الفصل الثالث

جوانب ابن رشد

(١) آثار ابن رشد

لا ندري ماذا أُحرِق من تلك الشروح عند نكبة الفيلسوف، وماذا أعان الزمن على ضياعه بعد موته، ولكن البقية الباقية منها تدل على شروح متعددة لا على شرح واحد لكل كتاب تناوله من كتب الفلسفة أو الطب بالتفسير والتيسير؛ فقد كان من دأبه على ما يظهر أن يتناول الكتاب بالشرح المطوَّل، ثم بالشرح الوسيط، ثم بالإيجاز الذي لا يقترن بشرح كثير. وقد سرد ابن أبي أصيبعة أسماء هذه الشروح، ومنها تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة، وتلخيص كتاب الأخلاق، وتلخيص كتاب البرهان، وتلخيص كتاب السماع الطبيعي، وشرح كتاب السماء والعالم وكتاب النفس، وكلها من فلسفة أرسطو، ومنها في الطب تلخيص كتاب الأسطقسات (أي: العناصر والأصول)، وكتاب المزاج، وكتاب القوى الطبيعية، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب التعرف، وكتاب الحميات، وأول كتاب الأدوية، والنصف الثاني من كتاب حيلة البرء، وكلها لجالينوس.

ولم يكن ابن رشد يعرف اليونانية، ولكنه اعتمد على المترجمات التي نُقِلت من الشرق إلى الأندلس، وعلى أستاذه أبي جعفر هارون الطبيب المشارك في الحكمة وعلم الكلام.

ومن تآليفه في الطب غير هذه الشروح كتاب الكليات، وقصد أن يجمع فيه الأصول الكلية، وأن يعهد إلى صديقه ابن زهر أن يتممه بكتاب في الأمور الجزئية «لتكون جملة كتابيهما كتابًا كاملًا في صناعة الطب»، وقد أشار إلى ذلك في ختام كتابه، فوعد باستيفاء الجزئيات في «وقت نكون فيه أشد فراغًا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك، فمَن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء وجب أن ينظر بعد ذلك في الكنايش — أي: الكناشات والتعليقات — وأوفق الكنايش له الكتاب الملقَّب بالتيسير الذي ألَّفه في زماننا هذا مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته، فكان ذلك سبيلًا إلى خروجه».

ولابن رشد شرح على أرجوزة لابن سينا في الطب، وتعليقات من قبيل المذكرات توجد منها أوراق متناثرة في بعض المكتبات الأوروبية.

وله من التواليف — عدا الشروح: رد على تهافت الفلاسفة للغزالي سماه «تهافت التهافت»، ورسالة في التوفيق بين الحكمة والشريعة سماها «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، ورسالة في نقد براهين المتكلمين والمتصوفة سماها «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وكتاب في «الفحص هل يمكن العقل الذي فينا — وهو المسمى بالهيولاني — أن يعقل الصور المفارقة أو لا يمكن ذلك، وهو المطلوب الذي كان أرسطوطاليس وعدنا بالفحص عنه في كتاب النفس»، ومقالة في أن ما يعتقده المشَّاءون وما يعتقده المتكلمون من أهل ملتنا في كنيته وجود العالم متقارب في المعنى، ومقالة في المقابلة بين آراء أرسطو وآراء الفارابي، وغير ذلك تعليقات وردود على ابن سينا وابن باجة وابن الطفيل في مسائل النفس والعقل والاتصال بالعقل الفعال، وما قيل عن قِدَم العالم وحدوثه، هي أقرب إلى المقالات القصار منها إلى المطولات.

وهناك قوائم بأسماء مؤلفاته التي لا تزال محفوظة في مكتبة الإسكوريال بأسبانيا لا حاجة إلى إثباتها هنا؛ لأن موضوعاتها الفلسفية جميعًا داخلة في هذه الموضوعات التي اشتهر الفيلسوف بشرحها أو الكتابة فيها.

أما كتبه في الفقه، فالمعروف منها كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو مرجع لم يزل معتمدًا بعد نكبة مؤلفه يُضرَب به المثل في الشعر للإجادة والطموح، كما قال ابن زمرك بعد وفاة ابن رشد بأكثر من مائتي سنة:

أمولاي قد أنجحت رأيًا وراية
ولم تبق في سبق المكارم غاية
فتهدي سجاياك ابن رشد نهاية
وإن كان هذا السعد منك بداية
سيبقى على مر الزمان مخلدًا

وترجم أكثر المؤلفات الطبية والفلسفية إلى اللاتينية والعبرية، وضاعت أصول الكثير منها وبقيت ترجماتها، ومنها ما هو محفوظ إلى اليوم في مكتبات سويسرا وباريس بنَصِّه العربي مكتوبًا بحروف عبرية.

أما الكتب الميسَّرة للقارئ العربي بمصر وما جاورها، فهي في الفقه كتاب «بداية المجتهد» وهو مطبوع، وفي الفلسفة كتاب «تفسير ما بعد الطبيعة»، وتلخيص كتاب «المقولات» و«تهافت التهافت» وكلها مطبوع.

وله رسالة لطيفة في تلخيص كتاب الخطابة لأرسطو مطبوعة بالقاهرة، وتوجد من مؤلفاته بدار الكتب المصرية مخطوطة لشرحه على أرجوزة الطب لابن سينا، ومخطوطة لجوامع كتاب النفس لأرسطو.

وقد طبع معهد فرانكو بالمغرب الأقصى كتابه «الكليات» في الطب منقولًا بالمصورة الشمسية، مشفوعًا بوصف بعض العقاقير والأدوية التي وردت فيه إشارة إليها.

وهذه المجموعة الميسَّرة للقارئ العربي بمصر تجزئه في الإلمام بجوهر «الرشدية» في جوانبها المختلفة؛ لأنها تشمل أقوالًا له في الطب والفقه والفلسفة، كما تشمل طرائقه في التأليف والشرح والتلخيص.

•••

ومن المحقق أن آثاره الباقية أقل من آثاره التي انتشرت في أيام حياته، فقد أُحرِق منها في حياته شيء وحُرِم بعد مماته شيء، وعجل الكمد بأجله فلم ينفعه العفو عنه والرجوع به إلى سابق مكانته، ومرض بعد استدعائه إلى مراكش والعفو عنه مرضه الذي مات به «ليلة الخميس التاسعة من صفر، سنة خمس وتسعين وخمسمائة، بموافقة عاشر دجنبر»، فدُفِن بجبانة باب تاغزوت، ثم نُقِل رفاته إلى قرطبة حسب وصيته، فدُفِن بها في روضة سلفه بمقبرة ابن عباس.

واختلفوا في تاريخ وفاته؛ فقال ابن الأبَّار:١ «وامتحن بأخرة من عمره فاعتقله السلطان وأهانه، ثم عاد فيه إلى أجمل رأيه واستدعاه إلى حضرة مراكش، فتوفي بها يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه، ودُفِن بخارجها، ثم سيق إلى قرطبة فدُفِن بها مع سلفه — رحمه الله. وذكر ابن فرقد أنه توفي بحضرة مراكش بعد النكبة الحادثة عليه المشتهرة الذكر، في شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وغلط ابن عمر فجعل وفاته تاسع صفر سنة ست وتسعين، ومولده سنة عشرين وخمسمائة، قبل وفاة جده القاضي أبي الوليد بأشهر.»

والأصح على أرجح الروايات، ومع مضاهاة التقويم الهجري على التقويم الميلادي أنه توفي في التاريخ الذي ذكره الأنصاري آنفًا، وقد أعقب ذرية لم يشتهر منهم غير ولده عبد الله الذي تعلَّم الطب كأبيه وعمل في بلاط الخلفاء.

(٢) فلسفة ابن رشد

أو على الأصح إنهما فلسفتان لا فلسفة واحدة: فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، وفلسفة ابن رشد كما كتبها هو واعتقدها ودلَّتْ عليها أقواله المحفوظة لدينا.

وفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى يلاحظ عليها ثلاثة أمور:
  • أولها: أنهم اعتمدوا في فهم فلسفته على شروحه لأرسطو وتلخيصاته لبعض كتبه، ومهما يكن من إعجاب ابن رشد بأرسطو فآراء الفيلسوف العربي لا تطابق آراء الفيلسوف الإغريقي في كل شيء.
  • وثانيها: أنهم اعتمدوا على تلك الشروح والتلخيصات مترجَمة إلى اللغة اللاتينية أو العبرية، ولا تخلو الترجمة من اختلاف.
  • وثالثها: أن فلسفة ابن رشد ذاعت بين الأوروبيين في إبَّان سلطان محكمة التفتيش التي كانت تتعقب الفلسفة العربية الأندلسية على الخصوص، وتحرم الاشتغال بالعلوم التي تخالف أصول الدين في تقديرها، فمن الطبيعي أن تنسب إلى ابن رشد كل معنى يسوغ ذلك التحريم ويقيم الحجة على صوابه، وأن تؤكد كل فكرة تلوح عليها المخالفة وإن جاز تأويلها على عدة وجوه.

أما فلسفة ابن رشد كما كان يعتقدها، فالمعول فيها على كتبه ﮐ «منهاج الأدلة» و«فصل المقال»، وعلى آرائه التي يبديها في سياق مناقشاته، كتلك الآراء التي قال بها في ردوده على الغزالي من كتاب «تهافت التهافت»، ثم على آرائه في شرحه للمقولات وتفسير لما بعد الطبيعة، وما شابه هذه الآراء في الكتب الأخرى التي يتيسَّر الوصول إليها.

وبين الفلسفتين: فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، وفلسفته كما اعتقدها؛ مواضع اختلاف يمس الجوهر أحيانًا أو يسمح بتفسير آخَر في غير تلك الأحيان.

•••

لخَّص الأستاذ موريس دي ولف آراء ابن رشد في كتابه عن تاريخ فلسفة القرون الوسطى٢ فقال: «كانت إسبانيا في القرن العاشر ملتقى أجناس كثيرة مختلفة أشد اختلاف؛ فكان اليهود والمسيحيون في دول المسلمين يعيشون جنبًا إلى جنب مع العرب … وساعد هذا على جعل إسبانيا مركزًا لحركة فلسفية قوية إلى القرن الثالث عشر.

ويرجع أصل الفلسفة العربية الإسبانية إلى القرن التاسع حين جدَّد ابن مسرة آراء أمبدوقليس المزعومة، ونجد في القرن الحادي عشر اسمَي ابن حزم القرطبي وابن باجة السرقسطي … وكان الأخير مؤلف كتب في المنطق، ورسالة في النفس وشروح عدة لأرسطو، وكتاب عن هداية المتوحد يصور درجات الاتصال عند المتصوفة، ونجد كذلك اسم ابن الطفيل وعنده مثل هذه الميول الصوفية.

ولكن أحدًا من هؤلاء الفلاسفة لم يبلغ مبلغ ابن رشد في ذيوع الصيت … ولم يكن لإعجابه بأرسطو حد … ولكن لا يُفهَم من هذا أن فلسفته إنما هي نسخة من الفلسفة الأرسطية.

ويمكننا أن نقسِّم شروح أرسطو التي تركها ابن رشد إلى ثلاثة أقسام: الشروح الكبرى، والشروح الصغرى، والمختصرات أو المقتبسات، فالشروح الكبرى تتابع الأصل متابعة دقيقة ثم تشفعها بالتفسير المستفيض، والشروح الأخرى أكثر تركيزًا وتنظيمًا في معالجة الموضوعات وترتيبها، وتورد عليها مناقشات وإضافات شخصية لا يسهل استخراج الآراء المنسوبة إلى أرسطو من خلالها، وإنما يتبع ابن رشد فيلسوف استاجيرة بغاية الدقة في المنطق وحده.»

ثم استطرد المؤلف إلى تلخيص فلسفة ابن رشد بعد بيان كُتُبه التي كانت متداولة بين قرَّاء اللاتينية، فقال:
إن وجود الكائن الأعلى — الله — هو موضوع فلسفة ما بعد الطبيعة، وإثبات وجوده قائم بالبراهين الفعلية، وهو الذي تَصْدُر عنه العقول منذ الأزل، وكل موجود غير الله لا يفسر وجوده بغير عمل خالق، فليست العقول صادرة على التتابع واحدًا بعد الآخر على حسب مذهب ابن سينا، بل هي من خلق الله أصلًا، وإنما يأتي تعددها من أنها لا تتساوى في الكمال والصفاء، وهي في الخارج متصلة بالأفلاك، فالسماوات جملة من الأفلاك كلٌّ منها له صورة٣ من أحد العقول، والمحرك الأول يحرك الفلك الأول، وهذا يحرك الأفلاك الأخرى إلى القمر الذي يحركه العقل الإنساني؛ لأنه يتصل بمداركنا ومعقولاتنا وله عمل على اتصال بما فوق الطبيعة كما في مذهب ابن سينا.

والمادة قديمة مع الله؛ لأن العدم لا يتعلق به عمل خالق … وهي عاجزة عن العمل، ولكنها ليست خواء تناط به الصور كما في مذهب الأفلاطونية الحديثة، بل هي قابلية عامة تشتمل على الصور المحتلفة، ومع حضور هذه المادة القديمة يُخرِج منها الخالق قواها العاملة، وينشأ العالم المادي من أثر هذا الخلق الدائم، ولا بد من تتابع هذه الحركات بلا بداية ولا نهاية.

والعقل الإنساني — وهو آخِر سلسلة الأفلاك — هو صورة غير مادية، أبدية، منفصل من الآحاد، متحد في جملته، وهذا العقل هو العقل الفعَّال والعقل الهيولاني أو العقل الممكن معًا. والعقل الإنساني في أفراد النوع البشري جميعًا واحد لا ينفصل بانفصال الأشخاص، ولا يتغير بتغيُّر الذات Objective، وهو النور الذي يضيء النفوس البشرية ويكفل للبشر مشاركةً لا تتبدل في الحقائق الأبدية.
والمعرفة العقلية٤ في الإنسان الفرد تَجري على النحو الآتي: فالعقل بتأثيره في أشكال الحواس التي تخص كل إنسان يتصل بذلك الإنسان حسب استعداده من غير أن يلحقه نقص بهذه الصلات المتعددة، وأول درجة من درجات هذا التعقل تحدث في الإنسان ما يُسمَّى بالعقل المكتسب، وبه يشترك العقل الخاص المنفصل في مدركات العقل العام المتحد، وهناك اتصالات أخرى بين عقل الإنسان والعقل العام، وهي الاتصالات التي تأتي من إدراك الماهيات المفارقة، وأعلاها وأرفعها ما يأتي من المعرفة اللدنية ووحي النبوة.

ويستتبع هذا القول أن الحياة بعد الموت عامة غير شخصية، ويفنى كل شيء في الإنسان إلا عقله الذي ليس هو بجوهر مستقل، بل هو عقل النوع البشري كله، عام في جميع آحاده.

وكثير من آراء ابن رشد يخالف المعتقدات الإسلامية، والواقع أنه نُبِذ لأن الخليفة اتهمه بانحلال العقيدة … على أنه لم يكن جاحدًا منكرًا للدين، بل عنده أن الدين يصور الحقائق الفلسفية على أسلوب المجاز، وهو يميِّز بين التفسير الحرفي لنصوص القرآن وبين معانيها التي يدركها الحكماء ويرتفعون بها وحدها إلى الحقائق العليا، ومن واجب الفلسفة أن تنظر فيما هو من تقليد الدين، وما هو من القضايا التي تحتمل التفسير، وعلى أي وجه يكون تفسيرها. وقد تسنَّى لابن رشد على هذه القاعدة أن يوفِّق بين القول بحدوث العالم على مذهب الغزالي، والقول بقِدَمِه على مذهب المشَّائين، وله رسالة خاصة يحاول بها هذا التوفيق، وفيها أول إيحاء بمذهب الحقيقة المزدوجة التي توسَّعَ فيها الرُّشْدِيُّون اللاتين فأفرطوا في تطبيقه.

•••

وهذا تلخيص أمين لفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، لخَّصه عالم بالمصادر من المخطوطات والمطبوعات، وجاء فيه بما شغل القوم من تلك الفلسفة عدة قرون، ولم يهمل فيه إلا مسألتين، هما: مسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة صفات الله. أما مسألة علم الله بالجزئيات فلعله أهملها لأنها لم تكن أصيلة في فلسفة ابن رشد، وأما مسألة صفات الله، فلعل الأوروبيين في القرون الوسطى أهملوها لأن إيمان العالم المسيحي بالأقانيم الثلاثة في إله واحد لم يجعل تعدد الصفات مشكلة لاهوتية لها من الشأن ما كان لهذه المسألة عند المتكلمين والمعتزلة من المسلمين، وابن رشد لم يطَّلِع على كتب المعتزلة كما قال في كتابه عن منهاج الأدلة، فمن ثَمَّ لم يتوسع في هذا الموضوع.

وأصاب مؤلف تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى حين قال: إن فلسفة ابن رشد كانت تخالف في بعض مسائلها ما عليه جمهرة الفقهاء من المسلمين، وقد حصر الإمام الغزالي في آخِر كتابه «تهافت الفلاسفة» أهم المسائل التي دار عليها الخلاف بين الفقهاء والفلاسفة وقيل فيها بتكفير هؤلاء، وهي ثلاث مسائل: إحداها مسألة قِدَم العالم وأن الجواهر كلها قديمة، وقولهم إن الله لا يحيط علمًا بالجزئيات الحادثة من الأشخاص، والثالثة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.

وقبل تلخيص مذهب ابن رشد في كل مسألة من هذه المسائل الثلاث نجمل آراء الفلاسفة الإلهيين فيها، ونعني بهم الفلاسفة الذين يؤمنون بوجود الإله تمييزًا لهم من الفلاسفة الماديين من الأقدمين والمحدثين.

فالفلاسفة الإلهيون الذين قالوا بقِدَم العالم — وعلى رأسهم أرسطو — لم يكن منهم أحد قَطُّ يقول بقِدَم العالم ويعني بذلك أن وجود العالم مساوٍ لوجود الله، وإنما يقولون إن وجود العالم متعلِّق بإرادة الله، وإرادة الله قديمة لا تراخي لما تريده، وإن العالم لم يسبقه زمان؛ لأن الزمان من حركته.

أما علم الله بالجزئيات، فلم يوجد فيلسوف إلهي قَطُّ ينكر إحاطة الله — سبحانه وتعالى — بالجزئيات أو الكليات، وإنما ينزهون علم الله أن يكون كعلم الإنسان؛ فإن علم الإنسان تابع للأشياء التي يعلمها، وهو يعلمها جزءًا جزءًا ثم يحكم عليها جملة، ويستخرج من علم الجزئيات علمه بالكليات.

والفلاسفة ينزهون علم الله أن يكون كهذا العلم، ويقولون إن الله محيط بالجزئيات قبل وقوعها، على نحوٍ أشرف وأكمل من العلم الذي يتاح للإنسان ويكون في كل حال تابعًا لما يعلمه متوقِّفًا عليه.

أما البعث، فإن الفلاسفة الماديين لا يؤمنون ببعث الأجساد ولا ببعث النفوس، وليس من الفلاسفة الإلهيين مَن ينكر بعث الأجساد إنكارًا منه لقدرة الله على بعثها، ولكنهم يقولون إن الأرواح المفارقة أشبه بالعالم الأعلى، ومَن آمَن بالله وآمَن بقدرة الله وآمَن بالبعث فما هو من الملحدين.

وأما مسألة الصفات التي لم يذكرها الغزالي مع تلك المسائل الثلاث، فلم تكن موضوع بحث عند الفلاسفة الإغريق، ولم يكن لها شأن كبير عند فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى، ولكنها أثارت الجدل الطويل بين علماء الكلام والمعتزلة والفلاسفة من المسلمين، ومثار الجدل فيها أن بعض الفلاسفة يقولون: إن صفات الله هي غير ذاته، وإن الصفات ليست بزائدة على ذات الله؛ لأن ذاته — سبحانه وتعالى — كاملة لا تتعدد، وغير هؤلاء الفلاسفة يردون عليهم ليوافقوا بين تعدُّد الصفات ووحدانية الله.

وقد كانت لابن رشد آراء في كل مسألة من هذه المسائل، ليست مطابِقة كل المطابَقة لما فهمه الأوروبيون في القرون الوسطى، وليست مغايِرة لها كل المغايَرة، ولكنها آراء كان الفيلسوف حريصًا جد الحرص على أن يلتزم بها حدود دينه، ولا يخرج بها عما يجوز للمسلم أن يعتقده وأن يعلِّمه للمسلمين، وسنرى مبلغ ما أصابه من التوفيق في هذا المجال، وهذه هي خلاصة آرائه في هذه المسائل وفي غيرها من مسائل الحكمة والعقيدة، معتمدين فيها على نصوصه العربية التي بين أيدينا، غير معولين فيها على مصدر من المصادر الأجنبية.

قِدَم العالم

يقول ابن رشد عن قِدَم العالم في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»: «وأما مسألة قِدَمه أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعًا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء؛ وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.

فأما الطرف الواحد فهو موجود وجد من شيء غيره، وعن شيء أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه … وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكوُّنها بالحس، مثل تكوُّن الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك، فهذا الصنف من الأصناف اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة (هكذا).

وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء ولا تقدمه زمان، وهذا أيضًا اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديمًا، وهذا الموجود يُدرَك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى، وهو فاعل الكل ومُوجِده، والحافظ له سبحانه وتعالى قدره.

وأما الصنف من الوجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكن موجود عن شيء أي عن فاعل، وهذا هو العالَم بأسره، والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه أو يلزمهم ذلك؛ إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام.

وهم أيضًا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناهٍ، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناهٍ، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته، وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناهٍ كالحال في المستقبل، فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بيِّن؛ إنه قد أخذ شبهًا من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم، فمَن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديمًا، ومَن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سمَّاه محدثًا.

وهو في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًّا ولا قديمًا حقيقيًّا؛ فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم مَن سمَّاه محدثًا أزليًّا وهو أفلاطون وشيعته؛ لكون الزمان متناهيًا عندهم من الماضي.

فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي من شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد …

… وإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهَرَ من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين — أعني غير منقطع — وذلك أن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يقتضي بظاهره وجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان — أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ يقتضي أيضًا وجودًا ثانيًا بعد هذا الوجود، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ يقتضي بظاهره أن السماء خُلِقت من شيء.

والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضًا في العالم على ظاهر الشرع بل متأوِّلون؛ فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصًّا أبدًا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع منعقد عليه …»٥

وقد تناول الغزالي هذه المسألة في تهافت الفلاسفة، فقال إن وجود الزمان قبل وجود العالم غير لازم، «ولو كان الله ولا عيسى مثلًا، ثم كان الله وعيسى لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم ذات، ثم وجود ذاتين، وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث وهو الزمان».

فأجابه ابن رشد، فقال: «صحيح، إلا أنه يجب أن يكون تأخُّره عنه ليس تأخُّرًا زمانيًّا.»

إلى أن قال: «وهذا كله ليس يبين هاهنا ببرهان، وإنما الذي يتبين هاهنا أن المعاندة غير صحيحة.»

ونرى أن ابن رشد يقول هنا إن المسألة غير برهانية، ولكن فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى يعيدون هذا القول ويحسبونه ردًّا عليه، كما فعل القديس توما الإكويني٦ في الفصل الذي عقده على مبادئ الخليقة من كتابه مجمل اللاهوت The Summa Theologiea فإنه ذكر قول أرسطو في قِدَم العالم، ثم أشار إلى كلامٍ له في كتاب الجدل، فقال: «والوجه الثالث — أيْ من وجوه الرد على قِدَم العالم — أنه قال صريحًا: إن ثمة مسائل جدلية لا يتأتى حلها بالبرهان كمسألة قِدَم العالم.»
وقد ردَّد ابن رشد نقده لبراهين معارضيه فقال: «إن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت بين هذين الوصفين معًا، أعني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية؛ فليست تصح لا للعلماء ولا للجمهور.»٧

وتناول في كتابه «منهاج الأدلة» هذا المبحث من رسالة أبي المعالي الموسومة بالنظامية، حيث يقول أبو المعالي: «… إن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلًا أصغر مما هو، وأكبر مما هو، أو بشكل آخَر غير الذي هو عليه، أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه، أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهةٍ ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار إلى أسفل … وإن الجائز محدث وله محدث، أي: فاعل صيره بإحدى الحالتين.»

فأجاب ابن رشد على هذا بما فحواه أن المصنوع لحكمة إنما يكون على الوجه الذي يحقِّق تلك الحكمة، ولا يكون عبثًا — تنزَّهَ الخالق عن العبث — ثم قال: إن «ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيه بما يعرض لمَن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع، وذلك أن الذي هذا شأنه قد سبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات أو جلها ممكن أن يكون بخلاف ما هو عليه، ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله — أعني غايته — فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة، وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك، فقد يرى أن الأمر بضد ذلك، وأنه ليس في المصنوع إلا شيء واجب ضروري، أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريًّا فيه، وهذا هو معنى الصناعة والظاهرات المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع، فسبحان الخلَّاق العظيم».٨

وواضح من مذهب ابن رشد في جميع كتبه أنه لا خلاف في خلق الله للعالَم، ولكن الخلاف في سبق الزمان للعالَم، أو أن الزمان والعالَم وُجِدا معًا، وعند ابن رشد أن العالَم قديم؛ لأنه موجود بمشيئة الله ولا رادَّ لمشيئته، وليس لها ابتداء.

وموضع اللبس في مذهب ابن رشد أنه لم يفرِّق بين الزمان والأبدية، وهما مختلفان.

فالزمان لا يتصور إلا مع الحركة، والأبدية لا تتصور مع الحركة بحال من الأحوال؛ إذ الكائن الأبدي لا يتحرك من مكان إلى مكان ولا من زمان إلى زمان، وليس قبله شيء ولا بعده شيء فيتحرك مما قبله إلى ما بعده.

ومذهب أفلاطون في الزمان أصح من مذهب معارضيه؛ فإنه يرى أن الزمان محاكاة للأبدية، أنعم الله به على الموجودات؛ لأنها لا تستطيع أن تشبه الله في صفة الدوام بلا ابتداء ولا انتهاء، وكلام الإمام الغزالي حين قال إن وجود العالم بعد وجود الله لا يقتضي وجود الزمان بينهما غاية في الدقة؛ فإن هاهنا ذاتين فقط، ولا محل لفرض وجود الزمان بين الوجود الأول والوجود الثاني، وإنما هو — كما قال — من أغاليط الأوهام.

علم الله بالجزئيات

أما القول بأن الله لا يعلم الجزئيات، فلم يحفل ابن رشد به كثيرًا؛ لأن هذا القول «ليس من قولهم» — أي الفلاسفة — كما قال في آخِر كتاب «تهافت التهافت»، وعرض لهذه المسألة في كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، فقال: «إن أبا حامد — أي الغزالي — قد غلط على الحكماء المشَّائين فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه — تقدَّس وتعالى — لا يعلم الجزئيات أصلًا، بل يرون أن الله — سبحانه وتعالى — يعلمها بعلم غير مجانِس لعلمنا؛ وذلك أن علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغيِّر بتغيُّره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود … وكيف يتوهم على المشائين أنهم يقولون إنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه. وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن بل ولا الكليات، فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة أيضًا على طبيعة الموجود، والأمر في ذلك بالعكس؛ ولذلك ما قد أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزَّه عن أن يُوصَف بكلِّيٍّ أو بجزئيٍّ، فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم …»٩

وواقع الأمر أن مذاهب الفلاسفة الإلهيين لم يَرِدْ فيها قَطُّ ما يدعو إلى هذه الشبهة، وأن ابن رشد على الخصوص كان في طليعة القوم تنزيهًا لعلم الله، بل إنه قال في غير موضع من كُتُبه: إن علم البرهان نفسه إنما هو من وحي الله.

خلود النفس

ولتمحيص القول بخلود النفس عند ابن رشد ينبغي الرجوع إلى مذهب أرسطو في النفس والعقل؛ لأنه إذا صح ما قيل من أن توما الإكويني نصر أرسطو، فأصح من ذلك أن ابن رشد حنفه — أي: جعله مسلمًا حنيفًا — واجتهد في تنقيته من كل ما يخالف العقيدة الإسلامية غاية اجتهاده.

وقد أعان ابن رشد على ذلك أن كلمة الروح عندنا تشمل معنى النفس والعقل معًا في معظم معانيها، فالنفس تقرن بالشر والذنب في كلامنا، وقلما تقرن الروح بمثل ذلك، فإذا قيل نفس شريرة على العموم، فمن النادر أن يقال ذلك عن الروح وعن الروحاني؛ لأن الروحانيات أشرف وأصفى من ذاك.

وقد تكلم أرسطو عن النفس والعقل في كتاب الأخلاق وفي كتاب النفس، ووضح في كلامه عن العقل أنه ينطبق أيضًا على الروح كما قال في كتاب الأخلاق عن السعادة العليا للإنسان وهي سعادة التأمل، ثم قال: «مثل هذه الحياة ربما كانت أرفع جدًّا مما يستطيعه الإنسان؛ لأنه لا يحيا هذه الحياة باعتباره إنسانًا، بل يحياها بمقدار ما فيه من النفحة الإلهية، والفرق بين هذه النفحة الإلهية وبين تركيبنا الطبيعي كالفرق بين عمل ذلك الجانب الإلهي وعمل الفضائل الأخرى، وإذا كان العقل إلهيًّا فالحياة على مثاله إلهية بالنسبة إلى المعيشة الإنسانية. وعلينا ألَّا نتبع أولئك الذين ينصحون لنا ما دمنا بشرًا أن نشتغل بهموم البشر، وما دمنا فانين أن نعمل عمل الفانين، بل علينا ما استطعنا أن نعمل عمل الخالدين، وأن نحفز كل عرق من عروقنا حتى نسمو إلى مرتبة أرفع ما فينا — وإنْ قلَّ وصغر — لأقدر وأكمل من كل شيء عداه.»١٠

أما النفس عند أرسطو فتكاد أن تكون في أكثر مصطلحاته مرادفة للوظيفة الحيوية؛ ولهذا ينسب إلى النبات نفسًا نامية، وإلى الحيوان نفسًا شهوانية، ويسخر من فيثاغوراس الذي يقول إن نفس الإنسان قد تنتقل إلى الحيوان، ويرى أن السؤال عن العلاقة بين النفس والجسد كالسؤال عن العلاقة بين الشمعة وصورتها؛ فلولا صورة الشمعة لكانت شحمًا ودهنًا ولم تكن شمعة، ولولا نفس الإنسان لكان الإنسان لحمًا وعظامًا وعصبًا ولم يكن بالإنسان.

وعنده أن النفس جوهر بالمعنى الذي يقابل «الماهية» التي تميِّز الشيء من غيره.

وبعد أن بسط القول في خصائص النفس في كتابه عنها تكلَّمَ عن العقل، فقال: إنه أعلى من النفس، وإنه على ما يبدو له «جوهر مستقل مودع في النفس وغير قابل للفناء».

ثم قال: «وليس لدينا بعدُ بينةٌ في أمر العقل والملكة المدركة، ويبدو أن العقل نفس — أو روح — مختلفة تمامًا كاختلاف ما هو باقٍ دائم وما هو زائل فانٍ، وهي وحدها صالحة للوجود بمعزل عن سائر القوى النفسانية، وكل ما عداها من الأجزاء النفسية فظاهر مما أسلفناه أنه غير قابل للوجود المنفصل خلافًا لما يقول به كثيرون.»

ودليل أرسطو على بقاء العقل وصلاحه للوجود المنفصل أن الحقيقة العقلية لا تتوقف على الأشخاص، ولا تنقص بنقص هذا الشخص أو ذاك، فهي مستقلة منزهة عن الفناء الذي يصيب الأشخاص.

أما ابن رشد فنحن نورد كلامه هنا في مواضع مختلفة، ثم نعقب عليه بالخلاصة التي تستفاد منه في جملته.

نقل في كتابه «تهافت التهافت» كلام الغزالي في الرد على القائلين بفناء النفس، فقال: «ما قاله هذا الرجل في معاندتهم هو جيد، ولا بد في معاندتهم أن تُوضَع النفس غير مائتة كما دلت عليه الدلائل العقلية والشرعية، وأن يوضع أن التي تعود هي أمثال هذه الأجسام التي كانت في هذه الدار لا هي بعينها … وذلك أن ما عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع لا واحد بالعدد.»

وقال قبل ذلك بقليل عن وصف العالم الآخَر كما يدركه جمهور الناس: «… تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، كما قال سبحانه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وقال النبي عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر بخاطر بشر.» وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء).»

وأشار قبل ذلك إلى قول أرسطو إن الشيخ لو كان له عين كعين الشاب لأبصر كما يبصر الشاب، وإن هذا قد يكون معناه أن قوة النظر ضعفت هنا لضعف الآلة لا لضعف القوة النفسية. ثم قال: «ويستدل على ذلك ببطلان الآلة أو أكثر أجزائها في النوم والإغماء والسكر والأمراض التي يبطل فيها إدراكات الحواس، فإنه لا يشك أن القوى ليس تبطل في هذه الأحوال، وهذا يظهر أكثر في الحيوانات التي إذا فصلت بنصفين تعيش، وأكثر النبات هو بهذه الصفة مع أنه ليس فيه قوة مدركة. فالكلام في أمر النفس غامض جدًّا، وإنما اختص الله به من الناس العلماء الراسخين في العلم؛ ولذلك قال سبحانه مجيبًا في هذه المسألة للجمهور عندما سألوه بأن هذا الطور من السؤال ليس هو من أطوارهم في قوله سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وتشبيه الموت بالنوم في هذا المعنى فيه استدلال ظاهر في بقاء النفس من قبل أن النفس يبطل فيها فعلها في النوم ببطلان آلتها ولا تبطل هي، فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم؛ لأن حكم الأجزاء واحد، وهو دليل مشترك للجميع لائق بالجمهور في اعتقاد الحق، ومنبه للعلماء على السبيل التي منها يوقف على بقاء النفس، وذلك بيِّنٌ من قوله سبحانه: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا

وقد كرَّر ابن رشد قوله بغموض مسألة الروح في كتابه «فصل المقال» وعاب قومًا متفلسفين في زمانه حيث يقول: «شهدنا منهم أقوامًا ظنوا أنهم تفلسفوا وأنهم قد أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه — أعني لا تقبل تأويلًا — وأن الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور، فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سببًا لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة.»

وقال ابن رشد في كتاب «تهافت التهافت» يرد على الغزالي حيث ينفي أن الواحد لا تأتي منه الكثرة: «إن هاهنا من الخيرات خيرات ليس يمكن أن توجد إلا يشوبها شر، كالحال في وجود الإنسان الذي هو مركَّب من نفس ناطقة ونفس بهيمية.»

وقال في «تهافت التهافت» أيضًا: «الفاعل المطلَق ليس يصدر عنه إلا فعل مطلق، والفعل المطلق ليس يختص بمفعول دون مفعول، وبهذا استدل أرسطاطاليس على أن الفاعل للمعقولات الإنسانية عقل متبرئ عن المادة — أعني من كونه يعقل كل شيء — وكذلك استدل على العقل المنفعل أنه لا كائن ولا فاسد من قِبَل أنه يعقل كل شيء.»

أما كثرة العقول المفارقة — أي المجردة في اصطلاح عصرنا — فتعليلها كما قال في هذا الكتاب أنه «يشبه أن يكون السبب في كثرة العقول المفارقة اختلاف طبائعها القابلة فيما تعقل من المبدأ الأول، وفيما تستفيد منه الوحدانية الذي هو فعل واحد في نفسه كثير بكثرة القوابل له، كالحال في الرئيس الذي تحت يده رئاسات كثيرة، وهذا يفحص عنه في غير هذا الموضع، فإن تبين شيء منه وإلا رجع إلى الوحي …»

أما الوحي فقد قال فيه: «إن الذي يقول به القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو عن الله — تبارك وتعالى — بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، وهو واهب العقل الإنساني عندهم، وهو الذي تسميه الحدث منهم العقل الفعال، ويسمى في الشريعة ملكًا.»

وقال كذلك ناقلًا عن الفلاسفة: «معنى ما حكاه عن الفلاسفة من هذا الدليل هو أن العقل يدرك من الأشخاص المتفقة في النوع معنى واحدًا تشترك فيه، وهي ماهية ذلك النوع، من غير أن ينقسم ذلك المعنى بما تنقسم به الأشخاص من حيث هي أشخاص من المكان والوضع والمواد التي من قبلها تكثرت، فيجب أن يكون هذا المعنى غير كائن ولا فاسد ولا ذاهب بذهاب شخص من الأشخاص التي يوجد فيها هذا المعنى؛ ولهذا كانت العلوم أزلية غير كائنة ولا فاسدة إلا بالعرض، أيْ من قبل اتصالها بزيد وعمرو … قالوا: وإذا تقرَّر هذا من أمر العقل وكان في النفس، وجب أن تكون النفس غير منقسمة بانقسام الأشخاص، وأن تكون أيضًا معنى واحدًا في زيد وعمرو، وهذا الدليل في العقل قوي؛ لأن العقل ليس فيه من معنى الشخصية شيء، وأما النفس فإنها وإن كانت مجردة من الأعراض التي تعددت بها الأشخاص، فإن المشاهير من الأشخاص يقولون: ليس تخرج من طبيعة الشخص وإن كانت مدركة، والنظر هو في هذا الموضع.»

قال هذا ناقلًا عن الفلاسفة، وقال إنه موضع نظر؛ لأنه وُوجِهَ بالحجة القوية من قِبَل الغزالي كعادته في قوة البرهان؛ حيث قابل بين اتفاق العقول في الفهم واتفاق الحاسة الواحدة في الرؤية عشرات المرات، فقال: إن وحدة الرؤية بين الحواس لا تدل على أن العين واحدة في جميع الناس.

وعرض للكلام عن العقل الهيولاني — وهو العقل الذي يرى المتأخرون من أتباع أفلوطين أنه يقبل الصور كما تقبلها الهيولى، وينسبونه إلى الهيولى والمادة الأولى من أجل ذلك — فقال: «إن العقل الهيولاني يعقل أشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني أصلًا؛ ولذلك يحمد أرسطو أنكساغوراس في وضعه المحرك الأول عقلًا أي صورة بريئة من الهيولى، ولذلك لا ينفعل عن شيء من الموجودات؛ لأن سبب الانفعال هو الهيولى، والأمر في هذا في القوى القابلة كالأمر في القوى الفاعلة؛ لأن القوى القابلة ذوات المواد هي التي تقبل أشياء محدودة.»

ورد على قول الغزالي إن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، فقال: «هذا شيء ما وُجِد لواحد ممَّن تقدَّم فيه قول … وإن الشرائع كلها اتفقت على وجودٍ أخرويٍّ بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود … وكذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة، وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال، فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية، وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة، والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت بما يخص الحكماء وعنيت بما يشترك فيه الجمهور … «وكل» مناقض للأنبياء — صلوات الله عليهم — وصادٍّ عن سبيلهم فإنه أحق الناس بأن ينطلق عليه اسم الكفر، ويوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر.»

•••

ويؤخذ مما تقدَّم من كلام ابن رشد وما نقله عن الفلاسفة غير معقب عليه بنفي أو مناقضة؛ أنه كان يؤمن بأن النفس الناطقة جوهر مجرد لا يقبل الفناء، وأن لها سعادة في المعاد تشبه سعادة الفناء في الله التي يؤمن بها الصوفية، أما النفس الحيوانية فهي متعلقة بحياة الإنسان في هذه الدنيا، وليست هي محل العقل والروح، ويؤمن بعد هذا بأن الروح من أمر الله، فلا يجب الخوض في الكلام عنها بما يخالف الوحي ويناقض الأنبياء.

وابن رشد يرى أن العقل المفارق — أي المجرد — لا يفعل في المادة ولا ينفعل بها، ولكن هناك عقلًا متوسطًا بين نفس الإنسان وبين العقل الفعَّال هو واسطة الاتصال، ومنه يتلقى الإنسان فهم المعاني المجردة أو الصور المفارقة، وهذا العقل المتوسط هو الذي يُسمَّى بالعقل الهيولاني؛ لأنه قابل للصور مثل الهيولى.

•••

تلك هي المسائل الكبرى التي أثارت الجدل في عصر ابن رشد وفيما تلاه من القرون الوسطى، وهي: مسألة قِدَم العالم، ومسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة النفس وبقائها.

وثمة مسألتان أخريان ثار حولهما شيء من الجدل، ولكنه لم يبلغ هذا المبلغ من العنف وطول الأمد، وهما: مسألة الصفات الإلهية، ومسألة الحقيقتين.

وقد أسلفنا أن مسألة الصفات الإلهية لم تكن مشكلة عسيرة في العالم المسيحي إلى جانب البحث في الأقانيم الثلاثة، أما عند المتكلمين والمعتزلة وفلاسفة المسلمين فقد كانت مثار خلاف شديد، أكثره فيما نظن راجع إلى أن الصفة باللغة اليونانية واللغة اللاتينية تفيد معنى الشرط أو الخاصة المقومة للموصوف، أو الواسطة التي يعرف بها ما لا يعرف بذاته، خلافًا لمعناها العربي الذي لا يفيد شيئًا من ذلك.

فليس من العجيب إذن أن تثير عند أهل التوحيد ذلك الخلاف لتمحيص معناها، وتنزيه الوحدانية عن مسألة الصفات رأيًا قريبًا مما قدَّمناه في الكلام على العلم بالجزئيات والكليات.

فينبغي على المؤمن الموحد أن يؤمن بصفات الله، وأن يؤمن كذلك بأنها ليست كصفات الإنسان.

فإن الإنسان له قابليات للكرم والحلم والرحمة والعدل وسائر الصفات الحميدة، ولكن القابليات تحتاج إلى مَن يوجدها ومَن يخرجها من القوة إلى الفعل، وهذا إنْ جاز في حق الإنسان فليس مما يجوز في حق الله.

ومن أمثلة كلامه في هذا المبحث قوله: «أما قوله: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فإن معناه لا يفعل فعلًا من أجل أنه واجب عليه أن يفعله؛ لأنَّ مَن هذا شأنه فيه حاجةٌ إلى ذلك الفعل … والبارئ سبحانه وتعالى يتنزه عن هذا المعنى، فالإنسان يعدل ليستفيد بالعدل خيرًا في نفسه لو لم يعدل لم يوجد له ذلك الخير، وهو سبحانه وتعالى يعدل لا لأن ذاته تستكمل بذلك العدل؛ بل لأن الكمال الذي في ذاته اقتضى أن يعدل، فإذا فُهِم هذا ظهر أنه لا يتصف بالعدل على الوجه الذي يتصف به الإنسان …»١١

فلا نكران للصفات، وإنما النكران للمشابَهة بين صفات الإنسان وصفات الله، وإنها تشترك في الأسماء كالرحمة والعدل والعفو والكرم، ولكنها لا تشترك في المدلولات.

أما مسألة الحقيقتين، فخلاصتها أن حقيقة الشرع وحقيقة العلم والحكمة شيء واحد يختلف في العبارة ولا يختلف في الجوهر، وقد صرَّح ابن رشد بأن «الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه، وأن يدركه الشرع فقط …»١٢

وقد قال ابن رشد في صدر كتابه «فصل المقال»: «إن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها … والاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس.»

وقال: إن موضوع الفلسفة هو البحث في التوحيد وحكمة الوجود، خلافًا لقول ابن سينا إن موضوع الفلسفة هو البحث في «الموجود من حيث هو موجود»، أي: البحث في كُنْه الوجود.

غير أن ابن رشد يقول إن الوصول إلى المعرفة إن تم لأناس بالكشف والرياضة الصوفية فتلك مَزِيَّة خاصة وسائلها لا تعم جميع الناس، وإنما معرفة العقل هي المعرفة الإنسانية التي تسمو بالعارفين إلى منزلة الوصول وإدراك الحقائق والماهيات، وهو أعلى ما يقدر للإنسان من مراتب الكمال، وعنده أن البرهان وحي إلهي ولكنه ليس كوحي النبوة؛ إذ كل نبي حكيم، وليس كل حكيم معدودًا من الأنبياء.

•••

ولم يَمْضِ بحث ابن رشد في الحقيقتين صفوًا عفوًا بغير ضجة في القرون الوسطى؛ لأن الباحثين المتمردين تذرعوا به إلى التفرد بمباحث الفلسفة، وإن خالفت النصوص التي يفسرها آباء الكنيسة على حسب المتواتر عندهم، فجاء زمنٌ كان فيه القول بالحقيقتين من المحرمات أو دلائل الزندقة والهرطقة التي تجر على صاحبها لعنة الحرمان.

•••

هذه خلاصة عاجلة لفلسفة ابن رشد فيما بعد الطبيعة وفي طرف من النفسيات، وقد كانت له — كما تقدَّمَ — مشاركات في الرياضة والطبيعيات، وكان يقول إن هذه العلوم مما يُعِين على معرفة الموجد والموجودات. ومن أمثلة كلامه في فضل الرياضة قوله: «… لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك، مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولو كان أذكى الناس طبعًا إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي، بل لو قيل له إن الشمس أعظم من الأرض بنحو مائة وخمسين ضعفًا أو ستين، لعد هذا القول جنونًا من قائله …»١٣
وله في المسائل الطبيعية تقريرات نعرض لها فيما سنختاره له من مباحثه الطبية، وكل هذه المعلومات عنده: «حكمة الله تعالى في الموجودات وسنته في المصنوعات ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وبإدراك هذه الحكمة كان العقل عقلًا في الإنسان، ووجودها هكذا في العقل الأزلي كان علة وجودها في الموجودات …»١٤

•••

ونحسب أن إنصاف الحكمة الإنسانية القديمة يتقاضانا هنا أن نعقب على الآراء التي عرضناها بكلمة لعلها لازمة لتقويم الفكر الإنساني في العصر الحاضر وفي كل زمن، ولعلها إنصاف لمداركنا قبل أن تكون إنصافًا لمدارك الأقدمين.

فالذين يبسمون سخرية من كلام الأقدمين في العقول المفارقة، عليهم أن يذكروا أننا صنعنا مثل صنعهم، فزعمنا وجود الأثير في الفضاء لنعلل به مسير الشعاع وسريان النور، ولا دليل عليه غير الفرض والتقدير، ولعل سيأتي يوم يبسم فيه الخالفون من فرضنا للأثير كما يبسم بعضنا اليوم من فرض الأقدمين للعقول المفارقة، تفسيرًا للصلة بين الكائنات العلوية وبين الموجودات على هذه الغبراء.

والذين يبسمون سخريةً من كلام الأقدمين عن سيطرة العقول على الأفلاك، عليهم أن يصطنعوا كثيرًا من الأناة والحياء، فإن أقطابًا من علماء الرياضة والطبيعة اليوم يقررون أن الموجودات كلها معادلات رياضية في عقل الخالق جل وعلا؛ لأن عناصر المادة كلها تنحل إلى ذرات، والذرات كلها تنحل إلى شعاع، وكل أولئك ليس له من مادة غير النسب والأعداد، وهي في باب التجريد أشد إمعانًا من العقول المفارقة التي تصوَّرَها الأقدمون.

ولسنا نستبعد أن يعود الخالفون يومًا إلى فلاسفة الأقدمين ليتخذوا من تفكيرهم قواعد للإدراك الصحيح في عالم الجواهر والماهيات، أو في عالم الحقائق الأبدية التي لا ينقضي البحث فيها بانقضاء زمانهم وانقضاء هذا الزمان.

(٣) أثر الفلسفة الرشدية

اشتهر أرسطو بين الأوروبيين في القرون الوسطى باسم الفيلسوف، فإذا ذُكِر الفيلسوف بغير اسم في كتاب من كُتُبِ تلك العصور فأرسطو هو المقصود.

واشتهر ابن رشد باسم الشارح أو المعقب Commentator فإذا قيل: الشارح أو المعقب في كلام من كلامهم فابن رشد دون غيره هو المقصود.
وقد عرَّف ابن رشد متعلمي القوم بالمعلم الأول وهو لا يعرف اليونانية، ولم يكن شيء من كلام أرسطو قد تُرجِم إلى اللاتينية أو لغة من اللغات الأوروبية قبل عصر ابن رشد غير كتب المنطق، ثم تنبَّه علماؤهم إلى ترجمته بعد ذيوع اسم ابن رشد، فطلب القديس توما الإكويني من صديقه «وليام مويربك» Moerbeke أن ينقل جميع كتبه فنقلها،١٥ ولم يظهر بعد نقلها أن ابن رشد قد أخطأ في شيء من لباب الفلسفة، ولم يحصوا عليه غير هفوات من الغلط ببعض الأسماء لتشابه نطقها، وسائر شروحه بعد ذلك لا غبار عليه من جهة المعنى، وقد يقع العارف باليونانية في أخطاء أكثر من الأخطاء التي لوحظت على الفيلسوف القرطبي، ما لم تكن له فطنة كفطنة ذلك الفيلسوف.
وحسب الرجل شهادة لروحه أن الكتب التي نُقِلت من اليونانية مباشَرَةً لم تُغْنِ عنه، فبعد أن حرم أسقف باريس دراسته في جامعتها، وسماه رأس الضلال في منتصف القرن الثالث عشر، عادت هذه الجامعة نفسها بعد قرن فأخذت على أساتذتها المواثيق ألَّا يعلموا فيها شيئًا لا يوافق مذهب أرسطو كما شرحه ابن رشد، وأصبحت كتبه مادة لا تنفد للدرس والمناقشة في البِيَع١٦ والأديرة والجامعات.
وعلى الرغم من تحريم الاشتغال بالدراسات الدنيوية أو العالمية على الرهبان، أقبل على دراسة ابن رشد ومناقشته والاستفادة منه قطبان إمامان في رهبنة الدومينيين ورهبنة الفرنسيسيين، وهما توما الإكويني الذي سبقت الإشارة إليه، وروجرز باكون١٧ رائد المدرسة التجريبية التي تمَّمَها سميه فرنسيس باكون.١٨
وقد كان من الرهبان مَن يتحدى أوامر رؤسائه ويمضي في دراسة ابن رشد بعد تحريمها، كما فعل سيجر دي برابان (١٢٣٥–١٢٨٢) Siger de Brabant وكان أستاذًا بجامعة باريس، ولم يُقلِع عن دراستها ونشرها إلا مضطرًّا بعد صدور الأمر من روما (سنة ١٢٦٦) بتأييد أسقف باريس في قرار التحريم.

وكانت كتب ابن رشد وشروحه تُترجَم وتُنشَر في الجامعات بأمر ملك من الملوك المستنيرين في ذلك الزمن، لم يكن يبالي ما يقال عنه في المجامع الدينية، وهو فردريك الثاني ملك صقلية وحامي العلم والأدب في زمانه (١١٩٤–١٢٥٠)، فإنه كلَّف العالم الأيقوسي ميخائيل سكوت بترجمة الشروح وأرسلها إلى جامعة بولون وجامعة باريس كأنها مفروضة على طلبة الجامعات.

ولم يَبْقَ في القرن الثالث عشر وما بعده أوروبي يشتغل بالثقافة أو يسمع بأحاديثها إلا عرف شيئًا عن ابن رشد وأعجب به أو رَدَّ عليه، ولو لم يكن من الفلاسفة والمنقطعين للعلوم.

فذكره دانتي الشاعر في الكوميديا الإلهية، وناقشه في مسألة الروح (١٢٦٥–١٣٢١).

وذكره الناسك سفونرولا Savonarola (١٤٥٢–١٤٩٨) وسماه بالعقل الرباني١٩ واستهدف للسخط من جرَّاء الثناء عليه.

وما من مدرسة فلسفية نشأت في أوروبا بعد القرن الثالث عشر إلا أمكن أن تنتسب من قريب أو بعيد إلى الثقافة الرشدية، سواء بالاطلاع على تلك الثقافة أو بالاطلاع على تعليقات المعلقين عليها، نقضًا واستنكارًا أو تأييدًا وإعجابًا من كلا الطرفين.

فمدرسة الحقيقيين Realists ومدرسة الاسميين Nominalists إنما هما طرفان في موضوع واحد فتح ابن رشد أبوابه، فلم تزل مفتوحة بعده عدة أجيال، ذلك الموضوع هو النفس الفردية والنفس النوعية، وما يقال عن الوجود الحقيقي في الأشخاص أو في العقول المفارقة.

فالحقيقيون يرون أن النوع هو الوجود الحقيقي الذي يوجد الأشخاص لتمثيله في العالم المحسوس، والاسميون يرون أن وجود النوع إنما هو اسمٌ أو كلمةٌ ما لم يقترن بوجود الأشخاص.

وقد كان اثنان من تلاميذ روجرز باكون — تلميذ الثقافة العربية — يعالجان هذه المسألة من طرفها، وهما سكوتس Scots (١٢٦٦–١٣٠٨) مؤيد القول بحقيقة النوع، وأكهام Ockham (المتوفى سنة ١٣٤٩) مؤيد القول لحقيقة الشخص أو الفرد ومسخف القائلين بحقيقة النوع، وحسبك من بعد الأثر الذي أعقبته هذه المناقشة أن لوثر كان يفخر فيقول: أستاذي العزيز أكهام.

وقد دارت بين فلاسفة القرون الوسطى مساجلات مسهبة حول قدرة الله وعلم الله، أو حول الإرادة والفكرة، لا نظن أنها مرت دون أن تدخل في تفكير المطلعين عليها لحينها والمطلعين على حواشيها وذيولها في العصور الحديثة، ومنهم الفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠) صاحب القول بفلسفة الإرادة والفكرة، وأن الرجوع إلى الفكرة هو غاية السعادة التي يرجوها الإنسان؛ لأن الفرد رهن الزوال، ولا بقاء لغير العقل الذي يترفع عن عالم الواقع أو عالم الإرادة.

ويقول النقاد من الإسرائيليين وغيرهم إن سبنوزا الفيلسوف الإسرائيلي الكبير (١٦٣٢–١٦٧٧) أخذ من موسى بن ميمون معاصر ابن رشد، وإن موسى بن ميمون أخذ من الفلسفة الرشدية، ولا سيما الإلهيات وما بعد الطبيعة، ويقررون أن أثر الفلسفة الرشدية في مذاهب الفلسفة اليهودية ظاهر كأثرها في مذاهب الفلسفة المسيحية، وإن اختلفوا في المدى والمقدار.٢٠
ولا نظن أن مذهب ليبنتز Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦) في الممكنات المجتمعة بعيد من مذهب ابن رشد في الممكنات المخلوقة لحكمة إلهية، فخلاصة مذهب ليبنتز أن تغيير ممكن واحد ليس بالمستحيل، ولكن تغيير الممكنات التي يتمم بعضها بعضًا ويتعلق بعضها بغرض البعض الآخَر هو المستحيل؛ ولهذا كان يقول عن هذه الدنيا إنها أحسن دنيا ممكنة، وهذا بعينه هو كلام ابن رشد حين رد على القائلين بجواز تغيير الممكنات، وإن هذا العالَم كله جائز أو غير واجب الوجود فهو قابل للتغيير، فإن جواب ابن رشد على هذا القول كما قدَّمناه أن المخلوقات التي خلقها الله على صورة من الصور لحكمة يريدها لا يمكن أن تتغير، وإلا كان خلقها على تلك الصورة عبثًا، والعبث مستحيل في حق الله.
وللفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم Hume (١٧١١–١٧٧٦) كلام عن المعجزات وكلام عن الأسباب قريب جدًّا من كلام ابن رشد٢١ في براهين المعجزات، ومن كلام الغزالي الذي يرد عليه، ومذهب الغزالي في الأسباب معروف، وهو أن السبب على اصطلاحنا في العصر الحاضر «ظاهرة» تقترن بالشيء وليست هي علة وجوده، وهو مذهب يوافق آراء العلماء المحدثين الذي يقررون أن كلمة العلم هي وصف الظواهر المقترنة، وليس من مهمته أن يصل إلى العلل ولا سيما العلة الأولى.

ولدافيد هيوم غير ما تقدَّم رأي في الشخصية الإنسانية يقارب من بعض الوجوه رأي أرسطو كما جاء في شروح ابن رشد، وكثرت فيه أقوال المؤيدين والمعارضين في القرن الرابع عشر وما بعده إلى أيام هيوم، ومؤدى رأي هيوم هذا في الشخصية الإنسانية أنه يراقب نفسه كثيرًا ويتعمق في المراقبة، فلا يحس وراء الانفعالات الحسية والخواطر المنتزعة منها شيئًا يدل على كيان مستقل يُسمَّى النفس أو الذات، ويشبه هذا الرأي أن يكون كرأي أرسطو في الشخصية الإنسانية خلوًّا من العقل الإلهي؛ فإنها عنده جسم له وظائف جسدية أو نفس نامية ونفس شهوانية، ولا حقيقة وراء ذلك إذا استثنينا العقل الذي هو عام غير منقسم ولا منفصل في ذات شخص من الأشخاص.

وأقرب من هيوم إلى عصرنا وليام جيمس إمام مذهب البرجمية (١٨٤٢–١٩١٠) الذي يقول في مبادئ علم النفس:
أعترف بأنني في اللحظة التي أتحول فيها إلى مباحث ما وراء الطبيعة، وأحاول أن أزيد من التعريف، أرى أن القول بضرب من العقل العام Anima Mundi يفكر فينا جميعًا هو رأي مأمول على الرغم من صعوباته خير من القول بجملة من النفوس الفردية المنقسمة تمام الانقسام.
لا بل عندنا في العصر الحاضر من علماء النفس المشغولين بدراسات النفس الإنسانية وعِلَلها وطباباتها، رجلٌ مثل مايرسون Myerson صاحب كتاب «متحدث عن الإنسان» Speaking of man يدير كتابه هذا الذي صدر سنة ١٩٥٢ على دراسات في الشخصية الفردية وفي العقل والنفس والجسم، يُخَيَّل إليك — لولا مصطلحاتها العصرية — أنها منسوخة من بعض شروح ابن رشد أو المعقبين عليه.
ومن الفلسفات العصرية كفلسفة الوجودية Existentialism ما يكثر فيه الكلام عن الوجود Essence والماهية، وعما يسميه بعضهم وجودًا «صادقًا» Being تمييزًا من مطلق الوجود Existence فيسبق إلى خاطر المأخوذ بهذه المصطلحات لأول وهلة أنها بدعة من بدع أوروبا الحديثة، ما هي في الواقع إلا تكرير لمصطلحات قديمة وُضِعت في غير موضعها، وهذا مثال لما جاء منها في كتاب التهافت لابن رشد حيث يقول:

… إن لفظ الوجود يقال على معنيَيْن: أحدهما ما يدل عليه الصادق، مثل قولنا هل الشيء موجود أم ليس بموجود؟ … والثاني ما يتنزل من الموجودات منزلة الجنس …

… وأما هذا الرجل — أي الغزالي — فإنما بنى القول على مذهب ابن سينا، وهو مذهب خطأ؛ وذلك أنه يعتقد أن الآنية — أيْ كون الشيء موجودًا — شيء زائد على الماهية خارج النفس، وكأنه عرض فيها.

… وإن اسم الموجود يقال على معنيين: أحدهما على الصادق، والآخَر على الذي يقابله العدم، وهذا هو الذي ينقسم إلى الأجناس العشرة، وهو كالجنس لها … والموجود الذي بمعنى الصادق هو معنى في الأذهان، وهو كون الشيء خارج النفس على ما هو عليه في النفس، وهذا العلم يتقدم العلم بماهية الشيء — أعني أنه ليس يطلب معرفة ماهية الشيء حتى يعلم أنه موجود — وأما الماهية التي تتقدم علم الموجود في أذهاننا فليست في الحقيقة ماهية، وإنما هي شرح معنى اسم من الأسماء، فإذا علم أن ذلك المعنى موجود خارج النفس علم أنها ماهية وحد، وبهذا المعنى قيل في كتاب المقولات: إن كليات الأشياء المعقولة إنما صارت موجودة بأشخاصها، وأشخاصها معقولة بكلياتها. وقيل في كتاب النفس: إن القوة التي بها يدرك أن الشيء مشار إليه وموجود غير القوة التي بها ماهية الشيء المشار إليه، وبهذا المعنى قيل: إن الأشخاص موجودة في الأعيان والكليات في الأذهان، فلا فرق في معنى الصادق في الموجودات الهيولانية والمفارقة …

وهذه المصطلحات تحتلف في مدلولها كاختلاف معنى «الصادق» من زيادة «المفهوم» في الكليات إلى معنى الصادق كما يريدونه حديثًا، ويطلقونه على الموجود الذي يدرك الماهيات والكليات، ولكن القول في الوجود والماهية، وأن معرفة الموجود لا تتوقف على العلم بماهيته قول من أقدم ما كُتِب في معاني هذه المصطلحات.

ولا نعني أن هذه الآراء جميعًا وليدة الاططلاع على شروح ابن رشد بنصوصها أو ترجماتها، ولكننا نعني أن الفيلسوف الجدير باسم الفيلسوف في العصر الحديث لا يخلو أن يكون قد اطلع على مذاهب القرون الوسطى، أو على التعقيبات التي أوحتها إلى الخالفين وابتعثتها في عقول المفكرين، وليس في العصر الحاضر مَن اشتغل بالفلسفة ولم يطَّلِع على أطوار المذاهب الفلسفية وسوابق الآراء حول أصول المسائل الكبرى فيما وراء الطبيعة، ويكفي أن يكون قد اطَّلَع على خلاصة هذه الأطوار لتنعقد الرابطة بينه وبين السلف الذي لا فكاك منه، ولا سيما السلف الذي وضع الأساس ثم تعاقبت بعده أدوار البناء.

وذلك هو المقصود ببُعْد الأثر الذي أحدثته شروح ابن رشد في زمانها وبعد زمانها، ولا نخال فيلسوفًا أو شارحًا كان لكلامه من الشيوع والتأثير ما كان لهذا الشارح العظيم.

إنها لعبرة ليس لها مكان أحق من مكان الكلام على تاريخ فيلسوف حكيم.

لو كان الاعتبار بالحوادث من عادات الإنسان، بل من عادات المشتغلين بالحكمة من الناس، لما صودر بعد ابن رشد كتاب واحد، ولا آمَن أحد بجدوى المصادرة في تفنيد الآراء.

فقد رُزِق ابن رشد أنصارًا ومعجبين من أصحاب الأديان الثلاثة لم يُرزَق مثلهم فيلسوف قبله ولا بعده، وهو هو الذي كان له مصادرون ومضطهدون من أتباع كل دين وخدام كل سلطان، ولو أن المصادرين عملوا قصدًا وعمدًا على نشر آرائه وشروحه لفاتهم بعض النجاح وأخطأهم بعض التدبير.

(٤) قوة الأثر

رُزِق ابن رشد حظًّا آخَر غير بُعْد الأثر واتساع مداه، وهو قوة الأثر وعمق البحث فيه وشدة الخلاف عليه.

فربما كان بُعْد الأثر واتساع مداه مسألة مسافات وأبعاد، ولكن قوة الأثر وعمق البحث فيه وشدة الخلاف عليه شيء آخَر يقاس بدوافع الحياة والحركة النفسية ولا يقاس بالسنين والأمكنة.

وهو شيء في آفاق النفوس والعقول، وليس في آفاق الفضاء أو صفحات الأوراق. وقد رُزِق ابن رشد من هذا الحظ النادر أوفى نصيب، فما ظهرت فلسفته في مكان إلا انتصب فيه ميدان كفاح، وكان الكفاح عنيفًا والاستبسال فيه من الجانبين على غايته في مجال الرأي والعقيدة.

فلم يحفظ لنا تاريخ الفكر مساجلة بين حكيمين في قوة المساجلة التي دارت بين ابن رشد والغزالي ومضاء سلاحها ونفاذ حججها وبراهينها، ثم تمت هذه المساجلة برد الإمام ابن تيمية (٦٦١–٧٢٨ﻫ/١٢٦٣–١٣٢٨م) الذي ناقش فيه براهين «مناهج الأدلة»، ووضع لعلم المنطق الإسلامي كتاب الرد على المنطقيين أو الرد في الحقيقة على العلوم الحديثة في زمانه، ومنها حساب الكواكب والنجوم.

ودامت هذه المعركة بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة إلى القرن التاسع للهجرة والقرن الخامس عشر للميلاد، فعَهِدَ السلطان محمد الفاتح العثماني إلى عالِم زمانه خوجه زاده (المتوفى سنة ٨٩٣ للهجرة) بالموازنة بين كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي وكتاب «تهافت التهافت» لابن رشد، فوضع في ذلك كتابه المشهور، وهو مطبوع بالقاهرة مع الكتابين في مجلد واحد.

أما في أوروبا فلم تنقطع المناقشة في الفلسفة الرشدية من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، ثم كان لها استئناف في القرن التاسع عشر على يد المؤرخ الباحث إرنست رينان (١٨٢٣–١٨٩٢) صاحب كتاب حياة المسيح وكتاب ابن رشد والرشدية وغيرهما من كتب البحث والتاريخ.

وشملت المعركة معسكر اللاهوت المسيحي ومعسكر اللاهوت الإسرائيلي في وقت واحد.

فعلى الرغم من تحريم المجمع الكنسي لهذه المباحث في أوائل القرن السادس عشر (١٥١٢) ظلت المعركة محتدمة طوال ذلك القرن، ولم تزل كذلك حتى اختُتِمت بالمساجلة الكبرى بين المتفلسفَيْن الإيطاليَيْن أشليني Achillini   وبومبوناتسي Pomponatzzi ولولا نشأة المباحث العلمية الحديثة وانصراف العقول إليها بعد القرن السابع عشر لما انقطع ذلك السجال.

وتتابعت في العالم الإسرائيلي مساجلات كهذه أو أشد منها عنفًا، كان المعارضون فيها لابن رشد يستندون إلى كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» في الرد عليه.

•••

ونحسب أن سر هذه القوة في معارك الفلسفة الرشدية أنها اشتملت على مباحث ترتبط بالعقائد الدينية، وأنها ظهرت عند نهاية عصر التقليد وبداية عصر الاجتهاد، فكان لها شأنها عند الأحبار والعلماء، وبين المقلدين والمجتهدين.

وقد شاءت لهذه الفلسفة «قوتها الحيوية» أن تعاود الظهور بيننا في الشرق العربي، وفي أوائل القرن العشرين، فدارت حولها مساجلة طويلة بين الأستاذ الإمام محمد عبده والأديب الألمعي فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، وكانت هذه المساجلة في حينها حديث المحافظين والمجددين بين أبناء البلاد العربية والإسلامية من مراكش إلى التخوم الهندية.

ولعل هذه المساجلة تهدينا إلى أسباب اتساع الخلف وانفراج مسافته بين المتناقشين في هذه المسائل وأشباهها؛ فإن اتساع الخلف بينهم إنما يأتي على الأغلب الأعم من اختلاف المراجع التي يعتمدون عليها، وهذا الذي حدث في مناقشة الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون، فلم يكن أحدهما يعتمد على مراجع الآخَر في مسألة من مسائل الفلسفة الرشدية أو الفلسفة الإسلامية على التعميم.

قال الأستاذ الإمام: «وأما العقل الأول فليس كما تقول الجامعة؛ فإن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو أول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمى عندهم بالفلك الأطلس، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية، وعقل آخَر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم بالعقل الفعَّال أو العقل الفيَّاض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية، وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.»

وهذا كله صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق على الجملة، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرةً، ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين، ويقول من كتاب «تهافت التهافت» في مسألة تعدد العقول: «ولسنا نجد لأرسطو ولا لمَن شهر من قدماء المشَّائين هذا القول الذي نُسِب إليهم إلا لفرفريوس الصوري٢٢ صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذَّاقهم.»

أما الأستاذ فرح أنطون فكان جل اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسع في الاطلاع على كتاب التهافت وغيره توسُّع استقصاء، وقد صرح بذلك حيث قال: «… لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم … فأخذنا كتابًا للمستر مولر، عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه الدينية، وكتابًا آخر عنوانه: ابن رشد وفلسفته، وهو للفيلسوف رينان المشهور.»

فقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مرويًّا عن صاحبه مأخوذًا من خلاصة كلامه، ولو توحَّدت المصادر مع حسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة ولا في غيرها شقة الخلاف.

ولتمام الفهم للعوامل التي تبعث القوة في هذه المساجلات، نرجع إلى عهد هذه المساجلة الأخيرة — وهي كسابقاتها تجمع بين مسائل الفلسفة ومسائل الدين — فإنها بدأت في أوائل القرن العشرين (سنة ١٩٠٢)، أيْ على مفترق الطريق بين عهد التقليد وعهد الاجتهاد، وفي إبَّان الحركة التي أيقظت العقول لمواجهة الحياة في العصر الحديث.

(٥) خاتمة

إلى هنا تنتهي الصورة التي أردنا أن نبرزها للشارح الكبير، ونرجو أن نكون قد أبرزنا بها صورة صحيحة لعقل ابن رشد في شتى مشاركاته، وهي الفلسفة والطب والفقه، وما يتخللها من معارف موزعة كالعلم الطبيعي وما إليه في زمانه.

وهذه الصورة صحيحة فيما نرجو إذا كانت قد صورت عقل ابن رشد في أحسن عمله، وهو عقل قد امتاز بصدق الفهم وجودة الاستيعاب والأمانة في التعلم والتعليم.

لقد كان من تمام فهمه أنه شغله بما يحسنه ويسمو به على نظرائه؛ فلا جرم كان شغله الأكبر بالشرح والتحصيل، ولم يشغل نفسه كثيرًا بالابتداع والابتكار.

وقد كان لفيلسوفنا عقل يغلب عليه المنطق والبحث العلمي، ويقل فيه نصيب النظر الصوفي الذي تروعه رهبة المجهول، كأنه يشعر به عن كثب ويشعر به على الدوام.

وهذه خصلة تظهر لنا في كثير من المناقشات بينه وبين الغزالي؛ فإن ابن رشد لا يقصر عن الغزالي في شيء من الاحتمالات المنطقية والتقديرات العقلية، ولكن الغزالي الصوفي يحس شيئًا وراء ذلك ويضعه في ميزانه عند تفكيره، وإن لم يحصره بالدقة التي تحصر بها جميع المعقولات مما لا يحيطه الغيب ولا يظلل عليه الخفاء.

ولولا هذه الخصلة في عقل ابن رشد لما خطر له — كما قال في صدر شروحه على كتاب ما بعد الطبيعة — أن أرسطو «يظن» أنه قد أدرك الحقيقة كلها في هذا الجانب من بحثه، ولكنه كان صاحب عقل منطقي علمي يقف عند حدود ما يعرف، ومن أمانته لما يعرف أنه ترك التصوف لذويه، ولم يجعله عرفانًا ميسرًا لكلِّ مَن يدعيه.

عقل الشارح الفاهم الأمين غير مدافع.

ذلك مكانه في تاريخ الفكر الإنساني، وقد بلغ به قصارى أثره، وغاية قدره، وإنه لأثر كبير وقدر عظيم.

هوامش

(١) من ملحق كتاب رينان في طبعته الفرنسية سنة ١٨٦٦.
(٢) كتاب History of Medieval Philosophy لمؤلفه Maurice de Wulf الأستاذ بجامعة لوفان عضو المجمع العلمي البلجيكي.
(٣) الصورة في مذهب أرسطو هي ماهية الشيء، فماهية الفلك هي الماهية التي تجعله فلكًا، وبغيرها لا يكون كذلك.
(٤) مسألة العقول — كما اشتهرت في الفلسفة الإسلامية — هي من كلام إسكندر الأفروديسي تلميذ أفلوطين، وليست من كلام أرسطو، وخلاصتها أن الله — سبحانه وتعالى — تعقل ذاته فكان العقل الأول، وأن العقل الأول يحرك ما دونه حتى تنتهي العقول إلى العقل الفعَّال، وهو الذي يمد العقل الهيولاني الذي يقتبس منه الإنسان تفكيره، ويُسمَّى بالهيولاني تشبيهًا له بالهيولى التي تقبل الصور، ولم يذكر العقل الهيولاني قبل الأفروديسي.
(٥) «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
(٦) أكبر فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى، وُلِد على مقربة من نابلي سنة ١٢٢٥، ومات في سنة ١٢٧٤، وكان في المسيحية كالغزالي في الإسلام.
(٧) «منهاج الأدلة».
(٨) «منهاج الأدلة».
(٩) «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
(١٠) «كتاب الأخلاق» لأرسطو.
(١١) «منهاج الأدلة».
(١٢) «تهافت التهافت».
(١٣) مقدمة «فصل المقال».
(١٤) «تهافت التهافت».
(١٥) كتاب كاريه carré عن الحقيقين والاسميين.
(١٦) البِيَع جمع بِيعَة: المعبد للنصارى واليهود.
(١٧) روجرز باكون (١٢١٤–١٢٩٤) كاهن إنجليزي وُلِد في إلشستر، هو أحد كبار علماء القرون الوسطى، كما أنه أحد ثلاثة يُنسَب إليهم خطأً أنهم مخترعو البارود، والاثنان الآخران هما: ألبير الأكبر وبرتولد شوارتز، والحقيقة أن أسماءهم اقترنت لا باختراع البارود بل بدخوله إلى أوروبا، ولكن لا يُعلَم على وجه التحقيق نصيب كل منهم في ذلك.
(١٨) فرنسيس باكون (١٥٦١–١٦٢٦) فيلسوف شهير وُلِد بلندن ويُعَدُّ بكتابه Novum organumi أحد مؤسسي المدرسة التجريبية؛ فقد جعل البحث العلمي مستقلًّا عن الطريقة المدرسية وعن طريقة السلطات اللاهوتية والدينية.
(١٩) Splendour Of Moorish Spain. by Joseph Maccabe.
(٢٠) تراث إسرائيل Legacy of Israel وكتاب أبرهام ولفسون عن فلسفة سبنوزا.
(٢١) سيأتي كلامه عن المعجزات في فصل المنتخبات.
(٢٢) فيلسوف من مدرسة أفلوطين، وُلِد سنة ٢٣٢، وتوفي سنة ٣٠٤ للميلاد، وكتابه في مدخل المنطق هو الذي ترجمه بوثيوس (٤٧٠–٥٢٥ ميلادية)، ونقل به منطق أرسطو إلى أوروبا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤