العقلانية ما بعد الميتافيزيقا

ما يناظر الحكمة الهيدغرية المركزية حول: قدوم الكينونة منسحبة، فإن الفكر، في لحظة البحث عن المكانية انطلاقًا من أسطرة الزمن الواقعي، لم يعد يمكنه أن يمارس تَسآله الفلسفي، كما كان يفعل طيلة الحداثة التقليدية، أو حتى إبان الحداثة البعدية. كأنما هنالك نقلة كلية خارج كل تعبيرية الحداثة وأجهزتها المفهومية. ليس ذلك لأن «نهاية التاريخ» قد اقترنت معها كذلك «نهاية الفلسفة»، بل لأن نضج الترميز، أو هذا النمو التراكمي لمحصول «العالم الثالث»، حسب مصطلح بوبر — المؤلَّف من النظريات والمفاهيم والتأويلات الكونية وسواها — قد فرض، بصورة حاسمة، ألا يمكن التفكير في الكينونة إلا حسب الحدس الأولي لإنسان بارمنيدي جديد — باحث عن قصيدة للخلق ثانية — عليه أن يضع نصب عينيه التأمل غير المحدود فيما يعنيه التفكر في التكون كطريقة في ممارسة التَّميكُن. على ألا يعني هذا أن الزمانية أصبحت من منقضيات التفكير. على العكس، فإن التفكير عينه يغدو زمانًا، ما إن يشرع في تَسآل التَّميكُن؛ ذلك أن القول بالتميكن، بدلًا من المكان، يؤشر على تفعيل المصدر من داخله. والتفعيل تغيير لا يتحقق بدون انتقال التميكن من شكل إلى شكل آخر، أي: أنه يلتقط الزمان بطريقة ما، أو أن الزمان يحتاج التميكن عينه لكي يجعل التقاط آثاره ممكنًا.

لهذا السبب النادر اخترع هيدغر أقنومه: الكائن في العالم. ليس لأن العالم لن يكون كذلك إلا إذا دخله الكائن، بل لأن الكائن في العالم، لم/ولا يكون كذلك إلا إذا اخترع لذاته هذا الحرف السرمدي: «في»، لكننا لا نستطيع أن ننفي، رغم كل هذه البداهة، أن أصل البداهة أو الكوجيتو الحقيقي، قبل الديكارتي وحتى اللاديكارتي إطلاقًا، هذا الأصل هو أن الكائن طارئ على العالم، كما الزمان طارئ على المكانية. كما لو كانت أقدمية العالم، سرمديته، هي مكانية أولًا، وأن هذه المكانية هي التي تجعله مكتفيًا بذاته، وسوف يظل كذلك حتى يأتي من يطلق عليه هذه التسمية. فجأة تنقلب سرمدية المكانية، أو السرمدية فحسب، إلى مصطلح: الكائن في العالم، ما إن تُصاب السرمدية بشرخ، بصدع، لا يُعرف له مصدر، ولكنه هو صدع، محض مجيء خالص، يجعل السرمد يصير سرمدًا مختلفًا عند ذاته.

أقدمية العالم، سرمديته، حياديته، اكتفاؤه بذاته. كل تلك الأوصاف/الأسماء، هي مما دخل ويدخل عليه؛ ذلك أنه لا أحد يعرف العالم، أو ينعته بالأقدمية، إلا من يجيء في، ومن هذا العالم، يجيء مختلفًا. السرمدية يصدعها طارئ لا يُعرف مصدره، ولكن يُعرف مجيئه فحسب. منذ هذا المجيء صار العالم حادثة، ولم يعد يمكن التفكر بالسرمدية، سواء في ذاتها، أو في صنوها: العالم، إلا والحدوث يخترقها من كل جانب. السرمدية مضطرة إلى السقوط أو النزول إلى حضن المحايثة؛ لأنها هناك، ومن هذا المكان فقط، يمكن إعادة تذكر، تصور السرمدية من واقعة انقضائها عينها، من ذاكرتها.

قد لا يَضير الكائنَ أنه طارئ على العالم، وأنه حين يأتي يجلب معه الصدوع والشروخ، وينتزع كل ما هو هاجع في حياديته، لكي يتورط معه في نقص الوجود وفي فداحة هذا النقص. لا يعود التكون وحده محل الترميز وصراط تاريخانيته، ولا مستودع عجائبه ومكتشفاته وبراعاته، لا يعود يقنع التكوين بتكرار العالم، لكنه يخترق تَميكُنه، ليستلبه منه، ليمحق مسافيته.

إن الكائن في العالم هو، كما لم يكن له حيز قبل أن يأتي إلى العالم؛ كذلك فإنه لا يكتفي بإدخال جرثومة الانقضاء إلى صميم كتلة الموجود. بل إنه يجد نفسه منساقًا انسياقًا شيطانيًّا في تسريع الانقضاء، وتسريع التسريع، حتى إنه وهو في غمار هذه الحركة، لا يدري أنه يلغي سبب وجوده، وهو هذا الزمان الذي ينتهب التسريعُ كلَّ مُهَله وآناته، ليلقى نفسه في النهاية بدون أية مهلة، هو عينه.

الزمانية هي معرفةُ سرمديةِ العالم لذاتها، بما ليس منها وفيها. الزمانية تأتي بالمُهَل، بالحدود الوسطى، ما بين البطء المطلق ما قبل الزمن، وبين التسريع المطلق ابتداءً من عتبة سرعة الضوء إلى ما لا نهاية. هذه المهل كانت الفرصة الفريدة لفصل وحيد في كتاب السرمد، عنوانه: الكائن في العالم. إنه كتاب حادثة «الإنيَّة» التي تقلب الصيغة من: الكائن في العالم، إلى: كائن العالم دفعة واحدة: يصير الحديث عن كائن العالم، إمكانِ العالم، بدلًا من ترداد: أقدمية العالم، سرمدِ العالم.
«كائن العالم» هو اختلاف «الكون» عن ذاته، داخل ذاته. ومن العجيب أن الكون سوف يُعرف ابتداءً من اختلافه هذا، تفعيل هذا الاختلاف، معارك هذا الاختلاف: لحظات من إشارة الإنية. ما هي الإنية؟ إنها التماعةُ تماسٍّ نادر بين كائن العالم، والكون. إنها تسجيل الطارئ منبعثًا من صميم السرمد. إنها ولادة العالم كاختلاف، داخل بنية الكون عينه. والإنية هي التي تضع الإنسان في مركز هذا التمفصل؛ ذلك أنه في مهلة الإنسان، يمكن فردنة سرمدية الكون إلى مجرد أزمنة وأوقات لكل الناس، لكل الأشياء؛ ومن ثَم، لكل حالة وجودية، يستطيع من خلالها الكائن أن يصرخ أنه: وَجَدها!

كل تلك الألفاظ أو المفاهيم التي لا ترددها الفلسفة فحسب، بل اللسان اليومي العادي، من مثل الآن وهنا، والبعيد، الفاني والأبدي، المستمر والمنقضي، الحب والموت، الغدر والوفاء … كل هذه اللفظيات اليومية، المتعارضة، إنما تردف أفعالًا وحالات يعانيها كائن الإنسان، من حيث إنه يدخل تحت عباءة كائن العالم. يستطيع كل امرئ أن يشير إلى الآخر، والأشياء، والمشاهد على أنها من العالم، كما لو كان العالم هو الآخر. ومن يشير، كأنه يستثني نفسه من موضوع إشارته. يظل العالم على مسافة مني، أنا الذي أوجِّه إصبع الإشارة نحوه، وأسميه. ولكن كيف لا أكون أنا ذاتي من هذا الذي تتوجه إشارتي إليه. عمليةُ تغييب فاعل الإشارة تدخل في كينونة الإشارة، بقدر ما تفر منه ظاهريًّا؛ فالعالم الذي أنفصل عنه لكي أتمكن من الإشارة إليه، لا يمكن قياس قربه أو بعده عني، إلا باستحضار حس المسافوية بيني وبينه. مرة أخرى، يكتسب العالمُ كلَّ مكانيته، بحسب هذا المثال. كما لو كانت المكانية تحمل العالم، وتنشره دائمًا حول الكائن. العالم هو من ضواحي الكائن.

لكن هذه المكانية، مع ذلك، هي آخر ما يمكن أن يبرز في الإشارة؛ ذلك أن الإشارة تهتم بوجود ذلك العالم، وليس بمكانيته، ولا حتى بموقعه المسافوي ذاك. فكل هذه الحوامل الأخرى للإشارة وموضوعها، تساهم في تأكيد وجود الشيء، ولكنها لا تغطي كل دلالة هذا الوجود. المكانية ليست الوجود، وبالتالي كل ما يتضمنه انتشار المكانية من معالم وكائنات، تكتسب وجودها من مصدر آخر، هو غير مكانيتها عينها. فحين السؤال عن شيء، عن كتاب، يكون الجواب: إنه مصنف في هذه الجهة من المكتبة. ها هنا يقتصر الجواب على تعيين مكان الكتاب فحسب. ولكن حين نسأل في سياق استفهام سياسي، أين موقع فلان هذه الأيام؟ فإن الجواب سوف يُعنى بنوع آخر من التصنيف المكاني، وإن لم يكن مكانًا ماديًّا، كالقول إنه في يسار اليسار، أو يمين اليمين، إنه تحديد في خارطة المواقف، يستعير مفردات المكان دون أن يكون مكانًا، حتى إن لفظ المكان، الحيز، الفضاء، المحل، دخل لغة المعاني والدلالات. هناك ميكنة المفهوم، أي: توقيعه في موقع. وانبساطه، ظهوريته، تنتقل من مشهدية الأشياء والأشخاص والشوارع والصحاري والغابات، إلى تضاريس الدلالات، وشبكياتها غير المتموضعة ماديًّا، ولكنها المنتشرة في المساحة اللغوية عينها. لن نقول مع بعض الاتجاهات السيكولوجية إن المكانية هي أصل الدلالة، لكنها على الأقل تفرض على تجريد اللفظ معيار شفافيته عن أشيائها. فالتميكن ظهوري، والتفكير تكرار للظهوري على مستوى التلفظ. مرة أخرى نلتقي مع شوبنهور: العالم من امتثالي. ما الذي ينقص هذا الامتثال (التصور) دائمًا؟ هو أنه محروم مقدمًا من المكانية؛ إذ إن التفكيري/اللغوي هو حرمان متفاقم من المكاني/الشيئي، إلى حين.
ذلك ما يجعلنا نواجه دائمًا مركزيةَ التحليل الوجوداني عند هيدغر، تلك الزمانية التي تجوهر حقيقة الدزاين، ما هي هذه الزمانية حقًّا؟ أليست تكرارًا للمكانية فيما لم يعد بمكان، وما ليس ظهورية في مكان؟ ألا يخترق الدزاين السرمد المكتفي بنفسه، يثقبه، يصدِّعه؟ ومن الشقوق والصدوع يُخلخِل كثافتَه السكونية المطلقة، ينقلها بعضَها القليل إلى سياقات الزمكانية. هذه الزمانية التي لا تستطيع أبدًا أن تنفصل عن المكانية، حتى في التموضع الحروفي أو اللغوي؛ إذ إن الزمان محتاج دائمًا لحمل المكان في بنيته الأنطولوجية، كما في صياغته اللفظية. فضيلةُ الدزاين، أو أصالته الفلسفية، أنه مشروع تشفيف للعالم. يريد تكراره، لكنه يعجز. يبني شبيهه، صنوه، مثاله. ما هو الدزاين؟ إنه الوجود غير المكاني، الباحث دائمًا عن التميكن. وفي حين مارس المشروع الثقافي الغربي هذه الالتباسية طيلة رحلته بعد الفجر الإغريقي، إلى أوج التحقق التكنولوجي، أي إنه كان دائمًا مشروعًا في الوجود الافتراضي الذي يرمي إلى أن يكون هو الوجود المتميكن الفعلي، لكنه اشتكى باستمرار من نقص المكانية في بنيته الأنطولوجية، فهو أنه بصورة ما، كان مضادًّا للعالم، كان لا يطيق مكانيةَ العالم، ميكنةَ العالم، فآمن بالتكوين المختلف ومارسه بما يشبه عنفَ التكوين العالمي، قِدَمَ العالم، هيمنةَ وجوده وظهوريتَه … في حين أن هيدغر قرأ هذا المشروع على هذه الشاكلة تمامًا، واقترح تصحيح العلاقة الالتباسية بين الذات والعالم، لكنه لم يستطع التمرد على شرعة أبولون، وغواية امتطاء الزمانية، كفرس يخترق مكانية العالم. بل لعله قدَّم مساهمته في توهيم التكرار، أكثر مما انخرط في تمزيق أقنعته السبعة. أيمكن القول إن هيدغر لم يستطع أن يتحرر من مملكة الشبه، عندما فرض عليه ذاكرة العالم مجددًا، بمعنى أن افتقار الترميز إلى التحيين إلى التميكن، قد يحرفه إلى حرفة أخرى يدعوها بالتأويل. كأنه يعيد خلق العالم على مستوى تصورات/تأويلات توازيه، أو تحجبه ثانية: ومع ذلك قد يكون التأويل (المشروع) هو أنضج ثمار الترميز، بما يؤهله إلى اختراق نتاجاته عينها من العوالم الموازية، كيما يعيد تمهيد كل الطرق الملتوية هذه، أمام الكينونة، تستدرجها كيما تقبل منافسة العالم في عقر داره، وتجعله وطنًا طبيعيًّا لسكناها، وليس مَنافيَ لها. بدلًا من أن ينهمك العقل الأبولوني في صنع أقنعة وهتك أخرى، طيلة تاريخ من التحقيب المعرفي المدوَّن، فإنه قد يمكن أن يجيء وقت يغدو العالم نفسه فيه، منسيًّا من كل تدوين. إنه وقت الكتابة النُّوَرية١ فحسب، كمثال لآخر طوباوية علموية.

قد تطمح الكتابة في أن تكون طريقة أخرى في إظهار ظهورية العالم بدون أدواتها المعهودة. لذلك كانت الكتابة، وكل الفنون، تعتبر نفسها تعبيرية. تختلف عن التقنية التي تريد أن تكون تجسيمية، تصنع بدائل عن الأشياء وأمكنتها. كان الفن في أعلى مطامحه خلال المرحلة الكلاسيكية، يريد أن يجعل من ذاته مرآةَ محاكاةٍ تحصر معيارها الإبداعي في قدرتها على نقل ما هو سواها. بالمقابل راحت التقنية تصنع الآلة بديلة عن الأصل، تخترع السيارة بدلًا عن القدمين، والحاسوب بدلًا عن أهم وظائف الدماغ، كالذاكرة، والتحليل والتركيب، وهندسة الحلول. لذلك يجيء اعتراف الفن بالمكان في أولويات بناءاته الحدسية، وفق التاريخ الأنثروبولوجي. لم تستطع اللوحة «الفنية» أن تستقل عن مشهدها الطبيعي إلا عندما كاد العالم التقني أن يحل تمامًا محل العالم الأصلي. ومنذ أن «تحررت» اللوحة من موضوعية الموضوع، لم تعد تجد أمامها منافذ للطليعية، إلا بالتنقل بين الأساليب الآلية عينها، أي: إن الفن في الحلقة العليا من تطوره، يقبل بالتنازل عن اختلافه، ليعود نوعًا داخل جنس التكنولوجيا عينه.

نأتي بهذه المقارنة سريعًا هنا من أجل تفحص ما تعنيه ظهورية المكان، والعلاقة التعبيرية أو الإبداعية التي يبنيها الكائن مع ظهورية المكان. فليس من قبيل التقدير الجزافي أن تقوم نظرية المعرفة على ثلاث دعائم، هي العارف وموضوع المعرفة، والوسائط بينهما، ابتداءً من الوظائف الحسية النفسية، إلى التوسيطات الترميزية الأخرى من لغة ومفاهيم واعتبارات قيمية واجتماعية مختلفة. المهم أن ظهورية المكان تمثل قوة الواقع، تمنح الأشياء ما يُسمَّى بقوة الأشياء في ذاتها كذلك. هذه الظهورية لا مهرب منها، ومع ذلك فإن الثقافات استطاعت دائمًا أن تخترع وسائل كثيرة تتصف بالانحرافية (عن قوة الواقع) التي تجعلها تنأى عن عنف الظهورية، عن سلطانها المطلق. فما يقاوم قوة الأشياء في ظهوريتها، هو تشغيل الترميز في اختراع البدائل، كما لو كان الترميز نفسه انفلاتًا من سلطان الظهورية. فأنْ يتعامل العقل مع ما يخترعه من الترميزات، هذا قد يقيه من انقذاف الأشياء، من كل حدب أو صوب، على نوافذه، سواء أغلقها أو شرعها.
لقد فلسفَت الثقافات مئوناتها من الترميزات، واعتبرتها دائمًا محاصيل معرفية، بل أنطولوجية زائدة عن ظهورية المكان، وقادرة على التأثير فيها. فإن مجرد تفريد الظهورية إلى ظواهر، يعني الشروع في القبض عليها، وإدراجها في مصنفات العلوم وأبوابها، ثم تشرع في استخدامها بما يُعَقلِن من هذه الظهورية عينها.
ماذا تعني ظهورية الشيء؟ هي أولًا أنه يشغل حيزًا مكانيًّا؛ هي أن له خصائص مادية يُعرَف بها؛ هي أنه — وهذا هو الأهم في التوصيف — مستقل عن إشارتي، وعن كل جاهزيتها من أداتية الحس والإدراك، والفهم … إلخ. هذه الظهورية لا تتعلق بحواسي ولا بإرادتي، ومع ذلك فقد شهدت الفلسفة تيارات كبرى من الرَّيبية، شكَّلت مفاصل في بناء المعرفة ونظريتها، كأنما ظهورية الشيء لا تكفي للبرهان على وجوده؛ لذلك تحفظت الفلسفة منذ البداية، وفصلت بين الرأي والمعرفة. غير أن هذا الفصل إن كان مقبولًا طيلة تأثر الفكر بثنائية المحايثة والمفارقة، فإنه لم يعد كذلك مع نظرية الفعل اللغوي اليوم؛ لأن كل تلفظ صار يمتلك فعله، بصرف النظر عن وظيفته التوسطية بين الشيء، بين ظهوريته، وجهاز صنع المعارف الذي ينطوي عليه العقل الإنساني.

لقد أصبح للتلفظ ظهوريته المكتفية بذاتها، بمعنى تحقق اللفظ من حيث هو كذلك. غير أن هذا التحقق لا يحدث في الفراغ؛ إذ إن الفعل التلفظي المقصود هو فعل كلامي. إن عبارة «من هذا؟» إذا كُتبت على ورقة بيضاء، قد لا يُفهَم منها أمر إطلاقًا. أما إذا تلفظ بها لسان، فإن هناك موقفًا متكاملًا يبنيه المتكلم الذي يسأل: «من هذا؟» ولا بد أن ينصبَّ سؤاله على إنسان آخر يدخل في الموقف حضوريًّا ماديًّا، أو حسيًّا كلاميًّا.

هل سنقول: إن أفعال الكلام تقدم ما يعوض عن ظهورية أشياء الكلام عينها. ذلك ما رسخ لدى معظم فلاسفة المشروع الغربي. فالترميزي لا يعود يرمز عن شيء يقع خارجه. ما كان عجزًا في اللغوي (لأنه يكرر الشيء فيما ليس شيئًا)، صار امتيازًا لأهم ما هو مسكوت عنه، وهو التصور. لقد استطاعت نقدية كانط أن تصوغ المفهمة الكاملة لعجز العقل عن الوصول إلى الشيء في ذاته. صار ممكنًا إذن التفكرُ في الأشياء وهي غائبة. وبذلك شرَّعت نقدية كانط لقيام عالم مثلي قد يطابق تصوراتي، لكنه غير مسئول أبدًا إن كان يطابق عالم الأشياء في ذاتها، أو لا. بالمقابل، تمكن العلم طيلة حقب الحداثة، من إشادة ميادينه، واستخلاص قوانينها؛ وبالتالي لم يعد العالم المثلي تصوريًّا خاصًّا، صار يعج بالحقائق العلموية والنظريات، وإلى جانبها تتراكم الأجهزة الآلية. أصبح في مقدور الشبه أن يستعير كل مقومات المحايثة وينسبها إلى أشيائه. وهكذا فإن ما كان يُسمَّى بظهورية العالم، غدا يعادل اختفاءه وانسحابه؛ ذلك أنه هناك ظهورية أخرى ستُسمَّى بالموضوعية، وتحددها الذاتية فحسب. ولم تطامن الموضوعية من غرورها الذي انسحب تقريبًا على القرون الثلاثة الأخيرة، إلا عندما شرع العالم المثلي يمزق شرانقه المتراكمة حول كيانه الافتراضي، واحدة بعد أخرى. لم يعد يمكنه ادعاء المطابقة بينه وبين العقل من جهة، وظهورية الكون من جهة أخرى. فجأة اضطُر إلى الاعتراف بأنه ليس سوى عالم/محيط، إنه البيئة المعرفية الأقرب إلى أدواتها لدى الإنسان المنشغل بالأسئلة اليومية الملحَّة.

أما عندما ينفتح أمام العقل إمكانية المغامرة في سؤال الكائنات الفضائية الأبعد، وفي سؤال أصغر كائنات الذرة وعناصرها، فإن ما كان يشكل محيط الموضوعية، لم يعد سوى موجة هادئة نسبيًّا في محيط هائل من صخب المجهول.

لكن هذه النقلة الجبارة من كهف الفيزياء التقليدية، إلى الكونين الأكبر والأصغر، بالرغم من قطيعتها الكبرى هذه، لم تستطع أن تضع حدًّا للفصل بين الظاهرة والشيء في ذاته. والغريب أنه لم يكن لانتشار الفينومنولوجيا في محاذاة الاختراقات العلمية نحو الجرم الأصغر والأكبر، منذ أوائل القرن العشرين، التأثيرُ المنتظَر في اختلاف النظرة إلى إشكالية الظهورية في حد ذاتها؛ ذلك أن «العالم الثالث»، حسب بوبر، ظل يتابع قوانينه الذاتية، كما لو أن نقدية كانط ما زالت سيدة المعايير، كما هي. فما كان مفاجئًا أن تعود الفينومنولوجيا، على يد مؤسسها بالذات هوسرل، إلى المنعطف الأفلاطوني، كمحاولة للقضاء على القطيعة المزمنة بين الظاهرة، والشيء في ذاته. غير أن الحل الحقيقي كان يسير على دروب دزاين هيدغر، وليس في درب هوسرل؛ إذ اكتشف الأول أن أسطورة الشيء في ذاته ليست سوى ظاهرة هي كذلك. ولكن جرت العادة على إخفائها.
وهكذا، دخلت ظهورية العالم على يد هيدغر، ومن جديد، في لعبة الكشف والإخفاء. نجح هيدغر في نقل إشكاليات الذاتية/الموضوعية من إبستمولوجيا المعرفة التجريبية، إلى نطاق التفكيك مع التحليل الوجوداني l’analyse existentiale. وبالتالي يعود «العالم الثالث» (الترميز) إلى الارتباط مجددًا بحركية كلٍّ من العالمَين؛ الأول المادي (الطبيعي)، والثاني الذاتي/الباطني، ولكن ليس على مستوى الفرد العالم أو المفكر، وموضوع البحث، بل على مستوى المشروع الثقافي الغربي بكليته.

ذلك أنه عندما أوشكت ظهورية العالم على التحرر من العلاقة الإبستمولوجية: الذات/الموضوع، بعد انكشاف مشهديةٍ أولى للعالم الأكبر ما فوق هذه العلاقة، ومشهديةِ مقابلةٍ للعالم الأصغر تحتها، عندما أوشك المشروع الثقافي الغربي على إنهاء لعبته المفضلة، الكشف والإخفاء؛ اكتشف ذروة هذه اللعبة مع الميديالوجيا والمعلوماتية. بدلًا من انهيار ثنائية الظاهرة/الشيء في ذاته، بفضل تثبيت أن الشطر الثاني من هذه الثنائية ليس سوى حالة من الشطر الأول، أي: إن ما هو في ذاته ليس سوى ظاهرة أخرى كذلك، نقول بدلًا من انهيار هذه الثنائية، فقد أصبحت الظهورية نفسها هي موضوع التشبيح الأكبر، هي ضحية ذات نفسها عندما أُخضعت، قسرًا أو طوعًا، للشروط القصووية في الظهور، عندما يصبح حتى الشيء اللامرئي مرئيًّا ظهوريًّا إلى درجة التسريع الضوئي عينه. بمعنى أن ما يظهر يغدو مستحيل الظهور.

لم يعد ثمة حاجة لاختراع استراتيجيات لوغوسية، أو حضارية متشعبة من أجل إتقان لعبة الإخفاء والتظهير؛ إذ أصبحت الظهورية نفسها تتكفل بتعليق ظهوريتها ما فوق كلٍّ من الفعل ورد الفعل معًا.

«في ذلك الزمن لم يكن عالم المرايا ولا عالم البشر بمعزولين عن بعضهما. بل على العكس، كانا مختلفين جدًّا، فلا تتآلف، لا الكائنات، ولا الأشكال، ولا الألوان. كانت المملكتان، لكلٍّ من البشر والمرايا، تعيشان في سلام. كانوا يدخلون ويخرجون من المرايا. وفي ليلة، غزا ناس المرايا الأرض. كانوا على قوة عظيمة، ولكن بعد معارك دامية، فقد تفوقت الفنون السحرية التي مارسها الإمبراطور جون (الأصغر). استطاع أن يدحر الغزاة، وأن يسجنهم في المرايا، فارضًا عليهم أن يكرروا جميع أفعال البشر، كما لو كانوا في حلم. فحرمهم بذلك من قوتهم ومن وجههم، واختزلهم إلى مجرد انعكاسات تابعة. ومع ذلك، فإنهم سينفضون عنهم هذا السبات السحري في أحد الأيام. وتشرع الأشكال في اليقظة. سوف يختلفون عنا شيئًا فشيئًا، وسوف يكفُّون عن تقليدنا تدريجيًّا. سيحطمون الحواجز الزجاجية والمعدنية، وهذه المرة لن يكونوا المنهزمين.»٢
ذلك هو «انتقام شعب المرايا»، كما يسميه بودريار. وإذا كان بورغيز، لم يتنازل عن تفاؤله، رافضًا أن يظل الشعب، من صنف المرايا التي يصنعها لنفسه طيلة التحقيب المعرفي، وأنه لا بد أن يكف ذات يوم عن تقليد خيالاته المنعكسة عليه من المرايا، صُنعِ يديه، إلا أن بودريار لا يرى سببًا حقيقيًّا لتحقق انتقام شعب المرايا. وهو بالرغم من أنه يجزم أن هذا الانتقام/الانتصار لن يحصل إلا عندما يتم اكتشاف الآخرية، إلا أن العبور من الطرف الآخر من المرآة، قد لا يحقق سوى تجاوز المرايا، وليس تجاوزًا لذات النفس فعلًا، تجاوز المرايا، ولكن إلى مرايا أخرى!

إن الأمر الأخطر في هذه الثورة القادمة، إن كان ثمة حلم بالثورة فعلًا في نظر بودريار، هو أن «كل نظامنا في التصور والقيم سيئول إلى الزوال تحت وطأة هذه الثورة. هذه العبودية للعين، لذات النفس وللشبه، ستتحطم مع انبثاق ثورة الآخرية. وإن كنا نحن الذين نحلم بالعبور من الجهة الأخرى من المرايا، لكن هم شعوب المرايا الذين سيتولَّون تحقيق الانفجار في عالمنا. وهذه المرة لن يكونوا المنهزمين».

لا شك أن هناك أفقًا استراتيجيًّا بعيد المدى ترمي إليه هذه العبارات. ذلك أن الكاتب لا يخشى على «الكينونة» في شموليتها، بقدر خشيته على مصير المشروع الثقافي الغربي، المتنطع دائمًا إلى حمل العبء الكينوني. فالآخرية ليست واردة عنده، كانزياح يحدث داخل سياق المشروع الغربي عينه، إنه «يوم الدينونة» الآخر، القادم من وراء التخوم. فليس شعب المرايا هو عينه المقدَّر له أن يحطم المرايا، أو أن يعبر من جهتها الأخرى. إنها الآخرية التي ستأتي بالشعب الآخر، والمكان الآخر.

«ماذا سيتأتَّى من هذا الانتصار؟ لا أحد يعلم. أيقوم وجود جديد لشعبين سيدين بالتساوي، غريبين (عن بعضهما) تمامًا، لكنهما متواطئان تمامًا كلٌّ منهما مع الآخر؟ أتكون حالة مختلفة على كل حال، عن هذه العبودية، وهذه القدرية السلبية؟»

هل ذلك ما يرجِّح نموذج استراتيجية أخرى. ولكن مهلًا. فالأمر ليس بسيطًا إلى هذا الحد: «هكذا، ومن كل مكان، هنالك الأشياء والأطفال، والموتى، والصور، والنساء، كل ما يشكل مركزًا لانعكاس سلبي في عالم مؤسَّس على ذات النفس، على الهوية، سيغدون على أهبة الاستعداد للتحول إلى الهجوم المضاد. فهم مقدمًا سوف يشابهوننا أقل فأقل.

لن أكون مرآة لك i’ll not be your mirror

كيف مولد الآخرية، والمسافوية تتآكل موضوعيًّا وتواصليًّا. لا يعود الكوكب الأرضي، مع «الزمن الواقعي» إلى تراصِّه النووي، بل كأنه يسير إلى التذرر النفاوي — من النفاية — لن يكون الزمان مجرد طارئ على العالم، يعيد إبراز مسافوياته، كأنها بقع أوطان لكائنات اختلافية، صيرورية إلى ما لا يتناهى من الأحوال والكيانات؛ ذلك أن انمساخ الزمان سيبرهن، هذه المرة، على استحالة استمرارية المكان عينه، بقوته الخاصة، فإن مغامرة التكنولوجيا في اتجاه القصووية المطلقة، لن تقرِّب المسافات الكوكبية والفضائية، بقدر ما تعرِّض مفهوم الكونية عينه إلى اللاشيئية الخالصة.

وما كان يُسمَّى عدمية على مستوى الأفكار والنظريات، أي: في النطاق الترميزي، من «العالم الثالث» حسب بوبر، سوف يغدو تبديدية مطلقة على مستوى الموضوع، أو «العالم الأول» عينه.

وقبل أن نُقسَر على مواجهة هذا التحول الكارثي الخاتمي، فإنه لا يزال مسموحًا به تداولُ بعض النظرات في نطاق إشكالية: ذاتية ذات العين، أو العينية la mêmeté والآخرية l’allérité. لا بأس من اعتبار هذه الإشكالية أنها تؤلف ذروية التفكير في هذا العصر. وهذا ما يجعلنا نفهم لماذا هذا التعويل على مولد الآخرية، كما لو كانت الثورة الأخيرة قبل الكارثة المطلقة.

قبل أن تكون الآخرية أقنومًا سياسيًّا أو ثقافيًّا استراتيجيًّا، فقد كانت من الشمول بحيث تعني/وتحيط بكل ما يتجاوز الذاتية. لم تكن مسألة المكان والمكانية منضوية تحت هذا النوع من الهم والاهتمام. لا أحد يشك ذات لحظة أن المكانية ليست خارجة عن منطقة التهديد، بل ربما كانت بالأحرى المركز الأول الذي سيتعرض للتهديد. ما نفعُ كل كلام عن أية ذاتية أو آخرية، إن كان القاع نفسه يغدو بدون قعر أو قرار؟ فالكائن هنا، الذي اعتمده التحليل الوجوداني كقاعدة لمحاورة الكينونة، لا يواجه إمكان عدميته بالنسبة لمجيء الكينونة أو غيابها المتمادي فحسب، وهو الإمكان/الموضوع الذي سمح بإشادة الصرح الهيدغري الاستثنائي، كأول فلسفة تقوم بعد خاتمة تاريخ الفلسفة، التدوين. بل أصبح يواجه عدميته هذه، عينها، بالنسبة لكيانه الظهوري، من حيث إنه يشغل حيزًا من ظهورية العالم. فما يتهدد هذه الظهورية بالذات، بعد انتهاء لعبة الكشف والإخفاء، هو أنه لن يكون هناك شيء في هذه الظهورية قابلًا للانكشاف، قابلًا للاختفاء.

ومع ذلك، فهذا المايحدث، لا يزال، هو عينه، مما لم يحدث بعد. والدليل هو إمكانية كتابته الآن وهنا، كتابته كحدث، لَمَّا يحدث بعد. لعل آخر دلالة لما تعنيه المهلة أنها مهلة الوقت الذي يأتي قبل الكارثة. ولعلها هي المهلة التي تستغرق ما ندعوه بعمر الكون. عمر الكون هو مهلته قبل المصير إلى اللاكون. وقتٌ ما قبل ألا يكون وقتٌ، أيُّ وقت.

إن صيغة العد العكسي، هي من صميم البنية الكينونية للمايحدث، قبل أن تستهلكها تشبيحات القيامات الغيبية، ليس ذلك لأن الكون موعود بلاكونيته منذ الأصل، بل لأن تقهقر العدد نحو الصفر لا يمحوه من العد، بل إن الصفر لا يفترق عن أي عدد آخر من حيث الترميز. إن لاكونية الكون المؤجلة تمنحه اعتبارًا إيجابيًّا، تُشَرعِن لعدمية إيجابية. والدليل هو استمرارية ثقافة القيامات في كل زوايا الوجود الأرضي، وعند مختلف ممثِّليه.

لكن، متى يختلف هذا المنظور، وينقلب رأسًا على عقب. متى يمكن ألا يبقى العدُّ التنازلي رديفًا للعد التصاعدي، مجرد حالة ترميزية كغيرها من الترميزيات التي تحفل بها مستودعات «العالم الثالث» (بوبر). يحدث ذلك بكل بساطة، عندما يقفز الصفر من سياق الترميز، من العد والعدد، إلى المعدود عينه. عندما تغدو ثقافة الكونية/اللاكونية، هي من إمكان العدمية عينها، وليس من إمكانية تصورها فحسب. ومنعطف التكنولوجيا الراهن، لا يهدد باللاكونية كمهلة مؤجلة، ولكنه يعلن عن قيام الساعة عند لحظة زوالها تمامًا. و«الساعة» لا تؤشر الزمانَ فحسب، بل وزوالَه.

ولعل ذلك ما جعل التحليل الوجوداني لا يقيم فروقًا مفهومية بين أن يكون الدزاين هو ما يجيء عن طريقه الزمان إلى العالم، أو أن الزمان هو مجيء الكينونة، وبين واقع أن ما يبني للكينونة أوطانها في العالم هي اللغة. الزمان، الكينونة، اللغة. ألفاظ، كيانات، أقانيم، هي طوارئ على العالم، تأتيه دائمًا من لا مكان، لتعطي لمكانية العالم عينها، حيزًا آخر خارج حيزها (الأصلي)، كانت تُعرَف به وحده، وتوجد به وحده.

ذلك ما اعتادت تعليميةُ الفلسفة على تلقِّيه وتلقينه من وإلى، دائمًا. ولكن لم يقل أحد، خارج التلقي والتلقين، إنه ماذا لو لم يكن للعالم أصلًا عالميتُه، كيف انتظر العالم طويلًا جدًّا، طيلة «أقدميته» قبل أن يلج إليه المايحدث فجأة، فيقدم تسميته كعالم، ويعيِّن هويته كأقدمية موغلة في قِدَمها دائمًا دون حدود، ولكنه هو السؤال الأساسي: من أين يدخل إلى العالم هذا الشيء الفجائي الذي يمنحه اسمه، هذا المايحدث، ويعين ماضيه، ويُشَرعِنه كحدث، وكقاع لكل حدث. من أين يلج ما ليس عالميًّا في الأصل، إلى العالم. هذا الشيء أين كان حقًّا قبل أن يسطِّر أحرف العالم، ويسطر نفسه من خلالها كذلك.
كأنما كل الإشكالية تتحصل بعد التدوين؛ إذ ما إن يقع التدويني، حتى يموت سؤال ما قبل التدويني. كما لو أن أقدمية العالم كفت عن تبرير اتباعية مستقبليته لحتمية صارمة (جاهزة أو ساذجة)، كما توضح ذلك تطورية مبدأ الحتمية في الإبستمولوجيا، بقدر ما تفتح «أقدمية العالم» على نوع من حتمية اختلافية، أقرب إلى قدرية fatalisme جديدة، لا يكون مسرحها الكوكب الأرضي ومحيطه فحسب، ولكنه الفضاء الكوني هذه المرة. كأنما أقدمية العالم تعود فتعانق مجهول الكون، تمنحان معًا ثمة كيانًا معرفيًّا (لفظويًّا؟) لأقنوم السرمدية عينه. لكن مثل هذا البعد الميتافيزيقي الجديد لن تُتاح له مهلة الشروع في بناء كوسمولوجيات علموية هذه المرة عن غير طريق الاستلهامات المفارقة المعهودة.

إذا كان الزمان هو الذي أتاح تدوين العالم كعالم، هو إمكانية الحدوث، فالحدوث عينه يحتاج إلى القاع، الذي يُمَسرِح الحدث، وإلى الكائنات والأشياء، التي تعطي اختلافية القاع، وتشكل مفردات ظهوريته. لكن الظهورية ليست سوى تعيين يمارسه الفكر، وهو أحد كائنات هذه المفردات، حول بقية الكائنات. فاللغوي هو الظهوري الوحيد الذي يجعل الظهورية ممكنة. من دون اللغوي تفقد الظهورية دلالتها؛ لذلك لا يمكن اعتبار دخول الزمان وحده إلى مكانية العالم تعيينًا لهذه المكانية وللعالم معًا؛ إذ إن الزمان ليس شيئًا بدون الكائن الزماني عينه، هذا الذي يتمتع حقًّا بقدرة على بناء «العالم الثالث»، فالعالم، الزمكان، وكل ما يَتَفَردَن في سياقهما، يحتاجان للغياب أو للانكفاء إلى خلفية المسرح على الأقل، كيما يتمكن المايحدث من لعب دوره. لعل هذا المايحدث يتجلى في إلغاء الحدث الزمكاني، العالمي، نفسه، لكي يتمكن من صناعة العالم الآخر، فوق تلاشي الأول. اللغوي، أي: هو الظهوري التعبيري الذي يحل مكان الظهوري الصامت، الذي يجهل نفسه كظهور أو كأي شيء آخر.

فالترميزي ليس حيزًا ثالثًا أو عالمًا ثالثًا يجلس ما بين العالمين، الذاتي والحسي. إنه بالأحرى مضطر أن يأتي بهما معًا، في كل لحظة يتأتَّى هو فيها بذاته. ذلك هو المايحدث في حال الفعل، ولا حالة له سواها. إنه يجعل الظهورية تتحدث عن نفسها في كل ما يظهر، وفيما هو ذاتها كظهورية شمولية.

هل نستطيع أن نعرِّف الظهورية بكونها الحالة الشمولية التي تلفُّ كل الكائنات. والترميزي، بشكل خاص، رغم أنه يستثني نفسه من خاصية الظهورية هذه، إلا أنه استثناء مؤقت؛ لأنه محتاج إلى ظهورية من نوع آخر، تنتقل من الحسية المباشرة إلى الدلالية. فالترميزي مهما أوغل في تجريديته، فإنه مضطر دائمًا إلى التعويض عن الحسية بما يفوقها أحيانًا من الدلالية. ولهذا قد يلجأ الترميزي إلى لعبة البروز والانكفاء. بل هو المحل الطبيعي لهذه اللعبة. وذلك هو الأصل الذي سمح بإشادة العالم «التصوري» الموازي للعالم «الحقيقي؟» وكان الفرار إلى الأول بمثابة نقل عُدة الحقيقة وإشكاليتها من الحسي إلى ما يتجاوز الحسي. ومن هنا جاء اختراع الفكر الازدواجي. فالترميزي بقدر ما يسخو بدعاوى التحرر من «الأشياء»، فإنه ملزم بإقامة كل الجاهزيات الأخرى المسماة «الحضارية»، من أجل استرداد بعض خصائص الأشياء، وعَزوها إلى مفرداته. ما ينتقص من وجود الترميزي حقًّا هو الشيء. كل إنتاجية الترميزي اختلاق المعوضات عن الشيء. ينزلق بذلك العالم الموازي إلى العالم المثلي، الذي لا تُضطر فيه الذات أبدًا إلى مبارحة أشباحها، فهي تتقدم في العالم، لكن دون أن تعرفه. لا عجب إذن أن يكون التقرير الأخير الذي يتعاون على إنتاجه اليوم، وفي أوج الحضارة و«اكتمالها»، قمم الفكر والعلم والاستراتيجيات، إنما ينطوي على لازمة تأبينية واحدة، بلهجات وإيقاعات متباينة، تعلن «نهاية التاريخ». ولكن بأي معنًى تتحقق هذه النهاية. هل هي نهاية عالم الترميز، أم أنها التسليم الأخير بالعجز المطلق عن استرداد الشيء، وتكريس الشبْه وحده، بالأصالة عن نفسه، وعن الشيء الذي يدَّعي أنه ينوب عنه.

ليس مصادفة أن يتقاطع أوان التسليم بهذا العجز، مع اضمحلال الزمكانية إلى درجة الصفر تقريبًا في مصطلح «الزمن الواقعي». هل يعني القضاءُ على المسافوية في الزمكانية، في كلٍّ من الزمان والمكان معًا، استردادَ انتشار العالم اللامتناهي إلى حال الانكماش اللامتناهي. هل يأتي انغلاق تجربة الترميز عند الحي/الإنسي على كوكب الأرض، كأنه عينة نموذجية عما ينتظر الكون الشمولي، في المستقبل «اللاكوني» عند انتهاء العد العكسي، أو الانتشار المؤقت، أو انقضاء عمر الكون والأرض والحياة، وانكفائها إلى حجمها كذرة لا متناهية في الصغر. لكنها بعد تجربة الانتشار، لن تكون سوى ذرة نفاية مقابل ما كانت عليه من ذرة يكمن فيها الثقل والحجم اللامتناهيان.

لماذا الكون هو المهلة بين الإمكان المطلق واللاإمكان المطلق. هذه العبارات لم تعد من مصطلح الغيب والتجريد أو الأسطرة. أصبحت من مفردات التجريب، ومن هواجس العلم الذي يحاول أن يسترد الكوسمولوجيا، أو تسترده هي؛ ذلك أن الكشف عن المكانية يعني في النهاية، وضع مادية الكون عينها موضع السؤال الفلسفي الذي لم يعد يمكن طرحه إلا على ضوء الكشوفات الفلكية المتلاحقة، حيثما يتلاقى كلُّ ما كان يُسمَّى بالعلوم الطبيعية، مع العلوم الفلكية. فإن فيزياء الكون قد أصبحت هي المدخل الموضوعي نحو التعرف إلى أساس البنية التكوينية للذرة ومفرداتها من النتروتون وأصنافه، التي لا تكاد حتى اليوم تُحصر علميًّا رياضيًّا مع الألفية الثالثة الراهنة.

ولكن، حتى لو افترضنا أن العلم استطاع أخيرًا أن يقدم نظرية شاملة عن أصل الكون، وعمره وقوانين انتشاره، ثم قوانين تقلُّصه وانطفائه، فإنه تتبقى للفكر مهلته الخاصة من ذلك الزمان الكوكبي. مثلًا: إن حل مشكلة التعرف إلى العناصر المكونة للمادة لا ينسحب على سؤال أصلها. إذا كان مصدر الكون تلك الذرة اللامتناهية في الصغر، واللامتناهية في الكثافة، فإن سؤال: لماذا الكينونة وليس العدم، لا يفتقد شيئًا من الخاصية الوجودية. إذا كانت الأرض، ثم الحياة، ومنها الحي/الإنسي، كل ذلك لا يكاد يؤلف إلا مجرد خيط لا حدود لنحولته ودقته، من مجمل حركية الكون و«كائناته» الكوكبية، والمجهول منها أكثر بكثير من معلومها، فإن الطرح الأنطولوجي سوف تتضاعف رقابته على المشهدية الكونية، من أجل أن يفوز بإشارات عن اختلافية الكينونة. إنه وحده الإنسان من يكلف نفسه بالتقاط شذرات من إشارات الدرب الموصل إليها بدون تأكيد هذا الوصول دائمًا. فلا شيء يسلب كائن الإنسان مهلته تلك، في ترقب الكينونة وفي افتقادها، مثل اضطراره إلى التنازل المتمادي عن استثنائيته تلك، والقبول باندراجه في نوع من الزمانية التماثلية، وذلك كلما أوغل في المراهنة على التكنولوجيا، كإمكانية إشادة عالم مثلي، يكون بديلًا عن كل من الذات والموضوع معًا. لكن هذه المراهنة على التكنولوجيا قد أدت إلى اختزال التكنولوجيا عينها إلى التسريع، إلى اضمحلال الزمكانية إلى ما يشبه الصفر. كأن مصير الكائن هو إلى افتقاد الكون عينه، انحسار الآخرية. لكن هذا الانحسار ذاته لكلِّ ما ومَن يقع على مسافة مكانية، على مهلة زمنية، ليس فوزًا شاملًا بالذاتية. ما قيمة «الزمن الواقعي» إن تعذر أن يحياه أي كائن؟ ما هي المعلومة التي تخسر زمانيتُها الخاصة مهلتَها المعرفية، وتستطيع مع ذلك أن تقدم ثمة خدمة، لمن يعجز عن اللحاق بها، فكيف إذا كان المطلوب هو إدراكها، والتزود بمحصولها، في عالم شبحي كله حين لن يسأل أحد: ما أصل الشبح؟

ما الذي يجعل عصر الحداثة البعدية ينفتح على كل الاحتمالات، دون ضمانة لأي احتمال واحد بعينه من دون سواه. قد يكون الجواب هو ذلك الحدس الرئيسي في إشادة التحليل الوجوداني، عندما يقول هيدغر إن الفكر القادم سيكون اللافكر pas-de-pensée، بمعنى تجاوزه لحرفية المؤسسة المتخصصة بإشادة الحقيقة حسب التحقيب المعرفي. اللافكر القادم هو أسلوب منفتح دائمًا على ممارسة أداة النفي: «اللا»، التي تلتزم الفكر بطريقة مختلفة، عندما تلتزم ذاتها، فتنخرط اختلافيًّا فيما لا يمكن تصنيفه مقدمًا إن كان هو من الفكر حقًّا أو لم يكن كذلك.
هذا ما يضع الفكر في حيز أوسع، مباين أو متجاوز للعقل؛ ذلك أن العقل ينطلق في تصرفاته من المعيار أولًا، ثم يصل إلى التصرف. في حين أن الفكر يظل يجهل نفسه، حتى وهو في أدق التزامه لممارسته، فكيف يمكنه أن يدعي بناء المعايير. قد يمكن القول إن اللافكر القادم، هو ما يستبق تعريفه، اللافكر هذا هو وحده المخول بإبداع الأفكار التي لم يعرفها بعد. وعندما تتم هذه المعرفة قد يوكل بها إلى مستودعات العقل، أو «المعرفة»، لكن الفكر اللافكر هذا، يتبرأ مع ذلك من مهمة الكشَّاف الذي يشكِّل طليعة العقل وشعبه وعلومه. ليس له مثل هذه الغائية، سواء كانت غائية في ذاتها، أو مؤجلة إلى ما بعد إنتاجيتها. كما لو أنه لا يحق لأية معاينة أخرى، غير الفكر اللافكر، أن ينخرط اختلافيًّا. ليس انخراطًا جزافيًّا، لكنه يتواجد طيفيًّا في كلٍّ من تخوم الحتمية والحرية معًا. إنه دائمًا ما ينقص اللاتحديد، ويزيد عن التحديد بشيء ما.

حتى عندما تدعي الحداثة البعدية نفسها أنها ربما تجيء بالوطن الوحيد لهذا الفكر اللافكر الذي كان دائمًا منفيًّا من مختلف عصور وعهود التحقيب المعرفي، فقد يكون لديها ادعاؤها ذاك، وقد يمكنها أن تأتي بالشواهد الكثيرة عليه. لكن المسألة ليست هنا. فالفكر اللافكر لا أحد يعرفه. وإذا كان البعض يعتقد أنه الرهان الأخير لسؤال الكينونة، فما الذي يخول الحداثة البعدية أن تفترض كونها الوطن المفقود، الذي يمكنه أن يدخل تحت طائلة هذا الرهان، دون أن يُفقِده شيئًا من بكارته الوجودية، وحسميته المنطقية.

أليست الحداثة البعدية تسمية تحقيبية أخرى، قد تضاف إلى/أو تأتي بعد التحقيب المعرفي نفسه. أين يقع تسجيلها بالضبط، إذا كانت إمكانية التسجيل عينها قد عفا عليها انغلاق تسجيلات الحقب المعرفية، كلها، السابقة عليها؟ لم يتبقَّ إذن للحداثة البعدية ثمة تسجيل حقيقي. وليس القول إنها تقع في منطقة ما بعد التدوين وجاهزياته المختلفة، سوى مجرد إعلان ساذج عن استنفاد الضمانات فحسب، قد يؤهلها لغرور جديد، يدعي أنه يفتح عصر اللامواقعية باعتبارها هي المواقعية في ذاتها التي استهلكت أساليب تغطيتها وتنكيرها. ولعله حان أخيرًا تلفظ اسمها بكل عُريه المطلق.

الحداثة البعدية لا تجرؤ على وضع ذاتها بإزاء الفكر-اللافكر القادم، لا تستطيع أن ترشح نفسها كيما تكون عُدة الشغل المؤهلة وحدها لخدمته. فإذا كانت نجحت إلى حد ما في فرض اسمها كعنوان «للفضاء» الذي يأتي بعد انغلاق التحقيب المعرفي، إلا أنها سوف تظل مدعومة بهذا الموقع، الأمر الذي يجعلها محملة بذاكرة ما سوف تدعي المجيء بعده. تظل أقرب إلى مآتم مراسم الدفن منها إلى مهرجانات تدشين المواليد، غير المولودة بعد.

الحداثة البَعدية لا تجرؤ أن تقدم التمعين الذي سوف يغطي مساحة الفكر-اللافكر؛ لأن كل تغطية من هذا النوع سوف تُضطر إلى إعادة إحياء ذلك الفكر عينه، الذي عليها أن تعامله بطريقة مختلفة؛ إذ إن الحداثة البعدية في أصلها لن تستطيع أن تحتل إلا جهة محددة سلفًا بجغرافية ما تدعي تجاوزه. كما فعلت الهيدغرية تمامًا، عندما عاش إنتاجها كله على استحضار كل ماضي الفلسفة من أجل تفكيكه وتجاوزه، لكن المحصلة النهائية تستدعي دائمًا السؤال الآتي: فيما إذا كانت الهيدغرية عينها تمرينًا نمذجيًّا على ممارسة «اللا» نافية داخل الفكر عينه، على مشارفة الفكر اختلافيًّا لممارسته عينها؟ هذه الإشكالية تتعدى الانشغال بتجاوز الحداثة إلى ما بعدها، أو بتصحيحها، أو إعادة تأويلها؛ ذلك أن مثل هذا الانشغال يعني أن تاريخانية التحقيب المعرفي قد أصبح لها ملحق، وبالتالي فإنها لم تغلق دائرتها تمامًا بعد. أما الفكر-اللافكر، مثلما لا يمكن أن تحدده إحدى إنتاجياته السابقة، فإنه لن يكون مستقبليًّا أسير شكلانية ناجزة مقدمًا. وبذلك فإن إنتاجية الفكر-اللافكر مضطرة أن تتذكر دائمًا أحداثها، من أجل استعادة التأشير على المايحدث فيها ولها، بالرغم من انقضائيتها عينها، وذلك كطريقة وحيدة تسمح بالانخراط في ترميزها مجددًا، وليس في تكرار «اقتصاد» رموزها المتراكمة.

إذا كانت الحداثة أقرب الرموز إلى ترميز الفكر اللافكر، ذلك يعني البحث عنها فيما يعنيه ما لها من المايحدث الحداثوي عينه، وليس فيما يثبته أو ينفيه «اقتصاد» حادثاتها. ومن هنا فإن «الفكر» الذي يكشف عنه التحقيب المعرفي، هو الذي يقلب هذه المعادلة، حين يقيم حواجز من المعيارية تفصل بين الفكر وطريقته الأخرى: اللافكر؛ ذلك أن التحقيب المعرفي يريد أن يثبت أنه يؤسس ويخترع مفهوم القطيعة، ويقدم عنها لائحة بحادثاتها داخل تاريخانيته ذاتها كحقب أو مراحل، تتميز كل منها بنموذج عن نظام أنظمة معرفية مختلف عن نظرائه. في حين أن هذا المفهوم لقطيعة ما بين الحقب المعرفية، يخفي ويغطي القطيعة الأخرى المختلفة، ما بين مجمل «آنات» التحقيب المعرفي، وما هو ليس كذلك، ما يقع خارجه، ما دام يعتقد أنه بتقديم تدوينه ذاك، كأنه يفترض إلغاء كل التدوينات الممكنة الأخرى.

في حين أن القطيعة الخارجانية ما بين «نظام» التحقيب المعرفي، وما ليس كذلك، هي التي تحقق النقلة من حضارة الأجوبة التي تجهل كيف تسأل نفسها، إلى حضارة السؤال الذي لا يجيب نفسه. فليس الارتكاز إلى مصطلح من نوع: ما بعد الحداثة، قادرًا حقًّا على توفير ساحات جديدة لأسئلة لا تدري كيف تخرج عن معاييرها الخاصة غير المصرح بها. وإذا كان ثمة انفلات حقيقي من صيغة السؤال الذي يتضمن جوابه سلفًا، فلا بد من الالتجاء إلى الفكر اللافكر الذي يدعي المجيء بالأشياء وأنظمتها معها، وما ليس كذلك أيضًا. ذلك هو المنهج الدائري الذي نضحت به كتابة الفلسفة/اللافلسفة، دون أن يلزمها به مسبقًا مجرد فعل إرادوي انتخابوي من قِبَل الفيلسوف. إنه المنهج الذي هو عينه متن الكتابة، وليس شكلانيتها فحسب. يعثر عليه كاتبه فجأة في فجائية نصه بالذات. يمارسه دون إذن ليتحصل عليه من لدن أية قراءة ذاكرية أو سواها خارجة عن كتابته هو، ولحظة الكتابة.

كيف التجول إذن في هذا «البر» الوحشي الذي يقع ويمتد خارج الحداثة/الحداثة البعدية، دون أن يتورط البدويُّ الجوال خلاله، في اختلاق حقبة جديدة تنضاف إلى زميلاتها في مخزن التحقيب المعرفي العتيد. استحالة هذا السؤال هو أن الفكر، ربما لأول مرة، يريد أن يفكر الحداثةَ، بدون أن يستخدم أي نظام معرفي من الأنظمة التي أنتجتها الحداثة، وأُنتجت بها. لحظة الوعي هذه تحاول على الأقل أن تثبت نقطة الضوء الأولى في سياق هذا التسآل الخالص، وهي أنه إذا كان ثمة نهاية، فهي نهاية التاريخانية، باعتبارها المستودع الأكبر لانتصارات مشروع التحقيب المعرفي وهزائمه، وأن «نهاية التاريخانية» هي التي تفتح لأول مرة كذلك على   التاريخ، كما لو كانت هذه الخاتمة تشمل مرتبة الرقم صفر من العد التنازلي، الذي شرَّعته تاريخانيةُ التحقيب المعرفي. مرتبة الرقم صفر من سلسلة ابتدأت عكسيًّا بالرقم الإطلاقي الكبير لتختتم نفسها بأقل عدد، والأقل منه نهائيًّا.
الحداثة اختلقت لنفسها تاريخًا خاصًّا، حاولت أن تفصله عن التاريخ الشامل أو الخام، وأسمته بالتاريخانية، باعتباره يرسم التحقيب المعرفي، الذي سوف يُسنَد إليه قصةُ نشوء العقل وتمفصله العيني مع الواقع. ثم ألحَّت التاريخانية بدورها على بنية القطيعة، باعتبارها نابعة أصلًا عن قدرة العقل في تحقيق تغييره المعياري، في صميم الكيان الواقعي، لكن حقيقة الأمر أنه بقدر ما كانت القطيعة تحوز على مفهمتها، وبالتالي على مشروعيتها، بما تبنيه وتفرزه من حقب معرفية متمايزة داخل التشكيل المفهومي الأعم للتاريخانية، بقدر ما كانت تسكت عن الإيغال المتزايد في القطيعة/الأساس، بين التاريخانية والتاريخ الخام. فقد نجحت التاريخانية في إشاعة وتثبيت نوع من المنطق الذي يجيز لها أن تغلق تشكيلها الخاص على جوانيته، بحيث يقضي على كل استشعار بما يمكن أن يوجد في المقلب الثاني من كل حدٍّ من حدود تشكيلها عينه هذا.
استطاعت التاريخانية أن تؤسطر التحقيب المعرفي، وترفع إنجازاته إلى مستوى المعايير المطلقة. وأن تجعل من لحظة القطيعة عينها، طريقة أخرى في التعامل مع الاستمرارية. والمحظور الوحيد الذي كان يؤرقها، عند عتبة كل قطيعة هو خطر انكشاف القطيعة الحقيقية بين مشروعها المغلق، وما ليس بمشروع ما بعد، أي: هذا التاريخ الآخر الذي يقع على المقلب الثاني من الصورة، ولا يريد أحد أن يتعرف إليه. كل ذلك يمكن أن يَلقَى تدبيرَه كذلك داخل منطق التاريخانية عينه. فهو الذي يضفي على مجمل تشكيل التاريخانية صفةَ ذاتي الارتجاع، بحيث يمكنه أن يرى في نهج القطائع الداخلية، التطبيق الأوضح لهذه الصفة. فالقطيعة، التي هي ذاتية الارتجاع، تحجب واقع القطيعة المتمادي، الفعلي، الذي يتورط فيه مشروع التاريخانية بالنسبة لخضم التاريخ الذي يموج فيه هذا المشروع عينه، وينكره في الآن ذاته.

لذلك حفلت سيرة التاريخانية بأمجاد الفكر الذي لا يصبر على ملاقاة اللافكر، فكيف إذا كان يُطلب منه أن يتضايف مع حيزه، ويتداخل مع مكنوناته. فالنقلة من الفكر الذي لا يفكر إلا ذاته، إلى صيغة الفكر اللافكر، هي القطيعة المخيفة التي اخترعت التاريخانية باعتبارها حصن الحداثة، لتحمي نفسها داخله من هواجسها الراهنة أو المتلامحة.

لقد تم بذلك ما يشبه حادثة اختطاف على مستوى الميتافيزيقا عينها. فالتاريخانية حتى تحمي نفسها من عاديات التاريخ، من سديميته، من تطويف الفكر اللافكر في أرجائه وتخومه، ومن تلامح الكينونة في لغزيته وفجائيته، فإنها اكتشفت (التاريخانيةُ) أنه أهم ما يَعِد به التاريخُ أفضلَ كائناته الإنسان، وهو العقل، فحاولت اغتصابه منه، وادعت أنها تمتلك الإرادوية المصطفاة التي تسمح لها باقتراح مشروعه الوحيد المنوط به جبرُ التاريخ ببلوغ أفضل غائيته، وهي الحداثة. أو ذلك العصر الذي تختفي فيه أدنى الفوارق بين العقل والواقع، بين الزمان والمكان. كأن التاريخانية اعتقدت أنها قادرة ذات يوم على تبرير فعل اختطافها أو اغتصابها ذاك، بأنها إن كانت اضطُرت إلى القطيعة مع التاريخ الخام، واستلبته غائيته الضمنية، فذلك لأنها ستعود حتمًا إلى التمفصل معه عندما تقدم للحداثة مكانيتها، عندما تعوض عن خواء الكينونة من أي ترميز، فتنبري هي إلى إشادة الموضوع الوحيد الذي يجسد الواقع في ترميز نهائي يكون بمثابة البديل الوحيد عن الواقع، الذي يضاهيه بواقعية كفَّت عن إتاحة الترميز، بعد أن كادت تبطل جاهزيته، وهو: التكنولوجيا.

هل يمكن حقًّا الركون إلى أن فكر التاريخانية كاد ينجح فيما يفشل فيه الفكر اللافكر الذي لا يزال منطلقًا في مجاهل التاريخ، في ذلك المراح غير المحدود بعدُ بأي مشروع، أو أية إرادوية أو قصدية. أليست التاريخانية وحدها هي التي قدمت واقعًا يُجاوز الواقع؟ ألم تضع الحداثةَ لأول مرة على سكة الإنتاج؟ أليست الحداثة الآيلة إلى التكنولوجيا، قد جاءت بما لم تستطع مختلف المشاريع الأخرى الموصوفة بالمنافسة أن تأتي بمثله، بحيث إن الترميز لم تعد له ثمة من مهمة إن أراد لذاته البقاء على قيد الحياة، إلا أن ينطلق من الآلي ليقدم تصورًا آخر لآلي آخر. ومع ذلك، حتى هذه المخيلة التي تُميَّز نفسيًّا بالعلمية سوف تستولي عليها آلية الحاسوب الإلكتروني، بصورة يمكن معها انتظار ذلك المستقبل الذي يستقل فيها الآلي عما سواه، ويتبع قوانين تطوره واختراعه وتوسعه، بنوع من الارتجاع الذاتي، وباستقلال عن كل ما عداه، بما فيه الحي/الإنسي الذي سيفقد كذلك خصوصيته، بقدر ما سوف يُستتبع إلى العضوي، وصولًا أخيرًا إلى النشأة المادوية الواحدة، لكل هذا الذي يُسمَّى بالموجود المسيطر، حسب بارمنيد.

لن تكون نظرية العوالم الثلاثة ﻟ «كارل بوبر»٣ سوى واحدة من آخر ابتكارات المخيلة الترميزية، التي هي في عينها آيلة للاضمحلال. فإذا صحت تلك النظرية مؤقتًا، ومن حيث الاعتبار العملياني فحسب، فإنها ستفقد هذا التبرير عندما لن يقوم سوى عالم واحد، يسترد كل ما كان آخر، بالنسبة إلى حيزه، إنه العالم الترميزي، الثالث، وحده الذي ينجح في تجسيد واقعيته دون العالمين الأول والثاني، النفسي الذاتي، والشيئي الموضوعي؛ ذلك أن الترميزي يحقق انتصاره الكامل عندما يحتل وحده حيز التشخيص والتجسيد، أي: عندما يقضي الوهم على ثنائية الوهمي/الواقعي، ما إن يغدو الوهم هو الواقع وحده. ولكن هذا الترميزي الذي يصل إلى حد الوهم التجسيدي الكلي لن تتبقى له حتى دلالة الصورة، فكيف دلالة الرمز؟ هكذا تفقد الثلاثية ترميزيتها التمثيلية لحساب واحدية الوهم. تبقى واحدية الوهم.

ومع ذلك، فإن هذه اللحظة استراتيجية، «وليست راهنية»، وإن كان الحاضر يكاد يكون، كليًّا، منهمكًا بتوفير المقدمات الضرورية المؤدية إلى النتائج المحتومة مستقبلًا. فمنذ مولد حقبة الإنذارات الأنطولوجية الكبرى، مع النيتشوية الهيدغرية، وشبح الاستراتيجية العدمية يسد آفاق الفكر. فكان الاكتشاف الأهم في هذا العصر، هو أن الفكر لكي يكون نفسه، عليه أن يعترف بأنه هو الفكر وما ليس كذلك في الآن عينه. كانت تلك وصفة الإنقاذ الحقيقية، وهي وحدها الجديرة بوضع الحداثة خارج ذاتها لأول مرة، منذ استيلاء ميتافيزيقا التحقيب المعرفي على شمولية السؤال الكينوني، أي: منذ أن تم مع الأفلاطونية واللاهوتية والأنوارية، التمادي في القطيعة مع الكينونة، من أجل الفوز بالكائن وحده. «فالإنسان ليس سيد الكائن، بل هو راعي الكينونة». والفارق بين لفظَي السيد والراعي حسب اللغة الألمانية ليس كبيرًا.

لكنه كان كافيًا لتوقيت أول معارضة حقيقية للمشروع الثقافي الغربي، وتنبثق من صميم بنيته بالذات، قبل الغروب الأخير. إنها التأشير على الحيز المفقود الذي ينبغي للقطيعة أن تتحرك فيه، لكنها تاهت عنه طويلًا؛ ذلك أن المطلوب أصبح حادًّا وصريحًا، وهو القطع مع التحقيب المعرفي كتاريخانية ذاتية الارتجاع، والخروج إلى التاريخ باعتباره الفضاء الأوسع لما هو اختلافي الارتجاع. فالفكر لن يكون إلا برِّيًّا وحشيًّا. لن يتوقف عند إنتاج إحدى أساطيره الكبرى مهما استحوذت هذه على الأفق الأوسع من شمولية الترميز. لن يستطيع الفكر أن يقايض الكينونة باحتيازه على أي كائن، وإن ادعى انتسابه إليها؛ لأن مثل هذا الانتساب سوف يُخَوصِن الشمولي الكوني لحساب الجزئي الخاص؛ لأن سيطرة العقل على الكائن بالفهم وحده، كان يشكل التبرير المتمادي لحرف الميتافيزيقا نحو التكنولوجيا. وهي بالضبط تلك الغائيةُ المحجوبة التي عانى من تحقيباتها/قطيعاتها المعرفية المشروعُ الثقافي الغربي، تحت ستار تاريخ خاص، تمَّت أسطرته بدلالة: التقدم.
لم يكن الإعلان عن انتهاء الميتافيزيقا، الذي يشكل الشعار المشترك للعابرين من الحداثة إلى ما بعدها، يعني قطيعة جديدة شمولية مع المشروع الذي احتوى هذه الميتافيزيقا؛ وهو بالطبع يشتمل على مجمل التجربة الغربية أو على محركها الذاتي الأعمق، بالأقل؛ إذ «يقوم الكائن مواجهةً للذات بما لا يجعله ممكنًا إلا بالنسبة للإدراك، وله وحده. فكما رأى ليبنيتز بوضوح كافٍ أن «الإدراك» le percipere، بما هو قابلية appetitus، يمد بيده إلى الكائن ويتناوله، ليأتي به إلى الذات في المفهوم، بواسطة تناول يجتاز «المسافة بينهما»، ولينقل حضوره إلى الإدراك. فالتصور يتحدد من حيث إنه حين يقوم بالإدراك فإنه ينقل إلى الذات (إلى الأنا) ما يظهر».
ويرى هيدغر أن بين مؤسسي هذه الأطروحة في الفلسفة الحديثة، ممن لا يمكن تجاوز مساهمتهم في إطلاقها، الفيلسوف الإنكليزي بركلي Berkley، «التي تستند إلى الطرح الميتافيزيقي الأساسي ﻟ «ديكارت»، وتعلن: الكينونة = الإدراك (المعرفة) = esse percipi: «الكينونة» تساوي «الكائن المُتصوَّر». وبذلك تقع الكينونة تحت طائلة التصور، بمعنى الإدراك». يريد هيدغر أن يبرهن أن رؤية بارمنيد الأولى شبه الأسطورية والشعرية، عادت إلى البروز بحُلة فلسفية وعلمية لدى كبار مؤسسي الحداثة الغربية، وكانت أشبه «بالتشكيل الأسبق الأعسر للنظرية الحداثوية المتعلقة بالواقع والمعرفة»، كما ينص هيدغر بالضبط. وفي خطوة أخرى، فإن التطوير الأهم الذي بلغته هذه النظرية كان على يد فيلسوف الحداثة الأكبر هيغل؛ فهو الذي اغتنى مذهبه بالنقدية الكانطية، بنى مذهبه الشمولي على محور جوهري يريد أن يقطع الهوة بين الفكر والكينونة، فجاء بالحل الذي اعتقده الأوفى والنهائي، وهو أنه لا فارق أصلًا بين الفكر والكينونة؛ ذلك أن الفكر هو منتج الكينونة، وأنه ما دام لا يمكن إدراك الكائن إلا بالفكر وحده، فحريٌّ أن يقوم الحيز الأصلي للكينونة في ذات حيز الفكر. لم يتبقَّ إذن أمام هيغل أيُّ معيق ليعلن بوضوح حاسم أن الفكر هو منتج الكينونة. غير أن التميز الذي أعطاه هذا الإعلان الحاسم لنوع الإنتاج، هو تدخل فكرة الزمان بين الحدين. فإن الجدلية — هذا المنهج الذي سيأخذ منعطفه الحداثوي الأهم، منذ جدلية المُثُل الأفلاطونية — ستتكفل هذه المرة بإعادة كتابة تاريخ الإنسانية على مستوى الإيقاع المطرد لطريقة استيلاء الفكر على العالم، مع إهمال للكينونة لصالح المزيد من فهم الكائن، وصولًا إلى المرتبة التي يمكن فيها للفكر — وهنا هو العقل فحسب — ألا يدع أي آخر على مسافة منه. إن المكانية تفترسها الزمانية الاجتياحية. يصير التاريخ جدليًّا في خاتمته محض زمانية لا تنافسها أية مكانية خارجية. كل ما في العالم يغدو أهليًّا، والبر لم يعد له أهل، وليس أهلًا لأحد. البراري حواضر كلها. «صار الإنهاض في ملكوت الفكروي مرئيًّا». وهيغل الذي يعتبر أن رحلة الفلسفة قد بدأت مع بارمنيد إنما تختم إنهاضها عنده هو نفسه، أي: هيغل. ولأنها لم تكن أكثر من بداية، فما كان بوسع بارمنيد أن يخفف من اضطرابها ومن فقرها بالمضمون. يبرر هيغل ذلك أنه لم يكن بمقدور أحد أن يستبق حادثات النمو الكبرى الذي ستحققه الفلسفة عبر احتياز متعاظم للفكر على الوجود. لم تكن رؤية البداية لتكشف للذات أكثر من ذلك الحضور المداهم المسيطر الذي هو الوجود الشامل، أو الكينونة المتجلية تجليها الأول الفيزياوي والمكانوي اللامحدود، هذا الامتداد الذي ينجلي عن المسافوية الفالتة إلى كل جهة. فالعالم يفتح صدره العريض لاجتذاب الوعي نحو الإحاطة بلغزه، ومعانقة أعماقه المُدلهمَّة. كان الحضور المتجهم المدلهم، المداهم من كل جهة، يتحدى العقل باليقظة. يستثير فيه إرادة الفهم؛ لأن الفهم هو السيطرة في النهاية، هو الاحتياز على الموضوع، هو استعادة الخارج نحو الداخل. وذلك هو التاريخ الحداثوي، ذلك هو التاريخ الذي يتقلص إلى مجرد تأريخ لقفزات العقل نحو العالم، والقبض على قِطَع بعد قطع منه، وازدرادها في بطن الذات الذي لا يشبع.
يحكم هيغل على حكمة بارمنيد بأنها لم تكن قادرة على التنبؤ بما يوجد في هذا الكائن، في مرحلة البداية، وعما سوف يُكسبه إياه جدلُ العقل مع ظواهره، في مستقبل التاريخ، الذي سوف يتحول إلى مجرد تأريخ للمنعطفات المعرفية، حيثما يعيد الفكر/العقل إنتاجَ بعض مفصليات الكائن، باعتبارها مفصليات الفكر عينه، وقد اتخذت شكل الضرورة الحاسمة، في إنتاج تقدم هذا التاريخ، وفي تحقيقه لمشروعه. إن التزمين يجتاح التمكين. والكون لن يظل وطنًا للاغتراب، ولكنه سيقع كله ذات وقت، تحت طائلة تدجين العقل الفاتح. إلا أن هيدغر سيقدم هنا اختلافية التأويل. إنه لا يماري في كون الحكمة البارمنيدية آذنت ببداية التمعين الفلسفي، لكنه لن يوافق هيغل على ما تتضمنه هذه البداية، فالتأويل الخاطئ سوف يتحمله مصير المشروع الثقافي الغربي بتمامه. والتصحيح الذي سيقترحه هيدغر، سيأتي ولا شك بمثابة اكتشاف لكل البر الآخر الذي أهمله هذا المشروع، واحتوته وساعة التاريخ التي لن يحتويها أي تأريخ محور.
قبل الشروع في تفهم هذا الاختلاف (الهيدغري) ينبغي الإشارة إلى أن هذا الاختلاف لن يكون إلا تأويلًا جديدًا للحكمة البارمنيدية، وتدين بأحقيته أو جدواه المفهمية إلى التناول الهيدغري أكثر مما هو على علاقة عضوية بالنص الأصلي لتلك الحكمة، وهو الأمر الذي أثار على هيدغر نفسه الكثير من التحفظات والاعتراضات التي فاجأها التأويل بغرابته عن المألوف والسائد في الأوساط الأكاديمية خاصة، فيما يتعلق بقصيدة الخلق البارمنيدية. ونحن بدورنا هنا قد لا تكون لنا مثل هذه الاعتراضات، ولكننا نحتفظ بمراجعتنا للتأويل الكينوني الهيدغري، في منعطف آخر من نصنا. والمهم الآن أن نلاحظ مدى الخصوصية الإبداعية التي تنسج ذلك التأويل؛ لأنه سيكون تأويلًا بمثابة الحجر الأساسي في عمارة الكينونة لدى معلمها هيدغر، عندما اختار لنفسه الموقع المتميز من تأسيس منهجية الفكر اللافكر، داخل/خارج المشروع الثقافي الغربي نفسه.

نعود إلى متن التأويل هذا: إذا كانت حكمة بارمنيد علَّلت كون الفكر جزءًا من الكينونة، بردِّهما معًا إلى الواحد، فلعل هذا الواحد يعني به بارمنيد ما نفهمه نحن من الهوية، عن المماثلة مع الذات، أي: إن الهوية «هي الشرط، الواضح وضوح النهار، لكل ما هو قابل للتفكير «بسبب» من قابلية التفكير فيه». وفي هذه الحالة يحق لنا القول إن هذا الرأي سيجعلنا نفتقد أكثر فأكثر ملكة الإصغاء إلى الكلمة اللغز، على افتراض أنه قد تم لنا من قبل إدراك ندائها؛ إذ إنه يكفي أن تظل في حال من الترقب ما دامت الكلمة اللغز ترن في أذننا، باعتبارها حدًّا يستحق التفكير. لعلنا سنبقى نحن من عداد هؤلاء الذين يترقبون، وممن هم على استعداد لترك الكلمة تستكين إلى ذاتها ككلمةٍ لغزٍ، فنوجه نحن بالمقابل مبدئيًّا أذنًا نحو كل جهة، منفتحة على أي قول يمكنه أن يساعدنا على الاهتمام بمدى عمق اللغز المتضمن في الكلمة.

هناك جهد استثنائي يحاول هيدغر بذله للإتيان بتأويل قد لا تطيقه عبارات بارمنيد، بقدر ما يهدف إلى استنطاق جوهر النص الموصوف بالفكر الفجري الشعري والأسطري. ويتبدى هذا الجهد خاصة عندما ينجح هيدغر في ابتكاره مصطلح الطية le pli، الذي سينطوي كذلك على دلالة العروة. فالعلاقة بين الكائن والكينونة تتشكل بطية الأول تحت جناح الآخر. وبذلك تنعقد تلك العروة الخفية التي لا تنقطع بين الاثنين؛ ذلك أن تأمل هذه العروة، والحفاظ على استمراريتها، هو الذي يدفع الفكر إلى التفكير الأشمل والأعمق، هو الطريق إلى كشف جوهر الأشياء. كما لو أن هذه الطية/العروة هي محل الفكر، وهي إعلانه. «فالفكر هو حضور بفضل العروة، التي لم تُقَل أبدًا. تتحقق مقاربة الفكر وهو في طريقه نحو «انعقاد» عروة الكينونة والكائن» […] «لا يوضح قول بارمنيد سوى نقطة واحدة: إذا كان الفكر حاضرًا، فليس ذلك بسبب من «الكائن في ذاته»، ولا بسبب الخضوع إلى «الكينونة لذاتها». بعبارات أخرى: فلا «الكائن في ذاته» يجعل ثمة فكرًا ضروريًّا، ولا «الكائن لذاته» يلزم الفكر. كلا الاثنين، باستقلال كل منهما عن الآخر، لا يمكن لأحدهما أن يفيدنا كيف تنبئ «الكينونة» عن الفكر. غير أن الفكر ينشر كينونته بفضل «انعقاد» العروة ما بينهما.»
إن لحظة الطية/العروة التي يكتشفها هيدغر عبر تأويله لبارمنيد، سوف تكون هي لحظة القول. والقول هنا بمعنى الإبانة التي تعادل فعل الكون في العربية، كما في العبارة الإغريقية الفجرية. سوف يلحظ هيدغر — برَويَّته الإبداعية دائمًا — أن القول يفترق عن الكلام. هنالك فارق بين «القول» الدلالي الذي يوحِّد بين المعنى والكون، وبين الكلامي، أي: الصوتي. فليس كل صوتي أو كلامي قولًا، لكن كل قول يمكنه أن ينتقل إلى التعبير الصوتي. فالفكر الذي يعين أو يقول هو لحظة الطية التي يمكن أن تأتي بالكائن في كنف الكينوني. إن الفكر الذي يشكل الجسر بالقول ما بين الكائن والكينونة، إنما يتأتى بذلك الظهورِ الذي يكافئ ظهورَ الكائن عينه. هذا ما كنا نتقصده في إعادة معاينة المكان، من حيث إن المكانية هي التي تسمح باندراج الأشياء، ليس هذا فحسب، ولكن بتحققها كأشياء كذلك. فالفكر الذي ينشد البيان هو الذي يعقد الطية الصعبة بين الكائن والكينونة. بين ظهورٍ في حد ذاته قد لا يحتاج إلى الكلام دائمًا، وبين الكلام الذي ينقل الظهور وما يجعله كذلك، أي: بما يعادل ظهورية الكائن مواجهةً للذات، وما يفيض عن هذه المعادلة كذلك.
ما ينتقص من شمولية التناصِّ الهيدغري، وخاصة بالنسبة لتأويلاته الإغريقية حول اليقظة الفجرية؛ هو إحالة المكانية على المصموت عنه، فهو بالرغم من احتفاليته بالقصيد البارمنيدي، الذي يعتمد ظهورية الكائن أساسًا لسؤال الكينونة، إلا أنه يظل أقرب إلى اعتماد الظهورية كتجريد عن المكانية، يسمح بإغماض الطرف عن المكانية نفسها. ليس لنا أن نتوقف عند هذه النقطة الآن. ولنتابع تمعين الطية، باعتبارها الحلقة المكتسَبة التي يشكِّل كل قرار حولها حسمًا أنطولوجيًّا استراتيجيًّا يتعلق بمصير حضاري شامل. سوف يَخترع المصطلحُ الخاص بالعلوم الإنسانية الحديثة لفظةَ التمفصل بديلة عن الطية. لكن رجوع هيدغر إلى الطية، يؤكد الطابع الأنطولوجي وأقدميته بالنسبة للطابع التقني البحت الذي يوحي به التمفصل؛ ذلك أن العلاقة بين الكائن والكينونة ليست محض تمفصل بين مفهومين، وكأنهما أداتان لبعضهما. كل همِّ هيدغر هو البرهنة على خطيئة التفسير المنحرف لعلاقة الكائن بالكينونة، وذلك تبرئةً للكيفية التي يمكن أن يأتي بها الكائن، ويتحقق في كنف الكينونة المنسحبة، بحسب تلك الطريقة التي قد تنجح في نشر ظهوريةٍ تُعادِل ظهورية المكانية، إلى درجةِ منافستها، ولكن اختلافيًّا.
إن تباين التأويل الواقع حول اللحظة الفجرية الإغريقية سوف يسمح ﻟ «نيتشه» قبل «هيدغر»، أن يقول بالفم الملآن إن المشروع الثقافي الغربي قد جرى تزييفه، والانحراف به منذ تلك اللحظة؛ ما إن تم فيها فصل الفكر عن الكائن مقابل عزل الكائن عن الكينونة. في حين أن الفكر يشكل أصلًا جزءًا عضويًّا من الكائن عينه، فلقد تسبب الفصل بينهما في إقامة ثنائية بقطبين متصارعين؛ لغلبة أحدهما على الآخر، كما لو كانت غلبة على الثنائية نفسها، ولكن بدون نتيجة إلا تلك التي انحرف نحوها كليًّا المشروع الثقافي الغربي. فقد صار نزاعه الثنائي بديلًا عن إضاءة الكائن بالفكر، وهما معًا تحت كنف الكينونة. تلك التي تشكل حادثة الطية التي وحدها تتيح للفكر أن يلقى عبرها حادثته، وقد أضحت حضورًا للكائن برانيًّا عنه، ولكن فيما يشكل جوانيته، أو ما يجعله على طريق تحقيق تَجَوهُره، في كنف كينونة لا يتم حضورها أبدًا. لا تحضر إلا وهي منسحبة. ذلك ما كان يمكن للمشروع الثقافي الغربي أن يكون مشروعًا للإنسان؛ لأنه يبطل ثنائية ملفَّقة بين الفكر والكائن، ويعيد الصلة بينهما عبر ما يشملهما معًا، وهي الكينونة، وتنسحب منهما في الوقت عينه؛ ذلك لكون الطية، أنها لا تربط بقدر ما تنشر، أو تنشر أو تنتشر بقدر ما ترد على تلك الدعوة التي يطلقها هيدغر في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين:

«ما يدعو إلى الفكر أكثر في زمننا الذي يدعو إلى الفكر، هو أننا لم نفكر بعدُ.

إن الفكر يفكر عندما يرد على ما يدعو أكثر إلى الفكر. وهذا الذي يدعو إلى الفكر أكثر، في عصرنا، يبدو هكذا: هو أننا لم نفكر بعد.»

ذلك ما كان يمكن للمشروع الثقافي الغربي أن يكون عليه، لو لم ينحُ منحًى مختلفًا تمامًا منذ أن افتقد العروة التي تصل/لا تصل بين الكائن والكينونة، واتجه فحسب نحو الكائن وحده لفهمه ذلك الفهم الذي فسره هيغل بالسيطرة فحسب. الفهم هو السيطرة. أليس من أقصى التناقض أو الغرابة أن يأتي مفكر من صميم المشروع الغربي، ليعلن في أوج اكتمال هذا المشروع أن الفكر لم يفكر بعد، ولا يعلن أن الفكر لم يفكر بما فيه الكفاية؟! ليس الأمر كذلك، بل كان الفكر، ذلك الفكر عينه، قد أخطأ الهدف منذ البداية. فلقد كان أراد أن يبلغ عمق الميتافيزيقا، وأن يكون ميتافيزيقيًّا حقًّا، بمعنى تلك الميتافيزيقا التي تذهب إلى ما ينبغي للفكر أن يفكر فيه أكثر من أي شيء سواه. لكن المايحدث لتلك العلاقة بين الفكر والميتافيزيقا، أن المشروع الغربي اجتزأ الكينونة إلى الكائن، والفكر إلى التقنية. فكانت استحالة الميتافيزيقا إلى التكنولوجيا. وتم بذلك تحولُها في هذا العصر، حيثما زحفت التكنولوجيا من الموضوع إلى عمق الذات. وعندها لم يعد نسيان الكينونة هو القضية، بل «صار» نسيانَ النسيان هذا.
أما رسالة الفكر، أو صرخنة النهائية، فهي نوع من الاعتراف الصاعق أنه لم يكن هو الموجود حيثما طُلب وجودُه، وأنه لم يكن هو المقصود حقًّا، حينما انشغل المشروع الغربي في البحث عنه، وذلك طيلة خمسة وعشرين قرنًا من تاريخ الميتافيزيقا، وأن هذا الفكر لو تم العثور عليه لما أمكن التخلص منه أبدًا، وأن هذه الميتافيزيقا لو أمكنها استشعار بعض إشاراته، لما أمكنها أبدًا إضاعتُها من جديد، وطمسُ دروبها، ولما توصلت إلى ادعاء اكتمالها، والانحلال كليًّا في أحد عواملها (التكنولوجيا). ولكان وضعُها تنطبق عليه برقية نيتشه التي أرسلها إلى أول أكاديمي تنبه لفكره، وشرع في تدريسه، وهو من جامعة كوبنهاغن (عام ١٨٨٣م): بعدما كنت قد اكتشفتني، فما كان استثمارًا العثورُ عليَّ، والصعوبة هي الآن في إضاعتي. التوقيع: المصلوب.٤
كما لو كانت تلك الميتافيزيقا التي بلغت اكتمالها في نقيضها، مشروعًا دائمًا في الفرار من حقيقتها. واللحظة الذروية المخيفة هي عندما تلتقط بعض العقول إشارات هذا الفرار، ثم لن تستطيع مبارحة ما التقطته. ولقد كان مصير نيتشه أن يغدو المصلوب، المنكر في عصره، كما قال على لسان زرادشت: «إنهم جميعًا يتحدثون عني، ولكن أحدًا لا يمتلك فكرة عني.» ويعلق هيدغر: «كيف يمكننا أن تكون لنا فكرة عن فكر نيتشه، ونحن لم نفكر بعد؟!»٥  نيتشه نفسه هو إشارة هذا الفكر، الذي بدأت معه تلوح إشارته، وما إن شرعت الفلسفة في الدخول إلى متاهته، حتى أصبح للميتافيزيقا نهاية أخرى، هي غير اكتمالها في التقني. هي النهاية على طريقة هيدغر في تجاوز الميتافيزيقا كنص تاريخاني، نحو تناصها كتاريخ مجهول، لم يُفكَّر به بعد، ومنذ أيام بارمنيد. أو كل تلك الحقبة من الفكر الفجري الذي اصطُلح عليه بالفكر ما قبل السقراطي.
قبل أن تشغل ترسيمةُ «نهاية التاريخ» الرأي العام العالمي، الثقافي وغير الثقافي؛ فإن الفكر النيتشوي/الهيدغري وامتداداته أثار مسألة تجاوز الميتافيزيقا. في حين أن البناء الهيغلي كان يضع تتويجًا له، خاتمةً انتصارية للفلسفة التي تتجسد في هذا البناء عينه. بين مفهومَي الخاتمة كاكتمال أو كتجاوز، أو بين هيغل ونيتشه، فإن هيدغر يأتي بمنهجية الفكر اللافكر، لكي يلج إلى صميم الميتافيزيقا، كاشفًا عن أصل انحرافها نحو إرادوية الإرادة التي عمقت الشرخ بين الكائن والكينونة، إلى درجة استيعاب الأول للثانية عن غير أحقية فعلية. مما جعل «الميتافيزيقا، تحت مختلف أشكالها، ومراحل تاريخها، مجرد حتمية واحدة، لكنها كذلك هي قدرية الغرب الضرورية، وشرط سيطرته الممتدة إلى الأرض كلها». هذه الميتافيزيقا تنكمش إلى حدود إرادة الإرادة، حتى تغدو مطابقة تمامًا لما تعنيه قدرية أوروبا نفسها؛ إذ إنها تميز «السمة الرئيسية لأوروبا الغربية، فهي تعلِّق الشئون الإنسانية وسط الكائن، بحيث لا يُتاح للكينونة أن تُدرَك بواسطة التجربة، باعتبارها عروة الطرفين، دون أن يُتاح لها أن تكون موضع معرفة وسؤال، وأن تستقر ضمن حدودها، انطلاقًا من الميتافيزيقا، وعن طريقها، وملء حقيقة الميتافيزيقا».
مثل هذه المهمة الاستثنائية لا تتحقق إلا في إعادة قراءة الميتافيزيقا عينها، في تفكرها مجددًا من خلال تاريخ الكينونة، الذي كان تاريخًا لغيابها أكثر مما هو لمثولها. إن متابعة هذه القدرية هي التي قد تتيح في الوقت عينه اختلاف الكينونة، عما حدث باسمها، دون أن يدخل حقًّا في ملكوتها. وما لم يستطع تجاوز الميتافيزيقا اكتشافَ اختلاف الكينونة حتمًا عبر نصوص تاريخها، فإنه لا يمكن كسر تلك القدرية الملازمة لهذا التاريخ، والسقوط مجددًا في شباك أوهامها. غير أن هناك ما يشبه الدوران الحلقي الذي يطبع كل فكر ميتافيزيقي يطمح أن يكون نفسَه، وغيرَ ذلك في آنٍ. إذ كيف يتسنى للكينونة، تحت السيطرة المطلقة للكائن، أن تبرز اختلافها، إن لم تتمتع هي كذلك بإرادة الإرادة، أو ما هو قريب منها، الذي يخص الكائن، من أجل أن تشق لها طريقًا من تخوم الكائن إلى ردهاته الداخلية. فالكينونة لا حيلة لها إن لم تَمثُل كالكائن عينه، الذي تريد أن تعرض عليه، مع ذلك، اختلافَها.
ليس ذلك من نوع الدوران الحلقي التجريدي العقيم، الذي ينعته المنطق بالحلقة المفرغة tautologie؛ لأن المأزق يقع في حدود هذه الشئون الإنسانية التي تُترَك معلَّقةً وسط الكائن، دون احتفاء حقيقي بوزنها الأنطولوجي. إنه مأزق الوجود المائل، وليس تناقضَ الفكرة المعلقة في الفراغ. ونسيان الكينونة كانت إشارته الأولى، الدائمة والملحة، هو هذا الخلط بين التحليق فوق الوجود أو الانخراط فيه. إشارته أنه قلما احتفلت الميتافيزيقا بمصطلح هذا الوجود existentia، حتى عندما فعل هيغل ذلك للمرة الأولى، كما يشير هيدغر، إلا أنه تناول هذا الوجود في سياق المنطق! من هنا فرادة نيتشه؛ إذ إنه طرح وجوده في صيغة تلك العروة المستحيلة ما بين الكائن والكينونة، دون أية تعمية تجريدية. لقد أعاد وجودية الإنسان إلى صميم الهم الكينوني. لذلك لم يجد وصفًا أدق لمغامرته تلك من مغامرة المصلوب. لقد انتزع كائن الوجود، من حيز المكتومية، ولاقابلية المعروفية l’incognoscibilité. لكن الاختلاف سوف يظل تحت غلالة، وإلا فقدت الكينونة قدرتها على الانسحاب في اللحظة التي تحاول إرادة الإرادة أن تحل مكانها كلية، وتمد سيطرتها على حيزها كله. ذلك لا يبعث على التناقض منطقيًّا، بقدر ما يبعث على الألم الإنساني، الألم وجوديًّا، فالميتافيزيقا (الاختلافية) هي تلك التي ترفض لعبة الاختيار العقيمة بين الكائن والكينونة. صحيح أنها لا تكف عن تكرار نسيان الكينونة لطغيان الكائن. لكنها في الوقت عينه ليس لها درب نحوها إلا في إعادة الاعتبار إلى الكائن ذاته؛ لأنه وحده الموجود. وموجوديته هذه المرة هي التي لا تتجاهل وجودية الحياة واللحم الإنساني، في ذات الوقت الذي تبدِّد فيه نسيانَ الكينونة. إنها ميتافيزيقا العروة المستحيلة العقد بين الكائن والكينونة نهائيًّا، ولكنها هي حيز الألم، وطريق الحرية كذلك. غير أن وجودية الحياة ينبغي ألا تعني الاستغراق في سيكولوجية كانت سائدة، خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأواخره، أي: في مرحلة انبثاق الرفض النيتشوي. فالدعوة إلى إعلاء توتر الحياة اعترافًا بعمق تجربة الألم الناجمة أصلًا عن إيجاد العروة الموثِّقة للعلاقة بين الكائن والكينونة، قد يُساء فهمها تارة لدى القابضين على مملكة الفكر والأفكار، بمعنى سيادة التصور، كما قد تختلط مع المصطلح النفسوي، الذي لديه الدلالاتُ الجاهزة لتلفُّظات من مثل الإرادة والألم والنشوة الحيوية (السكر) والقلق وسواها. غير أن المسألة ليست هي كذلك أبدًا. لن تدخل مثل هذه المفاهيم في أحابيل المعيارية، لن تكون امتداحية ولا سجالية. هناك مسافة بين الكائن والكينونة، أصلها مسافة أنطولوجية وتصير مفهومية، غير أن بينهما مجاورة وجودية existential، والتوفيق بين هذين الموقعين ليس ضرورة كينونية أو وجودية، بقدر ما هو تلفيق منطقي أو تجريدي. والأصح دائمًا هو توجيه النظر بقدر الإمكان إلى الموقعين معًا، كلما ابتغينا إنجاز التعارف بينهما، لا بد من استحضار المسافة الأنطولوجية/المفهومية التي تجمعهما تفصلهما في وقت واحد، والأخذ بعين الاعتبار — في ذات اللحظة كذلك — تلازمَ المجاورة بينهما، وجوديًّا. فإن المجاورة قد تضع حدًّا لمحاولات التعليل العقلاني التي انشغلت بها الميتافيزيقا، تارة ترى حدًّا سببًا للآخر، أو نتيجة له.
إن فكرة الطية التي ابتكرها هيدغر، تتعدى العلاقات المنطقية بين الكائن والكينونة، وهي الخطوة الأهم في مشروع تجاوز الميتافيزيقا؛ ذلك أن الطية شبيهة بالعروة، لكنها لا تعلق الحد بالآخر، بمعنى أنها لا تربطهما معًا بما يختلف عنهما. وبالتالي لا حاجة للبحث عمن يربط من، وعن أداة الربط وكيفية الربط والارتباط … إلخ، رغم أن الفيلسوف لم يدخل في تفاصيل الطية، فإنه لم يحدد شيئًا من آلية عملها. بل اعتمد اسمها فقط، وفي فقرات معدودة من أحد أبحاثه، دون أن تتكرر في أمكنة أخرى من وساعة أعماله الهائلة. لقد ألحَّ فقط على لفظها، وترك اللفظ في حدود دور خام، لا يعيِّن أوصافَه ومهماته مسبقًا. ولعل الضوء الذي يلقيه على «مفهوم» الطية عنده — إن كان لها مفهوم ما — فهي أنها الإشارة الأولى، الطية الأولى بين الكائن والكينونة، إلى المايحدث (الحقيقي) من هذه الطية، وذلك إيذانًا بشروع الميتافيزيقا في الدخول إلى حقبة اكتمالها في الإعداد لتحقق الطية، إعداد مجهول، وممتنع على الميتافيزيقا.

قد تعني لفظة الطية نوعًا من الانضواء، لكن دون تحديد من ينضوي تحت من. فكان أول ظهور للطية هو كذلك الإيذان باختتام الميتافيزيقا؛ ذلك أن «تلك» الميتافيزيقا لم تكن عين ذاتها، إلا لكونها كتبت وأنشأت تاريخانيةً كثيفة من أجل أن تمنع «طية» الكائن والكينونة. فما إن يتبدى ظهورٌ أول لهذه الطية حتى يكون بمثابة إعلان مزدوج؛ من ناحية يسجل تورط الميتافيزيقا في حقبة النهاية، ويسجل — من ناحية ثانية — بداية التلاقي المستحيل سابقًا، بين الكائن والكينونة. وبالطبع فإن هذا اللقاء ما كان له أن يتحقق، لو لم يقع استنفاد حقيقي، استغرق تاريخ الميتافيزيقا بتمامه، لمختلف أشكال عُدة المَفهَمة، عدة الشغل الميتافيزيقي، التي حاولت طرح البدائل عن هذا اللقاء العتيد، باسم ضروراته المنطقية وحدها. ولكن عبثًا حاولت.

أما هذه البدائل، فقد اخترعت اسمًا لها تُعرف به، وهو التاريخانية، التي سيكون عليها أن تختلق التحقيب المعرفي، الذي بدوره يعوِّض عن العجز المتفاقم في تحقق أية جسور مفهومية/وجودية معًا، بين الكائن والكينونة، ما سبب ذلك العجز وتفاقمه المطرد مع كل محاولات العقلنة الميتافيزيقية، كما حدد قواعدها أرسطو، وتداعت حتى عهد كانط؟ قد يكمن السبب حقًّا هو في سيطرة العقلية السببية نفسها على كل فهم يتناول مسألة العلاقة بين الأقنومين؛ الكائن والكينونة. لكن تلك السببية نفسها، لم تكن من صنف منطقي خالص، ولا علمي موضوعي في آنٍ معًا. بل كانت معيارية غيبية، لا يمكنها أن تتفهم العلاقة إلا بين صانع ومصنوع، بين خالق ومخلوق. فالحدوث لا يملك أسبابه في ذاته. وحتى يصير إلى «المايحدث»، لا بد من طفرة تدخل على الحدوث من خارجه، لتدفع به إلى «إنتاج» بعض المايحدث.
إن سجلين مختلفين، أحدهما يتردد فيه ما يلوح من الكينونة، والآخر تتموضع فيه حادثات الكائن، هما في الواقع تسجيلان متجاوران. وما كان ينطوي عليه قصيد بارمنيد هو إشارة هذا الحدس الأول العفوي؛ إذ يُقدِّم له العالمُ مرة واحدة كظهور للأشياء، وما يجعلها كذلك في وقت واحد. فالأشياء ليست علامات الظهورية بمعنى نتائجها، وليست الظهورية في حد ذاتها، ما يختفي وراء علاماتها تلك. يعبر عن هذه الوضعية أنه لا يمكن التحدث عن عالمية تُحدث العالم، ولا عن عالم يسترد عالميته أو يختلقها. فلقد تأخر اعترافُ العقل بلغزية العالم، حتى ذلك الوقت الذي أقفرت فيه الميتافيزيقا من تعليلاتها، بمختلف تصنيفاتها. وليس ذلك لأن لغزية العالم أقوى من كل تعليل، بل إن المسألة أبسط من هذا بكثير. ليست لغزية العالم سوى إمكانية للعالم لأن تكون له عالمية تنبع منه، وقد تطفح عن حدود معطياته المباشرة. بكلمة أخرى، فإن عالمية العالم هي ظهوريته، ولغزها الحقيقي غير المستنفد، هو هذا الظهور بعينه. وظهورية العالم هي إمكانيته على العالمية. هنا حركة دوران بين الأفاهيم لا تطيقها المفاهيم على طريقة الميتافيزيقا التقليدية؛ ولذلك فإن إخفاقها المتمادي في تبيان بداهة الكائن في العالم، جعل كل مقاربة مع ما يتعدى هذه البداهة نحو البداهة الأشمل لأقنومين من مثل الكائن والكينونة، تهبط من مرتبة معاينة لغز العالم من حيث هو كذلك، إلى مرتبة الأحجيات الغيبية، التي تنقلب إلى الادعاءات العلموية، ولكن دون تحقيق أية قطيعة أنطولوجية حاسمة تسري تحت الشعارات الانتصارية للقطيعة المعرفية. ذلك هو الفارق بين «التفسير» العلمي، والتأويل (التفهم) الفلسفي.
إن لغز العالم هو إمكانيته على العالمية أكثر، بما تقدمه من المسافة المفهومية بين الكائن والكينونة، التي لا تدعو إلى التجوال فيها إلا عبر المجاورات والمقاربات الوجودية. ونقول التجوال في أرجاء تلك المسافة المفهومية، ولا نقول قطعها والوصول إلى غايتها. ذلك هو الفارق المعرفي/الأنطولوجي بين الممارستين الميتافيزيقية وما بعد الميتافيزيقية. فهي مسافة ليست للقطع — للتجاوز — ولا للإلغاء. والمتجول الوحيد في أرجائها اللامحددة، ليس الفكر وحده، ولكنه هو الفكر اللافكر. فهو الذي إذا انطلق من البداية لا يتخلى عنها، بل يحملها معه، وكلما اقترب من غاية ما داخل المسافة المفهومية، طرح عليها كل إشكالية البداية، كما النهاية كذلك. الفكر اللافكر ليس عبدًا للفهم، الذي هو عبد للسيطرة. والفهم على طريقته، إنما هو مجاورة الفكر للافكر، على طريقة الكائن في العالم، ما إن يدع الكينونة تجيء مجيئها التلقائي إلى العالم، لا أن يتخذها مطية للسيطرة عليه. لكن أحدًا لن يفوز بالكينونة عنوة؛ ولذلك يتقهقر الطموح من طلب الكينونة إلى تحدي الكائن. وعندها يحدث ذلك الانشطار «التاريخاني» بين الفكر والكائن. فالفكر الذي لا يزال يحمل حنينه إلى الكينونة التي فشل في التملك منها، لم يتبقَّ له منها إلا ظمؤه نحو المطلق، نحو الشمولي. فيحاول أن يترجم الكونية، ويمسخها إلى مبدأ السيطرة الكلية. ها هنا تتلقى إرادة القوة أخطر تحريف لمفهومها وممارستها. فهي بعد أن كانت طموحًا للكونية، عندما كانت تتطلع إلى الكينونة باعتبارها محل القوة الخالصة، ومدار الإمكانية اللامحدودة، فإنها تنحرف كليًّا إلى مجرد إرادة الإرادة المتوجهة حصريًّا إلى السيطرة على الكائن، وبالتالي على العالم مجردًا عن عالميته. فالطموح إلى الكلي هو كل ما تحتفظ به إرادة القوة عندما تنحدر إلى مجرد إرادة الإرادة المعزولة عن أفقها الكينوني الأصلي. وليس ثمة ترجمة عملية في ميدان التاريخ لمبدأ الطموح إلى الكلي، سوى مداهمة كل آخر، وحرمانه من آخريته. يختصر الفكر نفسه بذلك، من الفكر اللافكر، إلى مجرد فكر أي شيء، إلى بقعة وحيدة من الضوء، لا تلبث أن تتوسع لتلتهم أوسع دائرة من العالم، كيما تتبخر في آفاقها. تنحدر إرادة القوة إلى المقام النفساني فحسب كإرادة للإرادة، ردًّا على كل القهر التاريخاني الحقيقي، الذي أُصيبت به وتُصاب دائمًا كلما تطلعت إلى الكينونة، فلا تقع إلا على الكائن، وقد اختُزل هو نفسه إلى مجرد موضوع. هذا الاختزال نفسه يقع على الإنسان ككائن، محولًا إياه إلى الإنسان كذات مجردة. والرحلة التي قطعها هذا الاختزال من «فجرية» الكائن/الكينونة، إلى وضعية الذات/الموضوع، هي التي تشكل حقبة التاريخانية، حقبة (التحقيب المعرفي) التي رضي المشروع الثقافي الغربي الآخر أن يتقوقع داخل قفصها، وأن يوحِّد ما بين حادثته، والمايحدث «التاريخاني» الذي يخصها، وما ليس كذلك في الوقت عينه.
بمعنى أن النزوع نحو المطلق عندما عجز — المشروع — عن الاتصال به، وهو في موطنه الوحيد، حيثما تتلامح الكينونة على تخومه، اختزل نفسه إلى مجرد إرادة الإرادة، محولًا وجهته نحو نوع من الاحتياز «المطلق» على الكائن، على الآخر. اقتصر جهده على نقل المسافة الأنطولوجية بين الكائن والكينونة، إلى مجرد مسافة مفهومية بين الذات والموضوع. بما يجعل صيغة النقل هذه تحل تمامًا محل إشكالية العلاقة مع الكينونة. ولا شك لا يمكن أن تنجح هذه الصيغة إلا إذا استطاعت أن تستلب أهم ما يميز الكينونة من إشاراتها، وتُلحقها بذاتها. فإن فصل الكونية عن مقام الكينونة، يحولها بالضرورة إلى مجرد كليانية، يوقعها بعض الكائن ببعضه الآخر، فإن البدائل عن الكينونة، لم تكن تستطيع أن تختطف منها إلا نسخًا عن هذه الكليانية، ولم يستطع الفكر في ظل هذه البدائل أن يفرز إلا مجرد ترميزات تتراوح بين التطويب والأدلجة أو العلموية. لذلك لم يرَ هيدغر فيما دُعي بالميتافيزيقا (التقليدية) سوى نوع من الأنثروبولوجيا التي حاولت أن تترسَّم الكائن الحي، من خلال تداخل علوم البيولوجيا والسيكولوجيا، فيما يأخذ دلالة فيزياء طبيعوية حيوية. «وما إن تغدو الفلسفة أنثروبولوجيا حتى تبدو كميتافيزيقا».
تنقل الأنثروبولوجيا كلية الكينونة إلى الكائن. ثم تعمد إلى اختزال الكائن عينه إلى الإنسان الذي تدعي وصفه، وتحوله إلى معيار غامض لا يبعث على تثبيت أهداف معينة موحدة، بقدر ما يطرح نمذجيات من الإنسانويات، التي لا تلبث حتى تؤجج صراعات فيما بينها على التملك من القوة، وادعاء كل منها لتملكها، وحدها دون الأخريات، لنموذج الإنسان الأحق أو الأقوى. لكن عبثًا تحاول الأنثروبولوجيا أن تقدم توصيفًا شاملًا للإنسان، بل كل ما تفعله أنها تجيء بتصورات تتحلق حول نوع من إرادة الإرادة من أجل افتراض صحتها، وبالتالي فرض تحقيقها. لكن لا تتأخر منظومة أخرى من هذه التصورات في التشكل كنقيض للأولى، وتدخل معها في صراع على السلطة، تزخرفه بادعاء ثمة رسالة جديدة تعرفها هي، وتجهلها أو تعارضها الأخرى.٦
إن إرادة الإرادة لا تفترض صحة التصورات التي تدعو إليها. وتعتبر تحققها تحصيل حاصل فحسب، لكنها من خلال سلوكها ذاك، إنما تستثني كل ما عداها من قابليتَي الصحة والتحقق معًا. فالأنثروبولوجيا تفرِّخ إنسانويات متصارعة، يحمل كل منها نظامًا مفهوميًّا معياريًّا، مغلقًا على نفسه. لا تلبث أن ترشح نفسها لتمتطيها مشاريعُ إرادوية خالصة. كل منها له عقيدته، المعلنة أو المحجوبة، حول إنسان أعلى يخص مجموعتها البشرية فقط، تحت ادعاء كليانيته، وصلاحته الكونية. وسواء تجسَّد الإنسان الأعلى في زعيم أو نمذجة إتنية معينة، فإنه يأتي تعويضًا عن الفراغ بين الكائن والكينونة، فكلما عجزت التاريخانية عن سد تلك الهوة، باختراع تارة أسطريات غيبية، أو أدلجات محايثة، فإنها تلجأ إلى اقتراح مشروع إنسانوية، يطلب منه ملء ذلك الفراغ. ومع ذلك، فإنه على أطلال الإنسانويات التي تهاوت بدورها واحدة بعد الأخرى، لم يتبقَّ إلا نموذج الإنسان الحيسوب الذي يتلاءم تمامًا والمرحلة الحيسوبية التي بلغتها التكنولوجيا، باعتباره السيد الأخير على الكائن الذي يتم تحويله إلى آلة إنتاجية هائلة، لا تبقى في النهاية إلا على آخر منظومات الرقم الصامتة. وهي مجرد الإشارة فحسب، التي لا تؤشر على شيء، باعتبار أن كل شيء قد فقد وجوده خارج حيز الإشارة، الرقم، وقبل أن يتصنَّم الرقم وحيدَ ذاته.

فالكائن المعزول عن الكينونة قد تصور إمكانية استرداد ذاته، أو بقايا أشباح منها، عندما يتحول إلى طاقة ذاتية الاستهلاك لها ولسواها في آنٍ، كحل أخير لمشكلة الخواء المتمادي بين الكائن والكينونة؛ ذلك أن انتهاء التحقيب المعرفي لم يستطع أن يبرهن إلا على هذه الواقعة الأخيرة، وهي أن كل جسر ابتكره هذا التحقيب لإمكانية العبور فوق الهوة بين الكائن والكينونة، قد انهار حالما يُنجَز بناؤه. من هنا انحرافية التاريخانية، وسقوط الميتافيزيقا في الأنثروبولوجيا؛ ذلك أن الخطأ ليس في تصور الجسر أو بنائه، ولكن في اكتشاف سؤال المسافة الحقيقية أنطولوجيًّا، وليس احتسابيًّا فحسب، الفاصلة بين الكائن والكينونة. فالخطأ ليس في علم الهندسة، ولكن في جهل وتجاهل أرقام الهندسة لإشارات الكينونة، لإيجاد ذلك الجسر الغامض الوحيد الذي يصل ولا يصل مع كينونة لا تلوح حتى تنسحب.

وهكذا فإن التحقيب المعرفي كانت ثمرته العليا رقمية فحسب، تجسِّد انفصالية متمادية إلى حدها الأعلى بين العدد والمعدود، تحت وطأة شعار يقول إن الوحدة العليا للنقيضين الكبيرين؛ المادة واللحم، هي في إيجاد ما يجمعهما دون أن يجردهما من كسوتهما الأصلية، وهو العدد. فحين يستقل العدد عن المعدود، يستطيع أن يتابع تحليقاته التجريدية إلى ما لا نهاية. لكنه قادر دائمًا على إعادة تأسيس عالم افتراضي صوري، من المادة عينها، ويكون موازيًا للعالم الأصلي، ثم يصير بديلًا عن نفسه وعنه في آنٍ معًا. كما لو أن التكنولوجيا التي تبرهن مجددًا، بعد تاريخ تاريخانية التحقيب المعرفي، أنها غير مؤهلة أصلًا لإملاء الفراغ؛ لأنها لا تحس به أصلًا، فلا يتبقى لها من مهمة سوى الانخراط في إدارة هذا الفراغ، في تنظيم المَحْل عينه، وإبرازه كما لو كان هو الخصب كله. كيف تتم هذه الإدارة والتنظيم؟ فما دام الكائن قد تحدد موقعه تحت سلطة الحاجات، بحيث يتعاظم دور إرادة الإرادة أكثر فأكثر، لإيجاد الموضوعات والمواد الأولية لإرواء هذه الحاجات، دون ارتوائها النهائي، فلا يتبقى إلا ضرورة التقنية وحدها، القادرة على التدخل لحل إشكالية الإنتاج والاستهلاك. ولا شك قد لا يبالغ التقنيون الأخيرون عندما يقولون إنه لم يتبقَّ إلا «السوق» حلًّا أخيرًا. صحيح فإن تمادي السير على الطريق الخطأ لا يوصل إلا إلى الكارثة، التي هي الحل الأخير، ربما مع ذلك!

إن اللاحياد المطلق، اللاتحفظ الوقح، المصاحب لهسترة الجماهير بأسطرة السوق، لا يعلن عن استنفاد كل أشكال الثنائيات التي أخفت هزائم المشروع الثقافي الغربي المتتابعة، أمام تصاعد سلطان التكنولوجيا، الذي لم يعد يقاوم، بل يريد أن يثبت أن طريق الخطأ المتصاعد وحده هو الذي يؤدي إلى «الحقيقة» … فالأمور في خواتمها؟

لماذا تتحول الإرادة عن السعي إلى ما ليس سواها، إلى الآخر، نحو السعي إلى ذاتها فحسب، فتغدو بذلك مجرد إرادة للإرادة؟

ذلك أن الإرادة عندما لم تعد تبحث عن القوة في ذاتها، عن جوهر الكينونة، تراجعت إلى حدود الكائن. فوزعت الكائن بين قطبين؛ ذات وموضوع، وأعطت الإرادة لنفسها المركز الأول في حيز الذات، وحددت العلاقة مع الموضوع على أساس الاحتياز عليه. لكن هذه الصيغة لا يمكن أن تصل إلى حد الإشباع. هناك عَدْو مطرد وراء التملك اللامحدود من الأشياء غير المحدودة، عند ذلك تتراجع الإرادة خطوة أخرى وأخيرة نحو ذاتها. تغذو رغبة في الإرادة فحسب. لذلك سيطر علمان فحسب على المعرفة العصرية؛ الأنثروبولوجيا التي تفرِّخ الإنسانويات، لتنشغل بالسيطرة على بعضها، تحت ادعاء المفاضلة بين معايير النمذجات غير المتصالحة مع بعضها أبدًا. والتكنولوجيا التي تغطي على عبثية التملك من الأشياء، بتغذية إرادة التملك دون حصر للأشياء كمًّا وكيفًا. فالأنثروبولوجيا تشكل الأرضية التي تجمع ما يُسمَّى العلوم الإنسانية، كما لو كانت هذه الأنثروبولوجيا هي الميتافيزيقا الأخرى المطلوبة، البديلة عن الميتافيزيقا الأصلية، المنسية، والمنسي نسيانها كذلك، وهي التي تتكفل بقطب الذات، وتُكلَّف بها. وبالمقابل تنفرد التكنولوجيا بعلم الأشياء، أي: تتكفل بحيز الموضوع، بمنطقته ومفرداتها.

فالأنثروبولوجيا كعلم للإنسانويات، للنمذجيات النفسوية، الحيوية، الإتنية، والتكنولوجيا، كعلم لعلوم السيطرة الأداتية، يتكفلان معًا بالكائن، ويتقاسمان معًا ثنائيته بين حيِّزَيه؛ الذات والموضوع. تفرِّخ الأنثروبولوجيا، مقابل كل عصر من التحقيب المعرفي، ذاتية معينة تتمتع بالنمذجية الإنسانوية المؤهلة وحدها لتكون سيدة الحقبة، وتسقط صفة الذاتية عن النمذجيات الأخرى، التي تعزل ضمن قلاعها، الإنسانويات الأخرى، المترهلة من التاريخانية، وغير المؤهلة حيويًّا إثنيًّا، نفسويًّا عقلويًّا للمشاركة برسالتها التاريخانية إلا بالأدوار الثانوية المساعدة، الخاصة بالعبيد والمستخدمين مقابل تفرد سادة المرحلة، لكن دون أدنى اعتراف بهذه المساعدة. ذلك أن أنماط الذاتية التي تفرزها هنا تاريخانية التحقيب المعرفي، منوط بها وحدها أن تبرز من مَفهَمة الأنثروبولوجيا العامة هذه عينها، تلك الأنثروبولوجيا الذاتوية، المسوَّغة بالسياسة المدنية، كمرتبة نخبوية، مقابل شبكية الصراعات الأهلوية الإثنية، التي ترزح تحتها الإنسانويات الأخرى، المحكومة بالعجز دون الارتقاء إلى مرتبية الذاتية، وتحصيل نخبوية السياسة المدنية، المقتصرة عليها فحسب.

كل ذلك لأن ميتافيزيقا إرادة الإرادة تبرع دائمًا في استخدام خاصية الكونية، بعد أن تنتزعها من الكينونة، وتطلقها على الكائن نفسه، المنحل إلى قطبَي الذاتية والموضوعية. فالذاتية تحمي ممارستها تحت مفهمة كليانية للإنسانية، التي هي بدورها إنسانويات متنافسة، ولا ترضى للموضوعية كذلك بأقل من الشمولية حتى ترضي غرورها من ناحية، وتجعل حقل تملكها لأشيائها غير محدود كذلك. فإن إرادة الإرادة التي لا تعجز عن استهلاك كل شيء، لن يتبقى لها في النهاية إلا أن تريد ذاتها، إلى ما ليس له حد. ولذلك فإن انتهاء الميتافيزيقا كتاريخانية للتحقيب المعرفي، إلى التكنولوجيا، جسد بكل وضوح ذروة انفصامية الكائن عن الكينونة، بعد أن استلبها خاصية الكونية، وتم له العثور على هذه الخاصية، متجسدة هذه المرة في التكنولوجيا، وخاصة في حلقتها العليا، الرقمية الصورية الخالصة. فالكونية، ها هنا تجريد متجسِّد، ونوع من مطلق محسوس. وعندها تنتهي الحدود بين الوهم والواقع. وما كان حنينًا إلى عودة الكينونة، يغدو مغامرة لا محدودة في تلاعب الوهم بالواقع، وجعله أحد أدواته، وليس معيارًا خارجًا عنه.

كان هيدغر من أوائل من تنبه، بطريقته المتميزة، إلى ما تعنيه غلبة العقل الحيسوب على «فكر» الميتافيزيقا، وإنتاجه لحضارة الاستهلاك، التي تعوض الكائن نهائيًّا عن حنين الكينونة. فإن التلهي بصنع الأدوات، لا يربط اليد بما يقع تحت سلطتها فحسب، ولكنه يحول صاحب اليد إلى واحدة من تلك الأدوات. فالاستهلاكية لا تُبقي على أي حيز للآخر خارجًا عن دائرتها، لماذا الاستهلاكية هي المنعطف الذي ينهي «نظام» الانعطاف نفسه؟ لأنها الحالة التي لا تسمح بانكشاف «نظامها» إلا استهلاكيًّا من نوعها، وبطريقة استهلاكية. لذلك كان يمكن ﻟ «هيدغر» أن يرى في الاستهلاكية النظام «الكوني» الجديد المكافئ لإرادة الإرادة، غير أن فكر هيدغر لم يكن يشكل يأسًا كاملًا من إرادة الإرادة؛ لأنها هي التي في الأصل لم تكن سوى انحراف عن إرادة القوة. والانحراف ليس انقطاعًا عن الأصل بقدر ما يدفع إلى التذكير به، مع استشعار الغربة عنه. إنها إرادة محفوفة بالألم، ولا يمكنها أن ترعى نظامًا للكوكب الأرضي إلا في استمرارية مبدأ الحرب حتى في ظل السلام، وجعل السلام نفسه إحدى وسائله وأقنعته. ذلك أن إرادة الإرادة إنما تنشد تأكيد ذاتها، ويقينها بنفسها، ولا يتحقق هذا إلا بقدر ما تجعل كل ما هو آخر يتبع قانونها، أي: يصير تأكيديًّا ويقينيًّا. كل ما يخضع لها يغدو صحيحًا ونظاميًّا؛ لأن إرادة الإرادة تبقى، هي عينها، النظام الوحيد. «فما إن تصبح إرادة الإرادة يقينية من ذاتها، حتى تضيع الكينونة البدئية للحقيقة؛ إذ إن صحة إرادة الإرادة هي مجرد اللاحقيقي الخالص. فاللاحقيقي الخالص يتمتع بمقاومة خاصة في كل ما يتعلق بإرادة الإرادة. غير أن اللاحقيقي الخالص يظل مختفيًا، من حيث هو كذلك، وهو في الوقت عينه العنصر الأضعف تأثيرًا في عملية قلب كينونة الحقيقة. فالصحيح (أي: النافع إرادويًّا) يسيطر على الحقيقي، ويزيح الحقيقة. ما تعنيه إرادة الإثبات المطلقة، هو أولًا انكشاف اللاإثبات الشامل».
هكذا يعترض هيدغر على التراث الفلسفي الألماني الموصوف بالحداثة، الذي اتخذ من الإرادة محورًا للمعرفة والوجود في آنٍ واحد، اعتبارًا من كانط إلى شللينغ، وهيغل وشوبنهور، وذلك تحت مختلف المواقف التي كانت تُتخَذ من قِبَل هذه الفلسفات إزاء ما تعنيه الإرادة، ومشروعها الإرادوي إزاء الذات والعالم، أي: بصرف النظر عن تحبيذ بعض أدوارها، وإعلائها إلى مستوى الهدفية العليا للتاريخ، كما فعل هيغل، أو بإثبات عدمية هدفيتها، فيما يتعدى استمراريتها وبقاءها إرادة عمياء، ترسِّخ انقطاع الذات عن العالم، باختلاق عوالم من التصورات، كما أصر شوبنهور، على أن الإرادة هي إرادة البقاء فحسب، بصرف النظر عن أية هدفية خارجة عنها. ولقد جاء نيتشه لينحاز بكليته إلى شوبنهور ضد هيغل. وهو وحده، من بين أقطاب المدرسة الألمانية، مَن حاول الذهاب بمفهوم الإرادة إلى أقصى مداه، بشكل يجعل من المتعذر إحاطتها بتعريف محدد. وبذلك أبقى على انفتاحها على مختلف الممارسات، حتى المتناقضة منها. وهذا ما أعطى طابعًا تعدديًّا لتأويل هيدغر لها. وهو الذي عايش تراث نيتشه كبطانة دائمة لكل أنسجة فكره.
كان هيدغر هو أول من كشف عن كون إرادة القوة، إنما هي إرادة الإرادة. لقد بنى لها موقفًا مفتوحًا على كل الاحتمالات، دون أن يلزمها مسبقًا بأية برمجة. وبذلك قربها من صيغة الكائن في العالم، بل ربما كانت هذه الصيغة هي التأويل الوحيد الممكن، الذي يستطيع فكرٌ تشبَّع بالجذرية النيتشوية أن ينفلت من عقاله بواسطته، ويجد له ثمة موقعًا داخل/خارج موضوع التأويل في آنٍ معًا. ولعل أهم نتيجة تأويلية وصل إليها هيدغر، عبر استرداد الإرادة من أقنمتها كإرادة القوة إلى إرادة الإرادة، هي في تحرير الإرادة كموضوع، من محمولها الوحيد: القوة. فالمحمول قد يكون متضمنًا في الموضوع، ولكن عندما يخرج من حال التضمين إلى الإقامة خارج الموضوع، فإنه يجبره ذلك على التقوقع تحت جناحيه فحسب؛ ذلك أن القوة هي من صميم الإرادة التي لا تكف عن إرادة ذاتها، وفي هذه الحالة، لا توصف الإرادة إلا بذاتها، كما القوة لا تكون إلا قووية، عندما لا تُستخدم كوسيلة لسواها. لكن الإرادة المتجلية في قوة معينة لا تعود ذاتها. ومن هنا مصدر إساءة الفهم المتنامية لعبارة إرادة القوة التي استُخدمت مع رديفتها عبارة: الإنسان الأعلى، وكأنهما الأساس لأيديولوجيا الاستبداد، وإنتاجاتها التدميرية الكبرى طيلة القرن العشرين.

إن إرادة الإرادة تفتح على مختلف الاحتمالات، وخاصة على الأسوأ منها كذلك، أي: إرادة القوة، وذلك عبر ممارستها الأيديولوجية تحديدًا. فهي المسئولة عما اعتُبر المسيرة الانحرافية للمشروع الثقافي الغربي، طيلة ذلك التحقيب المعرفي الذي اختاره هو، كتاريخانية معبرة عنه، وخاصة به وحده، وهي التي انتجت حركاتها الجماهيرية الشعبوية الكبرى في ظل إمبراطوريات استبداد الأدلجة المعاصرة يمينيًّا ويساريًّا بين شرق أوروبا وغربها. وكان لها نماذج ناسخة أو موازية لها تتوزع بقيةَ العالم، تقريبًا.

لا شك أن إرادة الإرادة لا تدع نفسها تستسلم إلى أسوأ احتمالات مفهمتها وممارستها، إلا بقدر ما تتلبس الكائنَ، وتختزله بصورة مزدوجة؛ تعزله عن صيغته: الكائن في العالم، المفتوحة أصلًا على الكينونة، كما أنها تختزل الكائن نفسه إلى مجرد قاعدته الحيوية، إلى أدنى مرتبيات الإرادة، كرغبة هوجاء في البقاء، دون اعتبار للوسائل والأهداف. حتى يبدو الإنسان نفسه مأخوذًا ومنجرفًا بإرادة الإرادة، بحيث لن تكون الرغبة في البقاء، مجرد البقاء، سوى الفخ الحيوي البدئي، حين تنطلق منه مختلف التبريرات المولدة لكوارث التاريخ، وصولًا إلى أعلاها وأشملها مع الثقافات الإتنية والعنصرية. سريعًا ما تتحول رغبة البقاء، تبريرًا لإلغاء بقاء الآخر. كل ما تبتكره إرادة الإرادة من موضوعات، وتسميها أهدافًا لها، إنما هي تعلات عابرة، حتى لا تريد الإرادة إلا ذاتها. ومع حلول عصر الصورة راهنيًّا الذي تدخله الإنسانية راضية، فإنه يتم فيه إلغاء الفاصل الأخير بين الوهم والواقع. وبذلك تنجز الإرادة أقصى درجات تطورها كإرادة للوهم خالصة، الوهم الذي يحتل حيزه وحيز الواقع نهائيًّا. وأمام هذه المحصلة يبدو شوبنهور، وليس هيغل، هو الأب الروحي لنهاية التاريخ، كنذير وليس كبشير.
هل كان ثمة طريق آخر أمام التاريخ مختلف، ونهاية أخرى؟ لعل ذلك ما كان يقصده «تعليم» زرادشت. إن نزول هذا «النبي» المغاير إلى الوادي من قمة الجبل، كان في حد ذاته إشارة إلى إمكانية مختلفة، في فهم إرادة القوة، واكتشافها مختلفة عن تجلياتها المعهودة، في طول التاريخ الإنساني وعرضه، وكما في سياق خاص كان يمثله المشروع الثقافي الغربي بصورة متميزة عن كل ما يشابهها، ما دام هو المشروع الوحيد الذي استطاع أن يسيطر على الميتافيزيقا، ويفرض عليها خطًّا وحيدًا، يؤدي بها إلى حتمية الاندماج الكامل في التكنولوجيا، مما جعلها تضع بنفسها حدًّا لها. غير أن السؤال الذي يريد أن يستقبل فضاء ما بعد الميتافيزيقا، قد يمكن صياغته على الشكل الآتي:
هل يعني أنه إذا أخطأت الميتافيزيقا طريقَ التاريخ، بتوهم تاريخانية معينة، أنها لن تعود إلى تبين وجهتها الضائعة مرة أخرى؟
فإذا كانت تلك الميتافيزيقا أنتجت ما سُمي بالفكر، ألا يجوز أن نضع هذا الفكر أمام ما كان عليه أن يكتشفه أصلًا، وهو اللافكر؟ وهذا يعني بدوره أن الميتافيزيقا الانحرافية كانت قادرة كذلك على التذكير بالميتافيزيقا الأصلية. ولكن هذا التذكير ما كان له أن يحدث، لو لم يحدث قبله كلُّ ذلك الفكر الذي سجلته الميتافيزيقا المعهودة، أي: إنه لم يكن باستطاعتها التنبُّه إلى حد اللافكر، لو لم ننشغل بكل ذلك الفكر المتجسد وحده. فلا يمكن مبارحة تلك الميتافيزيقا إلا وإنجازاتها ماثلة في أفعال المبارحة عينها التي ينبغي عليها أن تلغيها. يستحيل الانفتاح على اللافكر إلا بطريق الفكر وحده. وأخيرًا، لا يمكن معايشة التاريخ إلا بأفعال تاريخية، حتى وإن انحرفت هذه الأفعال نحو تاريخانية متقوقعة على ذاتها؛ فذلك شأن الأفعال التاريخية التي لا بد أن تتميز بإيقاعها الخاص، وبأسلوب تعاملها مع التاريخ بالحرف الكبير. غير أن التاريخانية التي تتمادى في خوصنتها — للعالم — إلى حد ادعاء التملك من لحظة اكتماله واستشراف نهاية التاريخ، فهي التي سوف تأتي إلى ذاتها بنهاية ذاتها. وعندئذٍ تتضح الهوة السحيقة بين ما كان يمثله المشروع الغربي باعتباره إحدى صُدف التاريخ الكبرى، وبين التاريخ بشموليته اللامحدودة، واختلافيته اللامتوقعة، حيثما يتلامح كليًّا، مفتقدًا أخيرًا كصيرورة بريئة من أية أعراض، وكانت تلتصق بها وتخفيها.
ومع كل ذلك تبقى التاريخانيةُ دليلَنا الاستثنائي إلى التاريخ. فهي التي تضفي على الكائن ثمة هيكلة معينة، تخرجه من اللاإمكان المحض، وتضعه تحت طائلة الكينونة، في ذات اللحظة التي يضطرها الكائن إلى حضور ما، لا ينفك عن الانسحاب. غير أن التاريخانية قد تبلغ حد التهديد بالخطر الأخير، عندما يحاول الكائن أن يختزل المسافة الأنطولوجية التي تفصله عن الكينونة، إلى مجرد مسافة مفهومية، تملؤها حدثيات التاريخانية وحدها. ولا تتم هذه العملية إلا عندما يُخيَّل إلى الكائن أنه قادر على سيادة العالم، بالاحتياز على أشيائه، وإضافة أشياء أخرى إليها، مع إهمال العالم نفسه، مع تخطيه الدائم لصيغة وجوده فيه، ككائن «في» العالم، نحو صيغة: الكائن الذي يحتوي العالم. لكنه بالفعل لا يحتويه، بل يتحول إلى شيء من أشيائه. وفي هذه المرة، يختفي «الآخر»، ليس لصالح الأنا، بل لصالحه وحده.
هل معنى ذلك أن صيغة: الكائن في العالم، هي الصيغة النهائية؟ ليس هناك جواب على هذا التسآل إلا بالإيجاب، شرط أن نتذكر أن تلك الصيغة ليست ثنائية لا بالشكل ولا بالمضمون، وبالتالي ليس هناك إشكالية وجودانية، تطرحها من هذه الوجهة، أي: ليس لديها ثمة إشكالية تنتظر التفكيك أو الحل، الذي يرجِّح قطبًا على آخر. ذلك أنه، كما عرضنا لهذا الأمر في موضع سابق، فإن حرف الجر «في» هو المسئول عن الإيحاء بالثنائية داخل الصيغة الوجودانية. كأنما كان الأفضل القول دائمًا: كائن العالم، لولا أن حرف الجر هنا لا يربط بين مختلفين كما توحي الصيغة لغويًّا، بل يقدم التسمية الأولى والحاسمة في إنتاج إمكانية كل التسميات الأخرى التي ستأتي بعدها، وتُبنى على أساسها؛ إذ يقدم تسمية المكانية، فالعالم هو إمكان مكانيته، التي وحدها تسمح، وليس في أية تسمية جهوية أخرى، تسمح بإمكانية كائنه، من حيث هي إمكانية لكائن يضمه (أي: العالم) وسواه في آنٍ واحد. ذلك أن العالم هو إمكانية المكانية الفريدة التي وحدها تتيح مولد الزمان. الزمان الذي هو عينه، لا عالَم له إلا هذا العالم. فالكائن يجيء إلى العبارة في ذات اللحظة التي يجيء إليها العالم.
إنها عبارة تركيبية دون أن تكون تحليلية. ذلك أن كل استنتاج داخل سياقها المنطقي، أو كل استقراء يستدرجها إلى سياق منطقي آخر خارجها، مضطران أن يقعا في تكرارها، في مواجهة لا «الدور» المنطقي فحسب، ولكن أساسية «العَود الأبدي»، أو عودة ذات العين. ومن تركيبية صيغة: كائن العالم، يتعاطى الفكر معها، ومن خلالها، تركيبيًّا كذلك، للتأشير على التميكن والتزمن، باعتبارهما يساهمان في آنٍ معًا، في بَينَنة الصيغة: كائن العالم، ويحولانها من عبارة إلى حادثة. فالتميكن/التزمن يصنعان من كائن العالم، حادثة كائن العالم. ينتزعان «قِدَم» العالم من حياديته السديمية، ويورطانه كفجاءة ذاته، كبُعدٍ آخر لحادثة كائن العالم؛ يولَد التاريخ هكذا كيما يظل تدوينًا لا يكتمل للمايحدث، بعد زوال حادثاته. كما لو أن التاريخ التقاط متردد للعالم، كظهورية مهددة دائمًا بلاظهورية، مُداهَمةٍ من لامكان.
ما هي ظهورية العالم؟ إنها حادثته. والتاريخ محاولة في التقاط لهذه الظهورية، ليس باعتبارها تقدم جاهزية للقص، للرواية، فحسب، ولكنها تروي ما لم يحدث بعد، لما ليس ظهوريًّا بعدُ كبُعدٍ أصيل للمايحدث، الذي مهمته أن يعيد نشر قِدَم العالم، كإمكان وحيد لفجاءته في تاريخ الآتي. ذلك هو فكر الميتافيزيقا، التي بفضلها وحدها يعيد الفكر نشر ظهورية العالم، عندما يعثر على قطرات من ينابيع طفولته على ضفاف شيخوختها، لا تزال تفيض بظهورية العالم كإمكانية مستقبلية في استعادة قِدَمه، كما لو أن العالم يولد دفعة واحدة، من لحظته الفجرية الأولى، كأنما يولَد ظهوريةً تامة، دون أن تتم حقًّا. بيدَ أنه لا فكاك منها. ظهورية العالم لا بدء لها ولا نهاية. هيمنة منتشرة في حيادية مطلقة، بمعنى أن هذه الظهورية لا علاقة لها بشيء، ومع ذلك، ولأنها كذلك، فإن الكائن، وكل شيء، مشارك في الظهورية، خاضع لها. لكن الكائن، هو مَن بالظهورية لا يكون أبدًا ظهوريًّا كليًّا، حتى بطريقته الخاصة.

فالكائن والعالم ليسا متقاربين إلا اختلافيًّا. ومع ذلك، لا مفر أيضًا من صيغة كائن العالم، ليس لأنها فاعل التأمل وموضوع التأمل، ولكنها هي حامل الفكر الذي لا يعرف أنه كذلك بعد. ومعرفة الفكر لنفسه أنه كذلك لا تعني انفصال الفكر عن كائن العالم، بقدر ما هي استرداد لصيغة كائن العالم، في كل حالِ انكشافٍ للعالم بطريقة مختلفة. وذلك بجعلها حادثةً قابلة للحضور، في ظل الظهورية المطلقة، وما يختلف عنها، في وقت واحد. فالفكر لا يجلس بين الكائن، وكائن العالم. إنه هو عينُ كائن العالم عندما يتم بواسطته وحدها، أي: بالفكر وعن طريق الفكر، كسرُ ظهورية العالم المطلقة، بالإلماح والانزياح إلى ما لم يظهر بعد، ومع قبول الظهورية كما هي، أي: من حيث إنها ظهورية لا تتم أبدًا.

هيمنة الظهورية تظل ناقصة، مهما وُصفت بالمطلق والشمول؛ ذلك أنه لا أحد يعرف العالم قبل أن يظهر كائن العالم، كفجاءة ذاته بدئيًّا. لا أحد يمكنه أن يصف ظهورية العالم، قبل أن يظهر من هو قادر على تعيينها بما هي كذلك. فإن كائن العالم هو الحادثة الطارئة الوحيدة المخولة باكتشاف قِدَم العالم على طريقتها، وبما يجعل هذا القِدَم نفسه يكرِّر، يؤجِّل فُجاءةَ العالم لذاته إلى ما لا نهاية. هذه الاعتبارية الأنطولوجية غير المعيارية لا تؤهل كائن العالم ليعد العدة كيما يسود العالم، بقدر ما يجعل من حادثته الطارئة عينها، كمؤشر على إمكان مستمر للطارئ الأشمل الذي لم يحدث بعد، للكينونة.

ذلك هو الفارق في التعامل مع ظهورية العالم، مع هيمنة الظهورية المطلقة، بين سؤالين: ماذا؟ أو كيف؟ وهو الفارق الذي سيحدد استراتيجيتين للفكر تجاه اللافكر، كلٌّ منهما ترتكب تدوينًا مختلفًا للمايحدث؛ إحداهما تغض الطرف عن التاريخ ككل، مدعيةً الفوز من التاريخ بأفضل حكاياه. والأخرى تظل مشرَّدةً في هوامش التدوين، ليست رافضة للتدوين واستراتيجياته فحسب، ولكنها تحوِّم خارجَ علاقة التدوين/اللاتدوين بالذات. تظل أقرب إلى المايحدث كطوارئ نفسها، منها إلى الحكايا التصنيفية، كحادثات كفَّت عن الحدوث. وهذا يفترض في المحصلة: أن ندع ظهورية العالم تظهر.
ذلك يعني رد الاعتبار إلى أولوية المايحدث على «الحادثات» الناطقة باسمه. ذلك ما يؤجل اعتراف كائن العالم بذاته، كحد أخير، أو مركز وحيد، بقدر ما يكتشف أكثر فأكثر عمق المسافة الأنطولوجية أولًا، التي لا تزال تفصله عن الكينونة. وعلى العكس، فإن تثبيت نماذج من كيانات تحقيبية معرفية، يُحشَر فيها كائنُ العالم، من لحظة تاريخية إلى أخرى، يعني التدخل في ظهورية العالم، وقطعها عن مواردها الوجودية الثرية، في المايحدث. يعني انتزاعَ «التقاط» حادثة ما طارئة والتشبثَ بها كليًّا، واستبعادَ الطارئ في ذاته. فضُّ الاشتباك مع كلية المايحدث.
لم يكن سهلًا أبدًا، حتى بالنسبة إلى شمولية التاريخ الإنساني عينه، استشفافُ ما تعنيه المسافة الأنطولوجية بين الكائن والكينونة. ولقد ابتكرت الحضارة جاهزيات مفهومية/تقنية عديدة لملء، لتوسيط هذه المسافة. وتوزعت هذه الجاهزيات بحسب خطين من الانبناء، تارة إلى المغيوب، وتارة أخرى إلى المجهول؛ ذلك أن تصور الفارق مع ما يتجاوز الكائن، كان دائمًا موشحًا بازدواجية الاستشعار بالمغيوب وبالمجهول في آنٍ واحد. ومن هنا جاء ابتكار النهج التاريخاني الذي يحاول، من جهة أولى، فضَّ الاشتباك التزامني بين قطبَي هذه الازدواجية، وإدراجها حسب تطور خطي، ما لبث أن ترعرع تحت مصطلح التقدم. ولقد عزَت حضارةُ الغرب تحقُّقَ فرادتها إلى هذه العملية الاختراقية، أي: التاريخانية التي عجزت عن ممارستها الحضارات الأخرى، بحسب اعتقادها. هكذا وُلد التحقيب المعرفي على أساس تقدم الانبناء إلى المجهول، على قطبه الآخر، الانبناء إلى المغيوب. غير أن النقد الرئيسي الذي يوجهه الفكر إلى تاريخانيته هذه التي غدت في حكم الإنجاز (نهاية التاريخ؟) هو أن فَلْش (فسخ) التزامن بين المغيوب والمجهول، إلى مجرد تتابع تحقيبي يستند إلى المعيار المعرفي وحده، ليس حلًّا لإشكالية ظهورية العالم، ولا تحديدًا للموقف «الفعلي»، الذي ما فتئ يتعامل معها طيلة هذه التاريخانية. إذ بُني أساس هذا الموقف بازدواجيته؛ المغيوب/المجهول، ليس على اختلاف القطبين الذي يُدَّعى أنه جوهر التاريخانية المميِّز لها، ولكن على أساس كونهما ينحلَّان معًا إلى وضعية واحدة، وهي وضعية الانحراف «الأصلي» الذي نجم عن اقتراف «الفكر» — الذي يصير العقل — أولى خطيئاته، عندما واجه ظهورية العالم، فاستثنى نفسه منها، وسعى إلى الجلوس على مقعد خارجها، وبذلك حكم على ذاته بالتعامل معها، وكأنها الآخر. والآخر — في هذا السياق — ليس اختراعًا تعدديًّا، ولكنه مركزُ استقطابٍ ضديٌّ أصلًا. وبالتالي يغدو الصراع هو العلاقة الوحيدة الممكنة ضد الآخر الذي يريد، كالذات «التاريخانية»، أن يكون هو تلك الذات وحده.
إن أساسية هذا الانحراف حتمت على المفكر أن يحيا غربته، لا داخل العالم، ولكن خارجه، وبالتالي أن يفقد حقيقته كحادثة متميزة داخل المايحدث عينه. لقد كانت نتيجة هذا النفي الذاتي خارج ظهورية العالم، أن الفكر حكم على نفسه بخسارة العلاقة الوحيدة الممكنة مع عالمه، علاقة كائن بكينونة. فهو لن يستطيع أن يفوز على ظهورية العالم، بأية ظهورية (أخرى؟) وهو خارجها أصلًا؛ ولذلك لم يتبقَّ له إلا أن يصطنعه عالمًا آخر، يكون بديلًا عن عالم المايحدث. يقتطع الفكر بذلك موقعه الجواني من برانية العالم. تنقلب العلاقة من كينونية إلى تدبُّرية، مما اضطرَّ ذلك الفكرَ إلى إنكار كل الساحات الواسعة، لما ليس هو الفكر بعد. لم يتبقَّ إلا التورط إلى ما لا نهاية في اصطناعِ، فبركةِ، تقنية عوالم بديلة، تكون كفيلة بإنتاج أنماط من الظهوريات، تنافس ظهورية العالم الأصلية، ثم تحجبها، تحذفها، إلى الحد الذي لا يتبقى للفكر أمامه إلا مرآويته الخاصة. يصير الفكرَ المرآوي. بعد الانبناء للمغيوب، ثم الانبناء للمجهول، قد ينتهي «التحقيب المعرفي»، راهنيًّا، إلى الانبناء الصوري الخالص.

تلك هي الميتافيزيقا التي يطرح هيدغر تجاوزها. غير أن هذا التجاوز ما لبث أن غدا حيزًا مترامي الأطراف، كان مدخله الأول استرداد الميتافيزيقا (الأخرى)، التي سعى نيتشه إلى جعلها موضوع نُبوة لنهاية العصور، يأتي «نبيُّه» زرادشت مبشرًا بها. إنها الوطن السري المنفي الذي يريد «العود الأبدي» أن يسترده، عندما تتحرر الإرادة من تاريخ انحطاطها إلى إرادة الإرادة، وترجع إلى ملاقاة جوهرها كإرادة للقوة، كقوة قووية، إلى الكائن الذي يتجوهر كينونيًّا، دون أن يغدو جوهرًا أبدًا.

إن استثناء الفكر من ظهورية العالم، لا يعني سوى تشكيل بؤرة استقطاب لظهورية أخرى، تكون برانيةً عنه، وهي جوانية داخله. أُريدَ لهذا الفكر أن يبني قطبه الخاص، أن يشيد ذاتية، تصير ذاتوية مضخمة، لا تستطيع حقًّا أن «تنتصر» على العالم — كما نتوهم — فتختلق، بدلًا عن ذلك، عوالمها الخاصة، من الأسطري إلى اللاهوتي إلى العلموي، إلى الصوري. تلك العوالم لا تقع بين الذاتوية والعالم، كتعددية في طرق فهمه والتعامل معه، بقدر ما هي وسائط قولبة، وجاهزياتُ إخفاءٍ وحجْب؛ ذلك أن إرادة الإرادة لا يسعها أن تطيق ما يغايرها؛ إذ سوف تتكشف عن حجمها الحقيقي. إن استثناء الذات من ظهورية العالم، هي الخشية الأصلية من مواجهتها. الخشية التي أنتجت ميتافيزيقا، كان عليها دائمًا أن تتدبر، تتقن تقنية معينة، تكون قادرة على التعويض عن تجوهر لا ينتهي عبر كائن العالم، باختلاق ما هو شبه الكائن، وشبه العالم، بحيث لا تُضطر الإرادة إلى مبارحة ذاتها، حتى لا يواجه الفكر العقل باللافكر.

رغم أن العلم أدخل صدمة المجهول في مواجهة الذاتوية، إلا أن العلم نفسه لم يلبث أن استثنى حيزه من سياق معرفي/وجودي خالص، من أجل أن يلتحق بمؤسسة إرادة الإرادة، ويقبل بتحويل علميته إلى مجرد جاهزية لها، قد تغدو هي الأعلى في هذا السياق؛ لأنها قادرة على مَيكَنة الوهم ومَكنَنته معًا، أي: إعطائه حيز المكان، وتحريكه كتراكب عضوي/فيزيائي في آنٍ. تلك هي جاهزية التكنولوجيا التي تأخذ من الكائن/الذات عقلنته، ومن العالم مكانيته وآليته في آن معًا. التكنولوجيا إذن هي أعلى مراحل الوهم الذي يغدو وحده المجسَّد، في حين تتضاءل أيقونة كائن العالم، لتستحيل أشبه بالوهم الأثري.

إن وهم التقني يستطيع أن يغري إرادة الإرادة بالمزيد من إنتاجيته، تحت شعار المزيد من الإيغال في الموضوعية، كمعادل للعلمية، وبما ينتج بديلًا مشخصًا ناميًا في شخصنته حسب كل اتجاه، بديلًا عن تلك المسافة المفهومية الأنطولوجية التي يعانيها الكائن إزاء الكينونة. إذ إن إنتاجية هذه المعاناة تكاد تكون فراغًا خالصًا، أمام ملاءة المحايثة بإنتاجية التقنية، والمختزلة إلى جاهزية التكنولوجيا فحسب. ومع ذلك، وفي هذه اللحظة من فداحة المقارنة، تتصاعد (تنشال) المناداة على الميتافيزيقا الأخرى. إذ ليس صحيحًا أن المقارنة تُعقَد بين ملاءة بديلٍ مقابلَ فراغ الأصيل. ذلك أنه لا أرض مشتركة بين الطرفين، لكي تصح المقارنة بينهما. إن حادثة المناداة هذه وحدها تُبرز عقم إرادة الإرادة، فلقد سجلت ميتافيزيقا الشبْه بداية المنعطف الأخطر مع التكنولوجيا في مرحلتها المعلوماتية الصورية الراهنة. وتكاد تشرع في تصفية الحساب مع المجهول الذي كانت تَعِد بكنوزه، وتراهن على فجاءته المستمرة. في حين أن الميتافيزيقا (الأخرى) لا تزال تَعِد بكل الفكر الذي لم يُفكَّر به بعد، باللافكر الذي لم يَبُح أو يُبِن إلا عن أقصر ضفافه، وأبعدها عن تياراته.

وفي حين استغرقت الفلسفة خلال الحقبة النيتشوية الهيدغرية وبما صاحبها، ضدها ومعها، وما حاول أن يأتي بعدها، بدون ذكراها أو ببعضها، فيما أبدعته من جبهات غنية، طيلة هذه التحركات الكبرى التي غصَّ بها فضاء القرن العشرين المنقضي، فقد كان لها سؤال فريد ضمني، يجول ويحوم حول موضوع واحد هو تجاوز الميتافيزيقا، حتى يكاد يبدد ذاته داخل بعض تعرجاته وغيبياته. وقليلًا ما شرع في المناداة الفعلية عما سيأتي حقًّا بعد انقضاء لحظة التجاوز التي طالت وكادت أن تتأبد. غير أنه من الإنصاف القول إن هيدغر نفسه لم ينتظر أحدًا سواه، كيما يباشر في كتابة الميتافيزيقا المختلفة. كان معنى التجاوز عنده ليس تشييع المنقضي، لكنه احتفال بالمولد الجديد كذلك. وهو نفسه كتب فلسفته باعتبارها هي المشروع المختلف الناهض على أنقاض المشروع المنصرم، كأنه كان يحاول أن يثبت عمليًّا أن كتابة الميتافيزيقا المختلفة ممكنة تمامًا، ولكن بواسطة جاهزيات في التمعين والتلفظ والأداء، تُباين كليًّا أصول التنصيص الفلسفي السابق. ولم يكن ذلك ممكنًا لولا أن هيدغر اكتشف استقلالية جديدة للسؤال الفلسفي، جعلته قادرًا على التجاوز، عن استحقاق ومشروعية، لمختلف الأجوبة الجاهزة التي شكلت تراث الفلسفة، بحيث استطاع التناولُ الهيدغري أن يقلب كل أساليب مفهمتها وصياغتها. فبرزت «الفلسفة» شديدةَ الطفولة وهي في عز شيخوختها؛ ذلك أن السؤال الكينوني فجريٌّ أصلًا، وكل ما يلمسه يعيده فجريًّا مثله. وما فعله هيدغر أنه استطاع استخلاص السؤال الكينوني من تحت كل مراكمات أسئلة «اللماذا» و«الكيف»، وإنقاذه قبل اختناقه الكامل تحت حصائل الأجوبة وأكداسها المعلوماتية، الراهنة والآتية.
بعد كل ما يُكتب ويُسجَّل في مختلف الثقافات الإنسانية، والعلوم الموضوعية، ويُراكَم من المايحدث اليومي، يبقى سؤال ما يعنيه هذا المايحدث الحقيقي، تحت المايحدث المتداول. إن قلب السؤال من صيغة طلب البرهان، إلى صيغة الكشف، يرفع عن كاهل الفلسفة كل ما حملته من ادعاءات طلب الحقيقة المطلقة، وما كلفتها هذه الادعاءاتُ، من اختلاق الأجوبة المستحيلة. ذلك أن حد الفكر الحقيقي هو أن يضعك على تخوم اللافكر، حيثما المايحدث، الذي لم تُسمِّه الحادثاتُ بعد. وفي حين أن تكنولوجيا الصورية الشمولية، تزوِّد إنسان العولمة الراهنة بخضمٍّ من أشباح المرئي والمسموع والمداهم، فإن سؤال الميتافيزيقا المختلفة وحده يزعم أنه يكشف خواء كشوف المرآوية المهيمنة على العولمة. يقول: على الأقل، إنه في عالم غدا كله مكرسًا للأشباح والظلال، فإنه سيظل (سؤال الميتافيزيقا المختلفة) بمفرده يبحث عن ثمة أصل، حتى لو كان شبحًا من طراز آخر. تلك الحالة هي أشبه بالفرصة الأخيرة، وهي أن تظل ثمة مسافة بين التقنية وخطابها، بحيث يأتي خطابًا لا تقنيًّا تمامًا، مما يسمح للفكر أن يفكر التقنية بطريقة غير تقنية. هذا يعني أن مجيء الميتافيزيقا المختلفة ليس مرتهنًا بدحض شامل للتكنولوجيا، بقدر ما هو مرتبط باسترداد التكنولوجيا عينها إلى نصابها المشروع، إلى دورها الخطير حقًّا في حقل أوسع منها، هو التقنية (التقانة، بمعناها اليوناني). يتحقق ذلك بشرط أن يُتاح للفكر أن يتدبرها كإحدى مقارباته لتخوم اللافكر، فقد تكون هي المقاربة الأنجع عندما يتركز سؤال الفلسفة مجددًا حول الطريقة المجدية، والمحايِثة، في تكوين ظهورية أخرى، مؤهلة لعقدِ حوارٍ منتج مع ظهورية العالم، تتمترس وراء حيادية مطلقة. تلك الحيادية التي بقدر ما تبعث على قشعريرة «القلق» لدى الكائن، بقدر ما تكشف له عن خصوصية علاقته بالعالم. إنها علاقة تورُّط في لغزية/ظهورية العالم، لا رجعة فيها. لكنها هي في الوقت نفسه التي تسمي ظهورية العالم بالحيادية، وتُحرفها نحو اللغزية، مدخلةً بذلك، على الحيادية، ثَمة انزياحًا ما، دون أن تنزاح حقًّا. لكنها هي لهجة الخصوصية التي لا تتعلق إلا بصاحبها. إنها اللحنية الأخرى التغييرية التي يَرِد عبرها العالم إلى الكائن المتورط في معايشته، كقطب آخر فيه، وقبالته؛ لكن دون أن يرد العالم إليه تمامًا. يوحي بعض الإنسان اليومي في ظل تقنية التكنولوجيا، إلى ذاته، أنه قادر على الإحاطة بتلك القوة القووية: التدبر؛ وأنه قادر بها على تدبر شئون العالم. ولمَ لا؟! أليس كل ما يمتلكه من خاصية التدبر، إنما يتجسد في «قدرته» على اختزالها كتقنية شمولية، إلى مجرد تكنولوجيا خالصة؟ حتى لو أفسد كل ذلك — الاختزال — خصوصية علاقة الكائن بالعالم، حتى لو تجرأ (كل ذلك) على حجب ظهورية العالم. وصار الافتئات على حياديتها غرورًا حضاريًّا، يُتغنى به، في نفس الوقت الذي يخسر فيه الكائن خصوصية علاقته بالعالم. يفتقد جسده رنين القلق، يغدو وجوده في العالم بدون عالم، كوجود الحجر.
إذا كان سؤال الميتافيزيقا المختلفة ما زال هو الواعد بتجاوز حقبة «تجاوز الميتافيزيقا المعهودة»٧ المسيطرة، فليس ذلك لأنه يراهن على الإتيان بالأجوبة التي عجزت عن الإتيان بها أسئلة الماضي، بل لعله هو الباحث عن السؤال الذي سيظل الأفقر بالأجوبة؛ خاصة إذا كنا ننتظر أن يأتي بفتوحات تُضاهي قفزات التكنولوجيا في كل ميدان. حتى يمكن القول أكثر من ذلك إن الميتافيزيقا المتجاوَزة كانت عامرة بالأجوبة، التي تستشف الأسئلة الحقيقية. بالمقابل فإن الميتافيزيقا المتجاوِزة — بكسر الواو — سيكون أقصى جهدها أن تفوز بأولوية السؤال فحسب؛ إذ إنه في عصر الحشد الهائل من «المعلومات» ليس سؤال المغيوب، أو المجهول، ضائعًا فحسب، بل هي إمكانية السؤال عينها. إن أقصر طريق إلى الجهل الذي يجهل نفسه، هو تكريس «ثقافة» الموسوعات. فالتكنولوجيا المعلوماتية لا تزال تتابع وظيفتها الأصلية، كذروة ذُرَورية للميتافيزيقا التقليدية، من حيث سعيها المطلق إلى اختزال المعرفة في الكم الهائل من المفردات، التي بدورها تخضع للتشبيح، وتتحول إلى سيول هاطلة من الصور المرئية والمسموعة أو المسجلة. كأن القصووية اللامتناهية في الكم المعلومي، لا تحجب السؤال الكينوني فحسب، كما فعلت الميتافيزيقا المتجاوَزة عن طريق فرض التحقيب المعرفي؛ ولكنها، مع الميتافيزيقا المتجاوِزة الراهنة، لا يُكتفى بحجب السؤال الكينوني، بل يُعمد إلى إلغائه، بطمس موضوعه نهائيًّا: الكينونة، واستئصال لحنية القلق من جسد الكائن، في آن معًا. فإن الكم المعلوماتي، الزائد عن الحد، يُسطح المعرفي، ويفصله عن عمقه المترامي إلى تخوم الكينوني. فالمعلوماتية إغراق بالتفاصيل النافلة لكلية المعرفي، وكبت طموحه نحو الكلية الملتحمة بالنزوع الكينوني المشروع. سباق المعلوماتية نحو الكم الهائل النافل، مع ادعاء معيارية الشفافية المطلقة، يكرس المرآوية كبديل عن ظهورية العالم. المرآوية التي تبدد قوام كل أقنوم، وتُفقده «مُهلته» الأنطولوجية، وتقذفه إلى رياح التسريع في كل اتجاه، تمهيدًا إلى إلغائه من أزمنة الكلمات والأشياء، وإخضاعه إلى «الزمن الواقعي»، فهو الموكول إليه مهمة تدمير الكيانات، إزالة الشيء، كحد وكمفهوم، وكمفردة في تلفظ الكائن، وكلحظة في وقت العالم.

إن الأجوبة التي تأتي أصلًا لمكافحة الأسئلة، هي تلك التي لا تصبر على تأمل ظهورية العالم؛ إذ تعجز عن الدخول في مهلة كينونية معها، فتحاول التعويض عن كشوف الحقيقة بالمسارعة في مراكمة المعلومات، وتزويدها بأزمنة الأضواء، وتشفيفها ككائنات أثيرية، أو ترصيصها في براغيت إلكترونية. إنها تصطنع مرآوية تنافس ظهورية العالم، لا لتحجبها كما في ماضي الميتافيزيقا التاريخية، بل لتجعلها أثرًا بعد عين، لا يتعرف إليها أحد، أو يتذكرها. المرآوية أعلى مراحل الميتافيزيقا التقليدية التي تستمر بعدها، لتكون الميتافيزيقا البديلة؛ وهي لن تنشط كيما تمحو ذاكرتها الماضوية فحسب، بل تجهد كيما تجعل كل إشاراتها الراهنة أو الآتية، عاجزة عن «التأشير، أو التسجيل مقدمًا».

المرآوية هي تعجيز ظهورية العالم عن أن تنتج أي ظهور، عن التشكل في أية مشهدية، عن عملية التشكيل عينها.

الميتافيزيقا الآتية بعد ميتافيزيقا التاريخانية، لن يسميها أحد باسمها الحقيقي. لن يكون خارجها آخر. كل وقت سيغدو منقضيًا من أجل استعادة ثَمة حضور ما تحت طائلة ظهورية العالم. يعود زرادشت إلى قمة الجبل لكيلا يعاود النزول مرة أخرى إلى سهل لم يعد موجودًا. أيكون كائن العالم قد وصل ذات لحظة إلى العالم، ثم خرج منه دون أن يعقد صلة ما مع ظهوريته؟!

على الأقل فإن الميتافيزيقا التقليدية لم تستطع أن تمنع التفكير في تجاوزها. أما الميتافيزيقا المرآوية، فإن كل تفكير في الخروج منها سيظل حالة من أحوال أضوائها داخلها عينه. لم يعد الأمر الأصعب في بلوغ ذكر التجاوز، وإنما في معنى زحف الآتي ما بعده، كما لو كان حتمية مطلقة. فالآتي المرآوي لن تسبقه إنذاراته. سوف يحل في العين والأذن واليد مرة واحدة دون أن يدري به أحد، بحيث إن كل فرار من سلطانه، سوف يتطلب الاستعانة ببعض سلطانه بالذات.

لذلك يتميز عصرنا بالتشبث بالميتافيزيقا المعهودة عينها، حتى في أوج الكلام عن اختتامها وضرورة الخروج منها، فهي التي لا تزال تدأب على تقديم بدائلها، كأنها مصنوعة بمادتها، ومفهومة بمناهجها عينها، ومسوَّقة بأدوات إعلامها. حتى عندما لم يتبقَّ في جعبة هذه الميتافيزيقا أي نموذج إغوائي جديد، بعد استهلاك مختلف مغريات اليوطوبيا، فكرويًّا وسياسيًّا، فإنها تعمد إلى طرح الغائية الأصلية التي اعتمدتها دائمًا، ولكن بعد أن تفنَّنت في صناعة أقنعتها؛ إنها ترمي اليوم بالمخفي الأصلي في وجه الجميع. تقول بالفم الملآن إنه ليس هناك سوى حسابات السوق، تفوق كل «المعايير» الأخرى. ينهار منطق الأصل والقناع. لا يبقى سوى الأصل وحده؛ أي حضارة الأقنعة، كما لو كانت التراث (الحقيقي) لتاريخانيةٍ استنفدت كل أغراضها. ولكنها تظل باقية بعدها.

لا مفر أخيرًا من المواجهة. ولكن أية مواجهة؟ وضد من؟ إنها تلك الميتافيزيقا إياها التي تجهر بالمواجهة، هي التي لا تبوح عمن ستكون المواجهة معه، ليس ظهورية العالم على كل حال، بل هو البديل، الذي يمكن وصفه الآن بأنه بديل البدائل، ربما، يمكن تصنيف هذه البدائل، كونها من الدرجة الثانية. ذلك أن الميتافيزيقا المعهودة قامت في كليتها أصلًا على أنها بديل شمولي، عما هو الأول. هذا «الأصيل» الذي جرى دائمًا إخفاؤه تحت تتابع دورات حضارية، ترفع شعاراتها، هي بدائل من الدرجة الثانية، تتردد ما بين المستويات الغيبية، والمستويات الواقعية ارتفاعًا وانخفاضًا.

كأنما، هي الميتافيزيقا قد حسمت اختيارها منذ أن رفضت اللحظة الفجرية التي وضعت كائن العالم دفعة واحدة أمام ظهورية العالم، وتحت هيمنتها في الآن معًا، كعنصر من عناصرها بالذات. حسمت أمرها الميتافيزيقا عندما رفضت هذا التحدي البدئي. وحاولت أن تخترع ظهورية أخرى للعالم، فابتكرت المنهج الذي يساعد على فصل الفكر عن الواقع، من أجل إنكار الواقع عينه، والانشغال باختلاف العوالم المصطنعة التي توفر على الفكر تهديدات اللافكر؛ بحيث يغدو كل ما هو خارج الفكر، كما لو كان امتدادًا له، أو لا يكون أبدًا.

لقد وُلدت أسطورة الإنسان الأعلى قبل أن يكتشفها زرادشت بخمسة وعشرين قرنًا على الأقل. وعندما جاء متأخرًا خمسة وعشرين قرنًا، ليعلن اكتشاف الأسطورة، رشح نفسه ليكون إنسانه الأعلى الجديد بديلًا عن المشروع الخطأ، وعن نموذجه الخطأ في الإنسان الأعلى التقليدي. هذا الذي انتزع نفسه من ظهورية العالم، ليدأب على اصطناع ظهوريات بديلة أخرى، تجيء من ذات نسيجه، كيما تكسبه معارك انتصار عليها لا يستحقها. فالإنسان الأعلى الذي جاء لكي «يسود» العالم، انتهى إلى أن يسود عوالمه الخاصة المتصوَّرة، التي ابتكرها خياله دائمًا، ومن «حقبة تصورية» إلى حقبة أخرى، راحت الميتافيزيقا هكذا تؤجل ساعة الحقيقة: لحظة مواجهة الفكر للافكر. صارت قادرة دائمًا على جعل الفكر لا يخرج من بيته حقًّا، لا يطاح به مرة إلى الغربة الحقيقية، حيثما توجه لا يقابل إلا الكيانات التي خططتها له تصوراته، وبنَت له صروحها من مادتها بالذات. مملكة الفكر [المؤسس] هذه، ليست شرنقة موقتة تنسج حريرًا لا تتناهى خيوطه وخطوطه، لتنسدل على أجساد طرية بضة من كائنات كائن العالم. ليست شرنقة حرير تكسو عُري العالم، بل شبكة عنكبوت بائس، تتصيد أتفه مخلوقات العالم من الذباب والحشرات العمياء. مثل ذلك الفكر، لم يكن ليكتسب صفة كونية، إلا من حيث «إرادته في إرادة الاستيلاء على الكون»، لكنه عمليًّا لا يستولي إلا على أشباحه فحسب.
لم ينشغل فكر الحداثة بمفهوم الإرادة عن عبث، وخاصة عند معلمي المدرسة الألمانية الحديثة. فهي تارةً إرادة للبقاء عمياء وهمجية (شوبنهور)، وتارةً إرادة تركيبية تجاوزية هادفة تمامًا إلى إعادة التطابق بين العقل والواقع، كما عند هيغل. ولكنها عند نيتشه تعود إلى غموضها السديمي البدئي. وحتى يخلصها هيدغر من تشكيلاتها المفهومية (المتناقضة)، فإنه رأى أن امتيازها الحقيقي هو في هذه الإمكانية المطلقة على التشكل، دون انحصار في «تشكيلات» نهائية. جاء كشف هيدغر الأساسي في تسميتها بإرادة الإرادة. فلم يعد من المجدي تعريف الإرادة بهدفيتها، ما دامت كل هدفية لن تخرج عن حيزها بالذات. بذلك أمكنت قراءة الانشغالات الكثيفة التي غطت أوجهًا متعارضة كثيرة لعروض هذه الإرادة، وتحليلاتها «الصوفية» أحيانًا، والرومانسية والشعرية أحيانًا أكثر، التي طبعت الكتابات المقطعية [شبه الحكمية] عند نيتشه. فإن الانهمام الخصب بأقنوم إرادة القوة، لا يسجل المرحلة الأخيرة لميتافيزيقا نيتشه، بل ربما غطت المرحلة قبل الأخيرة منها حسب هيدغر، حيثما لا تزال «عملية كينونية الكائن تنجزه وتنشر إرادتها باعتبارها إرادة الإرادة».
غير أن نيتشه لم ينشغل في مجموع أعماله إلا بكتابة إرادة القوة، وصفًا وتحليلًا، وإبداعًا بلاغيًّا؛ مما يوحي ليس بالقبول النيتشوي بها، والفرح بابتكارها فحسب، بل هنالك التمجيد والتكريس، فهل كان نيتشه عاجزًا حقًّا عن إيصال ميتافيزيقيته إلى مرحلتها الأخيرة، عندما يتم لها تجاوز هذه الحماسة الشبقية بالحياة، والتفوق الحيوي الذاتي الاندفاع، الذاتي المعيارية؟ لعل هذه السيكولوجيا الحيوية هي المرحلة قبل النهائية، من اكتمال الميتافيزيقا النيتشوية، لكنها لم تستطع تجاوز ذاتها. ولذلك التبست شتى الأهداف والدلالات في خضم التوتر النفسوي الموشح بالجمالية والبلاغية حتى بلغت إرادة القوة حد الإشباع الأسطري. فهي من حيث إنها الكشف المعلى في كل ما يعطي لتاريخ الفكر أوجهه الأخرى الاختلافية، على ضوء التمييز العبقري بين ديونزيوس وأبولون؛ إلا أن عودة ديونزيوس في لحظة الذروة الحيوية، من تطورية المشروع الثقافي الغربي، كانت هي الرهان السري ﻟ «عقيدة» إرادة الإرادة. هي لحظة اختتام ميتافيزيقا القوة لذاتها بالتحول من إرادة امتلاك للعالم كوهم، إلى التصالح معه كحقيقة ذاته. لكن كان ذلك رهانًا مستحيلًا، كما لو كان الأمر: أن نيتشه لم يستطع أن يقدم رهان فلسفته كينونيًّا بذات النسبة التي كانت تعادل عنده إعطاءها كتوتر نفسوي جمالي. وذلك بانتظار «الفيلسوف» الآخر هيدغر، كيما يأخذ على عاتقه تشييد العمارة الكينونية لذات الاختلاجات النيتشوية (الوجودية)؛ لكن هيدغر الذي استطاع أن يفتح كُوًى عديدة في حصن الفكر التقليدي، على اللافكر الذي يحيط به، فقد اعتبر أن مهمته تتوقف عند تأكيد هذا المنعطف، حتى ولو لم يتمكن هذا المنعطف من تسجيل لحظته في تاريخ غربي أصبح مكرسًا للأفول. كما لو كان الأمر، أن هيدغر أخذ على عاتقه ليس مجرد تأويل نيتشه، بل إعادة كتابته، بما يردُّ إلى مركز الفكر إشكالية المسافة المفهومية الأنطولوجية ما بين الكائن والكينونة. كما لو أن نيتشه كتب، شعريًّا دراميًّا، معاناة الكائن، وهو متغلغل في غابة المتعارضات التي تشكلها الإرادة عبر ترميزاتها الاستقطابية. وبقي على هيدغر أن يطرح هذه المعاناة تحت طائلة الكينونة، وأن يحدد هذا الطرح داخل تخوم العالم نفسه، ولم يكن كل ذلك ممكنًا إلا بالمنهج الأصعب والأجرأ: انتزاع الفكر، من تاريخ أفكاره، تجريده من كل حصونه، تصوراته، مذاهبه، التي تَشَرْنق داخلها كيما يُحجب عن ذاته، كل ما يتخطى تلك الذات فعلًا، مما يستحيل على التصور نسجه واختراعه. كان الهدف تجاوز المنهجيات، وتراكماتها، إلى ما يصنع أصل كل منهج، تحت وطأة المواجهة البدئية بين الفكر واللافكر، مواجهة بدئية ينبغي لها أن تستمر في كل ما يأتي بعدها، ويُبنى على أساسها؛ ذلك أن التحصن أو الصمود في ذلك الموقع، توفره فقط قدرة الصيرورة على الانخراط في تكوين التاريخ والتكون به، بما يشكل الضمانة الأنطولوجية لعدم انفصال التاريخانية عن التاريخ، منعها من اختراعها مهمة التضاد معه، أو الاستغناء عنه. الضمانة التي تؤسس التاريخانية عينها في لُجَّة المايحدث، وليس في استعلاء فوقه، أو في انحراف توهيمي عنه. التاريخانية التي تزرع الفكر في تخوم اللافكر، لا تعيد عليه دروس إنجازاته، بقدر ما تُذكره بما لم يُكتب بعدُ في كل ذاكرة حية سابقة.
حول الإرادة يقدم الكائن عروضه، وحدود أنظمتها في آن معًا: وفي حين كان زرادشت يبشر/ينذر بقدوم «الإنسان الأخير»، فإنه كان يعلن بذلك عن اختتام جولات الإرادة في عالم تصوراتها الإسقاطية، وبلوغها كمالها كنظامِ أنظمة، حكم إخراج تلك العروض خلال ما دُعي بتاريخ التشكيلات الميتافيزيقية الكبرى، وأوصلها أخيرًا إلى اللحظة التي لم يتبق معها ثَمة مشهد خارج الإرادة لم تُرِده بعد، لم يستهلكه إخراجها بعد، بحيث لم يعد لها إلا أن تريد الإرادة ذاتها دون وسيط، ولكن «الإنسان الأخير لن يكون هو الذاتوية المطلقة كإرادة للإرادة، بل سيغدو هذا النوع من الكائن الذي يتموضع كليًّا خارج خارج ذاته»، بحيث لا يفقد فحسب فارق الدلالة والمسافة الافتراضية بين الذات والموضوع، ولكنه يضل حد الاختلاف الأخير بين الكائن والكينونة. إنه نوع من الانتقال الكلي من اختلافية العلاقة: كائن/كينونة، إلى اندراجية: الشيء/الشيئية objeïté-objet.

لم يقل هيدغر إن كان نيتشه يدعو صراحةً إلى إرادة القوة أم إنه يدينها، بل إن السائد في مختلف كتاباته أنه كان لا يقلُّ حماسةً لإرادة القوة، بما يصفها به من الحماسة الذاتية والاحتفالية الجمالية بالحياة، فهي التي تشكل المسرح اليومي لعروض هذه الإرادة. كما لو كان نيتشه في الواقع يستعرض دوافع الحضارة، ويرجعها في جملتها إلى إرادة الحياة عينها؛ ولذلك يستجيب مذهب إرادة القوة في جوهره، إلى المحور العام الذي أحدثته الثورة الداروينية في مفهوم الحياة، وما تقدمه من أشكال التطور التي تخضع لها الأجناس والأنواع، بما فيها النوع الإنساني. لكن نيتشه يميز مفهومه لإرادة القوة من حيث إن الهدف يتجاوز الحفاظ على البقاء الغريزي، إلى التدخل المطلق في ظهورية العالم، بما ينافس، أو يمحو، المعطيات الأولية لهذه الظهورية. لكن الالتباس يظل سيدًا على مختلف الانحناءات الدلالية التي تعرض لها تعامل نيتشه مع لغز الإرادة في حد ذاته. بالمقابل فإن مداخلات هيدغر، عبر تأويلاته (الداروينية) لهذا اللغز، لم تكن أقل انحناءات وتعرجات. فالشكل الدائري الذي يميز المنطق الهيدغري، لا يترك مجالات رحبة أمام محاولات لتبيان أين هي نقاط التطابق من نقاط التجاوز التي تجمع أو تفرق بين التأويل الهيدغري والنص النيتشوي، حتى يمكن الحكم بأن هيدغر كعادته يمضي بعيدًا في التناص إلى درجة إبداع كامل لنص اختلافي تمامًا. فمن الواضح أنه يرجع «حيوية» مفهوم إرادة القوة إلى المرحلة النفسانوية. كما لو كان نيتشه نفسه يظل يحوم طويلًا حول هذه المرحلة. يستخدمها كمنهج تأويل لإرادوية المشروع الثقافي الغربي؛ كما أنه في الوقت عينه كثيرًا ما يفقد حدود الفصل بين الديونوزسية والأبولونية. إذ يبدو أن النهجين يرميان إلى ذات الهدف، ولكن بطريقين مختلفين: كلاهما يطمح إلى الفوز بكينونية العالم، سواء عن طريق الغريزة وجاهزيتها المعقدة غير المحدودة (ديونزيوس)، أو عن طريق الحساب (أبولون)، أي العقلانية الباحثة دائمًا عما يشابه جاهزيتها (أي إمكانيتها الرياضية)، ويضاعف من قدراتها في الوقت ذاته. وهي ما يوفرها اكتشاف التكنولوجيا، باعتبارها غدت نوعًا من العقلانية المطلقة الحيادية، المكتفية بذاتها، إلى درجة الاستغناء عن الذات بما يجعل العقلانية الحاسوبية في النهاية ترث الإنسانية، وتدفنها في أثريات الماضي.

يتشبث هيدغر بتأويله لإرادة القوة كإرادة للإرادة. ها هنا لا تنعدم كل غائية خارجة عن المشروع الإرادوي فحسب، بل يصبح التحكم لهدف التحكم، هو الناتج العقلي لهذا المشروع: هكذا تشكل ما سوف يُسمى انحراف الحضارة. وهو انحراف تأسَّس منذ لحظة الموقف البدئي للفكر، حدث ذلك عندما فوجئ الفكر في فجريته، في لحظة صحوه الأولى، بظهورية العالم، تملأ عليه كل آفاقه؛ هنالك كينونة هائلة لا محدودة، مداهمة بحضورها الكلي عبر كل كائناتها، وهي غائبة، في الوقت عينه غيابًا لغزيًّا يبعث على الخوف اللامحدود المهاجم والمنسحب في الآن معًا. كان من المفترض ألا ينثني الفكر عن قبول التحدي. تولد في هذه اللحظة إرادة القوة لأنه يولد الفكر إزاء اللافكر، في حال من البراءة الخالصة لكلٍّ منهما. فلا الفكر مسبوق بأية إنتاجية له، ولا اللافكر مدجن سلفًا بأية أيقونات تحجب فجاءته. حقًّا، إنها: ساعة لبراءة الصيرورة الخالصة، بالنسبة لكلٍّ منهما. لكنها كانت كذلك وقت الخوف العظيم. تضع إرادة القوة أمام اختيارها الأول، كأنه الأخير: إما أن تعزل الفكر عن الكائن، وتجعلهما قطبين متنازعين في ثنائية بالرغم من انتمائهما معًا، عضويًّا، إلى الكينونة، وذلك من أجل تغليب أحدهما على كلية الثنائية، ولكن عبثًا تحدث مثل هذه الغلبة؛ وإما أنه قد يغدو هذا الصراع هدفَ نفسه، مثلما يصبح هو المحرك الوحيد للمشروع الثقافي (أو الحضارة). وهذا ما تعنيه عبارة: إن الإرادة تريد ذاتها فحسب. لكن ليست إرادة الإرادة إلا محصلة الفشل في التغلب على الثنائية؛ إذ حين يمتنع التغلب على الثنائية، حين يمتنع التغلب على الآخر، لا يبقى غير الانكفاء على الذات، واستعادة شرنقة الذات وعالمها الخاص معها؛ أي: سيادة الوهم وحده، الذي لا يعرف ثَمة تغييرًا إلا في تشييع وهم سابق مستنفد، واحتفال بوهم آخر لم يجرِ استنفاده بعد؛ وصولًا إلى النقلة النوعية الفاصلة: من وهم «الفكرة» إلى وهم التقنية حيثما كل تغيير فيه لن يكون إلا تقنيًّا من جنسه.
هل كان لدى إرادة القوة ثَمة اختيار آخر. قلنا إنها إما أن تعزل الفكر عن الكائن فتسير في طريق الانحراف المتمادي، أو يكون لها طريق آخر، لا يمعن قط في نسيان اللحظة البدئية التي سوف تصبح هي كل لحظة مستقبلية؛ خلالها يَلقى الكائن نفسه فيها تحت طائلة الكينونة دون سواها، دون أيقنة، أو حجب أو مواربة. وهي اللحظة التي تولد فيها الإرادة كل مرة باعتبارها قوة قووية في حد ذاتها؛ أي: قدرة الكائن المتنامية على المشاركة في ظهورية العالم، بما يجعله وطنًا حقيقيًّا لرعاية الكينونة، بما يؤهل العالم نفسه كيما يغدو سببًا أول لمجيء الكينونة ورواحها، بما يؤهل ظهورية العالم لتعرض، لتشف عن براءة الصيرورة، بأقوى من كل حجاب أو تحريف يطرأ عليها.

إن عزل الفكر عن اللافكر، عن الكائن، كان يعني استثناء الفكر من الوجود، وتوطينه في اللاوجود. فكل ما كان نتيجة لمثل هذا الفكر صار يحمل طابع سيده، وهو اللاوجود: فلا يلبث الفكر أن يجدد صراعه ضد الشيء الفارغ في الفراغ، مما يضطره إلى اختلاق الشيء الأكثر فراغًا. عندما يخرج الفكر من المايحدث، لا يعود صالحًا ولا قادرًا على ابتكار حادثة تستطيع أن تعامل المايحدث بما هو من جنسه، فما إن تعترف أخيرًا إرادة القوة أن محاولاتها الدائبة لإعادة اللحمة بين الفكر والكائن، عن طريق التغلب على الثنائية بينهما، قد باءت جميعها بالعبثية المتراكمة، عندئذٍ لا يتبقى لها سوى الإقرار بشكل وحيد للصراع يأخذ صيغة التمفصل الأداتي بين الفكر والكائن، بحيث تستحوذ عليه التقنية وحدها بصورة ستؤدي، ليس إلى نسيان الكينونة فحسب، كما كان الأمر طيلة تاريخانية التحقيب المعرفي، بل قد تؤدي إلى أدنى استشعار بذلك (الاختزال)، عندما لا يتبقى في الساحة إلا هذا التمفصل الأداتي بين الفكر والكائن.

يتحدث هيدغر عن الطية (العروة) المفقودة بين الكائن والكينونة، عندما يخرج الفكر نفسه من دائرة الكائن، ليدَّعي سيادة عليه (إرادة القوة). فتحل هذه مكان الأصل بالعروة، باللُّحمة التي تجمع هذه العلاقة التراكبية بين الفكر والكائن، من خارج كلٍّ منهما مقابل خارج الآخر، أي علاقة التمفصل الأداتي.

فالفكر الذي يضع نفسه خارج الكائن (لكي يسيطر عليه بالفهم كما هدف هيغل دائمًا)، فإنه يضع نفسه في الوقت عينه خارج الكينونة؛ ما يجعل الكائن ينطوي تحت الكينونة، هو تفعيل فعل الكون نفسه، الذي هو من مهمة الفكر وحده. وما حدوث هذه الطية إلا إعلان عن مشاركة حدثية للكائن في تخوم كينونة لا تتقدم ولا تنسحب إلا في تخوم عالم، مكرس لظهورية اختلافية مطردة. غير أن مفهوم الطية قد يعني دخول الحد الأضعف تحت الحد الأقوى. وفارق بين القول: انطوى في، انطوى تحت. ذلك أن اختلاف حرف الجر فضلًا عن إيحائه باختلاف العلاقة مع الحدين، فإنه يقدم دلالتين متباعدتين لنوع العلاقة؛ تتراوح بين الاندراج والانطواء الحقيقي، وبين الاتصال أو المشاركة. إذ تغدو الطية هي: العروة. واللفظتان العربيتان تساعدان على تبيان الفارق الدلالي، أكثر مما هو في النص الهيدغري. فالعروة تفترض تقارب المتصلين في نسيجهما، فضلًا عن تباين عنصر المشاركة، بدلًا من علاقة الطية والانطواء. هنالك حدث تواصل يغزو الطرفين في آن، مثل هذا الحدث هو الذي يعزز فكرة العين، أو ذات العين، بين الكائن والكينونة؛ من حيث إن الفكر يفعِّل هذه الهوية، يجيء من طريق الكائن كفكر لا ينتهي عند حدود ذاته، بل يفتح على اللافكر الذي يوفره البعد الثالث: الكينونة.٨

تلك هي اللحظة البدئية الفجرية، التي تعني وحدة الهوية: قبل أن يعتريها فصم العروة، بين عناصر ثلاثة (الفكر، الكائن، الكينونة)؛ وهي لم تكن أصلًا مرشحة للانفصام، لولا أن تصدُّع الهوية جاء أولًا من معاناة وجودية خالصة، تحت وطأة الخوف العظيم الذي يداهم الوعي الفجري الطفلي، تلقاء ظهورية العالم؛ مما يؤدي إلى أول انفصام داخل الذات بين كائن الوعي، وكائن الوجود فيها. ولا يلبث هذا الانفصام حتى يؤدي إلى حادث استثناء الذات من الوحدة الكينونة وإخراجها إلى مسافة عنها. فما الذي كان يميز حقًّا اللحظة البدئية؟ إنها تلك الوحدة في الهوية قبل أن يصيبها التصدع. فالخروج من الكلية والفرار، فالاستثناء والانعزال، ثم الشروع في تعميق الغربة بين الفكر والكينونة. وقد جاءت التصورات المؤلهَنة لتعيد اللحمة باستتباع الطرفين معًا إلى كائنات عليا. وكان الكشف الإغريقي وبالتوسط العربي، ثم الغربي في اختزال التدبر من شمولية المعالجة الوجودية، إلى التقنية المحصورة بتنظيم التعارض بين الذات والكائن كتعويض عن الوحدة الأولية المنقضية، مقترنًا بإقصاء معرفي أنطولوجي معًا للكينونة عن ساحة الاهتمام تدريجيًّا، وصولًا إلى تناسيها. لقد أصبح هم الذات، عندما استثنت نفسها من كلية الكينونة، أن تستحوذ على الكائن، بتأكيد استثنائيته منها (الكينونة) كذلك. فمن الوحدة الهوية، من كلية الكينونة، إلى ثنائية الذات/الموضوع، ثم التخلص من معاناة التاريخ، وذلك باختزاله إلى التاريخانية كتحقيب معرفي، يقص علينا باستمرار بطولات هذه الثنائية، وكيفيات الانتصار لأحد الحدَّين منها على الآخر. ولكن، عبثًا، حتى عندما أمست هذه الانتصارات الوهمية بدائل (حقيقية) عن استعادة وحدة الهوية الأصلية.

التاريخانية تجسدها إرادة القوة، كما تتجلى قصتها عبر التمفصلات الرئيسية بين الفكر والكائن، بحيث لم تكن لتجيء إلا عبر صيغ من تمفصلات ثنائية أداتية، تستخدم قطبَي الاثنين من أجل انتصار الواحد. لم تعتمد التاريخانية المعرفة كأساس للكينونة فحسب، بل حاولت اختزال الكينونة نفسها تحت وطأة مفهوم إرادة القوة. هذا التوحيد أو التماهي بين الكينونة والإرادة لم يأتِ عرَضًا في تاريخ الفلسفة الحديثة، بل كاد أن ينشئ لها ما يشبه عمودها الفقري؛ حتى يمكن وصف التحول من التصور السكوني للكينونة خلال المرحلة المدرسية في العصور الوسطى، إلى التصور الحركي (الحديث) على أنه تحول من أقنوم خارج الزمكانية إلى مؤشر (اصطلاحي) حافل بترميزات لغزية الصيرورة. فالإرادة هي التي تأخذ على عاتقها فلسفيًّا، إمكانية هذا التحول بقدر ما هي تغني تصوراته العقلية من حصائل ثقافة الحداثة ونوازعها المختلفة، فلا تكاد تخلو المذاهب العصرية من اعتماد شرارات من شعلتها المتوقدة دائمًا، خاصة في منعطفات الحداثة وما بعدها.

وكما ألمحنا سابقًا فإن الإرادة النيتشوية ليست غريبة كليًّا عن الإرادة عند شوبنهور وزميلتها: المعرفة عند هيغل، إذا لم نُرِد غير هذين الاسمين فحسب. لكن إرادة القوة تكتسب تميزها وخصوصيتها لدى نيتشه من هذه النقطة بالذات، وهي أنه في الوقت الذي تنشغل الفلسفة في تقديم عروض الإرادة، كإرادة للقوة، فإنها عند نيتشه، لا تكفُّ عن هذه العروض، ولكنها تذكِّر في الآن عينه بالعرض الآخر، الذي تغدو فيه إرادة القوة إرادةً للقوة القووية وحدها. أي عندما يمكن للكينونة أن تسترد وحدتها في نوع من صيرورة خالصة، فلا تصطدم بتحديد ما خارجها، كما لا تُرتهن كليًّا داخلها لأحد من عناصرها دون عناصرها الأخرى. إذن، في هذه الحالة لن تكف إرادة القوة عن تقديم عروضها اليومية التاريخانية، لكنها تدعو كذلك إلى الكشف عن أنظمة هذه العروض، في الوقت الذي يمكن الوصول إلى كشفها هي بالذات، كنظام أنظمة لهذه العروض، بصورة تساعد على تثبيت تخومها، وتميزها، ليس معرفيًّا فحسب، بل أنطولوجيًّا، عن الكينونة التي تدَّعي اتحادًا مستمرًّا معها. هو في حقيقته تغييب لها، واعٍ أو غير واعٍ غالبًا.

وعلى هذا الأساس، فالاعتراض على إرادة القوة هو عرض من عروضها كذلك، ولكنه قد يكون العرض المرشح وحده إلى الكشف عن نظامها. وحين اعتبر هيدغر أن إرادة القوة تنتهي حتمًا إلى أن تغدو إرادة للإرادة، فإنه لم يحقق تحررًا من سلطان نتائجها فحسب، بل تعداها إلى نظام إنتاجها، حيثما يدعو الفكر إلى إعادة تأمل ذاته على ضوئها كإرادة للإرادة لا تكتفي بتقديم عروضها التاريخانية، بل تشفعها بتقديم أنظمة هذه العروض عبرها كذلك. هذا يعني بالضبط إمكانية استثنائية في الكشف، في كل عرض من عروض إرادة القوة، عن الفكر الذي تعلن عنه، وعما لا تعلن عنه كذلك، وخاصة عن اللافكر الذي تقارب تخومه، وتجهله في الوقت عينه، أو تتحاشاه حتى تكاد تنفي وجوده أصلًا.

إن اختراع لفظة الإرادة فلسفيًّا في حد ذاته، يوضح تلك الحاجة الوجودية الخالصة لمحاولة ردم الهوة المفتعلة بين الكائن والكينونة. إنها حاجة طبيعية، لكنها لا تلبث حتى تمسي حاجة مقلوبة. بمعنى أنها بدلًا من استعادة الجسر المقطوع، فإنها تشترط أن تكون هي جسرًا للوصل، ويدًا للقبض في آن معًا. فالإرادة لا تكتفي بجلاء ظهورية العالم، ولكنها تسعى إلى اقتطاع/اختطاف ما تستطيع أن تقتطعه من هذه الظهورية، كما لو كانت إعادة عرض لها، للإرادة في غير حيزها. إن دخول الإرادة إلى العالم، لم يكن دخولًا سلميًّا، لقد جاء بالحرب، والحرب المستمرة، كما لو كانت القانون الطبيعي الذي سيحكم شبكية التداخل والتخارج بين الإرادة والعالم، بين الإرادة وأشياء القانون الطبيعي الذي سيحكم شبكية التداخل والتخارج بين الإرادة والمعالم، بين الإرادة وأشياء العالم؛ على أن تبقى هي الشيء المختلف الذي يحدد مختلف بقية الأشياء. ولهذا السبب لم يكن نيتشه، عندما عرَّف الإرادة بكونها لفظة، وأحيانًا لفظة فارغة، لم يكن يقصد الحط من شأنها، بل لأنه عندما رأى أنها تؤلف جوهر كائنية الكائن، فلقد منحها دلالة لا تحد من جنس دلالة هذه الكائنية عينها. إنها تدخل العالم وأشياءه لتجعلهما غير ما كانا عليه من قبل. فالإرادة كالكينونة، لا تُعرَّف بما تريد أو ترغب كاللذة أو السعادة؛ ولا تُعرَّف بما أنجزت كفعل محدد، بقدر ما تُعرَّف بما لم تفعله بعد، وبما لا يخلق مجرد ارتواء أو متعة، بل بما يولد من شوق إلى القوة الأخرى التي لم تتحقق بعد. وقد رأى شوبنهور في ذلك ما يدعو إلى الخوف والتشاؤم، سيما أنه لا يلحظ من سلوك هذه الإرادة سوى أنها تخبط خبط عشواء؛ غير أن نيتشه عندما يجرد الإرادة من أية هدفية خارج ذاتها، لا يتقهقر بدلالة الإرادة إلى المقام الشوبنهوري الذي يطلق عليها حكمًا أخلاقيًّا مبرمًا، بل إن تسمية الإرادة بإرادة القوة، كان الهدف منها تمييزها عن الدلالات العادية كإرادة نفسية، أو كتوجه نحو غاية، أو كرغبة في متعة، أو حتى في سلطة. إنها الإرادة التي هي في ذاتها، قوة لا تريد إلا ذاتها، بمعنى تطابقها مع الكينونة أو على الأقل الانخراط في سياقها، في طلبها، والاتحاد معها، حتى بما يلغيها كذلك.

لقد بدا لفلسفة الحداثة أن أفضل جواب على سؤال: ما هي الكينونة؟ هو الإرادة. وبذلك لم يعد ينظر إلى قصيدة الخلق أنها المؤشر الفجري الأول. وقع الانتقال إلى صيرورة هيراقليط، فبدأ كل شيء حركيًّا يموج ويتغير. المفاهيم فارقت جمودها ودخلت معترك التكون واللاتكون الدائم. لا شيء يمكن أن يتفق مع الصيرورة كالإرادة؛ ذلك أنه مثلما لا يصبر العقل على تأمل صيرورة لا قانون لها، فإنه يرشح ذاته ليتدخل كمحور ثابت في بحران التغيير اللامتناهي. يصير هو البحث عن ثَمة ركيزة؛ ديدنه الاستجابة لقلق الكائن إزاء الظهورية الشاملة. مع الصيرورة يأتي الزمان والتاريخ، والتقدم والتجاوز. ذلك ما أعطى للجدل دفعًا حيويًّا جعله سيد الفكر الحديث والمعاصر. حتى هيدغر لم يستطع أن يتحرر من الزمانية، جعلها رديفًا للكينونة أو أن الكينونة رديفتها.

لكن هيدغر مع ذلك كشف اكتشاف نيتشه عندما بيَّن أن التعريف الضمني لإرادة القوة، أنها إرادة الإرادة. فهي بقدر ما ابتعدت، بفضل ذلك التعريف، عن المواصفات النفسوية للإرادة كوظيفة حيوية، فإنها لم تنفصل عن جوامح الحياة، ذات الطابع الكلي. فلقد استطاعت إرادة القوة أن تتضمن إرادة المعرفة وإرادة الحياة معًا. وتضيف إليهما بُعدها الميتافيزيقي الخالص، الخارج عن كل ميتافيزيقا تاريخانية معينة؛ ذلك أن نيتشه لم يكن يرضى لفكره أن يبرح قَط اللحظة الفجرية التي لمحتها الإغريقية المبكرة، ما قبل السقراطية، لكن دون أن تستطيع متابعتها. وسجَّلت بذلك منعطف انحراف المشروع الغربي من الديونزوسية إلى الأبولونية. وهو الانحراف الذي جعل مستقبل تاريخ المشروع الغربي فرارًا متماديًا عن لحظة بدئيته، فجريته، وإمعانًا في التعويض القصووي العبثي عن شرخ الهوية الأولى، بافتعال الصراع بين الفكر والكائن، كما لو كان اغتصابًا متماديًا لمشروع الكينونة؛ حدث ذلك طيلة تغييبها المتواتر، شبه المطلق، واستبدالها تارةً أولى بالأسطرة، ثم تارة أخرى بالألهنة، تارة أخيرة بالعلمنة. كيما تأتي راهنيًّا حقبة «القَينَنة» كاكتمال اختزالي للمشروع الانحرافي الذي فشل في استعادة براءة الصيرورة، طيلة تمفصلاته مع نماذج من الآخروية الزائفة pseudo-autruitisme،٩ في تكرار لحظته البدئية، أو استحضار بعض التناغم بين مُثلها العليا: الحق والخير والجمال، ولو لمرة واحدة.

ذلك أن كل تمفصل خلال التحقيب المعرفي مع الآخر، كان يتخذ شكل التمفصل الأداتي؛ كان هناك دائمًا نزوع نحو الآخر، ليس لاكتشافه كهوية مختلفة، بقدر ما هو لتوسيطه، وتحويله إلى أداة مرحلية. فالحقبة الأسطورية لم تفز بالأسطورة كترميز، بل كتصور يوسط الرموز كلغة لغزية أخرى باطنية، رديفة ومساعدة للغة التصورات الاستبدالية التي تنشئها الذات عن الأشياء. أما الحقبة اللاهوتية التالية فلم تستطع أن تكتشف الآخر كإله مختلف في هويته، بقدر ما هو تصعيد استعلائي للذات الإنسانية الفانية إلى مستوى الذات الخالدة. أما المرحلة الحداثوية والعلموية الراهنة، فإنها ألغت عناوين الخطاب اللاهوتي من ألفاظ الألهنة، واستبدلتها بمصطلح الأنسنة ومشتقاته. فالمنظومة العلمية لا تعمد إلى اختراق الواقع، باعتباره الآخر، لكنها تستخدم بعض ظواهره كأدوات سيطرة على ظواهره الأخرى.

هكذا ليس التحقيب المعرفي مجرد تاريخانية إرادوية، تقوم، في كل نموذج حقبوي منها، على حرمان «الآخر» من آخرويته فحسب، بل إن الإرادوية في كل مرة تُجرد الآخر من آخرويته، فإنها لا تقتصر فقط على نكران الآخر، جولة (حضارية) بعد جولة أخرى، بل تنكر كذلك ذاتها تحت وطأة ذاتويتها؛ أي إن الإرادوية مثلما لا تصبر على ظهورية العالم، فإنها لا تطيق حضور «ذاتها» في «ذاتيتها» عينها. فالفرد مبدد سلفًا، مثلما هو العالم مخفي ومحجوب. بمعنى أن الإرادوية التي كانت تنحاز إليها إرادة القوة باستمرار خلال علاقات التاريخانية، المغلوطة والمنحرفة بين الفكر والكائن، أو بين الكائن (والفكر من ضمنه) والكينونة، كانت بمثابة أدلة الواقع ضد أدلة «الإمكان» الوحيد المستبعد، وهو إمكان عودة الإرادة إلى هويتها الخالصة مع ذاتها: إرادة الإرادة، أو قوة القوة، أو القوة القووية. وهو المطمح الأعلى لكل فلسفة تتطلع إلى لحظة الحقيقة من تماهي العقل مع الحرية.

إن كان ثَمة دلالة غير أسطرية لمصطلح العَود الأبدي، النيتشوي، فهي هذه: في كل مرة، في كل حقبة معرفية، يحدث فيها تمفصل خاضع لنمذجة التمفصل الأداتي بين الفكر والكائن، يلوح ثَمة إمكان تمفصل آخر، لا أداتي، بل تماهوي/اختلافي: قد يؤذِن بعودة ذات العين، حيثما يتخلص الفكر من حيز الفراغ خارج الكائن، محاولًا أن يستعيد حيزه داخل الكائن بما يؤهل الكائن إلى استرداد حركية اندراجه في تخوم الكينونة.

إن إرادة الإرادة لا يمكن استخلاصها من إرادة شيء من الأشياء كما هو الشائع عنها؛ ولذلك تبدو الإرادوية كما لو كانت اختزالًا حقيقيًّا للدلالة الأصلية، فما الذي يحدث حقًّا عندما لا تريد الإرادة غير ذاتها؟ هنا تطلب القوة ألا توصف إلا بنفسها: أن تكون قوة قووية. كلما ارتبطت الإرادة بشيء أصبحت قابلة للاندراج بين خصائصه، تمامًا كما تغدو القوة المتعلقة بما يحققها، أو بما تستهدف تحقيقه، علاقة معينة بين علاقات أخرى؛ في حين أن نيتشه يلاحظ، في مذهب الإرادة منذ البداية، أن المفكرين الذين وحدوا بين الإرادة والكائن، كان عليهم أن يكتشفوا أن الإرادة ليست أقل من الكائن الذي تجتازه، طموحًا إلى غائية لا تكون نائية بنفسها عن تخوم الكينونة. ولا شك فإن إعادة فهم العلاقة اللغزية بين الكائن والكينونة على ضوء إرادة القوة، يُحول ذلكما المفهومين من أقنومين مجردين إلى فرسين يجران معًا مشروع صيرورة، متكاملة بين براءتها البدئية وإمكانها التاريخي. وذلك كان فكرًا ميتافيزيقيًّا كان يوصف عادة بميله إلى تكرار ماضيه التقليدي؛ مما جعله دائمًا يرنو إلى استعادة الهدف الأعظم التكاملي، لكنه كان يخطئ في اختيار الوسيلة دائمًا.

إن يكن ثَمة تأثير فعال لفلسفات القوة على (هذه) الميتافيزيقا التقليدية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فهو ذلك الذي تلقته من الجو الوضعي المهيمن، بفضل تطورات النظرية الحيوية من جهة، ونمو العلوم الصحيحة من جهة ثانية؛ ذلك أن التركيز القووي الذي تتشبث به فكرة إرادة القوة، إنما يتطلب استدعاء التاريخ ليس كتاريخانية مكتفية بذاتها، ولكن كوضع للفكر مباشر تجاه الآخر، اللافكر، ليس بهدف الاحتياز عليه وهو أمر مستحيل أصلًا، ولكن بما يجعل العقلانية نفسها لا تكتفي بنظامها، وكأنه نظام أنظمة شامل لها ولسواها في آن واحد.

لقد أصبح لزامًا على فكر الحداثة الثائرة على مقدماتها التاريخية السابقة، أن تفكر الكينونة، من حيث إنها قابلة للدوران في فلك الكائن عينه، دون أن تفقد مدارها الخاص. وهذا يعني أن تنزل الكينونة إلى الكائن وكأنها هي مشروعه التاريخي فعلًا. هذا بدوره يتطلب قلبًا لحدود مصطلحات كثيرة معهودة، بدءًا من مصطلح الواقع نفسه، الذي يصير قلبه من معطًى نهائي إلى سيولة نجاعة efficacité، لن تنتظر أن يتنزل إليها الفكر كتأمل علوي بل كحادثة تنداح في المايحدث، بما يولد اختلافًا في حدوثه عينه.

هذا يعني أن الميتافيزيقا لم تكن أحد الخيارات الكبرى، كمشروع للكينونة في التقاط ذاتها عبر المايحدث عينه، سواء قاربها أو تعارض معها، كمشروع لإرادة القوة، يجهل نفسه على أنه كذلك؛ منذ أن ظهر مصطلح الوجود بالقوة والوجود بالفعل الأرسطي، فلقد كان ثَمة تصورٌ إرادي يربط بين الممكن والمتحقق؛ ولذلك أمكن إدخال الحركة في مشهدية الكائن، كيما لا تُعطى المشهدية كلها للماثل منه وحده، بل له ولما ليس ماثلًا منه بعد. لا شك أن اللاهوتية كحقبة معرفية/أنطولوجية، استثمرت مبدأ القوة والفعل كيما تقلب مفهوم الكمون إلى حساب الغائب والمغيوب. حتى إنه جرى تذويت القوة، ومنحها حاملًا، قد يغدو هو والذات الإلهية شيئًا واحدًا؛ إذ أصبح هناك ارتجاعية من الفعل في حد ذاته إلى مبدأ للفعل؛ وحتى لا يظل المبدأ من مقام تجريدي خالص، فقد تجري شخصنته ذاتويًّا، تارة لاهوتيًّا، ثم تارة أخرى إنسانويًّا. وحتى عندما كان يقتصر مفهومه إغريقيًّا على تصور مبدأ الفعل كقوة، كطاقة فحسب، فإن ذلك كان يتطلب تجاوزًا وقطيعة مع الحقبة الوسطوية بتمامها. وهو ما حاولت أن تفعله الحداثة كيما تسترد نوعًا من مشهدية لواقع متغير؛ فيه يبرز الماثل، كما لو أنه يومئ لغير الماثل في آن، دون الخروج عن تضاريس المشهدية عينها. فالناظر لا يبقى خارجًا، بل يدخل منظره؛ وبذلك لا يعود مبدأ الفعل قابلًا للفهم خارج الفعل. وإن تحقق الفعل فإنه لا يدفع إلى تخيل مرحلة كان فيها مجرد ميل معين إلى الفعل، أو إمكان على الفعل؛ بل إن المتحقق يحمل تحققه، بدءًا من واقعيته، وليس بما يسبقها زمنيًّا أو يعلو عليها كمبدأ.

ماذا تقدم إرادة القوة على الطريقة النيتشوية، مؤوَّلة هيدغريًّا، إلى الميتافيزيقا؟ إنها أولًا لا تكرر عدمية أوروبية خيَّمت على نهاية القرن التاسع عشر، وأدت إلى إطاحة الميتافيزيقا؛ ذلك أن تلك العدمية استطاع نيتشه أن يبرهن على أنها ثورة معيارية على أنظمة قيم، وليست إعادة اكتشاف للمايحدث حقًّا؛ أي إنها ثورة من جنس ما تثور عليه. فإذا كانت هذه العدمية ابتدأت مع شوبنهور، فلا يعني هذا تحميل إرادة القوة مسئولية حادثتها. هذا مع العلم أن نيتشه لا يرى أحدًا سواه رائدًا للعدمية الأوروبية التي يصر على وصفها ذاك؛ لأنه يعتبرها تخص نهائية الميتافيزيقا الغربية بالذات، وهي نهائية مقترنة بكل وضوح بإعلان نيتشه، عن موت الإله المسيحي، وهو يريد موت العقلانية الأفلاطونية التي طبعت «انحراف» المشروع الغربي، منذ الحقبة الإغريقية. ما يريد هيدغر أن يراه في عدمية نيتشه، هي أنها ليست سوى التحويل الضروري من خط الخطأ إلى خط الصواب. فهي لا تضع حدًّا نهائيًّا للتاريخ، بقدر ما تحاول استرجاع البدئي فيه، استرجاعًا لا يتم إلا بإعلان انقضاء تلك المنظومة الفكرية القيمية التي طرحت نفسها كمشروع وحيد، كميتافيزيقا تُخفي انحرافها عن التاريخ، بادعاء التفوق عليه، والتحكم في حدثياته، من خلال اختلاق تاريخانية أخرى موازية له، لكنها موازاة تحجب ما توازيه.

هل أصبح انقضاء التاريخيانية شرطًا وحيدًا لاستعادة الصلة بالتاريخ مجددًا؟ لذلك فالعدمية لا تقدم منظومة القيم/الأفكار التي قادت الميتافيزيقا، كما لو كان فعلها ذاك تكريسًا للعقم والضياع والفراغ، بل هو بالأحرى فعل تدشين بخلاص، وتحرر فعل انتصاري وإنجازي. ذلك هو اختلاف ثورة العدمية النيتشوية، عن عدمية، رومانسية شائعة، تسلم بالهزيمة وتتعاقد مع الفراغ والعقم. إنها، من حيث مصطلح إرادة القوة، عدمية تضع حدًّا لمسيرة انحطاط لعدمية أخرى ضمنية ومغلفة دائمًا بيقينيات تشغل الإرادة عن الاتحاد مع ذاتها كقوة قووية، كفكر لم يعد يخشى من تمزيق كل الأوثان التي تحجب عنه حوله كل الفكر الآخر؛ الذي لا يزال هو اللافكر. إنها بالأحرى، تؤسس العقلانية الجديدة المتحررة، التي تقرُّ بكل قوة، أن اللاعقلانية هي كذلك من أعراضها الجوهرية. فإرادة القوة ليست هي كذلك إلا لكونها تجاوزًا لذاتها، بما يؤكدها، أي بما لا يجعل القوة تُحَد بغير قوتها. فكل تحديد بما هو سواها، يؤدي بها إلى اللاقوة، إلى مجرد وسيلة لسواها.
في ظل الميتافيزيقا التقليدية لم تكن إرادة القوة غائبة، بل كانت بالأحرى في أوج نشاطها، ولكن في الاتجاه الآخر العدمي فعلًا؛ ذلك أنها كانت لها مهمة واضحة، وهي حراسة منظومة معينة من القيم، وإعدام كل ما عداها؛ ولذلك فهمت العدمية الشائعة في نهاية القرن التاسع عشر، بحسب نموذج العدمية الأخرى التي تثور عليها، أي إنها نفي لمنظومة مقابل الإتيان بمنظومة أخرى من القيم. في حين أن نيتشه كان يدعو إلى اختراق التقييم في حد ذاته، كنظام أنظمة معيارية. كان يستهدف حيز التقييم عينه، وليس مجرد نماذج منه. ومع ذلك يمكن القول إن مهمة إرادة القوة كانت في حراسة العدمية المقنَّعة التي كانت تنطوي عليها ميتافيزيقا تقليدية مولعة دائمًا بلعبة الإخفاء؛ لعبة الثنائية. إن هذه المهمة هي سيكولوجية، وأريد لها أن تقبع في مرتبة سيكولوجية. وهو ما يكشف عن التناقض الأعمق الذي يرسب في بنية تلك الميتافيزيقا؛ ذلك أنها كانت تحصر جهودها كلها في حصار إرادة القوة ضمن المرتبة السيكولوجية فحسب، وتسد أمامها كل مسلك أمامها، كيما تصعد إلى المرتبة الميتافيزيقية، أو تنفتح عليها أي انفتاح؛ ذلك أن تلك الميتافيزيقا السائدة، كانت هي نفسها أقرب إلى السيكولوجيا منها إلى الكينونية، بل كانت تعتمد السيكولوجيا تعويضًا عن مواجهة الكينونة. حتى إن نيتشه نفسه لم يستطع أن يتحرر من ميتافيزيقا أقرب إلى السيكولوجيا في معالجته لمفاهيمه الجديدة المتميزة، إلا فيما يشبه الشطحات الفكرية اللماعة التي تكسر من حين إلى آخر سلطانَ المحركات النفسوية.
لقد عاشت أطروحته الرئيسة، إرادة القوة، على إيقاع هذا التردد، بصورة خاصة، لولا أنها كما ينصح هيدغر، يجب على القارئ ألا يتفكرها إلا مع بقية أركان أطروحته الشمولية، وهي على التوالي: العدمية، اختراق القيم، العَود الأبدي ذات العين، الإنسان الأعلى. ومن الواضح أن كل ركن منها يمكن أن يعالج سيكولوجيًّا واجتماعيًّا، وحتى تاريخيًّا، إذا ما نُظر إليه على حدة؛ والمشكلة في مثل هذه المعاني النمذجية، التي تريد أن تكون مراجع لسواها، وحوامل لدلالات ما يترتب عليها من نتائج على الأصعدة القريبة من الحس العام، المشكلة هي في سرعة تحولها إلى ما يشبه العملة اليومية في تداولها. ولكَم أساء التداول العامي والإعلامي لمفاهيم من نوع إرادة القوة، الإنسان الأعلى، وخاصة على صعيد التحريض السياسي. نشير هنا تحديدًا إلى مدى الالتباس المقصود غالبًا، الذي وقع بين النيتشوية والنازية. وعلى كل حال فإن نيتشه لم يتخلص من العروض السيكولوجية لأركان فكره. وكاد أن يظل أقرب إلى نموذج الأديب الحكيم، لولا أن هيدغر كان مصرًّا على انتزاعه من أفكار/شذرات اليوميات الوجودية، وإطلاقه إلى المسارب الميتافيزيقية. نلاحظ ذلك خاصة عندما لا يجد نيتشه غضاضة في وصف الإرادة بأنها نوع من الانفعال. ولكن هيدغر يحاول أن يثبت أن نيتشه جعل الإرادة أصلًا للانفعال، بل هي «الشكل الأصلي للانفعال»، مقرًّا في الآن عينه أن نيتشه لا يجيب عن أسئلة حول ما هو الانفعال، ما هي العواطف، ما الشغف؛ لكنه يربط كل ذلك بما تريد أن تفعله إرادة القوة في العالم الذي هو سديم نفسه، فوضاه اللامحدودة. إنها تخترق العالم، كما لو كانت تشكل المحور الوجوداني   existential لضرورته؛ ذلك أن الإرادة هي نزوع نحو أنسنة العالم. والأنسنة تعني أن تدخل العالم كأسياد له، على حد تعبير نيتشه في كتابه «إرادة القوة»، أو بالأحرى كيما نفرض على الكاوس، فوضى العالم، منظومتنا العقلانية.

ومع ذلك لا ينحل مفهوم الكاوس هنا إلى نوع من المادوية أو الطبيعوية — على طريقة الإغريق — وبالتالي فإن فهمه يتوقف على نوع العلاقة التي سوف تنشئها الإرادة مع العالم. ذلك هو الفاصل الذي يميز بين إرادة للقوة مشغولة فحسب باستغلال العالم لموضوعاتها الانفعالية، وفي رأسها تجيء السيادة والتحكم، وبين إرادة للقوة القووية، إرادة للإرادة مهمومة بالانفتاح على الكينونة، في ترجمة ضرورة الكاوس، إلى ما يرد وضع الكائن إلى سياقه البدئي بالنسبة للكينونة؛ إذ إن إرادة للقوة مشحونة فقط بنوازع السيطرة وتفوق الذات، إنما يردها ذلك إلى عين المفهوم الهيجاني الطغياني الأعمى الذي أبرزه شوبنهور. ولعله قد يكون كذلك هو المفهوم السيكولوجي الخالص الذي انحدرت إليه الميتافيزيقا كمشروع غربي. ولن تكون إرادة القوة النيتشوية بعيدة كليًّا عن هذا المصير، لولا أنها تعرضت لتصعيد درامي، ديونزيوسي، وجمالي؛ حتى جعلها نيتشه نوعًا من عقيدة في الخلاص الصوفي والعزاء شبه الغيبي، إلى أن لاقت استعادتها كينونيًّا، ليس على يد صاحبها الأصلي، ولكن عبر التناص الهيدغري بصورة خاصة؛ فلم تعد قابلة للإنكار، وذلك في زحمة التأويلات المنصبة على النص النيتشوي راهنًا وفي الغرب بالتحديد.

وما كنا نحاوله نحن هنا بدورنا، هو قراءة التناص الهيدغري عينه، هيدغريًّا ولكن بطريقة مختلفة. فإن هيدغر هو الذي آل على نفسه إنقاذ نيتشه من شطحاته شبه الرومانسية أحيانًا، واسترداده من كثافة التوصيف السيكولوجي الذي لا يخلو من الدرامية الإبداعية، ودفعه صوب الانهمام الميتافيزيقي، الذي امتلك مادته، ولكن وجوديًّا، بما يكفي، وقد آن له أن يخترقها نحو التحليل الوجوداني. فإذا كان هيدغر لا يكاد يكتب نصًّا واحدًا رئيسًا، دون أن يتابع معه ضمنيًّا تناصَّه النيتشوي، فذلك لا يعني أنه يستند إلى مرجعيته خارجيةً عنه، بقدر ما هي في فكره ونصه أصلًا. إن نيتشه هو الآخر بالنسبة لهيدغر، الآخر الذي يخصه هو وحده، بحيث لم تعد قراءة نيتشه ممكنة إلا عبر كتابة هيدغر. تمامًا، مثلما لم يعد للفكر أن يحدس باللافكر دون تماسِّه مع المغامرة الكبرى الفريدة، للمشروع الغربي، باعتبارها المحاولة الإنسانوية الاستثنائية، التي تفوز بأهم وأعلى تقارب، أو التقاط سيكولوجي مع عتبات الميتافيزيقا، دون أن تظفر بمداخلها النافذة فعلًا. فالتناص الهيدغري يقرأ في النص النيتشوي خلاصة المشروع الغربي الذي تنازعته السيكولوجيا والأنطولوجيا. ونحن بدورنا نقرأ في كتابة هيدغر النداء الأخير نحو عودة البدئي في قمة المشروع الغربي؛ حيث كل الاتجاهات ما بعد القمة العليا ليس لها إلا أن تنحو نحو الهاوية.
يؤكد هيدغر لحظته التاريخية من تاريخانية المشروع الغربي واكتمالها، بتشبثه المتمادي في تأويلية نيتشوية، تلحظ الفارق بين مذهب لإرادة القوة، كإرادة في الاقتدار، تنصب على أنسنة الكاوس، على تذويت الكائن، مقابل توضيع العالم، وبين مذهب العود الأبدي الذي يضع حدًّا لفعل الأنسنة هذه. يريد للإرادة أن تتراجع عن عروض اقتدارها، عن التنطع لموقع الاستقطاب مضادًّا لموقع العالم باعتباره الكاوس. إنه بإلحاحه على مفهوم الكاوس، يسعى إلى فهم العالم بطريقة اللاهوت السلبي، الذي يثبت كل صفة لكي ينفيها فيما بعد عن الجوهر الذي لا تختزله أعراضه أبدًا. فالكاوس دون أن يكون جوهرًا، فإنه يتيح لمفاهيم من مثل الجوهر والعرَض، ومبدأ القوة والفعل (الأرسطي)، أن تقدم بعض التقنيات المنطقية، قد تفيد في مقاربته، دون أن تدعي استيعابه تمامًا، وخاصة على الصعيد الأنطولوجي. ومن الواضح، كما يقول هيدغر، إن نيتشه يعبر بكلمة «كاوس» في اصطلاحه عن تصور تحوطي بحيث يمتنع كل بيان انطلاقًا منه حول موضوع الكائن في كليته. وتغدو كلية الكائن بذلك مما لا يمكن مقاربته ولا الحسم في شأنه. مما يتابعه نيتشه هنا بالنسبة لكلية الكون هو نوع من «اللاهوت السلبي»، الذي يسعى هو كذلك إلى التقاط المطلق بأقصى صفاء ممكن، وذلك بإلغاء كل التحديدات «النسبية»؛ أي القابلة لأن تُحمل على الإنسان. سوى أن التعريف النيتشوي لكلية الكون هو لاهوت سلبي حيثما الإله فيه غائب.١٠ ومع ذلك ينبغي إضافة أن العالم ليس مطلقًا. كل ماهيته، هي في كونه متناهيًا. هنا تبرز ضرورته، ولكنه في الوقت عينه لا متناهٍ من حيث مفاعيله، من حيث تحققات صيرورته. إن هذه الضرورة هي التي ترشح تناهيه بالذات لأن يكون موضوع تصورات؛ أي عقلنة ومنطقة لا متناهية. إن العالم الذي يستوعب الحياة واللاحياة في آن معًا، ليس هو تصالبًا بين المتعارضات مقصودًا لذاته، بقدر ما هو عليه بما هو عليه. والفارق بين أنسنة العالم عن طريق التصورات، وبين إدراكه فيما يتجاوز أنظمة التصور، مهما كانت علمية أو موضوعية، هو عين الفارق دائمًا بين الفكر واللافكر.
والمشروع الغربي، بصورة خاصة، لم يستطع أن يدلل، خلال إنتاجياته الكبرى، أنه كان إنسانويًّا لهدف إنسانوي حقًّا، بقدر ما كانت لديه الأنسنة وسيلة لتخريج ذاتية معينة، تترصد العالم من خارجه وهي جوانيةٌ داخله. فإن تعريف هيغل للفهم أنه أداة للسيطرة، ينطبق تمامًا على هذه الإنسانوية التي يعتبرها نيتشه أنها أصل الانحراف المتمادي عن الموقف البدئي، حينما كانت جوانية الذات طريقة إنسانية في المشاركة بجوانية العالم، وليست وسيلة استقطاب ضده. فالصفة الإنسانية ليست سلبًا في حد ذاتها، ولا تكون كذلك إلا عندما تصنم جوانية معينة، وتفترض لها موقعًا خارج/أو فوق العالم، بينما هي تقع في صميمه. فقد يمكن القول مع نيتشه إن المشروع الغربي لم يكن سوى مفاقمة ضروس في عين السيكولوجيا الإنسانوية التي لم تكن مجرد خضوع اضطراري لمبدأ إرادة القوة، بل كانت تحرص على ترجمة خضوعها ذاك إلى نظام أنظمة معرفية ومعاشية، تؤوِّل القبول، لدرجة الانصياع، وتصعِّد من قيمه، تارة باسم الأسطرة ثم الألهنة ثم الأنسنة، وصولًا إلى القيننة كخاتمة كلية، لتاريخانية استثنت نفسها دائمًا عن كلية التاريخ، أملًا في بلوغ التسيد عليه، والتحكم في مصيره، ولكن عبثًا، فإن هذه المفاقمة في السيكولوجيا الإنسانوية، كانت تحاذي دائمًا فرارًا مبطنًا من ذاكرة الميتافيزيقا. كانت بديلًا عن هذه الميتافيزيقا المهمشة دائمًا والمحجوبة تحت شتى أنظمة التناص المضاد. ومن هنا جاء وصف المشروع الغربي بالانحراف؛ لأنه لم يستطع أن يتحرر من السيكولوجيا الإنسانوية، ويلامس حدود «الآخر» فيه، كأن يغلب نفسه دائمًا كمشروع أُحادي، احتكاري للميتافيزيقا، في مواجهة سيكولوجيا الصراع الإنسانوي اليومي.
كان الأحرى بنيتشه، وهيدغر من بعده، التحدث عن ميتافيزيقا الغرب باعتبارها سيكولوجيا لإرادة القوة التي لم تستطع أن تغدو إرادة الإرادة. لقد بقيت تتابع إنتاج مشروع في الاقتدار الذي يحتاج دائمًا إلى اختراع الآخر، وتمثله كقطب مضاد، من أجل تبرير ذاته، لم يكن مشروعًا اختلافيًّا حتى يسمى مشروعًا حقًّا «عن» السيكولوجيا، بل كان هو مشروع السيكولوجيا عينها.

هل تضع أطروحة العَود الأبدي حدًّا لميتافيزيقا إرادة القوة التي لا تعرف كيف تطرح نفسها إلا باعتبارها إرادة اقتدار، وليست إرادة قوة لا تتصف إلا بذاتها؟ ذلك ما يريد هيدغر أن يؤكده، من أجل أن يعثر على نيتشه الفيلسوف الإغريقي البدئي، ما فوق ديونزيوس الحيوي الجمالي، وصراعه مع أبولون العقلاني (الصوفي)، الشغوف بتشفيف كثافة العالم حتى يتمكن من احتلال كل بقعة فيه.

١  أي: كتابة الشاشات الإلكترونية.
٢  مقطع من «شعب المرايا»، أورده بودريار في كتابه Le Crime parfait, ed. Galilée، للكاتب بورغيس.
Borges: La Faute des miroires.
٣    Karl Popper: La connaissance objective, ed. Albin Michel, pp. 245–285.
٤    Heidegger: Qu’appelle-t-on penser, PUF, pp. 51-52.
٥    ibid.
٦  الإشارة هنا إلى سقوط الأنثروبولوجيا في شبكية العنصريات العرقية والثقافية، وما وفرته من ذخائر فكروية لحروب القرن العشرين، وكوارثه الكبرى.
٧  الإشارة هنا إلى فائض الدعوات إلى التجاوز، دون موضوعه، أو بدائله.
٨  كل هذه الدلالات يوفرها تأويل هيدغر لقصيدة الخلق عند بارمنيد. وهو التأويل الذي أنكره عليه كثير من النقاد في حينه، إلا أنه غدا من بدهيات الميتافيزيقا الجديدة، المؤسسة لحقبة تجاوز الميتافيزيقا التقليدية. هذا بالرغم من أن هيدغر حاول أن يدعم تأويله كعادته بتفسيره للألفاظ اليونانية، فيما يتعدى مصطلحها اللغوي القاموسي؛ مما يتعذر إعادة إيرادها في اللغة العربية هنا. غير أننا نهتم بالمنعطف الكبير الذي يؤكده التأويل، أكثر من عناصر الإسناد العائدة إلى النص الأصلي. وعنوان هذا المنعطف هو إعادة مَفهمة الهوية بين الفكر، الكائن، الكينونة، وخطورة الانكسار الذي أصابها من جراء الانحراف المتمادي، الناجم عن دعم شكلانية الثنائية، بدل الهوية الأصلية.
٩  الآخروية: تعني خروج الذات من التصوري إلى الواقعي، من الكلي دون التخلي عن نقطة الانطلاق. لكن «التاريخانية» تدخلت كوسيط زائف بين القطبين. طرحت نماذج من الفهم والفعل حجبت الحدين عن بعضهما، فكانت النتيجة: ذاتية مضخمة وهمية، وعالمًا مضادًّا لحقيقته وإنسانيته معًا.
١٠    Heidegger: Nietzsche, T. I, pp. 266-267, ed. Gallimard.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥