا إن فقدتها. مع هذا أنا لست مُتسوِّلًا، أيها الصاحب الشاب، وسأكافئك أنت وقائدك إن آويتماني كما أطلب.»

لم أشأ أن أُطيل الحديث مع الرجل أكثر من ذلك؛ فكلما أطلت النظر إلى وجهه المُمتلئ الخائف بدا قتله بدمٍ بارد أصعب عليَّ. كان من الأفضل أن نُنهي الأمر سريعًا.

قلت: «خذاه للمركز الرئيسي.» حاصره السيخيان، وتبعهم العملاق وعبروا جميعًا البوابة المظلمة. لم يُحاصر الموت أحدًا قط كما كان يحاصره من كل جانب في هذه اللحظة. ظللت واقفًا عند المدخل ممسكًا بالمصباح.

كنت أسمع وقع أقدامهم المنتظم يُدوِّي في الممرات الخاوية. وفجأة توقفوا وتعالت أصواتهم ثم سمعتُ شجارًا، تلاه صوت ضربات. بعد لحظة، سمعت وقع خطواتٍ سريعة تتجه نحوي ولهاث رجل يجري؛ مما أثار رعبي. وجهت مصباحي نحو الممر الطويل المستقيم، فرأيت الرجل البدين يجري بسرعة الريح والدماء تسيل من وجهه، ووراءه يثب السيخي العملاق ذو اللحية السوداء مثل النمر وفي يده سكِّين يلمع نصله. لم أرَ في حياتي رجلًا يعدو بتلك السرعة كذلك التاجر القصير. كان يتقدَّم على السيخي وكنت أعرف أنه إن تخطاني وخرج إلى العراء فسينجو بنفسه. رقَّ قلبي له، لكن تفكيري في الكنز أقسى قلبي وأنبت فيه الحقد. أطلقت النار من بندقيتي بين قدميه حين تخطاني وهو يعدو، فتشقلب مرتَين مثل أرنب أُصيب بطلقة. وقبل أن يحاول الوقوف على قدمَيه، كان السيخي قد انقض عليه وطعنه طعنتين بالسكين في جنبه. لم يئن الرجل أو يحرِّك ساكنًا، بل ظل مستلقيًا حيث سقط. أعتقد أنه كُسر عنقه على إثر السقطة. وها أنا ذا أفي بوعدي كما ترون أيها السادة؛ فأنا أحكي لكم كل تفاصيل ذلك الأمر كما حدثت بالضبط سواء كانت في صالحي أم لا.»

ثمَّ سكت ومد يديه المكبلتَين ليتناول كأس الويسكي الممزوج بالماء الذي أعده له هولمز. بالنسبة إليَّ، أعترف أنني أدركت كم كان الرجل بشعًا، ليس فقط لتورُّطه في تلك الجريمة الشنعاء، لكن أيضًا لأسلوبه الوقح واللامبالي في سرد تفاصيلها. فأيًّا كان العقاب الذي ينتظره، شعرت بأني لن أتعاطف أبدًا معه. جلس هولمز وجونز واضعَين يدَيهما على ركبتيهما، وعلى وجهيهما ارتسمت نفس نظرة الامتعاض. قد يكون لاحَظَ هذا، فقد حمل صوته وأسلوبه نبرة تحدٍّ وهو يتابع كلامه قائلًا: «كان ما فعلته أمرًا سيئًا للغاية بالتأكيد، لكني أود أن أعرف كم رجلًا إن وُضع مكاني كان سيرفض أن يَحصل على حصة من تلك الغنيمة، إن كان يعرف أنه سيُذبح إن رفض. هذا بالإضافة إلى أن حياته كانت مقابل حياتي بمجرد أن أصبح داخل أسوار الحصن. فإن كان قد فرَّ من الحصن، كان الأمر سيَنكشِف برمته، وكنت سأخضع لمحاكمةٍ عسكرية وأُعدَم رميًا بالرصاص على الأرجح؛ فالناس لا يتساهلون في مثل تلك الأوقات.»

قال هولمز بعد برهة: «تابع روايتك.»

«حسنًا، حملناه إلى الداخل أنا وعبد الله وأكبر؛ فقد كان مع قِصر قامته، ثقيل الوزن. تركْنا محمد سينج عند الباب لحراسته. أخذناه إلى مكان كان السيخيان قد أعداه سلفًا. كان يبعد مسافةً كبيرة، حيث ينتهي ممرٌّ متعرج إلى ردهةٍ كبيرةٍ خاوية، جدرانها المبنية من الطوب متهدمة. كان ثمة هبوط في أحد جوانب أرضيتها الطينية مثل قبرٍ طبيعي، وهناك تركنا التاجر أشميت بعد أن غطَّيناه ببعض اللَّبِنات المتخلخلة. وبعد أن أتممنا ذلك، عدنا جميعًا إلى الكنز.

كان يوجد حيث أسقطه التاجر عندما هاجموه للمرة الأولى، وهو نفس الصندوق الذي يستقر الآن مفتوحًا على طاولتك. وكان المفتاح مربوطًا بشريطٍ حريري إلى المقبض المنقوش في أعلى الصندوق. فتحناه، ولمعَت تحت ضوء المصباح مجموعة من المجوهرات كتلك التي قرأتُ عنها وتخيَّلتُها وأنا ولدٌ صغير في بيرشور. كان لمعانها يخطف الأبصار. وبعد أن متعنا أعيننا بالنظر إليها، أفرغنا الصندوق وأعددنا قائمة بمحتوياته من المجوهرات. كان يحتوي على مائة وثلاث وأربعين ألماسةً نقية، إحداها تُدعى حسبما أظن «المغولي العظيم»، ويقال إنها ثاني أكبر ألماسة في العالم. وكان يحتوي أيضًا على سبع وتسعين زمردةً خالصة، ومائة وسبعين ياقوتةً حمراء، بعضها كان صغيرًا جدًّا. وكذلك كان به أربعون حجرًا من العقيق الأحمر، ومائتان وعشر من الياقوت الأزرق، وواحد وستون من العقيق، وعددٌ كبير من أحجار الزبرجد والعقيق اليماني وعين القط، والفيروز، وأحجارٌ أخرى لم أكن ملمًّا بأسمائها حينئذٍ، مع أني عرفت عنها أكثر منذ ذلك الحين. بالإضافة إلى هذا، كان ثمة حوالي ثلاثمائة لؤلؤةٍ قيمة، اثنتا عشرة منها كانت تُزيِّن إكليلًا من الذهب. وبالمناسبة، كانت هذه اللآلئ قد أُخرجت من الصندوق ولم أجدها فيه عندما استعدته.

بعد أن حصرنا الكنوز، أعدناها إلى الصندوق وحملناه إلى البوابة كي نريه لمحمد سينج. وبكل جدية، جددنا قَسَمنا بأن يقف كلٌّ منا بجانب الآخر وأن نحفظ سرَّنا. اتفقنا على أن نخبئ غنيمتنا في مكانٍ آمن حتى يعمَّ السلام البلاد مرةً أخرى، ثم نقسمه بيننا. لم يكن هناك داعٍ لتقسيمه في ذلك الوقت؛ لأنه إن عُثِر بحوزتنا على جواهرَ ثمينةٍ كتلك، فستُثار الشبهات، كما أنه لا وجود لأي خصوصية في الحصن، ولا يوجد مكان يمكن لنا الاحتفاظ بها فيه؛ لذا حملنا الصندوق إلى الردهة نفسها التي دفنَّا فيها الجثة، وهناك صنعنا تجويفًا خلف بعض اللبنات في الجدار الأكثر تماسكًا بالردهة، ووضعنا فيه كنزنا. تذكرنا المكان جيدًا، وفي اليوم التالي، رسمت أربعة مخططات، واحد لكلٍّ منا، ووضعت أدناها علامة الأربعة، فقد أقسمنا على أن يتصرَّف كل واحد منا لمصلحة الجميع، كي لا يعمل أيٌّ منا لمصلحته الشخصية. بإمكاني أن أُقسِم بكل ثقة أني لم أَخُن هذا القَسم أبدًا.

لا داعي لأن أخبركم أيها السادة بالنتيجة التي آل إليها العصيان الهندي. فبعد أن سيطر ويلسون على دلهي وحرَّر السير كولن لكناو، قُصِم ظهر حركة التمرد. انهالت علينا قوات الدعم، وفرَّ الصاحب نانا إلى خارج الحدود. أتت وحدةٌ برية بقيادة الكولونيل جريثهد إلى أجرا وأخلتْها من المتمرِّدين. بدأ السلام يعمُّ البلاد، وبدأنا نأمل نحن الأربعة أن الوقت الذي سنتمكن فيه من المغادرة بأمان بحصتنا من الغنيمة قد اقترب. لكن تبدَّدت آمالنا في لحظة، عندما قُبض علينا بتهمة قتل أشميت.

حدث الأمر كما يلي؛ حين عهد الأمير بجواهرِه لأشميت كان هذا لأنه يعرف أنه رجلٌ أمين. لكن رجال الشرق شكَّاكون بطبعهم؛ فقد وكَّل ذلك الأمير خادمًا يثق به أكثر بالتجسُّس على الأول. أُمِر الخادم الثاني بألا يدع أشميت يغيب عن نظره أبدًا، وكان يتبعه كظله. كان يتبعه تلك الليلة ورآه يعبر البوابة. ظن بالطبع أنه لجأ إلى الحصن طالبًا الأمان، وقدَّم هو الآخر طلبًا للدخول في اليوم التالي، لكنه لم يستطع العثور على أشميت؛ ارتاب في الأمر حتى إنه تحدث إلى رقيب الحراس، الذي بدوره نقل كلامه إلى القائد. وعلى التوِّ أُجريت عملية بحث دقيقة، واكتُشِفَت الجثة. وبالتالي في نفس اللحظة التي شعرنا فيها بأننا صرنا بأمان، قُبض علينا نحن الأربعة ومثُلنا للمحاكمة بتهمة القتل؛ ثلاثة منا لأنهم كانوا يحرسون البوابة في تلك الليلة والرابع لأنه كان برفقة القتيل. لم يأتِ أي ذكر للجواهر في المحاكمة؛ لأن الأمير كان قد عُزِل وطُرد إلى خارج الهند؛ لذا لم يُعرْها أحد اهتمامًا. لكن جريمة القتل اكتُشفت، وكان من المؤكَّد أن لنا جميعًا يدًا فيها. حُكم على السيخ الثلاثة بالسجن المؤبد مع الشغل، وحُكم عليَّ بالإعدام، لكن خُفِّفت عقوبتي لتصبح مثل باقي رفاقي.

أصبح وضعنا صعبًا للغاية. كنا مكتوفي الأيدي نحن الأربعة وفرصتنا في الخروج من السجن ضئيلة جدًّا، بينما نكتم في أعماقنا سرًّا كان ليجعلنا نسكن القصور لو أننا استطعنا الاستفادة منه. كانت قلوبنا تنفطر بسبب اضطرارنا لتحمُّل ركلات الحراس المتغطرسين وصفعاتهم، مع اضطرارنا إلى أكل الأرز وشرب الماء فقط، بينما تنتظرنا ثروةٌ طائلة في الخارج. كان من الممكن أن يدفعني ذلك للجنون لكني لطالَما كنتُ عنيدًا؛ لذا تمالكت نفسي وظللت أترقَّب أي فرصة.

وأخيرًا لاحت لي تلك الفرصة. فقد نُقِلتُ من أجرا إلى مدراس، ومنها إلى جزيرة بلير في جزر أندمان. كان الرجال البيض قليلون جدًّا في تلك المستعمَرة، ولأني أحسنت التصرف من البداية، وجدتني بعد فترةٍ قصيرة قد صرت شخصًا له امتيازات. أودعت كوخًا في هوب تاون، وهو مكانٌ صغير يقع على منحدرات جبل هارييت، وتُرِكت أتصرف بحرية. إنه مكانٌ موحش، تتفشى فيه الحمى، وخارج حدود أراضينا كان كل مكان يعجُّ بالسكان الأصليين المتوحِّشين آكلي لحوم البشر، الذين كانوا على أتمِّ استعداد لقتلنا بأسهمهم المسمَّمة إن سنحت لهم الفرصة. كان ثمة أعمال تنقيب وحفر خنادق وزراعة اليام، وعدة مهامَّ أخرى؛ لذا كنا مشغولين طوال النهار، لكن في المساء يتسنَّى لنا قضاء بعض الوقت فيما نريد. كان من ضمن ما تعلمته تركيب عقاقير للطبيب الجراح، وألممت بمعرفةٍ سطحية عن هذا المجال. كنت طوال الوقت أبحث عن فرصة للهروب، لكننا كنا نبعد مئات الأميال عن أي جزيرةٍ أخرى، وكانت رياح بحار تلك المنطقة ضعيفة أو ساكنة؛ لذا كان الهروب من الجزيرة صعبًا للغاية.

كان الدكتور سومرتون الجراح شابًّا نبيهًا ومحبًّا للعب القمار، وكان الضباط اليافعون الآخرون يجتمعون في غرفته كل مساء للعب القمار. كانت العيادة حيث أُركِّب العقاقير مجاورة لغرفة جلوسه، وكان بينهما نافذة صغيرة. أحيانًا، عندما كنت أشعر بالوحدة، كنت أطفئ مصباح غرفة الجراحة، وأستمع إلى أحاديثهم وأشاهد لعبهم وأنا واقف بجوار تلك النافذة. كنت أنا أيضًا مولعًا بلعب الورق، وعندما كنت أشاهدهم يَلعبون كنت أشعر وكأني أشاركهم اللعب. كان هؤلاء الضباط هم الرائد شولتو والنقيب مورستان والملازم بروملي براون، المسئولين عن قيادة القوات المحلية، بالإضافة إلى الجراح نفسه، واثنين أو ثلاثة من مسئولي السجن، وهم مهرة في اللعب وكانوا يميلون إلى اللعب المضمون. كانوا جماعةً صغيرةً هادئة.

لاحظت بعد فترة وجيزة أمرًا؛ وهو أن العسكريِّين كانوا يخسرون دائمًا بينما كان الموظفون المدنيون يربحون دائمًا. لا أعني أنه كان هناك أي غش يحدث، لكن هكذا كان الوضع؛ فحراس السجن لم يفعلوا الكثير بخلاف لعب الورق منذ أن جاءوا إلى جزر أندمان، وكان كلٌّ منهم يعرف أسلوب الآخرين في اللعب إلى حدٍّ ما، بينما كان الجنود يلعبون لمجرد تمضية الوقت وكانوا يرمون أوراقهم دون تخطيط. ليلة تلو الأخرى، كان الجنود يُغادرون طاولة اللعب أفقر مما جلسوا إليها، وكلما ازدادوا فقرًا، ازداد حماسهم للعب. كان الرائد شولتو أكثرهم تضرُّرًا؛ فقد اعتاد أن يلعب بالأوراق النقدية والذهب في بادئ الأمر، لكنه سرعان ما صار يلعب بكمبيالات بمبالغَ كبيرة. كان أحيانًا يفوز بعدة جولات؛ مما يُثير حماسه، لكن ما يلبث أن يعاديه الحظ أكثر من ذي قبل. كان يَهيم على وجهه طوال النهار والغضب يملؤه، وأصبح يشرب الخمر بكميات تضر بصحته.

ذات ليلة، كانت خسائره تفوق المعتاد. كنت جالسًا في كوخي عندما أتى يترنح هو والنقيب مورستان في طريقهما إلى مسكنهما. كانا صديقَين مقربَين لا يفترقان أبدًا. كان الرائد يتحدث بغضب عن خسائره.

سمعته يقول في أثناء مرورهما بجانب كوخي: «لقد انتهى أمري يا مورستان. سأضطر إلى تقديم استقالتي؛ فقد أصبحتُ مفلسًا.»

قال صاحبه وهو يربت على كتفه: «هراء يا صديقي العزيز! لقد واجهت أنا أيضًا مشكلةً صعبة، لكن …» كان هذا كل ما استطعت سماعه من حديثهما، لكنه كان كافيًا لأن يجعلني أفكر في خطة.

وبعد بضعة أيام، كان الرائد شولتو يمشي على الشاطئ، فانتهزت تلك الفرصة كي أتحدث إليه.

قلتُ: «أريد أن أستشيرك في أمر أيها الرائد.»

أخرج سيجاره من فمه وسألني: «حسنًا يا سمول، ما هو؟»

قلتُ: «أردت أن أسألك يا سيدي مَن أفضل شخص قد تُسلِّم له كنزًا مخبَّأً؟ أنا أعرف مكان إخفاء كنز يساوي نصف المليون، ولأني لا أستطيع الاستفادة منه بنفسي، فكرت أن أُسلِّمه للسلطات المعنية، لعلهم يُخفِّفون عقوبتي.»

شهق وقال وهو يحدق في وجهي ليتأكد من صدقي: «نصف مليون يا سمول؟»

قلت: «هذا صحيح يا سيدي، في صورة جواهر ولآلئ. وهي ترقد بانتظار من يأخذها. والغريب أن مالكها الحقيقي خارج عن القانون ولا يحقُّ له المطالبة بها؛ لذا فهو ملك لأول من يضع يده عليه.»

قال متلعثمًا: «إلى الحكومة يا سمول؛ تُسلِّمها إلى الحكومة.» لكنه قالها بتردد، فأيقنت حينها أني أثَّرت عليه.

قلت بهدوء: «أتظن إذن يا سيدي أن عليَّ أن أعطي تلك المعلومة للحاكم العام؟»

قال: «حسنًا! أرى ألا تتسرَّع في التصرف وإلا فقد تندم. أخبرني القصة كلها يا سمول، أعطني الوقائع.»

أخبرته بالقصة بأكملها بعد أن عدلت بعض تفاصيلها كي لا يتعرف على الأماكن. وبعد أن انتهيت، ظل واقفًا في مكانه لا يُحرِّك ساكنًا، يفكر بعمق. كنت أرى من ارتعاش شفتيه أنه يخوض صراعًا داخليًّا.

وأخيرًا قال: «هذا أمرٌ خطير جدًّا يا سمول. لا تتفوَّه بكلمة عنه لمخلوق حتى أراك مرةً أخرى عما قريب.»

بعدها بليلتَين أتى ومعه صديقه النقيب مورستان إلى كوخي في جوف الليل حاملَين مصباحًا، وقال: «أريد فقط أن يسمع النقيب مورستان القصة منك أنت يا سمول.»

أعدت على مسامعهما القصة كما حكيتُها من قبل.

قال: «تبدو القصة حقيقية، وجديرة بأن نتصرف بناءً عليها، أليس كذلك؟»

أومأ النقيب مورستان.

قال الرائد: «اسمع يا سمول، لقد تناقشت أنا وصديقي هذا في الأمر واتفقنا على أن سرَّك هذا لا شأن للحكومة به؛ فهو في النهاية أمر يخصُّك أنت، ولديك مطلق الحرية في التعامل معه حسبما ترى بالطبع. والآن السؤال هو: ما الثمن الذي تطلبه مقابل ذلك السر؟ فنحن قد نرغب في تولي ذلك الأمر والنظر فيه على الأقل، إن استطعنا أن نتَّفق على الشروط.» كان يحاول تصنُّع الهدوء واللامبالاة في أثناء حديثه، لكني كنت أرى الحماس والطمع يلمعان في عينَيه.

أجبت وأنا أحاول تصنُّع الهدوء نفسه بدوري، مع أني كنت متحمِّسًا بقدره: «حسنًا، أيها السادة، ثمَّة صفقةٌ واحدة فقط يمكن أن يجريها أي رجل في موقفي. أريدكما أن تساعداني ورفقائي الثلاثة على أن نصبح طلقاء. عندها سوف نعتبركما شريكَين لنا، ونعطيكما حصة الخمس تقتسمانها فيما بينكما.»

قال: «حسنًا! الخمس! هذا ليس مغريًا بما يكفي.»

قلت: «هذا يعني خمسين ألفًا لكلٍّ منكما.»

قال: «لكن كيف سنمنحك حريتك؟ أنت تعلم جيدًا أن ما تطلبه مستحيل.»

أجبت: «على الإطلاق، لقد فكَّرت في ذلك الأمر بأدق تفاصيله. المانع الوحيد لهروبنا هو أننا لا نستطيع الحصول على قارب يصلح للرحلة، ولا مؤن تكفينا لوقتٍ طويل. توجد العديد من القوارب الشراعية الصغيرة واليخوت في كلكوتا أو مدراس تصلح لذلك الغرض. أحضِرا واحدًا إلى هنا، ونحن سنغادر على متنه ليلًا، وإن أنزلتمانا في أي مكان على الساحل الهندي فستكونان قد أتممتما دوركما من الصفقة.»

قال: «فقط لو كان علينا مساعدتك وحدك.»

أجبته: «إما الجميع وإما لا أحد، لقد تعاهدنا على ذلك. يجب أن يتصرف أربعتنا دائمًا معًا.»

قال: «أرأيت يا مورستان، سمول هذا رجل يحفظ كلمته، ولا يُدير ظهره لأصدقائه. أعتقد أنه جدير بثقتنا.»

أجاب مورستان: «هذا عملٌ غير قانوني. لكن كما تقول، سوف يكون المال تعويضًا كافيًا وزيادة عن رتبنا العسكرية.»

قال الرائد: «حسنًا يا سمول، أعتقد أننا سنُحاول تنفيذ شرطك. لكن يجب أن نختبر صحة روايتك أولًا. أخبرني بمكان الصندوق وسوف أحصل على إذن بالغياب وأذهب إلى الهند على متن قارب الإغاثة الشهري لأتحقَّق أكثر من الأمر.»

قلت وأنا أزداد هدوءًا بينما كان يزداد هو حماسًا: «ليس بهذه السرعة. يجب أن أحصل على موافقة رفقائي الثلاثة أولًا. كما أخبرتكما فإما الجميع أو لا أحد.»

قاطعني قائلًا: «هراء! ما شأن ثلاثة رجال سود باتفاقنا؟»

قلت: «سود أو بيض، هم شركائي، ولا بد أن نكون معًا.»

انتهي الأمر باجتماع ثانٍ حضره محمد سينج وعبد الله خان ودوست أكبر. ناقشنا الأمر مرةً أخرى وتوصلنا أخيرًا لاتفاق. اتفقنا على أن نُعطي الضابطَين مخططات للجزء المخبَّأ به الكنز بحصن أجرا، ونحدد بها المكان الذي خبأناه فيه خلف الجدار. كان من المفترض أن يذهب الرائد شولتو إلى الهند كي يتحقق من صحة كلامنا. وإن وجد الصندوق، كانت الخطة أن يتركه في مكانه ويرسل زورقًا صغيرًا مزوَّدًا بما يكفي من المؤن لرحلتنا، ينتظرنا على مقربة من ساحل جزيرة روتلاند، حيث من المفترض أن نتَّجه، ثم يعود هو إلى ممارسة مهامِّه. بعدها يقدم النقيب مورستان طلب إجازة، ويقابلنا في أجرا، وهناك نُقسِّم الكنز بصفةٍ نهائية ويأخذ نصيبه ونصيب الرائد منه. تعاهدنا على ذلك بأغلظ الأيمان التي يُمكن أن تردَ على العقل أو تجري على اللسان. سهرت طوال الليل ممسكًا بالورق والقلم، وبحلول الصباح كنت قد انتهيت من تجهيز المخطَّطين، وذيَّلتُهما بعلامة الأربعة — عبد الله، وأكبر، ومحمد، وأنا.

حسنًا أيها السادة، لقد أرهقتُكم بروايتي الطويلة، وأنا أعرف أن صديقي السيد جونز يتوق لوضعي خلف القضبان. سوف أختصر قدر الإمكان. ذهب النذل شولتو إلى الهند لكنه لم يعد مرةً أخرى. أراني النقيب مورستان اسمه في كشف المسافرين على متن أحد قوارب البريد بعدها بفترةٍ وجيزة. تُوفي عمُّه تاركًا له ثروة، فترك الجيش، إلا أن ذلك لم يثنِه عن التصرف تجاهنا نحن الخمسة بتلك الدناءة. ذهب مورستان إلى أجرا بعدها بفترةٍ وجيزة ليكتشف — كما توقعنا — أن الكنز قد اختفى. سرقه ذلك المحتال بأكمله، دون أن يَفي حتى بشرطٍ واحد من شروط الاتفاق الذي حصل مقابله على هذا السر. منذ ذلك اليوم وأنا أحيا فقط من أجل الانتقام؛ أفكِّر فيه نهارًا وأحلم به ليلًا. صار شغفًا عميقًا يسيطر عليَّ. لم أكترث للقانون، ولا لحبل المشنقة؛ ففكرة الهروب وتعقُّب شولتو حتى ألفَّ يدي حول عنقه كانت الفكرة الوحيدة المسيطرة عليَّ. حتى كنز أجرا أصبح أمرًا ثانويًّا بالمقارنة بقتل شولتو.

لقد عاهدت نفسي على أشياءَ كثيرة في حياتي، ولم أُخلف أي عهد قطعته لنفسي قط. لكن مرت سنواتٌ طويلة حتى استطعت الوفاء به. أخبرتكم أني كنت قد تعلمت القليل عن العقاقير. في أحد الأيام، عندما كان الدكتور سومرتون يلازم الفراش لإصابته بحمَّى، أمسكت مجموعة من المساجين بأحد السكان المحليين لجزيرة أندمان في الغابة. كان مريضًا مرضًا مُميتًا، وكان قد قصد مكانًا منعزلًا كي يموت فيه. أوليته رعايتي، مع أنه كان مرضه خطيرًا مثل أفعى صغيرة، وبعد عدة أشهر تحسَّنت حالته وأصبح قادرًا على المشي. بعدها صار شديد الإعجاب بي، ولم يُرد العودة إلى غابته بل أصبح يتسكع طوال الوقت على مقربة من كوخي. تعلمت منه بعضًا من لغته؛ مما زاد من إعجابه بي.

كان تونجا — فذلك كان اسمه — مراكبيًّا بارعًا، وكان يمتلك قارب تجديف كبيرًا وواسعًا. وعندما أدركت أنه صار مخلصًا لي ومستعدًّا لفعل أي شيء في سبيل خدمتي، رأيت فرصتي للهرب، وحدثته عن الأمر. كانت الخطة أن يأتي بقاربه في ليلة محدَّدة إلى مرفأٍ قديم لا حراسة عليه ويأخذني من هناك. أعطيته تعليمات بأن يُحضر معه عدة قناني مملوءة بالماء والكثير من حبات اليام وجوز الهند والبطاطا الحلوة.

كان تونجا الصغير مُخلصًا ووفيًّا لأقصى درجة؛ ففي الليلة المُحددة، أحضر قاربه إلى المرفأ. لكن صادف وجود حارس سجن عند المرفأ؛ باثاني بغيض كان لا يترك فرصة إلا ويتعمَّد إهانتي وإيذائي. كنت دائمًا أعاهد نفسي على الانتقام منه، وها قد جاءت فرصتي. فكأن القدر وضعه في طريقي كي أفي بعهدي قبل أن أغادر الجزيرة. كان يقف أمام الضفة، ظهره لي حاملًا قربينته على كتفه. بحثت عن حجر كي أُهشِّم رأسه به، لكني لم أجد، ثم تراءت لي فكرة تُمكِّنني من الحصول على سلاح؛ جلست على الأرض في الظلام وفككت ساقي الخشبية. وفي ثلاث وثباتٍ طويلة انقضضتُ عليه؛ هم بإطلاق النار عليَّ من قربينته، لكني ضربته ضربةً قاضية هشمت الجانب الأمامي لجمجمته. ولا يزال موضع انشقاق الخشب إثر الضربة ظاهرًا ويمكنكم رؤيته. سقط كلانا على الأرض، لأني فقدت توازني، لكن عندما نهضت وجدته لا يزال راقدًا، لا يحرك ساكنًا. اتجهت نحو القارب، وفي خلال ساعة كنا في عرض البحر. أحضر تونجا معه كل ما يملك في الحياة، أسلحته وأوثانه. ومن ضمن ما أحضر معه حربةٌ طويلة من البامبو، وحصيرة مصنوعة من قشر نبات جوز الهند الأندماني؛ صنعتُ منهما ما يشبه الشراع. ظللنا نتخبط لعشرة أيام، نأمل أن يحالفنا الحظ، وفي اليوم الحادي عشر، انتشلتنا باخرةٌ تجارية كانت مسافرة من سنغافورة إلى جدة، ومعها مجموعة من الحجاج الملاويين. كانت مجموعةً غريبة الأطوار، وسرعان ما استطعت أنا وتونجا أن نندمج وسطهم. كانت تُميِّزهم خصلةٌ طيبة للغاية وهي أنهم كانوا يتركون المرء لحاله ولا يطرحون أي أسئلة.

لن ترغبوا في سماع المغامرات التي خضتها أنا ورفيقي الصغير، فسيستغرق سردها حتى طلوع الشمس؛ فقد همنا على وجهنا حول العالم، ودائمًا كان يحدث ما يحول بيننا وبين الوصول إلى لندن، لكن طوال الوقت لم تغب غايتي عن عيني؛ فكنت أبيت أحلم بشولتو، وقتلتُه مئات المرات في أحلامي. لكن أخيرًا، منذ ثلاث أو أربع سنوات، وجدنا أنفسنا في إنجلترا. لم أجد صعوبة في معرفة مكان إقامة شولتو، وشرعت في محاولة اكتشاف ما إذا كان قد حول الكنز إلى أموال أم ما زال محتفظًا به. تقربت إلى شخص يمكنه مساعدتي — لن أذكر أي أسماء لأني لا أريد أن أورِّط أحدًا آخر في الأمر — وما لبثتُ أن عرفت أنه لا يزال محتفظًا بالجواهر. بعدها حاولت الوصول إليه بعدة طرق، لكنه كان ماكرًا، وكان يحرسه طوال الوقت ملاكمان محترفان، بالإضافة إلى ابنَيه وخادمه الهندي.

لكن في أحد الأيام سمعت أنه على فراش الموت؛ هُرعت إلى حديقة منزله، وأنا أخشى أن يُفلت من قبضتي بتلك الطريقة، وعندما نظرت من النافذة رأيتُه يرقد في فراشه وعلى جانبَيه يجلس ولداه. كنت سأدخل من النافذة وأجازف بفرصتي أمام ثلاثتهم، لولا أني رأيت فكَّه يتدلى حين نظرتُ إليه وعرفت حينها أنه قد فارق الحياة. لكني دخلت إلى غرفته في تلك الليلة، وفتَّشت أوراقه لأرى إن كان بها إشارة لمكان إخفاء مجوهراتنا. لكن لم أجد أي إشارة؛ لذا ذهبت وأنا أشعر بالحقد والغضب الدفين. ذكَّرت نفسي أني إن قابلت أصدقائي السيخ مرةً أخرى، فستريحهم معرفة أني تركت علامة تدلُّ على كرهنا؛ ولذا رسمت علامة الأربعة كما رسمتها من قبل على المخطط ووضعتها على صدره. فكان سيعزُّ عليَّ أن يوضع في قبره دون أن أترك له تذكارًا من الرجال الذين نهبهم وخدعهم.

كنا نكسب عيشنا في ذلك الوقت من عرض تونجا المسكين في المهرجانات الترفيهية وما شابه على أنه شخصٌ أسود آكل للحوم البشر؛ فكان يأكل اللحم النيِّئ ويرقص رقصة الحرب؛ لذا بنهاية يوم العمل تكون قبعتنا قد امتلأت بالنقود المعدنية. كانت الأخبار لا تزال تردني من بونديتشري لودج، ولعدة سنوات لم يرد شيء إلا أنهما كانا مستمرَّين في بحثهما عن الكنز. لكن أخيرًا أتانا الخبر الذي طالما انتظرنا سماعه، وهو العثور على الكنز. كان مخبأً في الجزء العلوي من المنزل في معمل السيد بارثلوميو شولتو الكيميائي. ذهبت على الفور إلى المنزل وألقيتُ نظرة على المكان، لكني لم أتصوَّر كيف سأتسلق إلى الغرفة بساقي الخشبية. لكني عرفتُ بوجود بابٍ أفقي في السطح، وعرفت كذلك الساعة التي يتناول فيها السيد بارثلوميو شولتو عشاءه. فكَّرت أنه بإمكاني تدبير هذا الأمر بسهولة بمساعدة تونجا. أحضرته معي وربطتُ حبلًا طويلًا حول خصره. كان يستطيع التسلُّق ببراعة كالقط، وما لبث أن وصل إلى الغرفة عبر السطح، لكن شاء الحظ السيئ أن يكتشف أن بارثلوميو شولتو لا يزال في الغرفة. اعتقد تونجا أنه فعل شيئًا في غاية الذكاء عندما قتله، فقد وجدته يتبختر باختيال كالطاوس بعد أن تسلَّقت الحبل ودخلت إلى الغرفة. وقد شعر بالدهشة عندما ضربتُه بطرف الحبل ووصفته بالشيطان الصغير المتعطِّش للدماء. أخذت صندوق الكنز وأنزلته بالحبل، ثم نزلت أنا بعد أن تركتُ علامة الأربعة على الطاولة للدلالة على أن المجوهرات عادت إلى مستحقِّيها الأصليين. بعدها سحب تونجا الحبل، وأغلق النافذة، وهرب من نفس الطريق الذي دخل منه.

هذا كل ما لديَّ لأحكيه لكم. سمعت مراكبيًّا يتحدث عن سرعة زورق سميث الذي يدعى «أورورا»؛ لذا فكرتُ أنه سيكون مفيدًا لنا في الهروب. اتفقت مع العجوز سميث، ووعدته بأن أعطيه مبلغًا كبيرًا من المال إن أوصلنا سالمَين إلى سفينتنا. كان بلا شك يعلم أن ثمة أمرًا شائكًا، لكنه لم يطَّلع على سرِّنا. هذه هي الحقيقة، وأنا لا أخبركم بها أيها السادة لتسليتكم؛ فأنتم لم تنفعوني بشيء، بل لأني أومن بأن خير دفاع لي هو أن أقول الحقيقة كاملة؛ ليعلم الجميع كم ظلمني الرائد شولتو! وكم أنا بريء من دم ابنه!»

قال شيرلوك هولمز: «يا لها من حكاية غريبة، وأنسب خاتمة لقضية مثيرة للغاية. لم أجد جديدًا في الجزء الأخير من روايتك، إلا أنك أحضرت معك حبلك الخاص، فلم أكن أعرف ذلك. بالمناسبة، كنت آمل أن يكون تونجا قد فقد جميع سهامه؛ لكنه مع ذلك أطلق علينا واحدًا ونحن في الزورق.»

«لقد فقدها جميعًا بالفعل يا سيدي إلا واحدًا كان بداخل قصبة النفخ حينها.»

قال هولمز: «بالطبع، لم أفكِّر في ذلك.»

سأل المجرم بلطف: «أهناك أي نقاطٍ أخرى تودُّ سؤالي عنها؟»

أجاب رفيقي: «لا أظن ذلك، شكرًا لك.»

قال أثيلني جونز: «حسنًا يا هولمز، لا أمانع أن أسايرك؛ فنحن جميعًا نعلم أنك خبير محنَّك في مجال الجريمة، لكن الواجب هو الواجب، وأنا تماديتُ كثيرًا عندما استجبت لما طلبتَه مني أنت وصديقك. لن أرتاح إلا بعد أن أضع راوينا هذا خلف القضبان. ما زالت عربة الأجرة تنتظر وهناك كذلك شرطيان بالأسفل. أنا ممتنٌّ لكما للغاية على مساعدتكما، وبالطبع سنطلبكما للشهادة في المحاكمة. عمتما مساءً.»

قال جوناثان سمول: «عمتما مساءً أيها السيدان.»

قال جونز الحذِر وهما يغادران الغرفة: «من بعدك يا سمول، سأتوخَّى الحذر حتى لا تضربني بساقك الخشبية، كما فعلتَ بذلك الرجل في جزر أندمان.»

علَّقتُ قائلًا بعد أن جلسْنا ندخِّن في صمت لبعض الوقت: «وبهذا تنتهي مأساتنا الصغيرة. أخشى أن هذه ستكون آخر فرصة يتسنَّى لي فيها دراسة أساليبك، فقد منحتْني الآنسة مورستان شرف قبول طلبي للزواج منها.»

أطلق زفرة تنمُّ عن الاغتمام الشديد، وقال: «كنت أخشى ذلك، لا يَسعني تهنئتك حقًّا.»

آلمني ذلك نوعًا ما، وسألته: «ألديك ما يدعو لأن تكون غير راضٍ عن اختياري؟»

«على الإطلاق، أعتقد أنها من أكثر الشابات التي قابلتهنَّ سحرًا، وكانت ستُفيدنا كثيرًا في أعمالنا هذه التي نقوم بها؛ فهي تملك موهبة لا غبار عليها في ذلك المجال؛ أرأيت كيف احتفظتْ بمخطَّط كنز أجرا دونًا عن جميع أوراق أبيها الأخرى؟ لكن الحب أمرٌ عاطفي، وكل ما هو عاطفي يتعارض مع المنطق البحت الذي أُقدِّمه على كل شيءٍ آخر. أنا شخصيًّا لن أتزوج خشية أن يتأثر حكمي على الأمور.»

قلت ضاحكًا: «أعتقد أن حكمي قد ينجو من تلك المحنة، لكنك تبدو مرهَقًا.»

قال: «لقد بدأت آثار الإعياء تظهر عليَّ بالفعل؛ سوف أرقد واهنًا مثل خرقة بالية لأسبوع.»

قلت: «أستغرب كيف يتناوب ما أُسمِّيه كسلًا بالنسبة إلى أي رجلٍ آخر مع نوبات النشاط والهمة الشديدة لديك.»

أجاب: «نعم؛ فأنا أملك مقومات شخصٍ كسول، وكذلك شخص شديد النشاط. وكثيرًا ما أفكر في تلك السطور التي كتبها جوته:
خسارة أن الطبيعة لم تصنع إلا نسخةً واحدة منك فقط؛
فقد كان ثمة ما يكفي لخلق رجلٍ وقور وآخرَ محتال.

وبالمناسبة، فيما يخصُّ قضية نوروود تلك، لقد كان للمجرمين، كما ظننتُ، حليف داخل المنزل. كان ذلك الحليف هو الخادم لال راو؛ لذا في الحقيقة يستأثر جونز بكامل الفضل في اصطياد سمكةٍ واحدة من المتورِّطين الفعليين في شباكه.»

علَّقت قائلًا: «تبدو لي هذه قسمة غير عادلة؛ فقد قمتَ أنت بالعمل كله في تلك القضية، وفزتُ أنا منها بزوجة، ونُسب الفضل فيها لجونز، فماذا تبقى لك؟»

قال هولمز: «تبقَّى لي قنينة الكوكايين.» ومدَّ يده الطويلة البيضاء ليتناولها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤