مفتتح
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
«نحن الزمان، من رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتَّضع.»
رغم أن القول في الإمامة يمثل حقل انبناء عالم السياسة الأشعري ونظامه، فإنه يبدو أن حدود هذا القول لا تكاد تستوعب بناء هذا العالم ونظامه الثاوي تحت السطح. ومن هنا، وبرغم ما يبدو من أن القول الأشعري في الإمامة يعكس في تطوره كل ما آل إليه التطور — أو بالأحرى التحول — في عالم الممارسة السياسية في الإسلام، فإنه يبدو أن القواعد الكبرى التي ينبني عليها القول في الإمامة تكاد تتناقض مع القواعد الكبرى لعالم السياسة المتحققة. ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن القول في الإمامة قد ظل يحمل، في الأغلب، سِمتَي الوعظ والسجالية؛ وهما السمتان اللتان لم يجعلاه عاجزًا فحسب عن الاتساع ليستوعب عالم السياسة ونظامه، بل وجعلاه يكاد يتناقض مع جوهر ما يقوم عليه هذا العالم.
وإذ يحيل ذلك إلى أن القول في الإمامة يضيق عن استيعاب بناء عالم السياسة، فإن ذلك يؤشر على أن بناء عالم السياسة الأشعري سوف يتجاوز — في هذه القراءة — حدود القول في الإمامة ويتعداه. بل إنه — واتساقًا مع ما جرى الإلماح إليه مما يبدو وكأنه تناقضهما — سيفرض قراءة جديدة، أو على الأقل مغايرة، لما يمكن اعتباره أصولًا كبرى تؤسِّس للقول الأشعري في الإمامة؛ وأعني بالذات ما يشاع من نسبة القول بالاختيار في الإمامة للأشاعرة وأهل السنة على العموم، وذلك ضدٌّ على الشيعة القائلين فيها بالنص.
وهنا يلزم التنويه بأن الفرضية التي تقوم عليها هذه القراءة، تتمثل في أنه إذا كان القول في الطبيعيات هو بمثابة التوطئة الأشعرية إلى بناء الإلهيات، فإن هذا القول ذاته يقبل أن يكون أصلًا يتأسَّس عليه بناء عالم السياسة الأشعري. وبالطبع فإن لهذه الفرضية ما يؤسِّسها في ذلك التماثل شبه الكامل بين المطلق الإلهي والمطلق السياسي، والذي ينطق به — أو يكاد — ما يُفهم من المأثور عن معاوية من أن سلالة الملوك — التي قال إنه أولها — قد راحت تضيف إلى نفسها القدرة على أن تقرر مصائر الناس ارتفاعًا أو اتضاعًا، وذلك في مقابل ما اختص الله به نفسه من ابتدار الناس بالعز أو الذل. ولقد بلغ هذا التماثل الذي تزخر به المصنفات الأشعرية، إلى حد ما بدا من أن المطلق السياسي يكاد يستحيل إلى أصل يقاس عليه المطلق الإلهي، وذلك بحسب ما يُفهم من عبارة الغزالي ذات الدلالة القصوى في هذا السياق، من «إن الحضرة الإلهية لا تُفهم إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية.» أو بحسب ما ألح عليه الرازي في نصه «تأسيس التقديس» من قياس الصفات الإلهية على الصفات السلطانية، وغيره مما ستورده القراءة تفصيلًا. وانطلاقًا من أن الواحد من المتماثلَين إنما يقبل الانبناء على نفس الأساس الذي ينبني عليه الآخر، فإن ذلك يئول إلى إمكان انبناء هذه القراءة على اعتبار الطبيعيات الأشعرية بمثابة التوطئة إلى بناء عالم السياسات، قياسًا على أنها كانت التوطئة إلى بناء عالم الإلهيات المتماثل معه. والحق أن الأمر يتجاوز مجرد إمكان هذه القراءة إلى حقيقة أن بناء عالم السياسة الأشعري يكاد يستعصي على الفهم تمامًا إلا عبر قراءته بالطبيعي أو الأُنطولوجي. وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى إن أحد أهم المفاهيم المؤسسة في هذه القراءة — وأعني مفهوم «المجال المعرفي» الذي يعيِّن حدود القابل وغير القابل للتفكير داخل نسق معرفي أو ثقافي ما — لمما يئول إلى إمكان التفكير في حقل معرفي ما (كالسياسة مثلًا) بمبادئ حقل معرفي آخر (كالطبيعة أو غيرها)؛ وذلك ابتداءً من كونهما ينتميان إلى مجال معرفي واحد.
وإذ يحيل ذلك إلى أن الاستبداد؛ بما هو غياب للقانون، يقع في قلب البناء السياسي الأشعري، فإن ما يبدو من تعارض ذلك مع ما يمضي إليه الأشاعرة من تصور الإمامة أو سلطة الحكم تتم بالبيعة والعقد والاختيار من الناس، قد اقتضى تفكيكًا للقول الأشعري في الإمامة الذي يخايل بدور فاعل للناس، هو مما يتعارض، لا محالة، مع ما يؤسس عليه الاستبداد نفسه من سلب الناس أي فاعلية أو دور. وإذ انتهى هذا التفكيك (في القسم الثاني من هذه القراءة) إلى أن الإمامة لا ترجع إلى الناس إلا مجازًا فقط، وأما في الحقيقة، فإنها ترتد إلى الله وتصدر عنه، سواء صدرت عنه كفعل، أو كان صدورها عنه بالنص (بحسب الأشاعرة)، فإن ذلك يتجاوب، كليًّا، مع ما آلت إليه قراءة السياسات بالطبيعيات، عند الأشاعرة (في القسم الأول) من غلبة الاستبداد ورسوخ دولته في مجمل بنائهم للعالم؛ وأعني في كلا شكليه الفيزيقي والسياسي اللذين يهويان في قبضة كينونةٍ قاهرة تسلك بمعزل عن أي قانون، ولو كان هذا القانون مما تفرضه طبيعة الماهية الخاصة بهذه الكينونة.
ولأن ثمة من الأشاعرة من قد يحاجج بأن بناءهم للعالم الفيزيقي على نحو يخلو فيه من فاعلية القانون، إنما يرتبط بتصورهم للإلهي مطلق الإرادة والقدرة، وبكيفيةٍ يكون معها «الديني»، وليس «السياسي» هو ما يفسر هذا النوع من البناء للعالم الفيزيقي، فإنه يلزم التنويه بأن «الديني» لا يكتفي فقط بأن يقبل بناءً للعالم الفيزيقي يكون فيه هذا العالم خاضعًا لفاعلية القوانين والسنن، بل إنه — وللمفارقة — يلح، في نصوصه المؤسسة، على ضرورة هذا البناء بالذات. وتبعًا لذلك فإنه لا يبقى إلا أن «السياسي» المتخفي والمسكوت عنه هو ما يفسر، وليس غيره، البناء الأشعري للعالم الفيزيقي، وهكذا فإنه إذا كان التحليل قد انطلق من إمكان قراءة السياسات بالطبيعيات، فإنه يكاد ينتهي إلى أنه لا سبيل إلى تفسير بناء الطبيعيات إلا انطلاقًا من قراءتها في ضوء السياسات.
وإذ هو التجاوب كاملًا، على هذا النحو، بين كافة الوحدات الجزئية التي تقوم عليها هذه القراءة، فإن هذا التجاوب لا يكتفي فقط بأن يبرهن على إنتاجية هذه القراءة وكفاءتها، بل ويؤكد — وهو الأهم — على وحدة الخطاب الأشعري وتفاعلية الوحدات المكونة له.