في عودة الفلسفي المحض
I بحثًا عن «براءة
الصيرورة»
لعل المسألة الأخطر التي لم يفكر بها فكر العصر كفاية بعد، أو
الفكر عامة، في هذه العجالة النهاية، الأخيرة من تاريخ الأفكار
والأيديولوجيات، هي مسألة الأداتية في حد ذاتها. وقبل كل شيء
ينبغي عزل التفكير فيها عن كل بطانة معيارية تُغلفها. والأهم في كل
هذا، الابتعاد أساسيًّا عن التقبيح أو التجميل الذي ينقسم إليه عادةً
تقدير شعبوي عام إزاء ثقافة التكنولوجيا. والحال أن الوسط الإنساني
الذي يُعتبر الحاضن الأصلي لقصة التكنولوجيا، من نشأتها الأولى حتى
مراحلها الاختراقية الكبرى المعاصرة والآنية، هو المؤهل أولًا
للتفكير بذات القصة التي حضنها وأنشأها، ثم انبرت له لتعيد احتضانه
وتنشئته بطريقتها. وبالطبع فإن الأوساط الإنسانية [الأقوامية]
الأخرى التي لم يكن لها مثل هذا الحظ في القرابة الذاتية والفورية
مع التكنولوجيا، سيكون لها نوع مختلف من المشاركة في تفكر
التكنولوجيا والتعامل معها. هذا التفريق بين الوطن الحاضن والمفقِّس
لبيضه، والوطن المغترب والمورِّد لبيض الآخرين، سوف تظل له فعاليته،
مهما قيل إن دجاج التكنولوجيا أصبح يعيش في كل مكان، وإن بيضه في
متناول أهل الأرض عامة؛ ذلك أن «خوصنة» الكليات، أي اكتشاف الكلي
واستثماره لصالح الأخَصِّي، هي السمة الأهم للمشروع الثقافي الغربي،
لكن هذا المشروع المركزي، وهو يشعر اليوم أن الخوصنة عينها، هذه
الخاصية العظمى لغربنة الغربنة في جوهرها تكاد تتفلت من بين أنيابه
وأظافره، وأنه لم يعد فريد نوعه، سواء في امتلاكها، أو ممارستها.
لكن ماذا ينفلت من اليد فعلًا؟ هل هي التقنية باعتبارها هذا النوع من
المعرفة الحرفية، أم هي «حرفة المعرفة» هذه، أو ما ندعوه بنظام
الأنظمة المعرفية؟ أو هو «العقل» الغربي الذي يقدم نفسه على أنه هو
← الفكر، شكلًا
ومضمونًا.
حينما يحدد هيدغر أن جوهر الميتافيزيقا الغربية هو هذا العقل،
المتمثل أخيرًا عبر المعطى المادي المباشر بالتكنولوجيا، فإنه
يحاول أن يثبت في الوقت ذاته أن هذا العقل ليس هو الفكر، وأن
المشروع الغربي أمعن في تضليل نفسه أولًا، عندما اختار هذه
الميتافيزيقا كطريق وحيد إلى الفكر، وتحت شمس الفكر، وفي حراسته.
لكن هذه الميتافيزيقا لم تكن حتى «طريقة» في استدعاء الفكر أو في
الحوار معه. كانت بالأحرى إمعانًا في نسيانه، إلى الحد الذي أوصلها
إلى نسيان هذا النسيان. كما لو أن رحلة المشروع الغربي قد شكلت
أفدح عينة عن الوقت الضائع منذ البداية حتى ذروة النضج الأخيرة.
فلقد نجح العقل الغربي في إقناع أجيال مثقفة أن تاريخ تشكيله هو
التحقيب المعرفي، الوحيد الممكن، لمجيء الفكر إلى العالم. بالمقابل
فإن لحظات الاعتراض الكبرى التي كان يلاقيها هذا التشكيل، هي التي
أمكن استيعاب قطائعها، كانعطافات، تؤرخ التحقيب من داخله؛ وبذلك
يتاح لها أن تقدم كمال التحقيب، كما لو كان نضجًا يبلغه الفكر
نفسه، ويشكل استحقاقه الشامل لذاته. غير أن المفاجأة الكبرى التي
أتت بالصدمة/الكارثة إلى هذا العقل نفسه، حدثت عندما قام من أهل
بيته، من أعلن «الانزياح» بين هذا العقل، وبين الفكر الذي يدَّعي
اختصاصًا به، وخوصنة «مشروعة» له.
أصل المشكلة أن العقل يقدم بضاعته دائمًا على أنها هي كل ما يمكن للفكر أن يتفكره.
إنه
يضع الحد الفاصل بين إنتاجه، وما ليس كذلك. وهذا العقل الذي اخترع
التحقيب المعرفي كتاريخ نضالي لواقعه، جعل من نفسه الجائزة الأخيرة
التي يربحها «هذا التحقيب»، وكأنها جائزة الفكر عينه. إلا أن
الانزياح هو الذي يعترض على هذه المسلَّمة الخفية. فإن كان للمنتَج —
بفتح التاء — تاريخ، فلا يعني هذا أنه تاريخ للمنتِج عينه. ثم كيف
يثبت أي فيلسوف، حتى لو كان هيغل أو ماركس، أن الفكر هو المسئول عن
هكذا إنتاج، عن هذا العقل، الذي ليس له من برهان على أصالته، إلا بقلب
المعادلة، بحيث يضع نفسه رهانًا قبليًّا على مجيء الفكر أو لامجيئه
أبدًا؟
ومن هنا فإن العقل يتشبث بالميتافيزيقا باعتبارها تؤرخ التحقيب
المعرفي المؤدي إلى بلوغ العقل كمال تقدمه. لكن الفكر بالمقابل يرى
في هذه الميتافيزيقا أنها تؤرخ منعطفات مجيئه الأقل والنادر كفكر،
وانسحاباته الأكثر، في آن واحد، كما لو كانت تاريخًا للشريكين
المتعارضين معًا. إن العقل هو الذي يتمسك بالتحقيب المعرفي كرهان
محايث لقصة «التقدم» الإنساني، باعتبار أنه كان هو دافعه الأول،
وهدفه الأخير؛ فلقد كان الفكر من جهة ثانية، وعبر إطلالاته
وانسحاباته، يتدخل من حين إلى آخر، في تمفصليات التحقيب المعرفي،
كصوت آخر، كصوت للاختلاف؛ بما قد يكفي أحيانًا نادرة لإحداث الفجوات
والانقطاعات فيما يعتبره العقل مثال التطابق بين ما يسميه مفهومه
الدائم، وما يصفه بخطاباته الآنية؛ لأن الفكر عندما يُطل منسحبًا لا
يزعزع إنتاجات العقل الماثلة وحدها، ولكنه يضع العقل نفسه موضع
إعادة النظر. وفي هذه الفجوة/الفرجة، لا يجد العقل ثَمة من سبيل آخر
سوى الاعتراف بأنه لم يكن، هو عينه، إلا مجرد نظام معرفي، لكنه
ارتفع إلى مرتبة نظام الأنظمة المعرفية. ثم إنه يلجأ إلى تبرير هذه
الأوالية كلها بكونها حقبة معرفية معينة بظروفها وحدودها. وإنه،
وهو العقل، قادر على اكتشاف الحقبة، والتأشير عليها، وتصنيف
ملامحها. وإنه بهذا التأشير والاستكشاف والتحليل ينجز القطيعة
معها، ويمهد للحقبة التالية. لكنه عندما يتورط في التجاوز، فإنه
يتورع عن وصف إنجازه بحقبة، بل اعتاد على إعطاء تورطه الجديد، صفة
الحقيقة المطلقة التي كانت مخفية ثم جرى كشفها. فالعقل، عندما يكون
مغمورًا تحت صخب حقبة معرفية، لا يجد إلا صفة الإطلاق والاكتمال،
كبرهان على صحة وشرعية لحظته الراهنة. وعندما يتمترس بموقع تحقيبي
معين، فإنه يكون على أشده من شراسة الدفاع والهجوم. لن يكون
مستعدًّا أبدًا إلى أية مهلة، إلى أية نسبية أو ظرفية. لن يسمح بأي
انزياح نحو اللامفكر به؛ لأنه لن يتسامح، ولن يسمح بتصور ثَمة وجود
لحيز ما لا تبلغه إطلاقية أحكامه التحقيبية. أعنف ما يعانيه العقل
التحقيبي من تمزق ذاتي، أنه وهو الذي يضطر دائمًا، ومكررًا اضطراره
ذاك، من أجل الدفاع عن ضلاله السابق، فإنه يعلن انتماءه إلى مبدئية
«الزمن الثقافي»، معترفًا بتسمية الحقبة المعرفية، في الوقت الذي
لا يكف عن إعلان مطلق حقيقته، وهو رازح تحت عبء الحقبة الجديدة،
ونسبيتها العقلية.
إن العقل التحقيبي الذي يُضطر إلى إحداث القطائع مع إنتاجاته
السابقة، مكررًا دائمًا ذات طقوس الندب بالنسبة للمنصرم، وطقوس
التأهيل والتعظيم الإطلاقي بالمولود الجديد، فإنه يحمي هذه النسبية
المرحلية الموقتة، بردها إلى حركية عقلانية أشمل هي الزمن الثقافي.
فإذا كانت الحقبة ذات مصير مرحلي وموقت، إلا أنها تتجاوز
لاعقلانيتها النسبية تلك، نحو العقلانية الأشمل، وذلك بإعادة تأكيد
انتمائها إلى التاريخانية، حيث إن التاريخانية هي البيت، وهي
الموئل الأعظم الذي يأوي إليه التحقيب المعرفي، ويعتبر نفسه
تجسيدًا لكنوزه الكامنة [ذلك أن التحقيب هو مفجر الكوامن].
والحقبة ليست سوى كنيسة الحي التي تجمع المختلفين المتفرقين،
المهمومين بسبل العيش اليومية، في ساحة محددة، وتحت ناقوس واحد […]
وبما يرجع أزمنة الأفراد جميعًا إلى زمن عام دافئ، يقي المقرورين
من برد العزلة والتفرقة.
لذلك نجد العقل لا يخشى من التحقيب، فهو من ناحيةٍ مبررُ مولده
وانبثاقه، وانتشاره، وحتى زواله أو اختفائه الموقت؛ إذ إن التحقيب
في عُرفه هو تجلي الزمان الثقافي، والحقب هي مفرداته الزمنية،
الحاملة لأعبائه التاريخانية، والناشرة لأعلامه المطوية: كل حقبة
مستعدة، ما إن يخبو عطاؤها، لتسليم العلم إلى الحقبة التالية، كما
تسلمته هي من السابقة. فالنسبية التي يقر بها العقل دائمًا، ليست
سوى إطلالة المطلق المضطر إلى دخول الزمان؛ هنا يبرز اختراع ذلك
الأقنوم الرئيس لفلسفة الحداثة: وهو التاريخانية. فالتاريخانية
أحدثُ انقلاب على الأفلاطونية في تطورها الديني المستقبلي اليهودي
المسيحي؛ انقلاب يحتفظ منها بشرعية الشكلانية، ويتناول المضمون
فحسب؛ ذلك أن الأمر لم يعد تخلصًا من الزمان وخلاصًا منه، في
الصعود إلى الملأ الأعلى، حيثما المثل الأبدية، أو الآلهة، أو
الإله الواحد. لكنه أصبح مع التاريخانية، يعني قبول المطلق بالنزول
إلى المحايثة، والتفردن عبرها حقبًا. غير أنه تفردنٌ منضبط سلفًا؛
إنه محكوم أولًا بكونه محرومًا، بصورة قبلية، من عرض ذاته،
ومقسورًا مجبرًا على عرض ما هو سواه؛ ذلك أن الحقبة ليست ذاتية
المبنى والمعنى، ليست ذاتية الهدف. وحين يكون العقل واقعًا تحت
وطأة عروضها، فإنه لا يجد حرجًا في التماهي مع هذه العروض عينها،
كما لو كانت هي هو. ولكنه سريعًا ما يعلن خطابًا مخالفًا، ما إن
تتهافت العروض؛ وهي لا تتهافت إلا عندما يتجلى عجزها عن الاستمرار
في إثبات «عقلانيتها» عينها. فيخترع العقل خطاب «القطيعة»، وينشغل
ببناء عقيدتها، وهندسة هيكلها، و«إبداع» طقوسها. وأهم توظيف لأقنوم
القطيعة، هو أنه يسمح بالتخلي عن المنتوج المهلهل، مع المحافظة على
أُوَّالية الإنتاج عينها. وبذلك يتم انضباط القطيعة من داخلها، بدلًا
من أن تفتح على اللامفكر به، فإنها تستبدل نظامًا معرفيًّا بنظام
معرفي آخر، مع الحفاظ على استمرارية نظام الأنظمة، المنتِج لها.
فالقطيعة مع السابق، والإيذان باللاحق، حركة زمنية، تختطف من
«الصيرورة» نموذجًا معينًا من التغيير، ينصب كالقانون ويُدعى:
التقدم. صحيح أن العقل يتخلى عن الحقبة المستنفدة، لكنه في الوقت
عينه، يعتبرها قد أنجزت ما كان منتظرًا منها، وأن هذا الإنجاز يضاف
إلى إنتاج الأحقاب السابقة، ويساعد على نشأة الحقبة القادمة. هذه
النشأة لا تقوم على مجرد حطام السابقة، أو السابقات؛ لأن الحطام لا
يبقى عبثًا، بل يدخل في مادة التشكيل الآتي بعده. وبذلك تقع حادثة
التراكم الجليلة؛ والتراكم ليس آليًّا كما أنه ليس تكديسًا. إنه
مفعَّل من داخله، بحيث يؤدي إلى الحادثة الأعظم جلالًا وهيبة: النمو.
والنمو عينه، وبدوره، ليس تكوينًا فالتًا. إنه محكوم بالشرعة الأهم
والأعلى: التقدم.
فالعقل، حتى يقنع بعقلانيته ذاتها، مضطر أن يجمع شتات التاريخ
كلها، ويعيد تنظيمها وانتظامها ضمن هذه السلسلة من مفاهيم القطيعة
والتراكم والنمو، وصولًا إلى قمة الهرم، مع مفهوم التقدم. غير أن كل
هذه المفاهيم تنتظم في ناظم واحد رئيس وهو الزمان، بالمعنى
التغييري الخطي؛ إذ إن التقدم لا يكتفي بابتداع كل هذه العائلة
(الإنمائية)، أو توظيفها في أدوار مُقولَبة مقدمًا، بل إنه يفرض على
الزمان عينه، أن يكون تغيرًا خطيًّا فحسب. فالتقدم لا يتحكم بأوالية
التحقيب، بل يختار فعالية واحدة، مما ينطوي عليها تصور الزمان،
ويحشره داخلها. إنه الزمان الذي يتقدم. وكيف نفهم التقدم؟ بما
يقدمه من سلسلة الحقب، المليئة كلٌّ منها بإنجازاتها، المعينة هي
نفسها بما تعنيه كل حقبة بالذات، ولحظتها من مصطلح الزمان، معطوفًا
على خاصية: الثقافي.
هكذا فإن التحقيب المعرفي لا يعيد صياغة التاريخ صياغة عقلانية
فحسب، بل يمنح العقل ذروة اعتداده بإنتاجه؛ لأنه يكشف عن شمولية
استراتيجية، استطاعت أن تنتزع المايحدث التاريخي من عنف ثرائه،
وفوضاه وعفويته وصُدفيته وفوريته، وتوظيفه كليًّا في خدمة أقنوم
واحد، هو التقدم. بفضل أقنوم التقدم هذا، يصير تحويل التاريخ إلى
تاريخانية، يُنتزع من لاعقلانيته الفالتة، ويُحشر تحت نسق وحيد
الاتجاه، مستقيم الخط، بدون انقطاع ولا تعرج. كل حقبة تجلس تحت
عنوان؛ وما يندرج تحت هذا العنوان من المفاهيم والأحداث والعلاقات،
لا تملك تعليلها في ذاتها، وإنما هي محتاجة إلى التعلل بموقعها
بالنسبة لذلك العنوان. فالمايحدث لا يأتي ونظامه معه، لكنه يأتي
ويزول ليبقى نظامه فحسب. ومع ذلك فإن الضمير في لفظه: نظامه، أي
الهاء لا ترجع إلى المايحدث عينه، بل إن الاسم والضمير يرتجعان
معًا إلى حيز آخر خارج عنهما كليهما. فالمعقول لا يوازي الواقعي، وهما
لا يسيران معًا حسب إيقاع واحد أو متكامل. لهذا لا بد لأحدهما أن
يحتل حيزه وحيز الآخر في النهاية. إن حقبة الحقب هي انتصار خالص
للعقل على كل آخر. وإذا كانت الجدلية الهيغلية أعطت لهذا الانتصار
شكله الحتمي، فذلك دليل الواحدية التي لا تعرف الخروج عن ذاتيتها
نحو أية آخرية. لذلك لا بد لها من إنجاز جوهريتها الفريدة
والأحادية. فليس الآخر بالنسبة للعقل هو الواقع، هيغليًّا، إلا
كمسرح لعروض مشهدياته. لكنه في النهاية يغدو المسرح عينه مستوعَبًا
كله داخل التمثيلية، ينتهي بانتهاء العرض. فالواقع في التوصيفة:
«كل ما هو عقلي هو واقعي، وكل ما هو واقعي هو عقلي»، ليس سوى طريقة
ما، في رؤية العقلي وفي أدائه. ليس هو الآخر الذي يكونه العقل
ويتكون به، ولكنه هو الظل والشبح. وهنا ليست جدلية هيغل لتُبارح
خطوةً واحدة إلى الأمام، جدليةَ أفلاطون. فأهل الكهف عندما يخرجون من
عالم الظلال إلى عالم الحقائق، إنما يُخرجون معهم كهفهم كذلك …
دائمًا؟
ها هنا يبدو التدخل النيتشوي في عنف اختلافه. إنه يتمثل في وضع حد
للعبة الباطن والظاهر، للخفاء والتجلي؛ ومن ثَم لمسرحة التجلي في
حقب متمفصلة، بعناوين تختلف شكلًا، إنما تتعاون جميعها كفروع وفصول
للعارض الخافي الواحد. لعله هو العقل؛ إذ يصير هو نظام أنظمته
المعرفية، لكنه يطرح ذاته كأنه هو الفكر. إلا أن هيدغر هو الذي
أعاد للفكر تميزه، حتى عن أقرب إنتاجاته إليه، تحت تسمية العقل،
ومشروع اتحاده بالواقع، عن طريق التاريخانية، والمفاهيم المنضوية تحتها،
وفي مقدمتها إشكالية التحقيب المعرفي عينها. ولقد جاءت الحداثة
البعدية بحلمها، بالحل المستحيل(؟): أن تضع حدًّا فعليًّا لآمرية
التاريخانية وأوهامها. وبالتالي فإن الذاتوية الغربية هي التي تحس
أنها موشكة على افتقاد هويتها الأصلية، وخصوصيتها فيما تدعيه
لنفسها، من دون الإنسانية، بإنتاجية التحقيب المعرفي، ومقدرته على
فرز تاريخانية تخص العقل الغربي وحده. وفي الوقت ذاته يتم استخدام
هذه الأوالية، كأسلوب في تعجيز الحضارات الإنسانية الأخرى،
المعاصرة لها، عن إمكانية إبداع تاريخانية تخص كلًّا منها، وإن كان
يقع نوع من التناظر والتكامل فيما بينها أحيانًا؛ لأنه بكل بساطة
لا يمكن لغير الغربنة، ومن بعدها الأمركة، أن تتمتع بإنتاج التحقيب
المعرفي، حسب اعتقادهما. وإنما يقع على «بقية العالم» عبء المساعدة
في إنجازه لدى أصحابه الأصليين «الشرعيين» وحدهم. وإن كانت هذه
المساعدة ليست سوى الامتثال للعب دور الضحية الدائمة لأسياد
التاريخانية. فالأداتية لا تقتصر على استخدام أو توسيط الطبيعة ما
بين يد السيد الصانع وبقية العالم، بل إنه توسيط أكثرية البشر
الآخرين لحساب القلة المتفوقة، ذلك هو الجانب الآخر المخفي
(الميتافيزيقا) من مفهوم الأداتية.
ومع ذلك ينبغي ألا يبالغ في حشر الأداتية في زاوية الإدانة الوحيدة
الطرف؛ أي استنادًا لتوظيفها أيديولوجيًّا كتسويغ لذاتوية التفوق
الأحادي، بل النظر إليها أنثروبولوجيًّا تكوينيًّا معًا؛ ذلك أنه
مثلما بُني جوهر الإنسان على افتقاد الجوهر، على النقص، فإنه
بالمقابل فُتح أمامه مجال استخدام كل ما يقع تحت بصره ويده، من أجل
تلافي عاهة النقص الدائمة هذه. فالأداتية، أنطولوجيًّا، إنما تأتي
في أساس كل ما يصنعه الإنسان. والتحقيب المعرفي بدوره، حاول أن
يعكس تاريخانيته على علاقته بالأداتية، في الوقت الذي كان يستند
فيه إلى إنجازاتها، عبر التمفصلات العملانية التي حققتها في
استخدامها — وتطويعها — للمادة مثلًا؛ وصولًا إلى تجريدها في
الطاقة؛ ومن ثَم في تجريد الطاقة في التسريع اللامتناهي،
[الكوني].
إنه الوجه الآخر العلمي، للتحقيب المعرفي، الذي لا نلقاه في
تاريخانية المفاهيم وحدها، ولكننا نكتشفه ونتثبت من ملامحه، عبر
متابعة منعطفات التقنية عينها. فحين تحتم الثورة النيتشوية
الهيدغرية أن جوهر الميتافيزيقا الغربية هو في المآل الأخير
اتحادها مع التقنية، فإن هذا الحكم ليس من نوع النفي الخالص، بقدر
ما هو إثبات النفي. لا مناص للكائن الحي/الإنسي، من أن يستكمل كل
ما ينقصه، وألا يلقى أمامه إلا الآخر الذي عليه أن يُقربه، يستخدمه،
وينفيه، كيما ينتجا معًا الحد الثالث، المختلف عنهما بالتساوي، سواء
كان هذا الآخر الطبيعة أو الإنسان الآخر، أو كل التصورات التأنيسية
اللاهوتية الأخرى عن كائنات الغيب، أو كل ما يؤول إلى خانة مفاهيم
الغيب التداولية، وآلياتها في الانحجاب والتأثير من خلف ستار، أو
من مسافة واختلاف ما.
إذا كانت التقنية تدخل تحت تصنيف: إثبات النفي، فلا يعني هذا
التصنيف أنه حكم منطقي، بل كأنما هناك في هذه العبارة نوع من
إثبات، ينبغي البحث عما يثبته. وأول ما يتبادر إلى الذهن أن
التقنية في حد ذاتها، هي فعل إيجابي يثبت خروج الكائن، ليس من حدود
قوامه الفيزيائي فحسب، كذلك من إحساسه الكياني بالقصور والافتقار
إلى ما يشبه الأصل. إنه الكائن المحكوم قبليًّا بالخروج إلى المحيط،
وإلى الأوسع، والإيغال في البحث عما يشكِّل أو يكمِّل الأعضاء الناقصة
من فيزيولوجيته. فالتقنية ليست انحرافًا في الأصل، بل هي التعبير
(التقني جدًّا) عن كل ما يمثل فعالية الإنسان، وذلك إلى الحد الذي
يمكن تعريف المدنية نفسها بأنها مجموعة فنون التقنية، ابتداءً من
الكلام والكتابة حتى صناعة الأقمار الفضائية. لكن كل ذلك لا يعفي
التقنية من كونها الموضوع الأهم لإشكالية إثبات النفي. فهي من حيث
إنها أصلًا تعبير عن مجمل فعالية الكائن، الحي الإنسي، إلا أنها
تنتهي إلى أن تمسي فعالية ذاتها. تبدأ كجاهزية توسيط بين الكائن
والآخر، إلى أن تغدو هي الآخر كليًّا. وفي هذه اللحظة تتلاشى
الأداتية كجاهزية توسيط، ولا يتبقى ثَمة من سبيل إلى إقامة جسر بين
الكائن وحيزها، إلا إذا تحوَّل الكائن عينه إلى دور توسيط ذاته بين
حد تقني، وحد تقني آخر. وفي هذه اللحظة الذروية، لا يتبقى ثَمة من
دلالة على اختلافه كأداة، بين أداة وأخرى، إلا أن يكون — الإنسان
عينه — كأنه «أصبح» نوعًا آخر يمت إلى جنسهما عينه.
ذلك ما يضاعف الحاجة إلى المناداة على الفكر، بما يرجع إليه
وحده. فإنه مقابل المصير الذي يغدو فيه الكائن عاجزًا عن استخدام
التقنية، بطريقة غير تقنية تمامًا؛ أي بطريقة ترجع إلى الفكر مثلًا،
لا يتبقى إلا أمل واحد، من أجل إيقاف الاجتياح العدمي اللانهائي
لقدرات «إثبات النفي» الفالتة من كل عقال، أمل هو: أن يمسي النداء على الفكر بما
يرجع إليه وحده فكريًّا خالصًا. هذا لا يعني إلغاء التوسيط، بل
استرداده إلى حيِّز الفكر نفسه. هذا الأمل كانت تحاول الحداثة
البعدية أن تتمثله أولًا في إزاحة تاريخ حداثتها التقليدية، من
دوره كتاريخ أحادي للتقدم.
كما لو أن التحقيب المعرفي الذي يريد أن يكون انتصاريًّا في مآله
الأخير، يفتقد سؤاله الأساسي: من ينتصر على من؟ هل هناك غائية
حقيقية تضاف إلى واقعة: الحرث في العدم، وتأتيها من جهة مجهولة، أم
إن «الحرث في العدم» يمتلك غائيته في حادثته بالذات. عندئذٍ ماذا
يعني وماذا يفيد حقًّا التحقيب المعرفي، سوى أنه إدخال هيكلة من
المعقولية على مادة تظل مادة خامًا مهما اصطُنع منها قوالب وكيانات،
أضرحة وأنصاب؟ هنا قد يبلغ المشروع الثقافي الغربي أوج مناورته؛
فهو الذي يفوز وحده فحسب بملكية التحقيب المعرفي كانتصارين؛ أحدهما
من النوع الميتافيزيقي الإطلاقي الذي يعتبر مجرد تحقق التحقيب
المعرفي، في اللدن الغربي تخصيصًا، هو انتصار على الشرط
الميتافيزيقي للكائن الحي/الإنسي عامة، أي شرط الحرث في العدم،
عينه، الذي يلف فصائل ذلك الكائن في جملتها. وثانيًا هو الحدث
الأعظم الدنيوي الذي يحقق النقلة شبه المستحيلة أنطولوجيًّا، من
مجرد التاريخ، بدون عنوان ولا صفة ولا هوية،
إلى التاريخانية
الفائزة أصليًّا بالتحقيب المعرفي. إنها النقلة الفريدة التي ترشح
هذه التاريخانية لا إلى انتزاع اختلافها الاستثنائي ذاك، من سديمية
«الحرث في العدم» أنطولوجيًّا فحسب؛ بل ترشحها كذلك إلى جعل هذا
الاختلاف (الاستثنائي) كما لو كان التقاطًا انتصاريًّا لكينونة قد
أُجبرت على التخلي عن شرطها التأرجحي الذي هو تفردها المطلق كإطلالة
منسحبة، وانسحاب مطل؛ أما الانتصار الثالث، الضمني، ولكنه
العملي المباشر، وغير المعلن جهارًا، والذي هو المحصلة التركيبية
لكل هذه الفعالية الفريدة، فهذا هو نصه:
إذا كان ثَمة غائية تستبطن موضوعة الحرث في العدم، فهي أنها ترسم
مستوى التحدي الأكبر، لتحقيق نمط من الإرادوية الإعجازية، تنجح في
انتزاع كينونة قادرة على فرض امتيازها الخاص، والدفاع عنه معرفيًّا
أنطولوجيًّا في آن؛ مما يجعلها تنشئ تاريخها الخالص، كما لو كان
تاريخًا للمصير الإنساني كله؛ لكنه في الوقت نفسه لا يستوطن جناته
غير سكانه الأصليين؛ وهؤلاء ميزوا أنفسهم، كونهم حركوا هذه
الإرادوية وحدهم، لصالح تاريخانية مطبوعة أولًا بالذاتوية التي
استقرأتها هي، ورسمت نتاجاتها على أرض الواقع. والدليل الأقوى على
الترابط العضوي والخصوصي الذي تُقوَّم به الذاتوية باعتبارها الحاضنة
لهذه التاريخانية، هو «إبداعها» للتحقيب المعرفي، والتخصص الحضاري
بإنتاجه، والتعامل مع أحكامه وضروراته، من دون «بقية العالم»؛ وهنا
لا بد من التوقف عند عدد من الالتباسات التي تحيط بإشكالية هذه
العلاقة المتعارضة بين خاصوية التملك من مشروع، يستمد شرعيته
الأولى من شموليته كمَفهمة، وبين كليانيته كأقنوم يرجع إلى الفكر
وحده أصلًا.
ينطوي التحقيب المعرفي على مفهوم ضمني، وهو أنه ليس مجرد برنامج
في المعرفة، بل هو ما به وحده يتحقق المعرفي (إطلاقيًّا)، وفي صلته
الأعمق مع الأنطولوجي. إنه معرفة المعرفة، ماهية المعرفة، وقد انتقلت
من مستوى التصور التجريدي، واتحدت بتحقق تاريخي معين، ارتبط بنوعية
معينة من الإنسانية، وكانت له ظروف وأحوال خاصة به، من دون كل
الآخرين.
إن معرفة المعرفة، ليست حقيقة تُصنَّف أو تُدرَج بين سواها من
«الحقائق» التي يقال عليها إنها علمية أو موضوعية. معرفة المعرفة
هي ما بها وحدها ينبني المعرفي، وتنتظم «المعارف». ولذلك لا يمكن
أن يأتي التحقيب المعرفي إلا مرة واحدة؛ لأنه ليس طريقة في المعرفة
يمكن أن تندرج بين طرق أخرى، ليس خارج «التحقيب المعرفي»، ما يمكن
أن ينافسه أو يضاهيه. «الآخر» بالنسبة له إما أن يتبعه، دون أن
يحوز منه على أي «فارق» مما يميز جوهره، أو أنه يفتقد حيزه
قطعًا. وهذه التبعية لا تتيح للآخر ثَمة من دور، حتى لو أعطي دور
النقيض، أو غدا محلًّا للنقائض؛ لأن نقيض المعرفي يدخل معه في علاقة
جدلية، تضفي عليهما قيمة واحدة، في حين أن المطلوب هو الإبقاء على
الآخر مطرودًا من أية علاقة مَفهمة قد تجمعه مع المعرفي الذي هو
افتراضًا، الحائز على جوهريته، أي تعادله مع ذاتيته فحسب، دون أية
آخرية، تتماثل معه، أو تكرره.
مثل هذه الأطروحة توصلنا إلى الأطروحة الأخطر، وهي أن التحقيب
المعرفي لا يقدم نفسه نموذجًا للآخرين؛ ذلك أنه فضلًا عن عدم
الاعتراف أصلًا بحيز للآخر، فإن زمانيته هي التي استطاعت وحدها أن
تُحدث القطيعة الفعلية، إن كان ثَمة قطيعة حقًّا مع التاريخ، كسديم
منفلت من كل يقين وتمعين، وأن تنشئ التاريخانية، التي وحدها:
معقولها يطابق واقعها. ودليلها في ذلك أنها صاحبة المشروع الذي
أنجز تحقيبه المعرفي. وهو إنجاز لا يتكرر، لا يعار ولا يستعار؛ لأن
العقلي عندما يتحقق لن يكون إلا الواحد؛ الواحد الذي تأتي بعده كل
الأعداد الأخرى، التي هي عليها أن تكرره كنسخ عنه، أو لا تكون، في
حين يبقى هو نفسه، لا يسبقه أحد. فالواحد لم يعد ترسيمًا تجريديًّا
لاهوتيًّا أو أسطريًّا، بل هو ما به تتحقق المحايثة جوهريًّا، بما
يحقق مفارقة ازدواجية استثنائية، ضد المفارقة التقليدية كمحل
للتعالي اللاهوتي أو المثالي، أو ضد المحايثة الأخرى نفسها،
والتقليدية كذلك، والتي صارت تعني ذلك التاريخ السديمي الذي تحول
هو كذلك، إلى مجرد مستودع لنفايات وبقايا ومخلفات عملية إنضاج
التاريخانية، وانخلاعها عنه؛ مما يعني انخلاعها عن بقية
التاريخ.
إن التحقيب المعرفي هو مثال القطيعة الكبرى. كما لو أن
التاريخانية في المآل الأخير هي التاريخ المشروع الوحيد، الذي يولد
على أطلال كل «الآخر» كما هو في ماضيه، أو أنه قد يقوم في جواره.
ولكن أي جوار هذا؟! فقدَ تعيُّنه نهائيًّا زمكانيًّا من الزمان والمكان
معًا. أما خطاب القطيعات الأخرى داخل التاريخانية عينها، فقد استمد
تعليلاته الذاتية دائمًا من صلات يدعيها، بوعود القطيعة الكبرى بين
التاريخانية، وما ليس كذلك، أي التاريخ كمحل للاتعين، للاعقلانية:
وما إن تقع حادثة القطيعة هذه، حتى لا يتبقى ثَمة حاجة إلى
خطاب المعارضة بين التاريخانية والتاريخ؛ إذ تغدو التاريخانية هي
التاريخ الصحيح، هي التحقيب المعرفي وقد بلغ محصلته الأخيرة
كتطابق شامل بين المايحدث وزمانه الثقافي التام: وكل ما عداها هو:
عدم، ولكن بدون حرث، أو بما يأتي بعده!
إذا كان ثَمة من مقاربة ممكنة لإعادة اللحمة بين الفكر
والكينونة، فإن المثال النموذجي والأوحد الذي بوسعه أن يقدم السياق
المشروع لهذه المقاربة هو التحقيب المعرفي هذا؛ لأنه يسرد، مفهوميًّا
وحدثيًّا، قصة انفصام الوحدة بين الفكر والكينونة، متبوعة بقصة
الحنين إلى هذه الوحدة؛ ومن ثَم انطلاقة هذا الكفاح (الحضاري)
الهائل الاستثنائي الذي بُذل من أجل هذا الاسترداد، الذي أصبح يُعرَف
بالعَود الأبدي، أو عودة العين، أو ذات النفس. وهي كلها من مصطلح
فجر الفكر الإغريقي، الذي كان يبحث عن الواحد، سواء الواحد المستقر
لأنه مُلاقٍ جوهره منذ الأزل، ولا تفرقة بعدُ بين الكائن وكينونته
(بارمنيد)؛ أو سواء كان ذلك الواحد الذي يسقط في نهر الزمان،
وينقسم على نفسه، وينداح مع أمواج التغيير، لكنه يظلل مدفوعًا
باستمرار، بالحنين إلى استرداد اللحمة. إنه الواحد، الذي يدخل
التجربة، وينتشر عبر الصيرورة، مختلفًا عبر إنتاجاته، متكونًا
بذاته وبالآخر، ولكن عبر صيرورة الواحد نفسه بعد كل حين:
«هيراقليط». فالآخر ليس شيئًا آخر خارج الواحد، لكنه هو ترميزه
بالذات، منزاحًا، مرآويًّا، عنه بقدر المسافة الضرورية التي تفصل
المفهوم عن الواقع آنيًّا، ثم مرحليًّا، جدليًّا، وأخيرًا نبلغ العقل
الذي صار الواقع كله، صار الآخر، الذي هو العين عينه.
لقد سمح هيغل لنفسه أن يسمي هذا العقل، الملاقي عينه في
«نهاية التاريخ»، بالروح esprit؛
ظنًّا منه أنه يستطيع بذلك أن يعيد وحدة الفكر والكينونة، بما
يتجاوزهما معًا، ويتركب منهما في آن، وهو الروح، أو الكينونة
الشمولية، وقد لاقت ذاتها، بعد اغتناء وإشباع حصلته من تحقيق
إمكانياتها، والفوز بالتاريخانية. كما لو كانت التاريخانية،
انتزاعًا كفاحيًّا متواصلًا، انتزاعًا لذات النفس، للتعيين، من
التاريخ كسديم، كاوسي cahotique،
لا يمكن أن يُعرف على هذه الصورة إلا بتحقق انفكاك نقيضه عنه، أي
إنجاز ذلك التحقيب المعرفي الذي ينطوي عليه مشروع
التاريخانية.
وإذا ما سئلت الفلسفة الغربية الكلاسيكية، كما هي عند أساتذة
الحداثة، من كانط إلى هيغل، عن محل التحقيب المعرفي، لم يكن لديها
سوى الإشارة إلى وطنها بالذات، باعتباره وطن الشعب «المختار»
فعلًا، لحمل رسالة التاريخانية، التي هي في المحصلة، انتصار
التاريخ (الشامل) على نفسه، من حيث هو اللاتعين المطلق؛ انتصاره،
بالتاريخانية، أي بالتعين الخالص، لكن دون أن يفقد مطلقه (الذاتي)
أبدًا(؟)
إلا أن الاعتراض الحاسم يقوم على كلية التاريخانية اعتبارًا من
هذه النقطة بالذات. فالثورة النيتشوية تنفي أولًا أن يكون هذا
التحقيب المعرفي [الغربي] هو المنوط به تكوين التاريخانية، على
أساس لاتكوين «التاريخ». وبالتالي ليس هو المشروع الذي يَعِد الغرب
نفسه به، منذ أن كان غربًا فجريًّا، يولد مع فجر الفكر إغريقيًّا.
فالإنكار مضاعف إذن. يطرح أساسًا السؤال: فيما إذا كان ما يأتي به
(هذا) التحقيب المعرفي هو التاريخانية حقًّا. ويطرح تاليًا، بل في
لحظة السؤال الأول عينه، إن كان هذا التحقيب المعرفي هو استحقاق
«الغرب» المحتوم، أو أنه هو «ضلاله» المتمادي. كما لو أن ما يُسمى
بالمشروع الغربي، لم يبدأ فجره في لحظة الفجر الإغريقي قبل
السقراطي، لكنه استمد صباحه من الغروب الإغريقي (سقراط وما بعده).
فكتب على نفسه بذلك أن يعيش مستقبلًا متماديًا في الغياب منذ
بدايته. و«الإنسان الأخير»، النيتشوي، الذي يأتي في مآل هذا
المستقبل، ليس له من إيجابية نسبية إلا كونه سوف يعي آخريته هذه؛
كما لو كان، هو عينه، ثمرة الخطيئة المستمرة لتاريخ خطأ؛ لكنه، أو
لعله، يشكل انقطاعًا، انزياحًا، عنها، باعترافه بها، أي: ما يعني
ضرورة تجاوزها. فقد اعتقد بنفسه أنه يسرد قصة كفاح الفكر، من أجل
استرداد وحدته مع الكينونة، بما يرجع إليه وحده كفكر، ليس له ما
يعلله من خارجه أبدًا.
ومن نموذج الإنسان الأخير، يبرز زرادشت، كترميز مكثف لما يعنيه
هذا النموذج، وقد أصبح واعيًا لشرطه ولحظته التاريخانية، بما يؤهله
ليحمل دور المنذر بنهاية المشروع الخطأ، والمبشر بمولد: الإنسان
الأعلى؛ وأولى إشاراته الدعوة إلى «عودة العين»، عودة ذات النفس،
كما لو أنها لم تُنس من أول «التاريخ» إلا لتأتي ما بعد نهايته.
فالإنسان الأعلى لا أحد يعرفه بعد. وكل ما حدث على طريقته، عبر
سرديات العقلانيات الكبرى الباحثة عنه، لم يكن إلا تنويعًا على
الخطأ نفسه فحسب. أما احتمال مواجهة الخطأ، أو الشروع في التصحيح،
فتلك هي المهمة المفتوحة أمام الإنسان الأعلى، الذي ليس هو كذلك
إلا لكونه تخطيًا للإنسان الأخير. ولكن إلى أين؟ وكيف؟ وهما سؤالان
يردفان الإشكال الأول الأساسي: ولكن من هو الإنسان الأعلى؟ ذلك هو
السؤال الذي يظل جوابه كامنًا فيه، كما هو سؤال الكينونة
عينه.
اقتراب الساعة
لقد شرعنا في مقدمة هذا الفصل في إثارة موضوعة التباعد المتمادي
بين حادثة الفكر، وحادثة العقل. والآن نسأل فيما إذا كان هذا
التباعد هو ما يعنيه تمامًا عين الإشكالية الكبرى التي تسود الخطاب
الفلسفي، تحت عنوان انفصال الكينونة عن الفكر. وللملاحظة السريعة
فحسب، يمكن القول إن تاريخ الفلسفة يشهد على كون ذلك التباعد قد
لعب دور التغطية والحجب بالنسبة للإشكالية الكبرى تلك. ولم يكن ذلك
ممكنًا حقًّا إلا مع سلطة المَفهمة المرتكزة إلى منطق التحقيب المعرفي.
فقد استطاع العقل، عن طريق التحقيب المعرفي، أن يحتل كامل ساحة
الوعي والاهتمام؛ إذ أصبح للعقل تاريخه الخاص، بعد أن اضطرت
المعرفة إلى الهبوط من مستواها الإطلاقي، والخضوع لإيقاع التمرحل،
وصولًا إلى لحظة «المعرفة التجريبية»: العلم، التي سرعان ما غدت هي
المعيارية الجديدة مع الحداثة التي يمكنها أن تعين خصائص ما سبقها
من المراحل، وما سيُبنى عليها، بعدها؛ وذلك اعتمادًا فقط على
استثنائية قطيعتها، وقياسًا على إنتاجيتها المنتظرة في صميم بنية
المايحدث المعرفي/الأنطولوجي.
لقد أتيح للتحقيب المعرفي أن يقدم قصة العقل كممارسة أحادية،
وليس كتجربة [بين تجارب أخرى سواها]. وبذلك فاز وحده بالمايحدث
الفعلي، مقابل المايحدث التأملي، الذي أزاح نحوه كل الأقانيم
الكبرى الأخرى، من مثل مفهومَي الفكر والكينونة. وبذلك استطاع العقل
أن يقلب جهة المضاهاة الأنطولوجية كليًّا. فهو، بفضل التحقيب
المعرفي عينه، لم يعد مطالبًا بتقديم جردة حساب عن إنتاجيته، من
قبل الفكر الذي بدوره يحيلها إلى الكينونة، لترى فيها مدى جدارتها
في الانتماء إلى استحقاقاتها (أي الكينونة). بل استدار العقل
استدارة كاملة نحو جهة أخرى يسميها باللامعقول (بعدُ) الذي عليه أن
يكتشفه ويداهمه، ويستقطع منه كل يوم، أمكنة جديدة من حوله، يقيم
فيها، ويوسِّع نحوها حصونه، التي بدورها تشتد مناعةً في ذاتها،
وحركية نحو المجهول في كل شأن. إنه العلم المترصد دائمًا للمجهول
دون احتوائه أبدًا.
وفي البدء كان العقل، مع لحظات انتصاره الأولى، يعتقد أنه سيد
التقنية، ثم غدا تدريجيًّا يُضعف من أهمية الفروقات والحدود بينهما،
إلى أن غدا أخيرًا متحدًا بها. ومن هنا فإن التحقيب المعرفي استخدم
الزمان كيما يستطيع العقل أن يقيم تميزه عبر سرده لقصة
انتصاراته، ويكون واقعه الخاص على حساب الواقع الأشمل، الذي سوف
يرميه باللامعقولية. وما إن أنجز التحقيب المعرفي ذلك الدور
(التاريخي)، حتى اعتبر العقل أنه في نهاية ذلك التحقيب، سوف يتحقق
تطابقه الكامل كشكل ومضمون، دون أية فوارق بينهما، قد تضطره إلى
استخدام «خطابات» آنية وجدالية. تنتهي «رسالة» التحقيب المعرفي،
عندما لا يتبقى ثَمة من نفع لتاريخ، لتكوين، قد أنجز قوام التكوين/الهدف.
إن العقل في مآل التحقيب المعرفي، يمكنه أن يدَّعي بكل طلاقة
أنه أصبح يشغل كامل حيز المطلق، وأنه بالتالي إن كان ثَمة فكر أو
كينونة، يبحثان عن بعضهما طيلة أزمان التكوين السابقة، فإنهما
محكومان أخيرًا بالتلاقي المتبادل، وفي حيز واحد، شكله ومضمونه هو
العقل، الذي عقل نفسه؛ ولم يتبق ثَمة هامش لأي مسمًّى لا يدخل تحت
اسمه؛ بل استراتيجيته.
لكن العقل لم يُلاقِ نفسه في مآل التحقيب المعرفي، فلقد وجد الاسم
الآخر: التقنية، بل التكنولوجيا؛ وأزمته الراهنة، هي أنه لا يجد
فكاكًا من الاسم الآخر الذي استخدمه كسلاح نظري وعملياني، ضد مختلف
«التهويمات» الميتافيزيقية الأخرى، ثم أضحى لا يرى له فعلًا أو
تصريفًا إلا داخل المفردة/التكنولوجيا، التي وضعت حدًّا لقواميس
اللغات وملايينها من المفردات؛ إذ أصبحت التكنولوجيا الكلمة
الوحيدة التي تنطق بها كل ألسنة البشر، عفوًا، بل كل
الآلات.
وفي حين يمكن للعقل أن يعتز بأنه الوحيد من بين بقية الأقانيم
المفهومية الكبرى، من فاز بالإطلاقية والوحدانية والراهنية في وقت
واحد، فإن الأقانيم الأخرى كالفكر والكينونة، لا يزالان موغلين
في انسحابهما، ما عدا بعض إنارات جاءت في فجر التفكير الإغريقي. لكن
رسالة هيدغر بعد نيتشه، هي التدليل على أن إثبات النفي، يمكنه أن
يغدو كذلك إثبات الإثبات. بمعنى أن التاريخانية لا تستطيع أن تدعي
أحقيتها إلا بتخصصها بإنتاجية التحقيب المعرفي، كبرهان عملياني
إثباتي، على انتفاء سواها. ولكنها في الآن ذاته لا تستطيع، حتى من
وجهة عقلانوية خالصة، أن تثبت أن «الآخر» إن لم تكن لديه مثل هذه
التاريخانية، فما يدريها إن لم تكن تشمله ولكن بطريقة أخرى، تتيح
تعاملًا معها مختلفًا. فإن تمكنت التاريخانية من استيعاب «الكائن»
وتحقيبه معرفيًّا، فإن «الآخر» الذي لا تستطيع أن تسميه كائنًا، ما
دام غير قابل لتحقيبها المعرفي، كيف لا يكون «مما لم تفكر به بعد»؟
لكنها قد تصنف «الآخر» كمحل للامعقول. وقد تَعِد نفسها بقضمه كل يوم
تحت راية جحفلها العظيم: «التقدم»، لكنه يبقى، هو في حد ذاته، مما
لم «تتقدم» فيه بعد. سوف يظل له انسحابه. وبالتالي ليس الآخر سوى
محل اعتراف تكتيكي من قِبل الذاتوية؛ إنه بالأحرى ما به قد تتحقق
الذاتوية كتكتيك، وتنهار أو تتبدد كاستراتيجية.
ذلك هو المأزق الأخير الذي يمزق المشروع الثقافي الغربي، في
انعطافيته الراهنة المحددة عصريًّا بالأمركة. فما كان يُطمئن نفسه
به، على أنه مجرد إرادوية، أو «تكتيك»، يمكنه التخلي عنه ساعة
يقرر، ها هو أضحى استراتيجية فالتة من كل سلطة لرقابة، أو غائية.
كما لو أن حادثة انفصال الفكر عن الكينونة في بداية الدهر، أصبحت
حادثة دهرية، وأنه إذا ما ترك للكائن ألا يغدو له ثَمة خيار إلا
هذا التماهي المتمادي مع التكنولوجيا، على حطام كلٍّ من الأنثروبولوجيا
والأنطولوجيا معًا، على حطام التقنية والميتافيزيقا، إذا كان ذلك
هو خياره فهذا يعني أن قدوم الكينونة، قد أخلي أمرُ تحقيقه مرة أخرى
إلى البديل الجاهز. وهو لن يكون إلا في تكرار الصراع على ذات
المشروع؛ أي التورط ثانية في ثنائية منافسة الواحد والآخر على ذات
الأولوية في الانتماء إلى عين المشروع.
ذلك هو فخ التحقيب المعرفي، المعهود المستخدم باستمرار مع كل
«الأعداء» المتنافسين على القيمة الواحدة؛ إذ إن التاريخانية لا
تنجر إلى معارك «التاريخ» خارجها، بل تسحب ساحات الصراع إلى داخل
حصنها، وتفرض على محاربيها خارطة لعبتها هي عينها، بأسلحتها
عينها، وتكتيكاتها ومعايير النصر والانهزام لديها. وبذلك تضمن
مقدمًا هزائم الآخر؛ إذ تسلبه اختلافيته؛ وغالبًا ما تنجح في جعل
الآخر، هو نفسه، يشارك في تفخيخ ذاته، والتنازل عن اختلافيته. إن
عودة الثنائية إلى السيطرة الأحادية على شبكة العلاقات بين الذات
والآخر تعني أنه لا فكاك من التاريخانية. كل خارج عنها
لا يلبث أن يمسي داخلها، خاضعًا لقواعد اللعبة عينها، تلك التي
يرفضها باسم: الفكر وما يرجع إليه وحده.
ولكن يأتي من يقول: وكيف يمكن للفكر أن يجلس خارج حدود مشروعه
المنتمي إليه، بالقوة أو بالفعل والمسمى بالعقلانية، وتشخيصها
الواقعي عبر التاريخانية، وقانونها «الأنطولوجي»: التحقيب المعرفي!
هل يمكن استعادة المسافة بين الفكر، وهذا
← العقل، كشرط لتحقيق
النقلة المنشودة بين الفكر والكينونة؟ ذلك كان هو رهان الحداثة
البعدية، في تصحيح تاريخها (التقليدي)، والانفكاك عنه؛ فالفكر
مطالِب نفسه أولًا بالانزياح، وإنجازه يتطلب إقامة الفصل بين حادثته
كفكر، غير محتاج إلى أي إنجاز متكامل يقع على مسافة منه، ويسعى
بالعنف وحده إلى أن يحتل كل حيزه، لا يحتاجه كدليل من خارجه على
داخله … وبين حادثة العقل، كمشروع في التحقيب المعرفي، ينمذج، يلغي
«التاريخ» بحجة نموذجه الخاص: التاريخانية. ذلك أن العقل يستطيع أن
يقدم تحقيبه المعرفي، كما لو كان هو كل ما يُفكَّر فيه. أما الفكر،
فليس له إلا أن يَعِد بما لم يفكر به بعد. لكن العقل بالمقابل، يمكنه
أن يدعي أن تحقيبه المعرفي لم يترك اللوغوس الإغريقي معلقًا في
فراغ المُثل الأفلاطونية، بل أنزله إلى خضم المحايثة، دون أن ينفصم
قِيد أُنملة عن معياريته الأنطولوجية. فقد اكتشف أن «التقنية» هي
سبيله الأخصب للالتحام مع فوضى المحايثة، والشروع في تطويعها،
وإعادة صياغتها بما يتناسب واللوغوس معياريًّا. إنه لم يتأمل السديم
من بعيد، بل داهمه، وانخرط في مجادلته عينيًّا وحدثيًّا؛ أدخله إيقاع
الزمان؛ لم يعد تاريخًا بدون زمكان. إنه دخول مطرد إلى عمق
السديم، اللامعقول، وتحويله تدريجيًّا وتكوينيًّا إلى مفهوم العالم.
ذلك أن صناعة المفاهيم هي الفن الأعلى، الذي لم يسبق التقنية، لكنه
كان منذ البدء فنَّها الوحيد. ومنذ أن وُجد العالم مفهوميًّا صار
بالإمكان أن يغدو هو المسرح الوحيد للتقنية.
والخلاصة، لا يضير العقلَ، في النهاية، أن يكون له خطاب وحيد
التلفظ هو: التقني فحسب. ذلك أن التقني هو التوسيط. وهو إتقان
التحول من التلمس الضبابي، أو من التصور عن بعد، إلى «إتقان»
الفعل. سواء كان إتقانًا لغويًّا أو مفهوميًّا، أو عمليًّا وآليًّا.
فالتقني هو التعويض الحاسم الذي يناله الحي/الإنسي، عن كل ما
انتقصته منه الطبيعة، عندما قذفت به إلى عالم، كل ما فيه غريب
ومخيف ومُداهم. التقني هو البديل الاقتصادي عن البرنامج المغلق،
الذي تُزوَّد به كل عضوية حيوية، اعتبارًا من أبسط النباتات إلى أعلى
سلم الحيوان. وحده الكائن/الإنسان تُرك له أمر تدبير شئونه بنفسه،
من دون زاد أو برنامج مسبق. كل امتيازه ودراميته في آن، أنه الكائن
الذي لم ينتهِ تكونه بعد، وقد لا ينتهي أبدًا.
فالتقني، في الأصل اللغوي الإغريقي، كان أقرب إلى دلالة التوسيط.
وفي العربية «الإتقان» التدبير. والتلفظ العربي أقرب إلى إعطاء
مشهدية الفعالية في إطارها الأوسع الكلياني؛ ذلك أن التدبير يدفع
إلى تصور الكائن وهو منخرط كليًّا في تحقيق هدف ما. لا فاصل بين عقل
يحلل ويركب، ويد صناع. بل قد يعني اسم الفعل: التدبر، هو ما به يتم
طرح المشكلات وإيجاد الحلول، إنه الفعل اللغوي المصاحب للمصطلح
النفساني السلوكي المعاصر: الخبرة. إن حياة الكائن منذ صدمة
الميلاد حتى انطفاءة الموت، هي تراكم خبرات، منذ أن يتعلم الوليد
رضاعة الثدي، إلى صناعة الليزر، فإن الصلة بين الكائن والواقع، هو
واقع تدبره له.
فالتقني هو عُدة الكائن لما سيداهمه، انطلاقًا من أوليات تاريخه
التكويني المادي، من العضوي، فالحياتي الحيواني، فالبشري. إنه عُدته
لمواجهة الآخر، سواء كان (الآخر) هو كل العالم الخارجي بالنسبة إليه،
أو أي عنصر فيه. والتقني، هو من الشمول بحيث لا يأتي أبدًا نقيض
الفكر أو العقل، أو الإرادة. ذلك أنه هو المحصلة العملية لكل هذه
الأقانيم مجتمعة، وفي حال من انخراطها في الفعل، في التأثر
والتأثير. لكن التقني مع ذلك، صارت له دلالة أخرى، ضاقت تدريجيًّا
مع نشأة الآلي الصناعي بصورة خاصة. فأصبح التقني يعني موازاة
الطبيعة بالصناعة التي تقلدها وتتجاوزها باستمرار، وقد
تعتدي على حرماتها كلها؛ وصولًا إلى المرحلة التي يغدو فيها التقني
تقنويًّا فحسب، أي مرادفًا للتهديد الأعظم للطبيعة، وأعظم ما فيها:
الحياة ونتاجها (التاريخاني) الحقيقي: الإنسان، ليس كأقنوم، بل
كصانع للأقانيم، ومدمر لها معًا.
في هذه النقطة ينفصل الفكر عن العقل الغربي بخاصة؛ فهذا الأخير
يقدم حضارته، المخوصنة به وحده، على أنها هي: التاريخانية، كخيار
فريد، وإعجازي للإنسانية. وقد أمكن انتزاعه من: التاريخ — بالحرف
الكبير — كحيز لا مُتناهٍ للسديم، والمجهول، واللامتعين. قد أمكن
انتزاعه بفضل تطويع التقني (تقنويًّا)، وانتزاعه بدوره من مفهوم
التدبر، شموليًّا، وخوصنته فقط في التوجه نحو التوسيط الآلي،
واختزال المعرفة في نوع المعرفة الأداتية: التكنولوجيا، كتتويج
إغلاقي، ختامي للتحقيب المعرفي، كنوع يحل محل الجنس، يصير جنس
الأجناس جميعًا.
في حين أن الفكر يعتبر أن التاريخانية لم تُنجز بعد، وأنها لا تزال
كامنة في مشروع سؤاله هو بالذات، ويظلل جوابه تسآليًّا، أي لا يبرح
حيز السؤال، ولا يخرج كإنجاز محدود إلا ليعود إليه؛ إنها تلك
التاريخانية الأخرى التي لا تقطع أبدًا مع
← التاريخ. لا تحطم جسورها
مع عوالمه اللامحدودة. لا تدعي أكثر من كونها إشارات سريعة، تتلامح
على تخومه؛ وقد تومئ أحيانًا بمجيء الكينونة، وانسحاب المجيء في
اللحظة عينها. إنها التاريخانية [الإنسية حقًّا]، التي لا تنسى
التاريخ أبدًا ولا تتعالى عليه. وهي تعلن دائمًا عن استعدادها
المخلص، لتقبل تباشيره وإنذاراته. لا تدعي أنها: الوقت، حتى لا
تُحشر في توقيتات، لا تصنعها، أو لا تدعيها. تقبل فحسب أن تكون مجرد
وقت، شرط أن يسبق عنوانه، وألا يحشر تحته أبديًّا.
لو سألنا الفكر أخيرًا: وما هي تاريخانيته تلك إذن؟ فلن يقول لنا
شيئًا في التو. نحاول مجادلته بالبدائل. نقول له مثلًا: هل هي في
إرجاع «التكنولوجيا» إلى التقنية، إلى التدبر، بما يعنيه من توسيط
شمولي، وما يزيد عليه من إرادوية وتفكر؟ هل ثَمة تحقيب معرفي «آخر»،
ينتج تاريخانية «أخرى»؟ هل هي رفض الممكن المنجز حتى الآن، لهدف
طلب غير المنجز بعد؟ كل هذه البدائل تبقى حقًّا مجرد بدائل متصورة،
ولكن الفكر ليس هو من يرفض أو يقبل، حتى إنه ليس هو من يقترح
أو يعترض. إنه لا يمتلك إلا إشارات عن انفقاده هو عينه. وانفقاده
ذاك دليل البحث عن وجوده. ذلك أعلى ما يطلبه من حيز في كل حيز، من
آخر سواه. فالآخر بالنسبة للفكر، لن يكون كذلك عندما يتحسس به، بل
عندما يتذكر أنه ليس هو بعد.
مثلًا: إن إعادة التفكر في الميتافيزيقا الغربية، هل تجعلها أبعد
عن الغربنة، وأقرب إلى الميتافيزيقا الخالصة؛ أم إن التاريخانية
ليس لها بدائل خارجها، وبالتالي فإن مفهوم التحقيب المعرفي الذي
تعتمده كإنجاز للعقل والفكر معًا، محتاج باستمرار إلى إعادة التعرف
بذاته خارج كل تحقيب ينجزه؟ ذلك هو امتياز خاص ﺑ «تفكيك»
الميتافيزيقا الغربية، نيتشويًّا/هيدغريًّا، الذي لا يكتفي بقراءة
البناء من خلال هندسته، لكنه يقرأ الهندسة من دون أبنيتها،
باعتبارها الرياضي الخالص كينونيًّا
mathésis، ما قبل الرياضيات، كأساس
للعلوم.
في لحظة انغلاق التحقيب المعرفي على مآله (التركيبي) في
التكنولوجيا، أصبح انتشال مفهوم «التقنية» من مصطلحها الاختزالي
(التكنولوجيا) أشبه بالصرخة الأخيرة على مقولة: الحرث في العدم،
قبل أن تغدو ← عدمًا، خالصًا، بدون حرث. فالتهديد وصل إلى جذر
الأقنوم: التقنية، بدلالتها اللغوية الكينونية، كتدبير: كيف يتدبر
الحي/الإنسي سقوطه في/وانبثاقه من هاوية العالم؟ ما هي حيلته، وهي
خاصيته الفريدة من دون غيره من الكائنات في ذلك؟
يبدو المدخل «التاريخاني» حقًّا إلى اكتشاف «التفكيك» قد شرَّعه
نيتشه عندما أعلن أن الميتافيزيقا الغربية، ليست هي الميتافيزيقا،
أي بدون نسبتها إلى الغرب، بل هي فعلًا ما توصف به عبر هذه النسبة
عينها، لكن ليس ذلك أبدًا مدعاة لرفضها جملة وتفصيلًا. فلقد عمد
هيدغر، بالعكس، إلى تفكيك مفاصلها مرة بعد مرة: كان المؤوِّل العبقري
الذي دأب على كتابة التناص المختلف داخل النص الأصلي عينه؛ ذلك أن
المشكلة ليست في اختراع معركة موهومة أخرى كاللاهوتية
والأيديولوجية خارج: ما هو الفكر وآخره معًا. بل بالعكس، علينا أن
نقرأ الميتافيزيقا المتحققة وحدها، كقصة فريدة لحادثة الفكر
وآخره، تلك؛ نقرؤها كتاريخانية، كطريقة ما في محاولة تدبر الكائن
لكينونته؛ لنكتشف كيف أخطأها غالبًا، وأدركها نادرًا، كتاريخانية،
لا تتكرر، للتقنية عينها، وقد اكتشفت نموذجها الأوحد في التحقيب
المعرفي، الذي أعطاها محتواها، وكاد أن يخنقها شكليًّا في إجبارها
على الانصياع إلى حتمية التكنولوجيا، كمحصلة لتدبير، انصاع هو
بدوره لإرادوية واحدية أبطلت الفارق الحاسم، الجوهري، بين التوسيط
وغايته.
كلٌّ من نيتشه وهيدغر يربطان بين تلك الميتافيزيقا والغرب.
والسؤال: أيٌّ من الحدين، يستمد «جوهريته» من الآخر؟ تبدو القراءة
السياسية الدارجة لفكر نيتشه، وخاصة بعد سقوط النازية، أنها تجنح
إلى رفض تلك الميتافيزيقا المتهمة بالأبولونية، السائدة خلال نهاية
الإغريق، وباليهودية المسيحية، وبعدها، خلال الثقافة الأوروبية
المستمرة، كما لو أن تلك الميتافيزيقا ليست هي مما كان يستحقها
الغرب.
ولعل هيدغر لم يخرج عن هذا الموقف، لكنه حاول أن يكون أقرب إلى
هيغل و
كانط في هذه النقطة؛ إذ صعَّد من
الغرب، المحدود جغرافيًّا
حضاريًّا، جاعلًا منه أقنومًا إنسانيًّا، استنادًا إلى أن هذا الغرب
نفسه هو الذي حاول أن ينتج الميتافيزيقا التي تجيء عن طريقها
الكينونة إلى العالم، مجيئًا إنسانويًّا لغويًّا، إلا أن الغرب لم
يخطئ المحاولة والهدف، بقدر ما قدم تجربة، فذة في حد ذاتها، عن
نسيان الكينونة. فهل هذا النسيان يصبح هو عينه الاستحضار الوحيد
والممكن، للكينونة، التي هي جوهريًّا لا تتأتى إلا وهي منسحبة. لكن
الخوف الكبير الذي يقلق هيدغر، بعد درامية اليأس البطولي النيتشوي،
هو ألا يكون لدى الغرب المشروع (الآخر) المختلف عما أعطته ميتافيزيقيته
المعهودة حتى الآن، أن تنتهي تلك الميتافيزيقا إلى الانغلاق على
نفسها، في نموذج
الإنسان
الأخير،
١⋆ العاجز عن التبشير، حتى بفكرة: الإنسان الأعلى. لأن
الميتافيزيقا التي قدمت فصولًا تراجيدية كبرى عن تمفصليات نسيان
الكينونة، أمست سائرة نحو نسيان هذا النسيان (حتميًّا). فإن
التدبير، بدلالته الأنطولوجية الشمولية، ينحل إلى
التقنوية، التي
بدورها لا يتبقى لها الاتحاد بالحيز الأضيق لما تعنيه
التكنولوجيا، بحيث تغدو التكنولوجيا ليست مجرد طريقة في تدبر
الكائن الإنساني لتراجيدية افتقاده الجوهري، للجوهرية، في عالم
محايد كليًّا إلى درجة المداهمة الكليانية في محايدته؛ بل أصبحت
التكنولوجيا هي الطريقة الوحيدة لهذا التدبر، الذي في دوره، وفي
هذه الحالة بالذات، ينعدم دوره، لانعدام دلالته نهائيًّا. فأية حاجة
إلى التدبر والتدبير، إن كان الموجود في العالم، أصبح
مبرمجًا
مسبقًا؟ وانتهى تاريخ التكوين إلى تكوين وحيد، مستقبله تكرار
لماضيه، أي يصير إلى خارج الزمن. لكن سيكون لعبارة «خارج الزمن»
دلالة أخرى، ليست مفهوم المفارقة أو الأبدية اللاهوتية، بل مفهوم
«الزمن الواقعي» الذي يتأسس على واقعة انعدام المسافة زمكانيًّا في
وقت واحد. إنه المدخل نحو التسريع القصووي الذي يتجاوز «الكيان»
المسرع، نفسه، ويخلفه وراءه في ماضٍ منقرض، لن يدعيه أحد كأصل
له.
الفكر ما بعد الثورة النيتشوية/الهيدغرية هو المناداة الأخيرة
عليه ربما، حيثما يُطبق نسيان نسيان الكينونة بآخر سُجفه الشفافة.
فتُفتقد كل الأقانيم التي حركت مخيال الإنسانية عصورًا طويلة،
وأنشأت النصوص، وكتبت فيها وعليها نصوص التناص اللامتناهي. تقترب
الساعة من موت المشهدية، عندما لن يتبقى أحد يؤشر عليها،
يشهدها.
لكن، ونحن في حيز «اقتراب الساعة»، تنهال على مخيلة الفكر كل
خيالات أفكاره السابقة. إنه الحيز الاستثنائي الذي يعيد تكثيف
الحياة المحتضرة في نوع آخر من «الزمن الواقعي»، الذي يبعث قصة
حياة كاملة في لهبة واحدة، وهَّاجة لكنها محكومة بالانطفاء
المطبق.
إذا كانت تجربة الموت، أو مواجهة الموت المتقدم، شكلت بالنسبة
للفكر الهيدغري إمكانية الإمكانيات لدى الكائن، والمعادل الجوهري
للاجوهرية الكائن، فإن حيز الموت هذا، ومن جهة أخرى، يصير هو
المخول بوضع الكائن أمام شرطه الأعلى للمناداة على الكينونة. هذه
العدمية واقعيًّا، هي الطريقة الوحيدة التي تضطر الكينونة للحضور،
دون أن تتخلى عن انسحابها. وبذلك لا يبقى حيز الموت هو حيز لعدمية
مطلقة؛ إذ إن المتحقق من الإمكانيات لا يستمد استمراره من
حضوره العارض والعرضي، بل يستمده مما لم يحققه بعدُ من الإمكانيات.
فاللامتحقق، اللامفكر به بعد، ليس هامشيًّا للفعل، لكنه هو أصل
الفعل؛ إن لحظة تحقق الحب، ليست هي الحب، ولكن هي كذلك بقدر ما
تضاعف التعلق بالحب الذي لم يأتِ بعد. فالمتحقق من الإمكان ليس دليل
نفسه، إلا بقدر ما هو دليل الإمكان عينه، اللامتحقق بعد.
والآن إذا نقَّلنا بصرنا إلى الحيز الآخر، حيز «اقتراب الساعة»،
نواجه ما يجعل الزمن يكف عن الولوج إلى العالم. إنه كف الزمن عن
نفسه، الكف الذي لا يوصف بأنه موت الزمن؛ لأن حادثته لن تجيء
بعدها أية حادثة، تُعلن أو لا تعلن عنه، عن موت، لا يقال عنه كذلك،
إلا بالنسبة لحي آخر يشهده. فالموت هيدغريًّا يجري «داخل» الكائن.
أما حيز «اقتراب الساعة»، فإنه الموت الذي يجري «على» الكائن.
الموت الهيدغري ليس غريبًا عن كل موت. وهو يتصرف بحسب برنامج
اللابرنامج، الذي تنطوي عليه عضوية الكائن؛ أي إن كل من يجيء إلى
الحياة، يجيء إلى الموت كذلك. أما الموت في حيز «اقتراب الساعة»،
فهو يتصرف، للمرة الأولى والأخيرة، وفق القاعدة التي تجيء معه
وتمضي مُضيَّه، وهي: أن كل الأحياء يأتون إلى الموت، ويظلون فيه، ولا
يأتي بعدهم أحياء سواهم. إنه الموت المرآوي الذي لا يشهده أحد؛ لأن
أحدًا لن يكون خارجه.
ومع ذلك فإن حديث حيز «اقتراب الساعة»، لا يعني أن أسطورة قيام
الساعة (دينيًّا) هي التي ستُكتب لها السيطرة، في عصر انجراف التقنية
كليًّا نحو ما يلغيها، نحو التكنولوجيا، كتسريع للتسريع. كما لو أن
تاريخ الميتافيزيقا الغربية يعيد تأكيد جوهره المفارق، كأبولونية
مسيحية، ولكن في صميم محايثة فقدت خيارها المختلف الآخر، ولم يعد
لها ثَمة من محصلة تركيبية أخيرة، سوى لاهوتية التكنولوجيا عينها،
العاجزة عن تسمية نفسها كذلك؛ لأنها لا ترى حولها ما يغايرها.
فاللاهوت كان له وقت داخل زمن الكلام والتسمية، أما اللاهوت الآخر
القادم، تسريع التسريع، فإنه يقع كله خارج التسمية. فاللاهوت
التقليدي طرح، داخل التسمية، الصراع حول من له حق التسمية بالمحايثة
(الحقيقية): الفكر أم الوجود [الكينونة]؟ أما لاهوت ما بعد الحداثة
البعدية [أي ما بعد استراتيجية التسمية] فإنه يلغي تقليدية ذلك
الصراع، لا لصالح إعادة التوفيق، ولا من أجل أية وحدة مفارقة أو
محايثة، بل من أجل إلغاء طرفَي الصراع عينهما، مرة واحدة، وذلك عندما
لن تلقى التسمية ما تُسميه بعد.
ومع ذلك، رغم أن حيز اقتراب الساعة، هو أشبه ما يكون بالتوقيت
الأخير، الذي مهمته أن يضع حدًّا للوقت، لأي توقيت آخر، فإنه يأتي
باللحظة الفريدة لسؤال الأسئلة جميعها: ماذا كانت تعني الساعة؟ أوَلمْ
تكن هناك ساعة، أو ساعات أخرى، قبل اقتراب الساعة؟ كأنما هذه
التي تقترب، لم تعد نفسها تلك التي كانت تجري، تتابع. بمعنى أنه:
هل لا تزال مصطلحات، كالفكر والكينونة والزمان، صالحة لمواجهة
التحول الجديد، الذي لا وصف له، إلا كونه لا شبيه له من بين كل
التحولات التاريخية الأنطولوجية السابقة، التي حفل بها المشروع
الثقافي الغربي، بل المشروع الإنساني ربما، ومن خلال نيابة ذلك
الأول عن الثاني؟
إذا كان العقل، بتسميته الإغريقية العريقة، اللوغوس
logos، الحافلة بالتأويل، قد استقر
أخيرًا، ومنذ نقدية كانط، على انفصال إجرائي في الأقل، عن الفكر في
ذاته، وصار العقل يعني مجرد أداة للفهم، توجه نحو اللامعقول — بعد
— للاقتطاع منه لحظة بعد لحظةٍ مساحات جديدة تضاف إلى مملكة الفهم،
وتغتني بها ما تُسمى بالمعرفة الإنسانية، أفلا يواجه هذا العقل نفسه
في لحظة التحول الفاصل الراهنة، صميم اللامعقول، الباحث عنه، دون
أن يعينه تمامًا تحت هذه الصفة؟ هل هي ذروة المواجهة مع ذروة
اللامعقول، التي قد تجعل العقل نفسه، هو غير ما كان يعرفه عن ذاته
أبدًا في مختلف أحواله السابقة؟
قبل التحول الراهن لم تكن اللامعقولية سوى تعبير عن ضعف في
العقلانية، كما يقول
هيدغر،
٢⋆ مُعرفًا بذلك اللامعقول. وعلى هذا الأساس لا حدود فاصلة
تقوم بينهما. كما لو كانت اللامعقولية نوعًا من العقلانية عينها،
وقد اتضحت صورتها على هذا الشكل، وأنجزت بذلك استقالتها [من
العقلانية]. بمعنى أن العقل عندما يحدد كل ما عداه بأنه خارج
المعقولية، فإن اللامعقول يفقد بذلك استقلاله، بحيث إنه كلما أوغل
العقل في نفي اللامعقول، ساهم أكثر في إخفاء فاعليته، وإطلاق
خطره، تحت أقنعة من المعارف الأخرى، والإنجازات العلموية التي
لا حدود لها. كانت تلك هي الطريقة المثلى التي حكمت علاقة العقل
بالعالم، منذ أن تم إحكام الفصل بين الفكر والكينونة. وتنازل
اللوغوس عن تمثيله للوحدة (الأصلية) بينهما التي اكتشفها فجر
الفلسفة الإغريقية، ثم أضاعتها هذه الفلسفة مع الأفلاطونية، ﺑ
«تأسيس» الانفصام الأزلي بين المحايثة والمفارقة؛ مما حكم على
المشروع الثقافي الغربي بالإيغال في طلب الوحدة، ولكن حسب الاتجاه
المنحرف، وفي غير أمكنتها (الأصلية). فجعل مواسمه تغتني ﺑ
«المعارف» أكثر، وﺑ «
المعرفة» أقل. بالأقنعة بألف لون؛ أما «الوجه»
فإنه موغل في غيابه أكثر، فاقد للمزيد من ملامحه، وذلك كلما حصل
«التقدم» على المزيد من وقائعه وإنجازاته.
بين أن يأتي الشيء ونظامه «الكينوني» معه، أو أن تأتي «فكرته»
عنه فحسب، فقد حسم اللوغوس أمره، منذ الأفلاطونية، واصطف إلى جانب
سيادة «الفكرة» وأولويتها على «شيئها». تلك المشكلة التقليدية التي
ستشق صميم الفلسفة، وتُعرف بثنائية الماهية والوجود، تلك العقدة
الدفينة في صميم الوجدان الغربي، لم يضع لها العلم التجريبي حدًّا،
كما تصور، بعد انهيار الهيمنة اللاهوتية. فالانتقال من سيطرة الواحد
الأحد إلى سيطرة «التجربة» المؤدية إلى اكتشاف القانون الطبيعي،
لم يساعد على إعادة اللحمة إلى اللوغوس الممزق، بل جسَّد هذا التمزق
في «حضارة» التقنية الشمولية. فالكائن لا يفسر الكينونة، بقدر ما
هي «الفكرة» عنهما هي التي تفسِّرهما معًا. وقد أصبح للفكرة/النموذج،
في «الأفلاطونية»، تسمية حداثية، هي القانون. ومع ثورة
المعلوماتية، أصبحت هي «المعلومة» المخزونة آليًّا (حاسوبيًّا)،
والمنتشرة والمبثوثة آليًّا، والمستقبَلة، تخطيفيًّا، في البصري/السمعي.
لا شك أن إعطاء الأولوية إلى الفكرة/المَثل على بقية الوجود،
وجعلها المتحكمة أصلًا فيما تعرفه أو تتعرف إليه، وفيما لا تعرفه،
أي اللامعقول، وذلك عن طريق أقنعته، المصنعة أولًا في اللاهوت ثم
الأدلجة، ثم القولبة أخيرًا … إلخ، هذه الأوالية المسيطرة هي التي
نفَّذت [تكنلجة] الفكرة كمعلومة، ثم كفرط معلوماتية زمكانيًّا في
آن واحد. كما لو أن الأمر لم يعد تأملًا وتعرفًا، كحاله بالنسبة
لتقاليد اللوغوس، بل أصبح الأمر المطلق العصري هو في المضي بسرعة
الضوء نحو المعلومة: في صنع المعلومة، وفي إيصالها وتخزينها
وتفعيلها إلكترونيًّا، حسب أعراف «الزمن الواقعي» المستحدث؛ كأن كل
هذا ليس سوى الإمعان في تغييب الكينونة، إلى درجة تغطية فراغها
الترميزي الذي قد يومئ إليها ولو من بعيد بعيد، بفراغ فراغي فحسب.
باختصار: من أقصى تجريد للفكرة في المُثل أفلاطونيًّا، إلى أقصى
تجريد للمعلومة من حيزها اللغوي، من مهلتها الجسدية التاريخانية
واختزالها إلى ما دون حادثتها، كأدنى من أية حادثة أخرى، تتعلق بها
أو ترمز إليها، نقول، بين الفكرة/المثل (الأفلاطونية)، والمعلومة
المصعَّقة إلكترونيًّا في لازمنية، لاشيئية «الزمن الواقعي»، قطعَ
المشروع الثقافي الغربي رحلة القطيعة الوحيدة التي صنعها وأدمن في
صنعها المتمادية (لاهوتيًّا)، ثم المستفحلة (تقنويًّا)، القطيعة ما بين
العقل كأداة فحسب، وبين الفكر كأداة أيضًا، ولكن كأداة بما يجعلها
أو لا يجعلها كذلك … بين التاريخانية، مفهومة كتحقيب معرفي فحسب،
يكرر عينه تحت تمفصلات اختلافية ظاهرًا، وبين التاريخانية أيضًا،
ولكن مفهومة بحسب نصها الحقيقي، كاختراق مُتمادٍ للتاريخ بدلالته
الشمولية داخل كل صيغة من صيغ التحقيب المعرفي؛ وذلك بما يحقق
التمفصلات المعرفية/الأنطولوجية، داخل المايحدث عينه، والمنسوبة
إليه وحده. إنها تمفصلات اختلافية في بنية التسآل عن «اللماذا»
و«الكيف» في وقت واحد؛ وتؤهل التاريخانية لأن تتأرضن بالتاريخ، قبل
أن تؤرضن التحقيب المعرفي بادعاءات اطراد إنتاجه لها وتملكه
المتكامل منها [التاريخانية]؛ فالتقدم الطولاني وحده لا يمكن أن
يجرف التاريخ عرضانيًّا، ولكنه مهما اشتد فقد يقطعه كحد السيف، إنما
يقطع ضبابًا فحسب. هكذا ينحط تاريخ «الحرث في العدم» صائرًا عدميًّا
خالصًا بدون استثناء، بدون «حرث».
اللوغوس الخالق
عبارة «الحرث في العدم» تؤكد فعل العنف الأول الذي يمارسه
اللوغوس (الفكر)، في مواجهة سديم من العماء الشامل، المداهم، من
أجل أن يطوعه، أو يحمله على الاستجابة إلى فعل الفكر فيه. كأن
ممارسة عنف الفكر على السديم تجعل منه العالم الذي يأوي
الكائن؛ وهو بدوره يجيء بالكينونة إلى العالم، مجيئًا ناقصًا
دائمًا. فإن السديم هو الموت اللاإنساني، المحايد قبل نص الموت
والحياة، عينه. وعندما يشرع الفكر في التعامل معه، فلن يكون
لديه إلا عنفه البدئي، قوته القووية الخالصة لمقاومة السديم،
وانتزاع ما سوف ينشئ نص العالم عنه، دون القدرة على الخلاص منه
نهائيًّا؛ ينشئ نص العالم من مادة السديم، دون أن تظل مادته
تمامًا، وإن حُملت أصلًا بشيء من ترميزه، بحيث يأتي نص العالم كترميز
له ولسواه معًا. يحمل «الأمكنة» التي سيندرج فيها الموت الآخر،
الموت الإنساني، باعتباره ذروة العنف للإمكانية عينها، التي كانت
ذروة الحياة، فعل الحياة، خلق الحياة. فالكائن في العالم يذكِّر
بالكينونة التي لم تأتِ بعد إلى العالم؛ وفي الوقت عينه يمارس عنفه
في العالم بطريقة لا تؤكد انقطاع العالم عن سديمه، بقدر ما تعمر
بالقرب منه، تلك الأمكنة لاستيطان المايحدث، حيثما تُصنع فيها
التاريخانية، كتصريف تَناصِّي تأويلي لنص آخر على نص: الحرث في العدم.
تناص لا يكف عن استرداد الأصل، بطريقة مختلفة دائمًا، تأتي بالأصل
مختلفًا، دون أن يفقد عينه.
ذلك ما يعبِّر عنه نص بارمنيد، الأول النادر في التأويل الهيدغري.
إنه عنف البداية، الذي يأتي بالاضطراب والخطر، لكن ما يأتي بعد هذه
البداية، ليس تطويرها وإنماءها، وإنما تسفيهها والحط منها، بحيث لا
تستطيع الصمود فيما كانت عليه، بل توغل في الإفاضة بالتشوه الذاتي،
في الامتداد والتضخم الفارغ، العددي والكمي؛ في حين أن البداية لم
تكن كذلك، إلا لكونها قوة قووية، منبثقة عن ذاتها، تحقق أولى حادثة
خروج من اللاوجود إلى الوجود. البداية لا تتحقق إلا من حيث إنها
تلك القدرة الفذة، على جلب عنفها الخاص المتميز، من اللاشيء إلى
الشيء. إنه العنف البدئي، سابق على التسمية، كأنه يعلن صامتًا
استحقاق الخروج إلى التاريخ، والانخراط في الزرع والبناء، والقبض
على الحيوان وترويضه. وبارمنيد لا يركن طويلًا إلى ميثولوجيا
البداية، إلا لكونها تذكِّر بالعنف البدئي، ذلك الخروج إلى الوجود،
من لا مكان. وإذا كان لا بد من تحديد أوَّلي لظاهرة البدء، فلا بأس من
الاستئناس بالميثولوجيا. لكن المهم هو هذا التركيز على أن فعل
التكون البدئي هو فعل قووي يفسر نفسه بنفسه. وهو الفعل الذي سيجلب
عليه تطور التاريخ فيما بعد، تاريخ انحطاطه، تحت مسيرة
ازدهاره؛ لأن رحلة النسيان سوف تنطلق مع هذا التطور، من خطواته
الأولى، فالقوة القووية في انبثاقتها البدئية، سوف تخضع للتورية،
والتفريع، والتبديد تحت سلطان اللغة نفسه الذي كان وُلد من رحم
القوة القووية الأولى عينها؛ إذ مع اللغة سوف يُحاصَر «نص» العالم
تحت طائلة «تناص» لفظي دائمًا [استراتيجية التسمية].
لم يكن بارمنيد قادرًا على تصور بداية العالم إلا من خلال
انبثاقات العنف ذاته. فالبحار والأنهار والجبال وكل هذه الأرض،
إنما هي تشكيلات القوة. وبالتالي فإن انبثاقة الكائن الإنساني، وسط
هذا العنف البيئوي المادي المباشر، ستعلن عن نوع آخر من العنف، عنف
القدرة على الكلام، والنطق، والتعيين. فإن ما يحدد هذا الذي يحدث
تحت الحواس، يحتاج إلى تلك الحواس التي تعينه كما هو؛ فالذكاء قدرة
غير مادية، على التقاط المادي وسواه. فلا مفر من مواجهة العالم،
والدخول معه في صراع البناء والتحويل. وإعادة البناء والتحويل
ليست حلقة مفرغة، لكنها هي جوهر البداية الميتية (الأسطورية) التي
لا بد أن تنتشر عنفًا واقعيًّا منظمًا، سوف ينشئ المجتمع والدولة؛
وينهمك في تشكيل ما سوف يُسمى بالحضارة، يصير للعنف اسم التغيير
والتدبير، إنه التوسيط بالأحرى. وهو خلق الوسائط واستخدامها فيما
بينها، وفيما يكوِّن تشكيلات موازية لا حدود لها. يجري ذلك على مستوى
شبكيات الترميزات اللغوية، كدلالات ومفاهيم وأسماء وعلاقات نحوية
بين التلفظات والعبارات، كما يجري على مستوى البناء المادي
والاجتماعي.
منذ البدء كان العنف. صار التقنية، وانتهى إلى ألْينة كل شيء. ذلك
ما حدست به قصيدة «التكوين» عند بارمنيد، وذلك ما تنبَّه له تناص
هيدغر؛ إذ عثر على لفظة الألينة بدلالتها الفعلية، وليس المجازية،
في كلام بارمنيد (
techné). وهو
ينبه إلى أن هذه اللفظة لا تعني فنًّا أو مهنة، وليست كذلك بمعنى
التقنية الحديث. ويقترح هيدغر ترجمتها ﺑ «المعرفة». غير أن ما يقصده
هيدغر بالمعرفة هنا يتجاوز دلالتها المعهودة. فهي النظرة الأولى
والثانية لما يتجاوز العنصر المعنيَّ القائم، «بحيث إن هذا
التجاوز
قد تم وضعه قيد الممارسة بصورة قبْلية، بطرق مختلفة، وحسب سبل
مختلفة، وفي مجالات مختلفة، الأمر الذي يضمن للعنصر حقه النسبي [من
الوجود] وتوصيفه الممكن؛ وبالتالي
تعيُّنه».
٣⋆
والتجاوز هنا يأتي بدلالة الانزياح؛ أي إن التقني كان منذ
البداية، وحسب التصور الإغريقي الأصيل، هو النظرة إلى الشيء بما
يزيحه إلى المختلف. فالحجر مثلًا يصير بيتًا، والحيوان يغدو دابة
للحمل والنقل ثم الجر. إن القوة على التدبر والتدبير، تنقل العالم
من حالة الخام، إلى عالم آخر مختلف، أكثر إتقانًا، فإن التقنية قد
تأتي من الإتقان بالعربية وليس بعيدًا عن أن تكون أصلًا للفظ
الإغريقية techné؛ بالمقابل إن
غير المتقن هو حالة الخام. والتقني ينظر إلى العالم دائمًا كما لو
كان في حال الخام باستمرار، حتى لو كان الخام الحالي يعني المصنوع
والمتقن السابق؛ ذلك أن التدبر يأتي إلى العالم بالانزياح.
فالإتقان لا حدود له، وهو البعد الثالث الحقيقي المفتوح أمام
الإنسان. إنه فعل تعسفي في الأصل، لا يرضى بالمعطى كما هو، بل
يقسره على التحول، إلى توسيط لما سواه. إنه فعل عنفي يحدد جذر
التعامل بين الكائن الذي لا هوية له أصلًا، مع ما صار يُدعى، إجرائيًّا،
بالوسط الخارجي؛ هذا الوسط يتطلب من الكائن أن يغيِّر مما هو عليه
في كل مرة يحقق فيها ما يغايره عما كان عليه، في الحال السابقة.
هذا التطلب التغييري، صار له اسم التربية والتعلم والإعداد
والتمرس. فالعالم الخام الأصلي أصبح غائبًا، طبقة سفلى أركيولوجية،
تغطيها طبقات لا تُحصى من صنع ذلك الكائن، المستقر على عدم البقاء
في حال واحدة. قد يغدو اسم الحضارة عينه هو المصطلح التربوي
المعياري، الكبير، للتدبر والإتقان؛ الحضارة هي العنف الأعظم،
النظامي مقابل العنف غير النظامي، للأقنوم، الذي هو المفتاح لقاموس
المصطلح الإنساني، ألا وهو: الانزياح، اللاهنا بالنسبة للهنا
L’au-delà، اللامطروح بالنسبة
للمطروح. فالانزياح لا يكتفي بالشيء، يستدعي آخره. «بارمنيد»
أنذر/بشر بالاضطراب، بالمضطرب. فالإنسان هو ذلك «المخلوق» الذي خُلق
مضطربًا، و«يخلق» اضطرابه ما دام حيًّا، إلا عندما يواجه موته.
فيواجه حينئذٍ اكتمال ما لا يكتمل، حيثما يغدو الاضطراب بدون أمن،
ولا مستقبل، دفعة واحدة.
الانزياح، عُش الاضطراب الذي هو عش الرغبة، الرغبة المحفوفة
بالقلق والكآبة، والمرشَّحة وحدها لتلقي فجائية الفرح بالمجهول، آنيًّا
من لا جهة. هذا الاحتياطي المتلاطم من أمواج الانفعال، يشحن مخلوق
البداية بهاجس اختراع البدايات في كل شيء غير كائن بعد. إنها
البداية المحمولة طيلة آنات الحياة، حتى النهاية. فلا يُشرع «ظاهر»
بالتشكل، حتى يتشكل ظاهر آخر. والإرادوية المشحونة بدئيًّا بإرادة
البقاء، تشجع المخيلة على اختراع ما يتجاوز البقاء إلى أسباب
البقاء وآفاقه اللامحدودة، بحيث يصير الآخر، ذلك البقاء الآخر الذي
لم تكتبه كل البقاءات السابقة والموازية. فالإرادوية مركَّب العنف
الخالص؛ كأنه المطلق، الباحث دائمًا عن مفرداته، عن النسبيات التي
تؤكده، بقدر ما تتيح له تجاوزها. والانزياح قد يلقى في الإرادوية
إغراءه الكبير في الانتقال من التاريخية الخالصة، إلى
«التاريخانية». هذا الإغراء هو الذي تعرَّضت له براءة البداية أيام
بارمنيد. لقد وعدت بالإله ديونزيوس، كترميز للتحول من براءة
البداية إلى براءة الصيرورة، كبداية مستمرة اختلافيًّا. ولكن
الانزياح سرعان ما استهوته الإرادوية، كمعيارية خالصة سارت به نحو
تقمص الإله آبولون. كما لو كان ذلك تعبيرًا عن استحالة العلاقة
الفورية بين اللامتناهي والمتناهي، أو بالتالي عن ضرورة اصطناع ما
يشكل الواسطة، التي تتدخل ما بين الحدَّين، أولًا بادعائها تمثيل كل
أحد عند الآخر، ثم بانتزاع النيابة عنهما كليهما لنفسها واحتكار
النطق والفعل لها وحدها. إنها الذاتوية التي تحصَّنت بتاريخانية
«التحقيب المعرفي» كاختيار وحيد لتأريخ التاريخ
l’historial، مرسومًا بتحقق المشروع
الثقافي الغربي على أنه هو مشروع الإنسانية الأوحد.
قصيدة «الخَلق»، أو أسطورة الخَلق الأول، أعطاها بارمنيد صياغتها
الأسطورية والفلسفية معًا. وهي أول التدوين للتسميات الكبرى التي ستُشعل
خيال الإنسانية، من الكينونة والعدم، والعنف، والخلق، والواحد
والمتعدد، والتعارض والتطابق. إنها البرنامج الخلوي، الكثيف
البدئي، الذي يكمن في تركيزه كل ما سوف يتحول إلى مفردات الأسطورة
والعقلانية في وقت واحد. ولقد تحكَّم في هذا البرنامج الخلوي مشروع
«الواحد» الذي ينقسم، ويتفردن؛ تبرز الكينونة كأنها سمة تجريدية من
خلال الواحد، الذي لا يأتي إلا منفصلًا منذ الأصل، ومتوزعًا
بين كل ما سوف يُسمى بالموجودات، الكائنات: ظواهر العالم الطبيعي
والسماوي، الإنساني والحيواني، هذه الكثرة الهائلة التي سوف يُخضعها
أرسطو لمنطق التصنيف، إلى أجناس وأنواع وأفراد، يوحده في الأصل
أقنوم لا يتمثل في شيء، بل في كل شيء. بدون الكينونة، ليس هناك هذا
العالم. ومع ذلك إنه الأقنوم الفريد الذي يكاد يكون مرجعًا
للكائنات كلها. وهو الوحيد الذي مرجعه في ذاته. ومع ذلك أيضًا إنه
الواحد الذي يصنع المتعدد، ولا يمكن ضبطه في مفردة، في كيف أو كم
معين. فالكينونة فكر الكون وعالمه في آن. لعل أهم اكتشاف لنيتشه،
ثم لهيدغر، في هذا الصدد، هو أن الكينونة، أو الواحد، لم يكن موضع
انفصام ذاتي بين الوجود والماهية، الظاهر والباطن، العلة والمعلول،
مثلما سوف تؤسسه الأكاديمية الفلسفية مع سقراط وتلميذَيه أفلاطون
وأرسطو. وبالتالي فالميثولوجيا والتراجيديا، كانتا أقرب «تفكر»
معيوش التقطتا القدرة التعبيرية عن لغز «الواحد» الذي يصير تعدديًّا،
كمًّا وكيفًا، دون أن يبدو لهذا الواحد عينه أي كم، أني كيف، في
أصله. ولقد جاءت فلسفة «الأكاديمية» فيما بعد، متأخرة بما يكفي، عن
عصر الميثولوجيا/التراجيديا، لإنشاء
← المعرفة، وتقديمها، كثمرة
ناضجة، لكنها ساقطة من شجرة لا تتذكرها، وإن تذكرتها تنكرت لها.
وابتدأت بذلك رحلة الانفصامية الكبرى، المتنامية، ما بين الفكر
والكينونة، كمصطلحين باردين يغطيان عنف الانفصامية في صميم
الكينونة عينها.
إن قطع المعرفة عن تاريخانيتها الكينونية، دفعها إلى التشبث
بالإرادوية، كتعويض مُتمادٍ عن ابتعادها المتنامي عنها (أي
التاريخانية الكينونية)، وإمعانها في اصطناع ذاتوية مطلقة، كمرجعية
لها، بحيث يتم تصورها وتصويرها كمحل التقاء بين اللامتناهي
والمتناهي؛ بدءًا من عقيدة توسيط الإنسان، ابن الله، بين السماء
والأرض، ثم وصولًا إلى شخصنة الذاتوية الغربية عينها كمشروع وحداني
لتجلي التاريخ، وتحققه زمانيًّا، واكتماله عقلانيًّا كمطلق
ذاته.
لقد تحوَّل عنف الخلق، إلى عنف القولبة. واختُزلت التقنية، من فن
يكتشف عنف المجهول ويتدبره كما لو كان طريقة لمجيء الكينونة
وانسحابها معًا، إلى مجرد تكنولوجيا، تختزل بدورها أعجوبة
الانزياح، كتجوهر للاتجوهر؛ أي إلى مجرد شبكيات من التوسيط الآلي،
التي تقضي في كل عقدة منها، على الفارق النوعي بين الآلة وصورتها،
أو هدفها. هكذا يغدو تاريخ تطور الحي/الإنسي، كما لو كان تاريخًا
متماديًا لقصة «نضج» الكينونة وسقوطها كثمرة واحدة [عجفاء]، تختصر
كل ربيع في موسمها اليتيم.
كيف وقع انفصام ← الواحد؟
كيف انقسم إلى الفكر (العقل)، من جهة، وإلى الكائن من جهة أخرى؟
الجواب الكامن لدى المشروع الثقافي الغربي نفسه، والمعبَّر عنه
أحيانًا نادرة، إلا لدى التيار النيتشوي الهيدغري، الذي جعل ذلك
الجواب بمثابة عمود الرفض في فلسفته، كما يبرز من خلال التأويل
الهيدغري لقصيدة «أصل الخلق» لبارمنيد.
ذلك أن الخلق كان حادثة أولى أشبه بالانفجار، خرج الوجود بفضلها
من اللاكينونة إلى الكينونة. وهي الصورة عينها التي يلجأ إليها
علماء الفضاء المعاصرون لنا من أجل تفسير ولادة الكون، حتى إنها
اتخذت اسمًا لها، الصورة الصوتية للانفجار: بينغ بانغ. لكن ما
يستدعي التأمل على الصعيد الفلسفي الخالص، هو أن حادثة الانتقال من
اللاكون إلى الكون، ارتبطت أصلًا بذلك العنف، الذي جاء فجاءةَ نفسه.
إنها القوة التي لم تكن شيئًا، ثم فجأة تكثفت وتفجرت كائنات لا
تُحصى من عوالم وكواكب، وصولًا إلى كوكب الإنسان والحيوان والنبات
والجماد. قصيدة بارمنيد لم تكن تصورًا بدائيًّا ساذجًا وأسطوريًّا،
بقدر ما هو التصور البدئي. التقطه هيدغر، وتوقف خاصة عند طابع
القوة، العنف، أي تلك القوة المبدعة للكون، ذلك العنف في الخلق
والتكون والتعدد. ولقد كان كذلك عنفًا ينضح إيجابية وتدميرًا في آن
معًا. كان عنفًا مشبعًا ببرامج كامنة، سوف تنتشر عبر كائنات
متمايزة، مما يجعلنا نقول إن «الواحد» البارمنيدي/الإغريقي، هو هذه
القوة المنضوية على مشروع التكوين، الذي هو بدوره يشتمل على الفكر
باعتباره كينونة، وعلى الكينونة باعتبارها فكرًا. منذ القديم، منذ
«قِدم العالم» وُلد العالم كينونيًّا، مشبعًا أصلًا بفكره. وإذا أردنا
تمثيلًا تجريبيًّا على ذلك، قلنا بلغة علم الحياة وتاريخها: إن
الفكر والمادة، هما طريقتان لتلفظ
← الواحد.
ثم إن العنف لم يكن حادثة الخلق الأول وحدها، بل لأنه كان في
البدء، فقد استمر في الصيرورة، ناقلًا نفسه عبر حلقاتها، متجسدًا
تجسيدات كثيرة لا تُعَد ولا تُحصى، خلال أحداث عنف لا تنتهي؛ تُنتج
نماذج الكائنات، وتسيطر على أفعالها تجاه بعضها، وتجعل من قصة
الحياة نفسها، قصص القوى المتصارعة ذاتها، التي تثبت الفكر وتنقضه،
تدعمه وتبدده. كذلك فإنه، وسط هذا الصخب الجبار اللامتناهي في
الصوت والصمت، في الوقت واللاوقت، في التكون والتبعثر، في التعدد
والاختلاف، التكرار، والعود إلى عين الأسباب لتحصيل عين النتائج،
لا مندوحة من أن ينسب كل هذا، كل شيء، إلى هذه الكلمة الكبيرة:
الكينونة. ولذلك سيحتفظ الفكر طيلة تاريخ الفضاء والأرض، اللامسمى
والمسمى، بسؤاله الأصلي: لماذا الكينونة، وليس اللاكينونة، وباللغة
الحسية المباشرة؟ لماذا كان وجود ولم يكن عدم؟
إنه الواحد، وهو موضوع السؤال والجواب معًا. وإن هذا الواحد الذي
يصير كثيرًا، يأخذ الفكر ما بعد السقراطي، المؤسس فيما بعد للفكر
الغربي كله، يأخذ منه سمة العنف/القدرة على التكوين، مع بقائه كشرط
للاتكوين السابق على التكوين، ولكن المنتج له. إنه الواحد الذي لا
يتكاثر إلا كقوة على التكاثر، كعنف في الخلق والتنوع والانتشار حتى
الاضمحلال. وهو عنف السلب الذي سيُفتن به هيغل في أوج المشروع
الثقافي الغربي. ليس بارمنيد مؤسس فكر القوة، ولا هو مشرِّع
الإرادوية المطلقة. لكن تأويله من قِبل أكاديمية أفلاطون، و«منطق»
أرسطو، فرض صيغة وحيدة لإعادة الوحدة (الهوية) إلى الواحد، وذلك عن
طريق إعادة تبرئته من كل هذا: الوجود الآخر، الذي قسَّمه وجزَّأه،
ولوَّنه بالتعددية، والتخالف والتعارض، كأن الواحد لم يعد هو إنتاجه.
فلا بد من غسل يديه من كل ما صنعه، وإعادة انتهاضه ما فوق هذا
السديم الفوضوي. فالواحد يعلو إذن فوق «صنائعه». ومن اندفاعة حادثة
الخلق انفجاريًّا في كل جهة، تُعاد صياغة الأرض السواء، القاع، تحت
«المخلوقات». ويتم، مقابلها، اختيار جهة واحدة، هي الارتفاع؛ فتُصنَّف
الكائنات في درجات (أنواع)، تُخترع لفظتا: الأدنى والأعلى. إذن
يستعاد الواحد، يُنتزع من حمأ المحايثة، ويُشَد فوق الجميع نحو الأعلى
وحده وحيدًا في صمته ولانهائيته. هكذا يُعطى الواحد، جوهريًّا
ماهويًّا، تحت مظلة العبارة الإغريقية العريقة: اللوغوس.
إن الواحد الجوهري هو التناغم بين الحق والخير والجمال، باستقلال
عن السديم (الكاوس) وبمنأًى عنه، وبكامل العنف النموذجي (المعياري)،
الذي يدفع عنه العنف السديمي الكاوسي، في حين أن تأسيس الجدل عند
بارمنيد لا يحسم الانفصال، بل يجعل عنف المواجهة بين المهيمن
والمنبثق، وجوديًّا، كينونيًّا، تأسيسًا للوغوس في صيغة تاريخ
تكويني. وهذا العنف نفسه هو من ضرورة التاريخ في جدليته الكينونية.
«هذه الفجائية، ووحدة الكائن هنا، يتحسسها الإغريق عميقًا، وهما
عندهم ضرورات متعلقة بالكينونة عينها التي تنفتح عليهم، بما هي تَجلٍّ
مهيمن، وتآلف بدئي، وتوازن
عادل».(ص١٦٩) هذه الخاصيات الثلاث،
بتلفظاتها الإغريقية الأصلية، لا يجد لها هيدغر تعبيرات تكافئها في
الألمانية نفسها. كما لو كانت من إشارات تلك الميتافيزيقا اللغزية
الخاصة بذلك العصر الفجري من يقظة الوعي الإنساني على الكائن من
حوله. ومع ذلك فهي تلك الميتافيزيقا عينها التي نأى عنها الإغريق أنفسهم
فيما بعد، مع تطور تاريخهم واقترابهم من النضج والمغيب معًا، في
عهد «الأكاديمية» الأفلاطونية، وهي الميتافيزيقا عينها التي سوف
يسيء فهمَها المشروعُ الغربي طيلة تاريخانيته، ببرنامجها التحقيبي
المعرفي الشهير. فلقد قال الفكر الإغريقي، في وقته الفجري، قال:
أجل! لمشهدية «الظهورية» الوجود الهائلة، في حضورها المسيطر، وفيما
توزعت إليه من الكيانات اللامتناهية للطبيعة وما فيها. ورأى أن
المشهدية تملك استقلالها، من حيث إنها تآلف هائل من القوى
المتحركة، التي لا ينقصها أبدًا ما هو ذاتي الانتظام فيها ولها. وإن
الدخول إلى هذه المشهدية، يعني الانخراط في انتظامها ذاك، والقبول
بقواعد اللعبة فيها. إنه دخول الوعي الذي لا يأتي كغريب من خارج
المشهدية، ولكنه ينبثق من داخل حركيتها بالذات. ذلك هو مفهوم
اللوغوس في براءته الفجرية الأولى، إنه انبثاقة الفكر بذاته،
وبالكينونة في آن. ولم يقف الفكر ضد الكينونة، إلا عندما تخلى عن
محليته البدئية وسط المحايثة عينها. خرج منه ما سوف يُسمى: العقل؛
فجأة وضعت الذات نفسها خارج الكون. وازدهرت سلالات الثنائيات
من هذا الانفصام المريع بين ذات، هي أصلًا في العالم، لكنها «تضع»
نفسها خارجه، مدعية أنها بذلك تعيد تفكره، تعيد تنظيمه بحسب
ملكاتها العقلية الخاصة بها، تصوغه من جديد في شبكات من المفاهيم.
وبذلك يصير العالم عالمين: أحدهما في التصور، والآخر في ذاته.
وتندفع هكذا «الحضارة» في الإمعان والتورط داخل ما هو ذاتي
الانشقاق والتضاد. هذه الحضارة هي الادعاء الأكبر لبرهانية عقل
ضدًّا على الكينونة. ينفصل عنها، ثم يدعي إعادة اللحمة معها، بوسائط
تُفرض عليها من خارج نصوصها الأصلية. إنها الوسائط التي أتت
بالتأويل المنحرف، المؤدي هو عينه إلى تشعب الانحراف، والتطور
دائمًا انحرافيًّا. إنها دعوى التحرر من هذا المهيمن البدئي،
باصطناع مهيمن آخر موازيه، يأوي إليه الحي/الإنسي كبيت في
المنفى، بعد أن فقد بيته في وطن للكينونة عينها.
لقد تعلم المشروع الغربي من المهيمن الكوني عنفه فحسب، فاستلبه
منه، وادعاه لنفسه، وبالغ في الإرادوية، حتى أصبحت لديه التقنية، توسيطًا
متوحشًا لا حدود له، قضى أخيرًا على التمييز الدقيق العبقري، ما بين
الحكمة البدئية القائلة بالتعامل مع التقنية، ولكن بطريقة غير
تقنية، وبين الحكمة الأخرى، المضادة والمستحدثة، والقائلة بالتعامل
مع التقنية بطريقتها وبشروطها الكاملة فحسب. إذن القبول بها؛ وفي
هذه الحالة، لن تتبقى أية شروط أخرى خارجة عنها.
العنف المنتزَع وحده من جدلية الكائن المهيمن، بدون كينونته، بدون
«الضرورات» المنظمة لانتظام أركان محايثته، وجدليته الذاتية، جعل
مبدأ «الحرث في العدم» يصير عدميًّا هو عينه.
لقد فرض على «الحرث» أن يغدو عدميًّا هو عينه، أي من جنس العدم
الذي يشتغل عليه. فارقٌ نوعي هائل بين أن تجاور العنف وأنت داخل
المهيمن الأكبر المسيطر، أن تعيش هيجاناته وهمداته، تحولاته
وصيروراته، ولكن من خلال ما هو ذاتي الانتظام فيه، فارقٌ نوعي هائل
بين أن تكون هكذا، وبين أن تتطلب الفوز بالعنف خارج سياقه
الصيروري، ذاتي الانتظام، فتدعي ترويضه ليخدم كل ما ليس بذاتي
الوسيلة والهدف في سياقه عينه. في هذه الحالة لن يكون ترويض العنف
إلا بالعنف، الذي لن يجترح في نهاية الصراع أية محصلة أخرى،
تأتي مخالفة لطبيعة ذلك الصراع (الأزلي) عينه، في حين أن ترويض
العنف بواسطة العنف، ولكن داخل محايثته، قريبة دائمًا من تخوم
الكينونة، يعطي لهذا الترويض طابع الاختراق، ويُعده بما يؤهله
لاحتمال النجاح أو الفشل. غير أن كلًّا من النجاح والفشل، نسبيان.
وكلٌّ منهما يحمل بَواره معه، «من يمارس العنف، المبدع، الذي يتقدم
فيما لم يُقَل، ويحقق انبثاقًا فيما ليس مفكرًا، والذي يكتسب بالقوة
ما لا يصل ويحصل، ويُظهر ما لم يكن منظورًا، هذا الكائن، الممارس
عنفيًّا، إنما يقوم في المجازفة» [البيت ٣٧١، في الأصل الإغريقي
لقصيدة بارمنيد]. فمن يغامر في التحكم بالكينونة عليه أن يستعد
لتقبل المزيد مما هو متخلع، من التبعثر، واللااستقرارية والفوضى.
بقدر الدنو من ذروة الكائن الهنا [المحايث] التاريخاني، بقدر ما
تفغر الهاوية فمها لاستقبال السقطة المفاجئة للاتاريخاني
le non-historial، بما يمكِّننا من
مجرد القول إنها مسيرة انحراف في الإبهام دون مآل أو
مستقر.
إن هذا التأويل الهيدغري للشعري عند بارمنيد، قد يُحمله أكثر مما
يحتمل من التفريع الترميزي، حتى ينقله إلى صميم الإشكالية التي
تشغل الفيلسوف. لكنه يساعد على توضيح الموقف الأصلي للوقت الفجري،
الإغريقي، من الصحوة الأولى على الكينونة. إلا أنه، ومن جهة أخرى،
فإن هذا النص قد يساعدنا بدورنا على إيضاح المغزى (التاريخاني)
لبداية انحراف المشروع الغربي. فإن معالجة العنف بالعنف، كطريقة
لترويض الكينونة، تتطلب أولًا أن تتحقق هذه العملية الميتافيزيقية
الكبرى في تخوم الكينونة نفسها، وليس بما هو منفصل عنها، وضالع في
التوهم باستخدام ما لا يرجع إليها وحدها، من التصور أو المصطلح، من
النص التاريخاني، وتناصه العقلاني في آن معًا.
ما ينبغي التمسك به من إبداع بارمنيد للميتافيزيقا البدئية، هنا،
هو أن تطويع العنف بالعنف، كرهان متفرد على إمكان اختراق في جوار من تخوم
الكينونة، كبرهان يحتمل النجاح كما الفشل، إنما هو في حد ذاته
الإشارة الوحيدة إلى حضور الكينونة منسحبة، الذي يميز حضورها
المشروع فحسب. أما الادعاء المضاد فهو أن تغدو الكينونة في ذاتها
موضوع العنف، وأن يُنتزع من صميمها «شبه» فكرها، المحايث لها، ويُطرح
خارجيًّا عنها، كقطب مقابل، بل مضاد لها، للكينونة، تلك هي عملية
الانزياح (الانسلابي) الأخطر الذي خضع له مفهوم الفكر، ودوره؛ إذ
تم اختزاله من مرتبة اللوغوس، إلى مرتبة المنطق.
حتى يمكن انتزاع اللوغوس من موطنه البدئي في كنف الكينونة، كان
لا بد من تمييزه عنها بدوره الفريد، من حيث هو فهم للفهم فحسب،
ولكن بتنظيم الفهم أيضًا. من هنا جاء أصل المعيارية، كجنس آخر من
كينونة علوية، أو عقلانوية لا تعارض الأولى فحسب، بل تحاول إنشاء
بديل عنها، ينطلق في البداية موازيًا لها، ثم لا يلبث تدريجيًّا
وخلال تقدمية «التحقيب المعرفي»، حتى يحتل بقعًا من سِجلها الخاص،
إلى اللحظة التي يتم فيها اندماج الخطين (اللوغوس والمنطق)، فيما
لا تعود ثَمة حاجة إلى تذكير البديل بالأصيل فيما بينهما.
لقد وُلدت المعيارية مع تمييز محل أسمى وأرقى لاسم مخترَع حاسم،
تحت تلفظ: الصحة (الصوابية)، كحقيقة، كمعيار للمعرفة. صار لاسم
الحقيقة (أي المعرفة زائد المعيار) أخلاقيتها العلموية، منذ أن قبل
الفكر أن يضمحل إلى مستوى وليده النظامي الصارم: المنطق. متقبلًا
بذلك، ومن وليده بالذات، أن يكون قيِّمًا عليه، أن يحدد له لعبته
كاملة، وقواعدها. فسريعًا ما أصبحت الحقيقة، كتسمية كبرى إطلاقية
للمعرفة، بديلًا عن طلب الكينونة. وسريعًا ما خضع الفكر (الشبه)
المنتزع من موطن الكينونة، منفيًّا تحت ألاعيب المنطق. ولقد اشتغل
«المنطق» على الإمعان في الخلط بين مبدأين: فهم الفهم، ومعيار
الفهم. وفي حين يُرَد المبدأ الأول ← الفهم، بسرعة،
إلى محله البدئي من فكر جوال دائمًا في تخوم الكينونة، فإن المبدأ
الثاني: معيارية الفهم، سوف يمعن أكثر فأكثر في عزل سؤال الحقيقة
عن سؤال الوجود. وبذلك يُحصر نشاط الأول في فن أو كيفية اختراع
قواعد للعبة، دون «معرفة» اللعبة نفسها، أي بإهمال «معرفة» هذه
المعرفة كليًّا، أو بالتغطية عليها تحت بوارق «الحضارة».
أما العنف البدئي فقد صوَّره بارمنيد، كما لو كان يمثل ما هو ذاتي
الجدلية في صميم الكينونة، كما لو كانت هذه الجدلية عينها هي
المحل الأول للوغوس، الذي هو ← فهم الفهم، كمعرفة ضرورية لكل ضرورة،
ولما ليس كذلك أيضًا؛ نقول إن صورة العنف البدئي هذه، قد أضحت هي
نفسها موضوع الترويض: شرعت في تطويع ذاتها والاندماج تحت لفظة
الإرادوية؛ فهي تنقل «معيارية الفهم» من شكلانية معلقة فوق المعرفة
والوجود معًا، إلى فعالية تطويع وتطبيع، تؤسس التاريخانية، ليس وسط
حمأة التاريخ، ولكن خارجًا منه وكبديل عنه، غير موازٍ له، بل ماسحًا
ماحيًا لدلالته وآثاره، في النص كما في التناص عليه،
تمامًا.
ومع ذلك فإن التاريخانية الحقيقية لا يمكنها أن تولد، وأن تُعرف،
إلا داخل/وما بين «السورين» معًا، وهما: هذا التاريخ المغتصَب
كتاريخانية إرادوية خالصة، كسور أول، وهذه التاريخانية الإرادوية
المتملكة من تحقيب معرفي، واقعي، كسور ثانٍ، وشاهد على أحوالها، ملء
تاريخ العالم المباشر، والمتعارف عليه هكذا. لقد أصبح (كل ذلك) هو
المايحدث المهيمن الذي يعادل على الأقل، بفجائيته وشموليته، وهول
مداهمته المحيطية، يعادل صورة المهيمن البدئي الذي داهم عقل العارف
الأول في فجر المعرفة الإغريقي؛ مما يحتم إعادة كتابة قصيدة
«الخلق» البارمنيدية، عصريًّا. يحتم مجيء بارمنيد آخر ليذكِّر بلحظة
فجرية المعرفة، حتى في صميم توقيت الغروب والانسحاب بالكامل. إن
تأويل هيدغر الحداثوي، يندرج في عداد فجرية الغروب: «إن ماهية
كينونة الإنسان، لا تنفتح علينا، إلا عندما نفهمها انطلاقًا من هذه
الضرورة الضرورية للكينونة ذاتها، فإن كائنية الهنا للإنسان
المتصير، شبه الافتراضي إنسانًا
pro-virtuel، هي أنها: كينونة
معروضة كسهم اختراقي، تجعل هيمنة الكينونة تنبثق ظهورًا، وتؤدي في
النهاية إلى انحطام السهم فوق الكينونة.» «فالباعث على الاضطراب
أكثر، (الإنسان)، ليس هو كذلك إلا لكونه ضروريًّا، لا يحرث ولا يرعى
المألوف، إلا ليحقق ثورانًا خارجًا عنه يسمح للمهيمن بفعل
المداهمة.»
إن «باعث الاضطراب» الأعلى، لا يركن إلى غرور النصر، ولا يخضع
لهزيمة. وهو دائم التعرض للمألوف، والمعهود، من أجل أن يأتي
بالشمولي المهيمن، يخرجه من الكمون إلى الظهور. إنه داعية
العيش شاعريًّا في العالم. فهو استثنائي، ودعوته استثنائية. في حين
أن جوقة المنشدين حول قصيدة الخلق، تطالب بإخراج هذا الكائن
(الشيطاني) من كنف المدينة. وهذا يعني أكثر استثنائيةَ «المايحدث»،
ما دام الاختراق وحده هو الذي يجيء بالمايحدث الحقيقي، الذي يجيء
وخطره معه. فالمعهود، المألوف، هو المهيمن مباشرة، هو الفوري
ظاهريًّا، ويحمل معه كل أدوات إقناعه للمنضوين تحت عباءته. أما من
هو أصل كل موجود، كل كائن، فهو المنفي، الذي لا يمكن تخثيره
واختزاله في المعطيات المباشرة. لا يعني هذا أنه ليس هو المباشر،
بل هو الفوري الأصل. لكن تتنازع هذه الفوريةَ صيغُ المعهود التي
تمارس ضروراتها وكأنها ضرورة الكينونة عينها. هذا المايحدث هو حاجب
الحادثة الأصلي، هو الذي لا يمتلك سوى الاسم، الذي لا يرجع إلى
المعهود أبدًا، لكن فضيلته أنه يذكِّر بلا-حدوث المايحدث
الحقيقي، بغيابه. إنه ذلك المهيمن النمطي الذي يبعث على السأم،
الذي بدوره يكشف عدمية المهيمن، ولاجدواه، ويفتح فجأة على نوع آخر
من عدم، من مجهول، يتطلب التخلي عن مختلف عادات الكسل والركون إلى
المعتاد والمكرور والمسطح؛ وفي الوقت عينه يتقدم الكائن في ذلك
المجهول، العدم الآخر، الذي يَعِده بما لم يوجد بعد. يدفعه إلى
«القفزة»، وإلى تبني شرعة الحياة في الخطر، كمعادل للعيش في العالم
شاعريًّا.
فالضجر من المعهود هو الدليل الذي يكشف عن لاجدواه، لامعناه، عن
عدميته. والقلق من انكشاف هذه العدمية المعدمة، يضع الكائن دفعة
واحدة أمام العدم المختلف، أمام الآخر، غير المعروف بعد، غير
المقنَّن والمبرمج، هنا ينبوع القلق الأكبر؛ لأن الكائن يتحول إلى
قصبة فارغة حقًّا من كل الاعتقادات والتقييمات. فجأة، تجد القصبة أن
كل شيء إنما يرجع إليها وحدها. يتوقف كل شيء على قرارها. تلك هي
المجازفة أمام الصدع الذي انشق عنه المعهود، ليفتح على كل ما ليس
له عهد أو مشهدية بعد. تلك هي: المجازفة، باعتبارها تبقى الطريقة
الوحيدة للتعامل مع ← الآخرية. هذه الكينونة: التي مهما تدانت كجسر ممتد عبر السديمية،
فإنها تظل منسحبة، مترددة فوق جسر القدوم عينه. إشارة القدوم هي عينها
إشارة الانسحاب.
كأنما يغدو التعامل مع هذا العدم، هو ذروة التعامل مع الكينونة.
في لحظة الحسم تلك، لا يمكن لسؤال الكينونة ألا يكون هو عينه إلا
سؤال العدم. والفارق الكبير بين مختلف «العدميات» الأخرى التي كان
يعاني «الكائن» من جثمانها على صدره، وهو ينوء بثقل المعهود، الذي
يقسره على تقبله كأنه هو الموجود، الفارق بين الكشف عن لاكينونة
المعهود، وعن عدميته المعدمة، وبين مواجهة المجهول، اللامسمى، الذي
ينفتح ما فوق أطلال المعهود، هو كالفارق بين تشييع الجثمان الميت،
واستقبال مشروع الوليد الذي لم يحضر بعد إلى العالم. إنه العدم
الآخر الواعد بتأرجح الكينونة في تخومه. إنه إشارة الآخرية
المبشرة/المنذرة بالآخر، غير المتكون بعد.
أمام مشهدية الخلق/اللاخلق، العظمى هذه، لا يعود ثَمة دور ناجع
لما يُسمى «عالم» المنطق. لا يمكن لإشارة السالب أن تغطي دلالة
العدم. كما أن الكائن لا تستنفده إشارة الموجب أو الإيجابي وحده،
وهذا ما عنيناه عندما ميزنا بين الفكر والعقل، كما تعامل بهما، معهما،
تاريخ الفلسفة الغربية. وها هو هيدغر يقول: «إن قوة الفاهمة
[العقل] نراها تنحطم في مجال السؤال المتعلق بالعدم والكينونة، وهو
كذلك مصير هيمنة المنطق داخل الفلسفة الذي يواجه حسمه؛ ذلك أن فكرة
«المنطق» عينها تنحل في إعصار تسآل أكثر أصالة.»
فالفكر هو المؤهل وحده، ليس لكي يفهم سلبًا أو إيجابًا دلالة
العدم كينونيًّا، بل لكي يحتضن التسآل بعنفيته البدئية، ما فوق
السلب والإيجاب العاديين، المبذولين عبر ممارسة عقلانوية علموية
رائجة، هذه الممارسة لا تستطيع أصلًا أن تُقرَّ بوجود ما للعدم. كيف
الكلام عقلانيًّا علميًّا عما لا وجود له؟ إن قانون عدم التناقض هو
الحاكم بأمره في مثل هذه الأسئلة؛ ولذلك لم يكن ثَمة دلالة منطقية
للسؤال: لماذا هناك كينونة، وليس عدم؟ وكان أمرًا طبيعيًّا أن يوصف
هذا السؤال بالعبث، واللامعنى. لكنه مع الطرح الهيدغري، يرتدُّ هذا
السؤال إلى موضوعه الأصلي. إنه الفكر الذي يلتحم، هذه المرة،
كليًّا، ومن الداخل، مع ذاته، كسؤال ذاته، عن الآخر، الذي يكوِّنه هو،
ويتكون به. و«الآخر» ليس سوى الكينونة بالنسبة للفكر، بحيث إن كلًّا
من الفكر والكينونة هو الآخر بطريقة الذات، وهو الذات بطريقة
الآخر؛ لكن دون أن نسقط في شراك أية جدلية عرَضية أو مفهومية. فقد
يُغرينا أحيانًا تصور الذات كمحل سهل لإقامة مثل هذه الأفاهيم، شرط
أن يأتي هذا المحل، هذه المرة، خاليًا من أية جهوية. فهو كالمحل
اللاهندسي، السابق على التشكيل-الشكل، الذي لا بد من اختراع
تصوره، من أجل مبارحته فوريًّا نحو إشادة الهندسة، كعلم.
في هذه اللحظة التي وصلنا إليها توًّا، يمكن إضافة تناص آخروي على
نص قصيدة الخلق، لبارمنيد، قد يكون مما لم يفكر به هيدغريًّا بعد.
وهو قولنا: إن قصيدة الخلق البارمنيدية توحي بتناص أن الخلق هو
بدون خالق؛ ذلك أن المهيمن المسيطر، هذا الظهور الممعن في لاتناهي
الظهور، والذي لا فكاك من حضوره، يكاد يصير التجسيد المادي الذي لا
بدء له ولا نهاية. ومع ذلك فهو اللوغوس عينه، ليس وعيًا لذاته، أو
وعيًا آخر لذاته، كما هو الجدل الهيغلي؛ بل هو ذلك المحل القبلي
التجريدي، الذي يسع كل شيء، وفي الآن عينه ليس هو شيئًا.
وبالتالي فإن انبثاق تلفظات من مثل: الفكر، والعقل والمادة، يأتي
كتفريعات أو مداخل اصطلاحية دائمًا، تناوش محيطه، غير المحاط به
أبدًا. تلك كانت المهمة الأصعب والأشق بالنسبة لسؤال الفلسفة، بعد
اختتام تاريخ الفلسفة، التحقيبي المعرفي، تكمن في الطريقة التي يمكن
بواسطتها انتزاع ما يحاول المصطلح الفلسفي التاريخاني أن يقوله عما
يخصه وحده، وكأنه هو ما يخص ما لا يقوله المصطلح عينه. إذ، بعد أن
تم تفكيك الذات الغربوية مع الشروع في تصحيح الحداثة، فإنه لم يعد
مقبولًا من الذات، التشبث بمصطلحها التقليدي كمركز يعين الجهوية
أنطولوجيًّا، دون أن يفصح عن جهويته الخاصة به، بل لهدف إخفاء هذه
الجهوية دائمًا؛ بعد أن انتقل اللغز من مركزية الذات إلى عمق العالم
عينه، باعتباره هو مساحة اللغز ومستقبله المقابل لأقدميته، لم يعد
يمكن البحث عن محل للمصطلح كمرجع، بقدر ما يكون مجرد محل فحسب.
ولذلك وصفناه أنه محل فارغ أصلًا من كل يقين، وبالتالي ممتنع على
المعيارية وعلى الجهوية معًا. لكنه هو أفق كل فلسفة تتنصل من
تعقيد مشهديات معينة عن الصيرورة، طامحة إلى إعادة اكتشاف ملامح
أخرى مجهولة عن براءتها.
هكذا يمكن القول إنه لم تتحقق القطيعة بين الفكر والوجود
عبثًا؛ ذلك أنه ما دام الفكر هو طريقته في الكينونة، والكينونة هي
طريقتها في الفكر، فإنه لا يمكن إدخال أي اصطلاح طفيلي على سياق
الاثنين كواحد، ولا على سياق الواحد كاثنين. أما عندما يُشرع في حفر
الهوة بينهما، فهذا يعني أن ثَمة مصطلحًا غريبًا لا يمتُّ لأحدهما، ولا
لهما معًا، قد جرى استنباته من ظلام تلك الهوة عينها القائمة
بينهما، وأن هذا المصطلح سوف يفاقم من اختراع وظيفة له، تدعي وجود
غربة قبلية بين الفكر والوجود؛ وبالتالي تتبرع بتقديم خدماتها كجسر
من الترجمة والتأويل بين لغتيهما، التي صارت قسرًا عنها لغتين،
تختلفان سجلًّا وتدوينًا، أو تلفظًا وتركيبًا. ومنذ ذاك، صار العالم
عالمين، دشَّنهما أفلاطون. هنالك الكهف، وهناك ما يتجاوزه علوًّا
عاليًا مستمرًّا. دفعةً واحدة انقلب الحق والخير والجمال إلى مجرد
معايير. ما إن دخل الخطأ إلى العبارة، حتى أصبح دخول الشر إلى
الفعل، والقبح إلى الذوق، عمليات رديفة. صار الفكر معيارًا في
جوهره؛ إنه محل تصحيح الخطأ: «المنطق»، وتقويم الفعل: «الأخلاق»،
وتبديع الحسن: «الخلق الجمالي». إلا أن التصحيح والتقويم والتبديع،
ليست أفعالًا مما لم يفكر به بعد، ولكن مما ينبغي و«يجب» و«يلزم»
التفكير بها، بل الاهتداء بها، وإليها وحدها. متى أمكن اختلاق
القيم؟ عندما لم يعد يمكن للفكر أن يفكر بطريقة الكينونة، وعندما
لم تعد الكينونة كائنةً منسحبة، بطريقة الفكر وحده.
انتهت قصيدة «الخلق»، إلى تقنية الاختلاق.
في «قصيدة الخلق» لم يكن ثَمة مجال للحديث عن التقنية؛ ذلك أن
الخلقي يجيء تقنية، خَلقيًّا. ولكن ما إن تتغير مشهدية الكائن الكلي
المسيطر المهيمن، حيثما انبثاق الكينوني على شكل قوة قووية، إلى
مشهدية مفردِنة ﻟ «العناصر»، حتى يختفي الخلقي كقوة قووية، ويحتل
المشهديةَ قانونُ الصراع/الاصطراع ما بين العناصر. فإن البحار
والجبال والبراكين والأعاصير تفرض تفاوت أشكالها وأحجامها
ومؤثراتها. وبالتالي فالمهيمن يتعدد، والسلطان الشمولي تغدو له
هجومات متباينة، تتخذ تكوينات سوف يطلق عليها اسم الطبيعة. ومع هذه
التسمية ينسل العقل من تلك الطبيعة، ويقف خارج إطارها، كما لو
لم يكن أحد فعلائها، وعناصرها المؤثرين الحاسمين. هذا الوضع خارج
المشهدية يفتح هاوية بين النظر والمنظر. وعند ذلك يتحول الإحساس
إلى ← حاكم. وبدلًا من
القول: إنني أحمل الشيء، سأقول: يدي تحمل الشيء. عيني ترى المشهد.
فالتقني ينفصل إذن عن محل الإحساس (الجسد/الأنا) إلى موضوع
للإحساس، وطريقة أو آلية إيصال له. هنا يتدخل المنطقي: وأول
إجراءات هذا التدخل هو التمييز بين حكم للوجود، وحكم آخر للقيمة.
فالمنطقي لا يمكنه أن يعمل إلا عندما يختلق مثل هذا الفصل. ولقد
تورَّط في الفصل، منذ أن حقق انزياحه الأول من داخل المشهدية عينها،
إلى خارج عنها. من الإحساس مع تشكلاتها كواحد من هذه التشكلات
عينها، إلى مجرد مراقب، محايد، واقف متسمر خارج اللعبة كلها، لكنه
أعطى لذاته وظيفة الرقيب على وقائعها.
قد يكون بارمنيد غير عابئ في الأصل بالتمييز بين المُشاهد
والمُعاني، ليس عن وعي فحسب بوحدة الواحد المسيطر، أي الظهور، هذا
الحضور الفوري لمشهدية العالم، وأنت في زحمتها بالذات، بل ربما عن
نقص في درجة ونوعية التجريد في بداية التفلسف، كما يحلو
للتاريخانيين تفسير «نمو» الوظيفة المنطقية. لكن هذا اللاوعي قد
يحدد فجرية البدء، لا كنقص ينتظر نموًّا وإنضاجًا، بل كبدء بدئي؛ لا
يمكنه أن يكون ويستمر إلا كذلك. بالمقابل، إن المنطقي حاذر، منذ
مخترعه الأول أرسطو، ألا يُقر بتطفليته على العبارة ما إن أعطى ثَمة
أولوية أنطولوجية لحكم الوجود على حكم القيمة، ظنًّا منه أنه قد يلتف
بذلك على فداحة الفصم الذي أحدثه في الوحدة الكينونية السابقة على
أية محاكمة. غير أن القول بحكمين؛ أحدهما للوجود، وآخر للقيمة، هو
استعارة لفظية ليس إلا؛ إذ إن الخروج إلى تلفظ الحكم يكفي لإلغاء
التمييز بين موضوع للوجود، وآخر للقيمة. فإن حكم الوجود، هو بالذات
حكم قيمة. حين أقول رأيت زيدًا، فإنني أمنح تقرير الواقع هذا
تقييمًا، يحمل على الحقيقة كقيمة، بحيث لا تخلو أية عبارة من
الإخبار، وكل إخبار يتضمن تقريرًا، إيجابًا أو سلبًا أو
احتمالًا.
لا يثبت هذا التمعين أولوية أو تضمنية كل قول للمعياري، بل
بالعكس يشد المعياري إلى محل القول عينه. وهذا يردنا إلى مرجعية
قصيدة الخلق، باعتبارها طريقة في عرض الخلق لخلقه، وليست
تصويرًا له. إلا أن ما فعله المنطقي، متأخرًا عن اللحظة الفجرية
الإغريقية، هو أنه اختلق للمعياري حيزًا خارجيًّا عن الخلقي غائبًا
عينه، أي عن كل ما هو موجود. ولما لم يكن ثَمة حيز له، لآخر، ما عدا
حيز الخلقي عينه، فقد اخترع المنطقي إشكالية الفراغ، وأحابيل
تغطيته بالممتلئ، الذي لم يعثر عليه إلا لدى الخلقي الأساسي عينه،
فاغتصبه لذاته وأحلَّه فيما ليس بحيز، ولا حيز له البتة. ومع ذلك
اختار المشروع الأفلاطوني أن يكون هذا: اللاحيز، موطنًا دائمًا له.
ارتضى «القول» ألا يكون قول ذاته أبدًا. صار اللغوي عينه حكمًا،
بانتظار أن ينظمه أرسطو منطقًا.
وبعد، فلن يستطيع المنطقي أن يفترض وظيفته ويفرضها إلا باختلاق
الحكم، وتطفله على الوجود، كيما يختلق مقابلًا له، اسمه: القيمة.
فما هو ذلك الأقنوم الذي ليس هو من الوجود، ومع ذلك يختلق له حيزًا
ويتموضع فيه موازيًا للوجود، منافسًا له، ومفتعلًا مثالًا له،
فوقه؛ كل «قيمته» أنه ليس من الوجود، ولا من حيزه؟
هنا حدث الاختلاط الأعظم: حين أفرغ محل الوجود من الوجود عينه،
فقد جيء باسم آخر هو الفكر محدودًا بوظيفة العقل، لكي يملأ الفراغ.
ومنذ أن تم هذا الاختلاط الأعظم لم يعد يمكن ممارسة التفكير
كتفكير، بل صار التقييم هو البديل. تارة يجري الانتماء للفكر كسبيل
لنفي الوجود أو استصغاره؛ وتارة أخرى يجري الاحتفاء بالوجود
كتعددية في الأسماء، فالتة وعبثية في الحالين؛ فالوجودي لم يعد
يجلس في حيزه، صار هو نفسه محل قيم سالبة، أو مطاردة من أمكنتها
باستمرار. والفكري أُعطي له مكانُ الفراغ عينه. باختصار حين يحل
التقييم مكان التفكير، يخرج كلٌّ من الفكر والوجود عن علاقتهما
الفورية بالكينونة؛ منذ أن أصبح الفكر (= العقل)، نوعًا من التفلسف
حول المعيارية، لم يعد يستطيع الخطاب الفلسفي أن يدافع عما يفصله
عن الديني، باعتبار أن الديني هو المحل الأخير للمطلق القيمي.
وبالتالي إن عجز الفلسفي أمام الديني سابقًا، سوف يسلمه إلى حال
العجز أمام العلمي لاحقًا، اعتبارًا من عصر الحداثة. فلا غرابة أن
يفتقد الوعي طيلة تاريخ الحداثة، شعور الاختلاف بين المعيارية
والفكر، حتى بات من السهل بعد الانخراط كليًّا في المعيارية، أن
يتحقق الانعطاف من التقنية إلى التكنولوجيا. وكلا الممارستين،
سوف تدعيان الفكر، ما دام الفكر، بما يرجع إليه وحده، لم يعد
مطلبًا لأحد. ولم يعد الفكر قادرًا على إسماع اعتراضه على
مستخدميه، إلى أحد.
في حين أنه، في قصيدة الخلق، يظهر الفكر محايثًا كضرورة، لضرورات
المايحدث عينها. يتوجد الفكر باعتباره سؤال التدبر، إزاء هذا
المهيمن المسيطر: كيف يمكن تدبر هذا «الظهور» الشامل المداهم في كل
مكان؟ فكل ما يظهر يحمل عنفه، يفرض عنفه؛ حتى يبدو الوجود هو هذا
العنف العاري، الخام. فالظهور ليس حالة سكونية، العالم لا يقع على
مسافة. وإشارة الوعي الأولى، ليست انفصالًا متعاليًا، لكنها انخراط
فعلي في صميم المايحدث الرهيب الشامل الكلي. إنها إشارة التدبر
الأول لواقع الحال. فالغريق تحت أمواج الخضم العاتية لا يمتلك
جناحين يتيحان له الارتفاع فوق الصخب المداهم. مولد الفكر في لحظة
انفجار الخلق، كما يلي: إنه، وهو من فعل الخلق هذا، يريد الفكر أن
يتدبر أمره فيه ومنه.
إن التدبر — كجذر أنطولوجي لمصطلح التقنية — هو جواب العنف
المنظم على تحدي العنف البدئي بما هو؛ وقد تأتي الأسطورة سابقة على
الفكر لتعطي إشارة الحل ترميزيًّا. ذلك هو عمق السر الذي تحمله نار
برومثيوس. إنه اختراع أداة التدبر: النار، لسؤال التدبر المطلق.
يصير الفكر في هذه اللحظة من عنف الخلق، جسديًّا تمامًا. إنه تدبر
الدفء، النار، ردًّا على عنف الظهور، كصقيع وزمهرير. يولد الفكر
جسديًّا خالصًا. وتلك الصفة هي الإناسة التاريخانية الحقيقية التي
تؤسس لغز الكائن في العالم. وكلما جرى الافتئات على التاريخانية
بحسب معناها البدئي، كلما جرى إعاقة وتعطيل هذا اللغز عن الحضور،
وبناء صيغة الكائن في العالم، من داخلها، وبشغفها وحده. بناؤه
جسديًّا بما يكسبه تمثال: الحي/الإنسي. فإنه يجري الافتئات على
التاريخانية [الأصلية] باختراع تاريخانيات من النوع المضاد. وذلك
كما يلي: إذا كان الفكر يولد جسديًّا أولًا، إلا أن النار تأتي من
خارج الجسد. صحيح أن الجسدي هو الدفء أصلًا، هو دمه الحار، صانع
الدفء، الذي يحميه. أي كما لو كانت النار الآتية من خارج الجسد،
ذات أصل في الجسد عينه. من هنا: فإن كل تقنية ستُبتكر، ستحتذي مثال
النار: كل ما يلبي حاجة الجسد، له أصل في الجسد عينه. هذه
المعادلة لا يصيبها الخلل إلا إذا ضاع التناسب بين ما تصنعه
التقنية، وبين ما هو مغروس في الجسد أصلًا كحاجة أو رغبة. وذلك هو
أساس التناقض الذي سينمو تدريجيًّا بين التقنية والتكنولوجيا؛ إذ إن
هذه الثانية سوف تفاقم من استقلالها عن الجسدي، وتنشئ جسدًا آخر
مستقلًّا، يبدأ موازيًا للجسد الجسدي، إلى أن يغدو جسدًا لا جسديًّا؛
لهذا لا يُكتب له الاستمرار إلا في الإمعان بإلغاء الأول.
التقنية هي جواب الفكر جسديًّا على تحدي العنف المطلق المهيمن،
على هذا الظهور الوحشي كليًّا؛ فالإنسي يخترق الوحشي. وكلما اخترقه،
زاد انسحاب الوحشي أكثر. وخلال هذه العملية التاريخانية
اللامتناهية يحدث، أو قد يقع اختلاط الأدوار. بمعنى أن شكلًا معينًا
من الاختراق قد يستحوذ على كامل العملية، على الاختراق كله، ويتحول
إلى نموذج وحيد. وعندئذٍ تتعرض التاريخانية إلى رفض ← التاريخ،
بالتعالي فوقه، أو الاستيلاء عليه، وادعاء تمثيله من خلال نمذجة
معرفية أحادية؛ ينقلب الفكر إلى عقلانوية. ينحل التدبر في
«التدبير» وحيد الخلية. تموت التقنية في تكنولوجيا. لن تكون
التكنولوجيا بالنسبة للتقنية سوى إحدى الثمرات المتخثرة التي تدعي
اختصار تاريخ الشجرة، من جذورها إلى جذعها، إلى مواسمها كلها. إن
افتراض هذا النموذج من التطور هو الذي أتاح نمطًا من التحقيب
المعرفي، وحيد الخلية والاتجاه. وقد جاء التطور إفقارًا وليس إغناءً
له. فالبدئي الذي كان موضوع قصيدة الخلق، ليس هو الابتدائي
المتخلف، بل إن البدئي كان الأكثف والأغنى؛ لأنه كان يفتح على
مختلف الأبعاد المهولة التي تمثلها جسامة المهيمن الكلي دون إخفاء
أو اختزال لغناه باللامحدود.
تلك كانت المواجهة المطلقة مع العنف. عنف الظهور يصير عنف
الحضور؛ أي ذلك المتبقي من اللامتناهي ما بعد تحويله إلى خارطة من
الأبعاد والآفاق العولمية المهندسة.
كانت تلك المواجهة الفريدة تؤسِّس التاريخانية المليئة العرضانية،
التي ما لبثت أن تقهقرت، تضاءلت وانحصرت في خط طولاني لمعنى
التقدم. انحلت إلى تحقيب معرفي؛ يفترض بدايته باكتشاف النار، ويدشن
نهايته بسيطرة شمولية للتكنولوجيا، كما لو كانت كمال التاريخ،
يوطوبيا اتحاد العقل بالواقع، في حين أن ما حدث وقت انفجار الخلق
الأول، كان هو وقت المواجهة المرعبة مع المهيمن المسيطر؛ ذلك
الحضور الوجودي الغُفل من أية تسمية للامتناهي؛ إنه الاستبداد في
ظهوره، وبنيانه الذاتي: ما حدث لم يكن تطورًا للبدئي، لدلالة هذه
المواجهة، والشروع في مشاركتها اللغزية مع اللغز الأعظم، بل كان
إمعانًا في تشويه العظمة وتحويلها إلى مجرد ضخامة/سيطرة، أي
امتدادات في العدد وفي الكم اللامحدود. تلك هي «حضارة الأدواتية»؛
تهرب من المواجهة البدئية مع المهيمن المسيطر، إلى التراكم العددي.
تلجأ إلى التكرار والبرهان، بدل الفكر والرهان، بل فرارًا من
التاريخ الحقيقي، المنشئ لتاريخانيته التي تحفظ أوقات تلك
المواجهة، وكان من المفترض أن ينحدر منها تاريخ كل البناء الإنساني
فيما بعد، بما يجعل البدئي حاضرًا في كل ما يتبعه، ويعلن انتهاءً
خالصًا إليه.
ليس حضور البدئي في مستقبله، في كل لحظات هذا المستقبل، إلا
نوعًا من تردد اللامفكر به بعد، بطريقة مختلفة، في كل مرة، تجاه
سؤال مختلف. إنه لا يأتي بالكينونة إلى الزمان، كما حاول هيدغر أن
يبرر العلاقة بينهما، بل هو الزمن الذي يبني تقدمه، مستقبله، بما
يؤهله لأن يغدو زمنًا للكينونة عينها. إنه يطمح، على الأقل، أن
ينشئ المسارح الاستثنائية التي تتيح هذا الحضور المميز للكينونة،
من حيث إنه لا يأتي إلا وهو منسحب، وإلا لما أتى أبدًا.
فلقد كان ذلك إيذانًا واعدًا بمشروع الفكر بما يرجع إليه وحده، لو
أن لحظة الخلق، ومواجهة الخلق لذاته في ذلك الفجر الإنساني البدئي،
استطاعت أن تتحكم فيما بعد، في صيرورة المايحدث الآتي، مشكِّلة فيها
ما يحقق، ما يحفظ: «براءة الصيرورة»، عبر كل المنعطفات الشاقة
القادمة، التي ستبني ما سيُسمَّى: تاريخ التقدم. فلعل الفكر قد كان
يعد الإنسان بالنار الحقيقية المستمرة، بذلك العنف، المقدس المضاد،
الذي يسمح له بالعيش والسكن في كنف الكينونة، ويسمح للكينونة أن
تفارق غربتها الإطلاقية، أو أن تلج الزمان بطريقتها الخاصة، دون أن
تغدو أسيرة لأوقاته وتحديداته.
لكن تطور البدئي مستقبلًا بُني على نسيان البدئي. كما لو أنه فارق
نهائيًّا لحظة مواجهة العظمة الأولى للمهيمن المسيطر، لهذا الشمولي
ذي الحضور الطاغي؛ فانطلقت هكذا تاريخانية أخرى، دون تاريخها
الحقيقي. تم عزل الحقيقة عن حاملها الأنطولوجي. واستعيض عنه
بمعيارية، مشتقة من أقْنمة الصحة المنطقية، كمرحلة أولى، مع المدرسة
السقراطية، ثم بمعيارية المطلق المفارق خلال الحقبة الدينية، ثم
عودة إلى المعيارية المنطقية عن طريق المعرفة العلمية المختبرية.
لقد قامت التاريخانية على أساس التحقيب المعرفي المتداول، كأساس
مُوازٍ لغياب، أو لغيبوبة التاريخ الأصلي. تمت بذلك فردنة كل حقبة
[معرفية] حسب نوع التصورات التي انعكست تعدديةً كمية لا محدودة
بالأدوات. لم يستطع «البدئي» أن يفرض بداءته في كل منعطف جاء بعده.
وإن كان كل منعطف يأتي حاملًا نذير قطيعة باسم الحقيقة، فقد تتمكن
من التلويح بعودة للبديء؛ لكن سرعان ما يعجز البديء عن
فرض لغته الخاصة في ساحة تستحوذ عليها آلية إنتاج المصطلح دائمًا،
كتعويض ممسوخ عن غياب الفكر بما يرجع إليه وحده. حيثما تنتصر
استراتيجية التسمية، على التسمية بدون استراتيجية.
في حال تجلي الحضور الطاغي لظهور العالم، في حال البدئي، لا
ينفصل الإنسان عن المشهدية المسيطرة، بل تشمله المشهدية، وتقدمه
كما تقدم البحر والأرض والحيوانات. إنه ليس وعيًا خارج الموضوع،
لكنه هو ما تحتويه ذاتُ مشهدية العنف المادي الميتافيزيقي، وإن كان
عليه هو أن يعين هذه المشهدية في الآن ذاته، من داخلها، وهو في
صميمها. إنه الإنسان الذي يفصح عن فعالياته، من الكلام، والفهم،
والانفعال، والبناء، كما هو البحر المضطرب بالموج والريح والعمق
الموَّار بالحيوات المائية، كما هو البر مكوَّنًا بتضاريسه، وأحداث
أنواعه وعناصره، كما هي الحيوانات بأشكالها ومسالكها المتباينة. إن
مشخصات المشهدية، بما فيها الإنسان نفسه، مأخوذة جميعها بعنف واحد
من الحضور الطاغي، من الظهور الحاسم، غير المشروط إلا بظهوره ذاك.
والاختلاف الوحيد في لحظة البديء تلك، بين العنفين، هو أن الأول
يطغى على الإنسان من حوله من خارجه. يحدده، فيكابده هذا ويحرضه،
بينما العنف الآخر الذي يجتاحه من داخله، فإنه يتأتى عليه، من حيث
إنه هو الكائن عينه، الذي عليه أن يؤديه ويكتشفه.
في لحظة البديء، عند ولادة التاريخ، كل شيء يظهر ويحضر بجسده
واسمه، دون أي تمايز بين الدال والمدلول فيه. فالبَر بَر، والبحر بحر،
والحيوان حيوان، والإنسان إنسان. هكذا يُفردن الإنسان عنف الحضور
بممارسة التسمية. يجزئ الحضور الكلي إلى عناصر وأشياء وكائنات. إن
المشهدية ينفرط عقدها، والإنسان ولسانه يُدخلان نظام عقد جديدًا
عليها. إن التسمية، وإدخال العلاقات بين الأسماء، يحقق أول إنجازات
اللوغوس، الذي سرعان ما يجعله يدعي وظيفة لذاته تناظر الخلق نفسه.
صحيح أن «عنف» الإنسان يتجلى في لحظة البديء، باختراق العنف الآخر
المسيطر، بما ينشئه عنه من أسماء/تصورات، كما لو أنه ينحت عالمًا
آخر موازيًا يستريح إليه، بدل العالم الآخر المداهم، الغريب، لكنه
هو الاختراق الذي يقطع الصلة بين عالم أهلي، وآخر بري مجهول مداهم.
ذلك هو «الانقلاب الأفلاطوني»: إن المصنوع يحل محل المجهول.
والمصنوع يصير «الكهف الجديد» الذي تطلبه تلك النفس المعذبة بشوق
إلى ملاقاة مطلقها الخاص، لعله يحميها من مواجهة المطلق الحقيقي،
عنف الظهور خارج كل كهف.
لم يأتِ أفلاطون بتحرير من عنف الظاهر، إلا باختلاق سكونية عالم
من مُثل، تنعكس أشباحًا في كهفه الأزلي المتجدد. تلك هي أُولى تشكلات
المعيارية التي استطاعت أن تعزل الفكر البديء، بما هو طريقة في
تقبل ضرورات العالم، والتعامل معها، كمعطيات حقيقية وحدها؛ فتدفعه
هذه التشكيلات إلى الاستسلام إلى عالم من تصورات، لا تملك سوى
أسمائها، وقد أمست مقطوعة عن مسمياتها الفعلية. هكذا تحققت مضاعفة
عالم الظهور المهيمن، بضروراته الفورية، بعالم يفتح على خلائه
فحسب. يمكن أن تعمره كائنات طيفية باسم استراتيجية ما في التسمية،
قائمة أساسًا على قاعدة تشفيف المسميات، إلى درجة اضمحلالها
النهائي، إنها قاعدة ازدواج العالم بنقيضه: تارة بالمثالية
الشبحية، مع الأفلاطونية، وتارة ثانية باللاهوتية، وتارة ثالثة
بالأيديولوجيا الطوباوية اجتماعيًّا، تاريخانيًّا، المقترنة بالتحقيب
المعرفي علمويًّا تقدميًّا؛ فقد جاءت هذه القاعدة بديلًا، نفيًا
متماديًا لاستمرارية البديء في قصيدة الخلق، لاغيًا سلفًا كل مشروع
متابعة له، يكون عنوانها: «خلق» العالم كقصيدة.
لكن هل يمكن عيش العالم شعريًّا، حقًّا، بدلًا من مضاعفة العالم
بما ليس هو عالمًا: ألا يمكن مواجهة (إشكالية) العالم على أساس أنه
هو المعطى الوحيد الذي يقدم لاتناهيه في تناهيه؟ فهو المعطى
الفوري، الوحيد، الذي يحمل في طيه اللامعطى أبدًا. كما يحلو لأحد
أهم تلامذة هوسرل وهيدغر معًا، أن يحل مشكلة العالم كثنائية بين
أهل الكهف، وأهل المثل، وهو إيوجين فينك، حتى إنه قد يمكن قلب
العبارة والقول، مع فينك دائمًا، العالم هو اللامعطى، الذي
لتعارضه، يكون المعطى. فتكون الفلسفة هي «مجرد» فلسفة العالم.
يتحقق ذلك عندما يبلغ نضج الفلسفة حد القدرة على منع ذاتها والعالم
معها من مضاعفتها بغير ما هما عليه، ما كانا عليه قبلها، وما
يصيران إليه بعدها، عندئذٍ فقط يصبح التساؤل: هل إن الفلسفة لا
يمكنها أن تقدم العالم إلا إذا أعادت خلقه شعريًّا؟ يبقى أن نسأل بارمنيد: هل حكى
مستقبل العالم كله، في لحظة خلقه، في البديء وحده،
كما لو كان نهايته؟
هذا البديء الذي يأتي في بداية العالم، كما لو كان هو قِدمه كله.
ومع ذلك يظل يأتي دائمًا في كل لحظة من مستقبله. قِدم العالم هو
لغزية خلقه. ما دام العالم صنيعة لغزه الأول، وما دام هذا اللغز هو
المحل المتمادي للامفكر فيه، فذلك هو قِدم العالم، وأقدميته على كل
ما يستجد فيه، لكنه ذلك القدم المصاحب لأوقات العالم الآنية. فما
حددتْه قصيدة الخلق عن مشهدية للظهور الطاغي المسيطر، الكلي الحضور
والمثول في آن، لن يدخل في غيهب الأزمنة الأولى، بل سوف يشكل عمق
المناظر التالية، التي سيقدم التاريخ عروضها المستقبلية، على غير
انتظار، مما يسمح له أن يقدم نفسه، حاضرًا متواريًا، من خلالها
كذلك.
هذه المشهدية اللامحدودة — وكل شيء آخر سوف يظهر بالنسبة لها —
سيتعين كمنظر من مناظرها اللامتناهية. هذه المشهدية تولد المناظر
المفردنة، وتولد هي معها في كل لحظة. هذا الحضور الفوري للعالم،
باعتباره الأقدم والأحدث، المحدود واللامحدود، يحمل معه بدئيته
في كل ساعة، تُسجله جديدًا مختلفًا. تلك هي الإشكالية المشروعة
الوحيدة، التي تسمح بالتعاطي حداثويًّا، ومجددًا، مع الفكر
والكينونة، بما يتجاوز القطيعة المعيارية التي عصفت بوحدتهما، منذ
قررت الأفلاطونية/اللاهوتية الانسحاب من المواجهة مع المهيمن
المسيطر، ومضاعفة عالمه بعالم لا يخضع لضروراته الأساسية،
والانشغال بالبحث عن مكان، حيز، لهذا العالم الآخر، تارة في المُثل،
ثم في أدلجة المفارقة (اللاهوت/الناسوت)، ثم في أدلجة المحايثة
(التحقيب المعرفي).
ألا يحتاج الأمر إذن إلى «تعليق» كل هذا التراث، في محاولة
لتخليص المشهدية الأصلية، مما اعتورها من المناظر الانحرافية،
المنعزلة عن عمق المشهدية، المنبثقة هي عنها، لكنها الحاجبة لعمق
المشهدية وآفاقها، بصخب الألوان؛ تعليق محصول التاريخانيات من أجل
اكتشاف التاريخ، فهو كاكتشاف اللون الواحدي، الذي لا لون له، في
اللوحة؛ لأنه يفتح على نفسه فحسب، بما قد يعزله عن الألوان اللونية
الأخرى التي تشكل تشكيلات اللوحة. لكن العزل ذاك إنما يستمر في حمل
ذاكرة اللوحة كلها.
لا يمكن القول، مرة واحدة، إن المشروع الثقافي العربي كان مجرد
تاريخانية، تقص سيرة انحرافه عن محوره، كما لو كان انحرافه ذاك
اختيارًا مختلفًا، خارج ضروراته الأصلية. ولذلك حين آذنت لحظة
اختتام هذه السيرة، برز التعليق فينومنولوجيًّا كأنه الإمكانية
الأخيرة التي قد تفتح أمام السرد خاتمةً ليست هي من تطور وتركيب
ماضي ذلك السرد، ولا من بنيته. فلقد بدت تلك السيرة كأنها محاولة
دائمة من أجل إعادة اللحمة بين الفكر والوجود، التي افتقدتها منذ
أن أُخرجت قصيدة الخلق، عن «خلقها» البدئي. قد يمكن الرد على هذه
الفرضية بالقول إنه ليس ثَمة فعالية إنسانية تستهدف التجسد في صميم
الأنطولوجيا، يمكنها أن تخرج عن ذات السيرة التي أسرت المشروع
الغربي. فإن الانفصام بين الفكر والوجود، ليس حادثًا إرادويًّا. ذلك
أن كل وعي، إنما يرتكز إلى موضوع منفصل عنه، وأنه منذ أن حاولت
قصيدة الخلق أن تبرز اللوغوس كطريقة أخرى في استقبال الظهور
المهيمن الطاغي، كان عليها أن تصوغ له ثَمة حضورًا آخر مختلفًا، على
صعيد الذات، التي لا تنفك عن داخلية هذا الظهور عينه؛ مما فرض على
الذات أن تفهمه، أن تعيد صياغته، أو حضوره بطريقة مختلفة كذلك، قد
لا تتمكن من الحفاظ على القاعدة الأساسية لدلالة الظهور الطاغي،
وهي: أن تظل أمينة كضرورة، كإحدى ضروراته عينها.
ذلك ما يشكل أولى دلالات «البدئي»، بل أهمها. فالحدس الإغريقي
الذي يتمسك به دعاة الاختلاف عن الأفلاطونية، لم يفصل في حيزه
اللغوي الأنطولوجي عينه، بين ما يرجع إلى الفكر، وبين ما يرجع إلى
الكينونة. وبالتالي فإن البديء لا يمكن اتهامه بنقص في درجة
التجريد، وفي قوة التصور، كما لو كان يمثل درجة «ابتدائية» في نمو
الوعي. فالبديء يجيء في بداية التاريخ كما يجيء في نهايته. تلك هي
فرادته، مقابل العقلاني الذي يحتاج إلى كل التحقيب المعرفي، ليقدم
سيرته الخاصة. لكن البدئي ليس الجوهر، ولا الثابت مقابل التحول.
ذلك أنه محتاج إلى أسفار كل التحولات، بما فيها المعارضة والحاجبة
له، حتى يثبت البدئي كبدئي، ولا شيء آخر.
إذا كانت قصيدة الخلق قد خلقت، صوَّرت اللوغوس، بدئيًّا، من خلال
حضور العيني اللامتناهي، ومن خلال ذلك الظهور المقترن بالحضور
الطاغي، فليس هذا إلا لكون اللوغوس إنما يجيء بمجيء الكوسمولوجي
(الكوني)، ويجيئان معًا كحادثة خلق العالم، باعتبارها أقدم حادثة
في سيرته، وأقدميته، في آن. كل ذلك لأن حضور البديء، كان أسبق على
أية استراتيجية للتسمية، اختلقت اسم المادة، وفصَّلتها عما ليس كذلك،
عما سواها. فإذا كان البديء كله ظهورًا، فكيف أمكن اختراع الاختفاء،
إلا عندما يبني التصور، تصورًا عما ليس شيئًا، وليس ظهورًا أو
حضورًا، ليس حيزًا ما. ومع ذلك لا فكاك للخافي، للباطني، من أن يكون
طريقة أخرى في تجسد غير ظهوري، لكنه متعلق بالظهوري دائمًا؛ ليس
لغويًّا فحسب، بل أنطولوجيًّا كذلك.
هل لهذه الأسباب كان يستحيل الحفاظ على مفهوم للبديء، لا يرجع
إلا لذاته؟ هل كانت وطأة البديء أشد من أن تُحتمل؛ لأنها كل
الظهور، كل الحضور؟ لم يكن بالإمكان العيش مع كل التاريخ عرضانيًّا،
ثم الانفلات من الوساعة المطلقة، بامتشاق سيف، يقطع الوساعة بنصل
نحيل خطي، يكرج عليه دولاب زمن، دائري، فوق حد طولاني، ويُسمى:
تاريخانية، تتميز بعقلانوية، بمنطقية؛ سوف تُحيل خلق الظهور، ظهور
الخلق، إلى نسبوية محلية، أو إجرائية، إلى تقنية.
هل يتأخر اللوغوس عن الكوسموس أو يستبقه؟ سؤال تاريخاني، وليس
← من البدئي؟ هل يجيء
الإنسان، بدئيًّا، شاعرًا أو شاعريًّا، باختراعه اللغة، كما لو كانت
اللغة ستبني العالم الموازي للعالم القائم القديم؛ كما لو كان
اللغوي عينه حادثًا كله، مناوئًا للقدم؟ هل هذه المشهدية هي التي
احتضنت بذرة الانفصال بين الحادث وما ليس كذلك، حتى أمكن الاحتفال
باللغوي، كما لو أنه فجاءة الحدوث، وشاهد الحدوث، وحارسه؟ هل حقًّا
قام اللوغوس بإدخال الاضطراب إلى مملكة الظهور المهيمن، أم إنه
بالأحرى، قد عثر اللوغوس على عنفه الاختلافي وسط عنف الظهور
التماثلي عينه، الذي لا يتيح اسم فاعل فيه، ولا اسم مفعول به؟ إن
القبول بعنف المهيمن المسيطر لا يعني الاستسلام له، بقدر ما يدفع
إلى ممارسة العنف، أي مشاركته بطريقة العمل من داخله. فالإنسان في
انبثاقته وسط المهيمن المسيطر، مثلما لا يستطيع أن يحقق تلك
الانبثاقة، إلا كاختراق، كفعل عنيف هو كذلك، فإنه من حيث المشاركة
بفعله الخاص: «اللغة، الإبداع، البناء»، إنما يدخل التغيير كطريقة
أخرى في فهم اللوغوس، لحركته الخاصة، وفي علاقته بالعالم، من حيث
إنه ضامن الانسجام بين عناصره (أو ليس كذلك تمامًا!)
لحظة «البدئي» من قصيدة الخلق لا تقدم نفسها، وقتها الخاص، إلا
من خلال زمان القِدم عينه؛ قد تكون هذه اللحظة مقترنة بانبثاقة
الإنسان وسط الخلق من أجل أن تتغير مفردات الخطاب انطلاقًا من هذه
الانبثاقة، لتغدو مفردات حول: الكائن-في-العالم، أو كائن
العالم. لن يكون خطاب المتغير في الثابت، لكنه خطاب المتغير في
متغيرات القدم عينه. فالكائن-في-العالم، ليس طارئًا، وإن كان
يجيء متأخرًا دائمًا، حتى يغدو هو كائن العالم. لن يكون مجيئه ذاك
إلا ناقصًا؛ لأنه متأرجح بين الوصول والانسحاب. كائن العالم، منذ
ذاك الوقت، يقول للمهيمن المسيطر: نعم! ولكن بطريقتي. وما طريقته
تلك إلا إيذانًا بمولد البديء، بظهور: التاريخ. بمعنى أنه لم يعد
يمكن الكلام عن المهيمن المسيطر إلا من خلال عبارة كائن العالم.
وليس عبارة العالم وحده. فالعنف الأول لم يعد تماثليًّا عند ذاته،
ومع ذاته. ضرورته الإطلاقية لن تمنع إنتاج ضروراته النسبية
القادمة. واللوغوس لم يعد أقنوميًّا واحديًّا، أصبحت له تعددية
خطابات الألسنة جميعها، دون أن يضيع أي لسان منها لهجة اللوغوس
الأصلية؛ ذلك أن ظهور كائن العالم مقترن باكتشاف اللوغوس لذاته،
بمولد عنف جديد له، يؤهله لترجمة مفرداته بما يختلف عن مفردات قدم
العالم، الموغلة في صمتها الأزلي. ومع ذلك فالكلمة حادث طارئ،
ولكنه حادث قادر على إخراج قدم العالم من صمته الأزلي، وإعادة
سرده، دون أن يقلل ذلك شعرةً من كون هذا السرد إذا ما تحقق، فلن يقع
إلا لمرة واحدة. لن يستطيع التاريخ أن يكون غير نفسه، غير فرادته.
ولعل هذه الخاصية هي التي أغرت دائمًا أشباه التاريخيين، بادعائها
لذواتهم، تحت تسمية التاريخانية. لكن البديء لن يكون له إلا تاريخ
واحد. أما كل «أحد» فليس من الضروري، ولا من الممكن، أن يكون له
ثَمة بدئي، ولا أن يكون له بالتالي ثَمة تاريخ.
ذلك ما يؤدي إلى طرح إشكالية الخلق والمختلق. ليست هي إشكالية
الأصل والزائف هنا، بل هي الطريقة التي تحدد ما يعنيه كائن العالم
بالنسبة إلى قدم العالم. فمن الواضح أن كائن العالم يمتلئ بكل ما
كان عناه ويعنيه مصطلح الحدوث، سواء في القاموس الفلسفي التقليدي،
أو في الابتكار الحديث. ولا فرق إن نُظر إلى كائن العالم كما لو كان
هو حادث العالم بالذات، أو أنه «العالم» هو حادثه، مفهومه الأعظم.
فإذا قبلنا، مع هيدغر بخاصة، أن يكون بارمنيد أتى فعلًا بقصيدة
الخلق، وبما يميز الوعي الفجري الإغريقي، كما لو كانت قصيدة خلق
لكائن العالم، وكما لو كان هو الوعي الفجري الأول للفكر، وليس لفكر
إغريقي أو سواه، إذا تقبلنا ذلك، فإنه يتعين مواجهة إشكالية الخلق
والمختلق، بغير ما تراكم فوق مفهوم الحدوث من لدن الفكر
الأفلاطوني، ثم من لدن كل الأبنية الفلسفية والتيولوجية، وصولًا
حتى إلى ضفاف النقدية الحديثة وتفرعاتها، فلقد أعانتنا
الفينومنولوجيا عمومًا بالاستغناء عن كل هذا التراث، وتجاوز
أفخاخه وعنكبوتياته، عندما استعادت ذاكرة التفلسف المحض، فأثبتت
مجددًا أن العالم لم يُمسِ محلًّا محايثًا وحداثويًّا لأقنوم البديء
فحسب، بل سمح كذلك بالانزياح عنه، والتحرر من ميتافيزيقية الصوفية
الهائمة في كنف لفظه عينه، وتركته الرومانسية.
إن كائن العالم ليس مجرد مخرج من إخراج الثنائية الأفلاطونية:
الفكر/أو الوجود. لعله يكون الأرضية الصالحة التي عثر عليها
المشروع الغربي، متأخرًا أربعة وعشرين قرنًا على الأقل، متنكرًا
لها كأركيولوجيا محجوبة دائمًا؛ ثم ها هو يسعى مجددًا بلا طائل
ربما، إلى استعادة ذات الموقف البدئي الذي سجلته قصيدة الخلق مع
بارمنيد. هذا يؤكد أن اللوغوس ليس مفارقًا، ولا بأي معنًى من معاني
الكوسمولوجيا أو التيولوجيا، المتلاحقة فيما بعد. إنه بطانة كائن
العالم، وسيلته الترميزية إلى استشفاف ذاته، وهو مستغرق في تفاصيل
المحايثة. صارت الإشكالية في تخوم الاستحالة ذاتها. وفي هذا الموقع
تولد إمكانيتها بالضبط؛ لأنه ليس ثَمة مكان آخر لها. هذا ما يُعبَّر
عنه من خلال مصطلح نهاية الفلسفة كبناء منطقي، على طريقة أرسطو؛ إذ
لم تعد مهمة الفلسفة الفرار من الاستحالة العقلانوية بإشادة بناء
انسجامي قبالة الاستحالة عينها. لقد انتهى عهد الممكنات المغلقة
التي لا تشتغل إلا على ذاتها، كيما تفر من الآخر. وفي انتهاء تلك
الفلسفة، يولد الفلسفي في الغربة المطلقة، حيثما الاستحالة تبقى هي
الإمكانية الوحيدة: المواجهة الأخيرة مع «براءة الصيرورة».
II التقدم نحو
الكوسموبوليتيا
ما الذي دفع كانط حقًّا إلى طرح موضوعة العقل المحض؟ قد تكون هناك
أسباب ترجع إلى حال التفلسف الذي عاصره كانط، إذ وصل إلى حد
الاستعصاء بين ثنائية الفطرية والاكتساب، أو العقلانية والتجريبية.
وكان كل قطب من هذه الثنائية قد استحوذت عليه مسلماته الفكرية
معتصمًا وراء الضرورات التي افترضها، ثم أقام عليها صرح اليقين
النهائي. فالسؤال الأول الذي كانت له هيمنته المطلقة على إشكالية
المعرفة آنذاك، وخلال القرن الثامن عشر تحديدًا، كان همه أن يثبت
أولوية العقل لدى تيار الوثوقية، أو أولوية التجربة عند أصحاب
الواقعية. لم يكن الهدف هو اكتشاف عمل العقل، أو منهجه في الإدراك،
بقدر ما كان الأمر يتوقف على تثبيت دور المفارقة الميتافيزيقية لدى
الوثوقيين، أو اعتماد النسبية والنفعية في التعامل مع الواقع لدى
التجريبيين؛ وبالتالي التقليل من دور المفارقة، إن لم يكن تغييبها
بشكل كامل. فلم يكن السؤال حول كيفية حصول العقل على المعرفة مهمًّا
لدى طرفَي النقاش الفلسفي المهيمن؛ أي ليس هناك ما يدعو إلى
الاهتمام بإشكالية الوظائف العقلية والنفسية القائمة فعليًّا بآلية
إنتاج المعرفة. فلقد حسم «هيوم» الإنكليزي كل ما كان يتعلق
بإشكالية ما يُسمى بالمبادئ العقلية، فأرجع جذرها الأهم، وهو مبدأ
العلية، إلى قانون العادة، واكتساب العقل لهذا المبدأ من ملاحظته
على أرض الواقع، أن تتابع أو تناسل الأشياء من بعضها، يؤكد أنه ما
دامت العناصر السابقة تنتج العناصر اللاحقة كما تطلعنا التجربة
اليومية، فلا بد أن تقوم بينهما علاقة ندعوها بالأسباب والنتائج،
فلا حاجة إذن إلى التصور أو الاعتقاد بأن العقل مفطور على العلية،
فهو استقاها من التجربة التي ترينا مثلًا أن النار تحرق وأن الشمس
تنير، وأنه إذا كان هناك ضرورة ما، فهي تترجم ثبات هذه العلاقة
التي يمكن للعقل في مرحلة لاحقة أن يعطيها قالب مبدأ قائل: إن
الأشياء معلولة ببعضها، وكل «أ» ستعقبها «ب» حتمًا أو
بالعكس.
لقد أيقظت هذه البرهنة كانط من وثوقيته أو دوغمائيته التي شب
عليها وتعلمها من أساتذته. لكنه، وهو في صدد بحثه عن العقل المحض، لم
يستطع أن يجرد العقل من كل قدرة له على استخلاص مبدئية المبدأ
نفسه، أي ما يجعل تصورًا ما، وإن كان مصدره العالم الخارجي، يرقى
إلى مستوى المبدأ الذي هو عينه سيساعد على إدراك كل الأشياء وصوغها
في شبكاتها العلية التي تربطها فيما بينها، وتمنحها الهيئة
المعرفية التي تُدرك من خلالها. لقد جعلت هذه الملاحظة كانط يتنبه
إلى الفصل بين شكلانية المعرفة ومضمونها، هذه الشكلانية التي تسبغ
على مادة التجربة صفتها كمادة معرفية. إن هذا الفصل هو الكشف
الافتتاحي لإعادة إشادة المعمار العقلاني التجريبي الذي يربطهما
معًا، دون أن يسقط في أفخاخ ثنائيتهما. كما كان مصير الفلسفة
الكلاسيكية قبل كانط، وبجناحيها الموصوفين كليهما بالدوغمائية؛ إذ
تتشبث كلٌّ من العقلانوية بفطرية مبادئها، والتجريبية بواقعية
منطلقاتها.
هنا يشتغل كانط على ما يمكن تسميته بالتفلسف المحض. وهو التحرر
أولًا من سلطة الدوغمائية سواء تشبثت بها كلٌّ من العقلانوية أو
التجريبوية. فهما في هذا الاعتبار لا اختلاف بينهما بالرغم من تسويد
آلاف الصفحات ضد بعضهما؛ كأنما كلٌّ منهما استحوذت على كامل الحقيقة،
وحكمت على خصمها بالغرق في الخطأ وحده. هنالك انزياح أنطولوجي من
سؤال عن أصل الواقع أو العقل، إلى السؤال عما يجعل كلًّا من الواقع
والعقل يساهمان معًا في صنع ذلك الأقنوم البدئي الذي اسمه الحقيقة،
أو بالأحرى ذلك السؤال عما يجعل المعرفي، أو المعلومي، بحسب
المصطلح اللساني المعاصر، يقارب الحقيقي، أو يدل عليه أو «يتسكع»
حوله؛ ما يعنيه التفلسف المحض، وفي نهاية تاريخ الفلسفة الراهنة،
ربما، هو هذا التسكع في ضواحي الحقيقي، دون أن تكون له جرأة، بل
وقاحة الادعاء، بالاحتياز عليه، فالتفلسف المحض ليس هو الردة إلى
«فوضى» النسبية، أو «عبثية» الريبية، بقدر ما هو الشروع دائمًا
في الإقرار بنهائية كل شيء، بما فيها النسبية والريبية معًا. لذلك
لا يمكن للتفلسف المحض إلا أن يمتطي صهوة النقد. فكل استشعار
بالنهائي هو تذكير بأن لكل شيء حدودًا، وأن الحد يلعب لعبة مزدوجة؛
فهو لا يكتفي بتعيين واقعية الشيء في شيئه، ويذكِّر بانتفائها
المحتوم في كل ما عداه، بل إنه يريد أن يدلل مبدئيًّا على أن العالم
بأشيائه، وأسراره اللانهائية، لم يوجد أصلًا من أجل أن يكون موضوع
معرفة من أجلنا نحن البشر، أن يكون مسرحًا لكشوفات عقلنا المحدود.
ومع ذلك فكل معارفنا عنه ليست سوى من صنعنا نحن، ولا دخل له هو في
ذلك. ولأن الأمر هو على هذه الشاكلة، فإنه لا يمكننا أن نقول عن
العالم إنه هو ما نعرفه عنه، بل ربما كانت معرفتنا تلك مجرد وهم
ينكر نفسه على أنه كذلك، ما دامت كل معاييرنا مشتقة من وقائعه، أو
بالأحرى مما نعتبرها أنها كذلك.
هل هذا يؤدي بنا إلى عبارة شوبنهور الافتتاحية، وهي أن العالم هو
من امتثالنا، أو تصورنا، أي وهمنا الذي لا دليل يضاده، فيغدو هو
و«الحقيقة» شيئًا واحدًا؟ إنها حيادية العالم بالأحرى التي توصلنا
في النهاية إلى الاعتراف بكون العالم لا يعبأ بما نقوله أو نكتبه
عنه، فهو على الأقل يؤكد لنا، مع كل إنجاز يحرزه علمنا بالجزئيات
اللامتناهية في الصغر، أنه يختلف عن «الواقع» الذي نتصوره من
خلاله.
هكذا ينتقل علمنا من نسق معرفي إلى آخر منذ أيام نيوتن وغاليله.
وكل نسق جديد يقيم قطيعة كارثية مع ما سبقه، على أن تؤخذ صفة الكارثية
هنا بحسب مصطلحها الإبستمولوجي عند «كون
Khun»، فالعقل يتعامل مع هذه
الأنساق التي كان يخترعها ويسميها بالواقع. فما إن وصلنا إلى النسق
العددي حتى أصبحنا نتعامل مع عالم افتراضي كله. وهذا هو الإقرار
الحاسم الذي بلغه تطور العلم أخيرًا، في كونه يواجه عالمًا وهميًّا
وإن كان يدعوه افتراضيًّا. إن شاشة الحاسوب يمكنها أن تجعل عقل
الإنسان في غنًى عما يختفي وراءها من ذلك الواقع الآخر الذي يبدو أنه
أضحى لا لزوم له، وإن كان قابعًا في العمق من كل مشهد يتتابع أمام
ناظرينا. فالذكاء الاصطناعي يراد له أن يحل محل وظيفة الفاهمة
l’entendement، التي هي عماد العقل
المحض عند كانط. كأنما لم يعد ثَمة أهمية إطلاقًا لكل تلك
الإبستمولوجيا المتمسكة دائمًا بمعيار التطابق بين المعرفي
والواقعي. كلا هذين المصطلحين لم يعد لأيٍّ منهما ثَمة جدوى على صعيد
التشكيل الأخير لبنية المعرفة باعتبارها نسيجًا افتراضيًّا. إنهما
يشتغلان معًا على مادة لا مادة لها أصلًا؛ إنهما مأخوذان في زوابع
الافتراضات العددية اللامتناهية؛ فأي معنًى يتبقى لإشكالية المعيار،
ما دام كل ما هو عقلي وكل ما هو واقعي معًا، لا نفع لهما إلا بقدر
ما يجيزان نقيضهما الحدي معًا، وهو: الوهمي، وتناسله من ذاته تحت
عباءة الذكاء الاصطناعي وعوالمه الافتراضية الخلابة.
هل انتهت رحلة البحث عن اليقين التي كتبت تاريخ الأفكار المحركة
لثقافة العلم والمعرفة، إلى التبشير بأن اليقين والسراب وجهان
لعملة واحدة، وأنه ليس ثَمة من يقين إلا بما يخترعه من أوهام جديدة.
على أن اسم الوهم لم يعد سلبيًّا، وحتى ليس باطلًا. ذلك أن
الافتراضي الغازي الجديد، لا ينكر شيئًا ولا يثبت شيئًا. إنه يقدم
ذلك الواقع الآخر، الذي هو في أصله إنكار لواقعيته. فلا حاجة له
إذن إلى الانشغال مجددًا في إشكالية الخطأ والصواب، وذلك بحسب
المقاييس التقليدية للعلم الفيزيائي، كما كان عليه الأمر، قبل
القفزة النوعية الكبرى نحو لامتناهيات الفضاء الإلكتروني وعوالمه
الافتراضية ما وراء الزمان والمكان الإقليديين. فقد أمست حضارة
العصر تحيا على حد القطيعة الكارثية المستمرة، بين الحيز الإقليدي
القديم، وبين الحيز الافتراضي وآفاقه المجهولة. وليس ثَمة من جسر
حقيقي يربط بين الواقع الواقعي والواقع الافتراضي سوى لحظة الزمن
الفعلي؛ أي هذه اللحظة التي يمكن أن يغدو فيها كل شيء على صلة
فورية بكل شيء. ويقدم الإنترنت النموذج اليومي في كل بيت، عن
إمكانية هذه اللحظة من الزمن الفعلي؛ إذ تغدو
الفورية هي همزة
الوصل المباشرة مع كل ذات أخرى أو حادثة، أو وثيقة أو معرفة.
فالشاشة الإلكترونية الصغيرة ليست مجرد نافذة تطل على العالم،
لكنها تعيد إنتاج العالم بمكنوناته ومخزوناته وطوارئه كلها عبر
مسلسلات من الصور فحسب. والصورة ليست شيئًا، لكنها قادرة
على أن تحل مكان أي شيء، دونما أن تكون متمكنة من مكان، أو متزمنة بزمان
معين. هكذا يغرق الإنسان العصري أكثر فأكثر في محيط من الصور، إلى
تلك الدرجة التي يمكن فيها للصورة أن تنشئ مشهدها الخاص، دون أن
ترجع إلى الموضوع الذي تنسخ؛ لا تعود الصورة مجرد واسطة حضور
لأصل غائب. إنها أضحت موضوع ذاتها. فالفيلم السينمائي يسيطر على
المتفرج، بصرف النظر عن واقعية قصته أو مشاهده؛ والرواية
السينمائية الناجحة هي التي تجذب المشاهد إلى أمكنة أحداثها
بالذات، وتجعله يجول بين أشخاصها كما لو كان واحدًا منهم، بل قد
يتمتع بتلك القدرة على أن يتماهى مع كل أحد منهم. يستبطن أحاسيس
الشخوص وانفعالاتها، ويلتقط تقاطعها في لحظة حدوثها.
٤ تتضاعف شخصية المشاهد بحسب تعدد الشخوص في المشهد الذي
يجمعها. يصير هو كل أحد منها. وفي المحصلة يمتص وهم المشهد واقعية
المشاهد دونما أية مقاومة من قبل هذا الأخير، بل على العكس، تغمره
حماسة الاستسلام للانجذاب أكثر إلى عمق الفعل الوهمي، كواحد من
شخوصه. وقد يتفوق تأثير الصورة على تأثير مرجعها الواقعي، إن كان
لها هذا المرجع أصلًا.
٥
يعيش إنسان العصر حالة من فرط الصور، محاطًا بشاشات التلفزة
والسينما والإنترنت. لم يعد محتاجًا إلى مخيلته لتخترع له المشاهد
أو الأوضاع التي يتمناها أو يخشاها، فالشبكات أو الشاشات كفيلة
بإفاضة الصور والمعلومات والسرديات كلها. إنها لا تنضاف إلى وقائع
حياته اليومية من خارجها، بل قد تزيحها وتجعلها زائدة عن اللزوم،
أو أنها على الأقل تدفع بها إلى مستوًى من الواقع، من الدرجة
الثانية أو الثانوية، بحيث لا يعود ثَمة أمر معرفي أو أخلاقي، على
طريقة العقل المحض الكانطي، يفرض ضرورة التمييز بين الصح والخطأ،
بين الخير والشر. فالشبكيات تبطل فوارق الحدود بين حلقاتها. كل
الصور متدفقة منهارة في سيولة (كل) الصور. ويقال حينئذٍ إن إنسان
العصر يكتسب حرية لا يعرفها سابقوه. كل ما كان مخفيًّا تعرضه
الشبكيات. بدلًا من أزمات الاختيارات الكبرى التي كانت تؤرق وجدان
الإنسان، تغدو جميعها مبذولةً أمام النظر، وإن هي أمست فاقدة
لخصوصيات دلالاتها. يَبطل الاختيار أمام المبذول، ذلك المنسوخ عن
بعضه، والمكرور والمتشابه. فما نفع الحرية بدون الاختيار؟ تصير
ضربًا من ترف الأنا الأثري الأركيولوجي المضخم. فماذا تختار الحرية
من بين هذه الأشباه المطروحة أمامها؟ ذلك أن العقل الذي استغنى عن
اكتشاف الشيء في ذاته، بسبب من امتناع أجهزة الفاهمة
لديه عن إدراك إلا كل ما هو ظاهر لها، ومندرج عبر حدسَي الزمان
والمكان. فهو إذن لا يدرك إلا ما هو شبه الشيء أو ظاهره. وهذا
الظاهر نفسه لا يبقى على حاله تلك؛ إذ لا بد له أن ينتقل إلى مرتبة
التصور، حتى يمكن للفاهمة أن تلتقطه وتتفاعل معه؛ أي لا بد للفاهمة
أن تقرأ لغتها عينها في الأشياء، أن تقرأها من خلال مصطلحها هي
عنها. لا يمكنها التعاطي إلا مع ما هو من جنس مادتها، ومن نسيج
تركيبها عينه. فليس غريبًا إذن أن يصل العقل في العصر الرقمي
الراهن، إلى مثل هذا الاستنتاج العادي، وهو أن الواقع ليس سوى
تسمية. فالاسم قد يحل مكان صاحبه. الاسم هو الحاضر، والمسمى هو
الغائب. والتداول اللساني يمنح الكلمات واقعية إجرائية، تُغني عن
التقصي والبحث حول مرجعياتها الخاصة، إن كان لها مثل هذه المرجعيات
المستقلة حقًّا عن حواس الإنسان. فالتسمية الأصح لما ندعوه بالواقع
هو شبه الواقع. لكننا نحذف الشبه عادة أو الصفة ونُبقي على الموصوف
خلال السرديات اليومية. وحتى لا نعترف أننا إنما نتعاطى مع الأشباه،
فقد أجاز لنا تطورنا الفلسفي الإقرار أن الواقع هو من طبيعة لغوية.
وكان سمح لنا هذا الإقرار أن نقيم عالم الدلالات بديلًا من عالم
الأشياء. إنما اللغوي لا يأتي مفترقًا عن دلالاته أو معانيه؛ إذ إن
الملفوظ هو، بأصواته أو حروفيته، هو كل ما تعنيه دلالته. ليس ثَمة
من حاجة إلى البحث عن ترجمة الملفوظ إلى سجل آخر يخص المعنى؛ إذ إن
فعل الترجمة إنما يقوم بالنقل من ملفوظ إلى آخر. فلا فكاك من
التلفظ إلا ببياض الورقة أو بالصمت.
يرجع إلى
التفلسف المحض فضل الإقرار بأن التلفظ هو مرجعية ذاته.
لا يمكنه أن يحيل إلى شيء ما يقع خارجه أو يختفي وراءه. ليس هو
وسيلة لسواه. وما الفصل التقليدي بين اللفظ والمعنى، إلا مسألة
اعتبارية خالصة؛ إذ إنه لا معنى إذا لم يتلفظه اسمه، لم يأتِ بقوله
الخاص؛ أي إن المعنى هو قول على قول، وإلا لما بارح صمت الفكر. ما
كان يريد
كانط أن يبشر به، ولأول مرة في تاريخ الفلسفة، هو أن
«الشيء في ذاته»، إنما قد يرجع إلى صمت الفكر، بينما لا يمكنه أن
يندرج في قول ما. لقد كانت تلك هي البداية لانبلاج عصر التفلسف المحض.
هناك انقلاب انعطافي حقيقي حول ما يعنيه التفكير عينه؛ إذ
يغدو نتاجًا لجاهزية العقل نفسه. فما إن يتم تفكيك هذه الجاهزية
حتى تتعين حدود إمكانياتها. وعند ذلك لا يعود العقل لغزًا أو منحة
علوية. كما أن «
الأشياء» تتحرر من ثنائية ظاهرها وباطنها. يدخل
مصطلح
الظاهرة ليحل من جهة لغزيةَ العقل، أو مفارقته الأنطولوجية،
بحسب التعيين التقليدي؛ ومن جهة أخرى فإنه يؤكد واقعية الأشياء،
باستقلال عن عمليات الاحتياز عليها كمعارف أو كحقائق، من قِبل
العقل. يعني أن مفهوم الظاهرة قد تجاوز إشكالية الشيء في ذاته، بل
إن العقل الذي اكتسب الآن صفة كونه العقل النقدي، لا ينكر الشيء في
ذاته، لكنه يحرمه من مركزيته الإبستمولوجية، دون أن يمس مركزيته
الأنطولوجية.
٦
مهمة العقل النقدي هي ابتكار أنساق من التصورات التي هي تلفظات
مقابل ظاهرات الأشياء. فالعلاقة بين التصور/التلفظ، وبين الشيء/الظاهرة،
لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال نسق تلفظي آخر، يمكن
تسميته بالمعرفة. غير أن كل هذه التسميات هي ما تعنيه التسميات، أي
تلفظات. فلا فكاك من اللغوي. لكن بدلًا من حركات الفرار منه نحو ما
ورائيات التسميات، كما كان دأب كل الحضارات الثقافوية، فإن مولد
العقل النقدي سجَّل أول خطوة نحو المدنية، عندما اعترف أن العالم هو
لغوي؛ ولكونه هو كذلك يمكن للعقل أن يتعاطى معه ويفهمه. والمقصود
من كون العالم لغويًّا، هو أنه قابل للصياغة بحسب التعبيرات التي
يطلقها الإنسان. فإن لَغْونة العالم، أي جعله لغويًّا، هي المؤالفة
البدئية التي ينشئها الإنسان مع محيطه. فالتفكير في الأشياء لا يتم
إلا عن طريق الكلمات. تلك هي الخاصية الأولى للعقل؛ أي قدرته على
الترميز. هذه المسألة بالرغم من بساطتها، لم يكن من السهل على
المجتمع الإنساني أن يطرحها، ويستخلص منها كل نتائجها. ولعل السبب
في ذلك هو من المستوى الثقافوي الأنثروبولوجي؛ أي إنه لا يتعلق
أوليًّا بالطريقة التي يُستخدم بها الترميز فحسب، ولكن بالكيفية التي
يستوعب بها المجتمع خلالها الترميز؛ إذ ليس من الضروري أن يتضاعف
الترميز بفهمه، أو التعامل معه كإشكالية قائمة بذاتها، بصرف النظر
عن مختلف وظائفه العملية. كل الحضارات السابقة على عصر الصناعة لم
تكن في معظمها لتثار لديها مثل هذه الإشكالية، سواء على صعيد
المعرفة أو السلوك. ذلك أن الترميز محروس بنظام أنظمة معرفية كلي
القدرة والسلطة؛ لكن هذا النظام يبتكره الترميز نفسه، ويمنحه مرتبة
أعلى فوقه، لا يلبث حتى يستظل هو ذاته بسلطانها عليه وحمايتها له
في آن واحد. فهو بدوره يمنحها قيمة تتخطاه، فيعلي منها، حتى ينسى
أنه هو خالقها في الأصل، فيغدو تابعًا لها.
لا شيء خارج الترميز. كما أن الترميز لا يستطيع التعريف بنفسه
إلا باستخدامه لآلياته عينها. وعندما يقال إن عالم الإنسان هو في
الأساس عالم لغوي، فإن جهد العقل من أجل فهم العالم إنما هو الجهد
في إعادة صياغته لغويًّا؛ أي ترميزيًّا. حتى العلم المادي ليس هو إلا
إحدى ذرى الترميز؛ أما التفلسف، فهو، ومن دون أن يخرج عن سياقات
الترميز، فإنه يعمل على إعادة تفكيك هذه السياقات، وردها إلى
مفرداتها البسيطة. والفارق بين التفلسف المحض، وسواه من أشكال
التفكير المتداول الأخرى، وبما فيه حتى الشطح الماورائي أو
الميتافيزيقي، هو أنه يعمل في خضم الترميز عينه؛ بيد أنه «يعلم»
أنه كذلك، ومن هنا لا يمكن للتفلسف المحض أن يأتي بأي قول إلا
ونظامه معه. فهو بذلك لن يكون إلا تفكيرًا نقديًّا؛ لا يضير التفلسفَ
المحض اعتبارُ نفسه أنه مجرد قول على قول، بل لأن أقنوم الحقيقة لم
يخرج في المحصلة عن هذا الاعتبار، عن كونه قوليًّا في بنيته الأساس،
فإن التفلسف المحض، الذي يدعي أنه هو الباحث عن الحقيقة وهمها،
يريد أن يقدم سرده الخاص، كما لو كان سردًا خاصًّا لكل أحد؛ أي إنه
يتعرف عليه كل عقل ما إن يُعرض عليه.
هنالك آمرٌ مطلق معرفي، وليس أخلاقيًّا فحسب، كما هو مصطلح
كانط.
لكن ينبغي منذ البداية ألا تروعنا هذه الآمرية الأخلاقية؛ فليس
هناك ثَمة استبداد في صيغة هذه العبارة؛ إذ إن صفة الآمرية
الأخلاقية لا تلحق التفلسف المحض إلا من أجل أن يمارس صدقيته، كما
لو كانت على محك التساؤل الدائم من قبل العقول الأخرى، مثلما هي
كذلك بالنسبة لذاته مبدئيًّا. هذا التساؤل ليس تكرارًا للشك
الديكارتي، وإن كان يتضمنه، ولكن يتجاوزه بنيويًّا؛ ذلك أن شرط
الوضوح الكامل الذي يتطلبه الشك الديكارتي، لا يمكن الاحتياز عليه
إلا عندما يتوصل العقل إلى الاحتياز على الحقيقة. بمعنى أن
الديكارتية كانت باحثة عن اليقين، ولا شيء سوى اليقين. هذا يؤكد أن
الحقيقة موجودة في حيز ما؛ فإنها قد تقع ما وراء الشكوك كلها عندما يتم استنفادها
بما هي كذلك؛ أي عندما يجرب
المنطق إعمال أدواته التحليلية في
كل الشكوك أو الاحتمالات الأخرى، حتى لا يتبقى إلا ذلك الاحتمال
الأوحد المؤدي إلى درب الحقيقة.
إنها حرفة قد تكون سقراطية في ظاهرها. لكن سقراط لم تكن تؤرقه
مسألة اليقين، كما هي حال الديكارتية والعقلانية الكلاسيكية كلها
بعدها، بل كان دأبه أن يصل، في نهاية كل حوار، إلى ذلك الموقف
الإشكالي، وهو الإقرار أنني أعرف كوني حقًّا لا أعرف.
ما يؤكد أن سقراط كان من الأوائل في تأسيس التفلسف المحض،
والتمسك بالجدل على أنه هو موضوع ذاته بدئيًّا. فليس الاعتقاد أو
اليقين هو المعرفة التي قد تعادل قول الحقيقة. بدلًا من ذلك، يقنع
التفلسف المحض بما كان قد اقتنع به سقراط عندما أعلن أنه يمكنه على
الأقل أن يتثبت من نقطة صغيرة فقط، وهي «أن ما لست أعرفه لا أعتقد
أنني أبدًا أعرفه».
٧ فإذا كان الفيلسوف لا يمكنه أن يصل إلى الحكمة
الكاملة، فعليه في الحد الأدنى أن يعارض الحكمة المغلوطة؛ بحيث لا
يرهن التفلسف المحض فعاليته ببلوغ الحقيقة، بقدر ما يأخذ على عاتقه
أن يسفه كل الطرق الأخرى الضالة التي تدعي الوصول إليها: إذا لم
نكن نحيط بالحقيقة كلها، ففي الأقل نعرف ما هو
الضلال. وعلى هذا يكون سقراط أول الفلاسفة الذين أرسوا
ثقافة
النقد، باعتبارها هي الممارسة الفعلية للتفلسف المحض. وقد استبق
بذلك مذهب
الريبية كغاية في ذاتها؛ كما أنه تميز عن عبثية
السفسطائية. فهو لم ينفِ أن الحكمة طريق الحقيقة، وإن كانت لا
تستطيع أن تحولها إلى مجرد اعتقادات يقينية؛ أي إنه وضع التفلسف
المحض تحت هيمنة الحقيقة، دون أن يسمح له باختزالها عبر وصفات
جاهزة، مثل هذا الموقف سوف يغيب طويلًا في سياق تاريخ الفلسفة
ليظهر حداثيًّا مع
كانط، عندما تجاوز حاكمية اليقين في جدلية الصواب
والخطأ، نحو تفكيك جاهزية العملية المعرفية ذاتها. فلم يعد السؤال
هو عن المعرفة في حد ذاتها،
بل في شروط تحقق المعرفة. وهي ليست
شروطًا معيارية متعالية؛ أي إنها لا تأتي من خارج العملية المعرفية
أو من فوقها كالمنطق الأرسطي مثلًا، بل تريد أن تبقى محايثة لها،
مساوقة للحظات نشوئها وتكونها، تقص علينا قصة سؤالها، أكثر مما
تأتينا بجوابه القاطع.
حتى يمكن البحث عن تكوين العملية المعرفية لا بد من جعل الجهاز
الذي ينتجها، وهو العقل طبعًا، موضوع السؤال الفلسفي مركزيًّا. وقد
اعتقدت العقلانية الكلاسية ما قبل
كانط، أن المعرفي يكاد يكون
صناعة عقلانية خالصة، ولا يلعب موضوعها أو مادتها سوى دور إسنادي
خارجي؛ في حين أن النزعة التجريبية كانت تعكس الحركة، فتعتبر أن
هذا الخارج ليس موضوعًا للمعرفي فقط، لا يقدم له مادته فحسب، بل
يزود العقل نفسه بمبادئه الأولية المساعدة على صياغة الشكل
المعرفي عينه. هنا تبرز أهمية النقلة النوعية التي يقوم بها «نقد
العقل المحض»؛ إذ يعتبر أن كلًّا من العقل والعالم إنما يشتركان
معًا في إنتاج أو صناعة المعرفي، بدون طرح أولوية أحدهما بالنسبة
للآخر. وانطلاقًا من هذا المنعطف صار بالإمكان أن تتشكل الملامح
الأولى
للتفلسف المحض؛ إذ ينتقل السؤال عما يعنيه المعرفي إلى
«كيفية» المعرفي؛ أي من سؤال الماهية إلى
الكشف عن تكوين المعرفي،
أو عما يجعل المعرفي هو كذلك؛ لن يجاهر التفلسف المحض بتعيين شيء
على أنه حق إن لم يكن مضاعفًا بنظامه، أي شافًّا عن بنيته كحق. لكن
«الشيء» ليس شافًّا بذاته، بل إن الشفوف هو من إسقاط العقل، ويظل
«الشيء» قائمًا بذاته، محتفظًا بأسراره الخاصة، ومستقلًّا عن أية مَفهمة
برهانية تأتيه من خارجه، وخاصة عندما يتعلق الأمر ليس بالموضوعات
أو الأشياء كوحدات مادية، وإنما بالمفردات الذهنية، ومنها تحديدًا
تلك التصورات الكلية الموصوفة بالذهنية الخالصة، أو تلك الروحية
ومرجعياتها المفارقة. في هذه اللحظة يبرز مصطلح الظاهرة في اللغة
الكانطية للمرة الأولى فلسفيًّا. وعلى أساسه يختلف فهم الموضوعية،
فلا تعود معيارًا لاكتشاف الشيء (في ذاته)،
ولكنها التقاط للشيء
كما يظهر لي، لا كفرد فحسب، بل لعقل الإنسان عامة الذي تحكمه
مقولات الفهم العام، كما حددها
كانط نفسه، مختلفة عن مقولات المنطق
الأرسطي المسيطر على الفلسفة الكلاسيكية حتى ولادة «نقد العقل المحض».
٨ فالجهد العلمي أو المعرفي يتحدد في إمكان تحقيق اندراج
الظواهر تحت هذه المقولات، أو بناء العلاقة فيما بينهما؛ إذ إن
تحديد الشيء أو الموضوع إنما يتبع الطريقة التي بموجبها تقوم
الأشياء استنادًا إلى
العلاقة، فيما بينها، وليس تقوم العلاقة
استنادًا إلى الأشياء. إذ كيف للمقولات أن تنطبق على الأشياء التي
تقع خارجها؟ وهي الصعوبة المركزية التي تواجهها النزعات التجريبية،
ابتداءً من هيوم حتى فتغنشتاين. ذلك أنه بدون المقولات تسيل
الأشياء في سياق الزمان والمكان، دونما قدرة على التقاطها في
مفرداتها، أو استيعاب لاختلافاتها.
ذلك هو
مركب المتعالي الذي يطلقه
كانط كمصطلح على عملية الفهم.
إنه احتياز على الموضوع الخارجي بأدوات الفاهمة التي تخص الذات،
لكن دون إلغاء لاستقلاله. فالمعطى، القادم من التجربة، هو من طبيعة
أخرى تختلف تمامًا عن طبيعة العلاقة التي يبنيها العقل معه كموضوع
لإدراكه. فالشيء، أو الموضوع، لا ينتقل من حياديته الأصلية إلى أن
يكون «معطًى»، إلا بإنشاء تلك العلاقة. أي أن يكون معطًى بالنسبة
للفاهمة؛ وهذا يعني أمرين أوليين في نظرية المعرفة: من جهة كون
الفاهمة تمتلك الأجهزة العقلية القادرة على التقاط الموضوع، ومن
جهة أخرى كون الموضوع في حالة تؤهله إلى أن يصير معطًى معرفيًّا.
مجمل هذين الشرطين إن توفرا، يشكل صيغة المركب
la
synthése؛ ذلك هو صميم الموقف النقدي، وتجديده
الانعطافي، فهو يتجاوز ثنائية العقلانية والتجريبية، وذلك الجدل
العقيم الذي غطى تاريخ الفكر، وخاصة الفلسفة، ما بين أولوية أحد
طرفَي الثنائية على الآخر. فلولا أن العقل يتمتع بتلك الأجهزة
المتوجهة إلى معرفة العالم، ولولا أن موضوعات العالم تنتظم وفق
قوانين الحتمية الرياضية، لما أمكن لقواعد هذه الأجهزة العقلية أن
تتطابق مع قوانين العالم الخارجي، كأنما شروط الفاهمة هي عينها
شروط الموضوع.
والمعرفي ليس هو سوى تركيب العلاقة بينهما. ما يوفر
ظروف انبثاق كلٍّ من الفاهمة والموضوع، هو هذا التناظر القبلي الواقع
بين حدَّي الثنائية؛ فهو يؤكد الاعتراف باختلافهما، كحدين قائمين
بذاتهما، ولكن مع إمكانية الالتقاء بينهما حول كونهما يخضعان معًا
لعين القوانين التي ينتظمان معًا تحت طائلتها.
٩
هذا التحول النقدي الذي يأتي توقيته الحضاري مع لحظة ميلاد العلم
المادي لأول مرة في تاريخ المدنية الإنسانية، كان يحدس به المشروع
الثقافي الغربي وينتظره كيما يستكمل إنجاز العامل الفلسفي الحاسم في
إحداث القطيعة (الكارثية) بين كلٍّ من نظامَي الأنظمة المعرفية، لما
قبل الثورة الصناعية ولما بعدها. إن ميلاد العلم المادي الذي هو
بحقٍّ معجزة المدنية الإنسانية، والمفصل القاطع ما بين الحداثة وما
قبلها، لم يكن ليتحقق نتيجة صدفة ثقافية طارئة من لا جهة. إنه
العقل النقدي الذي سيمارس من الآن فصاعدًا، وانطلاقًا من الثورة
الكانطية، تحيين وظائفه المعرفية في فهم العالم، كظواهر متغيرة
ومترابطة في سياق الزمان والمكان وحدهما. وبالتالي كل ما لا يمكن
أن يتحين
s’actualiser ضمن إطارَي
الزمان والمكان، لن تشمله موضوعية المعرفة؛ إذ لن يكون له حيز
واقعي في (هذا) العالم.
١٠
مثل هذا التفكير الذي يبدو لنا أشبه بالبديهيات اليوم، انتظرته
الإنسانية آلاف السنوات، حتى أتيح له أن يجد توقيته في لحظة نضج
المشروع الثقافي الغربي على المستوى العقلاني في الأقل. فالنقد
[المعرفي] الذي شرعه كانط فلسفيًّا أسَّس ثقافة التنوير؛ نقلها من حيز
ظروفها الآنية والتاريخية التي وُلدت خلالها منذ القرن الخامس عشر،
إلى حيز الفلسفي المحض الذي سيصاحب كل إنتاجات المشروع التنويري
القادمة، وصولًا إلى راهنية المدنية. فالتنويري والنقدي والفلسفي
المحض ليست مصطلحات مترادفة فيما بينها، بل كأنها تتعاون ما بين
دلالاتها، بفروقاتها الكونية الدقيقة، كيما تضيء الدلالة الأشمل
للفكر؛ لعله لا يكف عن الاغتناء باختلافاته المتنامية تحت طائلة
المعنى البدئي والأخير الذي ينفتح عليه: الحرية، حتى يصير هو الفكر
الذي لا يجيء إلا من ذاته، على أن يبقى رديف الحدثان التاريخي؛ وهو
يلعب دور الآخر المتعالي الذي لا ينفك عن إعادة أرضنته في لحم
الواقع وعظمه. فالتنوير لا بد له أن يفكر ذاته، وإلا وقع مجددًا
أسير الظلمة التي تحف به من كل جانب، وتتحين اصطياده عند أول آونة
ضعف. والتنوير إذ يغدو يفكر ذاته، فإنه يصير نقديًّا، بحيث يصير
التنوير عينه إنتاجًا يتخطى باستمرارٍ كل إنتاجاته.
كذلك فإن
النقد لا يمكنه أن يكون، وأن يبقى عين ذاته، إلا إذا
احتفظ بقدرته على استشعار
الفلسفي المحض، في كل منعطف من مسيرة جدل
العقل مع التاريخ؛ ولكن ما هو ذلك الفلسفي المحض في النهاية؟ إنه
ما يجعل كل معرفة أو تعريف يستحق اسمه ذاك عند ذاته. وهذا
الاستحقاق هو كينوني قبل أن يكون قيميًّا. إنه حالة تصفية مستديمة
للمعيار، خالصًا من كل شائبة تحريف تطاله خلال تورطه مع الحدثان الكلي
والجزئي. لكن هذه التصفية لا تقف عند حد؛ لأنها هي والتجربة
يشكلان حقيقة تحيين عمل الفاهمة مع معطيات الواقع وعليها.
١١
لقد ظل مفهوم المتعالي في المصطلح الكانطي لغزًا، أو أنه كان هو
المؤشر على اللغز في كل عملية تعقيلية. وإذا كنا حاولنا أن نعطيه
ثَمة دلالة تأويل معاصرة، نقول إنه هو المؤشر على اللغز (ذاك)، الذي
يفتح على الفكر بما يرجع إليه وحده، ليس ذلك تحديدًا للغز بقدر ما
هو إمعان في تَقرِّي اللغز من داخله دون مفارقة عتبته مع الخارج الذي
لا يفارقه أبدًا.
إن المدنية في أحدث تشكلاتها الأنطولوجية، كل امتيازها عن مسيرات
الحضارات، هو أنها تهيئ الظروف المناسبة لتحقق هذه العملية
النادرة. إنها تجعل
الكوسموبوليتيا ممكنة، تتواجد على عتبات تلك
الحضارات، تقرع أبوابها، دون أن تقتحم أسوارها. وليست كل حضارة
ممكنة بالنسبة لذاتها إلا بمدى قدرتها في الانفتاح على المدنية؛ أي
بقدر ما يكتشف الفعل الحضاري في أرضيته ممكنات الكوسموبوليتيا، هذه
الوساعة الإنسانية، التي يُنميها ويطورها لتتجاوز حدوده الجيوسياسية
والجيوفلسفية معًا، ومن دون أن تفارق هذه الحدود تمامًا. فالمتعالي
الكانطي الذي يجعل المعرفي الموضوعي ممكنًا، هو عينه ذلك المتعالي
الذي يضع الكوسموبوليتي قاب قوسين أو أدنى من الأهلي والمحلي
والإثني، من الجيوسياسي الأنثروبولوجي. ذلك أن المفهوم
الكوسموبوليتي يعني الإطار الجيوسياسي الذي يحتوي كلية الإنسانية،
باعتبارها وحدة أنطولوجية وأنثروبولوجية؛ وليست «أعراق» الإنسان إلا
تنويعًا تاريخيًّا أمبريقيًّا، داخل تلك الوحدة.
١٢ ما يعني أن الاختلاف والتعددية الأنثروبولوجية بحسب
المصطلح الحديث، هو تنوع في طرق العبور من الوحدة الأصلية للإنسان
إلى الوحدة الغائية؛ إنه يعرض لمشهديات التقدم الذي هو نتاجات
الحرية، كما سوف تجسدها كوسموبوليتيا المدنية. وهذا التحقق كان
يعتبره
كانط، يمثل الطبيعة الأخلاقية. إن الطبيعة المادية
الأنثروبولوجية تنتج عبر التقدم، أو طريق العبور، نقيضها وهي:
الطبيعة الأخلاقية، ومحورها الأساسي هي الحرية. فالتقدم كمفهوم سوف
يغدو في حد ذاته هو الفكرة القوة الدافعة إلى تنمية إمكانات
الطبيعة الخام للإنسان، فتهذبها كيما تتحول نتاجات للحرية، وهي في
مسيرة تجاوزها للعقبات، وإبداع عوامل تلك الطبيعة الأخرى الثانية؛
ومهمتها أن ترفع التناقض تدريجيًّا بين ما هو أنثروبولوجي وما هو
تاريخي. والمقصود من التاريخي دائمًا هو التكوين الغائي، الذي سوف
تسميه العلوم الحيوية بالتطور، كأنما له قوانينه أصلًا في عضوية
الإنسان ككائن حيواني متفاعل مع البيئة الطبيعية حوله، ثم مع البيئة
الحضارية التي تنشئها مجتمعاته نفسها.
كأنما يفترض في التكوين أن يأتي بالتقدم المطرد. لكن لم يُفهم
التقدم على هذا النحو دائمًا؛ إذ دعمت الثقافة الدينية منذ القديم
فكرة أن المستقبل مقترن
بالانحلال وليس
بالتكون. فالتقدم، إذا صح
هذا اللفظ، هو اقتراب مُتنامٍ من النهاية الكارثية الإنسانية، كأنما
التاريخ يسير القهقرى نحو الورا؛ إذ ليس ثَمة مفهوم للزمن مفتوح إلى
ما لا نهاية. فالعالم كما كانت له بداية بالخلق، فهو فانٍ ككل شيء
فيه، بحسب الرؤيا الكارثية في النصوص الدينية، والمعبر عنها بيوم
القيامة.
١٣ هكذا يبدو أن التقدم بمعناه الإيجابي، لم يدخل لغة
الفكر والعلم إلا مع
عصر التنوير، حتى كادت لفظة التقدم تتحول إلى
دوغما؛ أي اعتقاد اجتماعي بحتمية التحرك دائمًا نحو المستقبل
الأفضل. ومن ثَم فقد طبعت العصور الحديثة أيديولوجيا التقدم، التي
تعني التطور الدائم للتاريخ، سواء بإرادة الإنسان أو بدونها. وسوف
تحتاج أيديولوجيا التقدمية، عبر تجلياتها المختلفة، إلى اختراع
صيغة ما للكمال الذي تتطور نحوه حركة التاريخ. ومن هنا ظهرت فلسفات
التاريخ كمذاهب محكمة البنيان، تربط متغيرات المجتمعات بتأويلات
البعد أو القرب عن تلبية حتمية التقدم. ولما كانت التيولوجيا قد
رفعت الكمال من تطور الإنسان، وجعلته فوق العالم، إلا أن التقدميات
المؤدلجة إجمالًا جددت اليقين بالكمال، وجعلته المحرك الأساسي
للتاريخ، ووضعته في متناول الإنسان. أعطت بذلك مجالًا رحبًا
للنظرات التفاؤلية التي اجتاحت ثقافة القرنين الثامن عشر والتاسع
عشر، بمستقبل زاهر للمدنية التي لا بد أن تعم عالم الغد، فليس من
ثقافة سياسية خاصة، سواء كانت في صف اليمين أو اليسار، إلا واعتبرت
أن التقدم هو من بديهيات التحرك، وإن كان الاختلاف بينهما قد انصب
دائمًا على تفسير قوانين التقدم، والوسائل الموصلة إليه، بين
جناحَي «الرجعية» و«التقدمية». وهما المصطلحان اللذان سوف يرسمان
مخطط التوزع السياسي لكل مجتمع غربي.
لا شك أنه لا يمكن فهم فلسفة الحداثة إلا على ضوء المعاني
والدلالات المتباينة التي تمظهر من خلالها مفهوم التقدم، طيلة
القرون الثلاثة الأخيرة. وبالرغم من أن الفكر السياسي هو الذي شكل
المسرح الأساسي لتلك التمظهرات، إلا أن المشروع الثقافي الغربي قام
في جوهره، على أدلجة التقدم، والبناء عليه كما لو كان دستورًا
ضمنيًّا متعارفًا عليه عبر كل تحولاته، كبدهية أولى لا حاجة إلى
طرحها على بساط العقلنة إلا بهدف إعادة التعرف على التقدم عبر
إنتاجاته وانحرافاته ونكساته. وحتى عندما تفاجئ أحداث التاريخ
(الكارثية)، بما يزعزع من الثقة بحتمية التقدم [الإيجابي]، فإن
الفكر في لحظة التناقضات الذروية بين الأدلجة والواقع، لا يمكنه
أن يتخلى كليًّا عن التشبث على الأقل بإرادة التغيير، وإن جاءت
المتغيرات على أرض الواقع عكس التوقعات العامة التي حركتها؛ إذ
يبقى مفهوم التغيير أشمل من دلالة التقدم، ويمكن اللجوء إليه عند
الضرورة لإنقاذ حركية التاريخ.
إن
كانط الذي استثارت حميَّتَه أهمُّ حوادث عصره (ذاك)، وهي الثورة
الفرنسية، أشاد أساسًا تاريخيًّا للحداثة بالاستناد إلى تلك الظاهرة
الثورية التي اعتبرها إشارة تاريخية على أن «الحس الإنساني يمتلك
استعدادًا وقابلية لأن يكون علة للتقدم نحو الأفضل (إذ لا بد أنه
كائن متمتع بالحرية) كيما يكون صانعًا له».
١٤ هذا الإثبات لا يخص حضارة ما، بل إنه يبرهن على «نزوع الإنسانية، منظورًا إليها
في كليتها»، وكذلك هو «نزوع أخلاقي».
١٥ وقد لاحظ ألكسي فيلولينكو، أبرز دارسي
كانط المعاصرين،
أن «مسيرة [الجنس الإنساني] إلى الأمام نحو الأحسن لن تعرف أي تقهقر أخلاقي».
١٦ وكان
كانط نفسه قد فسَّر حماسته للثورة الفرنسية،
باعتبارها إشارة تاريخية واقعية لهذه المسيرة، «إن الحماسة
الحقيقية لا تُحمل أبدًا إلا على ما هو مثالي». فما دام يحقق التقدم
الغايات الأخلاقية، فلن يكون إلا تجليًا للحرية وثمرة لها. والثورة
الفرنسية تخولنا الافتراض أنه (التقدم) سيظل مستمرًّا ولا يمكنه
الارتداد. فالعقل الأخلاقي الحر الذي ينتجه التقدم لن يقتصر
على فرد أو أمة أو عصر. لكنه ينبغي له أن يمتد إلى الأجيال
القادمة، وأن يعم الإنسانية.
إن المتعالي المحض سوف يجد تطابقه مع تاريخ المستقبل، نزوعًا
أفقيًّا نحو الكمال، وشمولًا عرضانيًّا؛ إذ يستوعب كل الإنسانية
معًا. هذا النوع من التطابق والتكامل سوف تعبر عنه جدلية هيغل، تحت
مصطلحات أخرى كالروح المطلق، بل الصيرورة. ذلك أن هيغل هو الفيلسوف
الأول الذي أدخل فكرة التاريخ إلى صميم التفلسف المحض. فالصيرورة
لم تعد فكرة شبه أسطورية، كما عند المفكرين اليونان الأوائل؛ إذ
أصبحت الصيرورة محايثة للحدثان الإنساني نفسه. وفرضية الروح المطلق
ليست سوى العقل المحض ما بين هيغل وكانط. إلا أن العقل المحض، الذي
ثبت كانط علاقته الأنطولوجية القبلية بالزمان والمكان، سوف يمارس
«فعاليته» بطريقة مشخصة عبر التحامه بمتغيرات الصيرورة. وأما تلك
الأجهزة النظرية التي تمتع بها العقل، كالمقولات والفاهمة
والمتخيلة، فلن ينحصر عملها في عقلنة الإدراكات الآنية فقط، بل
إنها ستتطور إلى منهجية شمولية تستوعب حركية الوجود الإنساني، إنه
منهج الجدلية الذي يجدد هيغل اكتشافه بعد أفلاطون، لكنه يقلب آلية
استخدامه. فبدلًا من أن يكون الجدل سمتيًّا بين العقل والمُثل في
الملأ الأعلى، على الطريقة الأفلاطونية، فإنه يغدو التقاطًا حركيًّا
إنتاجيًّا، مساوقًا لإنتاجية العقل، ملتحمًا مع عضوية الواقع، كما
ينشره التاريخ الكلي للملحمة الإنسانية، ووفق حركية خطية (طولانية)
نحو المستقبل دائمًا.
عندئذٍ يلقى مفهوم التقدم تأسيسه الأنطولوجي من حيث إنه يصير
انعكاسًا ملازمًا لحركية الجدلية التي تستوعب كلية
التاريخ، بما فيها من إنتاجات الصالح والطالح، المتقدم والمنتكس
والمتردد بينهما، السلب والإيجاب. وهنا تتميز جدلية هيغل، كونها
تحرر السلب من جموده المنطقي، وإدانته الأخلاقية، وتجعله عاملًا
فاعلًا في توليد الحدثان ودلالته معًا، وعلى قدم وساق مع الإيجاب.
بل يبدو الإيجاب غير مفهوم بدون السلب. فالتهديم والبناء، الحرب
والسلم، الإبداع والعقم، كل هذه المتعارضات وأشباهها ليست سوى
تجليات من أحوال التاريخ الذي لا بد له من كل هذه الحدود الملازمة
لتجسداته خلال منعطفات الزمكان، ومنعرجات الحدثان وتوليداته
غير المنظورة. فاكتشاف الجدلية مع هيغل أعطى للتقدم ليس أساسه
الفلسفي المحض فحسب، بل حدد قانونه العملي. أسبغ على العالم نوعًا
من العقلانية الحركية. لكن لا يسير التقدم بحسب خط مستقيم دائمًا.
والسلب يدخل في مسيرته على قدم المساواة مع الإيجاب، إن لم يكن
أحيانًا يفوقه أهمية؛ وإن كان يتبقى للإيجاب الجولة الأخيرة؛ إذ إن
هيغل أتى بفكرة التركيب [التوليف] الناجم عن صراع حدَّي الموضوعة
ونقيصها. والتركيب لا يمكن أن يأتي إلا إيجابيًّا؛ لأنه يسجل ما
ينتجه صراع النقيضين نحو ما يتجاوزهما معًا. ولكنه في الوقت عينه
لا يمكث التركيب إلا لحظة آنية كيما ينتج من نفسه ما يفجر ضدًّا عليه،
الحد النقيض، فالحركية الشاملة ترفض تجميد الحدود في صيغ نهائية،
والزمن لا يتوقف عن تخطي آناته، والتاريخ هو مسرح النقائض، كما أنه
لا يكف عن توليد الجديد والمفاجئ والمنتظر وغير المنتظر في آن،
كأنما يمتلك التاريخ مكرًا لدرجة أنه يجعل الشر نفسه يتمتع بخاصية
سحرية في تحويل ذاته إلى خير. تلك هي القدرة التي ينطوي عليها
الجدل، وبدونها لن يكون للتقدم مبدأ يرتكز إليه، بل قد يرجع
التاريخ حينئذٍ إلى وضع السديم والفوضى اللاعقلانية.
إن التقدمي الجدلي يمكنه أن يفسِّر جميع ظاهرات التاريخ بمفتاح
واحد سحري، وهو أن يضع السلبي في خدمة الإيجابي دائمًا. فالظلم
يحرِّض على إقامة العدالة. والحرب تبرز قيم السلم الذي سيتبعها
حتمًا. شبكية المتعارضات في مسيرة التاريخ هي التي تغذي قانون
العلية؛ وهنا يستوعب النهج الجدلي آلية العلية، ويُدخل الحركة
المتشعبة والانتشارية فيها وحولها،
١٧ حتى تبدو الأحداث، على تعارضها وتباينها فيما بينها،
وقد انضمت في نسيج واحد متكامل الألوان والأشكال، فالجدلية أتاحت
لهيغل أن يجسد العقل المحض الكانطي حركيًّا، في مسارح التاريخ. فكان
له أن يبتكر مصطلح
اللاتناهي المجسد، كتعبير عن تلاقي العقلي
بالواقعي وبالعكس، بحسب مبدئه الشهير: كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما
هو واقعي عقلي. هذا المبدأ يفتح الطريق واسعًا أمام «المتعالي»
الكانطي كيما يمارس عقلنة العالم في شموله الزمكاني. لكن هيغل لم
يتنبه إلى أنه قد لا يعقلن العالم، ولا يمنطق المتعالي بقدر ما أنه
يمذهب كلًّا منهما؛ إذ إن العقلانية الجدلية لا تتعامل مع
العالم كما هو، بقدر ما أنها تخلق عالمًا افتراضيًّا فوقه، هو من
نسيجها عينه. ولذلك أراد ماركس أن يصحح وضع الجدلية، فبدلًا أن
تمشي مقلوبة على رأسها، أي أن تبقى عقلانية مجردة، فإنه لا بد من
إعادة قلبها، لتسير على قدميها. فليس
الروح المطلق هو الذي يحقق
إمكاناته الكامنة عبر قيادة حدثان التاريخ وتأويله على هواه، بل إن
التاريخ هو نتاجات الصراع بين عوامله المادية نفسها وحدها.
و«الوعي» ليس هو كذلك إلا لأنه يقرأ الصيغ الواقعية التي يتشكل
بموجبها هذا الصراع. قد يسيء الوعي هذه القراءة بسبب «اغتراباته»
عن الواقع، فيتشكل حينئذٍ «
الوعي الزائف» الذي سوف يصير مصطلحًا سحريًّا
مع الماركسية.
ماركس لا يعترف بالاغتراب الأصلي؛ إذ يفترض قبليًّا وضمنيًّا أن وضع
الإنسان خارجاني بالنسبة لجدلية التناقض الرئيسي في نظره، ما بين
وسائل الإنتاج
وأشكال الإنتاج. ويقتصر دوره على تلقي انعكاسات هذه
الجدلية التي تنتج ظروفها وأحوالها بنفسها، ولا تدخُّل لإرادة
الإنسان في أفعالها، اللهم إلا بمقدار ما يكون وعيه لها
طبقيًّا،
فيتحالف مع إيجابياتها ويقاوم سلبياتها، بدون أية قدرة أولية على
الحسم في متغيراتها. فالمادية التاريخية لا تقبل شريكًا لها، حتى
وإن كان هو الوعي، بل تجعله تابعًا لموجباتها ومساعدًا لها، سواء
كان وعيا أمينًا وسليمًا، أو معيقًا لإنجازاتها؛ إن كان عاجزًا عن
كسر اغترابه وانسلابه، أو أنه كان متواطئًا مع البرجوازية، قابلًا
للانخداع بمغريات مجتمعها الاستهلاكي، فيصير في هذه الحالة منتميًا
إلى حالة
الوعي الشقي أو الزائف.
١٨
غني عن البيان أن الماركسية اعتقدت أنها تعطي فكرة التقدم أقصى
حدود العقلانوية، إن هي أقامت البرهنة الشاملة على أولوية المادية
التاريخية كحتمية مفروضة على كل فعلاء التاريخ بمن فيهم الإنسان
أساسًا؛ إذ إن موقعه الطبقي هو الذي يحدد مصيره (برجوازيًّا كان أو
بروليتاريًّا)؛ وعلى هذا يمكن اختصار القول إن الماركسية شكلت أوج
المفهمة المذهبية لفكرة التقدم حتى حد الإشباع. وقد تخطت مجالها
الفلسفي حتى أمست لاعبًا رئيسيًّا في حدثان التاريخ خلال القرن
العشرين الذي يستحق اسمه باعتباره قرن الأيديولوجيات بلا منازع،
حيثما ازدهرت صراعات حدية بين أدلجة الفاشيات من جهة، وطوبائية
الماركسويات في الجهة المقابلة. وكلها يمكن وصفها كذلك بالطوباوية
المصابة بوباء نزعة التمركز حول المستقبل le
futurocentrisme، فهي تاريخية مستقبلية تبرر/تسوغ
كل صراعات الحاضر وشروره، المتورطة هي أصلًا في توليدها، بجنان
المستقبل القادمة لا محالة.
لقد برهنت تمارين عبادة المستقبل — كما دُعيت طوبائية التقدم منذ
القرن الثامن عشر — خلال كوارث الحروب العالمية وتفريعاتها، أن مذاهب
الطوبائية لم تثبت فقط استحالة مستقبلها (الوردي)، إنما دلت على
إمكان وجودها، كأنظمة شمولية، في الحاضر نفسه من خلال ما تشنُّه من
حركات سياسية تحشيدية كبرى، تسيطر على الدول والشعوب بكاملها،
وتدفعها إلى التحارب الوحشي فيما بينها وراء أحلام الهيمنة على
العالم. وعلى ذلك فالطوبائي بدلًا من أن ينشئ جنَّته المستقبلية
المستحيلة غدًا، فإنه يستبدلها عمليًّا بجهنم الحاضر الذي لا منفذ
منه إلا في المزيد من القمع الاجتماعي والطغيان السياسي. إن الحرية
المؤجلة تصير مبررًا للاستبداد في الحاضر الراهن. ذلك ما تكشفت عنه
أكبر تجربة «عقائدية» في العصر تحت عنوان الشيوعية الدولية. فإن
سقوط هذه التجربة الكليانية العظمى ينبغي أن يضطر مفهوم التقدم على
أن يتطهر من كل التصاق مستقبلي بأيديولوجيا للتقدم؛ إذ سوف تقع
حينئذٍ تحت طائلة مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة، دون أن تدري، بحيث
تموت الغاية (النبيلة) تحت وطأة وسائلها الراهنة المضادة غالبًا،
وطغيانها المتمادي.
III جينالوجيا التقدم
هنالك رحلة تاريخية شاقَّة غاصَّة بتأويلات للتقدم حاولت الالتصاق
به واستخدامه لصالحها الآلي، حتى كاد التقدم يجهل ذاته في آخر
المطاف. إنه كالتفلسف المحض الذي قد تدعيه كل الفلسفات لذاتها.
بينما هو ينسل من أغلبها، إذ تخطئه المذهبيات خاصة. بل إن أي بناء
فلسفي لا يمكن أن يستنفد التفلسف المحض، أو أن يستوعب كل حركيته،
أو يغتصب براءته. بل إن أنجح العمارات الفلسفية هي تلك التي يمكنها
في محصلتها أن تفتح كوة على آفاقه، وأن تحقق إشارة مرموزة وموجهة
نحو مجهوله؛ وفضيلة «العقل المحض» أنه حاول أن يعطي ما يمكن تسميته
بالتمرين الحداثوي الأول على كيفية التعامل معه، وقد عيَّن مدخله من
باب النقد، الذي سيزود الوالجين منه وحدهم، بمنهج التحليل والتركيب
بدلًا من اللجوء إلى استنتاج الأوصاف من جوهر ثابت، كما كان عهد
العقلانويات التقليدية السابقة. وهذا المنهج هو الذي يمهد الأرضية
الخصبة كذلك لإشادة جدلية المفاهيم فيما بينها، قبل إدخال عامل
التكوين، الذي هو لحمة الزمانية، أو الجدلية التاريخية بمعناها
الشامل غير المؤدلج مذهبيًّا.
فالعقل المحض اكتشف ما تعنيه عملية الفهم، ما تتضمنه من وظيفيات
تشتغل بحسب حركية التحليل والتركيب لمعطيات التجربة المندرجة في
الزمان والمكان. وإذا ما وُصف هذا الكشف بالشكلانية، فذلك لأن العقل
لا يمتلك سوى الأطر التي تستقبل مادة المعرفة بطريقة الحدوس
الزمكانية، وتخضعها لعمليات التحليل والتركيب التي تحول هذه المادة
الخام إلى مفاهيم؛ لكن الشكلانية هي المدلول المباشر للعقل المحض.
وهي التي يمكن أن تنضوي كذلك تحت خاصية التفلسف المحض، بما أنها هي
الخاصية التي تطلق إمكانية
فهم الفهم، من دون أن تتورط في وقف
هذه العملية عند مضمون محدد ونهائي. إن الثورة الكانطية المستمرة
حتى عصرنا كان عليها أن تحرر دائمًا التفلسف المحض من سيطرة سؤال:
ما هي المعرفة؟ إلى سؤال:
كيف تكون المعرفة؟ هناك نقلة حاسمة، بل
«قطيعة كارثية» بين النظامين، ما بين ثقافة
السؤال الماهوي وثقافة
السؤال التكويني. الأول يفترض قيام المعرفة قبليًّا، وعلى العقل أن
يبحث عن ماهيتها، والتمييز بينها وبين ما يحجبها أو يزيفها، وذلك
بحسب النهج الأفلاطوني الأصل، ثم الموروث الديني والغيبي. أما
السؤال الثاني فيفترض أنه ليس ثَمة من معرفي يعلو فوق الزمكان،
وبالتالي كل ما يندرج في سياقه فهو صيروري تكويني. والشكلانية هي
فن التقاط ذلك المتغير السائب، أي انتزاعه من الحالة السديمية، من
الكاوس، وجعله مفهومًا، أو بالأحرى قابلًا لسرد قصة تكوينه،
استنادًا إلى نهج تفكيكه واستعادة تركيبه شافًّا واضحًا أمام العقل.
١٩
قد تكون مع الكانطية نشأت إشكالية الذات والموضوع، التي شغلت
فلسفة الحداثة طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولًا إلى
ضفاف القرن العشرين. وكان هيغل هو أول من نفر من هذه الثنائية،
ووجد أنها تؤسس لمختلف الثنائيات الأخرى التي تكاد تشكل هيكل
الفلسفة الكانطية، كالشكل والمادة، والسيمة والمحتوى، والكلي
(اليونيفرسالي)، والجزئي أو الأحادي، والوحدة والكثرة. وتكاد تكون
هذه الثنائيات المفترضة ضمنيًّا، تؤلف هذا المستوى مما يوصف بمستوى
الوقائع قبل المفهومية des réalités
préconceptuelles، هذه الثنائيات، بدءًا من قطبية
الذات/الموضوع، قد تقوم بتحديد كل قطب مقابل الآخر، وبمعزل عنه،
ولكنها لا تستطيع أن تفسر العلاقات بينهما، كيف يقع التأثير
المتبادل. هنا يقترح هيغل إدخال مصطلح الوسيط
médium مستخدمًا ذلك اللفظ
(المتعالي) كذلك، وهو الروح
l’esprit؛ والمقصود منه وسائط
اللغة والعمل والتواصل: إنه «في حقيقة الأمر لا يمكن الحديث لا عن
الذات ولا عن الموضوع ولكن عن الروح». غير أن هذه الروح ليست
مفارقة غيبيًّا، وليست متحققة دفعة واحدة. إنها تبني التاريخ وتنبني
هي به، بل تكاد الروح تُجمل تاريخ التحقق الإنساني في العالم،
منظورًا إليه في كليته، أي وحدته (الفلسفية). بعبارة أخرى لن تبقى
الأنطولوجيا تضم عالم الماهيات السرمدية، بل سوف تمتلئ بتكوينات
أنثروبولوجيا حركية، هي إنجازات تاريخ الإنسان عضويًّا حيويًّا،
وانتظامًا متناميًا في صيغة مدنية متكاملة.
فالبحث عن الوحدة الكلية، ذلك التقليد الفلسفي العريق منذ أيام
اليونان، لم يفارق فكر هيغل. كان يراها مجسدة في مفهوم الروح
المطلق الذي سيطر عليه خلال مرحلته الإبداعية في «يينا»، غير أن
هذه الوحدة ليست جوهرًا علويًّا، ولا تتحقق دفعة واحدة. إنها
محتاجة إلى نشوء التاريخ كله.
٢٠ هنا تبرز الجدلية كمنهج للتقدم ينتج العلم والفن
والفلسفة والسياسة، كتجليات لذلك الروح المطلق. وبلغة حديثة يكون
المقصود هو أنها تمثل تحققات المدنية؛ ومن ثَم على التفلسف المحض أن
يكشف علاقات التكامل بينها، وذلك بقراءة الحدث المعني على ضوء تحقق
المفهوم وفق المذهب الهيغلي، عبر مسيرة التقدم، نحو تطابق كامل بين
العقل والواقع.
لا شك أنه مع الهيغلية يمكن القول إن التقدم أصبح يضم تاريخ
التكامل الإنساني المتحقق على إيقاع جدلية التاريخ المتحركة
والمتنامية، تحت طائلة غائية تتجلى في إعادة إنتاج قصته الإنسانية
على مستوى عقلنة الواقع في النهاية، وجعله متطابقًا تمامًا مع الحرية.
هذه العملية الشمولية الجبارة هي حياة «المفهوم» وتحققه المحايث
المباشر، إنه يؤسس في المحصلة الكلي (اليونيفرسالي) المجسَّد أو
المشخَّص.
بعد هيغل لم يعد يُفهم التقدم إلا من خلال فلسفات كليانية تحاول
كلٌّ منها عقلنة التقدم مذهبيًّا، أي وفق منطلقات تبتعد قليلًا أو
كثيرًا عن التفلسف المحض، لتغدو أقرب إلى الأيديولوجيا، حتى وصل
الأمر إلى ماركس وإنجلز؛ إذ أمسى التقدم عقيدة صارمة تستند إلى
نظرية في الحتمية التاريخية، وقد أعطاها ماركس وصفًا محددًا
باعتبارها مادية تاريخية، في حين توجهت دعاوى الانتقاد العنيف منذ
أواخر القرن التاسع عشر إلى الجدلية المثالية التي انتهى إليها
المشروع الهيغلي، وانصبَّ عليها جامُ الغضب من قِبل النزعات الفلسفية
المصطفة إلى جانب حركات التحرر السياسي والاجتماعي التي حفل بها
الغرب الأوروبي مع نمو العصر الصناعي، وبروز دعوات الاشتراكية
واليسار الجديد المتصاعد. غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن
كلًّا من اليسار واليمين آنذاك حافظ على تعلقه وإيمانه، شبه السحري
وحتى الغيبي، بأقنوم التقدم. وكان الخلاف هو على طريقة فهمه
وتأويله أو أدلجته خاصة، دون أن تصيبه الشكوك أو تنال من بداهته؛
هذا بالرغم من تعاظم الأكلاف الاجتماعية والأخلاقية المصاحبة
لبدايات التحول البنيوي للمجتمع التقليدي نحو برجوازيات الرأسمالية
الصناعية الجديدة.
ولعل النكسات الأولى التي مزقت قدسية الهالة المحيطة بدئيًّا
بمفهوم التقدم ووعوده الجميلة، قد أصابته من جراء التراكم السريع
للإحباطات النفسية والاجتماعية الناجمة عن عقابيل الثورة الصناعية،
التي هزت أسس المجتمع القديم، وفرضت عليه إعادة تلاؤمات قسرية
وفجائية للقيم والمفاهيم والأخلاق العامة والفردية. فتصاعدت حركات
الاعتراض والاحتجاج على المظالم الأولى التي ارتكبها التصنيع الجلف
والعشوائي، غير الخاضع بعدُ لأية ضوابط قانونية تنظم علاقاته
بالطبقة العاملة الناشئة. وهكذا، وعلى أساس إعادة هيكلة المجتمع
بحسب التوزع الطبقي الجديد، تصاعدت الحركات السياسية المعارضة
سابقًا للدولة والأنظمة الملكية شبه المطلقة الحاكمة؛ وقد عثرت لها
على قواعد شعبية مختلفة، مع تشكل الطبقة العمالية في المدن، والفئات
المهنية والحرفية، وفئات البرجوازية الصغيرة، إلى جانبها. فظهرت
بوادر اليسار الحديث الذي تجمَّع حوله المثقفون والناشطون السياسيون.
هكذا اكتسبت حركات المعارضة مضامين اجتماعية ومادية مباشرة؛ فكانت
الفلسفة في هذه الأجواء الانقلابية رائدة الأفكار الإصلاحية. راح
صراع الأفكار والمفاهيم يأخذ خطوطًا متوازية مع متغيرات الظروف
الاجتماعية المتسارعة على وقع نمو علوم الطبيعة، وتتابع الاختراعات
المذهلة في شتى الحقول،
٢١ وما صاحبها كذلك من كوارث العنف.
فمن جهة أولى يصير التقدم منتجًا في العلوم وتطبيقاتها، لكنه في
الحين عينه يغدو متهمًا ومسئولًا عن الكوارث الإنسانية الناجمة عن
انقلاب حياة الناس رأسًا على عقب، وخاصة مع ظهور تلك الفئات
والطبقات العمالية المتعاظمة نتيجة الهجرات الكثيفة المتتابعة من
الريف والزراعة، والالتحاق بآلاف المعامل التي راحت تجتاح
المدن الرئيسة، وتغير جذريًّا من طابعها الكلاسيكي، وتبني مجتمعات
جديدة مختلفة في كل شيء عما كانت عليه خلال القرون السابقة
المديدة. هنالك ثقافة أخرى تولد من أحياء الفقر والبؤس، وحياة
المشقة والجهد الجسماني، والانحصار النفسي الذي تعانيه ملايين اليد
العاملة المكدسة في أحياء ومساكن مُزرية، غير معدة أصلًا لاستقبال
الكتل الزاحفة من الضواحي وأعماق الأرياف البعيدة، طمعًا في عيش
المدينة، والالتحاق بأنماط الإنتاج الصناعي الناشئة. هكذا تزدهر
العناصر الجديدة لثقافة أخرى مختلفة بمضمونها وأساليبها
والمتعاملين معها، وقد توصف مبدئيًّا بالمباشرة والأقرب إلى واقع
الحياة اليومية. وتعكس ذاتها على صحافة متوجهة إلى الأعداد
الكبيرة، وغير المعروفة إلى وقت قريب، بما تكشف من موضوعات الوصف
والتحليل والتقييم لتناقضات البرجوازية الصناعية الصاعدة. ويتنبه
الفكر الفلسفي إلى هذه الأوضاع العامة المستجدة، فتتطور من رحمه
العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتبتكر هذه مناهجها الخاصة الملائمة
لفهم المتغيرات المتلاحقة. في هذا السياق الغاص بالأسئلة الجديدة
في كل نوع، يخلع التفلسف المحض آخر عباءات التجريد عن كاهله، ويشرع
بالغوص في عمق الحدثان الهائل حوله، وفيما يطرحه من إشكاليات
واقعية عقلية، غير المألوفة سابقًا في برامج أهداف النظر الفكري
المعهود. ولكن حدث هذا من دون أن يتخلى التفلسف المحض عما كان
يميزه دائمًا، سواء عن أشكال العقلنة الطارئة، أو العلموية الصاعدة
ذات الادعاءات بالكشف عن الحقائق النهائية.
فالامتياز النوعي للتفلسف المحض أنه يظل يعتصم وراء التسآل
السقراطي. كما يبقى فعالًا رغم تبدل الأزمان والأحوال؛ أي بقدر ما
يعيد اكتشاف راهنية التسآل السقراطي؛ إذ يستوعب أسئلة العصر. ولكنه
يظل يمارس «ثقافة» المتعالي الكانطي من خلالها، فيحاول التقاط
الثابت الوحيد في الصيرورة، وهو التغيير المستمر.
غير أن المشروع الثقافي الغربي نجح في محاولة إعطاء صياغة أكثر
محايثة لهذا الثابت الوحيد، الذي هو التغيير المستمر في الصيرورة،
فأسبغ عليه تشكيل التقدم. لم يترك الصيرورة خاضعة لصدفة التغير إلى
ما لا نهاية، وفي كل اتجاه، بل رسم لها سكة، ووضع في طريقها
محطات وانعطافات، وفرض عليها غائية لا تجلس هكذا بعيدًا في نهاية
المستقبل، لكنها تتدخل في تفاصيل الدرب الذي يسبقها، ويؤدي إليها
حتميًّا في المآل الأخير؛ ومع ذلك يظل «التقدم» من وجهة نظر
أنطولوجية يمثل حالة من حالات الصيرورة، ولا يمكنه أن يستوعبها؛
بينما يصر المشروع الثقافي الغربي، ومع هيغل خاصة، على حاكمية هذا
الاستيعاب، ورفعه إلى مستوى توحيده وحركة التاريخ كلها. وقد تمت
البرهنة على هذه الموضوعة كما يلي: أن الصيرورة لا تُعقل بدون بوصلة
الاتجاه، والاتجاه لن يكون عبثيًّا، إنه منجذب نحو هدفه دائمًا. لقد
خدمت إنجازات المشروع الثقافي الغربي على المستوى الحضاري فلسفة
الغائية هذه، من حيث إنها تمثل تركيبًا أعلى لهذه الإنجازات؛ فأمسى
يستحوذ عليه سلطان الغائية الذي لا راد لحركيته المستمرة
المتنامية. ولسوف يشهد عصر الحداثة الغربية مذاهب رهيبة تبتكر
طقوسًا متناقضة إلى درجة التفاني المتبادل ضد بعضها، طمعًا في
ابتكار ديانات متصارعة حول عبادة المستقبل واحتكار غائيته لصالح
هذه الأيديولوجيا أو تلك. وكلٌّ منها لها ادعاؤها بالكشوف الخاصة عن
قانون ما للتقدم، ورسم خطة أحادية لتحقيقه.
٢٢
لم يعد التقدم مرتبطًا بتغير المفاهيم وحدها، فقد أضحى هو
والمفاهيم مطايا للانقلابات الاجتماعية السياسية والاقتصادية التي
يثيرها العصر الصناعي وقفزاته الهائلة المتلاحقة المتحققة المسيطرة
على المجال العام، وبما تثيره من انعكاساتها على حياة الأفراد
والجماعات. وبقدر ما أضحى الزمن الإنساني هو مجرد سلسلة من
الانتقالات المداهمة، مبرزًا أكلاف التقدم ومردودها السلبي على
العلاقات البيذاتية، والأنظمة المعرفية التي تستند إليها عادات
الأقوام وقيمها عادة، فإن الفكر عانى دائمًا، وعبر رحلة حضارة الفن
خاصة، من مشقة التطابق بينه وبين ما ينطق باسمه في مفاصل الواقع.
لم يكن من السهل على الفكر بما هو يرجع إلى ذاته، أن يلتقط إشارات
حقيقية لمعالم المتعالي الكانطي، قد تأتي بها حدثيات التاريخ تحت
طائلته. فالجدلية الأنطولوجية (هيغل) ووريثتها المعاصرة جدلية
المادية التاريخية (ماركس)، كلتاهما لم تنجحا في عقلنة التقدم بحرف
كبير، رغم أن كلًّا منهما كادت أن تكون فارس عصرها في احتكار تأويل
التاريخ؛ الأولى خلال القرن التاسع عشر، والثانية خلال القرن
العشرين.
من هنا يمكن التوصل إلى ما يشبه تشكيل إبستيمية فوكونية — نسبة
إلى فوكو — وذلك كما يلي:
إن المشروع الثقافي الغربي كان يعيش
تاريخين متآنيين؛ أحدهما هو الواقعي ولكن ليس الحقيقي، والآخر هو
الحقيقي لكنه ليس الواقعي. فلا يمكن إنكار أن الغرب قد صنع لنفسه
تاريخًا واقعيًّا إلى أقصى حد في مختلف مراحله، وعلى الأخص في ظل
حداثة التنوير، وأن هذا الوقع فريد أوحد، لم تحظَ بمثله أية مدنية
سابقة، لكنه مع ذلك لم يكن ليحدث كما حدث، إلا لأنه، ولشدة واقعيته
وفرادته في الآن عينه، كانت مدنيته تلك على استعداد دائمًا لأن
تنكر أحقيتها فلسفيًّا على الأقل. وتلك كانت فضيلتها الاستثنائية؛
إذ إن هذا الإنكار لأحقيتها من مفصل حدثي إلى آخر، إنما كان يذكر
بضرورة وجود واقع آخر يصير بمثابة وطن كينوني لهذه الأحقية، وأن
أعظم تراجيديا هي أنه، ومن أجل هذا التذكر الأفلاطوني المطلوب هيدغريًّا،
٢٣ كان لا بد أن يأتي حتميًّا التاريخ الأول (الواقعي وليس
الحقيقي) بما وكما أتى به حتى يمكن للتاريخ الآخر، الحقيقي وليس
الواقعي، أن يتواجد في ذاته ولذاته بطريقة ما، وأن يكون تواجده
موازيًا للتاريخ الأول، كالخطين المستقيمين والمتوازيين اللذين لا
يلتقيان مهما امتدا، وهندسيًّا كذلك؛ لكنهما قد يلتقيان فلسفيًّا، ومن
خلال تلك المسافة الانفصالية القائمة بينهما باستمرار. إنه المتعالي
الكانطي، وقد فارق مفارقته التجريدية الأولى كما ابتكره واكتشفه
«نقد العقل المحض»، ثم تعايش مع تلك التجربة التدشينية الكبرى
حداثويًّا في ممارسة
التفلسف المحض، ومضى في تشكيل مفارقة أخرى
كبرى، هي جينالوجيا تكوينية موازية لأركيولوجيا التاريخ الحدثي
تحتها.
بعبارة أخرى، إن التاريخ الثاني الذي هو الحقيقي وليس الواقعي،
إنما يبني، يكوِّن سلطة الاختلاف، وهي بدورها لا يمكن التعرف عليها
إلا بانوجاد ما تختلف هي عنه؛ أي ذلك التاريخ الأول الذي يراكم
أركيولوجيا الحدثان الخاص كما هو. أما التقدم فهو الذي عليه أن
يمارس قراءة موضوعية لكلا التاريخين؛ فيصير للأول مصطلح
الجيوسياسي، وللآخر مصطلح الجيوفلسفي. أما هذا الجذر «الجيو» فهو
الذي يشكل رابطة المفهوم الاستراتيجي لكلٍّ منهما. فالتاريخ الأول
يتابع بناء حدثانه، يراكم الوقائع المادية ورواسب الدلالات
والرموز. إنه يملأ مساحات الزمكان. إنه صخب العالم وحشوده. إنه
يُمسرح الصيرورة. يُتخمها بالتفاصيل، بأشياء الأحداث، وأحداث
الأشياء. إنه مصنع المواد الخام، التي تبقى بانتظار أن يخلع عليها
التاريخ الآخر أسماءها، ويصوغ هيئاتها، يمنحها كائناتها. وفي الآن
عينه فهو يبني ذاته من خلالها، كتاريخ للأفكار، التي ليست مجرد
انعكاسات لوقائع التاريخ الأول، بل هي أفكار حادثاتٌ كذلك. قد يكون
لها ادعاء كونها أسماء حقائق، أو هي الحقائق عينها. فالحدث مجرد
خامة جرداء حيادية، ولا تمتلك سوى «قوة» الحياد. أما من يورطها في
ثقافة الدلالة، ويخترع لها اسمًا، فهو ذلك التاريخ الآخر غير
المكتوب بعد، والباحث عما وعمن يكتبه. إنه الحقل «الميتافيزيقي»،
حسب معناه ما بعد الحداثوي، الخاص بممارسة التفلسف المحض.
الجيوسياسي والجيوفلسفي يصطلحان على التاريخين: من هو واقعي وليس
حقيقيًّا، ومن هو حقيقي وليس واقعيًّا، وذلك بارتكاب مجازفة التعيين
لبراديغم التعارض الرأسي والتجريدي بين التاريخين، ليس كعلاقة ثبات
بين حدثين متغيرين، ولكن كما لو كانا حقًّا وفعلًا يؤلفان براديغم
الجدلية المشخصة بين الحركية (الدينامية) والغائية الثابتة؛ إذ إن
خاصية المشروع الثقافي الغربي هي أنه
منخرط دائمًا في إنتاج
تاريخه، وفي الاعتراض الفعال عليه في آن واحد. فالغائية ليست كمالًا
نائيًا بانتظار نضوج التاريخ كيما يتحد بها في نهاية المطاف، كما
تفترض جدلية هيغل (المثالية).
٢٤ ذلك أن الصيرورة لا يحدها هدف، وإن كان هو الكمال، أو
تطابق العقل مع الواقع. هذا ما يميزها عن مفهوم التقدم المتداول
الذي لا يمكنه أن يختزل الصيرورة، فهو مجرد حالة من حالاتها. وأما
ما تكون عليه الصيرورة في ذاتها، فلا شيء قد يلتقط بعض جزافيتها
الأصلية سوى براديغم التاريخين المتمايزين والمتضايفين في آن واحد.
ذلك ما يعبر عن جدليتهما التعارضية تلك، المصطلح الإجرائي:
الجيوسياسي والجيوفلسفي. ونَصِفه بالإجرائي هنا لكونه يسعى إلى توطين
تحليلاته في السياق الزمكاني دائمًا.
لقد احتاج هيغل إلى ابتكار أقنوم الروح المطلق وتجلياته عبر
فينومنولوجيا التاريخ، كيما ينقل المتعالي الكانطي من حدود العقل
المحض إلى وساعة المحايثة، معروضةً خلال الزمن الإنساني وإنجازاته
الحضارية المتنوعة والمتكاملة في تركيب أعلى. يتحقق عبره نظام
الأنظمة المعرفية اليونيفرسالي، وذلك بعد أن تتراكم تمارين
العقل المحض في صراعه مع تضاريس المحايثة وضروراتها المادية والظرفية.
هكذا، فإن حدسَي الزمان والمكان (الزمكان) يمتلئان بفيض الحدث
الإنساني، يغادران قوامهما النظري المعرفي البحت، كيما يلعبا دورهما
الأساسي في إشادة معمار الفهم الشمولي، متناميًا مع التمييز
التفصيلي لآلية الفعل والانفعال بين الإنسان والعالم. فالجدلية
التاريخية ليست سوى تعبير نظري عن النشر والانتشار الزمكاني للعقل
المحض، وقد تحوَّل من قوامه الأول عند كانط، كجهاز للمعرفة والفهم،
إلى شمولية الصيرورة وجدليتها المجسدة للتاريخ، والمتجسدة دومًا في
حدثانه عند هيغل. فالظاهرة لا تعود منفصلة عن الشيء في ذاته. كل
حدثان لا يحمل دلالته الخاصة فحسب، لكنه أيضًا يومئ لليونيفرسالي
الذي يطوف هو في ضواحيه؛ إنه يقدم، يضع دلالته الجزئية في خدمة
المفهوم بالحرف الكبير؛ وبذلك فإنه يضيف لُبْنته الخاصة إلى مكانها
الذي ينتظرها، من الصرح المتكامل للروح المطلق. وهذا ليس سوى
المتعالي الكانطي الذي كان الحارس القيم على مفهمة العقل لذاته
وللعالم الخام من حوله؛ ثم أمسى، مع الهيغلية، في وضع المجيب عن
السؤال الذي تركه كانط معلقًا، وهو كيف يمكن للعقل المحض أن يفيض
بتعاليه على العالم. فجازفَ هيغل بإعطاء الجواب. كتب موسوعة المدنية
في تمارينها العظمى، كما لو كانت تشخيصًا للتمرين الأعظم والأشمل
لتحقق العقل المحض على أرض المحايثة الزمكانية. وإنه تحقق للعقل
المحض ليس في ذاته، فيظل في هذه الحالة مجرد جهاز للمفهمة
السكونية، بل لذاته كذلك، أي عندما يغادر صومعته البدئية إلى
العالم، محدِثًا التاريخ ومحدَثًا هو به. هذه العملية الجدلية
الشمولية هي التي يطلق عليها اسم المفهوم، حسب منطوقه الألماني، مع
الشحنة الدلالية الغنية التي يضيفها الاصطلاح الهيغلي إليه.
عقلنة الصيرورة: لماذا التقدم؟ وإلى أين؟
لا ريب أن الكانطية لا تبلغ ذروتها المثالية مع الهيغلية، لكن
فينومنولوجيا الروح قد منحت المتعالي سياق التحقق التاريخاني.
أعادت الهيغلية كتابة موسوعة التكوين للتاريخ الإنساني، على مستوى
تأويل حدثانه بواسطة صناعة المفاهيم النسبية والإجرائية، التي
عليها هي بدورها أن تنسج مضمون
المفهوم بحسب صيغته
النيوفرسالية. وبذلك تتم ترجمة
الصيرورة إلى قصة الإنسانية بلغة
المفاهيم، التي يرجع إلى العقل المحض فضلُ تبيان صناعتها تحت طائلة
المتعالي. وهو نفسه يصير موازيًا للمفهوم الهيغلي أو أنه يتحد به.
على كل حال قد يوصف هذا البناء التجريدي الهائل بالخواء، إن لم
يمتلئ بالتجربة في شمولها لقصة نشوء الإنسان نفسه ومدنيته، وضدًّا
على بربريته. فكان الكشف الأعظم لتراجيدية الحداثة أن التقدم لا
ينهي ماقبليته؛ أي إنه لا يجاوز حقًّا عصر البربرية، لا يخلفه وراءه
مرة وإلى الأبد، بل إنه يحمله معه في رحلة تاريخ المستقبل، كأنما،
هو التقدم ونقيضه البربرية، يشكلان معًا وجهين لحقيقة واحدة، فكان
لا بد للعقل الغربي أن يكتشف، ويقر بتعارضية التقدم في حد ذاته.
فهو لا يَعِد بالجنة مستغنيًا عن الجحيم الذي يخوض فيه، من كارثة
إنسانية إلى أخرى، بحيث لن تخرج المدنية نهائيًّا من شرنقة البربرية
التي وُلدت في رحمها. وإذا عدنا إلى لغة الاصطلاح قلنا إن حضارة
العنف ليست مرحلة تاريخانية، بل هي الوجه الثاني لمختلف مراحل
التاريخ. فالمدنية لا تنتهي من معركة صراع مع حضارة العنف وتحت
عنوان حدثي ما، إلا لتفتح صفحة تالية لمعركة أخرى وتحت عنوان جديد.
إنه التقدم الذي يسير دائمًا على سكة مزدوجة من خطَّي المدنية والبربرية.
٢٥
هذه هي الجدلية الحقيقية التي لم يعد يمكن التغطية على اسمها
الصريح تحت أية جدلية من طبيعة أيديولوجية أخرى، ومن مفصل تاريخي
إلى آخر. كان يمكن للبراديغم الجيوسياسي/الجيوفلسفي أن يخوض بهما
معًا صراعًا ذرويًّا حول لحظة يمكن دعوتها بلحظة تصفية. لكن كأنما
أحدهما لا يلغي الآخر تمامًا. ليس ثَمة انتصار بين حدَّي البراديغم
الواحد، لأحدهما ضدًّا على الآخر. لم يعد يكفي مصطلح التركيب بين
نقيضين لإعطاء الدلالة، أو لمحاولة عقلنة التناقض الأساسي. وفي عصر
الإمبراطورية الراهن يستعصي التركيب أخيرًا تحت وطأة لحظة تصفية
بدون نهاية. ليس ثَمة حديث عن ثَمة مدنية بدون نقيضها العاصي:
البربرية. إذ يبدو أن
الإمبراطورية٢٦⋆ تكاد تكسب الرهان ليس في دحر لحظة التصفية فحسب، ولكن
في منع بلوغها ذروة المحاولة في الفصل بين «حتمية» البربرية
وراهنية المدنية، مفهوميًّا وتاريخيًّا.
إن الإمبراطورية لا تشن حربًا على المدنية، ولكنها تدعيها
لذاتها. فهي تستثمر، إلى أقصى حد، أخطر انزياح عاناه المشروع
الثقافي الغربي منذ عصره الأفلاطوني؛ إنه انزياح ذات النفس عن
نفسها الذي حدده هيدغر بنسيان الكينونة؛ هذه القصووية (التحريفية
الكونية)، تبلغ حد نسيان النسيان عينه. كأنما تاريخ المدنية نفسها
ليس سوى استرجاع مطرد للبربرية، وهي في لحظة اكتسابها عصريًّا
لَأمضى سلاح لمدنية الغرب، أي للتقنية، إلا أنها أمست مجردة في الآن
عينه عن غائية المدنية، عن بلوغ الإنسانية تحررها المنجز من
تاريخها الأنثروبولوجي، وإنتاج تلك النقلة المستحيلة (؟) من نموذج
الحيوان الإنسان إلى نموذج الإنسان الإنسان.
الحداثة تصحو على تاريخ مفجع. لم تعد تجرؤ على الحديث عن التقدم
بمفردات إنجازاته (الخارقة) وحدها، بعد أن اعتقد إنسان الغرب أن
التقدم هو من أخص وأعلى خياراته وامتيازاته، كأنما بات التقدم قوة
تلقائية هائلة مستقلة عن إرادة أدعيائها وحتى رافضيها، بحيث يمكن
القول إنها أمست قوة فالتة من كل سيطرة خارجة عن قوانينها الخاصة
التي تظل مجهولة، مهما تعرفت الثقافة إلى بعض ترميزاتها من خلال
عروضها الملتبسة. ولعل السبب الأوضح في كل ذلك يرجع إلى كون
التقنية تكاد تحتكر قيادة التقدم. وأما المجتمع فيقبع في موقع رد
الفعل والتلقي لعقابيل ما يصنعه وما لا يريد أن يصنعه. ذلك أن
التقنية تتبع قانون تراكمها الخاص؛ والإنسان يعدو وراءها لاهثًا،
عساه يلتقط بعض إشاراتها. فينشغل هو بفك ألغازها، بينما تستمر هي
في مسلسل فجائياتها لا تلوي على شيء، تضع العقل أمام الأمر الواقع.
فلا يكاد يتفهم بعض أسرارها حتى تفاجئه وتداهمه بأمر واقع آخر أدهى
وأعقد مما سبقه [النقلة من عصر الميكانيكا إلى عصر التكنولوجيا،
إلى عتبة الناتو تكنولوجيا.]
لماذا لم تعد أدلجة التقدم ممكنة؟ لأن العقل أمسى أكثر تواضعًا؛
فارق مرحلة استكناه اللغز الغيبي، وبعدها مرحلة اللغز
الميتافيزيقي؛ وإلى هنا وقانون الحالات الثلاث
لأوغست كونت
ساري المفعول. أما الحالة الثالثة التي كان يبشرنا بكونها المرحلة
الوضعية التي يغني فيها العلم عن كل تفكير آخر خارج مناهجه، فهي
التي لم تأتِ
بالعَلْم٢٧⋆ بالحرف الكبير، كما تطلعت إليه حكمة الأقدمين. لكنه
ذلك العِلم الآخر الذي اختزل نفسه إلى مجرد تقنية، تنهي عالم
الوسائط بقدر ما تقهر عالم الغائيات؛ وبذلك يمسي الإنسي وسيطًا بين
آليتين. لا يفقد حس السيطرة فقط على ما يصنعه، بل ينتهي إلى أن
يكون هو صنيعة صنائعه، بل إحدى نفاياتها، التي «كانت» مفكرة في ماضٍ
سحيق؛ إذ «صار» يتحد الإنسي أخيرًا مع عقله الوظيفي فحسب.
أي إن المرحلة الثالثة من قانون أوغست كونت،
٢٨ المبشرة بالوضعية العالمية كأعلى غاية تركيبية لغائية
التقدم الشمولية، قد تجيء بالنهاية الأخيرة للتقدم، بخاتمته غير
السعيدة. وربما قد حلت هذه الواقعة الميتافيزيقية، مجددًا بهذه
الصفة التي تثبت عدم انقضاء
الميتافيزيقا بالحرف الكبير، مع انقضاء
مرحلتها الثانية بحسب مفهمة كونت لقانون التقدم. فالميتافيزيقا لم
توجد كيما تنعدم في سياق التاريخ. ولعل ما ينقضي منها هو قصة
انحرافها وتحريضها المتمادي. لكنها في كل مرحلة انحرافية عبَرت بها،
كانت في الوقت عينه تبرهن على استمراريتها بطريقة ما، وذلك عبر
الثقافة والفن، مستعينة بكل أدوات التعبير عن أحوال الفكر، في رفض
ما هو كائن وقائم من أجل ما ينبغي أن يقوم ويكون.
ينبغي الإقرار بأن حضارة العنف حسب النمط الغربي، كانت مصحوبة
دائمًا وفي شتى تحولاتها، بما يقلقل من ثوابتها، ويزعزع من سلطان
مراحلها واحدة بعد الأخرى. كانت إمبراطورية الجيوسياسي تتعاظم
فتوحاتها في كل ميدان، ولكن في الوقت عينه كانت هناك إرادة تتسلح
بقدرة ما على اكتشاف ثقافة سلب السلب؛ فكان التقدم في نظر
الأيديولوجيا يتمتع بإمكانية تصحيح نفسه بنفسه. مثلما أنه يجرف كل
قديم وبالٍ من طريقه، كذلك فإنه ينجز ارتدادات متتابعة ضد إنتاجاته
عينها. ذلك هو منطق التقدم أيديولوجيًّا. إنه المنطق الذي يهدف إلى
حماية نفسه من المعترضين عليه، بالتشبث بمبدأ استقلاليته حتى عن
إرادة المجتمع الذي يوفر له حوامله الموضوعية. وحضارة العنف تغذي
هذا الاعتقاد باستقلالية التقدم، والفلسفات التي تصف نفسها
بالتقدمية محتاجة إلى أن تعزو إليه أسماء الحتميات التي تناسبها.
فلا يتدعم التقدم إلا إذا تمكن من اختراع حتميته الخاصة، هو أو
أدعياؤه، أو كلاهما معًا؛ إذ إن استقلالية التقدم تتطلب افتراض أنه
يتمتع بدينامية تلقائية تُضفي على الطبيعية ثَمة انتظامًا ذاتيًّا، لا
يريد التقدم أن ينأى عنه، حتى لا يظل يشكل طارئًا من طوارئه،
وهامشًا من هوامشه. لذلك فهو يستبدل مرجعه من اسم
الطبيعة إلى اسم
التاريخ؛ لأن الثاني محمول على الحركية والتغير، بينما الأولى
مطبوعة على التجذر والاستقرار. وأما العقل الذي يدعيه التقدم
لذاته، فإنه يقع بينهما؛ فتارة يجسر على ضفتيهما معًا، أو أنه ينقطع
عن إحداهما ليلتحق كليًّا بالأخرى. فإذا انحاز إلى الطبيعة أصبحت
لغته جسدية حيوية، لا ترى التقدم إلا من منظور ما يحققه للرغبة من
موضوعات ارتواءاتها. فالكائن الحيواني، أو الأنثروبولوجي، ليس مجرد
تاريخ بدائي ومرحلي منقض للكائن الموصوف بالإنساني، بل إنه
أركيولوجيا عضوية فاعلة في كل ما سوف ينبني عليها من جينالوجيا حضارية.
٢٩ وإذا انحاز العقل إلى التاريخ، فإنه في هذه الحالة يصطف
مع كل القائلين بأن الإنسان هو صناعة نفسه؛ وإن التراكم الإنمائي
لا بد أن يأتي بالظروف المساعدة دائمًا على تفعيل قدرات التجاوز،
وإحداث المتغيرات المطلوبة في الذات وفي العالم، من أجل تحقيق
الواقع الذي يلائم الإنسان، وليس العكس.
تلك هي البداهات الأولى المؤسسة لعقلنة التقدم، وقد تختفي في عصر
وفلسفة ما لتظهر مجددًا في عصر وفلسفة أُخريين. لكن المشكلة
الحقيقية التي لا يمل الفكر من إثارتها في سياق التفلسف المحض،
أو البحث عن «لغز» المتعالي، هي في التساؤل الأنطولوجي حول: إن كان
ثَمة قانون للتقدم مستقل في حد ذاته، حتى يمكن تحديد معايير موضوعية
له، أو أنه سوف يظل من أصعب أسرار التاريخ، أو بالأحرى، هو من
«مكر» التاريخ، كما يحب هيغل أن يسمي عبقرية التاريخ، فيرجعها إلى
الروح المطلق، باعتباره محتاجًا إلى عرض إمكانياته عبر المحايثة
وتجلياتها. قد تكون فلسفة التاريخ هي المهتمة بإثارة مثل هذه
الأسئلة. لكن التفلسف المحض هو الذي يطرح كذلك سؤال: وما هي فلسفة
التاريخ؟ هل هي حقًّا مَعنية باكتشاف معنًى للصيرورة الحدثية؟ وقد
قيل منذ القديم إن التاريخ هو مختبر الدروس والعبر، حيثما تتبدى من
خلاله تجربة الإنسان بأوسع مداها، سواء في محاولته لاكتشاف العالم
وفهمه، أو في سعيه إلى تغييره وإعادة بنائه على ضوء ما يتمناه
الإنسان من تحقيق كمال حريته.
٣٠
لعله أريد من اختراع مصطلح التقدم أن يعبر عن كل هذا، أن يكون هو
دليل التاريخ ودلالته، أن يُسبغ على حدثيته الخام ثَمة معنًى، ويفرض
عليها ثَمة قانونًا يتحرك نحو غائية معينة. إنه بكلمة واحدة يشير
إلى انتصار العقلنة؛ إذ يجعل العالم مفهومًا وقابلًا للفهم في
مختلف تحولاته وتنوع ظاهراته، غير أن هذا لا يعني أن التفلسف المحض
لا يقر في نهاية كل عقلنة للعالم، أن العالم في ذاته هو موطن
اللامعقول، وأن كل فلسفات التاريخ لا تفعل شيئًا في المحصلة سوى
أنها تخترع أنظمة مفاهيم وتلصقها على سطوح العالم، كيما تجعله
أليفًا من الإنسان، ومستعدًّا لمغادرة وحشته الأولى مع كل تأويل أو
مذهب يطرح انتظامًا ما على الكاوس الكوني.
لا شك، بعد انقضاء رحلة المذهبيات الكبرى التي مَفهمت التقدم أو
أدلجته، لم يعد أمام التفلسف المحض سوى الاعتصام بثقافة السؤال
وحدها، والحذر ما أمكن من الأجوبة المطلقة. هذا يقتضي التعامل مع
أقنوم التقدم كما لو كان، كل لحظة، محتاجًا إلى إعادة هيكلة معماره
الخاص، مشتقًّا حجارته من أرض خام، كما لو كان يدخلها لأول مرة.
فالتقدم بهذا المعنى لا يعرف مستقبله، ويكف عن التبجح بإمكان هذه
المعرفة. لعل مستقبله بعبارة أخرى، أمسى مرميًّا وراء ظهره
بالأحرى. لا يمكنه أن يسجل حدثًا (جديدًا) لم يقع من قبل؛ إذ ينبغي
أن يأتي التاريخ أولًا بأحداثه، ثم يجري تصنيفها إلى ما يمت منها
إلى الأمس أو إلى الغد. فالواقعة لا تتبع الحدس بها، إن لم تكن قد
سبقته بطريقة ما. وبالتالي لن يكون التقدم أقنومًا مستقبليًّا
خالصًا. إنه بالأحرى من تراث الماضي. معظم فلسفات التقدم احتاجت
إلى ابتعاث تاريخ كل الماضي، حتى يمكن لها أن تبرهن على ما يتمتع
به العقل من قدرة على دحض عقبات الواقع المستجد، وتحقيق اختراقات
هنا أو هناك في جدرانه الصلبة المنيعة؛ فمن محاولة تفسير الماضي
يندفع الخيال إلى تصور المستقبل، كأنه سيكون حتميًّا من نتاج
حركة الماضي نفسها. هذا الاعتقاد لم يعد مسلَّمة في نظر المؤرخين
الحداثويين. وكذلك كان للفلسفة دورها الحاسم في زعزعة مفهوم
التواصل، والسببي خاصة، ليس في سياق الأحداث فقط، بل في تشكيل
الأنظمة المعرفية. لقد برزت موضوعات كثيرة من نوع الفجوات والهوامش
بل الانزياحات والقطيعات، وكلها من فجائيات براءة الصيرورة، و«مكر»
التاريخ.
شبكية الواقعَين الحدثي والمعرفي مليئة بمُثل البعثرات؛ ليس قانون
التناقض (الجدلي) ومركباته، على الطريقة الهيغلية أو الماركسية،
كافيًا لفهم آلية الحراك الاجتماعي التاريخي؛ إذ يفقد التقدم حس
الاتجاه، يجهل أحادية الانطلاق، كأنما هنالك هاوية مجهولة دائمة
بين كل منظومة مفهومية، والواقع الذي تدعي استيعابه:
لا مذهب في
التاريخ. والديالكتيك كأنه حراك عشوائي، وقد تطغى عليه اختلالات
تُفقده انتظامه العقلاني، إلى درجة أن الاختلال يكاد يكون هو المنطق
(اللامنطقي) الذي يسود علاقات المجاميع البشرية فيما بينها،
وداخلها فيما بين فئاتها وأفرادها. هذا لا يفترض الأخذ بريبية
الصدفة، أو الطفرة، أو الفجاءة، لكن الإقرار بحقائقها تلك أصبح
ضرورة علمية وليس فلسفية فقط، لاستيعاب الظاهرة الإنسانية مجتمعيًّا
أو تاريخيًّا، وهي في حال الاستقرار والتوازن، كما في حال السيلان
والانفراط الحدثي غير الخطي فقط.
٣١
هكذا إذن يعود الأمر كله إلى أولوية المفهوم الفلسفي الأشمل
والأكثر عراقة، وهو أقنوم الصيرورة، إنه مرجعية أنطولوجية كونية:
كل اصطلاح آخر عن التغيير، لا بد له أن يشتغل تحت طائلة الصيرورة،
وليس كمرجعية فحسب، بل كحضور راهني، يجعل كل الاصطلاحات الأخرى
كالتقدم وأشباهه ومشتقاته، مجرد ظواهر عارضة وعرضية للصيرورة. وقد
ينطبق بعضها على سلسلة من الظواهر، ولا ينطبق على أخرى مجاورة أو
مداهمة لها. لكن في النتيجة ما هي هذه الصيرورة التي تستوعب كل
أشكال الحراك وتسمياتها الاصطلاحية، وتبقى هي الصيرورة، فائضة
المعنى والدلالة عنها جميعًا؟ كأنها تضعنا في نهاية التاريخ أمام
الكاوس، بل ربما كانت هي، الصيرورة، مجرد قناع شبه عقلاني يغطي وجه
الكاوس غير الوجهي إطلاقًا، ولا أي شيء جسماني أو كياني
يشخصه.
قد تكون الصيرورة كلفظ، أول محاولة يبذلها «مكر» التاريخ، لكي
يعيد وضعها تحت طائلة العقل. يمنح الكاوس بواسطتها مادة خامًا
أولية لاشتغال المفهمة عليها. لكن الصيرورة لا تتأبى فقط على
تأطيرها في مفهوم، بل إنها تُقلقل من كل بناء مفاهيمي محاولًا ادعاء
الانقيام عليها واقعيًّا، في حين أنه يسعى إلى الفرار منها بادعاء
الاعتماد على، والاكتفاء بما يتخيله من توفر ثَمة انتظام عقلانوي
ما، يشد علاقات وحداته المفهومية ببعضها ومن داخلها.
الصيرورة والنظام أو نظام الأشياء بالمعنى التداولي، ليسا
نقيضين. كل شيء يصير. ما يصير يأتي بنظام أشيائه أو شيئه معه. وعلى
العقل أن يكون مستعدًّا لتلقي فجائيات، صدمات الأشياء وأنظمتها
معها، التي عليه أن يكتشفها أو يتجاهلها. تلك هي الصيرورة التي لا
تكف عن تقديم الصائر، باعثًا على الوجود، أو فائضًا عنه، سواء في
الذات أو في العالم. قد تكون لها مساحة الأنطولوجيا كلها بلا حدود،
لكنها، الصيرورة، تعيد إنتاج الأنطولوجيا على مستوى الموجود، هذا
الذي قد يحدث ولا يحدث؛ إذ إن الصيرورة لا تنطق فقط عن هذا الذي
صار فكان، بل كذلك عن هذا الذي يصير وقد لا يصير. بالأحرى،
الصيرورة هي إمكان الصيرورة، ليس لها واقع نهائي، ولا كيان قائم
بذاته أو مؤطر لسيولتها.
هيراقليط لم يكن يتصور الكينونة إلا أنها صيرورة. ليس هناك
كينونة، ثم تنضوي في الصيرورة. وبحسب الفقه الفلسفي القديم: إن
الصيرورة ليست عرضًا للكينونة، بل هي عينها، والإنسان لا يغطس في
عين الماء من النهر مرتين، لكنه في الأصل هو وذلك الماء شيء واحد.
هذا النوع من السرد الفلسفي ليس متحفيًّا. إنه راهني منذ أن تم
اكتشاف التاريخ الفينومنولوجي: إذ أصبح التاريخ هو نهر هيراقليط …
والإنسان سابح غاطس فيه، ومع أمواجه شاء أم أبى. إنه لا
يتفرج على
الصيرورة من فوق إحدى ضفتَيها. لا يمتلك أصلًا إرادة أن يسبح أو لا
يسبح. بل هو، في أصله، كائن مائي، ومقذوف به في أعماق لجج النهر،
في حدثان الماء الذي لا يستوعبه نهر أو بحر، ولا تحده ضفاف. وإذا
شئنا قلنا مع نيتشه إنه مجرد رمية نرد، أو إذا قوَّلنا هيغل بما يعني
أن الإنسان هو الكائن الذي به يأتي «اللامتناهي المتجسد» إلى
العالم. فالتاريخانية ليست تجريدًا فوقيًّا للتاريخية،
بل تظل، كما
لو كانت هي موطن الضرورات مقابل صدف الحدثان نفسه.
٣٢
وإذا كانت العصور الحديثة اعتقدت بأن التقدم يشكل قمة الضرورات
التي تتحرك تحتها فعالية الحضارات، حتى تلك التي كانت تجهل إنتاجية
التقانة [التكنولوجيا]، أي تلك السابقة على الثورة الصناعية، إلا أن
التقدم كمفهوم، يُفترض أنه يقارع الصدفة التي هي القانون الفعلي بل
الأصلي للتاريخ، بمعنى أن الصدفة هي حدوث اللامتوقع. وفي حين أن
التقدم، وبحسب مختلف التأويلات التي اكتسبها منذ أن أصبح هو السيد
المتحكم بمنطق الحداثة، ليس هو إلا من صدف التاريخ كذلك؛ هذا
بالرغم من كل هذه الإرادوية التي أصبحت تتمتع بها المجتمعات
الحديثة، والغربية منها بخاصة؛ ذلك أن جدلية البراديغم
الجيوسياسي/الجيوفلسفي لا تزال هي اللاعب الأساسي والمسيطر على حراك
هذه المجتمعات الغربية تحديدًا. وهنا يحتمل الجيوسياسي كل أسماء
الصدف المتوقعة وغير المتوقعة. ولعل أفضل ما ترسَّب من تجارب
الحداثة هو ذلك الوعي بكون المدنية الراهنة ليست سوى مشروع في
العقلانية، لن يكف عن تفجير اللاعقلانيات في ذاته عينها، وفيما
حوله من عوالم الصدف اللامتناهية، عن إرادة وعن غير إرادة.
لن تنتهي المدنية من معارك التصفية مع انبعاثات حضارة العنف
وارتداداتها المتوغلة في تضاعيفها ذاتها. ولقد حفل السياق
الجيوفلسفي بثقافات الاعتراض المتواصل والمتنامي على حدثيات هذه
التصفيات المتوالية وغير المنتهية أبدًا، بين المدنية وأصولها
الموغلة في حضارة العنف. فمنذ أن تعاظمت تكاليف قفزات التقدم
إنسانيًّا واجتماعيًّا، اضطلع فكر التغيير بأشق مهماته التحويلية
الكبرى. لم يكن معتصمًا بموقف الشاهد العنيد فحسب، على ارتكابات
العصر من حوله، بل كان كذلك هو المتدخل والمتصدي أولًا لأخطائه
وانحرافاته؛ ولكن، فيما كان يغير العالم كان يتغير هو به.
وكما قال زرادشت: «إنني أُعظم من شأن كل ما هو صدفة. لا أُقبل على
الصدفة إلا عندما تبلغ نضجها الكلي.» فكم يضل الفكر، مترددًا بين
احتمالات عن الحقيقة، بينما هي مجرد صدف للعقل، قد تخلق واقعًا
لغويًّا، يدعي التطابق مع الواقع، ذلك «الآخر الخام»؛
فالقوى المتجسدة هي رميات النرد في ساح التاريخ التي تتلبس أثواب
أو مظاهر الضرورة، لتُبعد الوعي عن طلب الضرورة الحقيقية، التي
تتحدد بالصيرورة؛ وذلك عندما يصبح الإنسان والقوة جوهرًا واحدًا
للكينونة. وكما يشرح دولوز ببراعة فائقة جدليةَ لاعب النرد، بطل
نيتشه الأكبر، فإن «النرد المقذوف يؤلف العدد الذي يعيد رمية النرد
إلى الرامي. وإذ يعيد العدد الرمية فإنه يعيد وضع الصدفة على
النار، ويتعهد النار التي تطبخ الصدفة. لأنه، العدد هو الكينونة
والواحد والضرورة. ولكنه الواحد الذي يثبت نفسه بالمتعدد بوصفه
كذلك، والكينونة التي تثبت ذاتها بالضرورة بوصفها كذلك، والقدر
الذي يثبت ذاته بالصدفة كذلك. فالعدد ماثل في الصدفة مثول الكينونة
والقانون في الصيرورة».
٣٣ ولهذا كان زرادشت ينفي العود الأبدي عند نيتشه؛ لأنه
يستطيع أن يستل من سديم الصدف تلك النجمة الذهبية التي هي
الضرورة،
التي هي حكم القوة المطلقة بكونها هي المصير السري الصامت للإنسان
المتفوق؛ عندما ينتصر في لعبة فإنه يعاقر كل الصدف ليفوز بالصدفة
النادرة الأعلى، التي هي الضرورة. ليست الضرورة إلا تلك القوة التي
تعيد رمية النرد إلى الرامي. إنها اللعبة التي تبعثر ديونزيوس في
المتعدد، في معاقرة كل الأفراح والملذات الطارئة، من أجل أن تعيده
إلى الواحد، إلى القدرة الفعلية على رد اللعبة إلى لاعبها، بدلًا
من بعثرتها في كل الصدف الممكنة، في مستنقع الأجزاء والتفاصيل
والتكرار. يقول زرادشت عندما يمسك بالصدفة المولدة، يقول فرحًا
راقصًا: «اليوم علمت بالصدفة ما معنى زرادشت، إنه يعني نجمة من
ذهب. وهذه الصدفة تخلب لُبي.» لقد اكتشف زرادشت نفسه، رد اللعبة إلى
لاعبها الأصلي.
٣٤
من يلعب حقًّا لعبة النرد؟ هل هو الإنسان أم التاريخ؟ هل يعني هذا
أن التقدم كان هو الصدفة الذهبية التي التقاها الإنسان من بين ما
لا يتناهى من الصدف الأخرى التي ستوصف بالعابثة وغير المجدية، التي
عاشتها حضارات كثيرة عابرة بائدة لم يكترث لها التاريخ، ولم تُكتب
عناوينها في سجلاته؟ هل يقول الغرب عن نفسه إنه هو النجمة الذهبية؟
وهل كان فكر التقدم الحقيقي يتصور أن التقانة سوف تحتكر وحدها
قيادة الحراك التاريخي؟ عند ذلك لن يكون نبي نيتشه إلا زرادشت؛ فهو
النجمة الذهبية، هو أعظم «صدف» النماذج الإنسانية؛ إذ يتبقى له
وحده دور المذكِّر بنسيان الكينونة، ما قبل أفول المشروع الثقافي
الغربي، لكنه هل يدفع المصير القادم عن هذا المشروع، عندما قد يتم
اختطافه كليًّا من قِبل الأمركة أو الإمبراطورية، التي سيعتبرها
الفكر الغربي أنها وليده العاق؟ كأنما مع الإمبراطورية يتم نسيان
نسيان الكينونة. فما تفعله صدفة «الصيرورة» النيتشوية ما بعد
الحداثة الغربية راهنًا، هو التشبث بموقع المذكر الأخير بهذا
النسيان، قبل أن ينتهي براديغم المدنية: الجيوسياسي/الجيوفلسفي،
بقيام حده الأول وحده، وزوال حده الثاني مرة أخيرة. ذلك أن فقدان
الوعي بالموت هو الموت الحقيقي الذي لن يُعرَف له اسم. يفقد التقدم
حسن الاتجاه. لن يتحدث أحد عن غائية التاريخ، بقدر ما يتعاظم
الحديث فقط عن نهايته.
هل تستطيع الإمبراطورية أن تصفِّي صراع المدنية مع البربرية، مع
حضارة العنف المستمرة، تصفيها لحسابها الخاص. وعند ذلك لن يهتدي
نيتشه أبدًا إلى نبيه المنسي زرادشت، عائدًا إلى عزلته الأزلية في
قمة الجبل. لن ينزل أبدًا إلى المدينة. سيظل مصباح ديوجين مضيئًا
وحده في ظلمة الظهيرة. بمعنى أن ضربات النرد الصدفوية لن تفوز
بالضرورة الذهبية، سيظل الإنسان يخبط خبط عشواء واقعًا تحت طائلة
الحتميات العضوية في جسده، والمادية في الطبيعة؛ فما هو أشنع وأدهى
من الحروب العالمية في القرن العشرين، هي حرب الإمبراطورية
المستمرة والشاملة في القرن الواحد والعشرين. هل هي لحظة السوداوية
الرومانسية الكبرى التي سادت نهاية القرن التاسع عشر، هي العائدة اليوم
لتنوء بكل كلكلها مجددًا على الوعي الحداثوي، مغلقةً أمامه نوافذ ما
بعد الحداثة، مثلما كانت أغلقت نوافذ الحداثة القديمة (الفاشلة؟)
التي باتت محمولة، لفظيًّا رومانسيًّا فحسب، على أصداء التقدم، خلال
المرحلة الهمجية من نشأة العصر الصناعي؟ هل فقدت الحداثة البعدية
جوهر رهاناتها الأساسية على إمكانية استعادة براءة الصيرورة، حتى
وهي في حمأة الجريمة الكبرى المطلقة المستبدة بمشروع المدنية
والمانعة لتحيين ضرورتها الذهبية؟
هل نقول إنها لحظة التصفية حتى نعزي أنفسنا؟ ولكن من يصفي من؟ هل
هي المدنية أم اللاعقلانية المنظمة همجيًّا: حضارة العنف؟ نقول: إن
الإمبراطورية بالحرف الكبير، هي ذروة التكثيف الحدي
لحضارة العنف، لإرادويات التفوق والتسلط، بإلغاء الآخر، إما
باستئصاله جسديًّا، أو استعباده واستغلاله، أو بإقصائه نهائيًّا من
مسرح التاريخ. تلك الإرادويات النسبية، التي سار بحسب إيقاعها
الدرامي تاريخ حضارة العنف؛ ولكن قام مقابلها حيز الاعتراض عليها
دائمًا (الجيوسياسي/الجيوفلسفي). فكان الاشتباك بين وقائع العنف
وأنظمة معارضته، يشكل الدينامو المحرك للتقدم، سواء عبر قفزاته أو
سقطاته. وقد برهنت علوم الفكر، وخاصة منها الأنثروبولوجيا
والسوسيولوجيا بفروعها المختلفة، أن التقدم كان يفيد دائمًا من
قانون التراكم؛ إذ إنه، في الحساب الأخير، قد يراكم الإيجابيات ضدًّا
على السلبيات. ويمكن على هذا الأساس استنباط معايير موضوعية، وليست
ذاتية فحسب، لتحديد تعاريف متباينة، ولكنها قد تغدو متكاملة،
لماهية بل لماهيات التقدم، والتعرف إلى ملامحه، والكشف عن خصائص
تمرحله، وصولًا أخيرًا إلى مؤسسة ثقافة قائمة في ذاتها تحت عنوان
التنمية، التي صارت عماد علم العلاقات الدولية في عصر العولمة
الراهنة، تحت مصطلح اقتصادي خالص، هو «فن» الاستشارات الفلكية
واجتياحها لسياسة العالم.
إلا أن دخول الإمبراطورية الفجائي على محور هذا التراث
(التقدمي؟) إجمالًا، كتاريخ وفكر معًا، أدى إلى محاصرة الواقع
ومنعه من استقبال كل راهنية ممكنة لتشكل الصياغة المؤسسية
للديمقراطية من حيث هي التركيب الأعلى لجدلية التقدم، المعبرة عن
التراكمية التاريخانية لإيجابياته، لتجاوزية الصدفية العمياء،
وحلول الحضور العياني للضرورة الذهبية، ما فوق، ما بعد الحتميات
وقصصها القاهرة المقهورة.
٣٥ تلك «الضرورة الذهبية» المنطوقة تداوليًّا، تحت مصطلح
المدنيات الأهلية، وقد باتت خالصةً من
أركيولوجيا/فينومنولوجيا
الروح عينها، وذلك لصالح
جينالوجيا الحرية وحدها، مجردة حتى من
ظلال عقباتها الماضوية، المحالة إلى متحف التاريخ أو مزابله. لكن
سذاجة التفاؤلية، أو تفاؤلية السذاجة هذه، لن تُنهي قصصها مع
سرديات الطوبائيات، غير المنزاحة كليًّا بعد، إلى حواشي المقول
والمكتوب أو المفعول، فكيف لا تأتي الإمبراطورية عينها تتويجًا
للطوبائية المضادة، مقابل طوبائية استحالة المدنية بدون نقيضها
[منها] البربرية. ذلك أن الإمبراطورية لم تعد تحتاج إلى أيٍّ من
أقنعة الديماغوجيات السابقة. هي تعلن عن نفسها أنها خيار البربرية
[المتمدنة] الذي يضع خاتمة أخيرة لكل الأدلجات اللانهائية عن
«نهاية التاريخ».
هل يمكن تصور مسيرة محايثة للتقدم بدون جدلية السلب والإيجاب؟ أي
هل يمكن حذف السلب العضواني، المتمثل خاصةً في قهر الإنسان للإنسان؟
لقد كان دخول الزمانية إلى فلسفة الوجود منذ هيغل إلى ماركس، وربما
وصولًا إلى هيدغر — وذلك بمعنًى مختلف سنشير إليه لاحقًا — كان هذا
الدخول ربما تسويغًا للسلب العضواني والمادي إجمالًا. إنه إنقاذ
لأقنوم التقدم نفسه من طوارئ الصدفة، ومن عمارة الخبطات العشواء،
وإنه دعم لنوع الغائية الانتقائية التي لا بد لها من الحفاظ على
تفاؤليتها بانتصارية الحراك التاريخي، باعتبارها نتاجًا مادويًّا
صرفًا لمنطق الإرادوية المطلقة. وهو الامتياز (العبقري؟) الذي يحقق
خاصية المشروع الغربي بالنسبة لذاته أولًا. فالإرادوية هي المتراس
الثقافوي الذي تحتمي به حضارة العنف عامة، لتدفع عنها ما استطاعت
مداهمات جزافية الحدثان الصدفوي فيها وحولها؛ محاولةً تطويعها
واستيعابها أنطولوجيًّا، بإعادة تأهيلها معرفيًّا، وإدخالها توافقيًّا
أو تضاديًّا، في نظام عنفها الخاص، بعد كل دورة (حضارية) في
مشروعها.
IV ثقافة السلب
يبدو أن السياق الجيوفلسفي قد بنى مسيرة اعتراضيته المتمادية
إزاء توءمه الضدي، السياق الجيوسياسي، على ثقته البدئية في إمكانية
أن تتطهر جدلية التقدم من حتمية السلب الخام العضواني والمادوي
الصرف، مع الإبقاء على فعاليته النظرية فحسب؛ تلك التي تبرر
الاعتقاد بعدم جدوى التأصيل لواقعة التطهر ورفعها حتى سُدة
المنتهى، وجعلها برهانًا شاهدًا على معجزة الغائية، المتمثلة في
مآل التطابق التام بين العقلي والواقعي؛ إذ تأتي فلسفة أخرى مناظرة
لفلسفة التطور البيولوجي والاجتماعوي الخام، وهي المعترضة دائمًا
على ماديتها وسطحيتها. إنها الفلسفة المدعوة كذلك بالحيوية. وقد
يكون مؤسسها المتبني الأكبر نيتشه، وعلى صعيد الأنطولوجيا
اليونيفرسالية، المتحركة بين حدَّي الأركيولوجيا/الجينالوجيا. إنها
الفلسفة التي تعلن بطلان المشروع الثقافي الغربي اعتبارًا من جذوره
الأفلاطونية، في الأقل على المستوى الحقاني، وإن كان لا يزال مالئ
الدنيا وشاغل الناس على المستوى الواقعاني الحدثاني.
٣٦
بينما كان نيتشه يتابع محور أمريات نرده، باحثًا عن «ضرورته
الذهبية»: زرادشت، كان فرويد معاصره تقريبًا، يفض بكارة السر
الجسدي لإنسان التجربة الغربية. نيتشه ينسف الجهاز القيمي من أسسه
الغيبية والأخلاقوية، وهو كل ما يشكل المئونة الأيديولوجية التي
تتغذى منها مؤسسة التقدم وأساطيره. وفرويد يكشف الأقنعة الخاصة
للكائن البيولوجي والأنثروبولوجي القابع في جذر الكائن الحضاري
المتمدين. فالإنسان (الإنساني) مقموع فيزيولوجيًّا جسديًّا، ممنوع من
ممارسة حقوقه الأصلية في تحصيل سعادته الفردية. هذا على المستوى
النفسي الجسدي. وأما على المستوى العقلي والأنطولوجي، فالإنسان
قبل أن يكون معاقًا ميتافيزيقيًّا، منسلب الإرادة والمسئولية بما
اخترعه هو من أنظمة غيبية وأخلاقوية، مقابل تنازله عن وعيه وحريته،
بعد أن جعلها سيدة قيِّمة على نواياه وأفعاله. هنا يصرح
هربرت مركوز:
إنها يوطوبيا جديدة وعصرية.
٣٧ ذلك أن التقدم يمكن له أن يتجاوز تناقضاته بالاستناد
إلى نوع آخر من جدلية، تكون نفسية وثقافية في آن. فالسلب يجب أن
يقع على الانحرافات النفسية الثقافية المتولدة عن تعارض كلٍّ من مبدأ
ارتواء الجسد، ومبدأ المردود أو الواقع. فالأصل هو أن الجسد
والعالم متكاملان، وأن الثاني متوفر على كل الموضوعات التي يمكن أن
تروي حاجات الجسد الأولية كما ميوله العالية، لولا أن المنظومة
الاجتماعية القائمة تختطف مبدأ هذا العالم، وتعيد إنتاجه على شكل
واقع يفرض التخصيص والتقنين، عبر قانون تقسيم العمل والتوزيع
اللامتكافئ للحصص من الثروة والرفاه العام على الأفراد والطبقات
[مبدأ المردود أو الواقع]. «فهل من الضرورة أن يُبنى التقدم على
الشقاء والحرمان، وأن يظل مرتبطًا بهما؟»
٣٨
ترجع المشكلة كلها إلى تلك البداهة الأولى، وهي استغلال الإنسان
للإنسان. لكن الليبرالية الجديدة التي غدت آخر أيديولوجيا
للإمبراطورية وذروتها، اعتبرت أن هذه البداهة هي المحرك المادي
للتقدم. لولا المنافسة لما تحقق الاصطفاء الطبيعي (الصراع على تملك
الحاجات الأولية)، ولا انبنى فوقه الاصطفاء العرقي (بين الأمم)، أو
الاصطفاء الاجتماعي داخل القوم الواحد. فالصراع من أجل البقاء
الخام، ثم الصراع من أجل انتزاع اللذائذ والمنافع، والتحفيز الذاتي
والموضوعي نحو التفوق والسيطرة والاحتكار، سواء للمتعة أو المصلحة
أو السيادة، كل هذه المحرضات من غريزية فطرية أو اكتسابية
(حضارية)، يمكن لثقافة العنف أن تبررها بضرورات التقدم. وهنا لا
يعود التقدم مجرد نتيجة آلية لفاعلية قوانين الصراع، لكنه يغدو علة
مادية وحضارية عالية، ضرورية لارتقاء الجماعة ككلٍّ، وتفوقها على
غيرها من الجماعات؛ أي لبروز الفئة الأقوى أو الناجحة، ما فوق
الفئات الأخرى داخل المجتمع الواحد. لذلك تعتبر «الإمبراطورية»
نفسها أنها هي التجسيد الأعلى لمبدأ الاصطفاء، أو قانونه الطبيعي.
إنها التركيب الشامل لمحصلة الارتقاء النوعي نحو الصفوة
المختارة، وقد جمعت بين الفوز بالعقلانية الشاملة وبين عوامل القوة
العصرية؛ أي إن الإمبراطورية هي وحدها الكفيلة بتجسيد التقدم كنظام
للسيطرة الإرادوية المعبرة عن العقلانية، التي هي الغائية العليا
للبشرية، كما يريد خطابها الفكروي أن يبرر مقولاته.
هذه «العقلانية» بالأحرى، هي التي قارعتها الحداثة البعدية قبل
البروز السياسي العسكري الراهن لمشروع الأمبطرة. ويمكن اعتبار أن
الفلسفة المعاصرة التي سادت القارة الأوروبية، دون العالم الأنغلوأمريكي
بخاصة، قد وقفت في مختلف تياراتها الرئيسة، على طرف نقيض من
هذه العقلانية، رافضةً تجلياتها الاجتماعية والسياسية.
مدرسة
فرنكفورت تحديدًا استخدمت المنطلقات الماركسية في استنباط مفاهيم
جديدة قادرة على استيعاب الظاهرات المتسارعة لمجتمع التقانة،
وتفكيك بناها الواقعية؛ ومن ثَم الكشف عن انعكاساتها الثقافوية
والسلوكية على مختلف ظواهر المتغيرات البنيوية لعصر الوفرة
الاقتصادية، والرفاهية المقترنة بمسلسل الحروب من كل نوع، من
الأهلية والإقليمية إلى العالمية. وكان الثنائي
هوركهايمر وأدورنو
شكَّلا معًا، وكلٌّ منهما منفردًا، أقسى من حملوا معول النقد الجذري
للتقدم كأسطورة دوغمائية، تبرر ويلات النمو المادي والتقني ضدًّا على
آمال السعادة الحقيقية للإنسان. ذلك أن التطور الأعمى للتكنولوجيا
يقوي من القمع والاستغلال الاجتماعي، مهددًا في كل مرحلة بتحويل
التقدم إلى ضده: «البربرية الكلية»، بحسب تعبير هوركهايمر الذي
يقدم مفهمة جديدة بالنسبة لعصره آنذاك، فهو يقول: «إن مذهب التقدم
يؤقنم، يجعله أقنومًا مباشرة، مثال سيطرة الطبيعة بما يشوهها في
النهاية ويختزلها إلى ميتالوجيا سكونية منحرفة. مثل هذا الحراك
المفصول عن عقده الاجتماعي وغايته الإنسانية، يغدو مجرد وهم في
الحركة، لا متناهيًا في التكرار الآلي.»
٣٩ إلا أن هذه المفهمة لا يكاد يعيرها اهتمامًا مفكر آخر،
من نمط
ليو شتراوس، الذي لا يخشى من أقنمة الطبيعة بل يصر على
تصنيمها كما هي، وتثبيتها في شكلها الاختزالي ذاك، واعتبارها مرجع
العقلانية الذي يستند إليه مفهوم التقدم.
٤٠ فهو كذلك يدين التقدم انطلاقًا من الليبرالية
الكلاسيكية، استنادًا إلى تجارب القرن العشرين المرعبة. وقد
دعا صراحة إلى الرجعة نحو تلك الليبرالية، كما هي مؤسسة خاصة لدى
هوبز، بل الرجعة كذلك إلى أفلاطون وأرسطو؛ إذ يعتبر شتراوس أن
التقدم أصبح مشكلة، ويبدو أنه يقودنا إلى حافة الهاوية، ما يتطلب
بالتالي ضرورة البحث عن بديل، كأن نتوقف حيثما وصلنا مثلًا، أو إذا
أمكن العودة القهقرى! بحسب تعبيره.
٤١
بهذا يمكن القول إن التقدم أضحى موضوع نقد سلبيًّا من قِبل كلا
التيارين الرئيسيين في الفكر السياسي الحديث والمعاصر تحديدًا،
التقدمي والرجعي أو المحافظ معًا. وقد أعطى التيار التقدمي
«ثوريات» القرن العشرين تحت عناوين الماركسيات الدولية. ويبدو أن
التيار الآخر الرجعي أو المحافظ يستعد لإعطاء نموذجه السياسي
الأعلى، عبر نظام الإمبراطورية، للقرن الواحد والعشرين. تلك اللهبة
الأخيرة قبل الانطفاء الأخير.
من هذا المنعطف يجدر أن نتساءل فيما إذا كان أنصار التقدم
(الحديث) منذ التنوير، قد كانوا يتصورون حقًّا أنه ليس ثَمة من تقدمٍ
ملموس إلا اعتمادًا على ما يؤسسه المجتمع من البنى التحتية،
القائمة هي ذاتها على التحسين المطرد لوسائل الإنتاج. لقد كان
الاستبشار بمولد العلم المادي حافزًا حقيقيًّا لكل الإرادوية التي
سيُشحن بها مفهوم التقدم، حتى تغدو هذه الإرادوية تعادل رهان
التفاؤلية المطلقة بإمكانية السيطرة الكاملة على الطبيعة وقيادة
مصير التاريخ في وقت واحد. بالطبع مع ما تحمله وتؤكده هذه
التفاؤلية بجعل غائية اليوطوبيا خاضعة في المآل الأخير، لما سوف
يصنعه الإنسان بذاته ومجتمعه وعالمه.
هل يوشك الإنسان أن يفقد السيطرة ليس على حركية التقدم، فهذه
خرجت عن إرادته منذ البداية تقريبًا، ولكن على تصحيح توجهه؟ هل
أصبحت صخرة سيزيف عنوان اليأس النهائي الذي يبطل حتى قانون
المحاولة والخطأ؟ فالصخرة لا بد من رفعها إلى القمة رغم اليقين
الكامل، لدى ثقافة الحداثة، أنها لا بد أن تسقط وتتهاوى، وهكذا إلى
ما لا نهاية. فأين التغيير الحقيقي؟ لم يستمع أحد إلى دعوة
ليو شتراوس، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية في محاضرته عام
١٩٥١م، دعوته (الإنسانوية) إلى وقف التقدم والرجعة إلى
الوراء؛ أي إلى ما قبل التقدم ومولد أسطورته. فالمسألة لا تتوقف لا
على النداء، ولا عمن يصغي إليه أو لا يصغي. تراجيديًّا لا يدري
الإنسان أنه، وهو في أوج التقدم كما يعتقد، أنه قد ارتد إلى بحران
الصيرورة (الخام) حيثما كل ذرة تتحرك في كل اتجاه وعكسه في وقت
واحد. لقد كان رهان التقدم أنه سوف يتمكن من عقلنة هذه الصيرورة،
والسيطرة على جزافيتها. لعله يُبقي على التاريخ الذي لا معنى له في
الأساس، ولكنه هو الذي سيعطيه معناه، أو المعنى بصفة عامة. لكن
التاريخ يثبت، بعد تجاربه المهولة، أنه ليس سوى اسم أو مصطلح أهلي،
يطلقه الوعي على برية الصيرورة. فالتاريخ لا يحكي قصة التقدم، بقدر
ما هو تسجيل مضطرب دائمًا لقصة ذلك التقدم الآخر، المعقلن، على أنها
في حقيقتها ليست سوى مسيرة الفرار من المواجهة المحتومة مع
الصيرورة في بريتها الخام، في عرائها الدائم من أية لغة تلتصق بها؛
ليس لها في آخر المطاف سوى العنوان الأولي الذي يذكِّر بالكاوس، دون
أن يكونه تمامًا.
لكن الفلسفة سوف تظل تكابر، إن هي بقيت على تعاملها مع الكاوس من
خلال مفهوم «نظامي» للصيرورة، لتجعله تحت هذا المصطلح قابلًا
للتأهيل العقلاني. ولا شك أنه بعد انقضاء عصر الغيبيات، واكتشاف الثقافة لحريتها
العقلانية النسبية دائمًا، فقد شرعت حضارة الغرب في تغيير شروط
الحياة اليومية، وتحسين ظروف العمل والإنتاج للأفراد والمجتمعات؛
حل التقدم كحقيقة موضوعية؛ سرعان ما أفرز مفاهيمه كأقانيم
أيديولوجية، بحسب تطورات المجتمع الصناعي، عبر قفزاته وسقطاته
كذلك. فليس ثَمة فلسفة أو مدرسة اجتماعية أو مذهب سياسي، وخلال
القرون الأربعة الأخيرة، لم تبنِ أطروحاتها إلا على أساس التسليم
بحقيقة التقدم، وما ينطوي عليه من الإمكانيات المنفتحة على مختلف
النماذج المستقبلية التي تدعو إليها. ولقد ارتبط التقدم هكذا بوعود
التحرر والتحرير كلها التي تداولتها أجيال، من أفكار/دوغمائيات
المشروع الثقافي الغربي. لكن مع تزايد الخوف من سيطرة الآلة، وبروز
الملامح الأولى للمجتمع الاستهلاكي، أخذت تتردد إشارات عودة
الكاوس. إنما عبر صور كارثية مرعبة، شكلت الحروب العالمية أقصى ذروة
تاريخية لها. فالتقدم ليس نماءً وتحريرًا مستمرًّا. إنه ينطوي على
قوة التهديم الذاتي. إنه محمَّل بما هو ضده. ولن يكون تقدمًا
حتميًّا نحو حلول السيادة المطلقة لإنسان الحرية، بل قد يكون هو
كذلك تقدم الانحلال والبوار في ذات الحركة إلى الأمام، بينما هي
حركة نحو الوراء.
منذ أن وصم
إشبنغلر حضارة الغرب بكونها فاوستية، شيطانية، وأنها
وهي في ذروة انتصاراتها إنما تحفر قبرها بيدها، هل يمكن الجزم أن
الإنسان الفاوستي، وبعد معركة التاريخ مع (حتمية؟)
الإمبراطورية
القادمة، لن يستطيع العيش في العالم الذي كان صنعه بإرادته
وتخطيطه؟ كيف يمكن تمييز هذه الإمبراطورية عن كونها هي الثمرة
المرة، ولعلها لن تكون الأخيرة، لمسيرة التقدم بحسب هويته الفاوستية؟
٤٢ ولنتذكر أن فاوست تعاقد مع الشيطان لكي يكون إله الأرض
مقابل إله السماء، لكنه في النتيجة خسر كل مزايا الإله وإيجابياته،
ليغدو فاوست نسخة أخرى عن الشيطان حليفه في مغامرته الكبرى للسيطرة
على الطبيعة والعالم. في القرن العشرين تجسَّد فاوست في هتلر
وموسوليني وستالين. ثم مع حلول هذا القرن، فلقد انقضى ما كان يُعتبر
من مغريات «يوطوبيا السعادة السهلة»،
٤٣ كما دعاها
جورج سوريل منذ بداية القرن العشرين، فقد
شهدت نهايات هذا القرن بروز ما يُسمى بمجتمع الوفرة، وهو يعني
بالدرجة الأولى تعميم الرخاء الاقتصادي خاصة في الغرب الأوروبي.
وما صاحب هذا الرخاء من متغيرات جذرية طالت مُثل الحياة الفردية
بشكل خاص؛ فقد صعدت موضوعة الانهمام بالذات إلى رأس أولويات
الحداثة، عندما لا تتوقف مدلولاتها فقط على تقدم الشروط المادية
ووسائل الرفاه، لكنها تتعداها إلى اختلاق سلم القيم الموجهة للسلوك
الإنساني، على ضوء بروز معانٍ جديدة للفردية، لن تتوقف فقط على
توفير الحريات أو تأمين الظروف الاجتماعية للرعاية الشاملة، بل
تعيد كذلك طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بمعاني الحياة
الإنسانية وأهدافها، ليست المشروعة فقط على مستوى تأمين الحاجات
وتوفير شروط الحماية بكل أبعادها لمجتمعاتها خاصة، لكنها سوف تدعي
إحياءً لذاكرة الأسئلة الكونية، واقعيًّا وليس تنظيريًّا فحسب؛ إذ
تكتشف النخبة (الثقافوية) فجأة أن المجتمع الغربي لا يعيش وحده في
هذا العالم؛ ما قيمة المدنية إن كانت قد توصلت إلى تحقيق بعض
الحرية والكرامة الأخلاقية
لبعض الإنسانية، وأهملت أكثريتها في
معظم أنحاء المعمورة؟ ثم كيف تأمن هذه الأقلية على مستقبلها وسط
بحران البؤس والعنف؟ وهل ثَمة نجاة لأحد من أخطاء تلويث البيئة
وتدمير عوامل الحياة الطبيعية وظروفها البيولوجية؟
إن شرط المدنية هو عالميتها، كما دعا
كانط منذ قرنين إلى
الكوسموبوليتيا. وهو لم يكن يعنيها إلا كهدف استراتيجي كوني، قد
يرمز إلى إمكان تجسيد
المتعالي؛ أي حينما تصبح تجربة التاريخ قادرة
حقًّا على حمل اللامتناهي إلى صميم الواقع الإنساني، إلى تحقيق هذا
اللامتناهي المشخص، كما سوف يدعوه هيغل. ما جدوى الوفرة بلا تناهي
الجزئيات والنسبيات والألعاب الآلية من كل صنف وجنس، إن كانت لا
تذكِّر بفكر المعنى، لا تنبه إلى غياب اللامتناهي. فاللامتناهي يصير
في «العقل العملي» هو الغائية. وبالتالي فإن المتعالي يدخل الزمن؛
وكما قال هيدغر: [أصل] الصائر هو المستقبل دائمًا،
provenance est toujours avenir٤٤ بالأحرى يترعرع مفهوم المستقبل في صميم الصيرورة، حتى
يتحد بالغائية، بل هو وطن الغائية، بمعنى أنه لا يمكن للصيرورة أن
تتجرد عن ثَمة غائية ما، وإن كانت هي في حد ذاتها قد تكون غاية
نفسها؛ أي إنها لا تُختصر فيما تؤدي إليه من وقائع وأحداث؛ إذ يغدو
كل ما هو واقعي لحظة من ماضيها، والتقدم ليس سوى بُعد من أبعادها،
أو حالة من حالاتها. لكنها مضطرة دائمًا أن
تصير. ولا بد لكل صائر
من بُعد آتٍ؛ أي ثَمة مستقبل. أما كيف يمكن الاحتياز على هذا الذي
يصير، فذلك لا يمكن للتقدم أن يستوعبه، حتى عبر كل تأويلاته
والمفاهيم التي حُملت عليه؛ إذ تنبثق الصيرورة دفعة واحدة ما بعد كل
ما هو صائر، ذاك ما يرجعها إلى جذرها الكينوني الذي هو الزمن. فهي
بالنسبة إليه اصطلاح يهدف إلى تسمية الحراك الدائم الذي يميزه.
وإنه حراك غير متعين الأبعاد ولا الجهات. هذا الوضع يفترض امتناع
الفكر عن التعامل مع مفهوم الزمن أو الصيرورة؛ إذ يبدو كأنه تعامل
مع الكاوس. وعلى هذا يقدم التاريخ نفسه كسياق واقعي،
يشخصن هيئة ما
للصيرورة، ثم يبرز أقنوم التقدم ليضفي تحديدًا أشد تشخيصًا على
مفهوم التاريخ نفسه؛ كأنه يمنح التاريخ ثَمة معنًى. أليس هذا هو
القصد من إشكالية النقاش حول إن كان للتاريخ معنًى، أو أن معناه في
لامعناه؟
على الإنسانية أن تسعى وراء متعاليها؛ أي أن تعمل على تحقيق
نقلاتها المتنوعة، بما ينهض بها إلى مصاف غائيتها. والكوسموبوليتيا،
انطلاقًا من الفهم الكانطي لها، هي أرضية المحايثة الواقعية التي
تمسرح هذه النقلات؛ على أن يكون من خصائص أية نقلة أن تتقبل
تعيينًا لها، بالنسبة إلى مفهوم التقدم، حتى يصير التقدم نفسه ذروة
لمفاهيمها تلك. لذلك لم يأتِ ثَمة فكر حداثوي بعد كانط، إلا وحاول أن
يتصيد الصيرورة في أي تأويل يسمح بصياغة ثقافة اجتماعية قابلة
لمفهمة عصرها ومكانها هي منه، وطريقة تعاملها مع أطروحاته. ثم كيف
تعبر هذه الثقافة الاجتماعية خلال مذاهب وأيديولوجيات، لتصبح قادرة
على تحشيد فعاليات الجماعة وراء شعاراتها؟ وقد تكتشف النظرة
التراجعية نحو تجارب القرون الثلاثة أو الأربعة
الماضية، أن التقدم (غربيًّا دائمًا) قطع عبرها رحلته الطويلة،
وكأنه يتصفى من كثير من التأويلات والمفاهيم التي أُلصقت به. ومع ذلك،
ورغم التعارضات الكبرى التي كانت تمزق إنتاجات هذه القرون الحافلة،
والمتميزة بالنسبة للزمن الإنساني كله على هذه الأرض، فإنه لا بد
من الإقرار الفلسفي أن نظرية التقدم قد شدت أواصرها، مما سمح
بتكوين المشروع الثقافي العربي وبروزه من خلال شخصية مفهومية
متماسكة، تنطق بوحدته الجوهرية. هذا المشروع يفترض مفكروه أنه كان
فلسفيًّا خالصًا، استنادًا إلى ما تعنيه جوهرية وحدته، أو وحدته
الجوهرية. لكن قبل أي اعتراض ممكن على ممارسة النقد تحت طائلة
الفلسفي المحض — ضد هذا التأويل — ينبغي عدم تفسيره بحسب الصيغة
التجريدية. فالفلسفي المحض إنما هو وضع الفكر على محك الواقع
التجريبي. إنه لا يهبط من سماء، ولا ينبت من صحراء. ولكنه يكوِّن
تاريخًا شموليًّا ويتكون هو به. فالتفلسف الخالص لا يتولد إلا وهجًا
يشع من دأب الفكر على التورط في وعثاء المحايثة، وتجارب فهمه لها
خطأً أو صوابًا، ومحاولة تغييرها تأصيلًا أو عبثًا، ثم الخلوص منها،
وهو محمل «الفكر» بكل أعبائها وآثارها. إنه خلوص، لكن ليس خلاصًا،
ليس نهائيًّا، بل موقتًا؛ إذ لا بد من معاودة الغطس والغوص في لُجم
اليم نفسه الذي يخرج منه «الفكر» لهنيهة بين الحين والآخر، لكن
أقدامه ترسو في عميق مائه وقيعانه، وعيونه ترنو إلى آفاقه.
هل يكون المشروع الثقافي الغربي هو ميلاد العالم مولده الثاني
فلسفيًّا خالصًا، بعد مولده الأول كاوسيًّا صدفويًّا، بل جزافيًّا؟! هل
هذا هو تكوين التاريخ، وهل هذا هو معناه، أم إنه مجرد محاولة أخرى
جديدة لالتقاط تلك الضرورة الذهبية من خضم الصيرورة، من صدف النرد
الزرادشتي؟ فلمَ لا يغدو المشروع الثقافي الغربي نفسه هو هذه
الضرورة الذهبية؟ أن يكون رميةَ النرد الوحيدة التي أخرجت من رحم
الكاوس في نهاية اللعبة الكوسمولوجية، تكوينًا ما، استطاع أن ينشئ
تاريخًا يحركه التقدم وعثراته، وأن ينمو من تضاعيفه ذلك الفكر
المبدع في كل مفصل، يميز «التكوين التاريخاني»، الذي يمكنه أن يلعب
لعبة النرد الكاوسي، أو لعبة التفلسف المحض بين الممكن والمستحيل،
بين أخلاقية (غائية) الجينالوجيا، مقابل حيادية الأركيولوجيا. إنه
حلم اليوطوبيا الكانطية غير المستحيلة، بتلاقي الأنطولوجيا
والأخلاق في منعطف المدنية، أو أنه هو النقيض المتمثل في هذا
الافتتان بالكاوس ما بعد الحداثوي الذي يجتاح عالمًا، تكاد تجتاحه
أعاصير الفوضى من أقصاه إلى أقصاه، تحت وطأة انفلات ثلاثي المال
والعنف والسلطان. فقد أنتج المشروع الثقافي الغربي مجتمع الرخاء
لشعوبه، وترك بقية العالم تدفع أثمانًا باهظة لتقدمٍ لم تنَلْ هي منه
إلا جانبه الكوارثي المنعكس على الإنسان والبيئة والحرية. لكن
مجتمع الرفاه كذلك لا يستطيع أن ينأى بنفسه عن هذا العالم الذي
ادعى أنه يقوده إلى جنان السعادة والمدنية والعدالة؛ وهو نفسه بات
يشكو ليس من أعراض التخمة والجشع، وجوامح الفردانيات المغلقة على
بعضها فقط، بل أمسى يخاف من علل ترجع إلى أسس التكوين، وليس فقط
إلى طوارئه العابرة. فلم يعد قادرًا على التبجح أنه يمتلك السيطرة
على ميكانية التقدم، وأنه وهو يخلق الوحش، فإنه يقلم مخالبه
وأنيابه. أضحى محتاجًا إلى السيطرة على السيطرة، بدءًا من لجم
قانون التنافس الوحشي الذي تطلقه العولمة.
هل هذا هو المغزى العميق لبروز ظاهرة الإمبراطورية؟ كأنها ذروة
نظام التقدم الفالت من عقاله؛ من هنا أصبح المشروع الثقافي الغربي محتاجًا إلى
الاستنجاد بقوة المدنية العالمية نفسها
ووساعتها، من أجل اجتراح قانون آخر للسيطرة على السيطرة. أي إن
الإمبراطورية، كما كانت الإنسانية تكابد من ممارساتها الأولى
المتكررة حتى ذروتها الراهنة، لم تعد نتاجًا لاستراتيجية سياسية
دولية يختارها نظام ما كالنظام الأمريكي الراهن. بل إنها أضحت نظام
التقدم عينه، الفالت من عقاله، أي الفالت من رقابة مشروعه
الإنسانوي الأصلي، حتى تكاد تضع الإمبراطورية إنسانية الألفية
الثالثة على حافة هاوية الاختيار الأخير. ذلك لأن الإمبراطورية
تفرض ترشيح نفسها على اعتبار أنها تجسد التركيب الأعلى والقصووي
الأوحد، للوجه الآخر للتقدم الذي طالما تنكرت له ثقافته، وتجنَّبته
سيرته الظاهرية.
كانت أيديولوجيا التقدم تحتكر الغائية بمنطق الوسيلة الآنية؛ أي
بما تقدمه من النفعية المباشرة. وكانت تغطي بذلك الوجه الآخر
للتقدم الذي يترجم/ينقل السيطرة على الطبيعة إلى حيز تسلط الإنسان
على الإنسان. وإذا كان مجتمع الوفرة نجح إلى حد بعيد في تغليف آلية
هذا التسلط بشيء من عدالة التوزيع، ولعبة الديمقراطية السياسية،
بالنسبة لفقرائه ومتوسطي الحال عنده، وفق تشريع الحقوق الاجتماعية
كما تحقق في الغرب الأوروبي خاصة، إلا أن هذه الواحة من شبه الجنة
الأرضية، لا يحيط بها أوقيانوس عالم الحرمان والضياع الحضاري الذي
يغطي سطح المعمورة تقريبًا فحسب، بل كانت تنتابها من الداخل، ومن
بنيتها بالذات، أمراض العقم الروحي. ليست هذه الحالة جديدة في
تاريخ المشروع الثقافي الغربي، فقد كان من المهمات الأولى للتفلسف
المحض أن ينمي الفكر الاعتراضي، جاعلًا منه خطًّا مُوازيًا لاطراد التقدم
وتفاؤلية الوهم، المصاحبة لكل قفزاته، متعينًا دائمًا بابتعاث بعض
شرارة من أركيولوجيا «الروح».
على ذلك، لم يكن برومثيوس ليخسر رهاناته منذ أن تجرأ وسرق شعلة
من نار الآلهة ليعطيها إلى الإنسان الذي يكاد صقيع الأرض يقتله.
فهي النار التي تحرق، لكنها تبعث الدفء كذلك، وتجعل الحياة ممكنة
بالنار والنور معًا. ثم قبل فاوست التحالف مع الشيطان من أجل أن يحيا
تلك الحياة الأخرى (المحرَّمة)، إلى أقصاها، وتحقيق جوهرها عبر إرادة
السيطرة على الطبيعة ثم على العالم. ولقد عرَّى شوبنهور هذه الحياة،
كاشفًا عن كونها أنها ليست سوى إرادة للبقاء والاستمرار. وهي لا تبقى
ولا تستمر إلا بتدمير كل ما تبدعه وتخلقه. ليست هي إرادة
عمياء، لكنها لا ترى إلا ذاتها. أما
هيدغر فقد رأى فيها إرادة
للإرادة، وذلك في معرض تأويله المطول لإرادة الاقتدار النيتشوية.
والمعنى هنا يحتمل الإيجاب والسلب معًا، على العكس من الجزم
الشوبنهوري الذي انتهى إلى نصح الإنسان بالانسحاب من الحياة بأسرع
ما يمكن حتى لا يسيطر عليه خداعها، وتأخذه بأوهامها، وتجعله ضحية
لها وغذاءً لجشعها، عن غباء وانصياع حيواني شهواني.
٤٥
ما يمكن قوله أن ما يُسمى بالظروف الموضوعية في المصطلح الاجتماعي
والاقتصادي، كانت هي الحاملة الطبيعية لعوامل التقدم بإيجابياته
وسلبياته؛ وأما «الذات» بالحرف الكبير فقد اعتصمت دائمًا وراء
الفكر، بما هو نتاج للواقع وثورة عليه في آن. هذه الثورة هي الفسحة
المتبقية كممارسة للتفلسف المحض. إنها الفسحة التي شكلت أرض النجاة
للمشروع الثقافي من أضاليله لذاته، ومن أكلافها المستحقة على
رهاناته. تلك كانت مهمة التاريخانية بالنسبة للتاريخ وسرده الحدثي.
هذا لا يفرض الاستنتاج القائل بأن الفكر لم يكن مسئولًا عن هذه
الأكلاف. لا يستطيع أن يعتصم بأسوار التاريخانية دون أن يكون
متورطًا في وعثاء التاريخ نفسه. أعظم أبنية التاريخانية وصروحها،
فلسفيًّا، كان هو اكتشاف الجدلية من هيغل إلى ماركس؛ لكنها لم تستطع
أن تجعل التاريخانية تفيض كبدائل مفهومية عن لغزية الصيرورة؛ هذا
لا يحتم أن تكون الجدلية بصفة عامة مجردَ واقع لغوي، ولا أن تقع
فحسب في أحد هوامش الصيرورة. وهي وإن جعلت من تقدم التاريخ حقيقة
بدهية، لكنها لم تنجح في فرض كمالها الخاص، كنهاية للتاريخ نفسه؛ أي
إن التقدم لن يكون مفهومًا في مآله، أو تركيبه الغائي، كما لو كان
نتاجًا (موضوعيًّا) لراهنيته، بل إن فورية التقدم هي فجائيته
الدائمة؛ وبما يجعل واقعه يسبق فكره دائمًا.
هل يقر التفلسف المحض أخيرًا أنه لن يكون إلا تأويلًا لغويًّا،
وليس تلفظيًّا دلاليًّا؛ إلى درجة أن تغدو اللغة هي وطن الكينونة،
هذا الاعتراف الاحتفالي الذي أصبح التفلسف المحض مدينًا به
لهيدغر. فهو الفيلسوف الأول، عصريًّا على الأقل، الذي أزاح عن اللغة
اتهامها بكونها الوهم الذي يحجب الكائن؛ وهو الاتهام ذو الأصل
الأفلاطوني الذي اخترق المشروع الثقافي الغربي طيلة مختلف
تحولاته، وأسَّس ازدواجية الظاهر والباطن. فعانى الفكر الغربي دائمًا
من لعبة المثاقفة والمشاكلة؛ بحيث يكون التقدم سيد المشاكلة في
مختلف صولاتها وجولاتها؛ إذ كانت هي وسيلته الأولى في تجريد التلفظ من
كينونة اللغة، واستثماره ضدًّا على فعاليتها الأصلية المتجلية في
نسج المثاقفة مع الكينونة. ذلك أن سيطرة لعبة المثاقفة والمشاكلة أدت إلى
اشتغال التلفظي ضدًّا على اللغوي، وسقوطه غالبًا فريسة لازدواجية
الأدلجة والثرثرة. وكان أخطر هذه الأدلجات هو أسطرة التقدم، ورفعه
صنمًا فاوستيًّا معارضًا للفكر الذي عليه أن يرجع إلى ذاته.
لكن محاولاته تلك في هذا السياق لا تكاد تنضج حتى تسقط في شباك
المشاكلة ما بين التلفظات فيما بينها، كأنجع وسيلة في الإمعان بحجب
اللغوي واستبعاده. والمقصود باللغوي في هذا السياق هو ذلك القول
الذي يكون، يقول الكينونة. إنه ذلك القول الفعل الآمر الذي لا يأتي
بالعبارة إلا ونظامها «المعرفي» معها.
في سيرورة التقدم كان هم التفلسف المحض التقاط تلك العبارات
النادرة المعبرة عن الكيفية التي يمكن فيها للفكر أن يعيد الجسر
بين التقدم ومظاهره، وبين الصيرورة التي يدعي دائمًا الانتماء إليها
والتعبير عن إشاراتها، لكن كان العلم، بدلالته الفيزيقية، هو
الأقدر على تجسيد «عباراته المعرفية» في إنتاجاته الآلية
وتداعياتها التحويلية في بنية المجتمع وحراكه المتكامل. فالعلم لم
يكن معرفيًّا خالصًا [من النفعية]، إبان ما يُسمى بعصر الحداثة وما
بعدها، بل كان يرتبط عضويًّا بالصناعة. وهما معًا، العلم والصناعة،
لم يعودا الفرسين اللذين يجرَّان عربة التقدم، كما كانت تبشر تفاؤلية
القرن التاسع عشر، بل سرعان ما أمسيا هما وعربتهما ليسوا في خدمة
قانون الإنتاج، التابع لآليته فحسب، إنما أمسوا مادة برهانية
لأيديولوجيا الإنتاج، والرأسمالية هي الاسم التداولي لهذه
الأيديولوجيا. أما المصطلح الشائع، النظام الرأسمالي، فليس له وجود
قائم في ذاته إلا كعنوان للأيديولوجيا فحسب. ذلك أن الموجود العيني
الحقيقي هو الإنتاج. تلك الحقيقة الأولية التي شكلت الحجر الأساسي
للماركسية. لكن جرى انسلابها كذلك تحت طائلة تحول ثقافة الإنتاج
إلى دوغمائيات ماركسوية، تصارع أيديولوجيا الرأسمالية. بينما تقوم
حقيقة كلٍّ من النظامين (المتناقضين حديًّا): الرأسمالية
والماركسوية، على حجر الأساس الواحد الذي هو الإنتاج، والذي يختزل
بدوره حركية التقدم، ويحتكر آليتها، فهل يمكن أن يتوقف التقدم على
الخواص فحسب، على مالكي وسائل الإنتاج دون عموم المنتجين؟ هل تُسخَّر
موارد الإنسانية جمعاء ومصالحها لتغذية عجلة التقدم التي تمتطيها
بضع مجتمعات فقط. ذلك ما حدث حقًّا طيلة تاريخ الحداثة تحديدًا. فقد
دفعت أكلاف التقدم الأوروبي حضارات المعمورة جمعاء. وزُجَّت شعوبها في
صراعات وحروب النخبة فيما بين أقطابها، التي لا ناقة لهذه الشعوب
فيها ولا جمل. لقد كان لتركيز الثروات الكبرى المجلوبة أصولها
أنحاء العالم، من المستعمرات خاصة في آسيا وأفريقيا وأمريكا
الجنوبية، الفضل الأول في تشغيل الآلة الرأسمالية، ونمو العملية
الرأسمالية ككلٍّ التي لعبت دور القاعدة المادية لمختلف إنتاجات
التقدم. ومن دون هذه القاعدة لم يكن للعقل (الغربي) أن يحقق قفزاته
المعرفية الكبرى. صحيح أن المال والعلم هما القدمان اللتان
يسير بهما العقل، لكن لولا العقل لكانت المسيرة خبط عشراء، بالقدمين
وحدهما.
ما هو المشروع الثقافي الغربي في المحصلة الأخيرة؟ أليس هو
المشروع النهضوي (الفريد) الذي اخترع التقدم بناءً على ركائزه
الثلاث: العقل والعلم والمال (الاستثمار)؟ وهي الركائز التي ما لبثت أن
تحولت إلى قوًى نوعية هائلة، وأنتجت سلطاتها الكبرى المتمايزة
والمتصارعة فيما بينها كذلك. ومن شبكية هذا الصراع تشكلت نمذجة
حضارة العنف التي بررت انتصاراتها الثقافية وأهوالها معًا بكونها،
ومنذ بذرتها الأولى في صحراء الهمجية الخالصة، قد وضعت نفسها،
ورسمت تاريخها المستقبلي، تحت طائلة مشروع المدنية الإنسية لمواطني
الأرض جميعًا، كما تخيلت دائمًا. ذلك هو التزامها الأخلاقي الكبير
الذي يواجه امتحانه الأعلى في اللحظة الراهنة من تحيين المشروع
كحقيقة كونية وملموسة، خاصة بعد أن وفرت التقانة شبكيات الاتصال
والتواصل، ليس بين الوحدات الأقوامية فحسب، ولكن بين الأفراد ما
فوق كل حدود داخل المجتمع أو خارجه. إن العالم يعيش على إيقاع
الزمن الآني والفعلي في مختلف أحداثه واهتماماته. في هذا العصر،
أمسى المجتمع الأممي حقيقة واقعة، وهو في طريقه إلى أن يتخطى
المجتمع الدولي المحاصَر بين كِيانات الدول. فالأممية، وليست
الدولتية، المحل/الوطن، هي المضمون المشخص والعيني للكوسموبوليتيا
التي شرَّعها كانط، بل هي الأممية لأنها هي المحل/الوطن الحقيقي
لسُكنى الإنسانية في العالم … شعريًّا؛ أي حقانيًّا عدليًّا.
في اللغة السياسية المباشرة، فإن مصطلح العلاقات الدولية لن يظل
محكومًا بتوازنات المصالح ما بين حكام وحكومات العالم، كما هو شأنه
منذ نشوء نظام الدولة الأمة في القرن التاسع عشر. ربما آن الأوان
لتقدم العلاقات ما بين الأمم، على تلك التي تقوم بين الكيانات أو
القمم الحاكمة. فالمجتمع الأممي سوف يزداد تعارفًا وتآلفًا ما بين
وحداته؛ فهو المرشح — تصوريًّا — لأن يمسك بدفة القيادة، مع تعاظم
أدوار الجماعات المدنية وتواصلها الحركي فيما بينها. لعلها سائرة
على درب العولمة البديلة المعبرة عن بروز سلطة العصر الغائي، كبديل
تاريخاني، هو نفسه، عن أزمان الوسائط التاريخوية الغابرة.
التفلسف المحض كان منوطًا به عند كل مفترق تاريخوي، أن يذكِّر
بالكوني المنزاح أو المحبط أو الممنوع، أن يكون حارس الكينونة
المهددة بالغياب تحت غيبوبة الوعي الكلي المسلوب؛ التفلسف المحض
الذي كان يكسر رتابة العلية الحدثية، ويفصم تسلسل الوسائط عن
بعضها، متدخلًا بإحلال ضربة القطيعة الكارثية ما بين الأنظمة
المعرفية، هو المنوط به في نهاية الشوط التاريخوي الإعلانُ أن
الإنسانية باتت تعيش عصر الغائية، وذلك بعد أن استهلكت عصور ومراحل
الوسائط والوسائل، بعد أن سلكت طرق العبور والتفافاتها الحلزونية،
متحالفة متعاضدة مع «مكر» التاريخ وعربداته الفاوستية، متذرعة
بالغائويات (المرحلية)، واختراع تلك الوسائط الكفيلة بتحقيق
السيطرة الواعية (العقلانويات) على السيطرة الخام الغريزية
(اللاعقلانوية).
إذا كان ثَمة ما يترجم مفهوم المتعالي الكانطي إلى الخطاب الفلسفي
المعاصر، فهو ما صار يعنيه التفلسف المحض في سعيه إلى الكشف عن
الكوني اليونيفرسالي في العبارات المتناهية. فحين يكون السلام
العالمي هو المعيار لإنسانية التقدم، يمكن أخيرًا للمدنية أن تشرع
في التحقق العياني تحت طائلة اللامتناهي المشخص. ها هنا لا يمكن
الاستنتاج فقط أن السياسة والأخلاق تعودان إلى حيز التوافق بين كلٍّ
من مفهوميهما وإجراءاتهما، وذلك في حيز من التأمل التجريدي فحسب،
بل إن ما يميز راهنية المتعالي الكانطي هو بلوغ التقدم الآن وهنا،
حد اختراق الموانع الثقافوية التي كانت تقف عثرةً في المواجهة
المباشرة مع ما يمكن تسميته بميتافيزيقا الواقع الفعلي، كأسرار
الحياة والمادة والفضاء. تلك الميتافيزيقا المحايثة لم يعد يمكن
فصلها بين شطريها العلمي والأخلاقي، بالرغم من السبق العلمي
ومكتسباته العملية، مقابل العجز المتفاقم في قدرة الأخلاق على
إيجاد الحلول المستعصية دائمًا للكيفية التي يمكن فيها للسلام
العالمي أن يفرز النظام السياسي والقانوني، تحقيقًا للعدالة
الشاملة، في الحرية والمساواة والعيش الكريم لسكان المعمورة، بدون
أية تمييزات تاريخوية فيما بينها. وفي انتظار أن يولد نظام ما
للكوسموبوليتيا، كتشريع سياسي وقانوني ضابط لشبكية العلاقات
البيذاتية لمختلف أقوام الإنسان وحضاراتها التراثية، فإن «مؤسسة
الأمم المتحدة» لا زالت لم تبرح بعدُ مرحلةَ العلاقات الحكومية ما
بين الدول. وإذا ما استمرت على هذه الحال فيمكن أن تصبح عقبة كبرى
أمام تشكل نظام تشريعي للكوسموبوليتيا قابل لأن يكون هو النظام
السياسي للمدنية.
ذلك الوضع يُشخص التقدم الراهن كضحية، أو رهينة، عالقًا في شبكية
هائلة من التناقضات البنيوية ذات القدرة الذاتية التي تؤهلها
للتحكم وفرض التوجهات العامة للمسيرة التاريخية؛ فهي المحتكرة لما
يُصطلح عليه بإنتاجية الظروف الموضوعية الزائفة ضدًّا على إرادوية
الوعي المذكرة بحقائق التقدم الأصلية.
إن ظهور الإمبراطورية يأتي تجسيدًا لكمية وكيفية السلب الهائلة
المتراكمة عن نفايات هذا التناقض البنيوي الذي يكاد يسيطر على سيرة
التقدم المتآخذة بين حديه: التاريخوية والتاريخانية، أو بكلمة
أخرى: بين حدثيات الواقع الخام الجلف، كما هو في بريته وبرانيته
المطلقة، وبين الجهد التركيبي لخاصية التقدم الأولى، المتمثلة في
إعادة تأهيل هذه الإنتاجية الحدثية الخام، وجعلها تتحرك تحت طائلة
الحداثة والوعي الحداثوي. ذلك أن الحداثة هي توطين التقدم
إنسانويًّا. فإن التقدم بدون الحداثة كالسفينة المليئة بالكنوز
لكنها فاقدة لبوصلتها، تتخبط عشوائيًّا على إيقاع الأمواج صعودًا
وهبوطًا، يمنةً ويسرى. لم تعد الحداثة ثمرة للتقدم، بل هي محل
غائيته؛ لا توجد في نهاية طريقه بقدر ما أنها تُعبِّده معه، من
بدايته. إنها حارسة التقدم، بدونها يصير إلى ظاهرة كاوسية. هنالك
أشكال كثيرة من التقدم عرفتها حضارات الإنسانية؛ وكان لكل حضارة
نموذجها الخاص من التقدم الذي يعكس شخصيتها المفهومية؛ لكن القليل
منها استطاع تقدمها أن يبلغ طفرة الحداثة. ذلك لأنه ليس ثَمة حداثة
لحضارة ما إلا عندما يؤهلها تقدمها لإحداث تلك القطيعة الكارثية مع
نظام أنظمتها المعرفية المغلقة على حدود شخصيتها المفهومية، أو
ثقافويتها الذاتية، أو تراثيتها الفطرية، أو ما يمكن أن يُعبَّر عنه
بالتكوين الأنثروبولوجي (القبلي) لمجتمعها. عندئذٍ فقط تغدو تلك
الحضارة مرشحة لمغادرة أركيولوجيتها الخاصة، والانفتاح على المدنية
تحت طائلة حداثتها الجديدة.
ما يحدث تحت النظر الراهن إنما هو مَسرحة كونية غير مسبوقة لذروة
الجدلية الأنطولوجية، وليس التاريخانوية فحسب، بين قصدوية النمذجة
الواقعية لحضارة العنف، المتمثلة في إمكانية محايثة الإمبراطورية،
وبين راهنية المحايثة لإمكانية المدنية المعاقة. إنه انشطار
المشروع الثقافي الغربي، بما هو أعلى تركيب تاريخاني شمولي لإنسانية
العصر، ما بين جناحَيه الأوروبي والأمريكي، وبينهما بقية العالم؛ يكاد
يجسم القطيعة الكارثية؛ إذ يشتغل شغلها الذروي بحسب براديغم
الجيوسياسي/الجيوفلسفي. فحضارة العنف تبلغ أوج تقدمها، الوحيد في
جانبه التقاني فحسب، لكنها تخسر رهانها الأنطولوجي في إنتاج وبلوغ
الحداثة. يغدو تقدمها عقيمًا أعمى عن رؤية الغائية؛ وذلك لعلة
أولى، متمثلة في عجزه عن إعادة توطين مقدماتها في أصوله الأولى،
بحيث بقيت أركيولوجيا البدايات طاغية على جينالوجيا النهايات، طيلة
المسيرة التاريخية ما بين الجذر والقمة. إنها أركيولوجيا التشتت
الأقوامي الذي أسس النشأة الفريدة لكيان الخلائط الأمريكية. صار
هو الوطن الاغتصابي الذي سيظل يحمل شارة حرمان الكيان المصطنع من
أمومة أرض الوطن الأصلي؛ هذه الأركيولوجيا القائمة منذ البداية على
استئصال الآخر والاستيلاء على أوطانه، التي أسَّست جينالوجيا
المنفعة المطلقة، فكانت أفضل إغراء جاذب للرأسمالية الناشئة في
أوروبا، وتغذيتها بأغنى الموارد الطبيعية المتوافرة في القارة
البكر المنهوبة: أمريكا؛ هكذا تحقق اصطناع «الأمة» المركبة
الجديدة، وشد لُحمتها بالرأسمالية المستوردة، وتشغيلها
والانشغال بها إلى أقصى طاقات الاستغلال للإنسان والأرض. فقد ساعد
إفراز التنظيم الاجتماعي الملائم لقانون الاستغلال، باعتباره أساس
القيم وحارسها الوحيد، في تنمية الفردية الخام دفعة واحدة،
بحرياتها المباشرة، دونما أية عقبات بنيوية، تاريخية أو تراثية،
تُقاومها، كما كانت الحال في مجتمعات أوروبا المتعضية، ودونما أن
تضطر [أمريكا] إلى الانخراط في استعادة مرحليات التقدم الأوروبي
السابقة، بحيث تتحمل أكلافها الإنسانية الهائلة، تحت وطأة من تجارب
التحولات البنيوية الشاقة. إنها أمة الشتات الجديدة بدون تاريخ ولا
ماضٍ. وتغتصب شبه قارة كاملة، مفتوحة السهول الشاسعة لأوسع الزراعات
العصرية. وباطن أراضيها غنيٌّ بكل المعادن التي تحتاجها الصناعات
الثقيلة، وخاصةً امتلاكها لبحار جوفية من النفط الذي سوف يغدو
المحرك الأول للإنتاج الاستهلاكي المركز منذ بدايات القرن العشرين.
كل ذلك جعل من أمريكا أكبر مصانع الأرض قاطبة.
أما في الجهة المقابلة، التي هي أوروبا، حاملة مسيرة التقدم،
والمفكرة بمنطقه الالتباسي دائمًا، والممثلة للتجربة الحداثية بكل
مزاياها وأمراضها الأولى، منذ تاريخ الإنسان على الأرض، فإنها شكلت
نموذج العيش تحت طائلة: براديغم الجيوسياسي/الجيوفلسفي في مختلف
مراحل تحقيبها الفكري والواقعي. فلم يكن تطورها وحيد الجانب لصالح
أحد طرفَي البراديغم، رغم طغيان الإنجاز الصناعي والتنظيمي على مجمل
العملية التحديثية. ذلك لأن الهم الإنساني كان يمثل الحصان الأول
الأبيض الذي يجر عربة التقدم، منافسًا الحصان الأدهم الآخر الرامز
إلى بنية الإنتاج والتنمية العلمية المطردة. فإذا كان العلم
(الفيزيائي) لا يفكر كما قال هيدغر، إلا أن المجتمع بالمقابل هو
الذي كان يفكر بديلًا عنه، هو الذي كان يحتضن دائمًا العملية
التحديثية في مختلف جوانبها التصنيعية والثقافية. وبقدر ما كان
محور الإنتاج الصناعي يستحوذ على محور التقدم الغربي، بقدر ما كان
الإنسان بالمقابل يحاول أن يحافظ على أولويته باعتباره هو الصانع
الأول؛ لكنه هو اليوم على وشك أن يغدو هو أحد مصنوعاته كذلك. فقد
كان المشروع الثقافي الغربي (الأوروبي) يدرك أنه يعيش دائمًا على
شفا الخطر، حتى وهو في أوج انتصاراته الحضارية، كما لو أنه على
شفا النهاية لإنسانيته وأخلاقيته؛ لكنه كان في كل لحظة تهديد قصووي
يستمد من تجربته الروحية الكبرى — إن صح التعبير — ما يجدد من
إعادة استكناه إنسانيته، بما يجعلها تستخلص قدرات إبداعية في مفهمة
الواقع المستجد وعقلنته، واستخدامها لبنة جديدة تنضاف إلى صرحه،
وتُقربه أكثر من مطمحه الشمولي، كما يعتقد؛ بحيث يسترد زمام السيطرة
على مصيره، بعد كل قطيعة كارثية يحدثها بين نظام أنظمة معرفية سابق
ومستنفد، وبين نظام أنظمة معرفية آخر آني ومستقبلي. كانت قدرة
المشروع الثقافي الغربي على إنزال القطيعة الكارثية في صميم
منظوماته المعرفية، قد أعطت التقدم طابع التحولات والقفزات
الحاسمة، كلما كانت إحدى حلقات هذه المنظومات تبلغ مرحلة استنفادها.
هذه الموهبة المدنية الفريدة التي التزمها التقدم الأوروبي طيلة
مسيرته، متنوعة متلاحقة، كإيقاع منتظم من قطيعات كلية وفرعية داخل
بنيانه الاجتماعي مقابل التراكم المعرفي، كان لها أن تؤسس ثقافة
الرفض والاعتراض كحارسة أمينة على «براءة الصيرورة» في الصميم من
تناقضات السياق الحضاري؛ مبشرة هكذا بطلائع المدنية، وتراكم
«عقلانوي» في محصولها النقدي من عصر إلى آخر، في عمق البنية
التكوينية لحضارة العنف عينها، المسيطرة على المشروع الثقافي الغربي
بصورته الإجمالية.
هل نقول إن تاريخ تلك القطيعات المرحلية، هو الذي سوف يُفترض أنه
يمهد الطريق نحو القطيعة الأشمل مع جينالوجيا العنف، المتنامية على
أنقاض أركيولوجيا اللاهوت القروسطي؛ كأنما كان تاريخيًّا جدليًّا،
هذا التناقض والتكامل بين حدَّي البراديغم التكويني: الجيوسياسي
والجيوفلسفي. فقد شهدت القرون الثلاثة الأخيرة من الألفية الثانية
أهم عصور التقدم العالمي، ولكن كما هو مركَّز ومعروض في الغرب
الأوروبي؛ ومهما يُقَل حول «وهم» فرادة التقدم الغربي، فإنه يعبر عن
حصيلة تركيبية عليا لمساهمات حضارات الإنسانية الأخرى السابقة
والمعاصرة للحداثة الأوروبية؛ هذا القول يثبت أن خصوصية هذه
الحداثة قد آلت إلى وضع الإنسانية جمعاء، وفي مفترق الألفية
الثالثة، على عتبة معركة التصفية النهائية ربما، بين راهنية
المدنية فكريًّا وموضوعيًّا، وذروية البربرية واقعيًّا، كما
تجسدها الإمبراطورية، المداهمة للمعمورة في عصر سلطة السلاح
التدميري الشامل، بما يعبِّر عن انشطار مسيرة التقدم، المهدد بطغيان
جانبه العنفي الخالص على جانبه الآخر الإنساني الموصوف بالمدني. هل
هي جائزة التقدم الأخيرة العليا؟!
هل نقول إذَن إن الألفية الثالثة، التي يريد أسياد الإمبراطورية أن
يجعلوها عصر الأمركة بلا منازع، ستشهد المسرحة العظمى لذروة معركة
التصفية النهائية مع أعنف تجسيم وتجسيد لأركيولوجيا العنف،
لبربرية الذات الإنسانية، وتخريجها، ليس من عمق التاريخ وحدثانه
فحسب، ولكن من عمق هذه الذات عينها كذلك؟ فليست الإمبراطورية مجرد
شكل في السياسة الدولية الراهنة. إنها تؤرخ لأخطر حالة انحرافية
ينجر إليها التقدم، وتصيبه بأفدح خلل يطال بنيته التاريخانية
الصانعة لمسيرته شبه النظامية تحت طائلة غائية ذاتية، كانت تتضح
بعض معالمها أو تغيب عبر حدثيات التاريخ، ويتم تقييمها بحسب قرب
هذه الحدثيات أو بُعدها عن التوجه العام لمجمل إنتاجات التقدم نفسه،
السلبي والإيجابي منها.
هل نقول إنه لعل انحرافية التقدم الراهنة ناجمة عن طغيان فائض
القوة على معادلات التوازن الجيوسياسية في الخارطة العالمية؛ الأمر
الذي يؤدي إلى مواجهة هذه الحقيقة المُرة التي كان يتجنبها دعاة
التقدم اللامحدود؟ وهي أن حضارة العنف لا تزال تشكل العمود الفقري
للتاريخ المعاصر، بل إن تطورات التكنولوجيا الهائلة، خلال النصف
الثاني من القرن العشرين بخاصة، قد أنتجت أعلى أسلحة التدمير
الشامل للإنسانية جمعاء. لقد عاشت الإنسانية في هذه الفترة تحت
أخطر تهديد عرفته في مسيرتها، بين حدَّي ما سُمي بتوازن الرعب النووي،
بين كتلتَي الشرق والغرب، طيلة خمسين عامًا. واليوم بعد انهيار
القطب الاشتراكي، تحاول الأمركة احتكار هذه الأسلحة وحدها لتمارس
أشمل إرهاب ضد العالم أجمع. فهي في مشروعها الإمبراطوري، كأنها تضع
العالم أمام خيارين؛ إما أن يخضع لها، أو يكون نصيب المتمرد الزوال
من خارطة المدنية والوجود المادي معًا.
على الضد من هذا المصير البائس، فقد كان مفهوم كانط عن المتعالي،
يحاول أن يتصور إمكانية تجسده، كغائية للتاريخ، وذلك بإمكان إلغاء
ثقافة الموت نهائيًّا من سياق علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؛ إن كلية
الإنسانية هي الضامن الوحيد لسلام كل الإنسانية. وإذا لم يبلغ
التقدم هذه المرحلة العليا الحقيقية وحدها، فالتقدم سائر إلى لحظة
انتحاره بسيفه عينه.
إذا كان العصر يعيش ظروف المدنية لكل الإنسانية، يبني أعمدة
الجمهورية العالمية واحدًا بعد الآخر، مبرهنًا على إمكانية تحيين
الكوسموبوليتيا ونقلها من حيز اليوطوبيا والأسطورة إلى حيز الواقع
السياسي والهم البشري الفعال واليومي، إذا كان ذلك هو شرط مصير
السلام العالمي تاريخيًّا، وبما يشبه الحتمية العقلانية، فإنه
بالمقابل قد لا يأتي الواقع الكوني متطابقًا مع هذه التفاؤلية؛
وحين ذاك لا بد أن يعود فكر شوبنهور الموصوف بالتشاؤمي المطلق، إلى
مركز التحدي المباشر للكانطية المعاصرة. ذلك أن التشاؤم ليس هو سوى
ذلك التركيب الدرامي من الثورة المطلقة ضدًّا على ثقافة الموت
ووسائلها التدميرية الهائلة، مع اليأس من إمكان إيقافها في الوقت
عينه.
من هو فيلسوف العصر حقًّا؛ كانط أو شوبنهور؟ أم إنهما معًا وجها
الدراما الإنسانية، بعد أن تمزقت كل الأقنعة الفكروية التي أخفت
معالمَها الأدلجاتُ اللاهوتية والمادوية معًا، عندما كان يخترعها مكر
التاريخ دوريًّا في كل منعطف من مسيرته؛ وصولًا إلى المنعطف الأخير
الآن وهنا، حيثما ذروة الانكشاف للخيار الأخير ما بين الإمبراطورية
أو المدنية؟