الفصل الأول

عصر ابن رشد

(١) الحركة العلمية

وُلِد ابن رشد في سنة ٥٢٠ هجرية بمدينة قرطبة وهي لا تزال في عصرها الذهبي الذي جعلها من عواصم الثقافة في التاريخ، فلا تُذكَر أثينا وروما والإسكندرية وبغداد إلا ذُكِرت معهن قرطبة في هذا الطراز.

وقد كان مولده بعد وفاة الحكم الثاني المستنصر بالله بنحو مائة وخمسين سنة (٣٦٦ﻫ)، وهو الخليفة الأموي الذي شغلته الثقافة قبل كل شاغل، وجعل همه الأول أن ينافس بعاصمته عاصمة المشرق — بغداد — في عهد الخليفة المأمون، فجمع فيها من الكتب والكتَّاب ما لم يُجمَع قبل ذلك في مدينة واحدة، وكان هو أسبقهم إلى قراءة ما يجمعه من الأسفار النادرة من أقطار المشرق والمغرب.

قال ابن خلدون ما خلاصته: «… كان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالًا من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنِّفه أبي الفرج الأصفهاني — وكان نسبه في بني أمية — وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك، وجمع بداره الحذَّاق في صناعة النسخ والمَهَرَة١ في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى٢ من ذلك كله. واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر …»٣ وكان أعيان السراة٤ والتجار يقتدون بالخلفاء في هذا الإقبال على اقتناء الكتب، سواء منهم مَن يقرأ ومَن لا يقرأ. قال الحضرمي: «أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدةً أترقب فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إليَّ المنادي بالزيادة عليَّ، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا! أَرِني مَن يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي. قال: فأراني شخصًا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده … فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبالِ بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير …»٥
وكان ابن رشد فخورًا بهذه الخصلة في موطنه، فقال لزميله الفيلسوف ابن زهر يومًا وهما بحضرة المنصور بن عبد المؤمن من خلفاء دولة الموحدين: «ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأُرِيدَ بيع كتبه حُمِلت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأُرِيدَ بيع تركته حُمِلت إلى إشبيلية …»٦

على أن هذين الفيلسوفين قد كانا في نفسيهما وفي آليهما، آية الآيات على مبلغ ذلك العصر من ازدهار الثقافة، فكان العلم وراثة في أسرة كلٍّ منهما يتعاقبه منها جيل بعد جيل، وكان الذاكرون إذا ذكروهم ميزوا بينهم باسم الجد والابن والحفيد، فيقولون: ابن رشد الجد، وابن رشد الابن، وابن رشد الحفيد، ويزيدون في أسرة ابن زهر فيقولون: ابن زهر الأصغر؛ تمييزًا له من ابن زهر الحفيد.

وأعجوبة الأعاجيب في نشأة ابن رشد أنه نشأ في دولة الموحدين، وأنه تلقَّى التشجيع من أحد خلفائهم على الاشتغال بشرح أرسطو وتفسير موضوعات الفلسفة على العموم، وكان موضع العجب أن يأتي هذا التشجيع من أناس اشتهروا بالتزمت والمحافظة الشديدة على العلوم السلفية، ومنهم مَن نسب إليه أنه أحرق كتب الفلسفة والبحث في مذاهب المتكلمين.

روى صاحب كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» عن بعض الفقهاء، قال: «سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء؟ — يعني الفلاسفة — أقديمة هي أم حادثة؟ … فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرَّر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاجَ أهلِ الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»

واستطرد صاحب المعجب قائلًا: «أخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه، قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يومًا فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكي من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب مَن يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به، لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.»٧

ويزيد العجب عند مؤرخي هذا العصر — والمستشرقين منهم على الخصوص — أن هذا الخليفة ينتمي إلى أسرة تدين بمذهب الظاهرية، وهو المذهب الذي يلتزم أصحابه ظاهر النصوص ويتحرجون من التأويل، وقد توفي إمام هذا المذهب في المغرب — ابن حزم — بعد منتصف القرن الخامس للهجرة ومذهبه شائع، وخلفاء الموحدين يرجحونه على سائر المذاهب، ويعتبره المؤرخون المحدثون قطب المذاهب الرجعية مع إحاطته بمذاهب الفلاسفة، كما يعلم من كتابه عن «الفصل في الملل والنحل».

كان ابن حزم هذا آية أخرى من آيات العراقة في البيوتات العلمية، ولكنها الآية التي تمثِّل الثقافة من جانبها الآخَر: جانب المحافظة — السلفية — وكراهة التوسع في البدع الحديثة.٨

وكان ابن حزم هذا هو ابن حزم الابن «علي بن أحمد»، وأبوه أحمد بن سعيد، وابنه الفضل أبو رافع، وكلهم من مشاهير العلماء الثقات في المعارف السلفية، وإقبالهم على العلم إقبال الصادق في طلبه المستغني عن التكسب به، المجترئ بالرأي على مَن يخالفه؛ لأنه لا يخشى من الجرأة على رزقه. جرت بين ابن حزم — الابن — وبين أبي الوليد الباجي مناظرة، فقال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبتَه وأنت مُعَان عليه تسهر بمشكاة الذهب، وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل بائت السوق. قال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلم وما ذكرت؛ فلم أرجُ به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.

وقد جنت عليه ملاحاته٩ للعلماء والرؤساء، وقلة مبالاته بغضب الغاضبين؛ فأحرقوا كتبه في إشبيلية، وقال في ذلك:
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
وقد كان تلميذه عبد المؤمن — رأس أسرة الموحدين — على مثل هذه الصرامة في الخُلُق، وهذا اللدد١٠ في الخصومة العلمية، وهذه الشدة في المحافظة على السنن السلفية، فموضع العجب أن تكون هذه الأسرة هي حامية الفلسفة والبدع العلمية، وهي التي تشجع رجلًا كابن رشد على شرح أرسطوطاليس.

(٢) الحركة السياسية وتأثيرها في الثقافة

ذلك في الحق عجيب، ولكنه العجب الذي مصدره الزيغ١١ عن السبب، وهو قريب بل جد قريب.

فقد أحصى المؤرخون — ولا سيما المستشرقين — عِلَل الحركات الثقافية في المغرب عامة غير علتها الحقيقية، وهي — بالإيجاز — ظهور الدعوة الفاطمية في إفريقية الشمالية.

فظهور هذه الدعوة في المغرب قد غيَّر فيه كثيرًا من وجهات الثقافة والسياسة، وقد كان له الأثر المباشر فيما شغل الأوروبيين بعد ذلك خلال القرون الوسطى من موضوعات الفلسفة الدينية، وأهمها موضوعات النفس وخلودها، وموضوعات العقل وعلاقته بالخلق والخالق.

ولا يخفى أن الدعوة الفاطمية هي الدعوة الإسماعيلية بعينها؛ فإن الفاطميين يُنسَبون إلى فاطمة الزهراء، أو يُنسَبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق؛ تمييزًا لهم من سائر العلويين.

وقد كان الإسماعيليون يشتغلون بالفلسفة ويرجحون مذهب الأفلاطونية الحديثة، وهو مذهب الفيلسوف أفلوطين Plotinus (٢٠٥–٢٧٠م) الذي وُلِد بإقليم أسيوط، وألقى دروسه في الإسكندرية ثم في روما، ومن أتباع الإسماعيليين الذين نشروا هذا المذهب إخوان الصفاء — أصحاب الرسائل المنسوبة إليهم — ومنهم مسلم بن محمد الأندلسي الذي نقل مذهبهم إلى البلاد الأندلسية.
وقد شاع مذهب الإسماعيلية شرقًا وغربًا في العالم الإسلامي، من جبال الأطلس إلى تخوم الهند وآسيا الوسطى، وكان ابن سينا يقول: «كان أبي ممَّن أجاب داعي المصريين، ويُعَدُّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانا ربما تذاكرا بينهما وأنا أسمع منهما وأدرك ما يقولانه، وابتدأا يدعواني أيضًا إليه، ويُجرِيان على لسانهما ذكر الفلسفة والهندسة.»١٢

لا جرم يتذاكر المستطلعون أحاديث هذا المذهب في إفريقية الشمالية كما تذاكروها في بخارى وعلى التخوم الهندية، فقد جاء هذا المذهب إلى المغرب بقوة الدولة فوق قوة الدعوة، وأصبح من شاغل أصحاب الدول أن يتعرفوه ويستطلعوا كُنْهَهُ ويتبطنوا ما وراءه، وبخاصة مَن كان كخلفاء الموحدين مهدَّدًا بسلطان الدولة الفاطمية، معنيًّا بما يعلنونه ويسرونه من مذاهب السياسة أو الحكمة.

ولقد كان من آثار هذه الدعوة في المغرب عامة أن الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الناصر (٣٠٠–٣٥٠ هجرية/٩١٢–٩٦١ ميلادية) تلقَّب بأمير المؤمنين بعد أن أطلق هذا اللقب على خلفاء الفاطميين، وجاء خلفه الحكم الثاني الملقَّب بالمستنصر بالله، فنافس خلفاء الفاطميين أشد المنافسة في الاشتغال بالفلسفة والعلوم وتقريب الحكماء والأدباء، وأنفذ إلى إفريقية جيشًا قويًّا لتوطيد سلطانه في مراكش وإعلان الدعوة باسمه على المنابر.

أما دولة الموحدين فقد كان الخطر عليهم من الدعوة الفاطمية — أو الدعوة الإسماعيلية بعبارة أخرى — أشد وأقرب، فقابلوا دعوتهم بمثلها واجتهدوا في تعرف مذاهبهم الباطنية، وكان رئيسهم «محمد بن تومرت» من قبيلة «مصمودة» البربرية، ولكنه كان يتلقب بالمهدي وينتمي إلى آل البيت. ويقول ابن خلكان — وهو ممَّن ينكرون نَسَب الفاطميين — إن ابن تومرت هو: «محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه.»١٣

فقد برز الموحدون إذن للفاطميين أو الإسماعيليين حتى في النسب والدعوة المهدية، ولما اشتهر الإمام الغزالي في المشرق بإنكار الباطنية والرد عليها، قصد إليه ابن تومرت وحضر عليه. وحُكِيَ كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: «أنه ذُكِر للغزالي ما فعل علي بن يوسف بن تاشفين من ملوك المرابطين بكُتُبه التي وصلت إلى المغرب من إحراقها وإفسادها، وابن تومرت حاضر ذلك المجلس، فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبن عن قليل ملكه وليقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرًا مجلسنا.»

وقد تم لابن تومرت ما أنبأه به أستاذه الغزالي، فأقام دولة الموحدين وندب لها صاحبه عبد المؤمن بن علي الكومي (٥٢٤–٥٥٨ﻫ/١١٢٩–١١٦٢ ميلادية)، ثم خلفه ابنه يوسف، ثم خلفه ابنه يعقوب وتلقَّب بالمنصور بالله (٥٨٠–٥٩٥ هجرية/١١٨٤–١١٩٨ ميلادية)، وهو الذي اقترح على ابن رشد تفسير كتب أرسطوطاليس وشرح مذاهب الفلسفة على الإجمال.

ويظهر التحدي والمناجزة بين الموحدين والإسماعيليين في مقابلة كل دعوى إسماعيلية بمثلها من دعاوى ابن تومرت وخلفائه.

فقد انتسب إلى آل البيت كما ينتسبون، وتلقَّب بالمهدي كما يتلقبون، وقال عنه مريدوه: إنه لم يكن أحدٌ أعلم منه بأسرار النجوم وعلوم الجفر١٤ والتنجيم، وهي العلوم التي اشتهر بها الإسماعيليون.
قال ابن خلكان: «إن محمد بن تومرت كان قد اطَّلَع على كتاب يُسمَّى الجفر من علوم أهل البيت، وإنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يُسمَّى السوس، وهو من ذرية رسول الله ، يدعو إلى الله ويكون مقامه ومدفنه بموضع من الغرب، هجاءُ اسمِه ت ي م ل ل، ورأى فيه أيضًا أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكُّنه على يد رجل من أصحابه، هجاءُ اسمِه ع ب د م و م ن، ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله — سبحانه وتعالى — في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان ابن تومرت يمر بموضع إلا ويسأل عنه، ولا يرى أحدًا إلا أخذ اسمه وتفقَّد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه، فبينما هو في الطريق رأى شابًّا قد بلغ أشده على الصفة التي معه، فقال له وقد تجاوزه: ما اسمك يا شاب؟ فقال: عبد المؤمن. فرجع إليه وقال له: الله أكبر! أنت بغيتي، ونظر في حليته فوافقت ما عنده.»١٥

هذه القصة نترك ما فيها كله ويبقى منها ما لا سبيل إلى تركه، وهو استعداد الموحدين للفاطميين بسلاحهم ومقابلتهم بمثل دعواهم، واستبطانهم لأسرار دعوتهم؛ لينهضوا لها بما يجري في مجراها عن اعتقادٍ منهم، أو عن سياسة وتدبير، وكل شيء يَجري تفسيره بعد ذلك على أهون سبيل.

فالعلوم التي كانت مقبولة عند دولة الموحدين قد تتناقض وتتنافر، ولكنها تلتقي في مقصد واحد وهو لزومها في تلك المناجزة وتلك المناظرة.

وبين الغزالي وابن حزم بونٌ بعيد في التفكير ومذاهب النظر والمعرفة، ولكنهما يلتقيان في كراهة الباطنية، فالغزالي يرد عليها ويفند أقوالها في الإمامة، وابن حزم يدين بظاهر النصوص ويحرم التأويل مع وجود النص، والتأويل — كما هو معلوم — أصل من أصول الإسماعيلية، يجيزونه بل يوجبونه ويرجعون به إلى علم الإمام بأسرار الغيب وبواطن الآيات، ويضيف ابن حزم إلى ذلك أنه كان شديد التعصب للأمويين، ولم يكن يُظهِر هذا التعصب لغير الأخصاء، ولكنه كان يظهر النقمة على الفاطميين الإسماعيليين ويؤلف كتابه عن جمهرة أنساب العرب١٦ فينكر انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، ومن ثَمَّ إلى فاطمة الزهراء.

ولا يبعد أن يكون الخلفاء الموحدون مؤمنين بأسرار النجوم، يبحثون عن الأفلاك والعقول التي تديرها لينفذوا منها إلى خفايا تلك الأسرار، ويلفت النظر إلى هذا أول سؤال وجَّهه الخليفة المنصور إلى ابن رشد، وهو: ماذا يقولون عن السماء؟

•••

كانت دولة الموحدين أول دولة إفريقية تقف أمام الفاطميين موقف المناظرة في السياسة والثقافة، أما قبل ذلك فالدولة الصنهاجية في تونس كانت تتولى الأمر بإذن الفاطميين من القاهرة، ودولة الملثمين أو المرابطين التي نازعتها السلطان في المغرب الأقصى لم تكن تدرس حين نشأتها شيئًا من الثقافة أو من الدين، ومضى عليها زمن وهي مشغولة بحرب القبائل البربرية والسودانية التي بقيت على الجاهلية، ولم يَكَدْ يستقر بها القرار على عهد يوسف بن تاشفين حتى شُغِلت بالجزيرة الأندلسية واستقدمها ملوك الطوائف إلى الأندلس لنجدتهم في حربهم مع ألفونس السادس ملك أراجون، وانصرفت جهودهم إلى هذه الناحية، وظلوا كذلك على عهد علي بن يوسف بن تاشفين حتى زالت دولتهم ولما ينقض على وفاة هذا الأمير أكثر من سنتين، وكان منهجهم في شئون الثقافة منهج البداوة في استنكار كل ما يحسبونه من البدع، ومنه علم الكلام وبحوث الفقهاء في الحكمة الدينية؛ ولهذا أحرقوا كتب الغزالي وهي من أفضل ما كتبه المتكلمون!

فالموحدون هم أول مَن ناظر الفاطميين (أو الإسماعيليين) في إفريقية الشمالية، وأول مَن تعرف علومهم ومذاهبهم ليغلبهم في ميدانهم ويقابل دعوتهم بمثلها أو بما ينقضها ويبطلها.

•••

وما من حركة ثقافية في ذلك العصر يراد تفسيرها بمعزل عن هذا العامل المهم — عامل الدعوة الإسماعيلية — إلا تعذَّر التفسير أو وقع فيه الخطأ الكثير، ومن هذا القبيل تلك المناقشات الطويلة حول مصدر الثقافة الإغريقية التي انتقلت من الشرق إلى أوروبا، أهو إسرائيلي أم عربي؟ وموضع اللبس هنا أن الفيلسوف اليهودي ابن جبيرول (١٠٢١–١٠٧٠) سبق ابن رشد بمولده وكتابته، ولكن ابن جبيرول لم يكن له مصدر غير المراجع العربية، وفلسفته الأفلاطونية الحديثة مستمدة من هذه المراجع، لم يسلم حتى من أخطائها الظاهرة وهي الخلط بين مذهب أفلوطين ومذهب أرسطو في الربوبية؛ لأن طائفة من تواسيع أفلوطين تُرجِمت في القرن الثالث للهجرة، ونُسِبت خطأً إلى أرسطو باسم أثولوجية أرسطوطاليس، وقد التبست آراء ابن جبيرول بالآراء الإسلامية والآراء المسيحية التي نقلت عنها حتى حسبه بعض الأوروبيين من فلاسفة المسلمين، وحسبه بعضهم من فلاسفة المسيحيين، ولم تتضح الحقيقة إلا في القرن التاسع عشر حين كشف المستشرق الإسرائيلي سلمون مونك Salomon munk (١٨٠٣–١٨٦٧)١٧ عن بعض المخطوطات، فتبيَّنَ له أن الفيلسوف الذي يسميه الأوروبيون أفيسبرون Avicébron هو نفسه ابن جبيرول، وأنه إسرائيلي وليس من المسلمين ولا من المسيحيين.

وقد كان ابن جبيرول مسبوقًا في الثقافة الإسرائيلية بفيلسوف آخَر من اليهود نشأ في الفيوم بمصر (٨٩٢–٩٤٢)، وتنقَّلَ بين مصر وفلسطين والعراق في إبَّان الدعوة الإسماعيلية وملاحم الجدل بين المتكلمين والمعتزلة، وهم فلاسفة الإسلام الباحثون في مسائل التوحيد والحكمة الدينية، وهذا الفيلسوف الإسرائيلي هو سعديا بن يوسف الذي اشتهر باسم وظيفته جاعون (٨٩٢–٩٤٢)، وتتبع مساجلات المتكلمين والمعتزلة فطبَّقَها على الديانة الإسرائيلية، وألَّف كتابه «الإيمان والعقل» في موضوعات الخلق والتوحيد والوحي والقضاء والقدر والثواب والعقاب وغير ذلك من موضوعات علم الكلام.

وقد كان للفلسفة في المغرب رواد قبل ابن رشد، أشهرهم ابن باجة أو ابن الصائغ الذي توفي سنة ٥٣٣ للهجرة، إذ كان ابن رشد في الثالثة عشرة من عمره، وابن باجة هو الذي يسميه الأوروبيون Avinpace وهو أستاذ أبي الحسن علي بن عبد العزيز الذي رحل إلى مصر بعد موت أستاذه في مدينة فاس، ونقل معه خلاصةً من مؤلفاته إلى مدرسة قوص بالصعيد الأعلى حيث مات ودُفِن، وقد كان ابن باجة على ديدن الكثيرين من علماء عصره جامعًا بين الأدب والفلسفة والطب، وقيل إن حسد الأطباء له — ممَّن كانوا يزاحمونه في بلاط ابن تاشفين بمراكش — أغراهم به، فدسوا له عند الأمير ودسوا له السم في طعامه فمات ولم يكن يجاوز الأربعين، ويعتبر ابن باجة بحق أول رائد لثقافة الإغريق في الأندلس؛ فقد علَّق على كتب أرسطو وجالينوس، وتُرجِمت تعليقاته إلى العبرية، وترجم إليها كتابه عن تدبير المتوحد وفيه شرح سبيل الوصول إلى الله بالمعرفة والرياضة، ويجمع بين أساليب الحكمة وأساليب التصوف، ويقسم أساليب «التوحد» الذي يعني العزلة، و«التوحد» الذي يعني وحدة الأشباه المشتركين في مطالب الحكمة والفضيلة.

أما بعد ابن باجة فأشهر الفلاسفة هما الزميلان ابن الطفيل وابن رشد، وقد اجتمعا زمنًا في بلاط الموحدين، وكان ابن الطفيل أكبر من ابن رشد، ولكنه عاش بعده (توفي سنة ٥٨١ للهجرة)، ولم ينكب مثل نكبته، بل قيل إنه كان يأخذ مرتبه مع الأطباء والمهندسين والرماة والشعراء، ويقول كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عليهم …!

(٣) الحركة الاجتماعية

وابن طفيل هو صاحب قصة «حي بن يقظان» التي تُرجِمت إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر، ونُسِب إليها نشاط القصة في العصر الحديث، وفحوى قصة حي بن يقظان أن الإنسان قد يصل إلى معرفة الله، ولو نشأ منفردًا على جزيرة منعزلة لا يصحبه فيها أحد من بني نوعه، ويتمم رأيه في هذه القصة مذهبه في التصوف وإمكان الاتصال بالله وإدراك الحقائق الربانية برياضة النفس على الكشف والمناجاة.١٨

ويبدو من أخبار ابن الطفيل وآثاره — على قلة هذه وتلك — أنه كان إلى مزاج الفنان الظريف أقرب منه إلى مزاج الفيلسوف الحكيم، وأنه كان خبيرًا بفنون المنادمة والمسامرة، أثيرًا عند أمير المؤمنين المنصور، لا يطيق هذا غيابه ولا يزال عنده أيامًا منقطعًا عن أهله، وكان هذا هو الغالب على حكماء ذلك العصر وأطبائه ما عدا ابن رشد؛ فقد كان ابن ماجة يحسن فن النغم والإيقاع، وكان ينظم الموشحات ويلحنها ويغنيها، ومن موشحاته تلك الموشحة التي قيل إن صاحب سرقسطة أقسم ساعة سماعها لا يمشين ناظمها ومنشدها إلا على الذهب، وهي التي ختمها بقوله:

عقد الله راية النصر
لأمير العلا أبي بكر
ومن لباقته وحسن تصرفه في إرضاء الأمراء أنه أشفق من مغبة هذا القسم، فاحتال على تنفيذه بأن جعل في نعله قطعةً من الذهب!١٩

وكان ابن زهر زميل ابن رشد في الطب والحكمة أبرع أهل زمانه في فن التوشيح وفن التلحين، وله من الشعر الظريف ما يقلُّ نظيره في بدائع الشعراء المنقطعين للهو والمنادمة، وهو صاحب الأبيات في المرآة:

إني نظرت إلى المرآة أسألها
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شُيَيْخًا لست أعرفه
وكنت أعهد فيها قبل ذاك فتى٢٠
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا
متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستضحكَتْ ثم قالت وهي معجبة
إن الذي أنكرَتْه مقلتاكَ أتى
كانت سُلَيْمى تنادي يا أخي وقد
صارت سُلَيْمى تنادي اليوم يا أبتا

وله يتشوق إلى ولده بإشبيلية، وهو بمراكش:

ولي واحد مثل فرخ القطا
صغير تخلف قلبي لديه٢١
وأفردت عنه فيا وحشتا
لذاك الشُّخَيْصِ وذاك الوُجَيْه٢٢
تشوقني وتشوقته
فيبكي عليَّ وأبكي عليه
وقد تعب الشوق ما بيننا
فمنه إليَّ ومني إليه

روى أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني حكيم السلطان المنصور بالله الحسني، أن يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس سمع هذه الأبيات فرَقَّ للحكيم الظريف، وأرسل المهندسين إلى إشبيلية، وأمرهم أن يرسموا بيت ابن زهر ويبنوا له بيتًا مثله في مراكش، ففعلوا كما أمرهم وفرشوا البيت بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته، ثم أمر بنقل أولاد ابن زهر وحشمه إلى تلك الدار، ثم أخذه معه إليها فدخلها فوجد ولده الذي تشوقه يلعب في فنائها، وخُيِّلَ إليه أنه في منام.

وهذه فنون من المنادمة والتحبب إلى الأمراء لم يكن ابن رشد يُحسِن شيئًا منها، ولعله كان أعلم أهل زمانه بالفلسفة والفقه وأجهلهم بفنون المنادمة والسياسة، وراض نفسه على التوقُّر فبالغ في رياضتها، وأنف أن يُروَى له شعر يتغزل فيه؛ فأحرق ما نظمه في صباه، وقد تقدَّم في تفضيله لقرطبة على إشبيلية أنه قال لابن زهر: إن المطرب الذي يموت في قرطبة تُحمَل آلاته إلى إشبيلية لتباع فيها. وهو قول لا يخلو من التعريض والترفُّع، غير ما نُقِل عنه كثيرًا من سكينته وتورُّعه عن المزاح.

ومن المهم التنبيه إلى هذه الخصلة فيه وإلى مخالفته بها لنظرائه وأقرانه، فلا شك أن جهله بفنون الندمان وجلساء الأسمار كان له شأن أي شأن في تعجيل نكبته التي لا ترجع كلها إلى أحوال عصره، ولا تخلو من رجعة في بعض أسبابها على الأقل إلى أحواله.

هوامش

(١) المَهَرَة جمع ماهر: الحاذق.
(٢) أوعى إيعاء الكلام أو الشيء: حفظه وجمعه. وأوعى الزاد ونحوه: جعله في الوعاء، وفي التنزيل الكريم: وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ.
(٣) «مقدمة ابن خلدون»، و«نفح الطيب» الجزء الأول.
(٤) «السراة» جمع «سري»: صاحب الشرف والمروءة والسخاء.
(٥) «نفح الطيب» الجزء الثاني.
(٦) المصدر نفسه.
(٧) «المعجب في تلخيص أخبار المغرب».
(٨) «البدع» جمع بدعة: ما أُحْدِثَ على غير مثالٍ سابقٍ، والعقيدة أحدثت تخالف الإيمان.
(٩) الملاحاة: المنازعة.
(١٠) اللَّدَد: شدة الخصومة.
(١١) الزيغ: الميل.
(١٢) «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للوزير جمال الدين القفطي.
(١٣) «وفيات الأعيان» الجزء الرابع، ترجمة رقم ٦٦٠.
(١٤) علم الجفر ويسمى علم الحروف: هو علم يدَّعِي أصحابه أنهم يعرفون به الحوادث إلى انقراض العالم، وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري بقوله من جملة أبيات:
لقد عجبوا لأهل البيت لما
أتاهم علمهم في مسك جفر
ومرآة المنجم وهي صغرى
أرته كل عامرة وقفر
(١٥) «وفيات الأعيان» الجزء الرابع، ترجمة رقم ٦٦٠.
(١٦) «جمهرة أنساب العرب»: نشرته دار المعارف بمصر بتحقيق المستشرق أ. ل. بروفنسال.
(١٧) سلمون مونك فرنسي من أصل ألماني.
(١٨) قصة «حي بن يقظان» عالجها ابن سينا والسهروردي وابن طفيل، والقصص الثلاث مجموعة في كتاب واحد نشرته دار المعارف بمصر بمناسبة مهرجان ابن سينا الذي عُقِد ببغداد في مارس سنة ١٩٥١.
(١٩) «مقدمة ابن خلدون»: ص٥٨٤، طبعة بيروت ١٩٠٠.
(٢٠) «شُيَيْخ»: مصغَّر «شيخ».
(٢١) «القطا» جمع «قطاة»: طائر في حجم الحمام.
(٢٢) شُخَيْص ووُجَيْه: مصغَّر شخص ووجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤