الفصل التاسع

الحلقة المفقودة

استيقظتُ في وقتٍ متأخر بعد الظهر، وقد استعدت قوَّتي ونشاطي. كان شيرلوك هولمز جالسًا بالضبط كما تركته، إلا أنه نحَّى الكمان جانبًا وكان متعمِّقًا في قراءة كتاب. نظر إليَّ وأنا أتحرك ولاحظتُ أن وجهه كان حزينًا ومضطربًا.

قال: «لقد غططتَ في نومٍ عميق، وخشيتُ أن يوقظك حديثنا.»

أجبته: «لم أسمع شيئًا. هل جاءتك أخبارٌ جديدة إذن؟»

«للأسف لا، وأُقرُّ بأن ذلك يدهشني ويُخيِّب أملي؛ فقد توقعت أن يأتيني خبر مؤكد بحلول هذا الوقت. أتى ويجنز منذ قليل ليُخبرني بالتطورات. يقول إنهم لم يجدوا أي أثر للزورق. وهو خبرٌ مثير للحنق؛ فكل ساعة تمرُّ لها أهمية.»

«هل يوجد ما يمكنني فعله؟ لقد استعدت نشاطي الآن، وأصبحت مستعدًّا للانطلاق في رحلةٍ ليليةٍ جديدة.»

«لا، لا يوجد ما يُمكننا فعله سوى الانتظار؛ إن خرجْنا فقد يأتي الخبر في غيابنا، وسيؤدِّي ذلك لحدوث تأخير. بإمكانك أن تفعل ما شئت، لكني أنا يجب أن أنتظر هنا متأهِّبًا.»

«إذن سأذهب إلى كامبرويل وأمرُّ على السيدة سيسِل فورستر، فقد طلبت مني ذلك أمس.»

سألني هولمز وقد لمعت في عينَيه ابتسامة: «على السيدة سيسِل فورستر؟»

«حسنًا، وعلى الآنسة مورستان أيضًا بالطبع؛ فقد كانتا متشوقتَين لسماع ما حدث.»

قال هولمز: «أنصحك بألا تَسترسِل في التفاصيل؛ فالنساء لسنَ جديرات بالثقة المطلقة، حتى أفضلهن.»

لم أتوقَّف لأجادله في رأيه المريع هذا، بل قلت مُعلِّقًا: «سوف أعود في غضون ساعة أو اثنتين.»

«حسنًا، حظٌّ سعيد! لكن إن كنتَ ستَعبُر إلى الجهة المقابلة من النهر، فهلا أعدت توبي إلى صاحبه؟ لا أعتقد أننا سنحتاج إليه قريبًا.»

وعليه أخذتُ الكلب الهجين وسلَّمته لصاحبه عالم الطبيعة بمنزله في بينشن لين، وأعطيته كذلك نصف جنيه ذهبي. وفي كمبرويل وجدت الآنسة مورستان لا تزال مرهَقة قليلًا جراء مغامراتنا مساء أمس، ولكنها كانت مُتشوِّقة جدًّا لسماع الأخبار، وكان الفضول يتملَّك السيدة فورستر كذلك. أخبرتهما بجميع ما فعلناه، ولكني حذفت التفاصيل البغيضة من تلك المأساة؛ فعلى الرغم من أني حكيتُ لهما عن موت السيد شولتو، لم أذكر بالتحديد الطريقة التي مات بها. ومع أني حذفت الكثير من تفاصيل القصة، ظل هناك ما يكفي لإثارة دهشتهن وذهولهن.

صاحت السيدة فورستر: «إنها بمثابة قصةٍ رومانسية! سيدة في مأزق، وكنز قيمته نصف مليون، وآكل لحوم بشر أسود اللون، وشرير بساقٍ خشبية. إنهما بمثابة التنين أو الإيرل الشرير التقليديَّين.»

أضافت الآنسة مورستان قائلة وهي ترمقني بنظرةٍ فرحة: «وفارسان مغواران يتدخلان لإنقاذها.»

«صحيح يا ماري، إنَّ حظك يعتمد على عملية البحث تلك. لا أرى أنك متحمسة بالدرجة الكافية. تخيَّلي كيف سيكون حالك وأنت بهذا الثراء الفاحش، والعالم كله تحت قدمَيك!»

انشرح صدري قليلًا عندما لاحظت أنه لم يبدُ عليها علامات الابتهاج أمام هذا الاحتمال، بل على العكس، ألقت برأسها الأبيِّ للخلف وكأن الأمر لا يعنيها كثيرًا، ثم قالت: «ما يُثير قلقي هو السيد ثاديوس شولتو. لا يعنيني أي شيءٍ آخر. أرى أنه تصرف بلطف ونُبْل بالغ منذ البداية؛ لذا من واجبنا أن نبرئ ساحته من تلك التهمة الشنيعة التي لا أساس لها من الصحة.»

كان المساء قد حلَّ عندما غادرت كامبرويل، وكان الظلام قد خيَّم عندما وصلت إلى البيت. وجدت كتاب رفيقي وغليونه بجوار كرسيه، ولكني لم أجده هو. بحثتُ حولي على أمل أن يكون قد ترك ملاحظة، لكني لم أجد شيئًا.

قلت للسيدة هادسون عندما صعدتْ لتغلق الستائر: «أرى أن السيد شيرلوك هولمز قد خرج.»

«كلا يا سيدي، لقد ذهب إلى غرفته.» ثم قالت وقد خفضت صوتها إلى همسٍ خافتٍ جدًّا: «أتدري يا سيدي، أنا قلقة على صحته.»

«وما سبب ذلك يا سيدة هادسون؟»

«حسنًا، إنه يتصرَّف بغرابة يا سيدي؛ فبعد أن غادرتَ، ظل يمشى ويمشي جيئة وذهابًا حتى أتعبني صوت وقع أقدامه. ثم سمعتُه يُحدِّث نفسه ويتمتم، وفي كل مرة يرن فيها جرس الباب، كان يخرج إلى أعلى السلم ويسأل: «من هناك يا سيدة هادسون؟» وبعد ذلك اندفع إلى غرفته، ولكني لا أزال أسمعه يجوبها مثل ذي قبل. آمُلُ ألا تكون هذه مقدمات مرضٍ يا سيدي. تجرَّأتُ وقلت له شيئًا عن علاج للحمَّى، لكنه التفت إليَّ بنظرة أربكتْني حتى إني لا أعرف كيف غادرتُ الغرفة.»

أجبتها قائلًا: «لا أظن أنه يوجد ما يَستدعي قلقك يا سيدة هادسون. لقد رأيته على ذلك الحال من قبلُ. فيوجد أمرٌ بسيط يشغل باله وهو ما يجعله مضطربًا.» حاولت أن أتحدث إلى صاحبة المنزل الفاضلة دون أن يبدو عليَّ الاكتراث، لكني أنا أيضًا انتابني القلق قليلًا عندما كنت أسمع وقع خطواته الرتيب من آنٍ لآخر طوال تلك الليلة الطويلة، وأعرف أن روحه المتحمسة تثور ضد ذلك الخمول الاضطراري.

في أثناء تناولنا الإفطار، بدا مرهقًا ومُنهَكًا، وعلى وجنتَيه احتقانٌ محموم.

قلت مُعلِّقًا: «أنت تُنهِك نفسك أيها العجوز؛ فقد سمعتك تمشي جيئة وذهابًا طوال الليل.»

أجاب: «لم أستطع النوم؛ فهذه المشكلة البغيضة تستنفد طاقتي. وأنا لا أحتمل أن تعترضني عقبةٌ تافهة كتلك بعد أن تخطَّيتُ جميع العقبات الأخرى؛ أنا أعرف الرجلين، والزورق، وكل شيء، ومع ذلك فشلتُ في الحصول على أي أخبار. لقد استعنتُ بهيئاتٍ أخرى لتشارك في البحث، واستخدمت جميع الوسائل المتاحة أمامي. لقد فُتِّش النهر بأكمله بكلتا ضفتيه، ولكن لم تَرِد أيُّ أخبار عنهما، ولم تصل السيدةَ سميث أيضًا أيُّ أخبار عن زوجها. قريبًا لن يكون أمامي إلا أن أستنتج أنهم أغرقوا الزورق، لكن هناك ما ينفي هذا.»

«أو أن السيدة سميث وضعتْنا على الطريق الخاطئ.»

«كلا، أعتقد أن هذا احتمالٌ غير وارد. لقد أجريت تحريات وعرفت أن هناك زورقًا بتلك المواصفات.»

«هل من الممكن أن يكون قد ذهب في الاتجاه الآخر من النهر؟»

«لقد فكرت في ذلك الاحتمال أيضًا، وتوجد فرقة بحث تسير في ذلك الاتجاه حتى ريتشموند. وإن لم تَرِد أي أخبار اليوم، فسأنطلق بنفسي غدًا، لكني سأبحث عن الرجلَين لا القارب. لكن حتمًا سيأتينا خبرٌ ما.»

إلا أن هذا لم يحدث؛ فلم تردنا أي أخبار من ويجنز ولا من الجهات الأخرى. ظهرت مقالات في معظم الصحف عن مأساة نوروود، واتخذت جميعها نبرةً معادية لثاديوس شولتو التعيس الحظ. ولم يتضمَّن أيٌّ منها تفاصيلَ جديدةً، إلا أن ثمة تحقيقًا سيُجرى في اليوم التالي. مشيتُ إلى كامبرويل مساءً لأبلغ السيدتَين بعدم إحرازنا لأي تقدُّم، وعند عودتي وجدت هولمز مغمومًا وواجمًا بعض الشيء. كان بالكاد يرد على أسئلتي، وانشغل طوال المساء بتحليلٍ كيميائيٍّ معقَّد تضمَّن تسخينًا لأوعية تقطير، وتقطير أبخرة، وانتهى أخيرًا برائحةٍ شنيعة دفعتني لمغادرة الشقة. حتى ساعات الصباح الأولى كنت أسمع طنين أنابيب اختباره؛ مما أعلمني أنه لا يزال منشغلًا بتلك التجربة الكريهة الرائحة.

وفي الصباح الباكر استيقظت مفزوعًا، واندهشت لرؤيته يقف بجوار سريري في زي بحارٍ بسيط، ويرتدي سترة بحار صوفية، ويلفُّ وشاحًا أحمر خشنًا حول عنقه.

قال: «أنا ذاهب إلى النهر يا واطسون. لقد قلَّبتُ الأمر في رأسي، ولا أرى إلا حلًّا واحدًا. الأمر يستحق المحاولة على أيِّ حال.»

قلت: «هل يُمكنني أن آتي معك إذن؟»

«كلا؛ فوجودك هنا بالنيابة عني سيكون أكثر فائدة. فأنا أكره أن أذهب، لأنه من المرجَّح أن تأتي رسالة خلال اليوم، مع أن ويجنز كان يائسًا من الأمر ليلة أمس. أريدك أن تفتح جميع الملاحظات والبرقيات التي تردني، وتتصرَّف حسب ما تراه صحيحًا حال وردت أي أخبار. هل يمكنني الاعتماد عليك؟»

«بكل تأكيد.»

«للأسف لن يكون بإمكانك أن ترسل لي برقية لأني لا أعرف إلى أين ستأخذني رحلتي، لكن إن حالفني الحظ، فلن أغيب لفترة طويلة. وسأكون عندها قد توصَّلت لمعلومات من أي نوع قبل أن أعود.»

حتى موعد الإفطار، لم تكن قد وصلتني منه أي أخبار. وعندما فتحتُ صحيفة ذا ستاندرد، وجدت تنويهًا جديدًا عن الموضوع. كان يقول: «فيما يتعلق بالمأساة التي وقعت في أبر نوروود، لدينا ما يدعو للاعتقاد بأن الأمور ستأخذ مجرًى أعقد وأكثر غموضًا مما ظنناه في البداية؛ فتُشير أدلةٌ جديدة إلى استحالة أن يكون للسيد ثاديوس شولتو يدٌ في الأمر. فقد أُطلق سراحه مساء أمس هو ومدبِّرة المنزل السيدة بيرنرستون. لكن يُعتقد أن الشرطة لديها دليل على هوية المجرمين الفعليِّين، وأن السيد أثليني جونز من شرطة سكوتلانديارد يتتبعه بنشاطه وحنكته المعروفَين. ومن المتوقع أن تحدث عمليات اعتقال جديدة في أي لحظة.»

قلت في نفسي: «هذا خبرٌ مُرضٍ إلى حدٍّ ما؛ فعلى الأقل أصبح صديقنا شولتو بأمان. تُرى ما هذا الدليل الجديد، مع أن هذا الكلام يتكرر كلما ارتكبت الشرطة غلطةً فادحة.»

ألقيت بالصحيفة على الطاولة، لكن في تلك اللحظة وقعتْ عيناي على إعلان في عمود الإعلانات الشخصية. كان نصه كما يلي:

مفقود! غادر المراكبي موردكاي سميث وابنه جيم رصيف مرفأ سميث في حوالي الساعة الثالثة صباح يوم الثلاثاء الماضي في الزورق البخاري الذي يُدعى «أورورا». الزورق لونه أسود وبه خطَّان باللون الأحمر ومدخنتُه سوداء وبها شريطٌ أبيض. تُدفع مكافأة قيمتها خمسة جنيهات لمن يُدلي بمعلومات عن مكان موردكاي سميث والزورق «أورورا» للسيدة سميث عند رصيف مرفأ سميث، أو في العنوان ٢٢١ بي شارع بيكر.

كان من الواضح أن هذا من فعل هولمز؛ فوجود عنوان شارع بيكر كان كافيًا لإثبات ذلك. بدت لي فكرة عبقرية؛ لأن المجرمين الهاربين إذا قرءوه فلن يروا فيه أكثر من قلق زوجة طبيعي على زوجها المفقود.

مر النهار ببطء؛ وفي كل مرة أسمع طرْقًا على الباب أو وقع خطواتٍ ثقيلة في الشارع، كان يُخيَّل لي إما أن هولمز قد عاد أو أن أحدًا جاء ليردَّ على الإعلان الذي نشره. حاولت أن أقرأ، لكن عقلي كان يشرد إلى مهمَّتنا الغريبة وإلى المجرمَين غير المتوائمَين اللذين نبحث عنهما. تساءلتُ عن احتمال وجود خللٍ جسيم في استدلالات رفيقي المنطقية. هل من المُحتمَل أن يكون ضحية لخداع النفس؟ أليس من المُمكِن أن يكون عقله الفطن والمُبتكِر قد بنى تلك النظرية الجامحة على فرضياتٍ غير سليمة؟ لم أعهدْه مخطئًا من قبلُ، ولكن حتى أكثر المفكِّرين حذاقةً قد ينخدع أحيانًا. وفي اعتقادي أنه يَحتمل أن يكون قد وقع في خطأ بسبب تحرِّيه الدقة الزائدة في تحليله المنطقي، ورغبته في صياغة تفسيرٍ معقد وغريب حتى عند وجود تفسيرٍ عادي وبسيط نصب عينَيه. ولكني على صعيد آخر، رأيتُ بنفسي الأدلة، وسمعت الحجج المنطقية التي بنى عليها استنتاجاته. وحين أسترجع السلسلة الطويلة من الملابَسات الغريبة، التي يبدو الكثير منها تافهًا في ذاته، لكنَّها جميعًا تسير في نفس الاتجاه، لا يسعني أن أُنكر أنه حتى إن كان تفسير هولمز غير صحيح، فالتفسير الحقيقي لا بد أنه على نفس الدرجة من الغرابة والإثارة للدهشة.

في الساعة الثالثة، علا دويُّ الجرس، وسمعتُ صوت آمر في الردهة، ولدهشتي وجدت السيد أثيلني جونز ذاته يَصعد إليَّ. ولكنه بدا مختلفًا تمامًا عن أستاذ المنطق الحادِّ والبارع الذي تولى القضية بكل ثقة في أبر نوروود، فقد كان يبدو مغتمًّا، وكان أسلوبه خانعًا واعتذاريًّا.

قال: «طاب يومك يا سيدي. طاب يومك. السيد شيرلوك هولمز ليس هنا، أليس كذلك؟»

«أجل، ولا أعرف متى سيعود، لكن بإمكانك انتظاره إن أردت، تفضَّل بالجلوس في هذا الكرسي، وجرِّب سيجارًا من تلك.»

قال وهو يَمسح وجهه بمنديلٍ أحمرَ كبير: «شكرًا لك، لا أمانع ذلك.»

«هل ترغب في تناول الويسكي الممزوج بالصودا؟»

«حسنًا، نصف كوب؛ فالجو حارٌّ جدًّا بالنسبة إلى ذلك الوقت من السنة، ولديَّ أمورٌ كثيرة تشغل بالي وتُرهقني. أنت تعلم نظريتي بشأن قضية نوروود، أليس كذلك؟»

«أذكر أنك طرحت واحدة.»

«حسنًا، لقد أُجبِرت على إعادة النظر فيها. فما كدت أن أُضيِّق شباكي حول السيد شولتو حتى نفذ من خلال فتحة بها؛ فقد استطاع أن يأتي بحجة غياب لا غبار عليها. فمنذ أن غادر غرفة أخيه، لم يغبْ عن نظر شخص أو اثنين؛ لذا لا يمكن أن يكون هو من تسلَّق إلى السطح ودخل عبر الباب الأفقي. إن هذه القضية غامضة جدًّا، وهي تضع سمعتي المهنية على المحك؛ ولهذا سيُسعدني جدًّا الحصول على بعض المساعدة.»

قلت: «جميعنا نحتاج إلى المساعدة في بعض الأحيان.»

قال بصوتٍ أجشَّ مكتوم: «صديقك السيد شيرلوك هولمز رجلٌ مُدهِش يا سيدي؛ فهو رجل لا يُهزَم. لقد رأيت ذلك الشاب يتولى قضايا كثيرة، لكني لم أره أبدًا يفشل في التوصُّل لحل أيٍّ منها. لديه أساليبُ غير عادية، وربما يكون متسرِّعًا إلى حدٍّ ما في تكوين نظرياته، لكن في المجمل أعتقد أنه كان يُمكن أن يصبح ضابطًا واعدًا، ولا أمانع إبداء رأيي ذلك أمام أي أحد. لقد تلقيتُ برقية منه هذا الصباح، فهمت منها أنه حصل على دليل ما في قضية شولتو تلك. ها هي ذي البرقية.»

أخرج البرقية من جيبه وناولني إياها. كانت مرسلة من منطقة بوبلار في الساعة الثانية عشرة. كانت تقول: «اذهب إلى شارع بيكر على الفور. إذا لم أكن قد عدتُ بعدُ، فانتظرني. لقد أوشكت أن أصل إلى عصابة قضية شولتو. يُمكنك أن تأتي معنا الليلة إذا كنت تريد أن تكون موجودًا عند خط النهاية.»

قلت: «هذا يبدو جيدًا؛ فيبدو أنه التقط طرف الخيط مرةً أخرى.»

قال جونز متعجِّبًا وقد بدا عليه الرضا: «إذن، فقد كان مخطئًا هو الآخر. فحتى الأفضل من بيننا يَضلُّون أحيانًا. بالطبع قد يكون هذا إنذارًا خاطئًا، لكن من واجبي باعتباري رجل قانون ألَّا أُفوِّت أي فرصة من تحت يدي. ثمة أحد بالباب، قد يكون هو.»

سمعنا وقع خطواتٍ ثقيلة تصعد السلم، وصوت أزيز وحشرجة أنفاس صاحبها وكأنما يواجه صعوبةً شديدة في التقاط أنفاسه. توقَّف لمرة أو مرتَين، وكأنما طريق الصعود شاقٌّ جدًّا عليه، ولكنه أخيرًا وصل إلى الباب ودخل. كان مظهره يتماشى مع الأصوات التي سمعناها، فقد كان رجلًا مسنًّا، يرتدي معطفَ بحار، وسترة بحار قديمة، أزرارها مغلقة حتى الياقة. كان ظهره مَحنيًّا، وركبتاه ترتعدان، وكان يلتقط أنفاسه بصعوبةٍ بالغة. كان مستندًا إلى هراوة من خشب البلوط، ورفع كتفَيه بجهد محاوِلًا سحب الهواء إلى رئتَيه. كان يلفُّ وشاحًا ملونًا حول رقبته، وكنت لا أرى من وجهه إلا عينَين سوداوَين ثاقبتَين يعلوهما حاجبان أبيضان كثيفان، وسالفَين رماديَّين طويلَين. وفي المجمل أعطاني الانطباع بأنه بحارٌ بارعٌ جدير بالاحترام وقع فريسة لكبر السن والفقر.

سألته: «ما الأمر يا سيدي؟»

تلفَّت حوله بأسلوب المسنِّين المنهجي البطيء.

قال: «هل السيد شيرلوك هولمز موجود؟»

«كلا، ولكني أنوب عنه. يمكنك أن تُخبرني بأيِّ رسالة تود تركها له.»

قال: «يجب أن أخبره هو بنفسه.»

«لكني أقول لك إني أنوب عنه. هل يتعلق الأمر بزورق موردكاي سميث؟»

«أجل؛ فأنا أعرف مكانه بالضبط، وأعرف مكان الرجلَين اللذين يبحث عنهما. وأعرف مكان الكنز، أعرف كل شيء عن ذلك الأمر.»

«إذن أخبرني وأنا سأخبره.»

كرَّر بإصرار العجائز النَّزِق: «يجب أن أخبره هو بنفسه.»

«إذن سيتعيَّن عليك انتظاره.»

«لا، لا، لن أضيع يومًا كاملًا إرضاءً لأحد. فإذا لم يكن السيد هولمز موجودًا، فسيتعين عليه اكتشاف الأمر كله بنفسه. أنا لا أعرف أيًّا منكما ولن أنطق بكلمة.»

جرَّ قدمَيه تجاه الباب، لكن أثيلني جونز سبقه إليه ووقف أمامه وقال: «انتظر قليلًا يا صديقي، فلديك معلوماتٌ مهمة ويجب ألا تنصرف. سوف نُبقيك هنا، شئتَ أم أبَيْت، حتى عودة صديقنا.»

شرع العجوز في الهرولة بعض الشيء نحو الباب، لكن عندما أسند أثيلني جونز ظهره العريض على الباب، أدرك أنه لا جدوى من المقاومة.

صاح وهو يُخبط الأرض بعصاه: «يا لحسنِ معاملتكم! لقد أتيت إلى هنا لأقابل رجلًا محترمًا وها أنتما، يا من لم أركُما في حياتي من قبلُ، تحتجزانني وتعاملانني بتلك الطريقة!»

قلت: «لن يصيبك أي سوء؛ فنحن سوف نُعوِّضك عن ضياع وقتك. اجلس هنا على الأريكة ولن تنتظر طويلًا.»

مشى متجهِّمًا وجلس دافنًا وجهه في راحتيه. تابعت أنا وجونز تدخين السيجار والحديث. لكن فجأة قاطعنا صوت هولمز قائلًا: «أعتقد أنه بإمكانك أن تعرض عليَّ سيجارًا أنا أيضًا.»

انتفضنا في كراسيِّنا؛ فقد كان هولمز يجلس بالقرب منَّا ويبدو عليه الاستمتاع.

قلت متعجبًا: «هولمز! أأنتَ هنا؟ ولكن أين العجوز؟»

قال وهو يمسك بكومة من الشعر الأبيض: «ها هو العجوز، ها هو الشعر المُستعار، والسالفان والحاجبان وكل شيء. كنت أعرف أن تنكُّري جيد للغاية، ولكني لم أتوقع أن يجتاز ذلك الاختبار.»

صاح جونز بسرورٍ بالغ: «أيها المحتال! كنت ستُصبِح ممثلًا فذًّا؛ فقد قلَّدت سعال من يعيشون في ملاجئ الفقراء بالضبط، وتقليدك لتلك المشية الواهنة يستحقُّ عشرة جنيهات في الأسبوع. ولكني أعتقد أنني تعرفت على لمعة عينَيك، ولم تُفلِت منا بتلك السهولة كما ترى.»

قال وهو يشعل سيجارًا: «كنتُ أعمل على ذلك المظهر التنكري طوال اليوم. فكما تريان، قد أصبحتُ معروفًا لدى الكثير من الجماعات الإجرامية، خاصةً بعد أن نشر صديقي هذا بعض قضاياي؛ لذا لا يسعني أن أنزل إلى ساحة المعركة إلا بتنكُّرٍ بسيط كهذا. هل تلقيتَ برقيتي؟»

«أجل، ولذلك أتيت إلى هنا.»

«إلامَ آلت قضيتك؟»

«لم تؤلْ إلى شيء؛ فقد اضطررت للإفراج عن سجينين من السجناء، ولا يوجد أي أدلة تدين الاثنين الآخرَين.»

«لا تقلق، سنُعطيك سجينَين آخرَين مكانهما. لكن يجب عليك تنفيذ أوامري. يمكنك أن تنسب الفضل رسميًّا لنفسك، لكن يجب أن تتصرَّفَ وفق ما أقوله لك، اتفقنا؟»

«بالطبع، إن كنت ستُساعدني في الإمساك بالرجلَين.»

«حسنًا إذن، في المقام الأول، أريد زورق شرطة سريعًا؛ زورقًا بخاريًّا، عند مرفأ وستمنستر ستيرز في الساعة السابعة.»

«يَسهُل تدبير ذلك، فعادة يوجد زورق في ذلك المكان طوال الوقت، لكن بإمكاني أن أعبر الشارع وأُجري مكالمةً هاتفية لأتأكد.»

«أريد كذلك رجلَين قويَّين، تحسُّبًا لحدوث مقاومة.»

«سيكون هناك رجلان أو ثلاثة في الزورق. وماذا أيضًا؟»

«عند القبض على الرجلَين، سنأخذ نحن الكنز. وأعتقد أن صديقي سيسرُّه أن يأخذ صندوق الكنز للشابة صاحبة الحق في نصفه. لتكن هي أول من يفتحه. ما رأيك يا واطسون؟»

«سيكون ذلك من دواعي سروري.»

قال جونز وهو يهزُّ رأسه: «هذا إجراءٌ غير عادي، لكن، الأمر برمَّته غير عادي، وأعتقد أنه بإمكاننا غضُّ الطرف عن ذلك. لكن يجب تسليم الكنز بعد ذلك للسلطات حتى انتهاء التحقيق الرسمي.»

«بالطبع، يسهل تدبير ذلك. توجد نقطةٌ أخيرة. أريد سماع بعض التفاصيل حول ذلك الأمر على لسان جوناثان سمول نفسه؛ فأنت تعرف أنني أحب أن أكتشف أدقَّ تفاصيل قضاياي. ألن تمانع أن أحظى بمقابلةٍ غير رسمية معه، سواء هنا في شقتي أو في أي مكانٍ آخر، ما دام أنه يخضع لحراسةٍ مشددة؟»

«حسنًا، أنت سيد الموقف. فأنا ليس لديَّ بعدُ أي دليل على وجود جوناثان سمول ذاك. لكن إن كان بإمكانك إلقاء القبض عليه، فلا أرى مانعًا من أن تجري معه مقابلة.»

«هل هذا مفهوم إذن؟»

«مفهوم تمامًا، ألديك أي طلباتٍ أخرى؟»

«فقط أصر على أن تتناول معنا العشاء؛ فسوف يكون جاهزًا في خلال نصف ساعة. لديَّ محار وزوج من طيور الطهيوج، وبعض الاختيارات القليلة من النبيذ الأبيض. أنت لم تعترف بعدُ يا واطسون بمهاراتي كمُدبِّر للمنزل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤