مقدمة
قد تُفاجئنا ذات يوم، في مطلع قصيد لم يكتبه أحد بعد، العبارةُ الآتية:
«لم يعترف العقل ذات مرة أن موضوع اهتمامه الأول منذ أن كان عقلًا أو هو
العقل، أنه هو الشر، ولا سبيل إلى مكافحته إلا بالفهم.»
تاريخ الفكر قد خط كفاحه وفق استراتيجية معرفية تقوم على مسلَّمة مسكوت
عنها، وهي أن الرهان الوحيد المفتوح أمام العقل بلا حدود هو الفهم. وقد
اكتشف العقل، منذ بداية السؤال الفلسفي، أن الفهم يقوم على إنشاء عالم
متكامل من الدلالات، يوازي المجهول حوله، أو على الأقل يشكِّل فيه
اختراقًا يزداد عمقًا واتساعًا. ولقد تقدمت هذه الاستراتيجية خطوة
حاسمة على درب الفهم، عندما استطاعت أن تفصل بين تحدي المجهول، وتحدي
المغيوب. كان الخلط قبل هذا الاكتشاف يقع من جراء اندماج التحديَين
كأنهما واحد. وكان المغيوب يكلِّل هامة المجهول. ومرَّ زمن طويل على العقل
وهو يعتقد أن في تعامله مع المغيوب إنما يصنع المفتاح الوحيد لدخول
أبواب المجهول المغلقة.
هنا نشأت وبُنيت ثقافتان متعارضتان تمامًا في العمق؛ إحداهما اتخذت
مرجعيتها بالنسبة إلى المبني للمغيوب، والأخرى بالنسبة إلى المبني
للمجهول. غير أن المرجعيتين متداخلتان، وغالبًا ما كان الوعي يخطئ
الهدف بينهما، يبحث عن إحداهما فيقع على الأخرى، يخدع نفسه بتسميتها
باسم نقيضتها أو منافِستها، وهو يعتقد أنه يتعامل مع التي يحسب أنها هي
المطلوبة، لكن كانت واسطة التعامل مع الثقافتين واحدة دائمًا، وهي اللغة!
ولقد استفادت ثقافة المغيوب من كون اللغة في حد ذاتها تقدَّم بدائل عن
غياب الأشياء، أي: إن اللغوي ليس هو الشيء الذي يعبِّر عنه، بل إشارته
أو رمزه. وما الكلام أصلًا إلا بديل كبير عن عجز العقل كل مرة، عن
استحضار كل الأشياء المطلوب التعامل معها، استحضارها تحت الحواس.
والرمز ليس إلا إشارة البديل عما هو بديله عنه. اللغوي إذن اختزالي
هائل؛ لأنه يخلق عالمًا إشاريًّا خالصًا يعتبر نفسه موازيًا لعالم
الأشياء، وبذلك يمكن القول عن اللغوي بكل بساطة إنه رمز الغائب،
والنسيج اللغوي ليس سوى آثار كل الغائبين، من الناطقين الصامتين
والمنطوق عنهم.
لذلك ما إن يترعرع الثقافي على الزاد اللغوي فحسب، حتى يظل أسير
العلاقة الوحيدة مع الغائب، إلى الحد الذي لا يعود الثقافي فيه قادرًا
على تصور علاقة ممكنة مع ما ليس بغائب؛ إذ يغدو الغائب هو الماثل عينه،
حيثما تلفَّتت عين الثقافي المتسائلة. فما يمكن أن يقدِّمه اللغوي جوابًا
على كل تساؤل لن يكون إلا لغويًّا من جنسه. ذلك هو حصار التوسيط اللغوي،
بحيث يصير توسيطًا لذاته، أي: غاية المنتهى. فلا حرج أو عجب إذن إن بُني
من تراكم الغائبين جميعًا غائب كبير أعظم، يصعد إلى ذروة المنتهى كرأس
لهرم شاسع، لكنه من كلمات!
إن التفكير بعملة البدائل وحدها، دون أي اختراق أو انزياح نحو ما هو
خارج حصارها الأصم؛ لن يكون شيئًا آخر إلا تفكير أهل الكهف الأفلاطوني،
الذين لم يكن لهم بدٌّ من الاعتقاد بأن أشباح الأشياء المتراقصة على
جدران الكهف، هي أشياؤها الحقيقية؛ ولذلك يمكن أن يستمر التفكير
بالأشباح بديلًا عن الأشياء إلى ما لا نهاية. كل ما سوف يبدعه مثلُ هذا
التفكير هو استخلاص علاقات بَينيَّة، سوف يدعوها منطقية من كل بد ما بين
الكلمات/الأشباح. سيلجأ إلى «التصنيف»، و«التضمين»، ويخترع
«الاستنتاج»، ويوجِد له ضروبًا ستة عشر (منطق أرسطو). سوف يبني عالمًا
لغويًّا خالصًا، محكومًا بمنطقه الذاتي. لكن الأخطر في كل ذلك هو
الاعتقاد بنهائية العالم اللغوي، بحيث يبطل الوعي بكون اللغوي مجرد
واسطة لسواه.
حين وقع الاختراق كان حدثًا عظيمًا حقًّا، الأول من نوعه، وهو الخروج
من الحصار اللفظي إلى ما يتعداه. إنه مجرد الشعور بوجود حيِّز يتعدى
اللفظي، سوف يقلب محاور الفكر الأساسية. صحيح أن تجاوز اللغوي سوف يظل
من طبيعة لغوية كذلك، لكن بروز عالم الأصول إلى جانب عالم البدائل، سوف
يخلق تنافسًا خلَّاقًا فريدًا من نوعه. سوف يكون إيذانًا بمولد المعرفي.
يصبح الانقسام بين الذاتي والموضوعي كخطوة متقدمة على قسمة الحاضر/الغائب، بل سوف يتضح
الفارق جيدًا بين مفردات البدائل التي لا تعرف
نفسها أنها كذلك، أي: بدائل، وبين مفردات اللغة التي تعرف حدودها، وتسأل
دائمًا، وتقلق قلقها الثقافي المبدع، من أجل إعادة النظر بين أطراف هذه
الحدود، والتساؤل عن إمكانياتها وعقباتها. تولَّد هكذا إشكاليةُ أن يوجد
الإنسان في العالم، عالم ما وراء الكلمات.
لا تزول ثقافة الانبناء إلى المغيوب، لكنها تدخل صراعَ منافسةٍ مع
اختراق ثقافة الانبناء إلى المجهول. فالرمز لم يعد يكفي، صار عليه أن
يجد المخرج من سدوده، إنه مُطالَب أن يتحول إلى دلالة. وقد أمكن، طيلة
عصور، التفكير بلغة الرموز وحدها، دونما أي قلق من السؤال عما تعني هذه
الرموز بالذات. كان الرمزُ عملتَه ودلالته ومرجعيته في آنٍ واحد. كانت كل
الحدود متواجدة في حيز واحد. حين يُستنفَد رمزٌ يُولَد آخر. وهكذا لا مهرب
من الأشباح التي يتم التعامل معها، كما لو كانت هي أشياءها النهائية.
إن كسر هذه الحلقة الرهيبة كان معناه وضعَ حدٍّ لاستبداد البدائل،
والمباشَرة باكتشافات لا تنتهي وراء سجوف الألفاظ. صار الرمز مدعاة
للإتيان بما يغايره لفظًا وموضوعًا؛ لذلك أصبح له اسم آخر، هو الدلالة.
وكلما تراكمت محاصيل الدلالات، كان يتعاظم شأن حيز آخر اسمه: العلم،
وصِنوه الحيز الفلسفي، أي: تلك المساحة الأخرى المحيطة بالعلم، تنتشر
حوله وتنشره.
غير أنه مع العلم لم ينتهِ سلطانُ التوسيط، بل على العكس، تأكدت جدواه
إلى الحد الذي كاد فيه العلم يتحد كليًّا مع التوسيط، فيما سيُدعى
بالتقنية. ولقد اختار لنفسه لفظ التكنولوجيا لكي يظل جامعًا للحد
المعرفي إلى جانب الحد التوسيطي. فالتكنولوجيا هي: معرفة التقنية، أي:
إن التوسيط أو التقنية لا ينحلُّ فحسب في الآلي، بل هو حيزُ تَمفصُلِ
المفاهيم والأشياء، بما يخدم دلالة الفهم من ناحية، وجدوى الصنع
والمصنوع من ناحية أخرى. صارت التكنولوجيا هي فن تحويل المجهول إلى
معلوم، إنها دائمًا في حال مناوشة للمجهول. لكنها سرعان ما تستبدل
المفاهيم، وكذلك الدلالات، بالآلات أو الخرائط الأداتية. تبرهن بذلك
على مقدراتها وخصبها اللامحدود في تقديم صورة مختلفة، من يوم إلى آخر،
عن الإنسان والعالم وعلاقتهما. احتكرت سؤال المجهول. قلَّصت مفهوم الدلالة
من ماذا إلى كيف. سؤال «لماذا» مرتبط بحوار البصر والبصيرة. سؤال «كيف»
مرتبط باليدين؛ ماذا أفهم، كيف أصنع؟ وعصر التكنولوجيا يريد أن يثبت أن
السؤالين متكاملان. لكن التكنولوجيا لم تعد تفصل بين التوسيط والغائية؛
فالسؤال عينه هو موضوع التهديد الأعظم، وكل شيء يفقد خصوصية شيئه وهو
يدخل تحت ستار تماثلية وتجانسية لا تسمح بالتعدد، بل بالأعداد
فحسب.
بالمقابل، حافظت ثقافة الانبناء للمغيوب على التوحيد أساسًا بين
التوسيط والغائية؛ إذ جعلت الملفوظَ هدفَ نفسِه. لم تترك بديلًا للغائب
غير نفسه يتكرر تحت كل ملفوظ، استمر العالم لغويًّا فحسب، في حين أن
ثقافة الانبناء للمجهول لم تستطع أن تحافظ طويلًا على كنزها الغني
بالسؤال؛ إذ سرعان ما أدى احتكارها من قِبَل التكنولوجيا إلى الانحصار في
صناعة الأجوبة التفصيلية التي يثيرها مخططُ تركيبٍ لآلة نافعة جديدة، مما
يؤدي إلى تراكم محاصيله ملء الأمكنة من كل النواحي وفي كل الساحات، حتى
حُكِم على أصل السؤال الكبير بما يشبه الصمت والمواربة، خشية أن يقع في
الثرثرة، أو أن يُتهم بإنتاجها، ويُخصَّص بها، أو تُخصَّص به.
إن التوسيط الذي ينقلب إلى غائية مطلقة في حد ذاتها، يصيب الثقافتين
هاتين بالمرض المتشابِه، ألا وهو تقهقُر السؤال من نصَّيهما كليهما،
فمصيرهما معًا إلى واحدية التماثل مع الذات، إلى الوضع الذاتي القمع،
بمعنى أنه لا يسمح بالمغايرة، سواء مع الذات أو الآخر.
لا يعني هذا أن أقنوم السؤال هو المعجزة المانعة لكل الشرور، بل هو
الخلل، أو بالأحرى هو الانزياح، المناط به الكشفُ عن «خلل» في العلاقة
بين المعرفي والكينوني، الذي يجعل مثلًا حضارة الانبناء للمغيوب لا
تنتج إلا السحري والعقيدي والديني والأيديولوجي، وجميعها كأنها أقنوم
واحد. ويجعل حضارة الانبناء للمجهول تنتهي إلى الانحصار في التقنين
وحده. كلا الثقافتين بالرغم من القطيعة المعرفية الحضارية الكبرى
بينهما، فإنهما تصلان إلى ذات السد المعيق الأخير، كلتاهما تقعان في تماثل
المعرفي مع نفسه، وضمور مُتنامٍ للكينوني؛ إذ يغدو المعرفي المقطوع عن
الكينوني هو معيار ذاته. وتدريجيًّا، ومع كبت السؤال عن الكينوني، يسير
المعرفي نحو المعياري، ويتقمَّص قوامَه نهائيًّا، بحيث تنتقل العبارة من
تواضع المعلومة، كمجرد معلومة، إلى ادعاء الحقيقة، تُحدِث الطفرة من
النهائي المحدود إلى الكلي، أي: هي النقلة مما يمكن قوله والتأشير عليه
والبرهنة عليه، إلى ما لا يمكن تلفُّظه إلا مصحوبًا بإلغاء إمكانية
وجوده، تجاوز صيرورته. هكذا تستقل «الخطابات» الناطقة باسم المعرفة، عن
المعرفي الأصلي، وتملأ وحدها ساحة التداول. يصير سؤال الخطاب خطابًا
آخر، وهكذا.
في ثقافة الانبناء للمغيوب، فإن الخطابات الناطقة باسمه تستعير هيبة
الغيب، لتصادر الاستفهامَ مسبقًا من سياق كل حوار، وتبثَّ البديل عنه
مقترنًا بطلب الخشوع والتسليم؛ ذلك أن خطاب المغيوب يقلب كل خصائص
موضوعه إلى أقصى الحدود، تلك التي لا تقول عنه شيئًا حين تصفه بالكلي،
باللانهائي. إنها تستعير القُصووية كذروة للمعيارية، لتجعل ما هو مستحيلٌ
وجودُه، برهانًا وحيدًا قاطعًا على إمكانية تصوُّره، أو وجوده. إن إلغاء
الكينوني من قوام معلومة أو عبارة، لا ينتقص من واقعيتها فقط، بل إنه
يساهم في منحها سلطةَ الفراغ من كل تعيين، أو على الأقل يجعل المتعاطي
معها يَنوس وعيُه في منطقة اللاحل واللاحسم. يقع في منزلة ضائعة بين
منزلتين موهومتين أصلًا.
كل ما يُحمَل على المغيوب يصير من طبيعته، من الصفات والأفعال، يستمد
من خفائه قوةً على استحضاره وبناء العلاقة معه. هكذا يقدم المغيوب نفسه
على أنه الآخر الكلي الحضور، الكلي القدرة، وكل من يلتجئ إلى عرينه،
ويتجول تحت عناوينه، فإنه يتقمص منه شيئًا من هذه الصفات. فالمغيوب
الكبير يحل مكانَه الحاضرُ الكبير، الذي يعلن تطابقه الأصلي معه. ومن بين
قطيع الأتباع يتقدم دائمًا صف من أدعياء النيابة عن المغيوب، إنهم
نوابه هم الحاضرون وحدهم. هم الوسائط بين نقطتين، بين ضفتين؛ إحداهما
موطن الغائب الكلي الحاضر الكلي، ذلك اللامتناهي الذي تتبدَّد عنده كل
الصفات مهما تواجدت؛ لأنه لا شيء يصفه أو يعيِّنه. أما الضفة الأخرى، فهي
موطن المتناهين المتنازلين عن تناهيهم، أو المتبرئين منه، والخائفين
منه؛ ولذلك فهم الملحَقون بالأبدي الذي يتجاوزهم، ويمنحهم خلاصهم من
دهريتهم ونقصهم، وخطيئتهم الأصلية في كونهم قد وُجدوا، لصدفة أو بصدفة.
يحسبون وجودهم الرَّخْص دليلَ زوالهم المحتوم، في حين يمكنه أن ينقلب كذلك
إلى سبيل وحيد لأبديتهم، لنقطة كثافة في دهريتهم، لو شاءوا.
تجيء هنا عبارة الدهر والدهرية، لتفتح كوة نحو تأويل آخر للعلاقة بين
المغيوب والمجهول. تلك العبارة العربية نحتَت أفهومًا مختلفًا لمسألة
الكينونة والزمن، يعطي للأبدية بُعدًا ممكنًا في صميم المحايثة؛ إذ يصبح
الدهر هو موطن المتناهي، بالرغم من لاتناهيه. إنه الزمن العالمي، أو هو
الزمن العالم، واللفظان ليسا متضايفين، ولا يسبق ولا يستوعب الواحدُ
الآخر، حتى إنك تستطيع أن تفكر اللامتناهي في سياق الدهر، الذي هو
الزمن/العالم، دون أن تفقد تناهيك؛ عكس الصوفي، يخرج من المحايثة ليفوز
باللامتناهي، لكنه يخسرهما معًا. في حين أنه يمكن للدهري أن يشد
اللامتناهي عينه ليكون صفة للعالم نفسه، من حيث إنه عالم قديم، كائن
دائمًا، ويكون في زمن محايث له، متداخل مع آناته؛ عالم موجود دائمًا في
ماضٍ، دائمًا في حاضر، دائمًا في مستقبل، ذلك هو العالم الدهري، أو
العالم الدهر، إنه يتجاوز ثنائية النموذج التفاضلي بين المتناهي
واللامتناهي. يصير اللامتناهي عينه هو من دهرية المتناهي.
الحدس اللغوي العربي يقدِّم «الدهر» كحلٍّ فوري، يتجاوز كل متعارضات
الأدبيات التقليدية حول المحايثة والمفارقة، التي قسَّمت الفلسفة
تقليديًّا، وذلك عبر هذا الإبداع الخاص الذي يرن به أفهوم مبتكر للزمن
تحت عبارة الدهر. كما لو كان الدهر هو حدث-العالم-المستمر؛ فكل حدث
جديد يقع-في-العالم لا بد أن يحمل أثرًا منه. والدهر ليس هو القدر،
ولكنه إشارة العلاقة بين المايحدث في العالم، وبين حدث العالم
عينه.
حسب هذا المنظور، ليس الغيبي إلا تجاوزًا للَّحظة الحدثية والعالم معًا،
إنه تجاوز نحو اللا-ما-يحدث في أي مكان أو زمان. فلا مناص، والحالة
هذه، من أن يرجع المغيوب إلى سياق المحايثة عينه، لتكون له وظيفة معينة
في استشفافه، حين ذاك يغدو نوعًا من الأداء اللاعقلاني الذي يقع دائمًا
على تخوم العقلي، كيما يذكِّره دائمًا بإمكانية الاختراق، ولذة «محبة»
المجهول، بالبحث عنه، ومعاودة استقصاء دروبه الغامضة. لا يعود المغيوب
تحريضًا للمجهول، ولا حرفًا لدروبه، بل غواية لدهرية العالم، دخولًا في-قِدَم-العالم. غير أن الوصول إلى هذه اللحظة، إلى دهرية العالم، سبَقَه
باستمرارٍ التعارضُ القاسي بين ثقافتَي الانبناء للمغيوب أو الانبناء
للمجهول. فقد تشبث المشروع الثقافي العربي بادعاء الانحياز المطلق إلى
الثقافة الثانية. ونحن رأينا دائمًا فصول تلك المناورة الفلسفية التي
اشتغل عليها العقل الغربي في استخدامه المتنوع والمحجوب دائمًا لأقنوم
اللامتناهي؛ إذ إنه في الوقت الذي يقيم دعائم الثنائية التفاضلية بين
المغيوب والمجهول، مذكِّرًا تاريخ الحضارة عند كل مفصل معرفي، بأهمية كشفه
لتلك الثنائية، فإنه لم يكن يؤسس حقًّا قطيعة معرفية بين حدَّيها. لم يكن
حاسمًا مع اللامتناهي لمصلحة نقيضه المتناهي، بل كان كلامه عن أحدهما
بمثابة الكلام عن الآخر، بمعنى أن ادعاءات التخلي عن القدسي، والتوغل
في فتوحات الدنيوية والعلمانية والفرويدية، لم تكن سوى تعلات
أيديولوجية غالبًا، من أجل استعادة المغيوب بكل طقسناته وأوامره
الإطلاقية، عبر عملية حضارية متمادية للاستحواذ على اللامتناهي، وتشغيله
كجاهزية معيارية، سوف تتدخل كحيز ثالث مسكوت عنه، في كل مفهوم، ما بين
حدَّيه؛ المعرفي والكينوني، عن طريق ما دعوناه بآلية الخَوصَنة، وهي جعل
إنجازات المعرفي بمثابة فتوحات استراتيجية، تبرر الاستيلاء على
الكينوني كشمولية لا محدودة، لصالح الأوَّالية المعرفية المحددة بتأريخية
معينة، عند كل فتح معرفي «تأريخي»، كأن يخيل للعقل الغربي، الذي يدعي
خصوصية إنجازه، أنه تملَّك من المعرفة إطلاقًا، ومن الكينونة إطلاقًا،
مما يتيح له تجديد استبداده القديم تحت أسماء المعرفة المستحدثة؛
فاللامتناهي لم يعد لاهوتيًّا متعاليًا، كما كان قبل الحداثة التقليدية،
لكنه صار بعدها كهانة أرضية، تجيز استتباع كل ما هو عام وشمولي للخاص
المتميز، الذي صار لا متناهيًا في خصوصيته.
مع الحداثة التقليدية تم إنزال المغيوب نهائيًّا إلى حيز المجهول
عينه، ولكن ليس كنقيض منافس، ولا كعنصر إغناء وتلوين، بل كاستراتيجية
تفرز تقنية متطورة للخوصنة، عند كل منعطف ثقافي عالمي، بحيث يتدخل
التوظيف المعياري بين المعرفي والكينوني، مانعًا لكل صلة فورية مباشرة
بينهما؛ فالمعرفي لا يفتح على الكينوني بطريقة معرفية، والكينوني لا
ينكشف للمعرفي بوجه كينوني نيِّر. تنقلب العلاقة إذن بين الحدَّين، من
التطابق التعجيزي إلى الاستخدام التبريري، لكلٍّ منهما للآخر. يغدو
المعرفي توسيطيًّا لكينوني لم يأتِ بطريقه الخاص. ويصير الكينوني
توسيطيًّا لمعرفي فاقد لذاتية شرطه. فالغيبي مسئول عن التباس هذه
العلاقة، ونقلها دائمًا من المستوى الأنطولوجي إلى المستوى المعياري،
بمعنى أن يتخذ أحد القطبين من الآخر وسيلةَ امتلاك أو موضوعَ
امتلاك.
بالطبع فإن المبادرة هي في يد المعرفي؛ إذ لا يمكننا أن نعلم كيف
يسلك الكينوني دون أن نشرع في الفهم والتحليل، بما يقدمه لنا المعرفي
من مادة وأسئلة عن ذات النفس، وعن الآخر مقابله. في حيز المعرفي عينه،
يتم الكشف الهيدغري عن منطق للمفكر به، ومنطقة أخرى للامفكر به. ولا
يتحقق مثلُ هذا التقسيم إلا إذا كان حيزُ المعرفي يتصف بتخوم متحركة، غير
كثيفة وكتيمة، وقابلة للاستشفاف؛ لأن منطقة اللامفكر تعطي إمكانية
الانزياح، تسمح بانبثاقة السؤال الذي بدونه لا حياة للمعرفي، ولا
جاذبية وجودية له. فالمعرفي عندما يُمَفهِم موضوعًا ما — عندما يعيد نسيجه
كمفاهيم متعلقة ببعضها — يزعم أنه ينجح في تقديم مشهدية لا تتوقف على
قدرته المنطقية أو التعقيلية فحسب، بل هي صالحة لإشادة أقنومها الخاص،
حتى بمعزل عن كل جهد المعرفي نفسه. بقدر ما يكون الجهد المعرفي سليمًا
معافًى من التخالط مع المغيوب ومناوراته، فإنه يرشح نفسه للعب دور
الكشاف. يتخذ الموقف الصحيح في موقع السؤال الصريح. عند ذلك يقع
المعرفي كسؤال مشروع، وانتظارٍ لجواب ممكن، في حيز المفكَّر/اللامفكَّر به
في آن. إلا أن ما يحْرف سلامة هذه العملية كلها، هو تقهقر المعرفي من
دور الكاشف، إلى دور المبرر؛ ينزاح من موقع داخلي في حيز مما نسميه
براءة السؤال، إلى موقع ثالث بين المعرفي الأصلي والكينوني، ومسكوت
عنه دائمًا نصفه بالإرادوي؛ لأنه يدعي تملك المستوى الأعلى من المعرفي
الذي هو الحقيقة، بالحرف الكبير، وهو الذي يتيح له في الوقت نفسه
التملك، أو المشاركة في التملك على الأقل من أشمل صيغة تصورية
للكينوني، ألا وهي المطلق واللامتناهي. ذلك هو الفارق
المفهومي/الأفهومي، الشاسع حقًّا، بين الموقفين:
الأول: موقف المعرفي كسؤال في حال كشف ومكاشفة مع الكينوني، كمنطقة
للامفكَّر به بعدُ. والثاني: موقف «شبه» المعرفي كجواب حاسم له ادعاء
الحقيقة، وهو في حال مناورة قصوى مع الكينوني، تحاصره فحسب في منطقة
المفكَّر به كمعادل لا مُتناهٍ له. تقتنصه مدرَجًا في اصطفاف استعراضي من
خصائصه، المدعوة كذلك، لكنها في الواقع هي مجرد «شائعاته» المتداولة
عنه. إنه شبه المعرفي، ذلك الذي يقمع السؤال، ويدعي الجواب. ويقسر
الكينونة على تحمل مسئوليته الكاملة، تحت صخب تسميته باسمها، دون علم
منها أو صلة بها مشروعة، أي: قابلة للعقلنة.
شبه المعرفي يحترف لعبة «المصادرة على المطلوب»؛ تارة يستخدم مصادرة
الكينوني كشائعة باسم الحقيقة المطلقة. تارة يصادر
← شائعة الحقيقة المطلقة، باسم
الكينوني الذي اختُزل إلى صيغة اللامتناهي.
آلية المصادرة أو الاغتصاب المتبادلة بين شبه المعرفي وشبه الكينوني،
تحتل ساحة التعامل بين المفردات العائدة لكلا هذين الأقنومين في تاريخ
الأغاليط الحضارية الكبرى؛ فليس كلٌّ من تعبيرَي الانبناء للمغيوب
والانبناء للمجهول، سوى طريقتين لمقاربة هذه الآلية، وفق تناوبات توصف
بالمعرفية، ويُطلَق عليها مصطلح التحقيب المعرفي، خلف المنعطفات
التاريخية، لتفسير ما تبدِّده من محاصيل لمواسم فكرية هرمة مُعَدة للزوال،
وما تأتي به من مواسم أخرى توشك على التفتح والازدهار.
ومن الواضح أن المشروع الثقافي الغربي قد تمسك بادعاء، هو في قمة
مناورة «الخوصنة»، أنه قَطَع مع المغيوب، وأشاد فقط محكمة المجهول. صار
يقتطع من المجهول كل يوم كمية من «المعارف» التي تتحول إلى آلات. أصبح
تحدي المجهول عنده لا سبيل إلى الرد عليه إلا باقتناص صفحة منه،
وتحويلها إلى موسوعة «المعلوم» وحده. لكن المعلوم هذا، توقَّف كليًّا في
نهاية المطاف عند حالة التقنية، حتى أصبح أعلى ما يمكن أن يتطلع إليه
السؤالُ المعرفي، أن يصير فتحًا رائدًا في علم التقنية (التكنولوجيا)،
متطوعًا بإلغاء ذاته في حدودها.
إنها النقلة، ما بين العقل والعالم، من التوسيط اللغوي أو الترميز
الكلامي، إلى التوسيط التقني، تضع حدًّا فاصلًا للعبة المغيوب والمجهول.
لكن، أليست هذه النقلة عينها هي ذروة المناورة (الميتافيزيقا) التي
تستغل فعالية المغيوب دون أن تلغيه، داخل تاريخ الأفكار، منذ أن شرع عقل
إنسان في وعي استقلاله؟
ليس المغيوب إذن مجرد حقبة معرفية. إنه متدخِّل فعال في كل حقبة، حتى
تلك التي تدعي نقيضه، أو حين تأتي بما يتجاوزه. إنه ناشر دائمًا لأعظم
ألوية الإغراء اللامتناهي؛ إذ ليس الإنسان كعقل طامحًا فحسب إلى معانقة
اللامتناهي، بل هو الإنسان كأقنوم جسدي حيوي، مُشبَّك بالرغبة اللامحدودة.
فليس اللامتناهي، في حد ذاته، سلبية كاملة إلا عندما يدعي المغيوب
اختصاره. كان الخصم الحقيقي للامتناهي هو المغيوب، كلما كان يتجاوز
سؤال البحث عن المجهول في وساعته المطلقة، ويقدِّم بدائل أنظمة معرفية
واحدية عنه، لن تكون في النتيجة سوى خطابات متكاثرة تدور حول أقنوم
واحد، مما يدمر تمامًا أفهوم اللامتناهي. هذا ما نعني به عملية الخَوصَنة
التي يقوم بها خطاب «معرفي» معين، مدعيًا وحده بيانَ الكينونة. فحين لا
تصح العلاقة بين المعرفي والكينوني إلا على ذات المستوى الأنطولوجي،
فإن الانحراف نحو أي شكل من المعيارية، ينقل استراتيجية الخطاب من
عملية إنتاج المعرفة، من «البيان» إلى براعة المناورة. لذلك اتُّهم
الخطابُ خلال تاريخ الفكر في معظم حقباته تقريبًا، بكونه هو عملة
المناورة؛ لأنه قلما أُتيحَ له أن يقع على ذات المستوى من الجوهر الذي
يدعيه من المعرفي الكينوني، فليس من الإسراف اعتبار تاريخ الأفكار —
خاصة في نوع المشروع الثقافي الغربي الذي يدعي، بل يعترف — أنه تاريخ
خطابات معرفية، أي إنه كان تاريخ المناورة، لكن مولد النقد يحاول كسر
هذه الحلقة المعدنية أخيرًا.
مع النقد صار لا بد — عند كل منعطف حضاري — من إعادة إثبات عالم
الأشياء مقابل عالم التصورات، المدعوة الأفكار تجوزًا، وذلك بمراجعة
صارمة جذرية لاستراتيجية العلاقات القائمة بينهما سابقًا، والكشف
عن بُعد جديد، يُسمى قطيعة فكرية أو ثورة عقلانية وحتى سياسية. فالمتدخل
الرئيسي بين الفكرة والشيء ليست العبارة وحدها، بل هي الاستراتيجية
الخفية التي تصوغ نسق العبارة، تتحرك حسب دوافعها ومخططها. أما ما هي
هذه الاستراتيجية، ومن يضعها، فهو سؤال مزدوج، يتطلب الاكتشاف الكبير
الذي أنجزته الحداثة البَعدية، الثائرة على تراثها السابق. وذلك عندما
ضاعفت سؤال العقل للشيء، بسؤاله عن ذاته في الآن عينه، فلا يأتي الشيء
إلى العقل إلا ومعه نظامه الذي يجعله ذلك الشيء وليس سواه. إنه كشف
قديم ولا ريب، ومع ذلك فإن الجديد فيه يتمثل في الأهمية الأولوية
المعطاة لمواقعية كلٍّ من المعرفي والكينوني، بالنسبة لاصطفافهما في تواجه
متبادل في فرديته، قلق في موازنته مع الآخر، لكنهما حادثان دائمًا
يُبَنيِنان مسطحات من المحايثة، متناهية كمسطحات، إنها مختلفة متنوعة في
أشكالها ومشاهدها اللامحدودة، مترامية العدد إلى أطراف غير مرئية. أما
تلك المحايثة عينُها فهي متميكنة في أرض العالم، ومشاركة في تحليقه ما فوق ذاته،
في آنٍ معًا. تلك هي دهريته المتزامنة مع حدثية تاريخانيته
المتجددة.
إذا كانت استراتيجية العقل هي الفهم، فإن هناك استراتيجية أخرى تبطِّن
الأولى، تقوم ربما على أهم سؤال في ثقافة المعرفي، وهو كيفية فهم
الفهم. لكن هذه الكيفية ستكون محل تلك الاستراتيجية الثانية، إنها محل
المناورة، الحاجب لتاريخانيتها. فإذا كان سؤال فهم الفهم بريئًا تمامًا
يهدف إلى ممانعة المعرفي ضد كل انخداع ذاتي، إلا أنه يبقى هناك مع ذلك
مجال رحب كبير لتعطيل طريقة الاتصال بين حيز فهم الفهم، وحيز استخدام
الفهم نفسه كوسيلة ذكية تُخرج موضوع المعرفة من نطاقها الكينوني أو
الأنطولوجي؛ وهنا تبرز أوالية المغيوب في استخدامه لجاذبية اللامتناهي
كمصيدة للمتناهيات نفسها، كيما تخرج من ماهياتها الأصلية، وتلقي نفسها في
فراغ المغيوب، وكأنها تعانق اللامتناهي. إنها تقبل بإخراج نفسها من
دهرية العالم لتبحث عما وراء العالم نفسه. في هذه الأوالية
(الإسكاتولوجية) يصير للمغيوب اسم آخر قابل للتداول ليس العادي فحسب،
بل الهذياني أحيانًا أو المفارق، إنه اسم المقدس.
إنه إحدى مناورات المغيوب الكبرى التي لا تزال تشغل الإنسانية. إذ
ينتقل المغيوب هكذا دفعة واحدة من تجريد اللامتناهي إلى صميم المحايثة
تحت اسم المقدس. فجأة تجد اللغةُ نفسها موزعةً بين منطقتين، وكلٌّ منهما
تستقطب طائفة من المفردات، تمارس تعارضًا رهيبًا مع الأخرى. فجأة تقبل
اللغة الواحدة أن توزع أبناءها بين تصنيف للمقدس، وآخر للعادي، أو
للمدنَّس؛ هكذا لا تتبقى للرموز اللغوية ثمة حيادية ما؛ إذ تصبح أدواتٍ
حركيةً تتحالف أو تتعارض فيما بينها، تبني من نفسها جبهات وتشيد قلاعًا،
وتقيم متاريس من القبول والرفض، من الحرام والحلال، من المساس أو عدم
المساس. تنجرُّ الثقافات والشعوب وراء حروب الكلمات. يغدو المغيوب أشد
الحاضرين حضورًا؛ لأنه مرجع مراجع التصنيف كلها، حتى إن كل قطيعة
معرفية مع المقدس سوف تعيد إنتاج ديانته وطقوسه الأصلية تحت عبارات
أخرى؛ تختلف العبارات (والحضارات)، والمغيوب واحد.
لم يكن ثمة مهرب من حلقة: اللامتناهي ← المغيوب
← المقدس؛ إلا بإعادة عزل هذه
المفردات عن بعضها. ويدعي المشروع الثقافي الغربي أنه وحده، من بين
ثقافات الإنسانية، قد أنجز عمليات العزل هذه. ولعل لحظة الحداثة
البَعدية التي تتوِّج هذا المشروع، هي التي أناطت بنفسها تأسيسَ ثقافة
العزل. لكن دون أن يصل ذلك إلى صميم بنية المشروع الثقافي الغربي عينه.
هذا «الصميم» ما زال محتفظًا بحِرز أسراره الأخيرة، لم يسلِّم بعدُ بكل ما
أنتجته قطيعاتُ فهم الفهم في سياق تاريخانيته، ما دام يتشبث بثقافة
المناورة؛ إذ تحيل معظمَ لحظاتِ هذه القطيعات إلى أوقات هامشية تقع خارج
إيقاعها الخاص السري، لكنها تفيد في إعادة تدوير اللعبة القديمة
إياها.
لا يكفي إذن أن يبلغ الوعيُ الإنساني المرتبةَ التي تغدو فيها مسألةُ فهم الفهم كأنها
أعلى حالة تعقيلية للعقل نفسه؛ إذ يتبقَّى ثمة فارقٌ مساحي بين الفهم،
وفهم الفهم. هذا الفارق المساحي هو ملعب حقيقي لذكاء المناورة. وبذلك يظل
للحداثة نضالها المتجدد دائمًا، في تعرية أحدث ابتكارات هذا الذكاء
العملي. فهل يمكن القول إن «المدنية» توصلت أخيرًا إلى تغليب ما يُسمَّى
بالتداولية التجريبية على مملكة المعرفي الأنطولوجي؟ ليس تمامًا؛ ذلك أن التداولية تحتاج إلى أعلى خصائص العقل
النظرية المتمثلة في الفهم، كما تحتاج إلى أهم خصائصه العملية المتمثلة
في الذكاء. فالتداولية هي شبكة معقدة من قدرات الفهم ومناورات الذكاء.
ولعل اجتماع هاتين الملكتين فحسب، بدون بقية ما يؤسِّس الجوهر العقلي
الخالص في السؤال الأنطولوجي، هو ما كان يقلب العقل إلى مجرد مذهب في
العقلانوية، يحوِّله إلى أيديولوجيا علوية صامتة، تنفر من التعيين، لتبقى
بدون اسم، بحيث تختصُّ، تستبد بقدرة استثنائية على تفريغ واستبدال كل
أيديولوجيا حدثية مرحلية بأخرى من مثيلاتها، وإن تغيرت الأسماء
فقط.
إن طغيان الجانب الاستراتيجي (الذكائي) على الممارسة العقلية هو
المنتج للمذهبية، باعتبارها شكلًا انتقائيًّا لكيفية معينة في فهم
الفهم، وهنا فالاستراتيجية تتقدم على النظرية؛ إذ يصبح الهدف «المديني»
الاحتفالي المعلن هو تغذية العلاقة: المعرفي/الكينوني، ولكن بشرط نقل
تلك العلاقة من المستوى الأنطولوجي، إلى المستوى الامتلاكي، من
Être إلى
Avoir؛ هكذا تدعي البراغماتية
(الرسمية) أنها فن المناورة على المعرفي، وعلى الكينوني معًا، بحيث
تُخرجهما دائمًا من علاقة الفورية والمباشرية بينهما إلى أوالية الحد
الذي يستخدم الآخر، يوظفه لشئون أخرى براغماتية، لا تتعلق لا بالمعرفي
ولا بالكينوني في آن واحد.
ذلك أن الأقنوم: المعرفي الكينوني، هو الثنائية الوحيدة المختلفة
التي تتمرد على النموذج (البراديغم) التفاضلي للثنائية المتداولة،
المتحكم في مجمل تاريخ الأفكار والعقائد. هو الثنائية اللاغية
للمعيارية (التفاضلية performative)
المسكوت عنها بين حدَّيها، بحيث تعيد تسلل المغيوب عينه إلى مركزيته
الأصلية، النائية عن صميم المحايثة. قد تُلغي المغيوب أو بالأحرى تمنع
تسربه عبر أي خلل يحدثه انهيار العلاقة الفورية إلى عكسها، أي: إلى
العلاقة «الاغترابية»، بين المعرفي والكينوني، الناجمة هي نفسها عن
إضمار حد ثالث، دخيل على الأقنوم، ولا يعيِّنه أيٌّ من حدَّيه: المعرفي أو
الكينوني؛ إذ تغدو ثنائية أقرب إلى الواحد؛ لأنها لم تعد تخفي ثالثًا
مرفوعًا غير مصرح به، ولكنه متحكم في طريقة بناء الأقنوم، وأساليب
التعامل معه. لذلك يصحُّ تعبير «المايحدث»، ليشفَّ عن حقيقة الاندغام
القائم في صلب الأقنوم المعرفي الكينوني، وقد يخلِّصنا من مصطلح
الثنائية كليًّا. فالمايحدث يعبِّر عن الاختيار الفلسفي الذي يقع على حدث
ما، بإدخال «اﻟ» التعريف عليه، ينتزعه الاختيار الفلسفي من فوضى المعيوش
اليومي، من هيولى التداولية السائلة كوقائع ودلالات يختارها من عامية
الترميزات الجزئية، وتصنيفات الحس المباشر، والتوظيفات الاستعمالية
التي تغصُّ بها مشهدياتُ الحياة الفردية والجمعانية. المايحدث «يجمِّع»
المعرفي، يكثِّفه في «اﻟ» التعريف، ويطلق بقية اللفظ ليترمَّز كينونيًّا. لا
يعود المشهد اصطفافيًّا هكذا بين المعرفي والكينوني. لا تعود العين تقع
على لفظين متجاورين، ويظلان منفصلين مهما أُتبِعا بأوصاف الاندغام
والتلاحم بين الحدين. المايحدث هو الالتقاط الفلسفي لحدث ما، وتحويل
تلك «الما» من نهاية العبارة إلى مبتدئها: المايحدث، مما يُضفي مباشرية
تعريفية، تنقل الحادثة من العماء إلى حال الإبراز والبروز. يغدو البروز
نتاج عامل إرادوي أو قصدي، ونابع من جسد العبارة نفسها. وهنا تتجلى
خاصيةُ الأقنوم الأصلي، بحيث لا ينضاف المعرفي خارجيًّا إلى الكينوني،
كما أن الكينوني لا ينتظر المعرفي كيما يعيد طرحه معرفيًّا؛ ذلك أن
عبارة: الطرح المعرفي للكينوني، تسلبه عامل خصوصيته باعتباره مبدئيًّا
هو الكينوني عينه، وإن كان الطريقُ الوحيد إليه هو المعرفة دائمًا،
الآتية عليه من خارجه.
المايحدث لا يضفي من جهة أخرى الطابعَ الحركي على الكينوني، لا يجعله
يحدث، بل يدعه هو مُحدِث ذاته، ولكن ليس على طريقة الحدوث الذاتي للجوهر
الإلهي، كما في إشراقية ابن سينا والفارابي، بل إن المعنيَّ بالكلام هنا
ليس أي جوهر يوحي بالمفارقة أو التفرد، بل هو كل شيء يجيء ومعه نظامه
المعرفي. ذاك ما يتميز به الاختيار الفلسفي، لكنه تمييز لا يدخل لعبة
المفاضلة؛ إذ إنه يقوم أصلًا على مبدأ: تركُ الشيء يعرض شيئَه. فالمشهدية
التي يحققها هذا العرض لا تقبل أية معيارية من خارج ما تُمشْهِده فعلًا.
وكل رهانها هو رؤيتها النقية. مقياسها الوحيد: المزيد من رؤية المنير.
وهو ما عنينا به سابقًا من أفهوم: تنوير المنير؛ إذا لم يمكن للشيء أن
يتحول، هو عينه، إلى مشهديته، فليس ثمة مصدر آخر يمكن أن ينيره من
خارجه. ما يضفيه الاختيار الفلسفي هو ذاك التنوير الذي يحول المنير-في-ذاته، إلى منير-ﻟ-ذاته.
بحيث يمكن للقول الفلسفي أن يعلن عن
تشكُّله ضمن عبارة المايحدث. ويمكن لهذا القول أن يسمي نفسه
أفهومًا؛ لأنه لا يبرح مرحلة الحدوث. هو القول الدائب التشكُّل. وإذا ما
توقف القول عما يقوله، إذا اكتمل التشكيل، انتفى الحدوث، وتم اختزال
العملية بتمامها، بتقهقر الأفهوم مجددًا إلى مفهوم.
مثلًا، إن كل نظرية رياضية تقدم عائلة من المفاهيم تتميز بصلاحتها
المنطقية المرتبطة بالمسلَّمات التي يقوم عليها كيان النظرية عينها. لكن
إبداع النظرية هو حدث معرفي يتخطى حدود الرياضي عينه؛ إذ يظل مثارَ
اكتشاف لأفاهيم تطرح أسئلة حول لحظة العلم الرياضي من الأفق العلمي
الشامل، والانعكاسات الثقافية المؤثرة فيه والمتأثرة به، وهو ما يُسمَّى
بالتحيين الثقافي، وتَمَفصُله مع لحظة إبداع النظرية. فالأفهوم لا يُختزل
بقانون، لكنه يقع على حدود مفهوم القانون نفسه وصلاحته. إنه أكثر من
امتداد إبستمولوجي تقليدي حوله؛ إذ يطرح ما يعنيه الرياضي عينه، بل
العلمي الشامل، بل التغيير الذي تحدثه النظرية الجديدة في تَمَفصُل
التكنولوجيا مع تاريخها الخاص، وتاريخ اللامفكَّر به بعد. يكفي التذكر
فحسب أن نظرية «لو باتشوفسكي» الهندسية حول المكان اللاإقليدي مهَّدت لكل
فيزياء الفضاء. كذلك فإن حادثة الفن التكعيبي دشَّنت إبداع الحداثة
البَعدية بكل ثوراتها المستقبلية في مفاهيم الإستطيقا، فلا يمكن حصرها
بنحت «المفاهيم» التي اعتمدتها التكعيبية؛ فإن أفاهيم هذا الحدث لا
تنقضي بمجرد تحديد موقعته التأريخية، وحتى المعرفية؛ إذ إن الأفاهيم هي
التي لا تقبل بتدوين منغلق أو منكسر، بل عند كل نص جديد يفتح على فن
الحداثة البعدية، لا بد أن يُشرع في تدوين مختلف. فالأفهوم تشكيل دلالي
لا يتم. ولهذا فهو وحده يصلح لالتقاط مفردة المايحدث، دون خدشها أو
تخثيرها. والأفهوم كذلك دلالة لا تتم، وتحتاج دائمًا إلى ارتباطها أو
التصاقها بضمير المتكلم الذي ينطق بها أو ينسجها. إنها عبارة مفتوحة،
محتاجة دائمًا إلى ضمير المتكلم الذي ينطق بها، ويعدِّل مما ينطق إلى
درجة النكوص والارتداد حتى درجة الصمت أو إطلاق الرمز فحسب.
نحو استراتيجية تدوين مختلف
مع سيادة ثقافة الشكل والشكلانية وبلوغها أفضلَ تجلياتها، بعد
انهيار الذاتوية التمركزية في الفكر، كما في الاستراتيجية الحضارية
الراهنة، لم يعد يمكن تناول مفرداتها حسب اصطلاح المفاهيم
تقليديًّا، فقد يكون للشكل تحديدٌ مفهومي في القاموس، لكنه من خلال
إنتاج ثقافة الشكل المتعددة المسارات والاتجاهات في النص المعاصر،
فقد سادت لغة الأفاهيم بدل المفاهيم، لتغطية تلك التعدديات الخصبة.
هنالك شكل مختلف دائمًا، سواء في النظرة النقدية أو في العمل
المبدَع. ولا يقبل مجرد التطبيق الآلي عليه من قبل عطاءات نظرية
ثابتة، تدَّعي مَفهَمةً نهائيةً للشكل. والأمر كذلك بالنسبة لدلالة
الاختلاف. فلسفة الاختلاف تعجز عن تعريف نفسها. إنها مضطرة دائمًا
إلى تقديم «العمل المختلف» قبل التحدث عن مفهومه، أو بالأحرى
أفهومه. ومنذ القديم كان الإبداع يستبق نظريته، لكن عندما وصلت
الفلسفة إلى حد القبول بأن تقترن لفظتها نفسها بالاختلاف، وتشيع
عبارة: فلسفة الاختلاف؛ فإنه لم يعد يمكنها أن تستخدم جاهزيتها
السابقة من أساليب الفكر في المنطق التقليدي، كما أن مفرداتها
أصابها التخلخل. وغدا من المستحيل فصل المنهجية، أية منهجية، عما
كان يُسمَّى بممارساتها التطبيقية. أصبح ممكنًا الحديثُ عن الخيار
الفلسفي، عن خيارات فلسفية، لكي يتحرر التدوين الحداثوي من ضرورات
المَفهَمة الكلاسيكية وقواعدها. صار ينبع ويتدفق ويتلوى النص من
كلماته وعباراته بالذات. يجيء اختلافه ومعه نظامه الاختلافي، الخاص
به وحده.
إن تجربة دريدا مع التفكيك تُعتبر نموذجًا في هذا الصدد. فقد كان
دائمًا، وفي كل نص بعد نص، يصير التفكيك هو موضوع النص، وليس
منهجه؛ ولذلك فإن الدارس أو الناقد لن يستطيع أن يقدم تعريفًا أو
بحثًا مغلقًا حول تفكيك دريدا، إلا إذا أتانا بنصوص كاملة، وتكون
موازية لمختلف نصوص الفيلسوف. إن دولوز عندما كان يصدر دراسة بعد
كل كتاب جديد ﻟ «فوكو»، لم يكن يقدم تحليلًا ولا نقدًا، لكنه كان يقدم
نصًّا موازيًا. قد يزخر بالتصادي بينه وبين المتن الأصلي، لكنه لن
يكون مجرد صدًى له. فلم يكن فوكو ملزمًا أن يرى في كتابة زميله عنه
نقدًا أو شرحًا، ولا حتى تناصًّا على نصه. كان يعتبرها كتابة ﻟ «دولوز» فحسب، لا
تطالبه بالرفض أو القبول، أو تدفعه للرد. ولعله على
الأكثر كان يرى فيها تنويعًا قد ينطلق من بعض المصطلح أو النتوءات
لدى نصه الأصلي، ثم لا يلبث هذا التنويع حتى ينخرط في عرض مصطلحه
الخاص، ونتوئه البارز من جسده النحوي بالذات.
ها هنا صار للبرهنة معنًى آخر؛ لم تعد تُلزِم نفسها بتقديم حقائق، لها
خصائص القانون الرياضي أو الفيزيائي. فالخيار الفلسفي هو أسلوب في
الوصف. يصف الفكرة ولا يحكم عليها ضدها أو معها، لا يتعدى عليها.
والوصف لا تحدده مقدمات أو نتائج، بل هو رؤية حرة لفكرة لم تعد
ماهية أو جوهرًا، ولكنها أشبه بمشهد مليء بأشيائه الخاصة وتفاصيلها
وعلاقاتها، أو أنوارها وظلالها. وكل خيار فلسفي يستطيع أن يحرر/يطلق رؤيته من نقطة ما،
ليكشف دروبًا خاصة بها وسط المشهد الذي
تحول إلى غارِ نفسِه، فاتحٍ على مجهوله الفريد، فما يعرضه الوصف ليس
سوى دلالات أخرى. والخيار الفلسفي حين يمارس رؤيته للفكرة/المشهد،
فإنه يقدم مشهديته الخاصة به. ليس ذلك عودة للذاتية، بالعكس؛ فحين
يكون الموضوع هو الخيار، لا بد أن يقع إذن على ما يغايره؛ لذلك
قلنا إن الخيار الحداثوي الفلسفي هو رؤية، تحوِّل الفكرة إلى مشهد
ذاتها. والرؤية ترى، أي: تقع على مسافة من موضوعها، وإلا وقعت على
فراغ. لكن الخيار الفلسفي لا يتناول معطيات، كما العلم الفيزيائي
مثلًا، بل يُمَشهِد الأفكار. والمَشهَدة ليست بلاستيكية، ليست لوحة أو
تمثالًا، إنها أقرب إلى مشهدة موسيقية، لا تجعل العين ترى تمامًا
بقدر ما تلمح مجرد إلماح، والإلماح يشبه سماع اللحن؛ لأنه مضطر أن
يصير معه صيرورته، أن يتبع مساره، أن يكون زمانيًّا، لا يتمكن من
القبض على شيء خلال السمع. فالمشهد مخطوف قبليًّا، كما اللحن سريع
التصويت، وزواله في آنٍ. لا تقبض العين في المشهدية الفلسفية على
أبنية قائمة أو وجوه مكتملة. إنه المنظر الموسيقي، المنساب،
المنقضي، كالصوت؛ لذلك فهو مخطوف ما إن يبرز. والأفضلُ القولُ هو: إن
العين لا تقرأ النص الفلسفي، لكنها تتخطف بعض ملامحه التي لا تظل
هي كذلك، مهما كانت العبارة الفلسفية محددة الدلالة، فإنها لا يمكن
أن تنقلب إلى قاعدة أو قانون. والفيلسوف ليس قائل «الحقائق»، لكنه
مبشِّر بالفكر اللماح.
حتى عندما كان السقراطيون منشغلين حقًّا بالحوار حول شروط
الحقيقة، فلم يكونوا مهملين تمامًا كلَّ التراث الذي سبقهم؛ فقد صار
مصطلحًا فنيًّا تقريبًا: «ما قبل السقراطيين»، ما كان باستطاعتهم
خاصة أن يتناسوا التعليم الديونزيوسي. كان همهم إيجاد العلاقة
المرنة السوية التي تلائم ما بين المعرفي والكينوني. ومن الظلم
اتهام أفلاطون أنه دشن اختلال المعادلة بينهما لصالح الأول وعلى
حساب الثاني؛ وذلك لأنه كان سقراطيًّا أكثر منه أفلاطونيًّا، أي:
جانحًا للمعرفي الأبولوني أكثر منه نحو الأنطولوجي أو الكينوني،
ذلك الجانب الذي كان الأقرب إلى شخصيته كمحب-للمعرفة، وليس مجرد
ناقل لها فحسب. يكفي أن «المأدبة» بعد شوارع أثينا كانت المحل
النموذجي لتسجيل لقاء الفكر مع الحب: «وجه الآخر»، والخمر: الفلسفي
لم ينشأ كتابة بل حوارًا. الآخر نرفضه أو نقبله، لكنه هو القطب
الذي يجعل محادثة العقل مع نفسه، تصير محادثة مع العالم. يفكر سقراط وهو يمشي، والآخرون
إلى
جانبه وحوله دائمًا. الفكر وحدة، وليس عزلة؛ أن يكون سقراط ذاتَه،
فلا يعني هذا إلا أن يكون بين الجميع ليعترف له الجميع بأن
وحدته ليست عزلة، ولكنها فرادته الخاصة بين الجميع.
لم يحدث أن تم الادعاء بقول الحقيقة، والتملك من الحقيقة، وكتابة
أو نزول نصوص الحقيقة إلا عندما انقضى العهد الإغريقي والجاهلي
كليًّا منه، وانقضى معه العصر الذهبي للفكر اللماح. لم يعد «الفكر»
مترحلًا بين المشهديات، فقد أمسى هو نفسه مشهدًا مؤطرًا، منظرًا
هندسيًّا. يدعي انعكاس كون هندسي كله من حوله أو فوقه. وقد يكون مثل
هذا الفكر إسقاطًا طفوليًّا، تعرفه الحضارات في فجرها، أو في أفول
لحظة الفجر، كما يريد أن يقول نيتشه؛ ذلك أن الأمر هو كيف يمكن
الحفاظ على لحظة الفجر الأولى، حتى عندما يشارف الانقضاء. كيف يمكن
للفكر أن يظل نهضويًّا هنا، في الهزيع الأخير من نضج المدنية
وسقوطها. فالفَجرية ليست وقتًا توقيتيًّا، ليست آنيَّة، إنها من أفهوم
تلك الصيرورة التي لا تحصرها حقبة. وهي من أفهوم تلك الصيرورة، التي
من مهمتها كشفُ «الصيرورات» الأخرى ملء أزمنة الذات والآخر. من هذا
الموقف الذي يشكل أحد أعماق الفكر النيتشوي، وإن لم يدرِ به صاحبه
تمامًا، يمكن الاعتراض على غلبة التوالي التحقيبي في أفهوم
الصيرورة، الذي يوحي به استخدامٌ أيديولوجي للرمزين: الدينوزوسي
والأبولوني، كإيقاعين متعارضين، ولكن متواليين لمسيرة الثقافة
الإغريقية. صحيح أن المدرسة المشائية محكومة بمقولات أبولونية، ليس
لأنها فحسب جاءت آفلة، وفي أفول تلك الثقافة، بل لأن الأبولونية لم
تستطع أن تمنع إيقاع الدينوزوسية من أن يتلامح في تضاعيف الديالكتيك
الأفلاطوني نفسه، وذلك كما يلي: كأن هذا الديالكتيك «الأفلاطوني»،
قد اضطُر للجوء إلى المعيارية، خشيةً من انغلاق المعرفة الكهفية، كما
لو كانت هي المعلومة، وهي مقياسها في آنٍ، فكان لا بد من التذكير
بإمكانية اختراق المعرفة الكهفية، قبل أن تشكل دارة مغلقة على
نفسها، فالمفاضلة مطلوبة بين المعطَى المباشر، وما ليس بمعطًى. ولكن
المضاهاة لا تفرض المفاضلة. هناك منطقة أخرى تتخطى الحواس
المستعبدة من قبل أشباح الكهف، المأسورة فيه. كان أفلاطون يجتهد
كيما لا يضيع الأنطولوجي تحت طبقة من الأوهام. كان يريد أن يقول إن
اللامعرفي لا يمكنه أن يمد جسرًا نحو الكينوني. كانت خشية العدم
تبدِّد المخيلة وتوحِّدها أحيانًا، لدى المشائين جميعًا، بالوهم، ضدًّا
على الشعبوية التي مارسها السفسطائيون، والخفة التي كانوا يعالجون
بها أعلى قضايا الفكر الإنساني. هناك إذن خوف من ضياع الكينوني،
وهو خوف مشروع، وينتاب كل مثقف حر نزيه إزاء بضائع السوق الفكروية
المبذولة في عصره.
فالهم الفلسفي لدى المشائين، منذ ثورة أستاذهم الفريد سقراط، كان
وجوديًّا منفتحًا بمشروعية فريدة أخلاقيًّا كذلك، على الكينونة.
والمعرفي في هذا الهم صار عقلانيًّا خالصًا لشدة الشغف بالكينوني
نفسه. فلم يخطر ببال سقراط، ولا بذهن أفلاطون تلميذه الأمين، أن
يحتكر المعرفيُّ الخالص كلَّ المعاناة الوجودية، ولا أن تتطور الفلسفة
كمحبة للمعرفة philo-sofia، إلى
مجرد معرفة، ثم «المعرفة»، ثم «الحقيقة»، تحت اسمها ذاك صارت مصطلحًا
جافًّا، كفلسفة فحسب، أي: كعقل دون حب.
حب المعرفة هو الحيز الوحيد الذي تجلس فيه الكينونة. وما إن
ينفصم الحيز نفسه بين جناحَي العبارة حتى يرتجَّ الكينوني، يتبدَّد. ومع
ذلك، لا يمكن القول إن الأفلاطونية لم تكن توقيتًا تأريخيًّا
حقيقيًّا لإعلان رهيب عن حادثة الخلل في حيز العبارة: حب الفلسفة.
ولأنها كانت تحسسًا صادقًا وعذابيًّا، لجأت إلى المعيارية، فوضعت
هذه التعادلية: الخطأ/الصواب يقابله: العدم/الكينونة. وقد انصرف
أرسطو إلى إقامة عمارة العالم كلها على أساس تلك التعادلية، التي
ما لبثت أن تم تحويلها إلى معيارية مزايدة على ذاتها باستمرار، إلى
الحد الذي لم يكن بد من حدوث الطلاق الكامل بين إرادة المعرفة،
والاحتياز على المعيار المطلق، بحيث حين «أشرق» المغيوب ظهر كأنه
هو الحل الوحيد إزاء استحالة اليقين داخل العالم. فكان لا محالة من
اختراق سقف العالم، ورفع الملأ الأعلى، فيما يتعداه — العالم — سموًّا،
ويفوقه بدرجات تتصاعد أخيرًا نحو اللامتناهي الأقصى؛ ذلك الاختراع
المعرفي الأخطر في تاريخ العقلانية الذي يريد أن يعوض عن الافتقار
في الكينوني، باستلابه ترميز «اللامحدود»، تحت مصطلح المطلق؛ ومن
ثم تحويل هذا المطلق إلى شكل فارغ من كل شفق، إلى مجرد: لا متناهٍ.
لكنه قادر على تسجيل طموح العقل إلى سذاجة يقين يفتقر إلى كل
تعيين. وفي وقت يُقصى العالمُ الحسي عن كل اعتبار معرفي، وذلك لعجز
الظرف الحضاري آنذاك، عن تشكيل السؤال الفيزيائي المحدد؛ فإن
المعرفي كمعيارية إطلاقية، لم يكن أمامه من مهرب سوى إقامة مملكة
المغيوب، محاطةً بحرمة المقدس؛ ذلك أن مولد الأيديولوجيا لأول مرة
في تاريخ الأفكار، كان على يد مذهب شبه معرفي اسمه: الدين. فقد
حاول الدين أن يأتي بتعويض عن خلل في حيز المعرفي الكينوني،
بمحاولة إعادة الصلة بين اللامتناهي والمعيوش. إن الغضب النيتشوي
كان مبعثه ذلك العجب من كيفية انقلاب الديونزيوسية إلى مسيحية، ومن
قبلها إلى اليهودية. كيف ينقلب حب الصوفيا إلى مجرد إرادة للمعرفة،
وأن تنصبَّ هذه الإرادة على المغيوب، بسبب من جهلها لترميزة المجهول،
ذلك الشيء العالمي تمامًا، والمتناهي تمامًا، ذلك الدهري في قلب
المحايث، والمحايث في قلب الدهري.
إنه التحول من المغيوب إلى المجهول، ذلك ما ينطبق عليه تمامًا
مفهوم القطيعة المعرفية بحق، وهي القطيعة التي فاز بها، بجوائزها
العظمى، العقلُ الغربي ولا شك من دون بقية الحضارات/المدنيات، كما
يدعي. وقد اقترن هذا النصر الأبولوني (نيتشه)، في شيخوخة
المدنية، بعد نضوب حيوية الحضارة (اشبنغلر)، بالفصل الحاسم داخل
المجهول نفسه؛ بين ما يرسب داخل المحايثة، ويتشكل في صورة التحدي
اليومي الذي يواجهه الإنسان، أي: الطبيعة، وبين ما يمكن أن يتبخر
متصاعدًا إلى قبة المجهول، ويتجاوزه إلى ما هو فوق وأعلى … أي: ذلك
الذي سيغدو له اسم المقدس. فالتعارض الحقيقي ليس له حيز إلا داخل
المحايثة عينها، أي: بين العقل والطبيعة. فإذا ما جعل ديكارت هدف
الوعي هو إخضاع الطبيعة، لم يكن قصدُه استعداءَ الإنسان على الطبيعة،
كما تصوِّره بعض المعرفية الثورية اليوم على ضوء الإيكولوجيا، بل كان
يدشن حقًّا عملية الفرز في خليط المجهول/المغيوب. كان يعيد مشروع
الفهم إلى حيثما يمكن الفهم حقًّا […] وهو هذا العالم الذي تأخذ فيه
الطبيعةُ شكلَ النقيض الرهيب، وفيه تجتمع كل الألغاز المحيرة لعقل لم
يفز بعدُ بمفاتيح الفيزياء. كان الإنسان يحس أنه موضوع تهديد من قبل
أبسط عوامل الطبيعة، من تغيرات الطقس مثلًا، من الرياح العاتية،
والزلازل والبراكين وسواها. كان هو أضعفَ مخلوق في مهب المجهول
الطبيعي، الذي يداهمه كل لحظة. فلا يمكن عزل التوق المعرفي عن
الحاجة إلى الحمائية الكليانية. والمقدس الديني كان يهمه الإبقاء
على خليط المجهول هذا مع المغيوب؛ إذ يغدو الأول برهانًا حياتيًّا
ويوميًّا على وجود الثاني، وخطَّ دفاع أول عن كل أيقوناته الإيمانية
الأخرى. فكان اضطرار سؤال العقل أن ينطلق من ألغاز المغيوب ليحل
بها مجاهلَ المجهول، قد أعاقه قرونًا طويلة عن إيجاد الجواب
المبدئي؛ ذلك أن مفاتيح المغيوب لا تفتح أبواب المجهول، بل توصدها
إلى الأبد. هذه البديهية شكلت المفصل بين ما قبل التاريخ،
والتاريخ، في ثقافة المشروع الثقافي الغربي على الأقل.
كان لا بد أن تأتي الساعة التي تم فيها فرز ذلك الخليط السحري
داخل المغيوب نفسه، بين ما هو من هذا العالم، وبالتالي ممكن
الالتقاط، وبين ما يتجاوز العالم، ويتساوى فيه إمكان الالتقاط أو
استحالته؛ لأن الحالتين لا تؤديان إلى أي اختلاف، لا تلتقطان شيئًا
من مساحة ذلك الفراغ الأعلى.
يفتخر المشروع الثقافي الغربي أنه هو وحده من أدرك الحسم، ونفَّذ
الفرز، وكسر الحلقة العبثية، عندما قرر أن يعكس الحركة؛ فينطلق من
المجهول أولًا. وما إن شرَع في التنفيذ والممارسة حتى تبيَّن له أنه
لا ضرورة البتة في تجاوز المجهول نفسه نحو المغيوب، فإن حيز
السؤال المعرفي لا يمكنه أن يتعدى حيز ما لم يُعرف بعد؛ وأن الفكر
عامة لا يشتغل على غير أرضه، فيما لم يُفكَّر به بعد. فالمعلوم وما لم
يُعلم بعد، يندرجان في الحيز عينه، في صيرورةِ المحايثةِ محايثةً في
ذاتها.
كان يمكن لهذا الانعطاف أن يرعى للسؤال المعرفي شرطَه الأنطولوجي؛
قد يؤسس حالة «ذاتية الوعي»
(l’auto-conscience) كما يفهمها
هابرماز، للعلاقة بين حدَّي الأقنوم: المعرفي الكينوني، بحيث لا
يتدخل بينهما أي حد آخر لا يمتُّ إلى أحدهما بصلة من داخل
الحالة/ذاتية الوعي. بمعنى أن هذا الأقنوم ينبغي له أن يتدرج فحسب
ضمن أفاهيم المحايثة وآفاقها، فإنْ تطفَّل أيُّ عنصر آخر فسيكون غريبًا
عن أيٍّ من الحدَّين، أي: لن يكون ذا صلة بالمعرفي أو الكينوني،
وبالتالي لا بد من رده إلى التسجيل الآخر الذي يجلس خارج المحايثة
كليًّا، ألا وهو المغيوب. قد يتسمى العنصر الغريب هذا معيارية ما.
ونحن قد استخدمنا هذا المصطلح لنعبِّر عن هذا العنصر الدخيل، أما
الآن فقد آن لنا أن نتفحصه تفصيليًّا.
هاوية المعيارية بين المعرفي والأنطولوجي
ما المقصود بالمعياري في هذا الصدد من التمعين الذي نحاوله. لا
ريب أنه يرتكز أصلًا إلى ذخيرته، المتعارف عليها في القاموس
الفلسفي. وأفضل تلخيص لمعناه هو أنه حكم القيمة. وتلك دلالة حيادية
لا تستنفد جهدًا، أو تثير معارضة. ولكن ككل مصطلح فلسفي، فإن هالات
متفاوتة الوضوح تحيط بعبارته دائمًا. أول ما يمكن التقاطه في
تضاعيفها، هو نوع من الضرورة المسكوت عنها. إنها تعني أن المعياري
يلي الأنطولوجي؛ لأن حكم القيمة لا يمكنه أن يمتطي فراغًا. وهو لا
يفعل ذلك إلا إذا أقحم نفسه عنوة داخل الأقنوم المعرفي الأنطولوجي،
فيقلب هذا الأقنوم من وضع التقرير إلى وضع التقويم. وفي خطوة تالية
يغدو التقويم وحده مالئًا لحيز الأقنوم؛ لأنه يجعل من جاهزيته ضمانة
مُقحَمة على ما لا يتطلب الضمانة من سوى نفسه أو فكره. بذلك أمكن
للمعياري أن يجدد جاهزية المغيوب عندما يقحمها، بفعل أدائه الخاص،
«على» البنية الفريدة التي يختص بها الأقنوم: المعرفي الكينوني،
ويقسرها على أن تشتغل من داخل نصه بالذات، فتستخدم تعابيره، وحتى
مَفهَمَته، ولكن لغير ما تعنيه حالةُ ذاتيةِ الوعي، بل لما يدمر هذه
الحالة ويعيقها عن التشكل ذاتيًّا.
حينما نقول: هذا-هو-اﻟ «قلم» (بالتشديد على «اﻟ» التعريف)، بدلًا
من القول: هذا-قلم؛ ينصرف ذهننا إلى نوع من تأكيد دلالة تنضاف
إلى جسامة القلم تحت الحواس. هذه الإضافة هي من صنع المعيارية التي
تُسبغها أنا المدركة على موضوع إدراكها. وقد تغطي هذه الإضافةُ
الموضوعَ، وتجرفه في تيار الزخم المعياري الذي ينصبُّ عليه من فعل
الإدراك عينه. فالتقييم، تفضيلًا أو تبخيسًا، لا يتخذ من الموضوع
سوى متكأ آنيٍّ. يغدو المهم هو فعل التفضيل الذي تجاوز فعل الإدراك.
فالقلم معرفيًّا كشيء لم يعد يعادل وجوده المادي الذي هو حاصل
دلالته كواسطة للكتابة. والتلفُّظ باسم القلم من خلال نبرة التأكيد،
يكاد يحرِّف أو يغيِّر من موقعية الشيء قائمًا بذاته ومنفصلًا عن أي
إثبات أو تلفُّظ. ذلك هو الإقحام/الاقتحام اللغوي الذي لا يبالي
بحدود المعطى، بل يجرفه في تياره، ويُفقده مرجعيته، ثم ينجرف به هو
كذلك.
هنالك حكم آخر يطلقه التلفظ في عبارة: هذا هو القلم. حكم مستور
ومستبطن، تدعوه الفلسفة التقليدية بصيغة: حكم قيمة. يقول: هذا هو
القلم (الحقيقي). إنه يفصل القلم عن سواه. يبني ثنائية غير مصرح
بها، تقوم على تمييز موضوع وجعله مقابلَ سواه، كل ما هو سواه. في
حين يدعي المعرفي الكينوني أنه لا يخفي شيئًا تحت أقنومه، بل إنه
يأتي قبل الحكمين معًا: حكم الواقع، وحكم القيمة. يأتي قبل التقرير
والتقويم معًا، وتلك هي أبسط المعارف وأصعبها في وقت واحد؛ إذ إنه ما
دام كل تلفظ تعبيرًا، فلا بد من اختلاط التقرير عينه بنوع من
التقييم دائمًا. وقد أثبت تاريخ نظرية المعرفة أن كل وسائط
المعرفة، مهما أُخضعت لمختلف المنهجيات العائدة إلى المثالية أو
الواقعية، فإنها تدخل في صنع موضوع المعرفة. وبالتالي فإن بلوغ
المعرفي لحالته الخالصة كمعرفي، سيظل أبعد الأهداف وأصعبها،
وبالنسبة للسؤال الفلسفي على الخصوص، الذي يتمسك به كهدف مركزي
له.
إن خاصية التقرير مهما تعرَّت من العناصر الغريبة عنها، تبقى هي
ذاتها متوشحة في نسيجها مع حد أدنى من نزوع التقييم؛ إذ إن عبارة:
هذا قلم — حتى بدون «اﻟ» التعريف — فإنها تتضمن حكمًا تقييميًّا:
«أنا أعتقد» أن هذا قلم. هنالك فعل إثبات. وهو ما يحتاج بدوره إلى
سجل آخر من التعليل والبرهنة، حتى يمكن أن تمتد المسألة المرجعية
إلى ما لانهاية له. لذلك يمكن اختصار الجدل، الذي قد يبدو بيزنطيًّا
إلى حد بعيد، في القول: كل حكم، تقريريًّا كان أو قيميًّا، هو معياري
بشكل ما. فالمعياري هو المعطى الدائم في كل العبارات والبيانات.
ولعل السؤال الفلسفي الذي كان يعاني دائمًا من هذا الالتباس، طيلة
كل الفصول الشيقة التي كتبت صراع الشك واليقين في تاريخ الأفكار،
لم يستطع هذا السؤال الفلسفي أن يهتدي إلى أصل الحلقة المفرغة، إلا
عندما أصبحت العبارة، كتلفظ لغوي، هي موضوع الإشكالية، والإشكالية
نفسها. هذا المنعطف الحداثوي الخطير يسجل إذن أن التلفظ، الذي كان
يُنظر إليه أنه واسطة، وثانوية إلى حد بعيد، أصبح موضوعَ
نفسه.
من هنا كان على العلم «الفيزيائي» أن يميز سجله الخاص، فهو لا
يستعمل من اللغوي إلا ترميزه الرياضي فحسب، أي: يجرد العبارة من
دلالة «المعنى»، ويعيدها إلى جسدها الرقمي، أي: الترميزي الخاص، فهي
بذلك لن تستطيع التدخل فيما لا يعنيها، كأنما أمست وسيلة محايدة
تمامًا. والمهم هو القانون العلمي نفسه. ومع ذلك، فإن مثل هذا
التقرير، هذا اليقين الذي يبدو مطلقًا، ليس هو كذلك فعلًا. فلقد
أقرَّ العلم في ثوراته الإبستمولوجية الأخيرة، أن ترميزاته —
الرياضية — ليست هي كذلك إلا بالنسبة لأنظمة افتراضية في أصلها. إن
نسبة الصحة أو الصلاحة متعلقة بما يقدمه النظام الافتراضي الذي
تشتمل عليه مقدماته. إن المدى الذي يمكن فيه أن ينفصل الترميز،
كوظيفة استدلالية، عما يقدمه من «معارف» أو تفاصيل معرفية معينة،
سوف يظل مرتبطًا بقدرته (الترميز) على حل بعض الإشكاليات العلمية
المطروحة في لحظة معينة من تاريخ العلم نفسه. تلك هي نسبيته، التي
تُقارب جُزافيَّته.
هل يمكننا، بناءً على ما تقدم، أن نضع حدًّا لكل تراث البحث عن
اليقين، ونسجل لنا مكانًا لدى الطرف المقابل التقليدي فقط، عند
الشك والشكاكين، أو النسبيين بحسب التسمية الحديثة، أو
التداوليين بالأحرى. هل ثمة حل آخر يقدمه أقنوم الأنطولوجي في
عبارته الازدواجية: المعرفي الكينوني. فماذا يقول ذلك الحل فعلًا؟
هناك أصلًا مسألة أن يأتي السؤال الفلسفي أولًا ما قبل نص الحكم،
سواء منه التقريري أو التقييمي. وهي مسألة عبَّرت عنها الثورة
النيتشوية ضمن أفهوم: براءة الصيرورة. وبعد ذلك يمكن أن نطرح خلاصة
ما أتى به «اختلاف» الحداثة الحداثوية «البَعدية»، عن سابقتها
الحداثة التقليدية. وهو هذا النوع من الجدل: إذا كان لا مهرب من
المعياري، فإن ما يحد من سلطته هو أن تأتي العبارة ونظامها المعرفي
معها، أي: أن يصل بيان العبارة إلى الحد الذي لا يمكنها أن تُخفي
تحته نظامَها المعرفي الذي يُبَنيِن كينونتها (يمنحها بنية). بناءً عليه،
يمكن وضع هذه القاعدة لمنطق خارجي عن قواعده الأصلية، وهي أنه إذا
كان كل تلفظ بيانًا، فلا بد أن يبين عما يجعله كذلك.
عند ذلك لا تُضطر كل عبارة، عندما تطرح بيانها، إلى الاستنجاد بأية
طبقة خفية أو سرية من المعيارية، أو تلجأ إلى الاحتماء تحت قبة
المنطق وقواعده التسجيلية، كيما تبرر خصوصيتها، بل كل ما تفعله
هو أن تبين فعلًا عن «خصوصيتها»، لا تتنكر لها، بل تجعلها
طريقها «الخاص» إلى العام. وليس لها من وسيلة إلى ذلك إلا أن تتقدم
كمشهدية-عن-نفسها. لعل ذلك يخفف من أزمة كل عبارة باعتبارها
توظيفًا لغويًّا أصلًا، توسيطًا لفظيًّا غير حيادي بين الوعي
والعالم. ورغم عدم حيادية هذا التغيير في علاقة الوعي بالعالم،
فإنه يظل هو المؤشر الوحيد على ما تعنيه خصوصيةُ عبارةٍ ما ضمن نسق
دلالي، منضبط دائمًا بالقواعد اللغوية العامة. فالمتكلم أو الكاتب
مضطر إلى الالتزام بلغة عامة، يخترع من خلالها لغته الخاصة. وإذا
كان الكاتب مبدعًا حقًّا، فإنه سوف يخلق لغة غريبة عن اللغة
المتداولة. إنه يكتب بكلماتها وحروفها عينها ما لا تعنيه بالضبط
دلالتها الأصلية. ولعل هذا ما قصد إليه بروست، في كتابه
Contre Sainte-Beuve حين قال: «تُكتب المؤلفات
الجميلة بنوع من لغة أجنبية.» ومع ذلك، فإن هذه «اللغة الأجنبية»
قادرة على الإيصال. وكما يفسر ذلك دولوز بقوله: «إن أظهر ما يفعله
الأدب في اللغة هو أنه، وكما يقول بروست، يسجل فيها نوعًا من لغة
أجنبية، ليست لهجة إقليمية، لكنها صيرورةُ-لغةٍ أخرى، تصغيرٌ
للُّغة الكبيرة الشاملة، وهذيانٌ يتخطَّفها، وخطُّ ساحرةٍ يتفلَّت من نظام
مهيمن.» لا شك أن القول بحقٍّ للكاتب في أن يبدع لغته الخاصة، لا
يعني ذلك محض أسلوب شخصي فحسب، بل كل الرهان الإبداعي هو قدرة النص
على إيصال خصوصية الكتابة الأدبية بطريقة عامة. ولعل ذلك ما عبَّر
عنه بلانشو عندما كتب: «شيء ما يتأتى للشخصيات الأدبية، وهو أنهم
لا يمكنهم التعبير إلا عندما يتحررون من سلطة القول: أنا.» حين
يتلفظ الكاتب بأناه كأنه يضع هذه المعادلة المسكوت عنها: أنا (الحيادي
le neutre) أقول كذا. كما سجل
بلانشو ذلك في عمله الإبداعي: المحادثة اللامتناهية.
إن قرابةً بين الحيادي والمجهول، أو بين الانبناء للحيادي
والانبناء للمجهول، تفرض نفسها هذه اللحظةَ من التمعين. فماذا يعني
الحيادي؟ إنه بالأحرى غير المتعين. هو الشخص الثالث الذي يتم
استخدامه غالبًا في السرد الروائي، فهو ليس المتكلم ولا المخاطب،
لكنه «الضمير» الغائب. والاصطلاحان النحويان في العربية (الضمير
والغائب) يشتغلان معًا على ذات الحالة الحيادية. يصح ذلك ما دام
ليس المقصود هو استحضار المصطلح الأخير ذي الصفة الإرهابية:
«الهُمْ»، كما يحدده دزاين هيدغر، ذلك الشاهد والكاشف، والمعارض له
في آن. فالدزاين يخلع عن الضمير الثالث الغائب غيابَه، وبالتالي
حياديتَه. إنه أقنوم يكاد يكون مالئًا حيز الحضور وحده. وهو عند
سارتر خاصة، يغدو مقرًّا «للآخر»، وﻟ «نظرته»، تلك التي تفصل لدى
الذات بين معاناتها لحريتها المجردة، وإرادة ممارستها. تشل حرية
الفرد، تمنعها عن إنتاج مشروعه الوجودي الخاص. لكن، دون أن ندخل
حيز المعاناة الوجودية السارترية، فإن الضمير الثالث الغائب يظل
المحل الطبيعي والمشروع للوجود اللغوي. حين يُقال عن الفرد إنه
يتكلم اللغة العربية أو الفرنسية، فهو ينتمي إليها ولا تنتمي هي
إليه، أو على الأقل، ليس ثمة من يخترع لغة لا يتكلمها إلا هو وحده.
فليس ضمير المتكلم أو المخاطب إلا صيغة محسوسة تتموضع بالنسبة
للضمير الثالث الغائب، وذلك حق مهما حاول اللسانيون اعتماد الكلام
كالحامل الطبيعي للغة. وأما الحيادي فهو يخرج من حلقة الضمائر
الثلاثة كلها، كما لا يمكن مقاربته مع الغائب؛ إذ إنه يصير
تابعًا أو منحازًا له بشكل قَبْلي. إذن، إن الحيادي يقع حقًّا خارج
حلقة الضمائر؛ ولذلك فإن كل خطاب يحقق مقدرة استثنائية على
استحضاره، أو التحسيس به، لا بد له أن يقع خارج اللغة المتداولة.
يصير خطابًا «أجنبيًّا». ذلك هو شأن الإبداعي وحده. إنه يكتب النص
المجاور الذي يصح أن يُقال بصيغة المتكلم أو المخاطب أو الغائب، دون
أن يفقد استقلاليته، ودون أن تُغيَّر أيةُ صيغة من بنيته الدلالية. تلك
هي خاصية الحيادي الحقيقية. وهي أنه، مع قابلية متاحة إلى أقصى حد
لأن يتماسَّ الحياديُّ مع أية صيغة من التخصيص، بالأنا أو الأنت أو
الهو، لكنه في كل حالة إنما يقدم فيضًا لا يمكن تخصيصه بأية أنا،
متكلمة مخاطبة أو غائبة.
بكلمة أخرى، إن الحيادية تطرد المعيارية. ليست تجريدًا لها، لكنها
على العكس هي تجريد لتجريد المعيارية عينها، واسترداد للشيء من أية
هالة للقيمة تتخطَّف ملامحه المادية. عندئذٍ فحسب يتقدم أفهوم
«المشهدية». يبرز المعرفيُّ الكينونيُّ فوريَّ ذاته، بحيث كلما وقعت عليه
عين «الرؤية الخالصة»، تكشَّف عن تناهيه اللامتناهي. فلا تجد
المعياريةُ ثمة حيزًا مستقلًّا لها خارج تلك الرؤية الخالصة، ولا
يتبقى لها من مخرج فعلي إلا في إعادة اندماجها مع تمعين الحيادية
عينها؛ ذلك أن كل أشكال المَسرَحة تتداعى عندما تستنفد فنونُ الإخراج
كلَّ تقنياتها، ولا يتبقى إلا أن ينبثق المعرفي الكينوني عبر فورية
مشهديته. يتغلَّب المسرح على «إخراج» المسرحية.
ليس المحايد إلغاءً للمتعيِّن. صحيح أن المحايد يشغل خانة خارج
خانات الضمائر كلها، لكنه لا يعود نحو إضافة نفسه إلى خانة معينة
إلا عندما يستطيع كل ضمير من الضمائر الثلاثة أن يقدم خصوصيته أو
تعينه الخاص، خارج حيزه. تلك هي مشروعية الخطاب الإبداعي، أو هي
أحقيته عند ذاته أولًا وبالنسبة لها، بالرغم من كون الخطاب الإبداعي
مطروحًا أساسًا في سياق المتخيلة، أي: إنه لا يتمتع بأي قوام على
أرض الواقع. ليس واقعيًّا لكنه وجودي، ومن هنا «لاشخصيةُ» ذاتيتِه.
فإن القصيدة الملحمية «الراين»، كما كتبها هولدرلن، تتخلص مثلًا من
عنصرية القومية (الألمانية) لتأخذ مداها الإبداعي في نوع آخر من نهر
راين للإنسان، محايدًا من أية هوية، بحيث يُتاح لكل إنسان أن يلتقي
عبر الراين العظيم، بنهره الخاص. ذلك ما تعنيه عبارة غوته:
«الكثافة الخاصة بالشفاف الخالص»، أي: «بذلك اللون النازع إلى إعادة
تكوين الكل»، كما يقول دولوز تعليقًا على عبارة غوته تلك في كتابه
مبحث الألوان.
ما هو الحيادي؟ إنه ما لا يتقبل أن يشغل حيزَه أحدٌ سواه. وهذا
يعني أن الحيادي يمتنع على المشاركة فيما لا يخص جوهره. يقع خارج
المعيارية، من حيث إن كل فعل معياري ينطوي على إطلاق حكم ما. خاصية
المقاضاة هذه اختراع بشري محض، يتدخل في كل ما هو سوي عند نفسه،
ليجعله غيرَ-سوي-عند نفسه. هناك من يأتي بالآخر، ﺑ «نظرته»، لتندسَّ
في شئون الكائن التي لا تعنيه. فالوجودي يغدو فجأة تحت رقابة ما
ليس الأنا ولا الأنت، ولكنه «الهو». تأتي «القيمة» من لا مكان،
لتستبيح كل ما هو متميكن، وتقلقله في مستقره الخاص. تلتحق «القيمة»
بالوجودي لتكتسب منه ثمة واقعية، وفي الوقت عينه تعمل على اضمحلال
واقعيته تلك تحت غطائها المعياري. إنها فعالية فراغية تستحوذ على
الصيروري، بكل حركيته. وإذ تلتصق به، تفتعل أفعال مقاضاته. ينقلب
الصيروري مرة واحدة إلى كائن واقع تحت الشبهة. تتناول الشبهة صميم
حركيته بالذات. تُفقدها عفويتَها. تُوقع الانفصامَ بين واقعيتها
ووجوديتها، بمعنى أنها تحوِّل إحداهما إلى مرتبة خاصة، وثانيتهما إلى
قفص اتهام، فالمقاضاة هي مشروع إدانة قَبْلية بانتظار صدور الأحكام.
ولكن سواء جاءت هذه الأحكام بتثبيت الإدانة القَبْلية أو التبرئة،
فلن تُفهم التبرئة إلا من خلال سياق الاتهام الجاهز عينه.
حضارة المحاكمة
ليست المعيارية إلا التعبير عن العلاقة بين المقدس والدنيوي،
منقولة من صفحة الأفعال الإنسانية اليومية، إلى الصفحة الأخرى،
التي تحتلها الأحكامُ المنطقية. وفي حين لا يتكون أقنوم المقدس إلا
في تأكيد تخارجه مع الدنيوي، جاعلًا من نفسه بمثابة المرتبة
العليا، حيثما تستحوذ على كل الكمالات التي تنقص الوجودَ الدنيوي،
مما يحتم قيام علاقات القوة بين الطرفين، التي تم تبريرها استنادًا
إلى الفروقات النوعية بين تلك الكمالات القصوى للمقدس، مع ما
يقابلها من النواقص المفرطة للدنيوي. نقول إنه في حين أن
الموقف هو كذلك بالنسبة لهذين الأقنومين الكبيرين في الأنثروبولوجيا
الاعتقادية، فإنها تعود — هذه الأنثروبولوجيا الاعتقادية نفسها —
لتفرض من جديد علاقات القوة على صعيد الأنطولوجيا، بين كلٍّ من
المعرفي والكينوني. فليس الدين وحده هو الذي «يقاضي» الإنسان باسم
الحقيقة العلوية، بل يغدو صاحب المعرفة مخولًا بادعاء حقوق التملك
من أكبر مساحة من الكينوني، وخوصنة ذاته بها، أي: منعها عن الآخر،
ذاك الذي قد يُرمى بالقصور عن بلوغ المعرفة. فالمزيد من الكشف
المعرفي لا يؤدي إلى بناء شفافية أوسع من الكينوني، بل إن تدخل
علاقة القوة يحوِّل حيز المعرفي إلى إرادوية غازية، والكينونةَ إلى
عالم من غنائم الحرب الدائمة. هكذا انقلبت في التاريخ فلسفةُ
الصراع، من تقرير لبعض مظاهر الواقع، إلى معيارية مطلقة تشمل كل
الواقع والتاريخ معًا. أصبح للقوي حق المشروعية الكاملة بإدانة
الضعيف بضعفه، وحتى مقاضاته بجريرته (كونه ضعيفًا).
عندما يثير دولوز، في تلك اللحظة منذ أواخر القرن العشرين، مسألةَ
الحكم، أو المقاضاة (le Jugement)،
بمخزونها الديني المعروف، فليس ذلك من باب تجديد العلمانية في
مواجهة العودة إلى التدين فحسب، بقدر ما هو شعور منه بأن هذه
المسألة (الحكم والمحاكمة) تطبع علاقات نوع من العقلانية العدوانية
تجاه العقل الإنساني نفسه. ونحن نقول بالمقابل إن الاستبداد لم يعد
إرهابًا ميتافيزيقيًّا (علويًّا) أو سياسيًّا قديمًا ومعاصرًا، بل إنه
في كل مرة كانت تسقط فيها المعيارية المنطقية أسيرةً لإرادوية
كليانية جامحة، فإنها تستعيد أوالية الاستبداد التيولوجي، ولكن تحت
مصطلحات إنسانوية جديدة. نحن لا نتحدث هنا عن سلطان الأيديولوجيات
خلال القرن العشرين فحسب، ولكن لا بد من الإشارة إلى الحامل
الموضوعي الذي ساعد على تنشئة الأيديولوجيا، وهو التكنولوجيا، وما
حققته من نقلات ثورية كبرى في هذا العصر. يكفي التذكير بأن جوهر
الصراع الذي قاد المواجهة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي —
إبان «الحرب الباردة» — إنما كان يرتكز أساسًا إلى التقدم في اختراع
وتصنيع أعلى وسائل القتل والتدمير الجماعي التي عرفتها حضارة
الإنسان (السلاح النووي). حدث كل ذلك في ظل أعلى صدام أيديولوجي،
شيوعي ليبرالي، منذ الحروب الدينية.
لقد كان عذرُ الحداثة في التحامها المتزايد مع التكنولوجيا، هو
أنها تُخضِع الطبيعةَ إلى المصلحة الإنسانية، تشتق منها قوانينها،
وتعيد تجسيدها في المنتج الآلي الذي يكوِّن طبيعة أخرى أقرب إلى
مصلحة الإنسان. كان ذلك جوهر الطوباوية، لكنه منعكس هذه المرة على
إنتاجات مادية وعملية، مما ينزع عن الطوباوية طابعها المفارق،
ويقرِّبها من الحامل المادي الذي يبرهن على جدارة التوسيط بين العقل
والعالم، شرطَ ألا يتجاوز التوسيطُ حدودَ الآلة أو المعادلة الرياضية
الفيزيائية التي شكَّلت مبدأها. إن ولادة عالم مصنوع كله بإرادة
الإنسان، وضعت حدًّا لكل تلك الحضارة التيولوجية، حضارة الإدانة
المسبقة للإنسان باعتباره خطيئة، أو خللًا طارئًا على النظام
الكوني، وأنه بالتالي مُقدَّر عليه أن يدفع وجوده ثمنًا لاسترداد
براءة، ليس لها مكان في حيز ذلك الوجود. فالمصير كارثي محتوم على كل حال،
ما دام الإنسان مدانًا سلفًا في وجوده الأرضي. وحتى إذا ما فاز
بالخلاص، فلن يكون خلاصه إلا ما فوق أو ما بعد هذا الوجود، أي: فيما
يتعدى حيز المعرفي الكينوني، نحو حيز اللاحيِّز! وفيه المعياري وحده
يعادل نفسه، ولا شيء يعادله.
إنها حضارة المحاكمة الدائمة، لم يكن ثمة خلاص دنيوي منها إلا
بالانتقال كليًّا إلى ما يناقضها في كل شيء، إلى حيادية
القانون العلمي الذي يقوِّض مصطلح: الدائن المدين، بعد أن رزحت تحت
كَلكَله الحقبةُ المسيحية من تكوُّن المشروع الثقافي الغربي. لقد كان
الخروج إلى الطبيعة، والسياحة في العالم، والشروع في إقامة أهرام
التكنولوجيا، بديلًا عن الكاتدرائيات، يعلن ظاهريًّا السيرَ على حطام
حضارة المحاكمة الدائمة. لكن عقلية الإدانة انتقلت من موقع إلى
آخر. فالإنسان الذي اعتقد أنه يسترد براءته الآن وهنا، فإنه أوكل
قضيته من جديد إلى نوع آخر من المحاكمة، كما عبَّرت عنها
المحكمة/كافكا.
دولوز هو الذي يكتشف أصالة هذا الكشف عند نيتشه: «تكمن عظمة
نيتشه في كونه أبرزَ، دون أي تردد، أن علاقة الدائن-المدين، هي
الأولى بالنسبة لكل تبادل، وهي قد بدأت عضوية»؛ ذلك أن الآلهة في
العصر الديونزيوسي هي التي منحت الإنسان جسده بما فيه من القوى
الحيوية، وتركته يستخدم هذه القوى بحسب قوالب وأشكال، قد فرضتها
هذه الآلهة عليه. وعدته بهذه القوى، أقرضَته إياها. جلست تراقب
تصرفه، كيف يمكنه أن يتدبر كل قوة لديه بحسب ما يُفترض لها من
شكل معين، تتحقق بموجبه، ما إن تخرج من دائرة الجسد ككل، إلى حيز
العمل، الذي لا بد له أن يوصف بحسب الشكل الذي يبرز به. مرتبة
الشكل هي مقر الأحكام، هي التي فرضت أولًا على الجسد أن يوزع قواه
على أعضائه (الجنس، اليد، اللسان …) ويقيِّدها حسب أصناف من العلاقة،
والحركة، والعمل، والكلام أو اللغة.
ولقد كان الجسد قوة قووية متحدة، سبقت أشكال العرض والإخراج.
سبقت التوزيع على الأعضاء، ثم التوزيع بحسب أشكال الممارسة والتحقق.
بكلمة أخرى، فإن عودة الجسد إلى جسديته قبل توزُّعه «الوظيفي» العضوي،
و«الوظيفي» الاجتماعي والمعياري بصورة عامة، هذه العودة تؤسس بذرة
التمرد على القضاء والمقاضاة والأحكام العلوية، والتي غدت أرضيةً
ودنيوية. هناك مقابل ديون الآلهة التي «كان» على الإنسان أن يردها،
ديونٌ جديدة مقابل حضارة الاستهلاك. وسوف يبقى مصطلح التمرد يعني
خروجًا على علاقة الدائن-المدين، و«تقهقرًا»، إن شئنا، إلى جسدية
الجسد، حيث لا حيز آخر لغير القوة القووية قبل تفريعها وخوصنتها.
هنالك إرادة للقوة خالصة، خالصة من العَضونة، من التشكيل الوظيفي —
في الحقبة البيولوجية — ومن توظيف الآخر لها في حقبة تعميم علاقة
الدائن-المدين في مختلف مستويات ومركبات التبادل بين الأفراد، بين
الكتل والجماعات، وما بين جبهات المعرفة كلها، خلال حضارة تتعانق
فيها المصلحة مع التكنولوجيا.
هل يمكن القول إن المعياري هو أصل الاستبدادي، هل يرجع هذا
التعريف إلى كون المعياري يطالب الكائن بما ليس فيه، بما ليس هو
عليه؟ ألا نلاحظ أن مختلف أنظمة التقييم كانت تنصبُّ دائمًا على
موضوع واحد، هو الجسد، أو هو جسدية الجسد بالأحرى. وإذا كان هناك ما
يسحر في الثقافة الديونزوسية، فهو محاولتها الفوز بنوع من تقنية
لصوفية مضادة، تريد تحييد جسدية الجسد، تريد رد الصراع من شبكية
التبادل الخارجي، إلى «معارك» القوى الحيوية فيما بينها، وداخلَ
الجسدية عينها دائمًا، بحيث لا تتدخل في شئونها (الفورية) أنظمةٌ
تبادلية (خارجانية)، تأتي من عالم الآخرين، وهذا كان يعني بكلمة
عصرية و«أخلاقوية جدًّا» أن الصراع الحقيقي ينبغي ألا يغادر مستوى
القوى الحيوية، أو تجليات جسدية الذات بالنسبة لذاتها فحسب.
إن كسر علاقة الدائن/المدين، تُخرج الكائن من صيغة: الوضع تحت
الرقابة، إلى مساحة عذراء لا صيغ فيها ولا تراتبيات. وما كانت
تحاوله الفلسفة النقدية في شتى عصورها، من اليونان حتى الحداثة، هو
إبداع تلك الأفاهيم (المفاهيم) التي تخترق مذهب المقاضاة؛ فهو الذي
كان يتخذ لذاته أقنعةً مختلفة عبر التحولات المعرفية الكبرى كلها
دون أن يفقد شيئًا من فعاليته، بل لعله كان يتغذى دائمًا من دماء
ضحاياه. وقد كان موضوع الدَّين الأكبر وبالتالي المقاضاة، هو جسدية
الجسد. ومنذ أن أصبح سؤال الفلسفة: كيف أحيا جسدي، سؤالًا آخر:
ماذا أفعل بجسدي؛ فقد صار الجسد عبئًا ومسئولية. وقع الانفصال بين
أقنوم غدا له اسمُ الذات، وأقنوم آخر له اسم الجسد. حدث التفارق،
وتسربت «كائنات» غريبة وأجنبية بين الأقنومين. عاش الإنسان انفصامه
الوجودي، باحثًا عن وسائل متوفرة أو موهومة، أو مخترعة، وذلك من
أجل إعادة اللُّحمة، والتخلص من الانفصام المتجدد دائمًا تحت المصطلح
الحضاري، المختلف من حقبة إلى أخرى.
لا يضير الفلسفة أن تعترف أخيرًا أن إشارتها الأولى مرسومة على
جسدية الجسد. وكان من حق نيتشه أن يعيدنا إلى الحقبة الجاهلية
(الديونزوسية) من الفكر الإغريقي، قبل أن تَعقِله وتعتقله المدرسةُ
الأفلاطونية؛ إذ في تلك الحقبة لم يكن التجريد قادرًا على إيقاع
أية فاصلة بين جسدية الجسد، وامتدادية العالم حوله. فلم تكن
الجسديةُ موضوعَ السؤال، بقدر ما كان العالم أو الكون المتمادي حول
الإنسان، هو هذا السؤال، وما يتضمنه ذلك الكون من الموجودات، بما
فيها الإنسان المتسائل نفسه. إن عدم القطع في المشهدية الوجودية
بين الإنسان والعالم، لم يكوِّن مجرد إحيائية ابتدائية، بل سوف يؤسس
عدمُ الفصل هذا نوعًا من اللاشعور العضوي الذي سوف تكبته الذهنيةُ
التفاضلية، عندما تخترع لعبة التضييق لتتخلص في آن واحد من جسدية
الجسد، ومن تواصلها مع دهرية العالم.
وبذلك ينقلب التفكير من مهمة تشفيف الكينونة من داخلها، إلى مهمة
إلقاء الحصار عليها، وإدانتها بأهم ما تمتلك، وهما: جسدية الجسد،
ودهرية العالم؛ إذ يغدو هذان الأقنومان واقعين في أسفل سلم
التراتبية التصنيفية. بالمقابل سوف يتحول تاريخ الثقافة مستقبلًا
إلى مصنع لاختراع الطوبائيات التقليدية (من الأسطرة إلى التدين)،
وبعدها: لإنتاج تركيب الأيديولوجيات الحديثة، وصولًا إلى إعادة
اكتشاف «الحي». وهنا سوف تعترف الثقافة أنها لم تكن طيلة
تاريخانيتها، سوى مركب توهيمي من الكبت، مقموع وقامع، ومحكوم
بثنائية الظاهر والباطن، ومقدَّر له دائمًا أن يعاني حنين الوحدة
المفقودة. لكنه كلما أشرف على مقاربة السر، لم يجد لديه سوى آلته
القديمة، بحيث تنهمك مرة أخرى في اختراع صيغة «تورية أو انزياح»
جديدة، وتُضعف من وجودية الكائن والعالم، باختراع آمريات معيارية
أخرى، كثيفة تغطي شفافية المحايثة. هكذا وصولًا أخيرًا إلى منعطف
الحداثة البعدية، الذي حاول استنفاد تاريخ التغطية، وأساليب الحجب،
والتحويل، والانزياح، لتصير مُعرَّاة من أقنعتها تلك، ولكن من دون
أية ضمانات قبلية أو بعدية، فكأنما كان لا بد أخيرًا أن تتقدم
المحايثة بتعدديتها وتناهيها، وألغازها ومتاهاتها. لكن في هذه
اللحظة بالذات، وقد أصبح لا مهرب من حاكمية الشفافية، فلا شيء
يمكنه أن يحجب تشكيلاتها اللامتناهية، تم تجهيز «المرآوية»، التي
بدلًا من تظليل الشفاف على طريقة الحداثة التقليدية، فإنها تُسطِّعه
قصوويًّا إلى درجة تبديده (الميديولوجيا).
تأتي المرآوية إذن ليس كفن إجرائي من فنون الذهنية التفاضلية،
ولكن كإعلان كشف حساب بإفلاس شامل لهذه الذهنية، التي جوهرت
ميتافيزيقا الغرب. لكنها إذ تجري عمليًّا هذه النهاية (بدون كل
مصطلحاتها التقليدية والمستحدثة التي رأينا)، فإنها في الوقت نفسه
تتحدد وظيفتها تمامًا في: منع كل ما كان منتظرًا قدومه بعد هذه
النهاية؛ ذلك أن المرآوية لا يمكنها أن تأتي بشيء في جعبتها. ليس
تحت عباءتها إلا البَداد الذي يحل في كل أرض تحل به سيدته. المرآوية
سوف تتخطى تراتبيات العدم والسلب والخطأ، كتحديدات منطقية أو قيم
معيارية، لا تُفهم إلا بما يقابلها من الإيجابيات كالوجود
والإيجاب والحقيقة، بل هي تتجاوز اللعبة التفاضلية تمامًا بعد أن
حوَّلتها الحداثةُ البعدية مجرد أطلال. إن هدفها هو هذا العالم
الجديد تمامًا الذي تبشر به الحداثة البعدية. هذا اللغز المختلف
القادم على أطلال كل الألغاز الميتافيزيقية السابقة. هذا التجاوز
نحو اللامُفكَّر به بعد، فعلًا وواقعًا، وليس تمنيًا وتلميحًا على
طريقة هيدغر فحسب. لقد كان شعار سقوط الذهنية التفاضلية يَعِد بالفكر
الوجودي حقًّا، بذلك الذي يضع ماهية الشيء في تخوم الشيء عينه، وعبر
ذلك المدار الذي يتحرك دائمًا تواصليًّا دراميًّا، بين جسدية الذات
ودهرية العالم. لكن يبدو أننا مقدمون على مَسرحة ذهنية جديدة لما
بعد عصر النهاية، يتوزعه صراع الحداثة (المصححة السليمة، ربما؟) مع
المرآوية. فمن سوف يرث الميتافيزيقا المتداعية ما بين هذين
الأقنومين؟ أم تُرانا نواجه ثنائية أخرى: الحداثة/المرآوية؟ إذ قد
تبدو صيغة الاصطفاف هذه تماثل شكلانية الثنائية من جديد، لكنها لن
تكون ثنائية تفاضلية، وإن أعطت انطباعًا بذلك؛ إذ إن الصراع سوف
يجري هذه المرة بين تخوم المحايثة وبأدواتها بالذات، لكن من يضمن
ذلك حقًّا؟!
هل تداعت «المحاكمة» الكافكية. هل انقضت تقاليد الاتهام
والإدانة، وعروض الدفاع والنقض. وهل لا تزال الصيرورة متهمة
(أنطولوجيًّا) ببراءتها، ومضطرة في كل محنة تاريخية، إلى إعادة
البرهان على نقائها؟