الأركيولوجيا الثالثة: التقاط الفوري

منذ البداية جرى الفكر على عادة تغييب الشر، وعزله دائمًا في رقعة نائية عن الإنسان ووعيه معًا. فالميتي (الأسطوري) حدد للإنسان موقعًا متوسطًا بين «الأولمب» جبل الآلهة عاليًا، وجحيم الشياطين في أسفل السافلين. مثلما ليس الإنساني هو موضع الإلهي، كذلك ليس هو موضعًا للشيطاني. ولقد تمت ممارسة هذه العلاقة المتخارجة لدى العقائد الدينية الكبرى، وكذلك الفلسفات التي أنفت أخيرًا من تسمية الشر باسمه، فراحت تُندد به عبر نقائضه المصنفة في عداد الممكنات البشرية. ثم إن انزياح الشر كدلالة وموقع، لقي تعبيره الحداثوي في الاختراع الفرويدي الاستثنائي المسمى باللاشعور. وهذه التسمية لم تدَع دلالتها تتورط في حوار مكشوف مع الشر «الخام». فاللاشعور أمسى له موقع ما من الكينونة الإنسانية، لكنه ظل مع ذلك يحتل منطقة اللامنظور كعادة التغييب العريقة، إلا أنه صار مدمجًا [وتأهيليًّا] إلى حد ما.

حتى فرويد لم يجرؤ، ليس على تسمية الشر باسمه المباشر فحسب، ولكن على تعريته من كل ترميزاته المتداولة؛ لم يقاربه وهو خام صريح. أوكَله إلى اللاشعور، سلمه إلى غموضه «الأزلي» دون أن يُفقده حق العودة. ومع ذلك، فالشر أقدم الأقانيم المشغول عليها حضاريًّا؛ حتى لم يعد بالمستطاع التعرف على هيئته الأصلية. لذلك كان من المريح باستمرار لكل المواقف والمذاهب تصنيفه تحت صيغة النسبيات التي تضمه وسواه معًا. لكن تغييبه موقعيًّا بقي استراتيجية ثابتة. إذا كان التغييب يعني إقصاء الشر كمخلوق ما يسكن عالمًا نائيًا، إلا أنه في الوقت عينه يجري الاعتراف بأفاعيله ومؤثراته ضمن منطقة «الداخل»، ومن هنا تأتي مختلف المفاهيم المجردة، والأفاهيم الحميمية، وهي تحرص على استمرار التخطيط الجهوي، بتعزيز الأسوار الفاصلة بين «الداخل» و«الخارج».

هذا الداخل، وقبل أن يتبلور أقنوم الذات، ويتم تشريح «الأنا» سيكولوجيًّا، ظل معقل الكائن ومسكنه الحميم، يرتبط به بدون أية علاقة، ويحس به لصيقًا به ودفينًا فيه دون واسطة. هذا الحدس المطابق لموضوعه، دون أية نتوءات من هذا أو ذاك، لا يفرط به بأي ثمن. ليس ذلك لأنه يعني البقاء أو الحفاظ على الفرد أو النوع، كما سوف تترجمه التجريبيات الحديثة، بل لأنه هذا الداخل الذي يتعلق به المرء بدون أية علاقة، سابقة على كل توصيف، بما فيه تحديد الخير أو الشر.

إن تحييد موقع الشر في جهة ما، أو رقعة ما من هذا «الخارج»، يؤسس تبريرًا، غير مصرَّح عنه، لتحييد الداخل؛ أي تخصيص الداخل بالحالة السابقة على كل توصيف أو تصنيف جهوي. ولو أن الخارج كان كله، ومنذ البدء، واقعًا تحت اليد، لما أمكن رسم تلك المسافة بين ما هو تحت اليد، وما هو في متناول اليد؛ أي بين حالة الكائن الحيوان الذي يولد عالمه منذ البدء في وضع برنامجه الخلوي موضع التنفيذ، وبين الكائن الإنسان، فهو الذي يُقذف به إلى عالم مغاير منذ البدء؛ قد يقع بعضه تحت اليد، ويقع البعض الآخر في متناول اليد، ولكن يقع معظمه خارج هاتين المسافتين. فهو الحيوان الحركي، من الطراز الأول الذي لا يمتلك مقدمًا أي حيز من العالم. وبالتالي لا يمكنه أن يستتبعه بضمير التملك. إنه هو من لا يحوز على عالمه أبدًا. فإن يكن الخارج محيدًا بالنسبة للداخل، بهذه الدلالة شبه المطلقة، وهي أن الخارج لن يكون مجرد ضاحية للداخل، لكن الداخل سيظل مهددًا من قبل الخارج؛ ليس لأن هذا الثاني يغزو الأول، بل لأنه يمتصه، لا يدعه يقوم عند ذاته. إنه كائن محروم من سكن بيته إلا لمامًا أو نادرًا. ولكن ما معنى أن يكون محيدًا بالنسبة للداخل؟ رغم أن العلاقة لا يمكن أن تنقطع بينهما، حتى في أعنف الأزمات المرضية الانفصامية، فإن أولى حالات الوعي، التي سوف تصاحبه كل الحالات الأخرى التي تليها، هي أن الخارج ليس اللغز كما هو مفهوم العالم منذ هوسرل، وليس هو اللاأنا كما عند فيخته والمثالية الألمانية، بل هو كمية الاختلاف اللامتعينة التي تبقى طافحة عن كل علاقة بها.

نقول الداخل ولا نقول «الذات»، ليس لأن الذات مفهوم متأخر في تاريخ الأنثروبولوجيا، وهذا في أصله يشكل أهم تلك الأسباب، أو على الأقل أوضحها، بل لأن الذات كانت موضوعًا مفضلًا للكتابة، حتى صارت أقرب إلى الاصطلاح. كانت عتبة أو إشارة إلى الداخل، لكن كتابة الذات جعلت من نفسها هدفًا، ونسيت كونها المدخل إلى ما يصعب الاصطلاح عليه، كأنما الذات أخيرًا شاركت في تلك الاستراتيجية الكبرى التي عنوانها نسيان الكينونة.

الداخل، يظل يحتفظ بحياديته بالرغم من كل ما يقال ويُكتب عنه، من خلال بدائله اعتبارًا من مفهوم الذات، والأنا المفكر أو الوعي الظواهري، وصولًا حتى إلى المصطلح الهيدغري الأكثر ثراءً وفورية، وهو الكائن في العالم، أو الدزاين؛ إنه شبه الداخل الذي يسمح بالمقاربة البريئة التي لا تعد بأي اقتناص للهدف أو اختزال لموضوع لا تعرف حدوده. كل الأيقونات الذاتية، بما فيها أعجوبة الفرد المعاصرة التي تُصدرها آخر التشكيلات المعرفية الغربية كتعويض غير مستنفد بعد، عما خسرته مع الأفكار التضمينية السابقة، نقول إن كل الأيقونات من الطراز عينه واشتقاقاته، بقيت تناور على فورية الداخل، تتسكع على حوافيها، وتتبضع من بعض حواشيها. الداخل بقي مسكونًا بنفسه فقط، بالرغم من سطوة الدخلاء ومكرهم. الداخل، ما إن ينطق به لسان، حتى يشرع هو في انتظار صمته ليتمكن من استعادة هيبته. يظل الداخل، ما لم تمسسه بعدُ أية عبارات، أو تحاول استيعابه أية صياغات. الداخل يظل خارج كل من يحاول الدخول عليه. ليس له بدايات معروفة. وكل مصطلح ذاتوي، قد يفوز أحيانًا بإعلان عن اكتشاف بوابة، أو اصطناع فجوة، أو نحت عتبة. لكن يبقى من الاستحالة بمكانٍ البرهنة على كونه فعل كذا أو كذا؛ إذ إن الداخل لا يجيب، ومهمة الشرح والتفسير منوطة دائمًا بمن ادعى الدخول والاختراق؛ أي من قِبل ذلك الطرف الثاني الآتي من الخارج، مدعيًا أنه حامل كنوز ذلك الآخر (العالم)، الذي لم يتطوع بتسمية من ينوب عنه، في حين أن المتنطعين لاقتناص بعض رموز الداخل، أو لحمل، اختطاف إشارات من رموزه هم كثر، ومتنوعو العناوين والوكالات. ليس هذا لأن «الداخل» قلعة مستعصية، أو نوع من الحرم المعصوم. بكل بساطة؛ جواب واحد: كل ما يقال عنه له صفة واحدة، وهي أنه من الخارج، ولا شيء يمكنه أن يدعي غير ذلك. كلام من الخارج حول/وعن الداخل، المعتصم بصمته دائمًا.

ليس الداخل هو اللامفكر به، وذلك بسبب من صعوبة التحاقه أو إلحاقه بلفظ آخر ينتسب إليه سلبًا أو إيجابًا، ويكون من نوع اللامفكر به، الذي يظل مع ذلك على صلة ما بالمفكر. صحيح أن الداخل قد يدخل في ثنائية مجردة وعامة مع نقيضه الخارج، لكن ما يجمعهما معًا هو مجرد اصطفافهما على صعيد واحد من الحيادية، مع الفارق في كون الخارج مليئًا بأشياء العالم، ولديه ما يعرضه دائمًا أمام الحواس: ما هو تحت اليد، أو في متناول اليد، في حين أن الداخل يتمتع بنوع آخر من الحيادية التي تجعل كل حمل عليه، بالمعنى المنطقي، لا يشكل عبارة أو جملة تامة. حسب هذا التقدير، فإن كل النصوص الكبرى والصغرى التي اشتغلت على إنتاج العبارات الكاملة فيما يدعي الحمل على الداخل، كانت بدون أساس، أو على الأقل بدون حسم، سواء كان إيجابًا أو سلبًا. فالخارج يمكنه أن يمتد معروضًا تحت السمع والبصر. قد يتصف بالغنى اللامحدود، بالتعقيد، يحتكر كونه وطن الكشف والتغلغل فيما ليس محسوسًا بعد، فيما لم يُرَ، ولم يُلمس بعد، لم تثبت له بعدُ اعتبارات علمية أو وصفية. كل ذلك صحيح وأكثر منه دائمًا؛ لأنه ليس هو وطن الكشف والمفاجأة والجدة فحسب، بل إنه هو الذي يعطي نفسه أرضية الانعتاق، إنه من وما يقدم للداخل عينه مجالات للتجسد والتكون. فالخطأ في معالجة ثنائية الداخل/الخارج، ليس في تلك المعارك المفهومية والاستراتيجية الكبرى، التي قسمت تاريخ الفلسفة، قبل الأنثروبولوجيا، بين من يغلب من، بل في كون كل افتراض ينطق باسم الداخل، إنما ينبع من الخارج دائمًا؛ ولكنه لا يقبل لنفسه تسمية ولا عنوانًا إلا إذا اقترن ببعض أحاجي الداخل. هذا بعض من ارتهان الخارج للداخل. ولكن يتضح من ذلك، بعد كل عاصفة ارتهان، أنه لا دليل أبدًا على إمكان تدخل في ذلك الداخل، في كل ما يُعزى إليه، وكل ما يُلبس من متاع المدعين الفاتحين لأسراره، أو للمنهزمين أمام صمته.

لا يُستطاع التحرش بالداخل بذات أسلوب التصدي للامفكر به؛ لا يمكن صياغة المعلوم والمجهول على أساس ما كان يُخيَّل إلينا أنه من ذلك الداخل؛ إذ يتبقى أن له ذلك اللغز الأول الذي شُغل عليه فلسفيًّا وإبداعيًّا دائمًا؛ ذلك أنه لا يزال الموئل الأخير الذي يحس فيه المرء أن ما يعرفه عنه له وحده، وما لا يمكن أن يعرفه سواه. وفعل المعرفة الذاتي هذا، ليس من النوع السابق على المعرفة وتصنيفاتها الموضوعية. حتى كلمة نفس، ونفسية، لا تنال منه إلا إيماءً معينًا؛ يظل تصنيفًا مع ذلك. والقول: نفسي، وأنا مع نفسي، وكل العبارات التي ارتكزت إلى هذا القول منذ إعلان سقراط عن معرفة النفس بالنفس، إنما سجلت وقوفًا في العتبات ليس أكثر.

لذلك كان أصدق تفلسف هو الذي يختار موقع العتبة، ويقر به؛ وهو ما كان يشكل تميز التفلسف السقراطي عندما كان سؤالًا. كان بالمستطاع أن يصحح بروتاغوراس، أن يلغيه، عندما اختار، أو أريد له الاندماج كليًّا في أجوبة أفلاطون تلميذه الأستاذ. كاد السؤال السقراطي في أصله أن يكتشف أن الحيادية ليست في عالم «الداخل»، ولا في عالم «الخارج»، ولكن في اختراع الموقع الثالث الذي وحده يستحق الحيادية، وفيه تستحق الحيادية أن تنطق بكلمة واحدة: ماذا؟ لكن الذي حدث مع الأفلاطونية هو أن ذلك الموقع الثالث قد امتلأ بالمعيارية المفارقة التي قدمت نفسها إلى العقل الإغريقي في ذلك الوقت، على أنها أصل العالمَين معًا: الداخل والخارج، بما يتجاوزهما ويشكل مثالهما في آن. بذلك انتقل التفلسف من السؤال إلى الجواب، حتى أُتخم به. تجيء المعيارية لاغية للحيادية، عن سابق تصور وتصميم. فهي تدخلٌ مستمر بين الكائن وما يقوله عن ذاته. تسكب عليه ما تشاء من «القيم» والاعتبارات من خارج؛ طاغية عليه بذلك، بكل ما تمتلك من إغراءات الجذب والاستتباع، كما المنع والاستبعاد.
لكن ماذا تعني الحيادية أولًا؟ هل هي ما يعطي الشيء ومشهده معًا؟ هذا جواب تقريبي؛ لأنه ينفر حقًّا من أن يقول كلمته ويصمت؛ إذ لا يمكن للحيادية أن تنحاز نحو الجواب، مثلما لا يمكنها أن تتحمل وحدها صرامة السؤال. إنها بمعنًى ما، تقف خارج سجال السؤال والجواب، لكنها في الوقت عينه، تعتبر أن كلًّا منهما محتاج إليها كيما يحميا معًا ساحتهما المشتركة من مداهمات المعيارية. هذه الحاجة تمثل مبدئيًّا في ادعاء كلٍّ من السؤال والجواب أن كلًّا منهما إنما يشتغل تحت طائلة الحقيقة، أو مسئوليتها. فالسؤال لا يستطيع تشكيل استفهامه دون أن يبدو عليه ومنه ما يوحي بجدية ما، يمكن تفسيرها أو تعليلها على صعيد «الإتيكا»؛ أي إنها نوع من الانهمام بالمعرفة، المشروطة هي ذاتها بالحقيقة. فالمعرفة ليست رديفًا للحقيقة؛ ولكنها هي بمثابة الموضوع الذي يحمل عبأها، ويتحمل عنه كل خصائصه دون أن يفي بها تمامًا. فالمعرفي طامح دائمًا لأن يستظل تحت سقف الحقيقي، أن يوصف المعرفي بالحقيقي، لا يعني أن يوصف الشيء بنفسه، ولكنه يخرج إلى مشهدية أخرى، قد تُعتبر من خانة المعيارية، على أنها تلك المعيارية التي لا تجد لها مرجعًا إلا فيما تدعيه من تحقيق الحقيقة عينها.
إن اصطفاف المعرفي، الحقيقي، المعياري، لا يدخل في لعبة لفظية، بقدر ما يشف عن ذاتية العلاقة التي تربط الأقانيم الثلاثة، فيما يُبرز تعددية وحدتها المفهومية في وقت واحد. لذلك تأتي الحيادية لتقدم من ذاتها المشهدية القادرة على بلورة هذا الإبراز. فهل تنجح الحيادية في أن تغدو مفهومًا تركيبيًّا. ليس هذا أبدًا. إننا لو بحثنا في الحيادية عن العناصر التي تدخل في تركيبها، لما وقعنا على أحد تلك الأقانيم الثلاثة. فليست إذَن تركيبًا ينحل إلى عناصر. ومع ذلك فإن صلتها بالمعرفي والحقيقي والمعياري، تكاد تكون شبه تكوينية وتوليدية، دون أن تكون كذلك. فالمعرفي لا يولد الحقيقي، ولكنه يفترضه ما إن يتم تلفظه. كما أنهما معًا يفترضان أن ممارستهما تعني الأقنوم الثالث الذي هو المعياري. والفكر هو الذي وحده يمكنه أن يعتبر أن تلك الأقانيم، إنما هي مما يرجع إليه وحده. لكنه لا يلعب، بناءً على ذلك، دور المحل المعلَّى، لتجلي تلك الأقانيم أو ممارستها وتفعيلها. ليست من مضمونه، ولا هي من هندسة شكله. وهو الذي لا يقبل توصيف المضمون أو الشكل. إنه بالأحرى هو ما يجعل كل أقنوم من هذه الثلاثة، ذاتي المفهمة، وما يفيض عنها في آن واحد. فالمعرفي، لكي يتحمل مسئولية تلفظه ذاك، لا بد أن يكون ذاتي ذاته؛ وفي هذا التعيين، فإنه يدخل تحت تصنيف: الحقيقي، ويدخله في تعينه، يتم بذلك تعين الواحد (المعرفي) بالآخر (الحقيقي)، وتعين الواحد بالاثنين معًا؛ وفي الآن عينه يمكن النطق بالتلفظ الثالث: المعياري، كإشعاع صادر عنهما، آتيًا بما يخصه وحده فيما يخص الاثنين معًا، وبما يضيف عليهما.
نقول هذا لأن تلفظ الأقانيم الثلاثة لا يخضع للمنهجيات المنطقية أو الجدلية. وعندما نضع كل هذا (التراث) جانبًا، فإننا نساهم في جهد الفكر أن يكون عينه، وبما يرجع إليه. إننا نلامس حياديته الأصلية عندما نستدعي ما يشكل حقًّا دلالة الحيادية. ليس ذلك لأن ما يصمد في الفكر، كفكر، في النهاية هو هذه الحيادية، هذه الانزياحية البدئية، والمبدئية، عن كل ما يدعي علاقة به فحسب؛ بل هي الحاجة إلى صميمية المعيار، أو ذلك العيار ذاتي نفسه؛ بحيث يحتاج كل من وما يدعي علاقة بالفكر، أن يخضع في النهاية إلى: الفكر وما يرجع إليه، كيما يدعم تأسُّسه فيه، بما هو كذلك. وقد يكون هذا التعبير مقاربًا كثيرًا «الدور» المنطقي؛ لكنه ليس مطابقًا له تمامًا؛ إذ إن كل استحضار لصيغة تلفظ ما، تدعي علاقة بالفكر، أو تأسيسًا به وفيه، إنما يفترض ثَمة استحضارًا لتعريف ضمني لما تفهمه صيغة التلفظ من الفكر وعنه، حتى تبيح لنفسها تدرؤًا به؛ ولكن هذا التعريف ليس ما يجب الكشف عن أستاره ومخابئه فقط، بل لا بد من استحضاره في ذات اللحظة، وعين المستوى الذي تتجلى به صيغة التلفظ. لذلك نقول إن صيغة التلفظ بما تدعي صلة بالفكر، ينبغي ألا تأتي إلا ومعها ما يجعلها كذلك. وهنا تفارق صيغة التلفظ صيغتها تلك. تغدو حدثًا. يقال إنها: تحدث. وقد يصير لها تسمية جديدة: حادثة الفكر. و«حادثة الفكر» لا تعني سوى أن: الفكر يحدث.

ليست «حادثة الفكر» سوى هذا الاصطلاح «اليومي» إن صح التعبير عن التشكيل الذي يضم كلًّا من المعرفي والحقيقي والمعياري، فيما يشبه الفعل الواحد، وإن اختلفت زوايا رؤيته. وهو تشكيل يظل مما لا يرجع إلى الفكر، إن استطعنا أن نميز المعرفي دون الأقنومين الآخرين، أو تمييز أحد الثلاثة، أو اثنين منها، مع إهمال الآخر، الثالث؛ إذ إن «حادثة الفكر» تحدث عندما تقع على المعرفي الذي بدوره يشتغل على الحقيقي، واللذين معًا إنما يضعاننا على درب الكينوني الذي هو ذاتي العيار بدون أية معيارية. ها هنا «حادثة الفكر» تحدث، عندما يتلاقى سؤال المعرفي عن الحقيقة، مع النداء على الكينوني. لكن سؤال: ما هو؟ لا يفي وحده بحادثة الفكر، إن لم يقترن بنداء على الآتي، الذي لم يتخذ هذه الصفة بعد: الماهو عتبةٌ أمام المايكون.

يكاد يفهم الوعي من «حادثة الفكر» أنه معيارية خالصة. فأي معرفي لا يشترط الحقيقي، وأي حقيقي لا يندرج كينونيًّا. فما هي هذه الصياغة إن لم تكن معيارية؟ لكننا نقول عنها مع ذلك إنها المعيارية التي لا تشبه نفسها أبدًا في أية لحظة. ولذلك تكون أقرب إلى الحيادية منها إلى أي نظام تقييمي، إنها تلك المعيارية التي يحتاجها كل نظام تقييمي، كيما يلقى فيها مرجعيته، وإلا انزاح دفعة واحدة، وقف نقيض الحيادية. صار ملتزمًا بغير ما لديه، وملزِمًا الآخر بما ليس لديه كذلك. صار خارجيًّا على «حادثة الفكر».

ولكن ألا يبدو التناقض صارخًا عندما لا نرى في «حادثة الفكر» سوى معيارية خالصة، ونصفها بالحيادية مع ذلك؟ والجواب هو أن الحيادية ليست صفة تُلصق بالمعيارية، بل هي تشغل حيزها عينه؛ إذ إن المعيارية لا يمكنها أن تغدو إلا الحيادية عينها، عندما تقترن، باعتبارها كحادثة للفكر، بحادثات ليست لها تلك التسمية. عندما تشق حادثة الفكر دربها إلى العالم، وتشرع في تخطيط اللامتعين في مساحاته التعيينية. هكذا يدخل الفكر العالم تعيينيًّا، من حيث إنه العالم هو ساحات اللامتعين أبديًّا. تلك هي المعيارية محافظةً على حياديتها المطلقة، بالرغم من انخراطها الكلي في التعامل، كحادثة للفكر وحده، مع كل ما ليس كذلك. الحيادية هنا هي العيارية المؤسسة لكل معيار، شرط جعله مختلفًا عن ذاته، في كل حال ينطبق فيها على سواه.

الفكر وما يرجع إليه وحده عبارة، قمة للمعيارية، التي يظل ينقصها كل معيار، أو بالأحرى تتجاوز كل معيار لا يمكن الالتقاء بها، مع ذلك، إلا عندما يُشرع في البحث عن «حادثة الفكر» في حادثة العالم؛ أي حين تشتبك حادثة الفكر مع كل ما يغايرها؛ تلتقي به، بالمغاير، من حيث إنها تنسحب، في آن، كيما يتقدم المغاير وحده أخيرًا. كما لو كانت حادثة الفكر في العالم، سؤالًا لحادثة العالم، لا يكتفي بانتظار جوابها؛ بل يتحول السؤال إلى نداء كيما لا يأتي الجواب وحده، بل يأتي ومعه «المجيب». فالتحول من سؤال «نحو» المجهول، إلى نداء «على» الكينوني، ذاك ما يجعل حادثة الفكر متورطة في حادثة العالم، وما يجعلهما معًا تشكيلًا ندائيًّا على الكينونة.

كل ذلك مشروط بالحيادية التي هي قمة المعيارية، بدون أي معيار، ما يرجع إلى الفكر وحده، تصير عيارًا خالصًا.

النداء على ماذا؟

إن السؤال عمل عقلاني. أما النداء فهو يصدر عن كائن، ويتوجه إلى كائن؛ وقد كان الانفصال بين السؤال والنداء حادًّا، إلى درجة ألا يعرف أحدهما الآخر، إلى درجة قيام ثقافة للسؤال، وثقافة أخرى للنداء. فالأولى تقسم العالم إلى ذات وموضوع، وتضع الذات في مركزه، أو على قمته، وتحول بقية الأشياء والكائنات إلى موضوعات. والثانية تجعل من كائن النداء مفتقرًا دائمًا إلى كائن الاستجابة، أو عدمها. قد تدعي الأولى أنها تأتي بالتقنية، بالعلم إلى العالم. وأما الثانية فقد تقع في الخلط بين ندائها على الكائن المنسحب، وبين ندائها على الكائن المغيوب، أو الغائب دائمًا.
لكن، بالنسبة إلى الفكر وحده، ماذا يعني انقسام الثقافة إلى قطب للسؤال، وقطب آخر للنداء. وانقسام النداء ذاته بحسب المنادى عليه، إن كان منسحبًا مؤقتًا، أو غائبًا دائمًا؟ ذلك الانقسام هو أول تجليات النقلة من المعيارية كحيادية، إلى المعيارية كتورط في إصدار أحكام للقيمة، وأخرى للوجود. وهو ما طبع إنتاج الميتافيزيقا الغربية، بحيث طغت القيمة وحدها على الوجود، وأزاحته من قطبَي الذات والموضوع معًا، في حين أنها كانت تعتقد أنها تقيم صرح الذات فقط. وبذلك ينفك المعياري عن الكينوني، ويشرع في طمسه وتناسيه. يتم اجتزاء الفكر إلى تأريخ للصراع بين الذات والموضوع، بين العقل والطبيعة، وصولًا أخيرًا إلى تحقق التقنية، باعتبارها معيارية تنتج «قيم» ذاتها، كأدوات تؤدي إلى أدوات. مما يعني نهاية المعيارية نفسها، حيثما تتساوى الأدوات فيما بينها، لا يقوم ما هو سواها. لا ينسحب الكائن فحسب، بل تنسحب كل إشارة عن انسحابه. وعند ذلك ماذا ينفع كل سجال حول المعيارية والحيادية، أمام تماثلية كل شيء مع كل شيء. يغدو النداء على الفكر وما يرجع إليه ذاتي التعجيز، في الوقت الذي لم يعد ينفع فيه سوى الاستنجاد بما هو ذاتي النجدة والقدرة.

في هذه اللحظة الشفقية التي يوشك النهار فيها أن يدخل عتمة ليل أبدي آخر، سيُفتقد حس المضاهاة بأي آخر؛ إذ سيكون هو الأخير، في هذه اللحظة، وقبل أن ينقلب ممن هو ذاتي النجدة، إلى من هو ذاتي التعجيز، يلمس الكلام حد الخطر المطلق فحسب؛ لأنه يسارع في تلفظ العدم، قبل أن يحل العدم في كل شيء، ويصير لا شيء كسواه، حتى عدم اللفظ. وفي لحظة هذا الوقت، التي لن يكون بعدها توقيت، لا تبقى إلا شجاعة اليأس الأخيرة. تنادي، مع ذلك، الفكر وما يرجع إليه وحده، معلنًا أنه لن يرجع إلى ذاته أبدًا.

في هذه اللحظة ينتهي التعارض بين السؤال والنداء؛ لا يتركان بينهما حيزًا ثالثًا، قد يصير له اسم مصطنع يتقنع بالمعيارية. يباعد بينهما بحجة إقامة الحد فيما يجمعهما، وفيما يفرقهما. فحين يدعي المعياري أنه يفوز بمقام ثالث مختلف عنهما، فإنه سرعان ما يفتقدهما معًا. ويصير هو نفسه غير نفسه. يُضطر إلى لعب دور المعرفي مضادًّا للكينوني، فينتهي إلى الاستغراق في التقني، أو يختار أن يلعب دور الكينوني مضادًّا ومتجاوزًا للمعرفي، فيضل الكينونة، ويتبدد مع غيابها المتمادي. هذا الانحياز تارة إلى العبارة (المعرفي)، وطورًا إلى منتهاها (الكينوني)، فضلًا عما يعنيه من تنازل عن جوهره، عما يجعله معيارًا حقيقيًّا (عياريًّا)، ألا وهو الحيادية فحسب، فإنه يحول طاقاته، الواقعية التاريخانية الجبارة، إلى مخلوقات مسخاء، معوَّقات، وظيفتها الأساسية أن تحول بين الفكر وما يرجع إليه وحده.

ليس بين المعرفي والكينوني حد ثالث. ما اسمه ذلك الحد، الذي لن يكون معرفيًّا ولا كينونيًّا؟ إنه: المعيار. ذلك هو خواؤه الفعلي بالأحرى. لكن للأسف فإن هذا الحد الثالث، الموهوم دائمًا، أتيح له أن يملأ ساحات العقل بأشباهه. وذلك طيلة التاريخ وتفكره أيضًا.

تم له الاستيلاء على اللغة. جعل صمتها أوسع مساحة بكثير من «رقعة» كلامها. وفي رقعة الكلام هذه غدت اللغة معيارية خالصة، تتعامل مع الدالات انتقائيًّا. تصنع للعلامات عباراتها، وتصنع للعبارات نصوصها. فاللغة المعيارية لا تتكلم، لا تكتب، لا تُصدر أحكامًا فحسب، قد تخلق واقعًا، يوصف موازيًا للواقع الآخر. ويتخصص هذا الآخر بالوقائع، بالحادثات، بالأشياء، باللامتناهي من كل هذه المفردات. لكنها في الوقت عينه تضرب عليه حصارًا، تمنعه من الوجود. تختزل تسمية كل ذلك العالم إلى مجرد استراتيجية في التسمية، تصارع استراتيجيات أخرى.

هل هناك لغة تتمرد على صفة المعيارية فتجعلها لا تلتصق إلا بلغة أخرى مضادة، أو بديلة، كيما تحتفظ لنفسها بمسافة التأشير على ما ليس منها؟

لا يأخذ الفعل كيانه إلا عندما يفوز باسمه، يدخل تحت نطاق المعرفي. كم من الأفعال التي تولد وتموت كل لحظة ولا يدري بها أحد! لأنها لا اسم لها؛ لأن اللغوي الانتقائي احتجب أو سكت عنها، أو لم يدرِ بها أصلًا. هكذا، الأفعال تقع، لكنها لا تصير حادثات؛ فهل لا يتبقى إلا أن تغدو حادثة الفكر، هي حادثة الكلمة، هي الفعل الذي يقع، يحدث؟
ومع ذلك ليست حادثة اللغة هي حادثة الفكر. حتى عندما ينتصر الترميز الخالص على اللغوي الاستراتيجي، وتفلح التسمية في جعل المسمى يتقدم من شيئه إلى اسمه، رمزه، دون أن يفقد حفريته الخاصة به؛ فإنه قد يصير حادثة لغوية حقًّا، لكن دون أن تتولد عن ذلك آليًّا حادثة الفكر. كل جهدها هنا يتلخص في كونها تدع الفكر يأتي بما يرجع إليه وحده، أن يأتي بحادثته، مما يتيح لها الفوز بمجاورةٍ قلقة معها، مع حادثة اللغة. لكن متى يمكن أن يصنع اللغوي حادثته؟ هل يكفي للإجابة على ذلك بالقول: عندما ترتد اللغة إلى لغويتها، عندما تغدو تسميتها مضاهية لأسمائها، عندما يصبح الاسم منافسًا، في حروفيته، لدلالة الشيء المسمى في حفريته، عندما ترتد اللغة إلى أصلها كوطن للكينونة، موازية للعالم، ما إن يغدو هو وطنًا شعريًّا للإنسان؟

مثلما يقول هولدرلن: إن من حق الإنسان ومن استحقاقه أن يسكن العالم شعريًّا؛ ذلك يعني في سياق نصنا هنا، أن المعياري ليس سوى إشارة إلى لحظة التقاء المعرفي بالكينوني. إنه مناداة حقيقية، تتطلب انخلاع اللغة المعيارية عن التفكير والتلفظ باستخدام الاستراتيجية، أو الأقنمة بصفة عامة، واللجوء بدلًا من ذلك إلى الترميز الخالص، إلى اللحظة الشعرية في إيقاع اللغة؛ وما هو الترميز الخالص هنا؟ إنه مجيء اللفظ وما لا يتلفظه في آن. تأشيرة المتناهي على ذاته، في كنف اللامتناهي. كالسؤال الذي يسأل القريب المواجه، وفي جواره النداء الذي ينادي على البعيد. المعرفي الذي يكتشف ويعين؛ والكينوني الذي يلبي النداء، ويشرع في المجيء بعد انتظار، يتلامح بين الأدنى والأقصى، متحررًا من صيغة محاورة المتناهي للمتناهي وحدها عبر أحوال الثرثرة اليومية.

عنف اللغوي في إضاعته، كما في استرداده، لفجاءة الشعري. ذلك ما يؤهله وحده لأن يغدو مأوًى للكينونة، بقدر ما يكون منفًى متماديًا لها، في وقت واحد. اللغوي يقدم زمن التأرجح. في العبارة ينسحب الكينوني أو يتلامح. ذلك أنه: به وحده يمكن الحمل على اللغوي بأنه شعري أو لا شعري. ولكنه لن يكون «غير» شعري. فالشعري ليس «آخر» بالنسبة للغوي؛ إذ إن اللغوي هو المحل الفريد الاستثنائي لفجاءة الشعري، كما لاضمحلاله؛ ولا محل لها سواه. اللغة هي افتقاد الشعري، وهي لقاؤه. لا يمكن العثور على مثل هذا اللقاء مقترنًا بالافتقاد إلا في سياق اللغة. مما يدفع إلى القول إن الشعري/اللاشعري يكاد يكون حالة واحدة، ولكن متنوعة، للغوي بالنسبة لذاته أولًا.
لماذا يستحق الإنسان أن يسكن الأرض شعريًّا؟ لأن الشعري هو ما به يتحقق مجيء الفكر إلى العالم؛ ومجيئه ذاك لن يكون إلا بما يرجع إليه وحده. والصلة بين الشعري والفكري، ليست علاقة بين قطبين. إنها طريقة في قول الشعري تارة، وتارة في قول الفكري. ولن يقدم الطريقة هذه وحريتها إلا اللغوي. وذلك عندما يُضطر اللغوي، تحت وطأة الفكر عينه، إلى استخلاص التسمية من شبكيات عاداتها وشائعاتها، من استراتيجيات غريبة مختلفة، طفيلية، لاصقة بها، باعتبارها الوظيفيات التي تستخدمها، كيما تعود إلى كونها مجرد طريقة في رؤية الأشياء، لا في حجبها أو توظيفها؛ بل في رؤية هذه الرؤية.
قلنا إن اللغوي تحت وطأة الفكر هو الذي يصحح نفسه بنفسه، كلما انتشل التسمية من أية معيارية أو قصدية، قد تَعْلق بها من خارج تصرفها التلقائي. ولكن أين محل هذا الفكر، إن لم يكن هو كذلك طريقة أخرى في تلفظ اللغوي؟ ألا يدل ذلك على دائرية المفاهيم التي تتحرك في فضاء اللغوي عينه، الذي ليس هو إلا أحد اللاعبين فيه كذلك. هذه الدائرية لا تعني سوى انفتاح تلك الأفاهيم على بعضها. وبالتالي فإن انغلاقها يحولها إلى مجرد حلقات تتصادم حدودها ولا تتلامس حوافيها، لا تملك عن بعضها سوى رهانات، تدعوها تأويلات. يبقى «اللغوي» هو السند المشترك لجميع تلك الأفاهيم. لا يمارس دوره ذاك بتوفير أدواته التعبيرية كوسائط حيادية. لكنه يتدخل في تشكيل الأفهوم لحسابه الخاص، قبل أن يكون لحساب نفسه. فاللغوي في حد ذاته يلغو، يتكلم. ليست تلك وظيفته. لكنه هو ذات نفسه sa mêmeté؛ وكلما كان اللغوي ذات نفسه، استطاع أن يختار الشعري أو الفكري، كطريقتين لا للانتقال من حيزه الخاص إلى حيز الآخر، الذي هو هذا أو ذاك، بل هو أشبه بعودة ذات النفس، عن طريق الآخر، إلى ذات النفس.
اللغوي، الشعري، الفكري: ثلاث دلالات في الواحد. ليس ذلك الواحد الأفلاطوني، أو الصوفي، لكنه الواحد المفارق لواحديته، دون أن يفارقها تمامًا. إنه نموذج المفهمة الدائرية، دائرية ذات النفس على ذاتها، بما يضعها دائمًا فيما هو خارج/داخل، عنها وفيها؛ فالدور المنطقي la tautologie ليس عيبًا في الفكر. إنه حلقة الفكر الذي هو دائمًا تحت طائلة أن يفكر نفسه مختلفًا، اختلافيًّا.
اللغوي، الشعري، الفكري: ثلاث دلالات «في» الواحد، وليس «عنه». فهي أقرب إلى أن تكون ثلاثة تلفظات لدلالة واحدة، شرط كونها غير مغلقة. حلقة قابلة للانكسار في نقاط عديدة من محيطها، بحيث إنه ما إن يغطي تلفظ اللغوي، مثلًا، حلقة الواحد، أو الدلالة الواحدة، حتى يأتي الشعري انكسارًا للحلقة؛ وإذا ما تمت تغطية الحلقة من قبل الشعري، فلا يلبث حتى يأتي الفكري بانكساره الآخر، وهكذا دواليك. فالواحد دوري tautologique رياضيًّا. لكنه هو نفسه وغير نفسه أنطولوجيًّا. وإذا اقتصر التدوين، بحسب «التحقيب المعرفي»، على الالتصاق بالواحد كأقنوم رياضي، فمن حقه ألا يجد بعد الواحد، كعدد، إلا كل عدد آخر؛ وهو الواحد متكررًا مضافًا على نفسه إلى ما لا نهاية، مجموعًا إلى نفسه، بما يجعل كل رقم مهما عظم، لا يشكل إلا انضمام الواحد إلى واحده دائمًا. فالإبداع الرياضي هو الواحد. أما الإبداع الأنطولوجي فينطلق من انكسار الواحد. هنا: الواحد يتكرر، لكنه لا يتماثل. فهو في كل مرة يأتي «منكسرًا» بطريقة مختلفة، لغويًّا، شعريًّا، فكريًّا.
عند القطاف: عدد التفاحات يزداد في السلال، لكن التفاحات تتجاور في السلال مختلفة. والإغريقي، حسب تصور هولدرلن، لم يبدع (الواحد) كمأمن من عاديات الدهر، بل كان ذلك سبيله إلى الخطر؛ إذ إن الواحد لا يختصر الكل، لكنه يجعل كل شيء اعتبارًا منه بالذات، يقترح الكل. الواحد عتبة الفجائي: يصير «الفوري»-المستدام l’intempestif الذي يذكِّر بكل ما عداه في ذات اللحظة التي تلوح فيها بعض أماراته، علاماته. لكأن الفورية تلك، هي نبرة الشعري؛ لأن الفوري يضعك دفعة واحدة في كنف الواحد، في حين لا يمتلك الفوري إلا كثافته الخاصة الفردية. ذلك ما يفعله الشعري. إنه في الوقت الذي يقوم الفوري في لحظة كثافته، في مباشريته المداهمة، فهو يصلني باللامتناهي، يجعله حسيًّا بطريقة ما، في متناول اليد، لكن دون تناوله حقًّا. ذاك ما يؤسس المعيارية المختلفة، داخل المعرفي/الكينوني. ودونما حاجة إلى اختلاق حيز ثالث خاص بها؛ إذ إنه بقدر ما تتحقق فورية العلاقة بالمعرفي/الكينوني، بقدر ما يطمئن الفكر إلى أنه لا يزال يعمل في أرضه ووطنه، لا يتعاطى إلا بما يرجع إلى ذاته، حتى كلما أوغل في الديار المجهولة، التي لم تبلغها أسماؤه بعد. وهو لا يفعل شيئًا سوى أنه يوغل دائمًا في ديار مجهولة.

فالشعري هو طريقة أخرى لقول الفكري، عندما يغدو الفكري فوريَّ ذاته، عندما يفاجئ اللغوي ذاته بما لا يعهده في ذاته من قبل، عندما تولِّد عبارة الفكري، عبارة الشعري، في حضن اللغة المعهودة، تصبح (هي) اللغة الجديدة التي لم يتلفظها لسانٌ بعد. يسكن الفكر اللغوي كلما مضى في استكشاف العالم، الذي صاغته اللغة ذات يوم، ثم قبلت أن تسجن نفسها في تلك الصياغة، إلى الحد الذي فقدت فيه حس الاختلاف بين قول العالم، وما تقوله عبارتها عنه. هكذا يستحق الإنسان أخيرًا أن يسكن العالم شعريًّا؛ لأنه وحده من يأتي باختلاف الشعري والفكري إلى العالم، كلما ترهَّل العالم في قِدمه، وانسحب الكائن من ربوعه أبعد فأبعد. أما كيف يتم استحقاق الإنسان لأن يسكن الأرض شعريًّا، فذلك لأنه كائن لغوي في الأصل. يُخرج الأرض من صمتها الأزلي، ويلج بها ضجيج كل الحاضرين والغائبين في وقت واحد، الذي يلغون ويصخبون، فيختلط الكلام عندهم بقصف الرعود، وزمهرير الرياح. ينتقل اللسان إلى الطبيعة. تدخل الأرض تحت أصناف وظواهر الطبيعة. يجول الإنسان في ربوع الصخر والبحر. ينشئ العلم دون أن يتخلى عن السحر. يتعايش كلٌّ من العلم والسحر في اللغة كما يلي: العلم «كطريقة أخرى» في تحقق الفكري، والسحر كطريقة أخرى في اندلاع فورية الشعري. ويدعي العلم أنه استحوذ على المعرفي؛ كما كان يُخيل للسحري أنه يستحضر الكينوني. ومن تحالف العلم والسحر تتشكل «مؤسسة» التقنية، تحتكر التقنية صلة الكائن بالعالم، ثم في خطوة نهائية، تتمادى التقنية في تحدي اللغوي، إلى أن تتمكن في اللحظة الحرجة من تحويل اللغوي نفسه إلى ثَمة «طريقة أخرى» في تلفظ التقني عينه. حينئذٍ أين يسكن الإنسان حقًّا؟ وإذا التقى العالم «صدفة» فكيف له أن يستحق سكناه شعريًّا؟!

ما هو ذلك النداء الذي لن يجيبه إلا صداه وحده؟

من أين يأتي هذا التلفظ؟ ما يرجع إلى الفكر وحده، ربما يأتي من استشعار باللافكر. لكن لا ينبثق هذا الاستشعار بغياب الفكر إلا في كنف الفكر عينه. وتلك هي علامة رئيسة في «دورية» ذلك التلفظ، لكنها في الوقت عينه تشكل اللحظة الحاسمة، النادرة حضاريًّا وثقافيًّا، التي تفصل بين ما يرجع إلى الفكر وحده، وما لا يرجع إليه أبدًا. ذلك أن استشعار اللافكر إنما يتفيأ بظل التلفظ ذاك. إنه يعطي إجابة أولية؛ لأنه يحول التلفظ إلى سؤال ونداء في آن معًا. أما البقاء خارج هذا التلفظ تمامًا، فهو دلالة لا تعني ذلك التلفظ وما يتفيأ بظلاله. مثلما أن الشعر/اللاشعري، لا يمكن التقاطه إلا في موقع اللغوي عينه، فإن الفكر واللافكر، أو ما ليس الفكر بعد، لا يمكن التقاطهما إلا في موقع الفكري عينه. لذلك تصل لحظة استشعار اللافكر، كما لو كانت سؤالًا عما يجعل تلك اللحظة موضوع السؤال، أو هي صيغة التسآل عينها، وما يتيح لها في آن معًا، أن تغدو نداءً على ما تستشعر به وتفتقده، لكنها تنتظره.

يمكن كذلك تحريك لحظة اللافكر إلى صيغة مجاورة، كأن يأتي تلفظ: ما ليس فكرًا بعد. إنها حركة نحو البدء. فقد يكسر «البدء» دورية الفكر وما يرجع إليه. هنالك عجالة الكلام إلى طرح: من أين نبدأ؟ ولكن طرح البدء يفتح دائرة الحلقة المفرغة، ويمددها أمامه أشبه بخط مستقيم. عندئذٍ يمكن أن يجد تلفظ البدء محله، كما لو كان بداية طريق أو مسيرة. لكن كل سؤال عن البدء، بالرغم من إيحائه بالمستقبل، فإنه يتطلب النظرة التراجعية. يقع البدء فيما كان قبلًا. إنه نوع من استطلاع تراجعي، حكم دائمًا ما يُسمى بالبحث عن أصول الأشياء. فالشيء لا يُكتفى بمعاينة ظواهره الراهنة، بل تتطلب المعاينة الارتداد إلى أصله. لكن الأصل لا يأتي قبلُ (لن يُعرف كبدء إلا بما يجيء منه، بعده)، فالبدئي لا ينقضي أبدًا، ليس شيئًا من الماضي إطلاقًا. لن نعثر على البدئي في الالتفات تاريخيًّا إلى الماضي، ولكن في الفكر المتنكر لذاته، الآتي.

إنه بحث عن الأصل المتراجع دائمًا إلى أمام. فالبدء لا ينتهي ما دام الفكر: شروعًا في الفكر، لم يشرع به أحدٌ بعد؛ كما لو أن جوهر الفكر يفر هو نفسه من تحت خطوات الفكر. فهي قد تترسَّمه، لكنها تطيِّفه في الآن نفسه. تحسب أنها تسجل إيقاع مسيرته على الأرض، في حين أنها تكتب إشاراتها هي فحسب؛ لكي تقول: من هنا مر الفكر، أو ليس بعد، ذات يوم.

هنا يعظم النداء على: الشعري، كلما اشتد إلحاح الفكر/اللافكر على الفكر، وما ليس فكرًا بعد؛ فالشعري هو الأسلوب الآخر الخاص بالفكر وحده، من أجل رؤيته لذاته، بدون أية وساطة، سواء حينما يكون الفكر قريبًا من التقاطه لذاته، أو بعيدًا عنها فيما هو منطقة للافكر. فالشعري هو وحده المنوط به أن ينهي كل توسط يُدخل مسافة ما، ما بين الفكر ومنطقة اللافكر. مهمته أن يفتح الدائرتين على بعضهما؛ فلا تبقى العلاقة بينهما مجرد تماس تخارجي بين محيطين، حتى إن الشعري يطمح إلى أن يقلب العلاقة هكذا: البدء ليس جبرًا منطقيًّا، ولا حتى اختيارًا «شعريًّا»، بين الفكر أو اللافكر؛ إذ ليس البدء من أحدهما يعني نفيًا للآخر أو تأصيلًا له، بل قد يلتقط البدء أحدهما وهو يحسب أنه يلتقط الآخر. ويظل أسير هذه اللعبة طيلة ما يشكل تاريخ الميتافيزيقا؛ ليس في ذلك عيب أو نقص. ولكن تحدث الكارثة: الأيديولوجيا، عندما ينقلب البدء إلى تأشير قطعي على شيء ما يسميه: هذا هو الفكر! فلا يصح عندئذٍ وصف هذه الحالة إلا بكونها غير الفكر، وغير اللافكر.

لذلك لا يصح البحث عن الفكر عبر تاريخ للأيديولوجيات، لا يمكن القول عنه إنه تاريخ للفكر، أو للأفكار في الآن معًا. غير أنه ينبغي الإقرار بكون تاريخ الأيديولوجيات هو الموجود دائمًا، والمفقود المزمن هو الفكر. فلماذا يُفتقد الفكر من كل «الحادثات» التي تقع باسمه، وتحمل أعلامه، وتُشَن تحت تلك الأعلام أفظع حروب الطواحين، الإبادية المتبادلة بين مختلف الأطراف، بحيث تتوحد النتائج الأخيرة: منتصر اليوم هو منهزم الغد، أو بالعكس؟ كما لو أن تاريخ الوقائع يشهد على أنه ليس للفكر وما يرجع إليه ثَمة من تاريخ. ولذلك كل تدوين لتاريخ الأيديولوجيات، أو لتاريخ الأفكار المحدثة لوقائع التاريخ، يُعتبر تنويعًا على موضوعة «التحقيب المعرفي»، الذي بدوره يُعتبر نوعًا من تمارين الفكر، أو تسجيل الفكرويات فيما ليس هو محلًّا طبيعيًّا للفكر. ومع ذلك، سواء كان التاريخ تحقيبًا معرفيًّا، أو تجربة للفكر في مواجهته، لما ليس بفكر، للطبيعة مثلًا كمحل لقوانين المادة، وللطبيعة كمجتمع إنساني، فإنه يمكن للفكر أن يلعب دور «الحد الثالث» الموجود المفقود. يوجد في كلٍّ من الطبيعة والمجتمع، ويُفتقد فيهما ومنهما في آن.

لا تبدو هذه الخاصية، الانوجاد/الانفقاد في آن، إلا عندما تعود للفكر دعوته المزمنة إلى ما يرجع إليه وحده. هذه الدعوة هي التي تستحق وحدها تسمية الانعطاف أو القطيعة؛ ذلك أنه في كنفها يتم التخلي عن جاهزية تاريخية/واقعية كاملة، والنداء على جاهزية أخرى باسم قيمة، تُبتعث فجأةً حية فوق كل الأحياء/الأموات الآخرين، هي الصلاحة الفكرية فحسب. يُوجَّه «النداء» إلى «الحقيقة» كيما تجيء وتبرر ما يُعطى تحت أعلامها من «معارف» أخرى، توصف بالجدة والأصالة. لكنها تسعى إلى أن توصف بالصلاحة الفكرية. غير أن المشكلة في جميع أزمنة الانعطافات والقطيعات، أن اللغوي وحده يبدو سيد الموقف. فهو الذي يضخ فجأة، وعن غير سابق تصميم أو تصور، يضخ «عملات» من التلفظات التي تجعل العملات السابقة أمثالها في حكم المطرود. فاللغوي، أو هذا التلفظ الجديد، ينزل سوق التداول، محققًا عمليًّا وعلى صعيد المتواجد اليومي، زوال أنظمة ومؤسسات كاملة كانت استندت في لحظة قيامها كذلك، إلى نوع من قطيعة مع المعهود السابق. لكن اللغوي هو الأسرع في التقاط إشارات التحول، وهو الأسهل في فبركة الأنسجة اللفظية التي تتلبس تلك الإشارات، وتنشرها بين الأفواه، الأسماع والأبصار. تأخذ أمكنة «الأشياء» نفسها.

إن عجلة اللغوي تلوك الفكري، تسترق مهلته الخاصة، تجيء به تطييفًا أو تلميحًا أو مجرد ادعاء فحسب. تأتي بالفكر، ولكنه مجرد عما يرجع إليه وحده. ذلك أن تمرين الفكر مع تاريخ «اللاأفكار»، شكلت تجربته مع ما يُدعى بتأريخ تحقيب لإنتاجاته، لثماره من أديان ومذاهب ونظريات وشعارات. إن تجربته الكثيفة المُرة الحلوة، تلك، علَّمته ألا يسكن في أي بيت لغوي، مُسلِّمًا إليه كل مفاتيحه، كل عدته الخاصة به، كل أشيائه السرية والعلنية، كل ما يرجع إليه، وحده. هذا بالرغم من أن حاجة الفكري إلى اللغوي، هي كحاجة الروح إلى التجسد، شرط ألا يطبق عليها أي جسد مهما كان متألهًا أو متأنسنًا. فاللغوي هو دليل الفكري الوحيد، عن انوجاده كما عن انفقاده، أي كحال من أحوال انفقاده الدائم.

لكن ليس كل لغوي قابلًا لأن يصير مشروع إقامة أو إيواء للفكري. من هنا يدخل «الشعري» كمعيار، ذاتي المعيارية شرطًا؛ ويميز في اللغوي بين محل، مفتوح، مستقبِل لما ليس له نص أو دلالة بعد، أو أنه مغلق ومسدود دون القادمين الأغراب. فالشعري يُدخل على اللغوي خاصية التشفيف، أو يساعده على الأقل في بعثها واستدعائها من حفريات مجهوله الخاص. ينقلب من شاهد «على» غيره كدالٍّ، إلى مشهد «عن» ذاته فحسب. يتقدم إلى جميع الحواس، المشارِكة في صنع: الحضور، دفعةً واحدة. يأتي بالمشهدية، وما يجعلها كذلك.
الشعري يدخل على اللغوي، يجعله يُمشهد في ذاته ما هو اللغوي حقًّا، وما هو ليس كذلك؛ مما يساعد على تحقيق اللغوي كحادثة ذاته، كطريقة في انبجاس حادثة الفكري. و«يحدث» الفكري ما إن يغدو اللغوي مستعدًّا لأن يدع الفكر يجيء عندئذٍ. ولا يجيء (يحدث) الفكري إلا ومعه (وفيه) ما يرجع إليه وحده. وهنا، ليس إلا داخل حادثة الفكر فحسب، يمكن التمييز بين ما يرجع إليه وحده، وما ليس كذلك، بالفكري واللافكري في آن؛ إذ إن التقاط الفكر منسحبًا، يعادل التقاطه باديًا ومتلامحًا. وليس خارج هذه العلاقة إلا ما ليس بفكر، ذلك الشيء الذي ليس فكرًا أو لا فكرًا، ولا يشعر أنه كذلك.
نعود إلى معاينة: الاستشعار، باعتباره أسلوبًا في مناداة حادثة الفكر عينها، قبل أن تغدو الحادثة نداءً على ما يجعلها كذلك في عين ذاتها أولًا وآخرًا. لكن المناداة على حادثة الفكر من خارجها، أو على الأقل مما يشكل عتبة، مدخلًا إليها، وكذلك مناداتها على «شيئها»، مما يجعلها حادثة الفكر، المنادتان هاتان هما نداء واحد، مزدوج الصوت والصدى معًا؛ أحدهما البشير، والآخر النذير. وهما معًا يعلنان عما لم يجئ بعد، وعما يمكن ألا يجيء أبدًا. ذلك ما يفرق بين السؤال عن المعرفي، والنداء على الكينوني؛ فهو يوحدهما في آن؛ يؤسسان معًا زمن الانتظار بإيقاعين مختلفين؛ أحدهما للتقدم، والآخر للانسحاب. يستعدان لحضور القادم المجهول، ولغيابه. فالاستشعار يفترض الإحساس عن بعد، قبل أن يكون عن قرب. هناك من يبث إشارات كالإله القديم. لكن الفارق بين الغائب الكينوني والغائب اللاهوتي، أن الأول لا يرسل إشاراته، أسئلته، إلا تمهيدًا لحضوره. لا يجلس منتظرًا، أو مُلبيًا لانتظار الآخر، خارج أو ما بعد إشاراته تلك. يقتحم زمن السؤال، محولًا إياه إلى أزمنة، أقرب إلى إيقاعات باحثة عن تخوم متعارضة، تفترض اختراقات آنية عاجلة مفاجئة، لم يتفكرها أحد قبلًا؛ لم تُخترع قبلها جاهزية أو عُدة مفهومية أو أدواتية للتعامل مع تحدياتها. إنها إشارات، أسئلة الأبنية، الأنساق، التي تستبق خارطاتها، ترسيماتها. أما إشارات الغائب اللاهوتي، فهي لا تصبر على سؤال، فكيف على تفريعاته وفجاءاته؟ ما إن تطرح نفسها جوابًا واحدًا تماثليًّا استباقيًّا، على كل الأسئلة الممكنة، فكيف تسمح لها بالمثول أو المجيء يومًا؟

فاللاهوتي القديم كالتقني الحديث، هو جواب تماثلي؛ كلاهما يطالب بإلغاء جذري للغوي، من أجل هيمنة الصامت وحده. يعملان معًا خارج اللغوي، في الرقعة التي تقع حتميًّا خارج رقعة الفكري/اللافكري، حيثما ينعدم الاستشعار حتى باللافكري، يعجز عن الاتصال بما يثبت مجيء الفكري، أو بما يعيقه وينفيه. إنه ليس بالفكري، ليس باللافكري. ذلك أن انبثاق استشعار باللافكري قد تعادل الوعد بقدوم الفكري، تضع السؤال المعرفي تحت طائلة الكينوني، تتيح له، للسؤال، أن يضاعف تسآله بالنداء. يصير المعرفي أسلوبًا إبداعيًّا خلاقًا في الانفتاح على الكينوني، في توفير لحظة من العيش في كنفه. كما يمسي الكينوني، بالمقابل، طريقة استثنائية في لقاء الفكري لذاته. هذه الفعالية تطور «الدور»، الحلقة المفرغة، التي تطوق اللغوي عادة، خاصة على مستوى تلفظات من نوع المعرفي والكينوني، تطوره إلى ما يشبه فورية ذاته؛ هنا يتدخل هذا الشعري الذي عليه أن ينسل اللغوي من الهوتين، اللتين تتهددانه دائمًا، على جانبيه، وهما: الثرثرة، كفرط للغوي خارج ما يتمتع به من ذاتي القول، والصمت، حيثما لا تقوم منه، أية إشارة عليه، إلا وتكون صامتة من جنسه.

إن نفي الفكري/اللافكري، ليس كنفي غير الفكري للفكري داخل علاقتهما: فهذا الأخير نفي يضع فعاليته خارج حلقة الفكري/اللافكري تمامًا، بينما ينبجس النفي الأول بين القطبين، ومن داخل هذه الحلقة عينها، جاعلًا من اللافكر حالة أخرى من الفكر، توقف دوران الحلقة حول الذات، كيما تشرع في تشكيل مشهديات عن تحولاتها الواقعية. هنالك الغياب الذي كل إشارة عنه غائبة. وهنا استشعار بالفكري، وإن لم يأتِ بعد. والاستشعار بما ليس بعد، أو بما ليس حاضرًا ما، لا يؤسس نوعًا من انتظار. ليس زمنيًّا، وإن كان يستهدف مستقبلًا. وهو كذلك لا يحتل حاضرًا بعد، لا يؤسس نوعًا من انتظار. وإن كان يطلب حضورًا. إنه ذاكرية الزمن، التي تقابل ذاكرية العالم في قِدمه. فالسؤال عن الفكري الذي هو ليس بعد كذلك، تذكير بجوهر الزمن دون آناته الاصطلاحية؛ عبارة: الفكر ليس بعد، لا تشبه صيغتها النحوية. بمعنى أنها لا تمنح تأجيلًا معينًا لموضوعها، لمسمَّاها، كما أنها لا تأخذ من الزمن توقيتاته بل خلاصته، كنضج واكتمال. فهي بالأحرى، تتعامل معه كذاكرية خالصة، تدور دائمًا حول ما هو ذاتي نفسه، دون أن يتحد بذاتية معينة جامدة، دون أن يدخل في لعبة الماقبلُ زمنيًّا والمابعدُ: في كنف الفكري يبدو التتابع منتهيًا منجزًا في بدئه. إن استشعار «ما ليس بعد» فكريًّا، لا يشبه أي استشعار آخر بفقدان حاجة، أو نقص مشروع. ذلك أن انبجاس هذا الاستشعار نفسه يدخلنا في سياق تأرجح الفكري، وما ليس كذلك. هنالك إدراج (سيكولوجي) لهذا التأرجح. كأية حالة انفعالية أخرى، تتغذى سيكولوجيًّا، من صوفيات الانتظار، والحضور والغياب التي ترددها الوجوديات الغيبية منذ أيام كييركيغارد، والصوفيات العربية قبله.

نحن أمام حالتين في الواقع: هنالك العيش في كنف الفكري/اللافكري، وهنالك العيش خارجه تمامًا. حتى كلمة «خارجه» لا تفي بالغرض؛ لأنها توحي بنسبة هذا الخارج إلى داخل ما، في حين أنه عيش في عدم من الفكري/اللافكري، لا يُذكر أبدًا بما يعدمه. ليس فيه أو له خارج ولا داخل. وليس هو كذلك بالنسبة لأي داخل أو خارج آخر. ذلك أنه يرجع إلى الفكر وحده تسمية «الخارج». لكن هذه التسمية ليست استدراجًا للفكر نحو تعيين ما هو داخل وما هو خارج. ليست استدراجًا للفكر كيما يتبدد فيما لا صلة له به، بقدر ما هي دعوة حقيقية يحتاجها الفكري عينه، كيما يتنصل من إنتاج التسمية، ورفض العودة إلى معاينة التسمية عينها.

كأنما لا يكاد الفكري يبرح رقعة الاستشعار. فليس له رقعة خارج الاستشعار. تلك هي الخاصية الفاصلة التي تميز الفكري عن العقلاني. فالثاني تعييني ومدعو دائمًا للتعيين، بينما الأول يحسم الحسم، يعيده إلى أصله كحالة من حالات لا تنتهي، تلحق بالمتأرجح. فالعقلاني يبني الأنساق، والفكري يخترقها نسقًا بعد آخر، دون أن يتمكن أيٌّ منها من احتباسه. قد يمارس العقلاني ما يسميه بالنقد، ويستخدمه في مضاهاة أنساقه فيما بينها. أما الفكري فإنه يضاهي جملة الأنساق كلها، مع ما ليس كذلك. لذلك لا غنى عن عبارة «الخارج» تُدرج على حوافي الفكري؛ لأنه هو الساكن الوحيد الذي لا يتواجد في أي بيت من بيوته. ويكاد يكون له عنوان واحد، لكنه يقع خارج مساكنه كلها التي تحمل بطاقته على أبوابها، دون أن يوجد وراءها أحد.

يتبجج العقلاني أنه أقرب تلفظات اللغوي إلى الفكري. ولذلك استمر طرد الشعري دائمًا من ميدان المزاحمة. وكاد الشعري أن ينسحب من رقعته الخاصة، ويلتحق بالغيبي أو الشيطاني، أو يتقلص إلى حجم نوع أدبي فحسب. إن انسحاب الشعري هكذا لم يترك الساحة بدون منافس للعقلاني فحسب، بل دفع بالعقلاني إلى إعلان تمرده على الفكري، لم يعد مجرد خادم للفكر، بل أصبح آمره؛ وفي خطوة أخرى تم انسحاب الفكري إلى ما لا يطوله أي استشعار.

إن طرد الشعري خارج النص، خارج اللغوي، اقترن دائمًا بانسحاب الفكري، ومعه استشعار الانسحاب كذلك: لكن تلازم الغائبَين الكبيرين معًا، لم يكن يعني «صلاحة» كاملة للعقلاني. فلقد اضطر هذا إلى الاتكاء على ما فوق الطبيعة تارة، ثم على الطبيعة عينها تارة أخرى، كمبدأ في اللامتعين يسند المتعين. وفي المرة الأولى دعم عقلانيته بالقدرية اللاهوتية، وفي المرة الثانية بالحتمية «العلموية». فالعقلاني عندما يقطع جسوره الأصلية مع الفكري، فإنه يضطر تحت ضغط التعويض، إلى الخروج من رقعته، والتواطؤ مع أقانيم مغايرة. إنه لا يفتقد ذاته كجوهر خالص، إلا ليعود إلى الالتقاء بذاته عبر تحققات عقلانية واقعية، على طريقة الديالكتيك الهيغلي، في خياره الأهم كنسق تكويني تاريخي. ذلك افتراض تفاؤلي يريد تجديد الثقة بقدرة ذاتوية للعقلاني، قد تغنيه عن إشكالية الإسناد أصلًا، لكنه في هذه الحالة، إنما يمعن في اختلاق التوافقات المصطنعة، يسقط في الأيديولوجيا. ولا تنجيه منها إلا صحوة فجائية تجعله يكتشف إلى أي حد كان استسلامه للتأدلج إقصاءً دراميًّا له عن كنف الفكر وما يرجع إليه وحده. فيُزمع العقل عندئذٍ أن يعود عقلانيَّ ذاته. يستعيد «النقد» ليحرر سفينة العقل من أحمالها السابقة المهترئة. وخلال «أزمة النقد» لا يجد العقلاني لديه إلا سلاحه الأصلي: السؤال. يتحول دفعة واحدة إلى «أزمة تسآل» متفاقمة. يتجدد سؤال الاستحواذ وإعادة الاستحواذ la réappropriation، وهو كل ما تبقى من تراث الديالكتيك.
النقلة من العقلاني إلى الواقعي ليست اعترافًا بالآخر، بقدر ما هي علاقة استحواذ، حتى إنها ليست كذلك من نوع المبدأ القائل: إن العقلاني يكوِّن الآخر ويتكون به. فهذه الواحدية الاختلافية: العقلاني/الواقعي، لا تَلقى حلًّا استبطانيًّا من داخلها. هي محتاجة دائمًا إلى افتراضات منزاحة عنها. ولا تلقى طريقة للتحاور معها إلا عبر اختلاقات مفهومية؛ ومصيرها سقوطٌ محتوم تحت طائلة الأدلجة في النهاية.

ذلك ما آل إليه تراث الديالكتيك الهيغلي في مجمله، وليس فقط في خلاصته المتمحورة حول مفهمة الاستحواذ وإعادة الاستحواذ. فليس غريبًا ألا يأتي تاريخ للفكر بعد الهيغلية، إلا وهو متوالية لأنظمة عقلانية، تصنف نفسها بالمعرفية، مُبقية على ذاتها في موقع المنتَج، وحاجبة بذلك من هو في موقع الإنتاج، أو المنتِج. فالأسهل هو التخلي عن نظام معرفي باسم نظام معرفي آخر، بدلًا من التصويب على صاحب هذه الأنظمة بالذات، على ما يشكل من نفسه نظام الأنظمة كلها، ما وُلد ومات منها، وما لم يولد بعد، وهو العقل، بكل بساطة.

إن علاقة الاستحواذ على مظاهر معينة من العالم، وإدراجها تحت نسق معرفي معين، ثم إعادتها وردها إلى مواقعيتها البدئية من العالم تحت شكل الأنساق المعرفية هذه، لا يترجم المبدأ الأصلي الذي يرفعه شعارًا عاليًا دائمًا، ذلك العقلاني المدعي للشمولية والضرورة؛ أي إنه هو من تكوين الآخر والتكون به. فماذا يفعل العقلاني حقًّا إزاء قدم العالم؟ هل يمكنه أن يختزله عبر حكاية أدلوجة معينة، أم إنه يعيد اندهاشه به متواضعًا حقًّا، مناديًا من جديد على الفكر وما يرجع إليه وحده، دون أن ينتظر عونًا حقيقيًّا آتيًا من مكان، لا مكان، بل من عالم مغرق في قدمه أولًا؟

إن قلب العبارة: تكوين الآخر والتكون به، إلى العبارة، التكون بالآخر كتكوين للذات، لا يُدخل الاختلاف إلى صميم النص العقلاني. ليس اعترافًا بالاختلاف في العلاقة بين ذات النفس والآخر. ذلك أن العبارة وعكسها، لا تزالان تتحركان ضمن التعريف الأصلي للمفهمة، على طريقة الجدل؛ أي تلك المفهمة القائمة على: الاستحواذ. فهي إما أن تنطلق من ذات النفس كاستيعاب الآخر، أو تعكس حركة الاستحواذ من الآخر نحو ذات النفس. تلك المفهمة لم تسيطر على عقلنة المشهدية الإنسانية كتاريخ لاهوتي تارة، أو جدلي تارة أخرى فحسب، بل جعلت العقل يقوم بحصار نفسه بنفسه. يختلق الواحد/الواحدية، ويضع نفسه في مركزها، لكن كلما أعياه الاختيار بين حتميتين، نادى على المختلف دون أن يعرفه. عندئذٍ ربما يكتشف العقل قصور جاهزيته، المزمن، عن تلبية الفوري الذي ينفتح أمامه فجأة: لا يفيده استنجاده بالنقد، في مصطلحه الرائج تحقيبيًّا؛ إذ يتبين بسرعة أن «النقد» عينه قد دخل في عُدة تلك الجاهزية: فإذا ما انتفض على واقع ما، لم يلقَ بين يديه إلا عين الأدوات التي صنعت تلك الجاهزية، وجهزته هو عينه، كنتاج عضوي منها. وحتى عندما يعجز تاريخ المعرفي عن كشف: نقد النقد، فإن العقلي الجاهز يعيد الاستحواذ على واحديته بطريقة أخرى؛ إذ مثلما يكتشف النقد أنه يعمل بذات أدواتية موضوع نقده، فإن القفز إلى موقف نقد النقد، لا يكسر الحلقة المفرغة، بل يُدخلها في عملية استقلاب للمادة المصنوعة سابقًا: «النقد»، بواسطة صناعة أخرى من نوعها: «نقد النقد». إذن، لم تعد الواحدية امتيازًا استثنائيًّا لصاحبها، بل شركًا له.

من أين يأتي العون إذن؟ وكيف؟ لا بد من ملاحظة أن مختلف العبارات التي استعملناها في المقطع السابق، إنما ترد تحت القلم مشفوعة بأجواء معيارية تلفها غلالات شفافة، لكنها فاعلة تحت الصمت والشفوف. منذ أن حوصرت العلاقة بين ذات النفس والآخر في الجدل حول من يكوِّن من أولًا، فقد يتم تجاوز الصعيد المعرفي/الكينوني، إلى المعياري الخالص، بقدر ما يجري سباق التنازل تسارعيًّا من قِبل كل قطب على حدة، عن معرفة ذاته، في الآن عينه عندما يتنازل عبره عن معرفة الآخر؛ كل ذلك لأن أحدًا منهما لا يقنع بتدوين نصه في خانته، بل يسرع في ادعاء تدوين الآخر، ممعنًا في تبديد سجله الخاص. فالواحدية لا تعني إلغاء الآخر، ولكن تحويله، هو وكل أحد سواه، إلى مجرد أعداد في متوالية، تأتي كلها بعد الواحد، وتحمل منه واحده مهما تكاثرت، فسوف تظل محكومة بتكرارها، كيما تجيء هي تسميةً مترادفة مع اسمه الأول، هو، دائمًا.

مشكلة الواحد أنه لا يقبل حتى بلفظة الأول؛ إذ إن كل ما يتلو الواحد هو حاصل جمع رياضي خالص. ليس هو الأول؛ لأنه لا يتبعه ما هو ثانٍ؛ إذ ليس هناك من هو الثاني، بل هو الواحد وما بعده: الواحد مكررًا. هذه المشكلة لا يمكن تطويرها إلى إشكالية، لشدة بساطتها وفوريتها. ومع ذلك فهي التي تؤلف صلب الأقنومية الكبرى المركزية، فلسفيًّا وتاريخيًّا المسماة: العقل والعقلانية. حيثما يتحرك العقل لا يمكنه أن يخرج عن ذاته. ولهذا السبب تحاول الأدلجة أن تتعامل معه كبديل عن الفكر. فهي فضلًا عما تراه فيه من إمكانية لا محدودة في تكريس واحديته، تحاول أن توحده مع الفكر من خلال منحة هذه الصفة: اللامحدودية.
ليست الأدلجة وحدها، والمعاصرة منها بخاصة، التي تستغل هذه اللامحدودية لترفع كل حاجز بين العقلانية والفكر، بحيث تقدم نفسها كجاهزية تامة موضوعة في خدمة الفكر وما يرجع إليه وحده، نقول ليست هي الأدلجة وحدها من اختص بهذه الفعالية، بل لقد ساهمت مختلف الفلسفات ذات العنوان العقلي، أو اليقيني من قبل، في إنكار اللامحدودية، وقسرها على أنظمة معرفية معينة، لا تتورع دائمًا عن الدعوات الأنطولوجية لذاتها، التي تتيح لها ثَمة ارتباطات بالكينونة، مما جعل معظم هذه الفلسفات موضوعًا ممتازًا للتحليل الأيديولوجي، لشدة قابليتها للاستخدام المجتمعي والتاريخي. ومما جعل كذلك ممكنًا، اصطفاف تاريخ للأفكار موازيًا دائمًا لاصطفاف التحولات المجتمعية. فانشغلت الثقافات الكبرى في جدل البحث عما هو الأول في تكوين الآخر، ما بين «الفكرة» و«الحدث». ونعلم أن هذا النوع من الجدل قد أخذ معظم الوقت الفلسفي، وحتى العلمي التأويلي، إلى أن حان أوان المنعطف الأكبر حين يولد ذلك السؤال الفلسفي الذي يضع الاصطفافين معًا موضع الاستفهام: لماذا هما كذلك، ولم يكونا غير ذلك؟ جاء وقت اكتشاف أن الاصطفافين يشكلان مجرد ثنائية واحدة، تنتمي إلى الواحد. ولا تتحمل وجود الآخر. وحيلة العقل هنا القديمة أنه يصر على زج السؤال بين مخلبَي هذه الثنائية، ويحكم عليه بالتفكر، والبحث فقط في تبرير: لماذا الاختيار لهذا القطب دون الآخر، أو بالعكس أيضًا؟ كتصنيف الناس جميعًا بين مؤمنين أو ملحدين، مثلًا.

ماذا نفعل بالناس الآخرين الذين لا يدخلون هذا الاختيار، وقد لا يعرفونه أبدًا؟ إنها الثنائية التي تؤلف بالفعل نظام الأنظمة المعرفية. إنها شكل الفكرة الأولى، الواحدة، الذي يولد شبكات الأفكار الأخرى، فلا تجيء إلا تطييفًا للأولى؛ يختلف عدديًّا، لكنه بتجانس مع نفسه أنطولوجيًّا. توحي الثنائية بأن الاختيار بين أحد قطبَيها، لا يضع حدًّا للاختلاف داخلها بين قطبيها هذين فقط، لكنه يغطي على اختلافها، كثنائية، مع كل ما هو خارج عنها. أليست عقلنة الوجود على هذا النحو إلغاءً للوجود. لولا تدخل الفكري في اللحظات الحرجة حقًّا، التي سُميت بالانعطافات الكبرى، أو القطعيات الحاسمة، فإن العقلي، كان سيتحول إلى مجرد شكلانية خالصة. وفي هذه الحالة نفسها لن يتبقى ثَمة معنًى لأي كلام عن مضاهاة العقلي بالواقعي من جهة، وبالفكري من جهة ثانية.

قد نسأل: وهل العقلي ليس هو الفكري؟ ولماذا؟ أيكون العقلي يعقل الأشياء، أما الفكري فإنه يتفكر العقلي والأشياء معًا؟ ليس بينهما حركة استيعاب أو شمول من أحدهما نحو الآخر. كما أنه لا يمكن تصور الاختلاف بينهما على أساس تراتب معياري؛ ذلك أنه بالرغم من إطلاقية الفكري، فالعقلي ليس أقل رحابة ولامحدودية منه. لكن المسألة ينبغي لها أن تُطرح بطريقة أخرى: بينما ينشغل العقلي في تثبيت نظام معرفي معين، فإن الفكري يهمه سؤال كيف ينشغل العقل بهذا التثبيت؛ فهو بذلك لا يتخطى السؤال المعرفي منطقيًّا، ولكن كينونيًّا. فالعقلي سؤال، والفكري نداء. الأول ينتظر جوابًا يحمله على المعرفي، ويعرضه على أنظار الحقيقي، في حين أن الفكري ينادي على ما يتصور أنه كينوني. ينتظر ما لم يحدث بعد.

ومع ذلك نستشعر غرابة ألا يكون العقلي ليس هو الفكري بطريقة ما. يمكن القول مبدئيًّا إن تاريخ العقلانية، لم يقدم العقلي كإثبات أو يقين فحسب، لكنه قرنه دائمًا بالشك سواء كان سفسطائيًّا (مجانيًّا). أو منهجيًّا (ديكارتيًّا)، بحيث قد يكون تاريخ العقلاني هو تاريخ قلقلته كذلك، لم تعد واحديته شكلانية خالصة، فقد أصابها التشقق، وتخللتها رياح التغيير والفجائية. صار العقلاني يتحمل الانزياح للحظات أو أكثر عن وحدانيته. لكن الفكري هو الذي يعتبر أنه أتى بالفجائيات على صميم العقلاني. دفعه، في منعطفات كثيرة غير معروفة؛ لماذا لا يهرب من جفاف السؤال، إلى حرارة النداء؟ فتراه ينقلب أحيانًا إلى نداء على النداء الذي لا يرجع إليه. فالعقلاني هو عينه من يرفع في اللحظات الحرجة شعار المناداة على الفكر وما يرجع إليه وحده، وكأنه هو نداؤه الخاص. وكأن التسآل لا يعلن الاستفهام فحسب، بل يصير نزوعًا نحو الاختراق.

وهنا، ألا يعمل كلٌّ منهما، العقلي والفكري، وكأنه يستدعي الآخر، ويسمح لنفسه أن يدعي تمثيله، بل حتى تجسيده؟ ذلك هو ادعاء العقلاني على الأقل كلما أحس أنه غدا عقليًّا خالصًا. فليس غريبًا أن دخول العقلي، كشكلانية خالصة على السجل الفلسفي مع كانط خاصة، لم يكن ممكنًا لولا النداء على الفكري مجددًا، والاصطلاح عليه تحت تلفظ: المتعالي. في ظل هذا التوزيع الجديد للسجل الفلسفي القديم، لم يعد الفكري «مجرد» إله ضامن للحقيقة، على طريقة ديكارت، بل أصبح مشاركًا، باختلافه عينه، في «نقد العقل الخالص»، كمعيار آخر، لا يجيء إلا بعد أن يستنفد العقل كل معاييره الخاصة بتلفظه وجاهزيته العملانية. يجلس «نقد العقل الخالص» في عتبة «المتعالي»، يقدم كل جاهزيته كيما تعينه على التشبث بموقعه ذاك في كنف الفكري؛ كل الجهد الكانطي الخارق، في أن يعيد للعقل شكلانية خالصة، مهمته الأصلية في استكمال الجاهزية الفلسفية المطلوبة من أجل العيش مجددًا في كنف الفكر وما يرجع إليه وحده، بل من أجل التذكير بإمكانية هذا العيش. غير أن الكانطية، لشدة انهمامها وانهماكها في إعداد هذه الجاهزية، ومفصلتها بطريقة مختلفة، فإنها تركت مهمة التذكير إلى تسجيل فلسفي آخر، عليه أن ينشغل بها وحدها. ذلك ما انتدبت الهيدغرية نفسها له فحسب؛ افتتحت طريق الغابة ولم تعبره كله إلى النهاية.

في حين أن ثورة الكانطية تؤكد أن مذهب المتعالي ليس سوى «وجهة نظر» ينشئها العقل الخالص عن ذات نفسه، وهو الاعتبار الذي حقق قطيعة النقد الكبرى مع مذاهب المفارقة السابقة، فإن هيدغر لم يُبقِ على هذا الامتياز الخاص للعقل الخالص، بل جعل الشكلانية نفسها صيغة من صيغ الكائن في العالم. بمعنى أن العقلي وحده لا يمكنه أن يقدم تأسيس المعرفي، وتأسيسه الخاص به في وقت واحد. ذلك أن المعرفي نفسه لا بد له أن يندرج في سجل «يذكِّر» بجاهزيته كمعرفي، يتوجه إلى الكائن. وهذه الجاهزية ليست أجوبة على أسئلة سيكولوجية أو منطقية خالصة، كما هو متداول في إبستمولوجيا تقليدية. فالمعرفي الطامح إلى بناء علاقة بالكائن لا بد أن يشتبك معه بطريقة تتعدى حيادية الاستفهام العادي. إذ إن المعرفي الباحث عن الكينوني يداهم تخومه بطريقة ما، يشتبك معه في حركية تجليه وانسحابه. ينزاح السؤال بالنداء إليه. فالانزياح بين المكانين ليس حالة منطقية، بل يكاد يجترح حلًّا للمأزق السقراطي القديم الذي يتساءل عن المخرج المستحيل من «الدور» الحلقة المفرغة: «كيف نعرف ما نجهله إن لم نكن نملك عنه ثَمة معرفة من قبل» [حتى ننطلق إلى البحث عنه]؟

كما أن «مذهب المتعالي» أضحى مجرد وجهة نظر يكوِّنها العقل الخالص عن ذات نفسه، فإن الخلاص من المأزق: l’apori المعرفي الكينوني، هو في الاشتباك معه من داخل سِجله عينه. ذلك ما حاولت الفينومنولوجيا أن تُمنهجه، أن تضع حلولها، كأساليب في معاناته. فالعقلي قد يتاح له أن يكتشف المأزق، لكنه يقف أمامه معلنًا عجزه، ينسحب، بينما يطور الفكري هذا الموقف، من مواجهة مأزق، إلى مقاربة لغز. فمن المواجهة إلى المقاربة، إلى إقرار الانشباك، ينعطف المأزق من مجرد المعارضة المنطقية، من حيث الشكل (من المعرفي إلى الكينوني أو بالعكس)، إلى الاشتباك مع اللغز؛ من تأمل صعوبته، كمأزق منطقي أو إبستمولوجي اختصاصي، إلى الاندراج فيه ومعه في ذات حيزه، كلغز، يجمع بين السائل وموضوع السؤال في معاناة واحدة. ذلك ما يوفره انزياح الكينونة كموضوع مطلق لا وجه له، ولا جسر منه أو إليه، إلى الكائن: الذي يدخل العالم، يزمِّنه ويتزمَّن به. ينتجان معًا أندر ما في هذا الكون، الحياة. ما لا يستطيع أي مطلق اسم أن يدعيه ملكًا له، أو إنتاجًا منه.
ذلك هو الفارق بين الاستحواذ والتزمين. فالأول يختزل الكائن في العالم إلى ثنائية؛ تمزِّق، تفصل عبارته تلك إلى حدَّين، وتُدخل الاستقطاب بينهما، بدءًا من ازدواجية العالم، وما ليس كذلك. تلك الثنائية الكبرى التي صارت بمثابة نظام الأنظمة المعرفية، المتحكم في تراتبية أزلية بين ما سوف يُسمى عملانيًّا بالأدنى والأعلى. ولقد ارتاح العقلي إلى مثل هذه الهندسة طويلًا، ولم يقلقه ذلك التناقض الوجودي، الأنطولوجي، المتحكم في ثنائية العالم وما ليس كذلك. فالعالم حادث، لا يمكنه أن يُحدث نفسه، لا بد له من محدث. وهذا الحد الأخير، هل هو أخير حقًّا؟ ما دمنا نستعمل ذات المفهمة، فكيف يمكن التوقف عند «الأول»؟ وكيف يأتي «الأول» مما ليس هو كذلك، وليس عددًا؟ إنه المأزق! فالعقلي يخترع هنا ما سوف يُصطلح عليه بحدوده. إن له حدودًا. ويمكن فهمها والتعاطي معها ما دمنا لا نتطلع إلى ما وراءها، بل نرابط فقط داخل أسوارها. أما الفكري فهو الذي ذات لحظة، لا يمكنه التوقف عن المناداة على من وما هو وراء السور، حتى وإذا كانت مناداة على الصمت أو الصامت وحده. العالم ليس له آخر. وليس العالم حدًّا في ثنائية مقابل حد آخر، لن يكون إلا من العالم نفسه، لن يكون هذا الآخر إلا عالمًا يحده، فالانخراط في تزمين العالم، هنا والدخول فيه كلحظة منه، أو كلحظة اللحظة، إنما يبني «التشكيل» configuration، يقلب العالم إلى معرض مشهديات لا تتناهى عددًا ومناظر. فما ليس له تشكيل لن يكون من هذا العالم. لكن بالمقابل حتى يفوز التشكيل بمشهديته الكينونية فلا يمكنه أن يتبدى إلا بالنسبة لعمق العالم، لقاع اللامحدود، الذي لا يمكن أن يحده إلا تخوم العالم. فالتشكيل هو اختراق التشكيل، بقدر ما يغدو الاختراق تشكيلًا أيضًا. ذلك ما يبني تخوم العالم داخل العالم. لا يتبقى ثَمة دلالة لمكان خارج العالم، إلا بما هو داخل العالم نفسه. فالمتعالي ليس مجرد وجهة نظر يصوغها العقل الخالص عن ذاته فحسب، بل إن هذه العملية تحتاج إلى أرضية محايثة، إلى علاقة فورية بالمحايثة نفسها، لا يمكن تصورها بدون سياقَي الزمان والمكان.
الثورة الكانطية الثانية حدثت عندما لم يتم حصر المعرفي بالزمكاني فحسب، بل عندما تم جلب المتعالي نفسه إلى حوافي المعرفي وضواحيه. وذلك عندما أُنيط بالكائن، حين يجيء إلى العالم، أن تجيء معه الكينونة. فالانقلاب الحداثوي الحقيقي لا يتوقف فقط عند اشتراط العقلي بحدسَي الزمان والمكان، مع طرد المتعالي خارج العملية التاريخية كليًّا، بل باستعادة هذا المتعالي إلى صميم هذه العملية، لكن بعد أن يستحوذ الاختلاف على دلالته التقليدية؛ أي حين يفارق المفارقة، ويغدو طريقة أخرى في مقاربة الكينونة، كلما أتيح للمحايثة أن تبدع تشكيلاتها الفورية؛ وصفة الفورية هنا تعني مجيء التشكيل، ونظامه المعرفي التكويني معه؛ لا ينغلق التشكيل، بل يزداد شفافية، كلما أوغلت شفافيته في الكثافة. لا يكون التشكيل ذاتي النفس، إلا بالقدر الذي تتلامح على ضفافه سديمية عدم التشكيل بعد. كالبيت الذي يتجمع، يرتص على صميميته الداخلية وسط فضاء اللوحة، لا متناهية الضوء واللون. ولاتناهي الموجة يعاد تشكيله اعتبارًا من نقطة التناهي المركزة: صميمية البيت.

يمضي الفكر مفقودًا بما يرجع إليه وحده، ومفتقدًا فقدانه ذاك، كلما أوغلت المفهمة مفصومة بين حدَّي ثنائية، تطالب متمادية دائمًا بالاختيار المكذوب: إما الانتماء إلى اللامتناهي مع قتل المتناهي، أو الانمساخ في حدود المتناهي مع تبديد اللامتناهي، فراغًا مجدبًا إلا من فراغه. لكن، وبالمقابل، ينبثق المعرفي الكينوني في علاقة الفورية الخالصة السابقة على منطق العلاقة بينهما، بقدر ما يعيد تشكل المتناهي، بما هو كذلك، على ضوء اللامتناهي، الذي بدوره، ومن خلال علاقة اللاعلاقة معه هذه بالذات، يتحول من لامحدودية لا يقال عنها أي شيء، إلى وصلة نادرة للكائن بالكينونة، لا تحتمل إلا خطابًا واحدًا، مفعمًا بالخطر حوله/وفي نصه، وتناصه معًا؛ ما دام يتأرجح بين تخوم الفكر وما يرجع إليه، وبين ما ليس كذلك، حيثما يتمركز «الخطر» الحقيقي على الفكر في هذه العبارة الثانية.

إن كانت الثورة الكانطية احتفاءً وتأسيسًا للمعرفي بشروطه الخاصة لأول مرة، كذلك فقد استطاعت أن تفرز الصيغة الوحيدة التي يمكن للكينوني أن ينادى عليه من خلالها. فليس في أي مكان يتاح للمعرفي أن يشتغل وفق شروطه الخاصة. وهو لا يلقى حيزه إلا حيثما لا ينطلق النداء على الكينوني عبثًا، ولا يرتجع له صدًى. قبل الحداثة، كان المعرفي يعمل في الأرض الخطأ، مما جعل الكينوني ليس مفقودًا فحسب، بل جعل الإحساس بهذا الفقدان، أي افتقاد الفقدان، مستحيلًا. فالمعرفي حيثما لا موضوع له، يقترن بالكينوني اللاكائن الغائب، والمفقود غيابه: المعرفي الخطأ والكينوني الغائب. وكل المنعطف ليس في حضور الكينوني، فذلك مستحيل. والمعياري الديني والأدلوجي وما يماثلهما من الأقنمة وحده يمتلك هذا الادعاء؛ نقول: كل المنعطف إذن، هو في افتقاده هذا الحضور، ومن ثَم المناداة عليه. حتى يسكن الإنسان شعريًّا في العالم، لا بد له أن يؤمه لا شعريًّا، جزافيًّا فحسب.

كذلك قد يظل الإنسان مقذوفًا به إلى العالم مجرد انقذاف، دون أن تتاح له، مرة واحدة أن يسكنه لا شعريًّا، لكي يسكنه شعريًّا. فقد يبقى مغتربًا اغترابًا، غير شعري، لا يدري أساسًا بما هو خارج الحيز الذي تجري فيه جدلية اللاشعري الشعري [على أن يُفهم اللاشعري كغياب معين بنسبته إلى الشعري فحسب. أما «غير» الشعري، فيمكن أن يتعين بالنسبة إلى أي تلفظ آخر]. وكل الأهمية هي في هذا التمييز بين أداتين للنفي: اللا (كذا)، والغير. فالأول ليس نفيًا مجردًا، بل يأتي ومعه موضوع نفيه، أما الثاني فإنه نفي يستحضر كل الأشياء الأخرى ما عدا الشعري، ما عدا موضوعه الأصلي. فالمعرفي قد يقوم بشروطه (كانط)، ولكنه لا يقوم هو وشروطه تلك، إلا في كنف الكينوني. ذلك هو الدرس الهيدغري. ومجمل هذه العملية (النادرة) يحددها انبجاس الشعري (دراميًّا)؛ لأن الشعري هنا هو بمثابة مشروع في العيش في كنف كينونة منسحبة باستمرار. ومجمل هذه العملية لها اسم واحد هو الانفتاح على «الفكري وما يرجع إليه وحده» وهو ما تطلع إليه هيدغر صراحة. وقد حان الوقت لإعلانه كعنوان لما بعد الهيدغرية نفسها.
عندئذٍ فحسب، يقع المايحدث. وذلك عندما يغدو المحل الذي تأوي إليه العملية (في إجمالها) وتسكن فيه، هو اللغوي. المايحدث هو حدث الوجود كواقعة خالصة، لكنها واقعة لغوية. ولأنها كذلك، فهي تحتاج إلى مهلة زمنية. فالتزمين هو إعطاء مهلة الوجود. بدون هذه المهلة لا شيء يحدث، يقع. والكائنات مُهَل حية؛ تترجم قِدم العالم إلى عوالم تبدأ وتنتهي. وليست المهلة إلا وحدة التعبير عن حدث شمولي مستمر يلتقطه اللغوي، من خلال تسريد: التزمين.
وبذلك ليس المعرفي وحده من يحتاج إلى حدسَي الزمان والمكان، ليحقق شروطه الخاصة، المحايثة غير المفارقة، بل هو الكائن كذلك الذي يستمد مهلته الخاصة، من تفعيل كينونته، من حيث إنه يحدث، يدخل الماحدث، أو يشارك فيه، أو يحاول أن يوازيه؛ لأنه يقع على عاتقه أن يحقق مهلته الخاصة دائمًا من خلال المهلة الغامضة الشمولية التي يعنيها المايحدث، فيه وحوله. فالعلاقة بين الكائن والمايحدث لا تمر عبر المعرفي حتى وإن تحقق حسب شروطه الخاصة به، إلا بقدر ما يساهم المعرفي في تأكيد المتناهي بقوته الذاتية، وبما يمكنه من الانبجاس في العالم، كوجهة نظر للامتناهي، الذي قد يتلاشى ويتبدد إن بقي خارج المحايثة، ولكنه سوف يعيد تطوافه على تخومها كلما حقق المعرفي اللقيا مع الكينوني، آتيًا منسحبًا، حيث يمكن للغوي أن يؤشر: ذاك هو المايحدث! كاستشعار بمعاودة العيش في كنف الفكري وما يرجع إليه.
لكن ليس الفكري نهاية المطاف، ليس المحصلة التركيبية لإجمالي هذه العملية، بل إنه يتابع اختراقها جميعها في فقرة. يستوعب توقيتها، مرحليتها، في وقت واحد. يكتشف ضرورتها هو عينه لها، باكتشافها هي عينها لأشيائها. فما يعلمنا التفكير هو العودة إلى الفكر دائمًا، فيما كل شيء يبعدنا عنه. لا نعثر عليه في ذاتنا كمركز، ولا نصادفه في الأشياء كمحيط موضوعي؛ إذ إن الفكر ليس أحاديًّا حتى يتخذ من الذات مركزًا له. وكذلك ليس اصطفافًا إزاء أشياء المحيط حتى يلاحقها كالعلم التجريبي. إنه ما يُفتقد دائمًا حيثما يُتصور وجوده. ليس له مكان في أمكنة المنطق أو سيكولوجيا الإدراك، أو نظرية المعرفة. كل هذه «العلوم» تحتاجه كتبرير، كحاجتها إلى نفسها، في حين أنه سالك في غير أمكنتها ودروبها. وسلوكه ليس سوى القفزة داخل المكان الواحد. أرض الفكر تتسع للعوالم جميعها. «إنه لأمر عجيب، بل حتى إنه لأمر مشئوم أن يكون علينا مبدئيًّا القيام بالقفز كيما نفوز بالأرض التي كنا عليها سابقًا. فالقفزة ليست فورية المكان فحسب، بل فورية اللحظة كذلك. ولذلك ليس ثَمة من قفزة نحو مجهول الكينونة، إلا بحمل عبء الذاكرة كله، بما فيها من تفكرات الكائن حول ذاته، وتفكرات الآخر به. حملُها والإتيان بها إلى مجهول القفزة، كذلك فعل التخلي عنها، والشروع في البدء، بدون بداية.»

قد يبدو تلفظ: الفكر وما يرجع إليه، أنه مشبع بالمعيارية. وهذا حق. لكنها معيارية، لا تدخل في سياق مضاهاة أو مقارنة أيًّا كانت. فهي تتعارض مقدمًا مع كل أفعال التفضيل؛ إذ ما الذي يمكنه أن يدخل في منافسة مع الفكر، دون أن يشتمل بعباءته نفسها، أو أنه يختار أن يدع ذاته خارجها؟ وعندئذٍ كيف لهذا الشيء الذي هو «غير» الفكري، و«غير» اللافكري، أن ينشئ ثَمة علاقة معه. إذن، ما يرجع إلى الفكر وحده ليس معيارية، إلا من حيث إنه يطرد كل معيارية، تطرح ثَمة ثنائية مع ما ليس يمتُّ لمنطقة الفكري بصلة، سواء صلة إيجابية أو سلبية.

مع ذلك، فإن الحيز الوحيد غير الممتنع إنما يقوم في تلك المسافة بين الفكري واللافكري، ولا يمكن لهذه المسافة أن توصف بغير الكينوني. فالمساحة الفريدة المتوفرة لفعل الفكر هي تلك التي تندرج بين «السماع» لنداء الكينونة، وبين اضمحلال السماع. حيثما يثور تسآل، من النوع الذي يتناول مسألة الفكر وما يرجع إليه، فليس ثَمة استجابة حقيقية يؤديها المعرفي وحده. هنا يشارف الفكري تخوم الكينوني، بعد أن كان سؤالًا معرفيًّا خالصًا، يغدو الآن متحولًا من كونه السؤال المعرفي إلى التسآل الكينوني فحسب. لكن: من ينادي من؟ فالمعرفي المقطوع عن الكينوني، تضمه دائرة العقلي، تمنحه اكتفاءً ذاتيًّا، مدعومًا بأعلى وأشمل مدنية عرفتها «ثقافة» الإنسان حتى اليوم؛ تمارس برهانها اليومي بإنتاج التكنولوجيا، وإخضاع «شموليتها» لأضيق خوصنة: [حصان طروادة، التحفة التقنية، ومحتكروه: المختبئون داخله]. هذا العقلي يدعي الحيادية المطلقة مع ذلك. لا يطلق إلا الأسئلة المحدودة، بهدف تحسين إنتاجيته اليومية. لا يسمح بالسؤال الشمولي إلا بالقدر الذي يعيد تأسيس حيزه، بما يمكنه أكثر فأكثر من ردم أية هوة نوعية أو إجرائية تقوم بينه وبين السلطة.
إنه العقلي الذي لا يتيح نداءً يتجاوز تخومه، فإنه لا يؤهل كائناته أبدًا بما يمكنها من سماع نداء الآخر، قادمًا من لا مكان في خارطته الخاصة. فهل يمكن إطلاق النداء عقلانيًّا، من خارج حدود العقل نفسه؟ لقد كان الجواب الكانطي واضحًا. ووضوحه ذاك هو الذي أتاح انطلاقة الحداثة التقليدية، التي حاولت بدورها أن تستوعب كلية المشروع الثقافي الغربي، أن تنشئ له هويته، خصوصيته. ومع ذلك فإن هذا المشروع عينه هو الذي أعاد النظر في علاقة المعرفي بالعقلي، فلم يعد يصطنع توازيًا بينهما أو استيعابًا للأول من قبل الآخر، بل أصبح المعرفي نفسه يضم العقلي وسواه في آن. وهذا «السوى» ليس مجرد «وجهة نظر» ينشئها العقل عينه، عما ليس هو عينه تمامًا، على طريقة العقل الخالص الكانطي. وإذا كانت المسألة تتعلق بحدود كلٍّ من العقلي والمعرفي، فإن الأول تنتهي حدوده عند إنجاز التعيين، حيثما تبدأ حدود الثاني انطلاقًا من التمعين، أحدهما ينشئ التعريف، والآخر يخترقه إلى اللامعرف بعد، فإن توضيع objectivization العالم، لا يستنفد «الموضوع». ذلك أنه يتطلب مستوًى آخر يتخطى التعيين إلى التمعين،١ من الضرورة إلى الدلالة، من القانون كترميز مُوازٍ لموضوعه إلى الترميز عامة، الذي يفتح على المتعالي (الآخر)، ليس فوق المحايثة، بل من حيث هو شرط لجعل المحايثة عينها ممكنة. وهي تلك المحايثة التي تحتاج إلى رعاية اللامتناهي متلامحًا دائمًا على تخومها، بقدر حاجتها لبناء المتناهي في قاعها، كأرضية تحميها من الفراغ داخلها وحولها.
يمكن فهم هذا الاصطفاف: العقلي/المعرفي، الفكري/الكينوني، كما لو كان محطة فورية واحدة، لكنها توزع نفسها بين أمكنة ثلاثة؛ إذ إن كل تلفظ ليس تمهيدًا للتالي، ونتيجة للسابق؛ ليس هناك علية ضرورية تربط بين التلفظات الثلاثة. وإذا كان ثَمة فوارق بينها، فلا تؤخذ على محمل القياس المنطقي. فالأقانيم الثلاثة تجلس كلها في وساعة من الشمول والمحدودية معًا. ولا سبب بينها يجعلها تتنافس على كمية اللامحدودية التي يفوز بها الواحد دون الآخرين. لكن المشكلة تقوم جديًّا حول الطريقة التي يفهم كلٌّ من التلفظات الثلاثة لامحدوديته. فالعقلي يعتقد أن التعيين بالتعريف يكفي الضرورة اللامحدودية. والمعرفي يستبدل قاموس الضرورة، ومفرداتها المتداولة، بمساحة التمعين اللامحدود، أما الفكري/الكينوني، فهو الذي يوفر استمرارية العلاقة الفورية بين العقلي والمعرفي، مانحًا إياها حق التكون كحادثة تناهٍ، شرعية عند ذاتها، وذلك في كنف اللامتناهي، الذي يرشحها لهذا التشكيل، دون أية ضمانة ديكارتية أو سواها بالفوز به.
لذلك كان الفكري يفر دائمًا من دروب الدوغمائيين والوثوقيين معًا، سواء كانوا من العقلانيين أو التجريبيين. بينما بات الفكر الشاعر وحده يحسُّ عظمة «اللغز» الذي ينطوي عليه العالم، بما يُخرج المعرفي عن حدود الادعاء بالاستحواذ عليه، إلى سلوك المغامرة والمجازفة، ثم إلى تعليم تربوي جديد، مختلف، قائم على إتيكا القفزة. وعلى هذا الصعيد يغدو جهد الفكري ألا يكف عن مناداة ما يرجع إليه وحده. يدع العقلي يعين الأشياء، ويستدعي المعرفي لتأويل التعيين؛ ويدفعهما كلًّا واحدًا، نحو المجازفة في عرض ما ترسَّب في جعبتهما من كثافة المتناهي، في كنف اللامتناهي، والإلحاح عليه نداءً، تكرارًا مختلفًا في كل مرة، ودائمًا في كنف أقرب فأقرب إلى اللامتناهي؛ إلى الحد الذي يغدو فيه العرض، من قبل «الواحد» نوعًا من قبول «الآخر» واستجابته. عندئذٍ «يحدث» المايحدث، أولًا. ويمكن القول إننا الآن شرعنا في التعامل قليلًا أو كثيرًا، مع الفكر بما يرجع إليه وحده حكمًا. أو على الأقل إننا شرعنا في تَقرِّي بعض تخومه، والتجوال في ظلالها، أو ليس كذلك أبدًا.
لكن ماذا يعني المايحدث؟ أهو تقاطع كينوني زمكانيًّا مع العالم القديم؛ يُمشهد قِدمه ذاك في تشكيل اختلافي، تستدعي حضورَه الفجائي صرخةُ: هذا هو المايحدث! إنه نص مشهدي عن واقعة تزمين خالص، أشبه بلوحة زيتية تختصر سمفونية لا نهائية. كما لو أن المايحدث، إذن، بؤرة تكثيفية ما، في حركية التزمين. مضطر أن يحدث؛ أي أن يتزمن بطريقة مكانية، وأن يتميكن بطريقة زمنية، وأن يحدث كل ذلك في لحظة تكثيفية نادرة تجسيديًّا، كصورة البيت الذي يترسَّم زيتيًّا لونيًّا، يتقوم داخليًّا جوانيًّا، في برانية لوحة مخترقة لحدود إطارها دائمًا.
لأن العالم لا يمكنه أن يتقاطع، أن يتمفصل مع ما ليس عالمًا. فالكينوني لا مفر له من أن يتنازل قليلًا عن وساعته المطلقة، وأن يتقبل المجيء إلى العالم، كما لو كان فيه منذ الأزل (قدم العالم)، لكن عبارة التنازل هذه تخرجنا عن السجل الأصلي للتعامل الجديد مع الكينوني. هنا يأتي تمشهد مختلف ليحل المأزق، كالتالي: أمام الفكري يقوم هذا الاصطفاف: إن الكينونة أشمل المفاهيم وأعلاها، بحيث لا يمكن التعامل معها إلا بمفاهيم دونها شمولًا وعلوًّا، أي تقع تحتها. ويأتي في المقدمة مفهوم العالم، فهو المرشح الأول لإشغال مهمة المحاور الصالح للكينونة. لكنه قد لا يتمكن من ممارسة هذه المهمة إلا إذا حاول الالتقاء بالكينونة، داخل جاهزيته كعالم هو بالذات. فهل يمكن للكينونة أن تندرج في سجل الزمكان، وتبقى مع ذلك محافظة على شمولها وعلوها الإطلاقيين؟ لقد عرفنا الحل اللاهوتي لهذه المعضلة المنطقية الأنطولوجية، وكدنا نخرج كذلك من الحل الأيديولوجي. ولم يتبق إذن إلا العودة إلى الفكر وما يرجع إليه وحده، نتسلح بالسؤال البريء من جديد: بين الطبيعتين المتعارضتين لفظيًّا على الأقل لكلٍّ من الكينونة والعالم، هل هناك حد ثالث، يمكنه أن يلتف على التناقض، دون أن يلحق الأذى بأيٍّ من المفهومين (الطبيعتين)؟ إنه ببساطة: الكائن، الذي هو أصلًا يطوف جوانب العالم، ولا يمكنه أن يقوم بدونه، ولا يمكن للعالم أن يكون ذاته واختلافه، إلا عن طريقه. هذا الكائن، ما الذي يجعله داخل العالم ومختلفًا عنه في آن؟
لأنه ببساطة: هو الكائن الذي أُنيط به أن يأتي بالكينونة إلى العالم. وذلك لأنه المنوط به أن ينقل التعارض (المنطقي) الذي كان يقوم بين العالم والكينوني، خارجًا عنهما معًا في الفراغ، ينقله إلى مجرد «لغز» أنطولوجي؛ لعله يعيد إنشاء ثَمة علاقة بينهما، لا محلَّ لها، إلا بانبثاقه هو كحد ثالث بينهما في صيغة: الكائن في العالم. إنه اللغز المقذوف دائمًا تلقاء الكائن وفيه، من أجل أن يأتي بالكينونة إلى العالم، ليفاقم من استيطانه الناقص فيه، عالميًّا كينونيًّا في آن. يحل «المأزق» ويواجه اللغز؛ لأنه يأتي بالكينونة وهي تنسحب؛ أي إنه يفاقم من حضور الكينونة عينها في العالم، دون أن يستنفدها أي حضور. لكن لا تنسحب الكينونة إلى أوسع لامحدودية وأعلى علو، إلا بقدر ما يظل الكائن في العالم ليس مجرد شاهد على المجيء المنسحب، بل هو المحل المنظور، المقروء، المقول لكل هذه العملية، مكتوبة كنص باحث دائمًا عن تناصاته الاختلافية عنه وحوله.
فالعقلي التقليدي كان يحل ما يتصوره تناقضًا بين اللامتناهي والمتناهي، بين المفارق والمحايث على أساس القبول به، تحت منطق الثنائية عينه. فتارة يمنح كل الإيجابية إلى أحد القطبين، أو يمنعها كليًّا عن الآخر، وبالعكس. والثورة الحقيقية تبدأ أولًا من طرد قطب المفارقة، واسترداد المفهمة المعرفية، لتحقيق الاستشعار الأنطولوجي، إلى داخل المحايثة نفسها. حتى المفارقة تدخل المحايثة، وتتحول إلى مفهوم التعالي والتجاور. هذا الدخول يجعل المحايثة عينها مختلفة عند نفسها، لا تستمر كأقنوم مصنَّم، بل تتحرك تحت اسم: الصيرورة. فليس السكون والتجريد المطلق، ما يحفظان أقانيم الفكر. وفي التراث الفلسفي الغربي كان الحرص على الثوابت، يحتم على القطائع المعرفية، أن تجتاز دائمًا إحدى المرجعيتين: اللاهوتية أو الأيديولوجية. فالثابت الأصلي تارة يُخرَج خارج العالم ويوضع فوقه، وتارة أخرى يُعلَن عنه من خلال مركزية معينة تشد مساحة وزمان العالم إليها بالقوة المتحولة دائمًا إلى سلطان مطلق. عبَّر عنه مفهوم الاستحواذ وإعادة الاستحواذ الذي بُني عليه الجدل الهيغلي. صحيح أن هذا الجدل هو المدخل الأول إلى صميم العالم، لا كسلبية أو عدمية مطلقة، بل كتكوين وتجاوز للتكوين. لكن عندما أراد هيغل أن يشخص هذا التكوين مكتشفًا بذلك التاريخ، لم يستطع أن يوصله إلى أحداثه الخاصة، بل جعله أسير حركية منطقية تستحوذ على «شكلانية» الحدث حتى قبل مولده، وتفرض عليه مسبقًا خارطة حركة وصراع وتركيب، جاهزة. وبذلك تبدو منطقية التكوين أهم من التكوين. والتاريخ المعقلن هكذا، سوف يدعي أنه يقدم كل ما يمكن للكينونة أن تتضمنه من إمكانيات الماضي والحاضر والمستقبل. فمن أجل بناء مدينة واحدة حسب المقاييس الهندسية المطلوبة، سوف يُضحَّى بالطبيعة الخام كلها تحتها. فالتاريخ المعقلن يدعي الاستحواذ على الكينونة، كما لو كانت تجيء إليه كليًّا. لكنه لم يخطر بباله سؤال: وأين يمضي تاريخ الكينونة الآخر الذي ينسحب؟
أهمية الاختلاف الهيدغري أنه قدم المشهدية الأنطولوجية فوق مسرحها الحقيقي الذي تبنيه بنفسها. ترك المايحدث يكتب نصوص أحداثه بأحرفه وإشاراته الخاصة به. فالمسرح الفوري يقدم: الكائن «و»العالم. والتغيير أو التمعين الجديد المطلوب ينبغي له أن ينصب على حرف الواو العاطفة. تنزاح الواو ليأتي مكانها حرف الجر: في. بذلك تتساقط أشمل ثنائية نمذجية كانت تفرِّخ شكليات ثنائيات لا تتناهى. فالكائن ما إن يصير وطنه الفوري «في» العالم، حتى يتلاشى التخارج الثنائي بين العالم والكينونة. لكن لا يتم التخارج بالتدامج (المتصور)؛ ذلك أن صيغة الكائن في العالم تتجاوز كذلك ثنائية التخارج/التدامج. فهي بالأحرى تقدم علاقة انزياح. لا تتورط في أية تفاضلية معيارية، من نوع: إما أو. فالانزياح بين كيانين يجعل التخارج أو التدامج بينهما أمرًا عائدًا إلى منطق الاستحواذ فحسب. في حين أن هذه الصيغة تثبت قبل كل شيء، أن إمكانية هذه العبارة، الكائن في العالم، تفتح على الإمكانية الأوسع، وهي أن كلا الحدين، الكائن والعالم، إنما يفتحان على الكينونة. وهنا تأتي العبارة التالية الفورية، وهي: بقدر ما تتحقق إمكانيتا الانفتاحين معًا، تشرع في التكون حلقة أنطولوجية دائرية، لكنها ليست دورًا منطقيًّا فارغًا؛ إنها تدع الكينونة تجيء وهي منسحبة. ذلك تمعين إبداعي يقصي منطق الاستحواذ من قطب أو آخر، بقدر ما يتقارب من تشكيل الانزياح.
ونحن بالمقابل نُقارب «المايحدث» كمصطلح يتقدم على «الكائن في العالم»؛ لأنه يدخله في حركية لم يكن يوحي بها اصطفافه النحوي الأقرب إلى السكونية. صحيح أن هيدغر حاول دائمًا أن يضفي الحدثية على الكينونة بصورة عامة؛ لكن الإضفاء بقي نوعًا من الإلحاق، في الوقت الذي تكاد تقوم فيه الحدثية مقام الماهية والجوهرية بالنسبة للكينونة. لذلك يأتي المايحدث ليحل مشكلة الانزياح والمطابقة في الآن معًا. فهو أولًا لا يعني أي حدث؛ إذ إن تلفظ المايحدث يحوي تعيينين؛ أولهما «أل» التعريف التي تبرز الدلالة كماهية، وثانيهما هو الاسم الموصول: ما، ومهمته تسمية الماهية عينها. وقد اجتمع التعيينان: أل التعريف والما الواصلة، وبما لا تجيزه قواعد العربية، اجتمعا كتجسيد وتقوية للفاعل. إن «أل، ما» يفعلان الحدث. فيدخل الحدث في التزمين، كأنه يصير فاعلًا لنفسه وزمانه معًا. ويتحدد التزمين كذلك، في بُعد واحد من أبعاده: الحاضر. لكنه الحاضر الذي يستمر، يمنح ثَمة حضورًا إلى الماضي نفسه، رغم انقضائه كحدث، ويفرض حضور المستقبل مقدمًا قبل وصوله، أو تحيينه. وبذلك ينتقل الكائن في العالم من التوصيف إلى التفعيل. إنه ينجز تمفصلات الكينونة مع الزمانية، كلما أتيح لها أن تقع، دون أن تفارق نُدرتها المطلقة. هناك هاوية حقيقية بين الحدث، أي حدث، وبين المايحدث. وفي هذا الانتقال يشع مصطلح «القفزة» عند هيدغر بكل خصوصيته الدلالية. إنها تلك القفزة/النقلة التي تصل بين الكائن الملقى به في قاع العالم، وبين الكينونة؛ الصلة التي تُسمى: الوجود: فتأتي جوابًا عن السؤال: ما هذا الذي يحدث، المايحدث؟ يأتي الجواب: الوجود. ومعه سؤال: أي وجود؟ لعله شبه إشارة عن استعادة الصلة بين الكائن والكينونة التي تتابع انسحابها!
لعله ومضة وجود، شرطها أن تتحول إلى وضاءة، تلك التي تضيء ذاتها وسواها في آن، فتستحق إشارة: المايحدث. لكن المهم أن المايحدث يظل حدثًا أرضيًّا وعالميًّا، في حين أن تلفظ الإضاءة التي اعتمدها نص الكينونة عند هيدغر، ربما قد ينقلنا إلى اللسان اللاهوتي، أو الصوفي على الأقل. فإذا كان الوجود l’existence يتحقق مع «حادثة» التمفصل النادر بين الكائن والكينونة، فإن لفظة الدزاين ربطت هذا التمفصل بالهنا: Das. فلا بد من قاع للحدث. لكن إدخال «أل» التعريف على الاسم الموصول في تلفظنا العربي: المايحدث، يذهب بالتحديد الأرضي إلى التحديد الزماني، إلى جانب أن التحديدين، يبنيان أقنومًا، شخصية؛ فالوجود الذي لا يمكن التأشير عليه إلا عندما يذهب التناهي في تكثفه وشفافيته، إلى الحد الذي ينفتح فيه على اللامتناهي، لا يلقى صيغة تعبيرية عنه أفضل من «المايحدث»، كصيغة تركيبية له، لا تحتاج إلى التحليل العقلوي، بقدر ما تنادي على الفكر، من حيث إنها تقدم نفسها به، كأفضل موضوع يشتغل عليه كفكر، بما يرجع إليه وحده. فالمايحدث هو ما يرشح للفكر، من مجمل التمفصل بين الكائن والكينونة. ومع ذلك ليست دلالة التمفصل هي التي تفي الموضوع حقه هنا. فالكائن لا يفوز بتناهيه بسهولة ويسر؛ لأنه الأصل هو انغمار الكائن تحت أضاليل الحياة اليومية التي تحجب عنه انبثاقة المايحدث، وتمطره بأسطرات تلهيه عن رؤية حدوده. ولا يقع التزييف على حقيقة الوجود (الفاني) فحسب، بل تمتد الأضاليل إلى حجب اللامتناهي بأشكال من التأبيدات الميثالوجية واللاهوتية، وأخيرًا الأيديولوجية.

فهل يمكننا هنا أن نتساءل: ولكن ماذا يريد الفكر حقًّا؟ قد يكون الجواب في هذه اللحظة، ودون تروٍّ مديد، هو أن أعلى اهتمامات الفكر أن يلتقط هذا: المايحدث، أن يفوز به؛ يعني أن يكاد يفوز ﺑ «استشعار» الكينونة إذن؛ فالفكر غايته العليا في مقاربة الكينونة. وقد لا يكون ثَمة من طريق آخر نحو تلك الغاية، سوى «تأشيرة» المايحدث نفسه. ألا يمكن التمعين هنا كما يلي: بقدر ما يحقق الفكر ذاته بما يرجع إليه وحده، فإنه يصير تحت طائلة المايحدث بالنسبة لذاته، إلى درجة أن الكينونة قد تغدو أقرب إليه من ذات نفسه تلك؟ لكن مقاربة الكينونة، كالفوز ببعض إشارات لها عنها، وهي منفلتة هاربة؛ كالفكر الذي كلما استحوذ على بعض حقه استشعر ما لم يتوفر له بعدُ من حق؛ لذلك يحتاج كلٌّ من الفكر والكينونة إلى سند ما في الواقع، بحيث لا يحولهما الواقع إلى بعض أشيائه العادية، كما أن الفكر والكينونة لا يجردان الواقع من فجائيته وفوريته. وهنا يبرز المايحدث باعتباره يضم هذه التخوم التي تحمي في وقت واحد، من التجريد المطلق، ومن عبثية الواقع المنسربة في كل اتجاه.

كذلك فإن المايحدث بالنسبة للكائن، هو الكائن عينه، وقد صار على علاقة ما بكلٍّ من الفكر والكينونة معًا. إن دخول المايحدث إلى الساحة التي يصطف فيها كلٌّ من الفكر والكينونة والكائن، هو بمثابة الإتيان دفعة واحدة ببرهان الوجود مقابل العدم، الحدوث مقابل اللاحدوث. إنه توريط النص وإقحامه فيما لا نص له، ولا قدرة له على التنصيص بدون القفزة الشهيرة التي تقحم اللامتناهي نفسه تحت جلباب المتناهي، وتجعله معرضًا حقًّا لخطر الحدوث.

والمايحدث قد يكون أقرب إلى الدزاين. لكنه يفترق عنه من حيث إن الدزاين يحتاج إلى المايحدث ليسرد قصصه على العالمين؛ فهو من دونه قد يعبر بأطراف العالم بدون حس. لكن المايحدث يجلب إلى الدزاين صخب الوجود. وهكذا يعود الفلسفي كائنًا وجوديًّا. فالمايحدث هو تقاطع الأسلوب مع التدوين في حركته المتباطئة، إنه يمنح الدزاين جانب الوجه، البروفيل. ولكنه في الوقت عينه يفعِّل النهائي إلى متناهٍ. إنه يشخصن كيف أن الكائن في العالم، هو الكائن تلقاء الموت، وأنه ليس ثَمة من وجود مشروع في العالم إلا وهو يتحدى النهاية أصلًا. لذلك فالكائن العالمي كائن مائت إلى الدرجة التي يغدو له، في كل لحظة، شأن جديد مع الحياة، وفي الحياة. فالمايحدث أعنف ما يحدثه هو تلقاء التهديد الدائم بوقف الحدوث، في كل لحظة. والمايحدث يثبت كل لحظة كذلك، أن الكائن في العالم، هو كائن الإمكان الدائم، هو ديمومة الإمكانيات اللامتناهية، هو ذلك النقص الهائل الذي لا يكافئه أي تشكيل؛ لأنه أصلًا قوة على التشكيل؛ لأنه قوة قووية خالصة، قدرة لا محدودة على التشكيل الذي لا يعتقله كله أي تشكيل. كأنما المايحدث هو نص على الحرية، وكل ما ينتجه هو تناص على الأصل؛ مما يجعل التدوين فعلًا لا تنتهي كتابته. وذلك لأن كل عبارة في تدوين المايحدث، تواجه نهايتها مع آخر حرف فيها، كحد لها يأتي بعده [اللامكتوب]، اللامحدود، ذلك السلب شبه المطلق، حسب الاصطلاح الهيغلي.

فالمنتهي لا يجوز تمعينه من كونه يذكر باللامنتهي أو أنه يفتح عليه. ولكنه يبلغ أوج تمعينه عندما يجلبه إلى تناهيه نفسه، محدثًا فيه ثَمة شرخًا أو صدعًا لا أكثر. فالموت ليس الحد الأخير للكائن، كما يلمح هيدغر، بل هو الحد الذي يتدخل في سلسلة الآنات من زمن الكائن جميعها. إنه كالبدء البدئي الذي يسيطر على مختلف الآنات اللاحقة به حتى النهاية. ذلك أن المتناهي هو فعل تناهٍ متمادٍ منذ البدء البدئي. لا لأنه يحمل موته على عاتقه، أو يصاحبه كرفيق درب دائم، بل لأنه «يُحَدثن» الموت، يقارب مقدمه كأنه واقع الآن وهنا؛ لأن مقاربة الموت، في محيط الكائن وفي مركزه معًا، تمنحه الحرية الكاملة حتى تجاه ذاته؛ إذ ليس له تلك الذات بمعنى الأقنوم أو الهوية الثابتة. ذاك ما يعنيه أن الكائن تلقاء الموت ينقله، بل يقذف به إلى حمأة المايحدث حيث هناك يصير الكائن إمكانية الإمكانية. فالمايحدث أمام الموت، أمام استحالة الإمكانية، يكتشف أنه هو وحده إمكانية الإمكانية. إنه خطره الأعظم؛ لأنه حريته المطلقة حتى من تلقاء ذاته، التي لن تصير دائمًا ذاتًا أبدًا، والتي سيفقدها حين الموت.

والكائن أمام الموت، هو الكائن فيه مقدمًا. فالمايحدث يرعى هذه الحقيقة؛ إذ لا يدع الكائن في حال من انتظار الموت، بل يورطه منذ البدء، باستدعائه إلى صميم المايحدث. وهو هناك بدون أية أغلفة أو تعاويذ أو قداديس تخفي وجهه الأصلي، أو تخفف مثوله. حيثما المايحدث صيرورة نفسه، سابحًا في/ومتلاطمًا مع أعاصير من الإمكانيات، فالموت وحده هو المثول الثابت، يلوح على تخوم الإمكانيات، يصوغها ضمن حدودها، جاعلًا من حد الواحدة بمثابة موت لها، وحياة لإمكانية أخرى لم تولد بعد.

لا يكفي مع هيدغر اصطفاف اللوحة: الكائن أمام الموت. لا بد من قلبها من مجرد اصطفاف ألوان وخطوط وأجواء، إلى سمفونية بركانية من التكوين والتفكيك. إذن لا بد أن يداهمها المايحدث، يضعها دائمًا على شفا التشكيل، دون أن يأسرها أي تشكيل. فلا مجال أمامها إلا أن تأتي بأعلى إمكانية على التشكيل الفذ الذي يحمي من خطر الدمار الشامل، ويتصالح معه في آن، ريثما يداهمه ما هو الأخطر. ذلك أن الكائن المحكوم بالانقذاف إلى قاع العالم، دونما أية برمجة ذاتية تحميه، عليه في كل لحظة أن يبتكر برنامجه الخاص، ويشرع في الخلاص منه في ذات اللحظة. والمايحدث لا يخلق الحدث. لكنه يؤشر عليه لينفلت من إشارته تلك إلى سواه. والحلقة المفرغة هنا هي، كما في أي مكان ذروي آخر، من التعامل مع منطق القوة القووية؛ إذ المقصود أن يجيء الحدث ذاتي التكثيف، بما يؤهله إلى مصادفة المايحدث، لعله قد يتم الاعتراف به، والتأشير عليه. لن يتحقق هذا إلا كما لو كان المايحدث نفسه قد خالط ذلك الحدث مسبقًا بطريقة ما، ورشَّحه لاختباره النادر، وأدخله في نصه.

كل ما يحمي من خطر الموت يحول الإنسان إلى كائن مدجن أولًا عند ذاته. هكذا يفر الدزاين إلى أشكال الوجود الغُفل من الاسم والوجه. فجأة يغدو المايحدث فاقدًا الأرضية والانتماء. يدخل اللسان الفرد تحت اللسان العام. يصير ضمير الأنا المتكلم صيغة مختزلة عن ضمير اﻟ «هم». الغائبون. والغائبون هم المستمرون، بينما الفرد (الفاني) أصلًا، يفتقد فنائيته في كنف الكل، الغائب عن المايحدث، والحاضر فقط بالنسبة للموت؛ لأن «الكل» لا يموت، وكل رهان الكل هو استلاب الكائن موته الخاص. وعند ذلك لا يتبقى من موت الكائن إلا فناؤه العضوي. أما الموت كإمكانية للإمكانية، كمقدم في سياق الحياة نفسها، فإن «الأقنمة» تتكفل بإغراقه تحت العموميات. وبذلك يتم استلاب الكائن أساس إمكانياته. يُحبط سلفًا عن أن تكون له مغامرة وجود، في تخوم الكينونة.

ولكن كيف يكون الموت مصدرًا لأعلى الإمكانيات على الوجود، وهو الذي يضع الحد الأخير لأي وجود؟ ذلك أن الموت في عمق الحياة، ينجلي هو نفسه عن أخص إمكانية للفرد، عن إطلاقيتها وعدم نسبيتها، وعن استحالة تجنبها أو تجاوزها. إنها الذروة الأخيرة للمايحدث التي تليها هاوية الصمت النهائي، حتى تكاد تغدو هي كينونة الكائن؛ لأنها تجسِّد اللحظة الفريدة التي يمسي فيها وجود الكائن هو عين جوهره، ملتحمًا التحامًا مطلقًا بماهيته، التي هي تناهيه.

وكل ما يحجب عن الكائن هذه الحقيقة، يساهم في تضليله وإبعاده عن ماهيته؛ لا يُبقي للكائن إلا موته العضوي، الذي يساوي بينه وبين بقية الكائنات الحية. فالموت هو المايحدث، شرط أن يكون موتي الخاص. وعند ذلك فحسب أخرج من البرنامج العام للحي. «فالتقدم في الإمكانية اللانسبية يحض الكائن المتقدم على أن تكون له الإمكانية بذاته، وانطلاقًا من ذاته، في إنجاز أخص ما لديه من الكينونة». فالكائن الوحيد المائت، هو الذي يعرف أنه يموت؛ ذلك أن كل أفعاله إنما تحمل طابع موته المتقدم معه، منذ بداية الطريق، هو «المايحدث»، هو المرشح للحدوث الاستثنائي: إنه لا يدخل إلى العالم، لا يجلب الكينونة فحسب، ولكنه يأتي إليه بالاختلاف الحاسم عن بقية الكائنات؛ ومن ثَم بالاختلاف النوعي، فالفردي، ثم بالاختلاف في الفرد عينه، بما يكوِّنه في كل لحظة، عما هو كائنه من قبل. إنه كائن المايحدث [الوحيد] في الكون. أما كل ما عداه من الكائنات الأخرى، فإن كل نوع منها عبارة عن برنامج مسجل في الخلية الأولى من عضوية كل فرد، أو مفردة منها.
فالمايحدث نقلة، انزياح من الحي إلى الكائن، من الحدث إلى المايحدث، من وضع خارج اللافكري الفكري، إلى وضع بين حدَّي العلاقة تلك. فالحياة ليست سوى مناسبة المايحدث، تقدم مادة اللوحة. أما اللوحة ذاتها فصناعة موقوفة على المايحدث. إنها أرض الكل، لكنها المحل المختار الخاص بالكائن الذي لا يقنع بمجرد الحياة، ولا يستسلم إلى مجرد الموت. والحياة تُضفي تخصيصًا على الكينونة، ولكن بعد أن تدخل تحت شمولية الكينونة. فالحياة تُعرَّف أولًا بأنها كائنة، قبل أن تُعرف نفسها. من هنا، ليس الموت هو نقيض الحياة فحسب، لكنه يدخل تحت خانة العدم مقابل الكينونة. فالموت وجوديًّا، كينونيًّا، لا يأتي حدًّا بعد الحياة فحسب، لكنه يضعها هي عينها تحت طائلة ما هو أشمل منها: جدلية الكينونة والعدم. كل هذه الفروقات الدقيقة هي من عدة المايحدث، مما يساعده على تشكيل معاييره/خاصيته، دون أية معيارية أخرى سابقة عليه. ذلك أنه يقع دائمًا على حدود التمفصل النادر بين الحياة ومفرداتها العضوية واليومية من جهة، وبين أمكنة غير محدودة تشغلها مفاهيم ملتبسة، من نوع الكائن، الكينونة، العدم. كأن مفردة الحياة أو الحي، لا تعيش بذاتها، وإنما تحتاج إلى محك يتجاوزها. والبعض يقول عنه إنه صوت يُدوي في داخلها، ولا يصدر عنها. وقد يكون صوت الوجدان، لكنه ليس الوجدان الأخلاقي؛ فهو لا يحدد الخير أو الشر، ولكنه دعوة للحي أن يكون. إنه نداء الكينونة، ولا محل لتصويته إلا وجدان الكائن عينه، كما لو أن الكينونة عينها تقع على مرمى وعيه وظنونه. ولذلك وقع الخطأ التاريخي، عندما اعتقد الإنسان أنه لا بد من تجسيد حامل مستقل لهذا الصوت. وقد أعطاه تسميات مبهمة، وصولًا إلى ذروة الأسماء: الله وصفاته.

ولقد حاولت مؤسسة الدين أن تشغل مكان الصدارة من المايحدث التاريخي، وأن تقوده، وتشرعنه. لكن أهمية الدين تكشف في الحقيقة، عن أولوية هذا المايحدث الذي يدفع الموجود إلى عدم الاكتفاء بوجوده، وطلب التجاوز، نحو اللامسمى. هذا الذي له صوت يدوي دائمًا في العمق، لكنه يأتي من لا جهة؛ إذن كل مؤسسة في العادة هي ترجمة محدودة عن موضوعها؛ وقد تكون مجرد برنامج، يحولها إلى ممارسة معينة. لكن صوت الكينونة في عمق الكائن صامت وهاجس، ولا يكاد يقول ما هو لفظي محدد، إنه دعوة تفصل الحي عن حياته فجأة، وتسبغ عليها شعور الغربة والغرابة. يكتشف في لحظة أن كل ما يمتلكه لا يحقق ملكيته لشيء. إنه خاسر في كل تجارة، ومحبط إثر كل مكسب. لكنه لا فكاك له بما هو فيه وعليه. قد يكبت صوت الصمت في داخله، لكنه لا يلغيه. هناك جانب منه لا يحيا حياته. ليس ذلك مجرد التعبير النفسي عن النقص، فالنقص وارد دائمًا، كلياني، وأعنف من أن تختصره أحاسيس نفسية. فالكائن المنخرط في هم المايحدث، يمزقه شعور مُمضٌّ بما يمكنه أن يحدثه ويفعله، ولكن لأمر ما، يُحال بينه وبين الفعل، أو بين أن يأتي الفعل كما يتصوره في الأقل، فينخرط مع المايحدث فيما لم يحدث بعد. فالعيش على تخوم الأشياء دائمًا، وليس في مضمونها المستحيل، يؤسس الحرية بدون أساس، يجعلها معلقة فوق الأفعال الناطقة باسمها، دون أمل حقيقي بالتطابق التام معها.

كل حياة يخالطها الموت في كل لحظة. لا يقف في انتظارها، في نهاية الطريق. ما ينتظرها هناك ليس سوى التحلل العضوي فحسب. ولأن الموت يصعد طريق الحياة من نهايته، يتقدم معاكسًا تيارها ومخالطًا له دائمًا، تغدو مشكلة الإنسان ألا يحفظ حياته فحسب، بل أن يتدبر أمر وجوده بالذات. فماذا لديه إلا تلك الحياة، التي مُنحت له دون إرادة منه، وليس له إلا أن يمتطي متنها، مغامرًا فيها وبها، ومن أجل الفوز بما هو مدين له، هذا الصوت الوجداني الصامت، الذي لا يكف عن مطالبته بما لا يعرفه، لكنه يحس أن له ثَمة مسئولية فيه وعنه. كأنه دين حقيقي، لا تقدير لحجمه، ولا هوية لصاحبه: (من هو الدائن؟) لكنه جاثم تمامًا على صدر الكائن. وتلك هي واقعته الأولى والأخيرة. والمعروف في هذه العلاقة الالتباسية، هو المدين وحده. وهو هذا الحي، المطالب باسم حياته تلك عينها، بالانزياح نحو أن يغدو ليس الحي فقط، بل الكائن. تلك المسافة بين الحي والكائن هي فرصة الاستثناء الفريدة، الانعتاق من حتمية الحياة، والانطلاق مع مغامرة الكينونة، في اجتراح لغز الكينونة، والمشاركة في نظام لغزيته، في ممارسته. لا يتحقق ذلك إلا بحركة ارتجاع نحو الحياة، والإتيان ببعض لغز الكينونة إلى صميمها، والانهمام بهذه المهمة الفريدة كليًّا، حتى اللحظة التي تغدو فيها الحياة مختلفة عن نفسها. ها هنا يصبح المايحدث هو الكائن عينه، مشدودًا بين الحياة والكينونة فوق هاوية تهدد الأولى بالموت، والثانية بالعدم.

لكن ليست الهاوية معطاة دائمًا. وصوت الدائن في عمق الكائن ليس واضحًا أبدًا، ولا صمته محَسًّا به، كهمٍّ غير محدود، كدين لدائن مجهول، ويظل رابضًا على الصدر. أغرب ما في هذا الدَّين أنه قابل حقًّا للتشكيل الأنطولوجي. يصعد من عامية الحالة، إلى ندرتها المعيارية اللامعيارية. ذلك أن الاعتراف بالدَّين المجهول ينطوي على معاناتين متضامنتين، تؤدي إحداهما إلى الأخرى؛ معاناة النقص، ومعاناة المسئولية. فالحي الذي ينقصه الوجود، يعانيه كنقص غامض، من ناحية، وينوء على كاهله كمسئولية من ناحية أخرى. بالمقابل، فإن أشياء الحياة اليومية لا تعوض هذا النقص، بقدر ما تزيفه، أو تُدخله في حلقات التحليل النفسي، وتُدرجه تحت مقولات الحراك المجتمعي. إنه نقص المحدود باللامحدود، شرط أن يُفهم التلفظ كيفًا أو كيفيةً خالصة.

وإذ يتوقف الحي عند حدود آلته الحيوية، فلا يمكن أن يفوز بقلق اللامحدد. لا بد أن يأتي الحي كإنسان إلى حياته عينها، بما يُحدث فيها صدعًا، شرخًا، ثقبًا ما في آلتها المحكمة. عند ذلك فقط تقع الآلة تحت طائلة المراجعة الشاملة. ويشرع الحي في النداء على ما ينقصه كحي، عن الكائن. في هذه اللحظة يقع الاختلاف في الحي، ينبت منه الإنسان. وينطلق على درب صيرورته كائنًا. وهي صيرورة ليست منضبطة سلفًا، لا تملك برنامجها في خليتها الأولى؛ لذلك قلنا ليس بين الحي والكائن تكامل، بل انقطاع وهاوية حقيقية. وإن الانزياح بين ضفتَي الهاوية يجعل المايحدث بينهما لاعبًا بهلوانيًّا، لا يمكنه أن يكون نيتشويًّا وزرادشتيًّا تمامًا.
أول فارق بين الحي والكائن، أن الثاني يتمنع بما يشبه ذاتًا، ما إن يسعى إلى التعرف على نفسه كحي مختلف عن الأحياء. ذلك هو الفارق عينه بين الآلة الحية (ديكارت) والدزاين (هيدغر). صحيح أن الكوجيتو الديكارتي كان أول إشارة لوضع الذات لنفسها وضعًا أنطولوجيًّا فكريًّا في آن. لكن الدزاين هو الذي عليه أن يكسر من شمولية هذه الذات، أن يمنحها فردنتها، أن يكشف في كمالها ما ينقص هذا الكمال؛ مما يحيل الكمال عينه إلى المشروع الناقص باستمرار، المتمثل في حادثة: انقذاف الكائن إلى العالم، معزولًا، ناقصًا دائمًا، غير معَد سلفًا لأي أقنوم، غير مبرمج خلويًّا، ومقدمًا، إلا في سياق النقص والبحث عن الهوية بلا جدوى. فهو الكائن، الوحيد من بقية الأحياء، ونكرر هذا دائمًا، المحكوم بالحرية في فطرة وجوده بالذات، وليس بالاكتساب، لكن حريته تلك تشبه عدم وجوده، بل لولا ذلك العدم المتنامي موازيًا ومتداخلًا مع وجوده، لما أمكنه أن يفعل شيئًا بجسده، ولا في العالم من حوله.

وإن إخفاء هذا العدم، وردم النقص بالأقنمة العامة، هو الذي يساهم في قتل تلك الحرية في صيغة وجودها، المعبر عنها كوجود بالفطرة؛ ويحدث ذلك من أجل أقنمتها عن طريق الاكتساب؛ أي افتراض حفنات وشظايا من فضلات وجود الآخرين. إن قتل حرية الفطرة، واصطناع حرية الاكتساب، يدمر الامتياز الوحيد الذي يتمتع به الحي الإنسان، أي قدرته على إبداع كائنه الناقص؛ فيقسره على التراجع من مشروع الكائن غير المتكون بعد، الموعود بالمجهول كله أمامه، إلى مجرد الحي المحدود ببرنامجه العضوي وامتداده إلى برنامج المدنية، الأقنمة فيما بعد.

كل التعارض بين الحي والكائن هو جهوز الأول، ولاجهوزية الثاني على الإطلاق. وقد أثبت التاريخ التكويني للإنسان، هو أن يأتي كالحد الثالث بين الاثنين أو فوقهما معًا. فهو الحي وما سواه كذلك. هذا الماسواه، يحمله كعبء، كدَين لما لا يعرفه بعد. يبدأ أولًا بمعرفة موته كحد أخير لحياته، ومعها يشرع في انتزاع خصوصيته. ولولا هذا الوجود تلقاء الموت، لما استطاع أن يصوغ خصوصيته؛ لأن الموت أخص حادثة رغم عموميته وشموليته لكل الأحياء (الموت موتي، ولن أحدِّث عنه أحدًا، بعدي).

طريق الإنسان من الحي الذي فيه، إلى الكائن الذي لا يعرفه بعد، يتنازعه كلٌّ من الفكري والعقلي. فالأول يحدد هذا الطريق كالمجهول الأهم، بحيث يكون على كل فرد أن يكتشفه وينحته كما لو كان هو أول الطرق، وصاحبه هو أول السائرين عليه؛ لأن ذلك «الطريق» لن يكون كذلك أبدًا، لن يكون نفسه. في كل خطوة لا ينكشف لغزه أكثر، بقدر ما يزداد تلغيزه. وأهم انكشافات تلغيزه، أنه ليس طريقًا خطيًّا متقدمًا. كما لا يمكن تجاوز بدايته؛ لأنها تظل حاضرة متحكمة في كل نقطة تليها، إلى أن تصل إلى الغاية، حيثما تكاد تلقى نفسها بالذات؛ لأن الطريق دائري، كل نقطة فيه تصلح للبدء كما للانتهاء؛ ولذلك فإن الفكري يُصر على أنه ليس ثَمة طريق. وإذا وُجد، فهو كله في بدايته، في البدئي منه. وهنا في موقع البدئي يتمترس الفكري ولا يتزحزح عنه. أما الطريق نفسه فلن يكون الفكري مسئولًا عنه، إلا بالقدر الذي يحمل فيه مسالكه معه عند كل تقاطعاته وانعطافاته، ما هو بدئيته. ولكن كيف يحمله؟ إنه بالأحرى يتحمله كعبء، يتعاطاه كدَين. يقضي العمر إيفاءً له وبه، كما لو صار أعمارًا لا حد لها.

أما العقلي فهو الذي يفترض أن كل الدروب قد تم شقها وتعبيدها، وأنه بالتالي ليس على الحي إلا أن يتأهل بما تأهل به الجميع، وأن يسلك حسب الأقانيم المعلنة والمطبقة. إن العقلي لا يعد الحي إلا بميراث كل الأحياء السابقين والمرافقين. أما الفكري فإنه وحده الذي يعد بالتراث المجهول، الذي لم يبنِه أحدٌ بعد. إن العقلي مئونة الحي ليحفظ مجرد حياته. بينما الفكري المبشر بالكائن، الواعد بالمجهول القادم المنسحب، يكشف للحي أن لا شيء يحميه، وأنه موعود بالنار الكامنة فيه، وأنه حتى يتمكن من أن يؤججها، سيكون هو أول وقيدها، وأول المنيرين، والمستنيرين بها، والمحترقين فيها طبعًا. الكائن المدين للمجهول، يترجمه العقلي الغربي إلى تقنية التكنولوجيا، محاصرًا الفكري خارجه. ويؤوله، أو كما كان أوَّله مرةً العقل الغربي بالأقنمة الأخلاقية كنظام أنظمة معرفية، حلقي، يسد جميع المنافذ أمام الفكري. فالفكري، لأنه يعلن دَين الكينونة على الإنسانية، فقد ظل مطرودًا أو محاصرًا خارج ما تسميه: مدنيتها، وتاريخها الممزق بين الدين، أو التكنولوجيا.

الإنسان ذلك الكائن المجهول

هل يمكن القول إن الإنسان هو الحلقة المتوسطة بين حلقتَي الحي والكائن؟ على ألا تؤخذ الحلقة بالدلالة التطورية، ولا يُفهم هذا الاصطفاف ضمن السياق الباليوتولوجي٢ التاريخي. فإذا كان كلٌّ من الحي والإنسان أو الإنساني قد احتواهما هذا النوع من الاصطفاف، فإنه يتبقى «الكائن» الذي لم نعرفه بعد. أو بالأحرى نظل نتابع ترجيحاته، مجهولة بالرغم من خصب الترميز الهائل الذي أدخله، وتدخَّل عبره، في مختلف انعطافات الاختلاف الذي ينطوي عليه كلٌّ من التشكيلين، الحي والإنساني، اللذين لا ينغلقان تمامًا على تشكل نهائي. لدى الإنسان يلتقي الحي والكائن، لقاءً يغيرهما معًا، ويبرز الإنساني نفسه مختلفًا بالنسبة لنفسه. هذا بالرغم من التيار الأنثروبولوجي الخصب الذي حاول، ولا يزال يحاول أن يراكم من المعلومات والتوصيفات اللامتناهية، عسى يمكنها أن تبني تاريخ الاتصال والانفصال بين الحي والإنسان، تمهيدًا لدعم أطروحة القطيعة بين الحيواني والإنساني، التي تؤسس في الوقت عينه لمستقبل الاختلاف؛ أي مستقبل تاريخ الإنسان، كاختلاف مُتنامٍ في الاختلاف.
لكن إذا كان الإنسي l’anthropos هو الحاضر، كما الحيواني هو الحاضر معه ومقابله، وقبله، فإن «الكائن» وحده هو اللاحاضر. ذلك بالرغم، ونكرر ذلك، أن هذه الثنائية لم تكن متواصلة/متفاصلة، استقطابية أو تكاملية، إلا لأن ثَمة «دينًا» آخر كان عليها أن تدفعه، بما يمكنها، من حين إلى آخر ومن فرصة إلى أخرى، أن تترك الكائن يأتي حجرها، وينسحب في ذات الآن، معلنًا عن تأرجحه ذاك، بما يخلفه معه، وبعده، من زاد ثمين من الترميزات التي كوَّنت تاريخًا مختلفًا، لتشكيل مختلف، اسمه: الثقافي.

كل أزمة التمعين أو التأويل الراهنة، أنه بالرغم من اندراج كلٍّ من الحيواني والإنسي تحت مقولة «الكائن» كتصنيف منطقي كوسمولوجي، إلا أن هذا الاندراج ينغلق إلى درجة تمنع على الكائن، التحول من مجرد مقولة تصنيفية إلى كينونة أنطولوجية. فالعقلي يستولي على المعرفي بما يحتكره لحسابه فقط؛ يحاصر الكينوني خارج حلقته. والانحصار خارجيًّا يعادل ويترجم الانغلاق داخليًّا، يفوزان معًا بمنع استشعار أحدهما بالآخر. ليس الفكري بما يرجع إليه وحده هو الغائب فحسب، بل اللافكري كذلك، بما يرجع إليه (كاستشعار بالآخر).

ولقد جرت عادة التمعين أن ينصبَّ الاهتمام على التشكيل الازدواجي للإنسان، ما بين إنسانيته وحيوانيته. لكن قلما جرى التنبيه إلى الحد الثالث الآخر: الكائن، الذي ليس في النهاية إلا كينونته، إلا فكريته، التي هي موضوع فكره الدائم … فالكائن الذي يقبل أن يكون مقعدًا لكلٍّ من الحيواني والإنساني؛ إذ يمنحهما معًا صفة الوجود، فإنه يظل وحده من لا مقعد له. فالحيواني/الإنساني، يمتلكان تاريخيًّا عمق الماضي للكائن في العالم. لكن ليس أمرًا محتومًا أن يؤديا إلى الكائن، كمرحلة عليا في تطور ما يُسمى تاريخ الحياة على الأرض. تبرز هذه الإشكالية عبر لحظة الحاضر. فالحاضر أسَّس تقليديًّا فكرة الزمان فلسفيًّا وعلميًّا ومجتمعيًّا. ذلك أن اللحظة الراهنة هي وحدها تحت العين واليد في آن، رغم ما تتميز به من انسيابية مطلقة. قد أقول: الآن، والآن عينها تفر. لكنني أقدر، كل آن، أن أعين الآن، وتلك هي لحظة الثبات الوحيدة، والموشكة دائمًا على الانزلاق. إن الزمان ينزلق، لكن الوقت، ينتزع منه برنامج الساعة، الذي بدونه لم تقم الحضارة. ومع ذلك فإن العلاقة بين الوقت، التوقيت؛ وبين الزمان، التزمين، تدخل تحت علاقة المتحقق باللامتحقق. فإن إمكانية التوقيت بكل إنتاجاتها التدوينية، التي هي إمكانية المعرفة والبناء والعلم، وكل ما تؤشر عليه عالمية التشكيل الإنساني، هذه الإمكانية للتوقيت، ليس من الضروري أن تفتح على إمكانية الزمان أو التزمين، بل كثيرًا ما وقفت الأولى عقبة في وجه استشعار الثانية. من هنا هذا التباعد المتمادي بين أقنمة الحيواني الإنساني، ولاقابلية الأقنمة للكائن. ليس ذلك لأن زمان الكائن لا يعرف أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل، لا صلة له بتوقيت الساعة أو الآلة أو الإنسان، وليس ذلك أيضًا لأن زمان الكائن سرمدي، كسرمد صوفي أو تيولوجي، بل لأنه بالأحرى زمان سديمي  chaotique. كل صلة به من قِبل زمان التوقيت، قد تخدش سديميته قليلًا أو كثيرًا. وقد تعود منه وهي ملونة به. تغدو سديمانية. تخترق توقيت الساعة. تُربك عقاربها للحظة. لكنها قد تمسي كافية أحيانًا لإحداث ومضة قطيعة مع توقيت الساعة. وفجأة يطلق اللسان صرخته: هكذا أكون إذن؟! هذا هو المايحدث حقًّا؟!
صرخة تعلن النصر، على طريقة أرخميدس: «وجدتها، وجدتها!» ولكنها صرخة محفوفة برنة يأس، في الوقت عينه. إنه فوز الوقت عينه. إنه فوز الوقت الضائع بمفصلة وامضة مع كلية الزمان، انزياح من وقت تحت عقارب الساعة، تحت اليد، إلى زمان اللاامتلاك، الذي مع ذلك يجعل الحي/الإنسي، مفعمًا دفعة واحدة بالوجود، والذي (رغم ذلك أيضًا) هو موشك على اللاوجود. إنه أقرب إلى الكائن، بما يجعله يدرك كم هو بعيد عنه فعلًا. تلك هي درامية المايحدث. إنه تَجوهُر المتناهي على ضوء الافتقار المتمادي إلى متناهٍ لا متناهٍ. ليس ذلك مجرد دعوة متأزمة إلى التعالي نحو الذروة على طريقة اللاهوتيين والأخلاقيين بقدر ما هو تعليق الهاوية نفسها بأطراف الأجنحة المحلقة فوقها، دونما أن تتساقط فيها.

إن العلاقة بين وقت تحت اليد مع زمان منفتح على السديم، لا تشبه العلاقة بين لوحة وإطارها، بل بين اللوحة والشكل الخالص. كما السمفونية مع الموسيقى الخالصة، كما القصيدة مع شعري الشعر. تلك هي في الواقع (حالة ما) تشبه إمكانية الاستحالة، واستحالة الإمكانية. ذلك أن مبادرة التمفصل بين المتناهي واللامتناهي لا تأتي من الثاني نحو الأول، كما تتصور الميتافيزيقا التقليدية، بل إن المتناهي عينه، وليس أحدًا سواه، هو المحكوم وحده باختراع اللامتناهي، واجتذابه إلى التمفصل معه، من أجل إعادة اختراع تناهيه كذلك، وهو في كنفه. فهي ليست استحالة الإمكانية، ولكنها إمكانية الإمكانية. بكلمة واحدة: الحرية.

لكنها ليست تلك الحرية التي تحرف علاقة الكائن في العالم، إلى مجرد تملك أحدهما من الآخر. ذلك خطأ الميتافيزيقا الغربية الأصلي، منذ أن فرضت على هذه المقولة، صيغة الثنائية بين قطبين؛ في حين أنها معطًى أول، وتجربة فورية. إن تفكرها كثنائية يفترض قيام صراع النفي المتبادل، من أجل التملك الواحدي من الاثنين معًا. فالعقل الغربي وقف بالمرصاد للفكري منذ البداية؛ أي منذ أن أوقع الانفصام في عبارة الكائن في العالم، وفرض طريقًا وحيدًا لإعادة الوحدة بينهما، لا يكون إلا بإلغاء الاختلاف: إما بإعدام الآخر، أو بامتلاكه. يصير الكائن «ضد» أو «مقابل» العالم.

ما يرجع إلى الفكر وحده، يتجلى أساسًا في إرجاع البداية التاريخانية إلى «البدئي» الأنطولوجي؛ يخترق التوقيت/الساعة، إلى الزمان الزمني، الذي لا يوصف له إلا بذاته. يرد الانحراف الواقع على نص البدئي في معطى الفورية المستمرة، الذي بدونه يفقد الحي/الإنسي انفتاحه، أو الوعد بما فيه من ذاتي الانفتاح على الكائن. وأكثر من ذلك فالإرادوية الطاغية على أقنوم الحي/الإنسي، تطارد نداءات الكائن، وتحاصرها دائمًا، فيما هو خارج عنها، بطريقة تلغي عملية الاختراق من أساسها الوجودي عينه، فلا يتوصل هذا التلفظ: الحي/الإنسي إلى مجرد الدنو فحسب من حد اللافكري مواجهًا للفكري. معنى ذلك استحالة أن يفوز الكائن في العالم بنصه الفوري. وما تزدحم به أوراق التاريخ، البيضاء منها أكثر من السوداء، ليس هو جدل أوقات الساعة مع الزمان الخالص، بل جدل الساعات داخل توقيتها الواحد.

معنى هذا الكلام أن تاريخ الإرادوية التمركزية كان تعطيلًا استراتيجيًّا متماديًا، لإنتاجية ما يُسمى بكبرى الترميزات، من دلالاتها الفورية وتضخيمها إلى أقانيم انفرادية استفرادية في مواجهة الآخر، العالم. فإن ترميزات من مثل: العقل، الذات، القوم، الوطن، تنقلب من تجليات أو إرهاصات بمجيء الكائن وتعاطيه بواسطتها، مع العالم، بما يلغونه أكثر فأكثر، ويُعده بذلك ليسكن الكائن فيه شعريًّا، تنقلب تلك الترميزات إلى أعمدة جهنمية لمشروع المشاريع الإرادوية الأكبر، ذاتي التصحير، ذاتي الانتكاب؛ عدمية العدمية، ومقابل الكائن، ذاتي الإمكان. فالحي/الإنسي ليس مقطوع الصلة عن الكائن، وليس هو قاعدة أنطولوجية له، أو سبقًا تاريخيًّا أو سلاليًّا بالنسبة له. فالحي/الإنسي، ينعم دائمًا بنوع من قربى مع الكائن. هو والكائن معًا ينعمان بالوجود في كنف الكينونة؛ إذ ليس ممكنًا تلفظ أحدهما دون استحضار الآخر. والمشكلة أن الحي/الإنسي، ليس هو كذلك، إلا لأنه ينطوي على ما هو ذاتي الوعد فيه، بلقاء الكينونة. فالتاريخ الباليوتولوجي أعطى الفرصة للحي كيما يتمكن من برنامجه، كما أعطى مثل تلك الفرصة إلى الكائن لينمو من الحي، ومعه، ولكن دون برنامج، بل «بما» يأتي بالبرنامج وسواه في آن واحد.

التقاط الفوري

الإنسان هو الحيز المتسع للحيواني فيه وللإنسي، والمرشح لاستقبال الكائن. صحيح أن الكائن يأتي في بداية العبارة: الحيواني/الإنسي، كما أنه يأتي في الخاتمة؛ إذ لا بد لطرفَي العبارة من أن يحوز كلٌّ منهما عليه. فتأتي لفظة الكائن هنا في البداية، صفة وتصنيفًا لنوع؛ لكنها تغدو خاتمة العبارة، فإنها عندئذٍ تتحول مقعدًا للكينونة. ولذلك فإن التعريف الأرسطي التقليدي الذي يجمع حدَّي العبارة تحت الصيغة التالية: الإنسان حيوان ناطق، لم يتلفظ كلمة كائن، المتضمنة هكذا: الإنسان «كائن» حيوان ناطق. لأنه يفترضها موجودة، وإن لم يصرح عنها. ولسبب أهم كذلك، وهو أن الموضوع يتناول تصنيف الكائنات، وليس كينونتها. لكن «الحيوان الناطق» افترض منذ البداية ثنائية التكوين. وهو من هذه الناحية يأتي تعريفًا يتناول تاريخ النوع عضويًّا (باليو-أنطولوجيًّا) بمعنى الكلمة. فالتعريف حركي وتاريخاني. والقبل والبعد سائدان فيه. والترتيب التلفظي يؤكد أسبقية حد على الآخر، كحقبة معرفية تاريخية. وبذلك فالتعريف ينتمي إلى سجل التحقيب المعرفي، الذي يريد أن يكون موازيًا للتزمين التاريخاني، ومتصاديًا مع آناته. يبقى أن المطروح يتناول إشكالية كيف أن ذلك التلفظ يكتفي بما يتلفظه؛ أم إنه يحيل بطريقة ما، إلى ما لم يتلفظه بعد. فالجانب الحيواني من التلفظ يكاد ينطبق محموله على موضوعه — إذا ما تحدَّثنا لغة المنطق — في حين أن الجانب الإنسي هو الذي يذهب فيه محموله إلى ما هو أبعد من موضوعه. لكن المحمول هنا، أي النطق، إنما هو صفة تلحق بالموصوف. فكيف يمكنها أن تستوعبه، حتى وإن كانت تميزه وحده؟ فالنطق لا يُدخل مجرد الاختلاف فحسب على الحيوان، لكنه يعلن عن مولد اسم علَم، كبير جديد، إنه الكائن إنسانًا، أو بالأحرى الإنسان كائنًا، وهو الاسم المنطلق من الاسم الحيواني الذي عليه أن يعلن اتصاله به في كل لحظة يحاول انفصالًا عنه، عن الأصل الحيواني. بمعنى أن الحيواني ليس مجرد ذاكرة للإنسي، تصله بذاكرة أصل العالم عينه، وليس الإنسي مستقبل الحيواني غير المتعين إلا بقدرته على الاختلاف، كذلك. بل يعني أن ثنائية العبارة، ليست معطًى تطوريًّا وتاريخانيًّا فقط، بل إنها طريقة في قراءة الواحد اختلافيًّا، ولكن من جهة الحد الثاني، وليس من الحد الأول إطلاقًا. فالمحمول هنا ليس تعيينًا للموضوع فحسب، بل إنه مكلفٌ الإتيان به، ملتصقًا باسمه الأصلي، ومتخطيًا إياه بما لا حد له أبدًا، في آن معًا، من اللامسمى بعد.
ليس هذا التلفظ: حيوان ناطق، ليندرج تحت تعيين التعريف الأرسطي (بالجنس والفارق النوعي). فالجنس هنا ليس فرعًا في الشجرة، بل هو الشجرة عينها. إنها الكينونة. لكن الفارق بين التصور المنطقي، والتمعين الأنطولوجي، أن اندراج الكائنات كأنواع تحت الجنس الأشمل، الكينونة، لا يعني استيعاب مساحتها كليًّا. فالكينونة في التصور اليوناني تشمل العالم وما فيه. لكن ليس من الضروري أن يعادل اصطلاح الكوسمولوجيا (الكون الفضائي والأرضي) مفهوم الأنطولوجيا المنفتح على الكينونة. ولذلك فإن تخصيص الحيوان الإنساني بالنطق، لا يعينه كنوع فحسب مندرج بين بقية الأنواع المادية والحية، إنه التخصيص بالأشمل؛ ذلك أن النطق هو حيز الترميز، اللغة، وهو وحده يمد الجسر الذي تأتي منه الكينونة. وما هو الترميز؟ إنه القدرة على التسمية. إنه الاستعاضة عن الأشياء جميعها بكلماتها. هذا التعامل (تسمويًّا)٣ مع/وما بين هذه الكلمات، يُسمى عقلًا ويشتغل تفكيريًّا. كل هذه الخاصيات تنقل الكائن الحي من مجرد برنامج استباقي، يربط سلوكه بما هو دافع في عضويته، ومتجه خارجيًّا نحو «ما هو تحت اليد»، فإن الترميز لا ينقل ظواهر المحيط فحسب، بل يفكر بما يظهر ولا يظهر. إن الترميز لا يترجم الموجود فحسب، بل يساهم في ابتكار ما ليس موجودًا.

فالحيواني موجود في «محيط»، والإنسي يكون في عالم. علاقة الأول بمحيطه منظمة مقدمًا في «برنامج» التقن نوعًا من محيط، بما فيه كنوع، من منبهات، وانتظم في عضوية الحي، حسب ردود الفعل المناسبة، التي في مجموعها تشكل دائرة مغلقة مترابطة من الاستجابات، وتُسمى سلوكًا. فالعضوية عبارة عن تجهيز متكامل لاستقبال نوعية معينة من المنبهات، ترد عليها نوعية أخرى مقابلة من الاستجابات. ومع ذلك فإن هذه الآلة المغلقة المكتفية ببرنامجها (الغريزي) ومحيطها (الطبيعي)، قد يقع لها نوع من اختراق، لا يعود ينفع معه كلٌّ من البرنامج أو المحيط. إذ تغدو الآلة الحية، وقد أصبحت سواها مرة واحدة. يصبح البرنامج ومحيطه نقطة ارتكاز غير ثابتة لما يتجاوزها باستمرار كليًّا، انطلاقًا من هذه الحقيقة: إن الجسدي — هذا الذي كل ما تسلمناه من الحيواني قبلنا، وفينا — هو الكائن الوحيد الذي يتفتح منه فوقه، الفكر الذي يتفكره، هو، وسواه، في وقت واحد. هذا التفكر هو وحده، كذلك ما يقدم استشعارًا بانسحاب الكينونة، كطريقة فذة في التعبير عن حضورها. ومع ذلك يمكن للجسدي أن يبقى خارج هذا الاستشعار، بحيث لا يغيب عنه غياب الكينونة وحده، ولكنه يغيب هو نفسه، كجسدي عن مجمل هذه الجدلية بالذات. أي يمكن للجسدي أن يقضي عمره، كتجسيد للحي، دون أن تكون له صلة (وجودية) بالكينونة. وهذا بالفعل ما يجرد الجسدي عن خصوصيته، أو هويته، ويجعله يدخل في الجسدي العمومي لكل أحد، وليس لأحد بالذات، مما يعيده إلى مجرد الآلة الحية المغلقة على برنامجها العضوي، خاضعة لتوقيت الساعة، خلال عمر محدود ببداية ونهاية.

لكن، يتغير الجسدي كليًّا عندما يرتبط بذات معينة، عندما يغدو جسدًا لي أنا، وليس لسواي. فالجسدي الحي عندئذٍ، يتحمل حياتي. والحياة ليست توقيتًا موضوعيًّا، إنها تأتي بوقتها الخاص إلى الزمان اللامحدود. تحدث في لامحدوديته ثنية معينة، كعلامة تشير: من هنا مر كائن حي ذات مرة، ولن يأتي هو نفسه مرة أخرى. تلك هي عدمية الكائن ووجوديته. عدميته التي تعدم كثرته، لتؤكد ندرته وجوديًّا. ينبثق الكائن، يصير المايحدث، كالومضة، والنقلة في المجهول، ينبثق المايحدث، شفاقًا عند ذاته فحسب، فوق بقية من أضغاث أحداث لا تتناهى؛ يتساوى لديها معلومها ومجهولها. فالجسدي، الذي يصير جسدي أنا دون سواي، يفجر آلتَي الحية التي أعرفها تمامًا، على الكائن الذي لا أعرف منه إلا مجهوله، منذ البدء، ينخرط الجسدي، في معركة انزياحه إلى ما هو خارج حده، ولقد كان خطأ الميتافيزيقا التقليدية — والتصنيفات البيولوجية فيما بعد — «أنها تفكر الإنسان انطلاقًا من حيوانيته، وليس من خلال التوجه إلى إنسانيته» [هيدغر]. فالجسدي ليس الشاهد على الحيواني في الإنسي، إلا من حيث إنه هو الطريقة الوحيدة ليعبر منها أو بواسطتها إلى جوهره، إلى إنسانيته.
التعريف للإنساني بثنائية الحيواني الإنسي فيه، ليس انحرافًا في المفهمة، بقدر ما هو تجنب الاعتراف بوحدة جوهرية غير أقنومية، في حين أن الجسدي كجسدي أنا، هو الذي يوفر استشعارًا فوريًّا بهذه الوحدة الجوهرية؛ لأنه يقدم الحيواني ملتبسًا بالإنسي، والإنسي ملتبسًا بالحيواني، شرط أن يظل محكومًا بالذاتي في وجودي. فالحيواني لم يعد مجرد حالة تكوينية عضوية، ولكنه يصير تكوينًا، ومكونًا بما يحمله من مشروعي الخاص نحو الإنسانية. ليس الإنسي بذرة طارئة ملقاة — وربما كانت كذلك — في تربة الحيواني العام الشامل، إنه ما يأتي بعد انغلاق دائرة الحياة على الحيوان، يأتي من أعماقها، وكأنه يجيء من خارجها، غريبًا عنها كليًّا، ومنتميًا إليها من حيث البداية التاريخانية، لكنه يمتلك بدأه البدئي الخاص به وحده، كأنه خارج السجل المعهود لحلقة الحياة وكائناتها. وذلك لأنه وحده الكائن الفاني، في حين أن كل الحيواني الآخر كائن مكرور، ينطبق عليه التعريف الميتافيزيقي التقليدي، من حيث إن وجوده يطابق ماهيته. أما الإنسي فهو الذي يتحمل انزياح الهوية أو الماهية، إلى حيز الوجود عينه، باعتباره وجودًا فانيًا، ناقصًا دائمًا، فليس ثَمة سبق بين الأقنومين: الوجود، والماهية existentia-exentia؛ إذ إن العبارة المنظمة تقليديًّا على أساس سبق الماهية للوجود، تظل عبارة ميتافيزيقية كذلك، إذا ما تم قلب ذلك الانتظام؛ أي إذا ما سبق الوجود الماهية؛ لكن السؤال الذي يمثله الفكر بما يرجع إليه وحده، هو في كيفية الخروج من شكلانية ذلك النسق، بصرف النظر عن تفسير الجهة بين الحدين داخله. فلقد تصيدت الميتافيزيقا الفكر منذ أرسطو، وحاولت أن تأسره بين قرنَي الإحراج، الذي يتضمنه مأزق الافتراض القبلي، حول أسبقية الماهية للوجود، أو العكس (مع وجودية سارتر)، في حين أن الفكري ينادي على الكينوني، باعتباره هو ما يرجع إليه وحده منذ الأصل. صحيح أن الميتافيزيقا كانت قد ربطت جميع أقانيمها بالكينونة، لكنه كان ربطًا تصنيفيًّا، احتلته ألاعيب المنطق. فالكينوني لا ينزاح نحو الوجودي أو الماهوي إلا من حيث الانتقال من الأوسع تجريديًّا وشمولًا إلى الأقل.
من هنا جاء الاستغناء عن الكينونة، والمضي في نسيانها تدريجيًّا، كلما أوغل «العقل» في تصنيف الكائنات والأشياء، وتثبيت علاقات موضوعية بينها؛ أنتجت فيما بعدُ المنافس الأصلي للفلسفة، العلم. ومع استبعاد الكينوني، أضاع الفكري المزيد من مقومات لغته. تعرض للعدوان الأكبر والأخطر، عندما جرى اختزاله في أقنوم الروح، مع اللاهوتي. ونَصِف ذلك العدوان بالأكبر والأخطر؛ لأنه لم يخترع كلمة الروح فحسب، بل لشدة كثافة هذه الكلمة، فقد تم معها اختراع: الأقنمة بحد ذاتها، كآلة هائلة تقوم على إنتاج الأقانيم، وتفرض عليها علاقاتها الأقنومية فيما بينها، في مختلف حقول المفهمة/القولبة. صار لهذه الآلة اسم جليل هو: العقل. فالروح (اللاهوتي) والعقل (العقلاني)، لم يأتيا مضادين للميتافيزيقا، كما جاء في متون خطابيهما، بقدر ما يوسعان من سلطانها، بحيث تغدو أعظم مدنية مهيمنة عصريًّا، المشروع الثقافي الغربي، ليست سوى الميتافيزيقا عينها، التي لا تزال تتمتع بتلك العبقرية الخارقة، في تجيير كل جديد لصالح قديمها، وتدوير كل فلسفة ثورية عليها، إلى ثورة على عدوها الأصلي: الفكر بما يرجع إليه وحده؛ ولا شك فقد اكتشفت الميتافيزيقا في العقل كما في اللاهوت من قبل، وفيهما معًا دائمًا، وبالتقارب بينهما عبر مسلسل التحقيب المعرفي، اكتشفت أقدر بديل عن الفكر، ينتزع منه جانبه المعرفي، شرط أن يقصي جانبه الآخر: الكينوني. وبذلك تتمكن الميتافيزيقا من الاستمرار بتوظيف المعرفي باسم العقلاني لحسابها، عندما تعزله عن أفق الكينوني، وتسخره هو ذاته كأفضل أداة واعية لهذا العزل، وذلك بجعله يصنع أقنومه ذاته الأكبر كمرجعية نهائية؛ ومن ثَم يشرع في أقنمة مفرداته المنضوية تحت عناوين خطاباته. فالميتافيزيقي يتمكن من استخدام العقلي، بقدر ما يقطعه عن تواصله الطبيعي والمفترض مع الفكري، الذي يضع له حدوده دائمًا. ذلك أن الميتافيزيقي يمكنه أن يضفي على العقلاني هالة اللامتناهي، بتصنيمه؛ يُفقده بذلك تناهيه الخاص وحاجته إلى التجوهر في تناهيه، بما يؤهله للانفتاح على اللامتناهي الأصلي، وبالتالي لانفتاح الكينونة عليه، أو هكذا يمكن التفكر، أحيانًا نادرة.

الخطأ القديم قِدم الميتافيزيقا يجيء من تعريف الإنسان بثنائية الحياة والعقل، رغم أن التعريف النصي المسجل إغريقيًّا، لم يحدد المحمول (اللوغوس)، بالعقل حسب المصطلح السائد فيما بعد، وخاصة منذ حقبة التنوير الأوروبي، بصرف النظر عن التحليل الفيلولوجي للفظة اللوغوس؛ فلا شك أن الفلسفة السابقة على سقراط كانت لا تفرق بين اللوغوس والكينونة. وهذا ما جعل تيار ما بعد الحداثة، من نيتشه إلى هيدغر، يتمسك بالتراث الإغريقي ما قبل السفسطي، باعتباره فكرًا موازيًا ومعادلًا لأسئلة الاستشعار بالكينونة وغيابها. فالكينوني يأتي بالحي واللوغوس معًا؛ ولكن الكائن الموكول إليه تلبية نداء الكينونة، هو الإنسان الذي يتجوهر إنسانيًّا بقدر إحساسه بافتقاره إلى ما لم يكنه بعد، ولم يكوِّنه. هو هذا الذي يكسر حلقة الحي المغلقة عليه، دون أن يقطعها عن موردها الأصلي: الحياة، وكلغة يدعها تتحرك إلى ما لم تكن معَدَّة له من قبل. فالإنسان هو مفاجأة الإنسي فيه للحي فيه دائمًا، وهو ما لا يمكن لثنائية التعريف الميتافيزيقية (الحيوان العاقل) أن تفي بأعبائه الوجودية، إلا إذا أعيد النظر دائمًا في كلية التعريف انطلاقًا من حده الثاني، الذي هو مصدر الاختلاف، والأقرب إلى التذكير بأقنومية لا تنغلق أبدًا. مهمتها الأساسية أن تكسر حلقة الفكرة، وتذكرها باختراق الفكري الذي يتهددها هي وسواها؛ ويحميها في آن من نفسها، من حركة انهيار إلى مجرد أقنوم، بدون ذات النفس.

كل فكرة مهددة بالأقنمة كلما أمعنت في الانقطاع عن الفكري الذي أنتجها، وحاولت ألا تكون إلا شاهدة على نصها فحسب، في حين أن «أصالة» كل نص إنما هي في قدرته على التلويح بما لم ينص عليه بعد، وبما لا يُستوعب بعد، في أي نص آخر. ليست تلك دعوة إلى تعجيز ذاتي الأصل، في التدوين، بل هي ملاحظة كيف أن الإنسي في تعريف الحي/الإنساني، هو من نوع وضع المدون دائمًا، ليس داخل تخومه فحسب، بل فيما هو خارجها كذلك. هي ملاحظة كيف أن عبارة الإنسي لا تنضاف إلى الحيواني، ولا توضع قبالته، لكنها تجعله نصًّا مفتوحًا؛ الإنسي عندما يدخل عبارة تعريفه تلك، يقع عليه عبء تفجير عبارته تلك، وإعادة الفوضى والتداخل إلى حدَّيها، كلما داهمه خطر التفكير بالثنائية. هنا يتبدى الجسدي/الذاتي، طريقة مبتكرة، لا في تجنب ذلك الخطر فحسب، ولكنه أقرب إلى معطى الفورية؛ بحيث لا يقع النظر على جسد إلا ويجيء فيه، ومعه، وفي كليته، ما هو إنسانه، كفرد لا يتطابق في النهاية إلا مع فرده.

بعد ذلك، قد تتقاسم علوم كالفيزيولوجيا والسايكولوجيا وسواها، ذلك الكيان، تحوله إلى موضوع. لكن أية وصفة من هذا النوع، مهما بلغت دقتها العلمية، لم تستطع أن تترجم عبارة: جسدي، إلى أية معادلات أو قوانين. ليس ذلك إلا لكون الجسدي الذاتي يؤسس الموضوع الأول لإمكانية التملك الذاتي. مما يُفترض أنه يغايرها كموضوع، ولكنه لا يغايرها في الواقع، بل يدخل في صميم لحظتها، وأكثر من ذلك فهو وحده الذي يتيح لها أن تتملك مما يغايرها، أن تتصل بالكثير مما هو سواها، شرط أن تُبقي على واحديتها. لكنها واحدية ليست جوهرية بالمعنى الأنطولوجي؛ إذ إنها ذات كيان هش. وهي لشدة تعرضها للكثرة داخلها — في الشعور — وفي محيطها، فإنها معرضة، هي عينها، لطائلة البعثرة والتبديد، دون أن يكون ذلك الوضع شرطًا حتميًّا لإضاعة واقعة تبددها تلك، كواقعة مؤسسة لصيغة وجود الكائن نفسه.
فالحمل الأنطولوجي التقليدي على كون الفرد حدثًا عارضًا، يقع تحت وطأة معيارية طاغية إلى درجة محو وجوده، في حين أن الفرادة التي يتمتع بها الفرد كحدث، هي هذا الوجود الذي يكاد يكون عرضًا، لكنه هو جوهر نفسه. فالتجسد والمكانية يُمسرحان عروض الحياة؛ والحي الإنسي وحده هو الذي يكتشف عبارة تلك الواقعة: «التجسد والمكانية يمسرحان عروض الحياة.» يكتشفها من حيث إنه يمارس دوره فيها، ويشهد عليها كعروض لحياة، ومن بينها عرضه الخاص، الذي يشهد عليه كذلك. فأروع ما في هشاشة الكائن الموجودي في العالم، أنه الحادثة الفريدة، من بين حادثات المايحدث، التي تعرف أنها كذلك. وهي من حيث إنها تشغل أصغر حيز من كل طوارئ التجسد والمكانية، فإنها تعرف كيف تحول كل هذه الخارطة الخام إلى مواقعية أخرى، تنخرط في تشكيلية مركب آخر من التجسد والمكانية، يصير الترميز، اللغة، التسمية. تلك مواقعية تصادر «انفلاتية» مركَّب التجسد والمكانية، وتضعها رهن إعادة التشكيل، كلما انبثقت إمكانية انزياح لحادثة استيطان في بقعة لغوية، جسدية تجسيدية، من نسيجها الهلامي. ينقلب مركب التجسد والمكانية إلى هاجس «الانهمام» بالبحث عن حادثة استيطان ما. يتذرى كائنات وجودية، باحثة عن أوطانها المفردة، في أرض عراء، ليست لأحد، وفي لغة للجميع، ﻟﻠ «هم»، وليست لأحد.

فالحي/الإنسي هو من هذا المركب: التجسد والمكانية، الذي يأتي إلى العالم بمكانيته المختلفة، التي سيطلق عليها الكائن الوجودي تسميته الخارقة: الزمانية. إنه يؤسس لحظته الخاصة. أو هكذا سوف يعتقد، لكن اعتقاده ذاك يُحدث إعادة انتظام الزمان والمكان: ينتزعهما من إطار كوني (كوسمولوجي) محايد، يشدهما إلى بؤرة فرديته غير المتمركزة، غير القابلة للاستقرار. فالزمكاني ليس كائنًا تركيبيًّا، بل جديدًا على العنصرين المركبين لتلفظه. لا يفارق كونية عنصرَيه، الأصلية، بل يدخلها كانزياح، كإمكانية انفكاك ذاتي، عن انحصار داخل الراهن، والمحيط، والمتشيئ. الكائن الوجودي كائن زمكاني لا يتقاطع عنده المفهومان الكونيان المجردان: الزمان-المكان؛ بل بالأحرى يبدآن. ليس لأنه: إنما يرجع إليه وحده أمر تسميتهما فحسب — وذلكم أمر بدئي كما نلاحظ دائمًا — بل لأن ما تعنيه وجودية الكائن الوجودي حقًّا هو توقيته الخاص؛ إذ كلما دقت ساعته حدث انزياح الزمكان عن حياديته، فيبدو كأن: الكائن في العالم هو بانتظار هذه الساعة، أو أنه هو انتظارها، مع العلم أنه لا يمكن حساب هذا الانتظار، إلا بعد ما يئول إليه. ذلك هو الوقت الذي يولد فجأة حين يُخرج الكوسمولوجيا عن حياديتها؛ تتقدم مما وراء تخوم المايحدث، لتغدو عاملًا مؤسسًا داخل زمكانية المايحدث عينه. فالتحقق الأنطولوجي شكلي، بين حديها. ها هنا تبين استحالة مقاصد الميتافيزيقا التقليدية. فهي بعد أن صنَّمت المفاهيم، راحت تطالب الكينونة بالمشاركة في تجارتها البائرة: تبيعها أقانيم لقاء الإفراج عن صمتها. فماذا يعني أقنوم الأنطولوجيا، أقنوم الكوسمولوجيا، بالنسبة لحادثة المايحدث عينها؟! حين تقع هذه الحادثة تخسر الميتافيزيقا دفعة واحدة كل بضاعتها من الأقانيم. ويا لها من خسارة رائعة! وحدها تُكسبها ربح نفسها. ومن جملة ما يفعله النداء على الفكر، وما يرجع إليه وحده، هو استعادة «نص» الميتافيزيقا، من تحت أكوام التناص فوقها، عليها، بما ليس منها، وإن كان يدعي مصطلحاتها.

إن ظهور الحيواني/الإنسي فوق الأرض ليس سقوطًا من أعلى، ولا ثمرة تطور دارويني خالص فحسب، وهذا (المخلوق) الذي نسميه الإنسان، ونعتز بالاسم وما ينطوي عليه من كل ما شكله تاريخه على الأرض، أليس هو الموكول إليه أن يقف قبالة لغز العالم؛ فكيف له أن يفر من لغز العالم أو يتجاهله، وهو من كان يتصور دائمًا أنه يقع في المركز منه. لكن العلم انتزع مهمة تأريخ العالم، والإنسان معه، من الفلسفة منذ القديم. بينما لم تدرك الفلسفة عقم المنافسة، وهي في الصف الثاني، مع العلم، حول هذا الكنز، إلا متأخرة جدًّا، معترفة بأن سؤالها الأصلي هو سؤال العلم؛ فحين كانت تصر على هذا الموقف انتهى بها الحال إلى أن تقبع إلى جانب أو خلف العلم، كخرافة علموية. ولم تدرك عقم المحاولة إلا عندما اكتشفت أن العلة هي في ذاتها، وليست في طغيان المعرفة التجريبية. فما شكَّله تاريخ الميتافيزيقا بين جنباتها، غدا يمثل عين الخطر الذي يمكن للعلم أن يحققه، كما لو أنه استولى عليها من داخل بنيتها. ومع ذلك فإن صحوة الفلسفة على سؤالها الأصلي، لا يمكنه أن يسترد ضوءه الخاص، إلا إذا اقتحم الميتافيزيقا من داخل ظلماتها. فلا مفر للقول الجديد من المرور عبر كل الخطابات، السابقة، المنسوجة حول عين موضوعه. فلا مهرب من مناقشة الميتافيزيقا على ضوء بضاعتها نفسها، وعبر مفاهيمها، بدءًا من إعادة النظر في مفهوم المفهوم بالذات. فهو ليس أكثر من طريقة ما في بلورة تمعين مؤقت حول موضوعات لا زمان لها. والانحراف المخيف لم يتأتَّ عن جريرة المفهوم بالذات، إلا عندما حلت المفاهيم محل الموضوعات الأصلية التي ادعت أقنمتها، أي تثبيتها، وقدسنتها. وصار الفكري الذي يرجع إليه وحده، أسير الجري بين تلك المفاهيم، راح في فقدان للنداء ولموضوع النداء معًا. غرق فيما هو المحظور الأكبر: فقدان الحس بالفقدان هذا عينه!

كيف تأمل الزمانية باستقلال عن المكانية؟ وخاصة إذا كان الإنسان هو المقصود بذلك الكائن الذي لا يملأ المكان بأشيائه وتحركاته ومدنه وعوالمه فحسب، ولكنه ينشئ عصورًا وتاريخًا، وإنسانيات لأزمان، وأزمانًا لإنسانيات. هذا الشمول المتجسد ولما ليس متجسدًا، الآن أو بعد، كيف تفكُّره بدون التزمن والتميكن، والانخراط في لانهائية الحدث وتحققه المتناهي في آن. التوقع وما لا يُتوقع. مفارقة المايحدث الوحيدة، هو أنه بكل تركزه وحدثيته، لا ينفصل عن الشمول، لا ينخلع عن خطوط انسراب نحو اللانهايات العظمى، رغم أنه يعيش «في» كنف النهايات العظمى عينها. ذلك ما يعطي ثَمة حضورًا للكينونة التي تعطي هي الوجود واللانهاية معًا. وتظل مفتقرة في الوقت ذاته، إلى أبسط التعيينات وأوجز الإشارات.

فالقول بالمكانية، رديف للقول بالتجسد، كأن الأولى مساحة للثاني. والحس المباشر يأمر بذلك؛ إذ كيف يتحقق تجسُّد إن لم يُقِم في مكان؟ لكن المسألة تتغير تمامًا إذا ما نظرنا إليها من خلال الحد الثاني الذي هو التجسد، هذه اللفظة تنطوي على خديعة تجعلني أقبل بالخافي فيها، كتحصيل حاصل، بينما تقوم المشكلة هنا. فالتجسد يعني كمال عملية بدأت في لا مكان، على الأقل جاءت من لا مكان، وحلت في «مكان» التجسد، لتعطي اللفظة ثَمة كِيانًا. هناك شيء ما يتجسد، ما هو؟ وكيف كان قبل أن يتجسد؟ هناك افتراض غير مصرح عنه، أن التجسد غاية لعملية لا تكمن فيه، بل تسبقه، وبالتالي يعود تلفظ الحي/الإنسي إلى الانشطار: يجيء الحي من طريق، ويجيء الإنسي من طريق آخر. وينشغل نوع من «الفكر» في البحث عن مراحل هذه العملية، مؤكدًا كل مرة ثنائية العلاقة، التي تغدو البديل عن كل ما يشكله كيان التلفظ الذي يملأ العالم بفوريته، حدثيته، ومباشريته، كليته.

هل يستطيع الفكر، بما يرجع إليه وحده، تصحيح هذه النظرة، فيفرض العلاقة مع الكيان كما هو حاضر تحت النظر، وتحت اليد معًا؟ فالمكانية تنبت تحت أقدام الحي/الإنسي من «أمكنة» خطواته. وتجسُّده في هذه الهيئة أو تلك إنما يُدخل التعديل تلو التعديل على هيئة الكوسمولوجيا في تقاطعها مع أنطولوجيا، هي قيد التدوين دائمًا.

وإذ يُشرع في التمعين انطلاقًا من حادثة الكائن في العالم، فإن التجسد يفترض تأويلًا من جنس تلك الحادثة، يأخذ في الاعتبار كلية الحادثة نفسها، في مختلف مراحل تفكيكها. وأول ما يسترعي هنا الانتباه، أن الجسد هو الذي يتجسد، في ذات اللحظة التي يرسم فيها ظله على الأرض؛ أي إن تجسده مرتبط بحيز من المكانية، المنتشرة هي عينها كأرضية لمشهدية أوسع هي العالم. وكل تحليل لهذه اللحظة: التجسد، المكانية، العالم، يتناسى حدًّا أو أكثر من تلفظاتها الثلاثة هذه، بهدف تركيز الضوء على حد معين بمفرده، إنما يجازف بطمس العلاقة الفورية فيما بين هذه الحدود. فلا بد إذن من القول إن الكائن الذي هو هنا الحي/الإنسي، منخرط منذ الأساس في «حادثة» فورية هذه العلاقة؛ وأبرز ما فيها هو ظهورها عينه. إنها ليست هي ما يقع عليها البصر فحسب، لكنها هي الحاملة لعملية البصر وما يبصره. إن تجسد الكائن يجسد العالم، مع الاحتفاظ بالاختلاف الجوهري بينهما، خاصة عندما يعاد تمعين كلٍّ من الظهور والتجسد من خلال الكائن. فهما أول ما يحددان هي صيغة وجود للكائن.
والآن يمكن السؤال: هل إن التجسد والمكانية يتضمنان وجود الكائن، أم إنه هو من يتضمنهما؟ أولًا حين يجري التعامل مع الوجود — بمعنى التحقق العيني — فإنه لا يمكن إطلاقه على الإنسان، كنوع حيواني مختلف كليًّا عن الحيوان. ذلك أن خاصية النطق أو العقل، ليست وحدها هي التي تعيِّن «نوع» الإنسان وتفصله عن بقية الأنواع الحية، بل إن هذا الكائن-الكل، إنما يناط به إبداع خصوصيته، وبدورها يناط بها التذكير باختلافية وشمولية الكينونة. يجيء وجود الإنسان بالنسبة للكينونة، كطريقة خاصة جدًّا في الانضواء تحت الكينونة، أو طريقة فريدة في النهوض بعبء الكينونة. وهذه الطريقة لا يمكن مقارنتها بأيٍّ من فوارق النوع أو الجنس التي تحدد تصنيفات الأنواع الحيوانية الأخرى. ذلك أنه موكول إليها وحدها لا أن تكون خارج التصنيف فحسب، بل أن تحدد التصنيف ولوائحه بالنسبة لجوهره، وجوهرها بالذات. كما لو أن الوجود — وجود الإنسان — هو «النوع» الاستثنائي الذي تنطوي عليه شمولية الكينونة، دون أن تُصاب هذه الشمولية بأي انحسار. ذلك أن خصوصية الوجود الإنساني هي وحدها دليل الكينونة إلى شموليتها. إنه الصدع الذي تدخل منه الكينونة إلى العالم — كما يثبت هيدغر دائمًا — ونضيف: كما لو كانت موجودة فيه منذ القدم.
بناءً على ذلك ليس التجسد والمكانية، ليسا حدثًا موحدًا تاليًا على ما لم يكن كذلك بعد. مثلًا لا ينبت الإنسي من الحي، ولا المكانية هي مجرد امتداد يقع تحت الحواس، ويدخل في تركيب ثنائية الكوجيتو الديكارتي إلى جانب العقل. ذلك ما يعود إلى رؤية تبسيطية وهندسية خالصة، تفترض قيام ذات «مقابل» العالم، وليس «فيه». صحيح أن الكوجيتو الديكارتي قد يحفظ للعالم خاصيته الأولى وهي قِدمه. لكنه لا بد له في الوقت عينه، من أن يفترض قيام الذات مقابله، قيامًا يحمل ذات خاصية القدم. كما لو كان ثَمة انقسام أزلي، أنطولوجي، لا حل له، بين العقل وما ليس كذلك. لم يكن ذلك الانقسام في أصل الأنطولوجيا الأفلاطونية، التي صارت فيما بعدُ مسيحية، بل غربية، فحسب؛ إنما كان أصلًا لانفصام مُتنامٍ بين الوجود والكينونة، بحيث صار من المألوف أن يحتمي الوجود بالحياة كبديل عن الكينونة. وغدا من السهل تثبيت ثنائية الكائن الإنساني كأقنوم مركب من الحي والإنسي، ثم يقع الاختيار أخيرًا على تفصيل، تارة يجوهر هذا الحد، أو يجوهر الآخر. وأخيرًا تصل مدنية التقنية إلى التفضيل المحتوم، والإقرار بتجوهر الحي، ليس كقاعدة ينهض فوقها الإنسي، بل كقاعدة تغدو بمثابة الكيان كله. وتكون النتيجة ليس تجوهر الكيان من حيث هو كذلك، بل فقدانه كليًّا لحساب شكلانية قولبة، تُفرض عليه من خارج سجله تمامًا. وعندها تحين لحظة الندامة الكبرى، يستغيث العقل فجأة بالفكر الذي تناساه. ذلك أن التصنيفية «الأرسطية» التي طالما تمسك بها كمعادل وحيد لأفضلية ممارسته، أوصلته إلى الموقف الذي يعلن فيه أنه سوف يتم التخلي عن الإنسي لصالح القطب النقيض: الحي. لكن، لماذا هو نقيض حقًّا؟! بل كاد الأقنوم ألا يفتقد «طريقته» في التجوهر وهو في كنف الكينونة فحسب، بل يفتقد هذا الافتقاد عينه. لا يعجز عن حل المشكلة، بل تنعدم المشكلة عينها، بالنسبة إليه.
هكذا يحين أخيرًا منعطف المراجعة الكاملة للمشروع الثقافي الغربي. تغدو المناداة من جديد على الفكر وما يرجع إليه وحده، ليس مجرد إدانة لمدنية كاملة أخطأت دائمًا طريقها، تكتشف أنها كانت مشغولة دائمًا باستعارة أسماء كثيرة من كنفه، شرط إبطاله هو بالذات. أعنف مناداة كانت اختراع أسطورة الإنسان الأعلى النيتشوية: علينا ألا نظن أن الإنسان الأعلى هو مجرد مزايدة […] يمكن تعريفه بأنه طريقة جديدة في الإحساس: موضوع آخر للإنسان، نموذج آخر للإنسي، طريقة مختلفة للتفكير. وما اختلاف «الإنسان الأعلى» عن مجرد الإنسان — أو بالأحرى عن ثنائية الأقنوم الذي ثبتته الميتافيزيقا الغربية — إلا كونه محاولة لاستعادة الكائن في وجوده الإنساني، وفي علاقته ككائن بالكينونة. والأمران متلازمان، مذهبان في عقيدة واحدة، بشَّر بها زرادشت. وهي تشكل جوهر تعليمه الجديد حول «العود الأبدي» أو العودة إلى ذات العين  le même.
إن انبثاق فلسفة «العين» من جديد ليس سوى التطوير الحداثوي لفلسفة الإرادة، وسيطرتها المتزايدة على المثالية الألمانية. فالكينونة كانت تتجلى منذ القدم، كما لو كانت هي الإرادة. والحامل الرئيسي لعبء الإرادة، هو كائن الحياة الأول بامتياز — الإنسان — الذي يحتاجها أكثر من غيره، بفضل نقصانه الجوهري، ولكونه مجرد وجود باحث عن الكائن فيه الذي يعيد صلته بالكينونة. غير أن الاختلاط كان يقع فيما تعنيه هذه الإرادة، إلى درجة أنه سيطر سوء الفهم الكامل بخاصة، على التطوير، الانقلاب، الأخير الذي جاء به نيتشه تحت التسمية الشهيرة: إرادة القوة، بل الاقتدار. لكن نيتشه في الواقع جاء بمذهب التصحيح الجذري؛ إذ لم تعد الإرادة تعني الالتحاق بما هو سواها، بل هي الإرادة التي تقصد ذاتها: إرادة الإرادة. ويرجع هذا الكشف للتأويل الهيدغري الحاسم. فهذا الفيلسوف الأخير في هذا العصر، آل على نفسه، وفي معظم أعماله الكبرى، أن ينتج التأويل المشروع لشاعر الفكر الأكبر، نيتشه، وشاعره الشعري، الأهم هولدرلن؛ يقرؤهما معًا، ويعلم قراءتهما معًا، على ضوء «كتابته» لهما، التي تجيء كعنصر آخر ينضاف إلى عين النبع الواحد، المتدفق نحو خضم الكينونة الأعظم.
منذ نيشته، كما أبان هيدغر، أصبحت فلسفة «القيمة» هي فلسفة الاختلاف. فالبحث عن العين همٌّ للفكري الذي يكتشف أنه ليس هو ما هو بعد. وهنا تتبدى الدلالة الفكرية الجوهرية للإرادة؛ إذ إن هذا الهم الفكري الناجم عن استشعار العين، دون أن يكون للعين حيز معين، بل يناقضه كل حيز جرى تعيينه، إنما ينقلب إلى الإرادة التي تريد ذاتها أولًا. ولذلك ليس الحي/الإنسي هو نتاجه الأخير، إنه ما كان عليه من قبل، أي هذا الذي يمثل دائمًا في كل ما هو خارج الإرادة المريدة لذاتها فحسب. فالعودة إلى كنفها، هي عودة إلى «العين»، حيثما لا حد للاختلاف، للعين. والحي/الإنسي ليس هو كذلك، إلا لأنه محمَّل مقدمًا بهمِّ التقاط العين، وهو المختلف دائمًا.
إن العلوم الإناسية (الأنثروبولوجية) تتغنى بالانقطاع الذي أحدثه الإناسي مع الحيواني؛ إنه انقطاع بين المبرمج عضويًّا غريزيًّا، وبين المبرمج اكتسابيًّا سلوكيًّا. فالترميز المديني يحل مكان الترميز الخلوي/العضوي، الحيوي بشكل عام. لم يبق هذا «الفكر» مقتصرًا على العلماء الإناسيين، بل جذب فلاسفة معاصرين، ومنهم من يدعي تلمذة دائمة على هيدغر، وهو دريدا؛ ومنهم الأخلاقي الحداثوي، بول ريكور. حتى إن فوكو نفسه عندما أعلن موت الإنسان، بعد موت الإله، كان منجرفًا إلى حد ما مع تدفق هذا التيار، وإن كان توصل إلى إلغاء التمركز الإنسوي l’anthropocentrisme، بإلغاء الإنسوي نفسه، كجوهر ثابت ميتافيزيقيًّا. ومع ذلك يعود الحي/الإنسي إلى تأكيد أن له أركيولوجيته الخاصة به. وقد كان حتى الآن تسود أركيولوجيتان منفصلتان: واحدة للحي وأخرى للإنسي. وكل الاهتمام العلموي، والفلسفوي الذي على شاكلته، منصرف إلى تلمس تمفصل المختلفين أساسًا، ولعله جوهريًّا.
لذلك تأتي الحاجة إلى الأركيولوجيا الثالثة التي لم تُكتب بعد. وتُخصص بالأقنوم الحي/الإنسي، الذي يصعب التعامل معه باعتباره آيلًا إلى ذاته، أكثر من كونه آيلًا إلى مُركَّبيه، أحدهما ضد الآخر، أو معًا، ولكن بطريقة تراكمية. فحين يُستعاد خطاب العود إلى ذات العين، ينبغي طرحه اعتبارًا من هذا السجل الثالث الذي لا يزال فارغًا من/أو خارجًا عن التدوين؛ أي سجل الأركيولوجيا الثالثة. ولقد حاول نيتشه الشروع في كتابة الأركيولوجيا الثالثة، بمفاقمة البعد الحيوي ضمن أقنوم الوجود؛ مؤسسًا بذلك لاختلاف جديد، يجيء مع اسم الحياة، متدخلًا بين الحدين التقليديين: الوجود والكينونة. فبدلًا من الإحراج المتزايد الذي يسببه تصاعد المفهوم الحيوي مع ولادة الفرد في ظل المدنية الصناعية، صار يمكن مضاعفة تكثيفه في اتجاه بناء ميتافيزيقا جديدة للحي/الإنسي؛ وذلك بعد أن جرى تخطيطه واختراعه، وحتى استنباطه، كأحد مخترعات المدنية العصرية، وإن كان هو الأغرب بينها، ولكن ليس الأكثر أهمية، على كل حال.

إذا كان يرجع إلى فوكو فضل الوعي بخصوصية هذه الأركيولوجيا (الثالثة) والشروع في تأسيسها، إلا أنه ترك جميع أبوابها مشرعة على ما هو خارج عنها، وبشكل خاص على تراث المؤثرات الهائلة التي تولده، ولا تزال، الأركيولوجيتان السابقتان، ومناهج الإشكاليات التقليدية المعتادة المغذية لهما. ذلك أن ما يميز الأركيولوجيا الثالثة أنها مضطرة، حتى تقول قولها الخاص، أن تترك الأركيولوجيتين السابقتين، تحرران خطابهما الخاص. كما فعل هيدغر طيلة نتاجه المتشعب، عندما أعاد تفسير ميتافيزيقا المشروع الثقافي الغربي، من أجل أن يفوز بإشارات وومضات عن الميتافيزيقا، غير المنصوص عليها بعد. فالمشروع الغربي، لم يأتِ تزييفًا لصاحبه، لموصوفه (الغرب)، بقدر ما كان يبرهن على الصعوبة الرهيبة التي تقف دون حصوله حقًّا على ما تعنيه عبارته، كما لو كانت شرعية الميتافيزيقا التقليدية، إنما تجيء فحسب من كونها حقًّا الشاهدة الفعلية على عنف المحاولة في أن تكون ما تدعيه، مع فرار «ما تدعيه» من بين أيديها دائمًا. فالشهادة على فرار الجوهر قد تكون هي الطريقة الوحيدة في الإعلان عن أحقية وجوده، على الأقل، عن إمكانيته.

صحيح أن هذه الميتافيزيقا قد ارتكبت جريرتها الأولى، منذ تأسيس الانفصام الثنائي في الحي/الإنسي، بين حديه هذين؛ ومن ثَم راحت تخترع، عبر مذاهبها الكبرى، الجسور التي تعيد تحقق الوحدة في هذا «الجوهر» الواحد، فلم تجد إلا سبيلًا واحدًا لتحقيق هذه الغاية. وهو افتراض أنه لا يمكن التفكير في الجوهر إلا باختراع أعراض له. فحين يقع اختيار التجوهر على الحي (أي المادي) يغدو الإنسي هو العرضي. والعكس صحيح. ذلك أن «الأقنوم» لا يمكن أن يكون له رأسان. والتجوهر لا يكون كذلك إلا بقدر ما يكون سواه هو العرض.

حتى في أحدث لحظات الترقي، الذي يناله البحث العلمي التقني الراهن في حقل «الجينات»، نلاحظ أن الجهود البحثية الكبرى منصرفة إلى تأكيد أنه ليست البرمجة الحيوية مقتصرة على الجسدي فحسب، بل إنها تتناول الفرد الإنساني كجنس وطباع ومسالك؛ كأن حياته الفردية بتفاصيلها مكتوبة ترميزيًّا، وسلفًا، في سجل الجينات عينها التي تحدد شكل جسده وتقاطيع وجهه وأعضائه. كما لو كان كل الرهان المعاصر هو في الإثبات الآتي، أنه إذا كان ثَمة تجوهر، فهو سيكون من نصيب العضوي فحسب. ولكن بالمقابل فإن رد الفكر سيكون كالآتي: في هذه الحالة، لن يعود العضوي هو ما يعنيه تلفظه، سيكون دلالته، وما ليس كذلك في آن. لكن الخطاب العلموي التقنوي يمكنه، ذلك الاشتغال على العضوي وحده، دون الاهتمام بما صار يعنيه، عندما تحول إلى ذاتي التجوهر، ولكن دون أن يتحول حقيقة؛ إذ إن العضوي أو الحيواني في الأقنوم: الحي/الإنسي، هو المحدود الذي يُفرض عليه أن يتعين لا بذاته فحسب كمحدود، ولكن بالآخر المجاور له، هذا الإنسي، اللامحدود (ربما)؛ بينما العلموي التقنوي هو الذي يحاول أن يعكس هذا الخطاب بتعميق الفصل بين حدَّي الأقنوم. فحين تحاول الإناسة المعاصرة النظر إلى أقنوم: الحي/الإنسي، كما لو أنه لقاء بين ترميز مغلق (الحيواني)، وترميز مفتوح (الإنسان)، كأنها تجعل هذا اللقاء بدون أساس؛ لأنها تفترض الاستمرار كشرط للتجاور أو اللقاء، تخترع أُوالية: التمفصل.

نخلص مما تقدم إلى أنه بالرغم من مختلف الخطوات الهامة التي قطعها العلم على صعيد التنظير، فإن الحي/الإنسي هو الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يقدم تعريفات عن ذاته، تعتمد توظيف اللامحدود في تكثيف المحدود، وجعله يجيء بنسقه كما لو كان نصًّا منفتحًا دائمًا على تناص يجهله بعد. فالأقنوم: الحي/الإنسي يرجع إلى الكائن، لكن الكائن بالمقابل ليس له ثَمة طريق لمعاودة الاتصال بكينونته، إلا عبر هذا الحي/الإنسي.

فالتلفظان: الحي-الإنسي، عبارة واحدة، ووحيدة، ساقطة في قاع العالم، ومُشارفة لأعالي تخومه في آن. ليس ثَمة حيلة أخرى أفضل لمقاربة مفهوم الحي، إلا الحياة نفسها، باعتبارها طريقة أكثر مباشرية، وأعنف فورية، في مقاربة العلاقة اللغزية بين الكائن والكينونة. ولعل الفكر الهيدغري، الذي اقترن بميلاد جديد لفكر الكينونة في هذا العصر، الذي هو الأبعد ما يكون عن الفكر، والأقرب ما يكون إلى التقاط الفكر وهو ينسحب، نقول إن هذا الفكر نفسه لم يحتفل بمفهوم الحياة كما فعل فيلسوفه المفضل نيتشه من قبل؛ إذ لا يستطيع مفهوم الحياة أن يفسِّر نفسه إلا على أساس صيغة الوجود الإنساني. بمعنى أن هذا الوجود قد يحتمل الحياة وسواها كذلك: الموت، في حين أن الحي لا يحتمل سوى حياته، ككائن عضوي. أما عندما ينظر إلى الحي/الإنسي، من تحت مظلة الوجود، فإن الموت يغدو هو دلالته الرئيسة. ذلك أن أرهب وأعلى ما يتميز به كائن الإنسان في العالم، هو أنه كائن الموت كذلك، وليس هو فقط المهدد بالموت. فالموت ليس خطرًا خارجيًّا، إنه يؤسس لاأساس كائن الإنسان في العالم. ليست تلك تشاؤمية مطلقة، بل ذروة في التشاؤمية التي تفتح فجأة على الفرَج؛ ذلك يصح ما دمنا نُجنب خطابنا كل تسجيل أخلاقوي هنا. ما هو هذا الفرج؟ إنه لحظة المناداة على الفكر، وما يرجع إليه وحده، كما لو كانت مناداة الكائن، الذي يفتقر كل لحظة، كحي، إلى الوجود، ذلك الافتقار المدقع، الذي يولد الاستشعار به، حيويًّا/وجوديًّا، انسحابًا دائمًا للكينونة في تقارباتها النادرة. فالموت، بمعنى الهلاك العضوي، يخص الحي من الأقنوم: الحي/الإنسي. أما الموت الوجودي — ولنُعطه هذه الصفة الآن على أن نعود إلى تمعينها فيما بعد — فهو يخص الإنسي وحده، لا يأتي كنهاية لكل شيء، بل بالأحرى إنه مقترن مع البداية، كأنه شروع الكائن في الكينونة، انطلاقًا من عدم وجوده بالذات. هذه الخاصية الوجودية الكليانية ترافق الموت الوجودي؛ لأنها دعوة للكينونة يتطلبها وجود لا يتكون أبدًا، ولا يتكون نهائيًّا. فمن حق هيدغر أن يعلن أن أعلى لحظات المناداة على الفكر بما يرجع إليه، إنما هي اللحظات المأساوية والنادرة التي تأتي/تنسحب فيها الكينونة إزاء الموت.

اللاشيء، الفراغ، النقص، التهديد من كل مكان، حالات وصيغ من العدم، والعدمية، «تحفظ» وجود: الحي/الإنسي، من حيث إنها تهدده. وقد حصر سارتر إبداعه الخاص في تقصي حالات العدم هذه. وفي حين أن تاريخ الفرد الإنساني كان عابقًا دائمًا بأزمات الوجود والعدم، وحالات التعبير عنها حياتيًّا، تاريخيًّا، أدبيًّا، فإن الفلسفة استجابت أخيرًا، وعلى يد أحد أواخر عمالقتها في القرن العشرين (هيدغر)، إلى إعادة كتابة هذا النوع من التفردن الدرامي، على صعيد المذهب الفلسفي الشامل. وبذلك استردت إلى حجرها سؤال التاريخ والإنسان معًا، وفي لحظة واحدة.

وأهم المداخل إلى هذا الاسترداد كان في انتزاع مقولة الموت من احتكار الخطاب الوضعي، أو الخطاب التحلينفسي والإبداعي الرومانسي، وإعادة التعريف الإغريقي القديم لهذه الإشكالية على الصورة الآتية: التفلسف هو تأمل الموت. والمدنية أعطت أجوبتها على هذا التأمل. واعتبر المفكرون أن هذه الأجوبة كانت ردودًا على تحدي الموت. وقد يكون ذلك صحيحًا إلى حد بعيد. وربما كان الأصح كذلك هو اعتبار إنتاجات المدنية مجرد تمرينات وجودية كبرى على طريق رد التحدي، لكن هذه التمرينات اتصفت في معظمها بمواربة الهدف والتحايل عليه. والسبب هو انقسام رؤيتها بين اعتبار الموت أنه يعادل الهلاك العضوي للإنسان، والدمار المادي لما يمتلكه ويبينه، أو أنه تهديد الإنسان في جوهره الكينوني. لكن الاعتبار الثاني ظل موضوع الإنتاج الديني تارة، والأدبي والإبداعي عامة، تارة أخرى. ولم يستطع السؤال الفلسفي أن يتجاوز تراكم المعهود والمنتوج من هذين الاعتبارين، إلا في اللحظات الأخيرة من تاريخ انكسار المعهود نفسه في اللغة وأرضية الواقع معًا.

وفي هذه البرهة القصيرة من انكسار المعهود يستيقظ السؤال الفلسفي فوق الخرائب جميعها؛ لا يَلقى بين يديه، وعلى امتداد البصر حوله، إلا نداءه القديم، قِدم العالم: الفكر وما يرجع إليه وحده.

١    De la détermination à la significationalité.
٢    Paleontologie: بالنسبة إلى علم المستحاثات الإنسية، أو العضوية عامة (النبات والحيوان).
٣  الاشتقاق من لفظة: اسم. التسمية والتسموية هي اصطناع الاسم كناية عن إلغاء الفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥