أية عقلانية ما بعد الميتافيزيقا بدون أسمائها المعهودة

هل يمكن القول إذن إن الفكر، وليس سواه، هو الذي يتاح له أخيرًا أن يتحدث بلغة الكينونة، وليس بأحد أعراضها، أو بأحد أو جملة من عواملها المساعدة؟ أليس من أغرب التعارضات أن يستمر الفلسفي عينه وطنًا اغترابيًّا للفكر غالبًا، وليس وطنًا وطنيًّا حقيقيًّا له؟ على الأقل فإن الفلسفي استطاع أن يؤشر على اغتراب الفكري، عندما لم ولا يستطيع أن يوفر له سُكناه الطبيعية في ربوعه.

لعب الفلسفي دور المنادي على الفكر، وإن كان يجهل ما ومن هو. ولكنه هو يحسب نفسه أنه يقتفي آثار الفكر، فلقد كان من أسهل الأمور أن يحيد عنه، وأن يضله وهو يعتقد بأنه في عقر داره. الفلسفي في أحسن تجلياته هو قصة افتقاد الفكري. ولم يجرؤ أحدٌ جرأة هيدغر في عصر الحداثة، على الاعتراف بمثل هذه الحقيقة، لكنه اعتراف، مع ذلك، لم يكن يكلف الفيلسوف بأكثر من استعادة ثنائية الفكر/الكينونة، بطريقة مختلفة. كما لو كان على الفكر أن يختار باستمرار بين المعرفي أو الكينوني، كيما تقوم له ثَمة قائمة. وكانت القضية بالنسبة لهيدغر، أن المشروع الغربي قد انحرف إلى خيار المعرفي؛ متناسيًا خيار الكينوني، أو فارًّا من دربه، مفضلًا على مواجهته، مواجهة كل ما عداه بحجة النجوع العملي، عبر اكتساح العالم، وانتزاعه من خاميته الأولى، وإضفاء العقلنة الشمولية على لاعقلانيته، أو على صدفويته الأصلية.

الفكر بما يرجع إليه وحده، لم يفز بقضيته الصريحة هذه إلا نادرًا في قصة الفلسفة مع نفسها. وكان الانشغال بالمعرفي أقرب المقاربات كما بدا الأمر لمعظم الفلاسفة، من ذلك الهم الأصلي. ولكن قراءة هيدغر النيتشوي، التي تُعتبر أهم حركة استقلالية إيجابية عن الكانطية — رمز المعرفية الحداثوية — لم تستطع أن تحتفل بالفكري الخالص. لم تبلغ تلك القراءة حد تشكيل المشروع المقابل للعقل المحض الكانطي، على أساس الفكر بما يرجع إليه وحده. فإن المقاربة الكينونية، بالرغم من غناها العارم الذي أغدقه عليها التحليل الوجوداني لهيدغر، إلا أنها لم تشكل أكثر من احتفال بالنقيض الثاني من تلك الثنائية التي اشتبك بها المشروع الغربي؛ بما يعني عمليًّا عدم التحرر من سلطة الثنائية عينها. فالانحياز نحو الكينوني مقابل المعرفي قد يشكل مدخلًا إلى عتبة الفكري، ولكن لا يبني «حضورًا فوريًّا» في ظل «الفكر بما يرجع إليه وحده».
كان الجهد الهيدغري منصبًّا بالدرجة الأولى على إدانة الثنائية، بما هي علاقة استغلالية من قطب مع/ضد الآخر، لكن دون الخروج عن حدود الثنائية بالذات. فالانحياز إلى الكينوني بأسلوب هيدغر، هل استطاع أن يفوز بالفكر على طريقته الخاصة، أم بطريقة الثنائية نفسها؟ هذا بالرغم من أن منهج التفكيك حقق بعض الانزياح، عندما قام بنقلة نوعية من حالة الانصياع الآلي ما يُسمى بضرورات الصياغة المنطقية للحدود، نحو «جوازية» النظر إلى هذه الصياغة، ومعها حدودها كذلك، خارج لعبتها الخاصة بها. بمعنى أن التفكيك يرفض الانخراط في اللعبة النحوية لأية لغة، أو مصنَّفة معرفية أو علموية؛ ويتوجه إلى ما تعنيه لعبتها تلك كنظام، من بين أنظمة أخرى جائزة. إن ثَمة اقتراحًا بالاختراق، لدى كل نزعة تفكيكية، حاسمة مع نفسها أولًا، للخروج من فخ الجوانية التي تنشغل فيها حدودها بالترائي فيما بينها، بما يجعل المرآوية عينها تتوزع تسميات اتفاقية، تختلف حدودًا، وعلاقات «منطقية» بين الحدود؛ في حين أنها لا تمارس سوى انعكاسات فيما بينها، شرط أن تحفظ جميعها انغلاقها الدوراني داخل نظامها. تسمي قوانينها، وتضع موازينها، وتعين أين الخطأ وأين الصواب، ووسائل تجنُّب الأول، وإنتاج الآخر. ترفض أن تُسمى نظامًا معرفيًّا، ذلك أنها هي: المعرفة. وهي مستعدة لإفراز مختلف أشكال المفهمات ما بين حدودها، شرط ألا يسألها أحد عن مفهمتها هي ككلٍّ، أو ككيان معرفي أو مفهومي.
كان أهم ما أنتجه التفكيك، على طريقة هيدغر، هو إثبات أن العقل الغربي، ليس هو نظام أنظمة المعرفة، بل مجرد نظام معرفي ما، ليس هو الفكر، ولكنه مشروع في فكر ما، وفيما ليس كذلك تمامًا. غير أنه كان من الخصوبة والبراعة بحيث إنه أصبح كالدين الشمولي، قادرًا على تبرير مختلف إنتاجاته بحسب أطروحاته الخاصة به، المضمرة؛ شرط ألا تتعرض لأية أطروحات أخرى تأتي من خارج نظامه، أو قوانين لعبته، أو فخه. ذلك أن الفارق بين المعرفة والنظام المعرفي، هو أن المعرفة لا توسُّط بينها وبين الحقيقة. لا يمكنها أن تختلق مرجعًا لها سوى الفكر، الذي يرجع إليه الحكم على حقيقتها. في حين أن النظام المعرفي ينجح في فرض نفسه، كواسطة أو كجسر بين المعرفي وما يرجع إليه في الفكر، بما هو كذلك؛ فالواسطة تفرض على الطرفين طريقتها الخاصة في التحاور والتواصل بينهما. النظام المعرفي ليس معرفيًّا خالصًا. بين الحالتين هوة يكتشفها التفكيك، حيثما ينشق الصدع في قشرة النظام؛ وفجأة يكف النظام عن ادعاء اللامتناهي داخل شرنقته؛ يعترف بتناهيه. يبلغ تناهيه ذاك أقصى شرعيته ما إن يلتقي «شفيره» الخاص من حافة الهاوية؛ ما إن يفاجأ بلحظة انكساره كمتناهٍ، مع/وعلى اللامتناهي: ما الفكر إذن؟ إنه من يأتي بالمعرفي و«نظامه معه».
في هذا الموقف لا يبدو الفكر نائيًا عن كائناته، بل مشاركًا وجودانيًّا في صنع محايثتها، مصحوبة دائمًا بنظام هذه المشاركة، أي بما هي كذلك، وبالكيفية المفهومية التي تجعلها كذلك. إنه، أي الفكر، بما يرجع إليه وحده، يشبه العقل المحض، عند كانط، من حيث إن له حصته الحاسمة ليس في ترجمة المحايث إلى مصطلحه، دون الإتيان بشيئه — كما تفعل شكلانية العقل المحض — ولكنه هو مضاعفة العقل الشكلاني بالكيفية المحايثة عينها. ذلك هو خط الانسراب الدقيق المتبقي من أجل اختراق الشكلانية وإنقاذها من مأزق العقل المحض مع ذاته، حيثما أوصله كانط، وأوصل نفسه إليه.
هل نقول إذن إن ثَمة تطابقًا بين الفكر والمعرفة، أو الحقيقة، وإن هذا التطابق يزول عندما لا تأتي المعرفة إلى الفكر إلا حسب نظام ما يتوسط بينهما؟ يغدو هذا التساؤل قابلًا للتمعين عندما جعل كانط التوسط بين الفكر والواقع، إنما يرجع إلى جهاز ثالث هو العقل المحض. لكن كانط رفض الكلام عن الفكر كأقنوم قائم بذاته. ولذلك حاول أن يدمجه في بنية العقل المحض عينها. ولعل إطلاق صفة «المحض» هذه ليس سوى ترميز للفكر نفسه، عن طريق أهم خاصياته، وهي كونها الطريقة الوحيدة التي يرى الفكر ذاته من خلالها. والفكر عندما ينتقل إلى العقل بحسب كانط، فإنه لا ينزاح إلى ما هو آخر بالنسبة إليه، لكنه يرى فيه — أي في العقل — آخره كجاهزيات معرفية، لا تشتغل، ولا يمكنها أن تشتغل بدونه. وفي الوقت عينه فإن حاجة الفكر إلى جاهزيات العقل تلك، تكشف عن طبيعة الشكلانية الخالصة التي تنتظر الحدوس الحسية، كيما تملأ بها فراغها.
غير أن كانط لو توقف عند حدود هذه الآلية، لما كان أضاف جديدًا على ميتافيزيقا نظرية المعرفة، في تراثها المدرسي، وصولًا إلى ديكارت نفسه. فهي ليست آلية تحاول تفعيل علاقة التمفصل بين الذات والموضوع بهدف تحصيل المعرفة. ذلك التمفصل الذي لا يشتغل آليًّا أو تلقائيًّا، ولكنه ينفذ العملية الأكثر تعقيدًا ولغزية، وهي المتعالي. وبالتالي فإن مختلف جاهزيات العقل لا تكفي لتحقيق النقلة النوعية بين المحسوس والمفهوم بدون هذا المتعالي. وهو وحده الذي يميز في العقل نفسه دورًا متميزًا للعقل المحض، لا يمكن للوظائف الإدراكية، المعروفة على المستوى الأنثروبولوجي، أن توفره وحدها، من دونه.
إن المتعالي، وليس الإدراك في وظائفه الأنثروبولوجية، هو «المنجَز» الكانطي الأهم؛ لأنه ينقل الشكلانية من سؤال كيفية الإدراك، إلى سؤال إمكانية الإدراك عينه. لا يكتفي بطريق تحصيل المدرك من الحدوس إلى الفاهمة، بل يرجعهما معًا إلى «الملكة» الثالثة: المخيال، وهو المناط به وحده المهمة التركيبية العليا التي تضع حدًّا لانتظارات حدوس الحساسية، وتحليلات الفاهمة: فتقلب العملية الإدراكية بكليتها من المستوى المرآوي، الانعكاسي والتمثيلي، إلى لحظة خلق الدلالة. وهذا ما يعنيه كانط بقوله: «إن التمييز بين المتعالي والتجريبي لا ينتمي إذن إلا إلى نقد المعارف، ولا يخص إلا علاقة هذه المعارف بموضوعها.» غير أنه، قبل أن يصل كانط إلى تعيين علم جديد للمتعالي يختص بنقد المعرفة، ولا يتعلق بظواهرها فحسب، بل يتجاوزها إلى نقد أصلها وقيمتها، فإنه أناط بالإستطيقا المتعالية، الوظيفية التركيبية الأخيرة؛ ليس لتحقق المدرك فحسب، ولكن لجعله مادة مرشحة للمعرفة، أو لغير ذلك. بل إن هذه الإستطيقا المتعالية هي حصيلة العامل الذاتي في بناء المعرفة. ولقد كان كانط حاسمًا في معرض انتقاده لكلٍّ من ليبنيتز ووولف، فهما لم يريا من تمايز «متعالٍ، بكل وضوح، وأنه لا يتعلق بجلائهما أو غموضهما، ولكنه يقوم على أصل ومحتوى هذا الجلاء وهذا الغموض، بحيث إنه مع التمايز الأول [حسب الفيلسوفين السابقين] لن تكون معرفتنا بطبيعة الأشياء في ذاتها غامضة فحسب، ولكنها معدومة، فما إن نحذف بناءنا الذاتي [كعامل مؤسس للمعرفة] حتى نرى أن الموضوع المتوفر بخصائصه، كما يسندها إليه الحدس الحسي، ليس لم يعد موجودًا في حيز ما، بل ليس في أي حيز كان؛ ذلك لأنه بالضبط فإن هذا الشرط الذاتي هو الذي يعين شكل هذا الموضوع كظاهرة». قبل أن يغدو هذا المتعالي موضوع العلم النقدي الذي سوف يحدد شروط المعرفة ذاتيًّا أولًا — كما سيدعو كانط إلى إقامته في هذا النص عينه — فإنه عمد إلى إرساء أسسه في بنية العقل المحض نفسه؛ وأناط به التأشير على أولوية البناء الذاتي في أنطولوجيا المعرفة. غير أنه يجب الفصل بين الإستطيقا المتعالية، والمنطق المتعالي. وهو ما يفعله كانط بكل وعي وحسم. ذلك أن المنطق المتعالي سوف يختص بنطاق المعارف المتعلقة بالموضوعات القبلية على حد قوله: مثل هذا العلم الذي سيحدد أصل هذه المعارف، وامتدادها وقيمتها الموضوعية، ينبغي أن يُسمى «المنطق المتعالي»، لكنه قد يحده، كما هو جارٍ في العقلانية التقليدية، بأن يُسند إلى الفاهمة وحدها دور تلقي الحدس ونقده في الآن ذاته، أي إن «المنطق العام» قد يستولي على وظيفة المنطق المتعالي، ويحرفها عن موضوعها الأصلي؛ إذ سوف يقتصر بذلك على تحديد المبادئ والمعايير القبلية المساعدة على إمداد الفاهمة، عن طريق الحدوس الحسية، بالإضافة إلى الإستطيقا المتعالية، إمدادها بالمحتوى التجريبي، فيدَّعي المنطق المتعالي عندئذٍ أنه لا يضمن تركيبة الشكل وحدها، ولكنه ينشئ كذلك المحتوى.
هل يحقق نقد العقل المحض ذلك الهدف الذي وضعه كانط نصب عينيه ليُخرج الفلسفة من المنطق الذاتوي الخالص، وذلك بإعادة النظر كليًّا في هذا النشاط المتعالي، والتمييز داخله بين وظائفه المشروعة، وتلك اللامشروعة؟ فلقد حاول كانط أولًا أن يفصل بين العقل والفكر؛ مما أتاح له أن يُعمل مبدأ التقسيم في هيكل العقل بحرية، دون أن يخشى من أي اعتراض بشأن الفكر ووحدته، فيما لو عرضه لذات العملية التشريحية السائدة في القرن الثامن عشر، وهي التصنيفية النمذجية. فجعل من العقل رقعة مقسمة إلى خانات، كل واحدة منها تنغلق على وظيفة أو جاهزية معينة، لا يُسمح لها بالانتقال إلى الخانات الأخرى؛ لكن شبكية معينة من العلاقات قد تربط فيما بينها عن بعد، بحيث لا تلغي المسافات الافتراضية بينها؛ ولكن، لكيلا يظل الفكر متخارجًا مع هذه التصنيفية الشكلانية، فإنه يعاد إدراجه تحت طائلة تلك المهمة الشمولية التي يتميز بها، وهي المتعالي. فيشتغل المتعالي في مختلف الرقع وعليها، دون أن تكون له رقعة تخصه وحده؛ كأنه يحق له اختراق فواصلها الافتراضية، ومد جسور الفعل والتفاعل بين الرقع جميعها. ولكن ذلك لا يعطي المتعالي أية سلطة تحميه من إساءة استخدامه، من قِبل بعض جاهزيات العقل، وبالأخص منها: الفاهمة. وتاريخ الفكر شاهد على ما يتعرض له مفهوم المتعالي من إساءة الاستخدام، وبالتحديد قبل أن يغامر كانط مغامرته الكبرى، ويعزم على وضع الخارطة التصنيفية للملكات التعقيلية كبنية معمارية معقدة، ولكنها واضحة المداخل والمخارج. وفي حين تشغل كل «ملكة» خانة محدودة من هذه العمارة، فإن المتعالي وحده يجول بينها جميعًا، يخترق حدودها الافتراضية، ويجعلها إنما تعمل لحسابه. وبذلك يتمكن الفكر بواسطته أن يحقق النقلة من حال التجريد، والإطلاقية والسكونية، إلى اختراق المحايثة وتجاوزها، وهو داخلها؛ تلك هي الطريقة الوحيدة التي تمكن الفكر من ممارسة لاتناهيه كانكسارات أنطولوجية مع متناهيات التجربة؛ ولكن لم يكن بالمستطاع بلوغ هذه الطريقة، لو لم يتم أصلًا استنباط الملكات العقلية، وإيضاح مواقعيتها بالنسبة لبعضها، وللمتعالي الذي، وهو يتمفصل معها جميعًا، فإنه في ذات اللحظة، يتيح لها أن تتمفصل مع، وتتزود بمعطياتها من التجربة. تلك هي عملية فورية، لا من حيث الوقت المستغرق، ولكن من الوجهة الأنطولوجية. ذلك أن هذا العلم الفلسفي الكبير: الأنطولوجيا، الذي كان همه التمعين حول أدق خط يلتقي فيه الفكر مع الكينونة، بقي دائمًا غامض المعالم في ذاته؛ وكثيرًا ما أسيء استخدامه حتى أضحى جاهزية غامضة؛ ومع ذلك يراد لها أن توضح ما هو سواها؛ إلى أن شُيدت عمارة «العقل المحض»، كأنما كان القصد منه أن يُبنى لأول مرة الموضوع المشروع للأنطولوجيا. وفي ابتداع مصطلح «التعالي» — الذي سيُكتب له أن يكون سيد المصطلح الفلسفي الحداثوي — سوف ينتقل الفكر، هو وكامل عدته معًا، من الفضاء التجريدي الذي خلَّفته فيه المدرسة القروسطية، وامتداداتها داخل العقلانية الدوغمائية، ينتقل إلى أمكنة الأجوبة الممكنة، الدينامية، عن السؤال الفلسفي المركزي حول الكيفية التي تغدو بموجبها مفارقة الفكر أشد أحوال المحايثة عنفًا مع ذاتها في التقاط ذاتها كمحايثة حقيقية، ولا شيء آخر إلا كمحايثة مساوية لنفسها [بحيث لا يتبقى ثَمة دور للامتناهي إلا داخل المتناهي عينه].

شكلانية «العقل المحض» كان ذاك عنوانه الاستثنائي؛ وهو المنعطف الذي يؤهل الأنطولوجيا لأن تلعب دور الميتافيزيقا المضادة للميتافيزيقا؛ تقرأ مآزقها التقليدية، وقد تخرجها منها، ولكن بغير أساليبها، فتسترد تاريخ الأفكار الميتافيزيقية من خطه الطولاني (التاريخاني)، وتدرجه في واجهة عرضانية، ودفعة واحدة، مقابل الفكر؛ إذ يصبح هو خارج أفكاره، وفي هوامشها معًا. ذلك أن مصطلح «التعالي» سوف يحتفظ بجوهر الميتافيزيقا، لكن خارج إنتاجاتها التاريخية السابقة. سوف تستحيل هذه الإنتاجات عينها، ليس علائم على طريق الانتصار على الكاوس، بقدر ما هي أركيولوجيا لتحقيب معرفي، يدعي إفرازه لأزمنته الخاصة بتعارض شامل مع لازمانية الكاوس، في حين أن الكاوس يبقى خارج ثنائية زمن/لازمن.

يصير التعالي اصطلاحًا ترميزيًّا لكل ما هو انكسار للمفهوم إلى الأفهوم، لكل ما هو حادث للامتناهي تحت طائلة المتناهي عينه، وليس العكس، لكن دون استنفاده.
وأما الأنطولوجيا ما بعد «نقد العقل المحض»، فإنها ستشيد هذا العلم الالتباسي الخاص بالإقامات النادرة العابرة للفكر على الحافات الشفيرية من كل الهاويات التي تجهل قيعانها. إنها، الأنطولوجيا، «علم» التعالي الذي سيكون عليه أن يحرس «الحداثة» بفعل، بأفعال حدثنتها دائمًا، حيثما لا أحد يمكنه أن يغدو حارس الحداثة بحق، سوى الفكر «بما يرجع إليه وحده»؛ لأنه بذلك إنما يحرس نفسه بنفسه.

عندما لا يمكن للامتناهي أن يأتي بالمتناهي، فكيف بمقدوره أن يفسره؟ ومع ذلك فإن هذا التساؤل الإنكاري يتضمن إثباتًا آخر مختلفًا، إذا أخذنا مثالًا على هذا: الزمن. فهو يقدم مفهومًا نموذجيًّا عن اللامتناهي؛ لأنه يقوم على لحظة الآن التي بدورها تستند إلى آن منقضية تراجعيًّا إلى ما لانهاية، وإلى آن مستقبلية، تتبعها آنات ممتدة أفقيًّا إلى ما لانهاية كذلك. الزمن هو الدوام. تقطعه الآن، لتقدم عنه لحظة مرتبطة بالحاضر، الذي هو العلامة الوحيدة المتناهية، على وجود تجريبي أو واقعي أو محسوس. ذلك هو الحدس الزمكاني الذي يتيح الحدس الآني، الذي بدوره لا سبيل إلى التقاط الأول بدونه. ذلك ما يدفع «العقل المحض» إلى إنشاء الفاهمة كشكلانية؛ ليست محلًّا لانبثاق المفاهيم المحض فحسب، ولكنها هي عينها مفهومها المحض. ومع ذلك فإن هذه الفاهمة، بخاصيتها المتعالية تلك، هي المنوط بها إدراج التجربة تحت ظلها.

لقد حاولت الكانطية أن تجعل من الشكلانية الحل الاستثنائي للإشكالية المؤسسة للأنطولوجيا: وهو بناء «الجاهزيات التوسطية» التي تتسلسل من مستوى عمليات المفهمة المحض، إلى صياغة المفهوم/الموضوع، في حين كانت العقلانية التقليدية لا تجد أدنى صعوبة لتجاوز التمفصل بين الشكلاني والتجريبي، بافتراض الوجود الخالص القبلي للمبادئ العقلية؛ أي للأطر المعرفية. كانت تعتقد أن الانتقال من الإطار إلى المحتوى التجريبي، يتم بصورة آلية. ذلك هو الموقف العقلاني الموصوف بالسذاجة. هنا يتدخل الجهد الكانطي الذي لا تقنعه هذه السذاجة. يقول هيدغر في سياق مشروعه التأويلي الموازي للكانطية: «إذا كان المفهوم المحض للفاهمة لا تجانسيًّا تمامًا بالنسبة للظواهر رغم تحديده لها، فلا بد من إيجاد وسيط لها يتجاوز هذه التجانسية.» ويورد نصًّا لكانط: «هذا التصور الوسيط لا بد أن يكون محضًا (أي خالصًا من كل عنصر تجريبي)، ومع ذلك ينبغي له أن يكون ذهنيًّا من جهة، وحسيًّا من جهة أخرى. تلك الترسيمة [مفردة الشكلانية] المتعالية.» يغدو انطباق المقولة على الظواهر ممكنًا بواسطة التحديد المتعالي للزمن، ويفيد هذا التحديد، من حيث كونه ترسيمة لمفاهيم الفاهمة، ويعول هيدغر هنا مباشرة على الدور المركزي الذي تشغله الشكلانية في عمارة «نقد العقل المحض»، مذكرًا بأن كانط نفسه قد أشار إلى الصعوبة الكبيرة التي كابدها في إيضاح الفصل المتعلق بالترسيمية، وذلك في الطور الأخير من حياته.
لا بد من الإشارة في لحظة البحث الراهنة، أنه يرجع إلى هيدغر ربط التعالي، وهو مصطلح كانط الأساسي، بالترسيمية schematisme أو الشكلانية، مؤولًا ما يعنيه كانط من استخدامه المطرد للخاصية: «المحض» في كل ما يفيد التمفصل بين جاهزيات العقل المحض، أو ملكاته، فيما بينها، وبينه ككلٍّ في مواجهة التجربة. وقد يستعمل هيدغر عبارة الشكلانية المتعالية، في وصف تلك الخاصية لذاتها. ذلك أن الشكلانية هي التعالي في حال التشخص والترسيم. والعبارة بقطبيها: الشكلانية المتعالية، هي الرهان الأكبر، برأي هيدغر، على إعادة تأسيس كانط للميتافيزيقا (الحداثوية)، التي سيكون عليه، أي هيدغر، أن يتلقفها بنهم عبقري، مخترقًا الحدود التي توقف عندها كانط نفسه، ناقلًا مشروع التأسيس الكانطي من نظرية المعرفة، التي أنجزت تصفية حسابها مع المنطق التقليدي بنوع من إبستمولوجيا أنطولوجية (هيغل)، إلى أنطولوجيا جديدة صريحة مع نفسها، وتتجرأ على استعادة مفهوم الكينونة، وطرحه مركزيًّا وسط الفكر الحداثوي، كسبيل وحيد لاستعادة العالم نفسه كوطن، ولا وطن سواه، للكينونة، مع هيدغر.
لقد ظهر مع «نقد العقل المحض» أن الميتافيزيقا سوف تنتقل كليًّا إلى مجال نظرية المعرفة، وتتمترس بحدود مصطلحها الجديد: الشكلانية. وقد كانت بلغت الشكلانية أوجها مع مشروع هيغل في إعادة إنتاجه لعلاقة العقل والعالم جدليًّا، بما يثبت أولوية الجانب المعرفي كشكلانية مطردة، متنامية عبر الزمن (التاريخ)، قادرة دائمًا على خلقها لمحتواها كطريقة أخرى في خلقها لذاتها. لكن هيدغر يرفض المشروع الهيغلي جملة وتفصيلًا. لا يرى فيه المحصلة الميتافيزيقية الأخيرة للعقل المحض؛ أي إنه يعترض أصلًا على الأطروحة التي تزعم أن الشكلانية كافية وحدها لتعكس الآخر الكبير، الغائب الكبير، الكائن. ولذلك كافح هيدغر من جديد لكي يراجع العمارة الشكلانية على ضوء مشروعها الحقيقي لدى كانط كما يفهمه، وهو إعادة بناء الأنطولوجيا باعتبارها علم الفكر، المميز، بما يرجع إلى الفكر وحده، فالأنطولوجيا كعلم، هي المدخل الوحيد إلى الكينونة.
الشكلانية الكانطية ليست نظرية للمعرفة، إلا من حيث إنها تعلق «الميتافيزيقا التقليدية» بين هلالين، في سجن منطقها التجريدي، فاتحةً الطريق مجددًا نحو استعادة اللامتناهي إلى سياق المتناهي عينه. لذلك يغدو كانط المؤسس الحقيقي لأنطولوجيا الحداثة. تولد معه الميتافيزيقا مبرَّأة من مختلف أقنعة المفارقة التي غطت وجهها طيلة عصور عديدة، تحت مختلف الاستطرادات المموهة خارج النص (المحايثة).
غير أنه من دون القراءة الهيدغرية — وخاصة عبر كتابه: كانط ومشكلة الميتافيزيقا — كان يمكن للكانطية أن تظل حبيسة الشكلانية، كنظرية للمعرفة؛ ولا تلقى انزياحها الأصلي نحو الأنطولوجيا أبدًا. وإذا كانت أهمية الشكلانية أنها استطاعت أن تنتزع العقل نفسه من المفارقة التجريدية، وتُدنيه من حدود التجربة، حيثما تتأكد أصالته الحقيقية، فإنه بالمقابل لم يكن بمقدور «التحليل الوجوداني» [عند هيدغر] أن يجد تأسيسه في أنطولوجيا حداثوية، تعيد «الكينونة» مجددًا إلى حاضرة الفكر المعاصر، لولا «نقد العقل المحض». ذلك أن استرداد المتعالي من تهويماته خارج النص، جعل كل نص حقيقي وطنًا آخر مختلفًا للتعالي.١
لم يعد المتعالي مهربًا للمتناهي نحو اللامتناهي. فلقد أثبتت الميتافيزيقا التقليدية أن أسلوب هذا المهرب لم يوصل إلى اللامتناهي، ولكن إلى التجريد فحسب. ولم يبدأ الفكر يشعر بالخديعة الميتافيزيقية المتمادية إلا عندما أدرك مع كانط، أن المشكلة ليست في فرار المتناهي من نفسه، ولكن في عزل اللامتناهي ونفيه دائمًا خارج النص، والاستعاضة عنه بتجسيد أنصاب وأقانيم عن خارجانية ليس لها أية جوانية حقًّا. وقد التقط هيدغر منعطف النقدية الكانطية التي وضعت الحد العقلاني الحاسم لإشكالية مصطنعة حول «مهارب» للمتناهي من ذاته. اكتشف هيدغر أن الشكلانية قد تنجز الحل الأصعب، والمؤجل قرونًا طويلة منذ الأفلاطونية، وذلك في تحليلها لوظائفية العقل؛ ليس باعتبارها مبادئ أولية قادمة من المجهول، ولكنها كجاهزيات واقعية، وهي أقرب إلى المستوى الأنثروبولوجي والنفساني؛ لكنها في الوقت عينه، إذ تحدد تحليلًا مواقعيًّا لعلاقاتها التمفصلية فيما بينها كجاهزيات تشتغل على المادة الأولى المجلوبة عن طريق الحدوس الحسية، فإنها بذلك إنما تؤمِّن للتعالي كل الوسائط العقلانية المطلوبة، والمساعدة على تحقق القفزة التركيبية نحو إنجاز لحظة التمفصل التي تجلب اللامسمى إلى المسمى دون أن تقطعه عن سديمه الأصلي. إنها اللحظة التي يقبل فيها اللامتناهي بالانكسار (البرقي) على حدود المتناهي نفسه. تنتهي قصة القطبية: من يأتي إلى حيز من. قصة فرار المتناهي من نقصانه النسبي إلى الضياع في المطلق؛ التضحية باللغة من أجل تسمية الصمت. ذلك أن المتناهي — من قبل كانط — عندما كان يفر من ذاته فإنه لن يلتقي اللامتناهي. ولكنه كان سيقع هو وإياه معًا في منطق «الفئة الفارغة» في التجريد؟
«نقد العقل المحض» تصحيح للتعالي، والأنطولوجيا الحداثوية، انطلاقًا من كانط، وعلى طريقة هيدغر، هي «علم» تصحيح التعالي، علم لا ينفك يواجه لغزية التعالي، ويدأب على قراءتها وترميزها، مصححًا دائمًا من دلالاتها على ضوء مواقعيتها المتحركة على التخوم النافذة الملتبسة بين المتناهي باعتباره لا متناهيًا، واللامتناهي باعتباره متناهيًا؟
ومنذ قيام الأنطولوجيا الحداثية، كعلم تصحيح للتعالي، أصبحت مهمة الفكر أن يجد نفسه لا في نفسه، ولكن في كل آخر. سؤاله يذهب إلى الأشياء، ويحسب أنه لا يرجع منها إلا وهي معه، أو معها نظامها. ليس المقصود استقلالية الفكر أو تبعيته في هذا السياق، بل هي كيفية اختراقه لكل الغير، دون أن يشوبه الغير، إلا بما يقدمه اختلافه عينه. بمعنى أن الفكر يزداد معرفة بذاته بقدر ما تزداد معرفته بالآخر. كل المسألة ليست في كيفية دخول الفكر إلى الغير، ولكن في كيفية اكتشاف الفكر لذاته وهو في سياق بحثه عن الغير دائمًا، بل لعل الفكر لا يدخل غيره لأنه يسكنه منذ الأزل؛ بيد أنه لا يمكن لأحد سواه أن يستدل على مكان سكناه فيه ذاك إلاه هو عينه. هذه الإشكالية، اللاإشكالية، تضع حدًّا لأُحجية الأولوية بين الذات والموضوع، أو لثنائيتهما معًا. فلا أحد منهما يمضي إلى أحد، لا الذات تلتحق بالموضوع، ولا هو يلتحق بها؛ لأن الفكر أصبح يتكلم لغة الاثنين، وهما مجتمعان متكاملًا معًا دائمًا. ذلك أن الفكر لا يجيء العالم إلا وهو محمول به مقدمًا. ليس للفكر ما يسكنه إلا العالم. والبحث عن الفكر ينبغي أن يبدأ من محل سكناه؛ حيثما ينادى على الفكر، كأن العالم أجمع هو من يصغي إلى النداء، ويكلف بالرد عليه والاستجابة له؛ لأن الفكر هو صوت العالم وهو استجابته.
ولقد فهم هيغل إشارة الأنطولوجيا بعد كانط، فحاول أن يوحدها مع التاريخ، مع اكتمال الإنجاز الإنساني. لكن المفهوم، ليس begriff هيغل، لن ينتظر تلقائيًّا تحقق كمال التاريخ، إنه قد يتوقف/لا يتوقف على ما يصنع الزمن به. الكمال ناقص دائمًا، لا يمكنه أن يلغي المستقبل. وبالتالي فإن «المفهوم» هو ولادات تعددية لأفاهيم لا تكف عن توليد عتبات لمستقبلات، لأزمنة، موعودة دائمًا بسواها وسواها إلى ما لانهاية؛ إذ كيف يمكن لأية أنطولوجيا صادقة مع نفسها، أن تنظِّر مقدمًا لانكسارات اللامتناهي مع المتناهي، لكل المستقبل الذي لا نهاية لمجيئه؟
إن التناقض البدئي في المفهوم الهيغلي، هو أن الزمن لديه لا يعد إلا ﺑ «تاريخ» واحد وحيد. وبذلك فالزمن يقبل بإلغاء ذاته. ينتهي التاريخ إلى تأريخ [تسجيلي]. هيغل أخطأ تأسيس الأنطولوجيا على أحد ممكناتها وهو الزمن التاريخاني. ومن هنا العنف المضاد الذي جاءت به ثورة نيتشه على «المفهوم» الهيغلي. كيف لأنطولوجيا تولد في مجاورة «إرادة القوة» أن تخصص نفسها بمنطق واحد، حتى ولو كان الديالكتيك الذي لا يعترف بتناهيه إلا عند حدود «الكمال»!
إن الأنطولوجيا، التي تريد أن تغدو علمًا للوجود كفكر مطلق، لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا كانت علمًا مجاورًا للمتناهي في انكساراته الدائمة مع اللامتناهي. ولعل إرادة القوة النيتشوية تجيء مصطلحًا أكثر تشخيصًا وحيوية لهذه المجاورة؛ ولذلك ليس في مقدور أية أنطولوجيا بعد «نقد العقل المحض»، أن تُسرد قصة المفهوم، دون أن تسرد معها قصة انكساراته إلى أفاهيم. ولقد واجه هيدغر هذه الإشكالية وهو يحاول المراهنة على مشروع تأسيس الأنطولوجيا انطلاقًا من الدور المميز للمتعالي في صميم العمارة النقدية الكانطية. لعله يكون المتعالي نفسه هو الموضوع الحقيقي للأنطولوجيا الجديدة، ما دامت تناط به جاهزية الشكلانية وتفعيلها بالنسبة لذاتها، كجاهزية للعقل المحض نفسه، وبالنسبة لأشياء التجربة في الوقت عينه؛ إذ إنها تحدد هذه الأشياء، كظواهر متناهية، مقتطعة من اللامتناهي، وتنبني تحت وطأة المتعالي كمعارف تركيبية، أتاحت لها خواصها الحسية أن تقدمها ككيانات عقلية مختلفة. فالتعالي (هنا بمعنى التجاوز) يدع الموضوع يتموضع، برأي هيدغر. أي إنه يجيئه وهو في تناهيه المحدد الذي — أي هذا التناهي — هو وحده من يرشح الشيء، ليغدو موضوعًا يشتغل عليه المتعالي، بما يجعله موضوعًا معرفيًّا. وهذا ما توضحه مساءلة هيدغر الآتية: «إذا كانت معرفتنا، بما هي متناهية، ينبغي لها أن تكون حدسًا استقباليًّا، فإنه مع ذلك لا يُكتفى بمثل هذه الواقعة؛ إذ ها هنا تنبثق المشكلة: فما هو الشرط الضروري، غير الواضح في ذاته على الإطلاق، الذي يجعل [عملية] استقبال هذا الكائن ممكنة؟» ليجيب بعد قليل: لا يمكن لحدس استقبالي أن يتحقق إلا عبر ملكة مموضعة une faculté objectivante، تتيح عملية التوجه [التجاوز] نحو … وهي الطريقة الوحيدة المؤدية إلى تحقق إمكانية الاتصال المحض. ويسارع هيدغر لينفي تهمة «المثالية الذاتية» عن مثل هذه العبارة. ذلك أن كانط نفسه يؤكد دائمًا أن عملية الموضعة لا تتم إلا لأن ثَمة شيئًا ما يصطدم بالعقل. هناك ثَمة كائن مغاير، مختلف وفجائي، يصطدم بالجاهزية الحدسية لدى الذات؛ غير أن هذه الجاهزية الحدسية تمتلك قابلية الاستقبال، والتوجه نحو الكائن-هناك. ولقد أنشأت مثل هذه الملاحظة الأولية عمارة الفينومنولوجيا. وجاء هوسرل بمصطلح «القصدية» l’intentionalité، سوف يمنح سياقًا إجرائيًّا، سوف تتوقف عليه «خصوصية» وجود الإنسان في العالم، الأمر الذي ساعد هيدغر على استعادة سؤال الأنطولوجيا نفسه في حيز سؤال الكينونة. فالتعالي لن يقيم شكلانية العقل المحض غاية في ذاتها — كما تبدو عند حدود النقد الكانطي بالنسبة لمجمل الكانطيين البعديين، بمن فيهم أتباع الهيغلية وفرعها الماركسي كذلك — ولكن التعالي سوف يستخدم هذه الشكلانية كأحدث منهجية محايثة، لمقاربة الكينونة وهي في مفارقتها داخل سياق المتناهي عينه، حيثما تتمكن الكينونة، لأول مرة ربما، من دفع الصيغ التجريدية عن إشاراتها، بقدر ما تستطيع إشاراتها عينها، وبفضل عنفها الخاص فحسب، تستطيع الإيماء إلى اللامتناهي، آتيًا، مطلًّا، ومنسحبًا، على تخومها بالذات.
في الواقع يمكن القول إنه منذ «نقد العقل المحض» فقد عاد الفكر إلى مراهنته الأصلية، وهي أن يأتي بالكينونة بطريقته وليس بطريقة التجريد وجهازه المفضل: المنطق، الذي يصفه كانط بالمنطق العام؛ فسواء غدت الفلسفة منذ منعطف العقل المحض، تعي هذه المراهنة وبدرجات متفاوتة، أم لم يُقدَّر لها أن تعيها بوساعتها وعمقها، فقد أصبح قدر الفكر ملازمًا لقدر الكينونة، بعد أن استُنفدت كامل الوسائط السابقة بأجهزتها التجريدية من لاهوتية أو تصورية، واليوم: علموية أو تقنوية أو افتراضية Virtuels مع «الثورة» الاتصالية الشاملة الراهنة؛ لكن كذلك يمكن القول إن المسافة النقدية التي افتتحها العقل المحض، ما زالت مشرعة الآفاق، حتى يمكن اعتبار القمم الفلسفية التي ملأت حقبة الحداثة، منذ كانط إلى نيتشه وهيدغر، والجيل النيتشوي الهيدغري المعاصر، قد قُيض لها، واحدة بعد الأخرى، أن تحسم مع كل جهاز واسطي يلي جهازًا واسطيًا آخر، وهكذا مع الوسائط جميعها دفعة واحدة أخيرًا، وفق «هيدغر». فالحداثة تلك كانت حقبة لتصفية الوسائط، وصولًا إلى الخانة الفارغة من كل واسطة، حيثما لم يتبق أمام الفكر إلا أن يكون فجائي ذاته، في الكينونة، مع الكينونة، مواجهًا للكينونة؛ أصبح رهان الفكر أن يفوز بالكينونة، بفضله وحده مباشرة، على ألا يفوز بها تمامًا.
كان هناك نوعان من الوسائط: ما قبل «نقد العقل المحض»، وما بعده: خلال الماسبق انخرط الفكر باختراع الوسائط التي تساعده على الفرار الكلي من المحايثة، وبلوغ المفارقة بأي ثمن؛ بعد النقد الكانطي لم يتحرر الفكر كليًّا من جسر الواسطة، حتى عندما أصبح هو قطب الاختلاف الوحيد داخل المحايثة؛ فقد وجد الفكر نفسه، ليس في مواجهة بديل من بدائل الوساطة، ولكنه أمام واسطة الوسائط جميعها: التكنولوجيا. كما لو أن المفارقة اختارت أخيرًا تجريد التجريد، تقنية التقنية؛ التقنية التي تحل محل الوسائط جميعها، كغاية للواسطية الشمولية في ذاتها. هكذا إذن لا تزال لعبة استيعاب اللامتناهي بواسطة التجريد سائدة؛ ومع التقنية لم يعد ثَمة حاجة إلى اختراع أمكنة للتجريد تقع خارج المحايثة، بل صار محل المحايثة هو عينه محل التجريد. مع التقنية لم يعد التجريد يكتفي بممارسة الغيب على الكلمات فحسب، بل صار ديدنه تأكيد حضور الأشياء وحدها كطريقة فذة لإلغاء حضورها، هي وكلماتها وكلمات الكلمات كذلك؛ فالتقني ليس كلمة، شيئًا، ليس فراغًا. ليس صناعة للتجريد، ولكنه هو المدلول عليه، ما إن ينقذف وسط الصيرورة، حتى يحول التجريد إلى أهم سائد بين أسياد الحضور؛ التقني يمعدن التجريد، ويؤولنه كأخطر آلة في عالم المؤولويين الخالص.
المحايثة التي وطَّد دعامتها الأساسية «نقد العقل المحض» باعتبارها وطن الحساسية؛ أي ذلك التشخيص النهائي لحدسَي الزمان/المكان؛ المحايثة هذه، يتهدد مكانها من جديد بعد سلطة أحادية/التقني؛ إذ إن التقني يريد أن يثبت عملانيًّا أن الحساسية يمكن أن تستمر بدون الزمكان؛ إنه يقدم التجريد المشخص الذي يمتنع على التزمين بفضل بقعة مكانيته وحدها. إنه يمعدن الفراغ. فقد كان التصور الثمرة الأولى للشكلانية. كان يطرح نفسه كمفردة توسطية بين معطيات الحساسية وجاهزيات المفهمة. فتكون مفردة أقرب إلى التجريد والتشخيص معًا، تقف في منزلة وسطية بينهما؛ قد تنتجها الشكلانية لكنها لا تنفك أولًا عن مضاهاتها بمصدرها التجريبي، من جهة، وعن الاندراج في عمليات التحليل والتركيب التي تمارسها جاهزيات المفهمية على مادتها الأولية، من جهة ثانية. فالتصور يدخل مرتبية الحكم، ثم مرتبية المحاكمة، ويخضع أكثر فأكثر لأعلى تلك الجاهزيات وأعقدها، إلى أن يتحول نسقًا مفهميًّا بين أنساق أخرى لا متناهية، لا يتسع لدلالتها إلا العقل نفسه. ما كانت تحاول إبرازه شكلانية كانط هو أن تشكيل المفهوم في حد ذاته، ينزع عن التصور صفته المرآوية أو الانعكاسية، ويُدرجه فوريًّا في مملكة الفاهمة التي تتعامل معه على ضوء ما سوف يصل إليه بالضرورة بفضل «تعاليه» الخاص نحو سدرة المفهوم. والمفهوم ليس فريد ذاته. إنه اللحظة المستمرة نسبيًّا من تلك «السرعة» التي تقارب الفورية القصوى. إنه المفهوم المتناهي ذو القدرة على التفرع والانكسار والانتشار إلى أفاهيم لا متناهية. تكاد تحدث/لا تحدث في كثافة مطلقة من ذات البؤرة، وفي ذات الانتشار اللاذاتي أبدًا. ما يرشح فورية المفهمة لأن تنبثق هي ومفرداتها، متزودة بموضوعيتها مقدمًا. فتبدو مفردة التصور، الفكرة، المفهوم، وكأنها حقيقة ذاتها. إن المفهمية، بطريقة الشكلانية الكانطية، توحي أنها ترشح التصورات للانتقال من موضوعية انعكاساتها الحسية، إلى مرتبية المعرفة، أو الحقيقة، بحيث يظهر الشيء المعرفي كتكوين «ثالث»، ليس هو بالشيء الحسي الخالص، ولا بالشيء المفهمي التجريدي؛ إنه تدوين نفسه، وليس صناعة لأحد. ذلك ما تسميه اللغة الدارجة: الاهتداء إلى الحقيقة، وهي الحقيقة التي «تفرض» نفسها على العقل، وما تعنيه وصفة البداهة. ذلك أن كل حقيقة ليست كذلك إلا لأنها تتمتع بوصفة البداهة؛ لكن البداهة هي ترميزة السرعة التسريعية، التي لا يمكن المضي فيها دون اختراق حدها الأخير، وفقدان نقطة انطلاقها في آن معًا. إنها لحظة حرية الفكر مع ذاته وحدها، بدون أية حدود سابقة أو لاحقة.

ذلك هو الانفراق الحاسم بين العقل التجريدي، والعقل المحض: الأول يخترع التصورات جاعلًا إياها عُملته الخاصة، ومفرداته، ينشغل بها في تأدية معاملاته اليومية الإجرائية، في حضور أو غياب أشيائها (الأصلية). والثاني، العقل المحض، هو الذي يفوز بالفورية وحدها؛ أي يلتقط السرعة بدون مبتدئها ومنتهاها. الفورية هي السرعة القصوى التي تفقد ذاكرة منطلقها، وتقتنص مقدمًا حدها الأخير.

الفورية مفهوم جديد نزقٌ لا يدخل عمارة الشكلانية لكي يقوضها، ولكن من أجل أن يحول مواقعية جاهزيتها المختلفة، إلى لحظة تحقق ضوئي، مطلقةً الكثافة والشفافية معًا، يصنعها المتعالي مشكلًا منها حد البداهة. ذلك هو عمل الفاهمة، عندما يؤوله هيدغر، كما عرضه كانط، باعتباره يموضع الموضوع. فما يحتاجه الموضوع لكي يصبح في متناول الفاهمة، ليس مجرد تواجده في مرامي الحدس الزمكاني فحسب، ولكنه عندما يكتسب «موضوعيته»، وقد باتت في مرامي الفاهمة نفسها. وتلك هي لحظة البرق الخاطفة، لحظة البداهة، التي هي من شأن الفهم مع ذاته فقط. الفهم [الفكر] الذي يتوسط نفسه ليلتقط الآخر، ويلتقط التقاطه ذاك للآخر، في ذات اللحمة. الفورية هي خاصية الفكر قبل أن تكون خاصية النور. ذلك أنه لا شيء يدخل الفورية إلا ويغدو من مادتها اللامادية/المادية المطلقة. الضوء لا يحمل إلا نفسه. ومن أراد النور ينبغي أن يتحلل إلى زمن الفورية، لا يتوسطها شيء إلا ذاتها.
تلك هي «صوفية» التعالي/المتعالي الأخيرة، فورية التقاط الصميم النووي من المادة، حيثما يصبح العدم تكوينيًّا. وقد تناظرها الفورية الأخرى، وليست هي (الأخرى) أبدًا، ونعني بها لحظة البداهة قبل أن تغدو حكم البداهة، أو الحكم البدهي؛ حيثما العقل المحض يظل تكوينًا خلويًّا، ولا يصير خلية ما أبدًا. هكذا ينبثق مفهوم الفورية؛ لا لكي يعيد الوصل بين الفكر والعلم مشتركين معًا في تأسيس التجريبية المتعالية، كمذهب تركيبي أخير يضع حدًّا للتمذهب، بمعناها التقني والماهوي. فالفورية ليست جدلية تصف الواحد بنقيضه، ولا هي منهجية تفكيكية تكشف عن برانية كل جوانية. إن الفورية طريقة لالتقاط السرعة نفسها، طريقة في المضي معها، وهي تخترق حد البداية، ولا تضيع في حد النهاية. قد تعطي الفورية الوهم بمثول الحاضر كما لو كان الحاضر لحظة تشبُّت مستحيلة بالزمن فور أو قبل انقضائه. هذا التشبث يعني مد صلة ما بالسرعة عينها. ولكن كيف السبيل إلى الاتصال بالسرعة؟ إذ لا يمكن الكلام عن السرعة إلا بصيغة عدم الحدوث بعد. إنها صيغة، إمكانية خالصة؛ لأنها تقع في المستقبل. ولا تلبث حتى تختفي مع وشوك الحاضر على الحضور فالغياب. أليس الفوري هو نوع من التشبث الفكري التخيلي بالمنقضي؟ الفوري هو ما يتبقى من الانقضاء. علامته في الكون هي الكائن الضوئي. علامته في الكائن هي الفكر. وأما «الفهم» فهو المايحدث الفعلي بين الفكر و«خارج» الفكر، كجسر يختصره الإدراك. فلا تكاد تتحرر «نظرية المعرفة» من عملانية الإدراك وازدواجيته (الثابتة)، في كل مرة تحاول اختراق الدورة المباشرة، من النفساني والأنثروبولوجي، حتى تقع في الفراغ التجريدي. ليس التجريد خطرًا مداهمًا للمعرفي، بل هو يترصد كل ما هو كوني فيه: التجريد هو البديل السهل عن اللامتناهي. وهو الالتباس المسئول عن تفريغ الجهد الفلسفي كلما قارب حد اللامتناهي. إنه الفخ الذي يحوِّل الكونية إلى مجرد عمومية، واللاتناهي إلى مجرد مصطلح رياضي، أو وهم شعري.
لكن دخول السرعة على مفردات الفكر قد يمنحها نوعًا من التجسيم الفيزيائي والكوسمولوجي. إنها، أي السرعة، تمثيل تجسيمي على المايحدث الفكري، مقابل المايحدث الكوسمولوجي [المجهول]؛ فلا غرابة أن تدنو الفيزياء الحديثة من استعارات السرعة القصووية في أصغر المادة وأكبرها؛ أصبحت السرعة هي الموضوع الحقيقي للعلم المستقبلي. ومن هنا سيغدو العلم نفسه إحدى الاستعارات الأكثر نجوعًا، للفكر، وليس منافسه ولا غريمه، كما جرت عادة بعض التفلسف الساقط في فخ التجريد. ذلك أن الفيزياء الفضائية بالمقابل يتهددها فراغ التجريد كذلك، إن لم تملأه بكونية الفكر، حيثما يلتقي الكوسمولوجي الشعري والكوسمولوجي الرياضي. يخسر الشعر اصطلاحه الأدبي، عندما يتم اكتشاف الفكر شعريًّا ملء العالم والكون. عندئذٍ يصبح الفوز بالشعري فوزًا باللامتناهي على طريقة المتناهي. يتبدد التجريد عندما ينتهي التفكير فيه وبه. ما هو الضد الحقيقي للكينونة؟ ليس العدم إطلاقًا، ولكنه التجريد. التجريد هو انتفاء الفكر. والتجريد ليس هو الفراغ، بل كل الجاهزيات التي تحاول لعبة الفكر، بدون الفكر نفسه. لا يمكن مقاربة الفكر إلا وهو فوري ذاته، يلتمع برقًا خاطفًا على شفا الهاوية بين المتناهي واللامتناهي. فأن يكون مصير الفكر هو السرعة، هذا يعني أن الفكر باعتباره السرعة هو «كالنقطة المتحركة في مختلف الاتجاهات ضمن اللامتناهي» كما يقول باسكال. غير أن هذه النقطة وحدها تظفر بحادثة الثبات الذي يُعبَّر عنه بالزمكان، باعتبار أن الزمان يبقى شيئًا أكثر من المتناهي، وأقل من اللامتناهي. إنه حادثة الفارق بينهما، لمعة الفكر كحادثة مهلة ما في سياق السرعة ذاتها. وبعد ذلك يصبح توزع الزمان إلى آناته الثلاث، الماضي والحاضر والمستقبل، نوعًا من التصورات/الأحوال، التي تعطي إشارات متغيرة عن المتغير الأصلي الذي هو التناهي. إنه الزمن الإنساني الذي يشغل مهلة فيما لا مهلة فيه، لا بدء له ولا غاية، لكنه المهلة التي تلعب دور حد الفصل وليس التمفصل، ما بين الكونية والعمومية.

فالزمان هو ترميز التناهي. وهو المتغير الوحيد الذي يحتمل قول كل شيء عنه من الاحتمالات والتصورات، مقابل اللامتناهي الذي يقال عنه أي شيء، دون أن يستوعبه أي شيء. والسرعة هي مما يحتمله المتناهي، ويتجاوزه في آن. السرعة أشبه بجسر الفصل، والتمفصل مع المتناهي. إنها الصورة الفيزيائية التجسيمية للفكر، ولظل الفكر على المادة. ولكنها هي ترميزة المتميز أيضًا. ذلك أن السرعة هي المهلة الفريدة التي يمكن أن ينتزعها المتناهي من اللامتناهي دون أن يفقد وجوديته الأصلية كمتناهٍ، ودون أن يسقط اللامتناهي في التجريد، أو في انعدام الإشارة.

الزمان ذو الآنات الثلاث متناهٍ في ذاته، وإن كان يبدو، بطريقة اللامتناهي، بالنسبة إلى الكائن الوحيد الذي يمكن اعتباره الكائن الزماني، كائن المتناهي، بالواقع وبالحق معًا: الإنسان. ولكن ذلك لا يخولنا التوحيد بين الزمان والمتناهي. فالزمان لا يحمل شبهه اللامتناهي إلى المتناهي، بل يؤكد أن اللامتناهي نفسه هو من عنف المتناهي؛ ليس نقيضه الصوري أو المنطقي، ولكنه ينخرط في مفهوم/أفاهيم المتناهي، ويؤسَّس بما تؤسَّس به كينونة المتناهي، من حيث هي كذلك. ليس هذا لأن المتناهي هو المهلة — الإعجازية — التي يُعرَف ويوجد من خلالها اللامتناهي فحسب؛ بل لأن المتناهي لا يمكنه أن يبدو هكذا إلا وهو يسجل حادثته، فيما لا حدث فيه، سوى «وهم» هذا التسجيل وحده. قد يحقق اختراقًا للفورية، في كنف اللامتناهي، وليس في جسده، اللامتجسد أبدًا.
وقديمًا استهلكت الميتافيزيقا ذاتها في اللاهوت كيما تعثر على حل لهذا الإعجاز. واليوم يقدم العلم إشكالية الإعجاز، وإن تأخر الحل. سوف يُعتبر العلم [المعاصر] تطويرًا فلسفيًّا في العلم [المعرفة/الميتافيزيقا]. لا يدعي حساب السرعة، بل يجتهد هو الآخر في ميدان «التجريبية المتعالية» كما اكتشفها دولوز؛ فيقارب السرعة كما لو كانت إشارة التعالي، تعلن عن الحادثة المستحيلة الممكنة، في تمفصل اللامتناهي مع المتناهي، داخل المتناهي عينه، بحيث تُقرأ كل «جوانية» اللامتناهي «داخل» برانية المتناهي، وحسب مفرداتها الخاصة، ولكن بطريقة حيادية تتفوق على ثنائية البراني والجواني، على الاثنين معًا، بحيث يشرع في العد الرياضي والكوني، من العدد الاثنين وليس من الواحد. ولا يتم العد الرياضي والكوني، إلا من العدد الاثنين وليس من الواحد. ولا يتم العد علميًّا/فلسفيًّا معًا إلا في تحقق العدد ثلاثة، الذي يثبت إمكان/ضرورة جمع العدد الثالث كواحد، إلى كل اثنين من الواحد، على الشكل الآتي ٣ = (١ + ١) + ١. وذلك باعتبار أن العدد ٣ يجمع كلًّا من الواحد والاثنين؛ فالرياضة تبقى علمًا للمتناهي لا ينفصل عن اللامتناهي. لكن كيف اقتطاع المتعين دون اقتران المتعين باللامتعين؟ أليس اقترانهما ببعضهما يمنح أولوية لكلٍّ منهما بالنسبة للآخر؟

هذا الاستطراد الرياضي يضعنا في عتبة كل فهم عصري لعودة التمعين العلمي الفلسفي، بهدف خدمة كل أحد منهما للآخر. وبالتالي، فإن انبثاق مفهوم السرعة في لامتناهيات العالمين الأكبر والأصغر، يوفر لغة محايثة قادرة على التقاط المتعالي، وهو يزرع أو يقطع الكوسمولوجيا من الأقصى إلى الأقصى، كأنه يسكن بيته الخاص. فالمتعالي لا يخسر شيئًا من مفهمته إن اختار «ترميز» السرعة، ولم تُفرض عليه، بل قد يكتسب بفضلها تشخيصًا ينقل المفارقة من المدار المنطقي، ويداهمها بكل فجائيات كوسمولوجيا، وقد صارت تقع على مدى البصر والبصيرة معًا.

إن «السرعة» نحملها وتحملنا في جسدنا. توحد جسدنا بجسد الكوسموس. قبل التكنولوجيا كنا نمتطي سرعة الأرض وحدها التي نحيا فوقها. مع التكنولوجيا أصبحنا نستخدم وسائط السرعة من حيوانات ثم عجلات، ثم أجنحة وصواريخ. وعلى حافة التكنولوجيا وما بعدها، فإن السرعة تضعنا في مواجهة ذاتها كجدار لسرعة الضوء، وما يتخطى هذا الجدار عينه، حيثما يأتي زمان الكائن الضوئي، الكائن النوراني. هذا النوع «الثالث» من الكائن الذي يريد الحفاظ على جسديته، ما قبل حاجز النور، ويكتسب زوال هذه الجسدية دون أن يزول، ما بعد حاجز النور.٢

من خلال مسار السرعة يغدو «الانتقال/النقل» همًّا حقيقيًّا ثابتًا للفكر، للجسد، للأرض. ولنقُلْ قبل كل شيء إن النقل/الانتقال هو حادث خيالي، يضعني في كل مكان آخر، دون أن أفقد مكاني. وكل «تقدم» فيما بعد، يصير تجنيحًا ممعدنًا تصنعه التكنولوجيا. وقديمًا استحوذ على فكر الطبيعيين من فلاسفة الإغريق، موضوعُ الحركة. فرأوا فيها تمييزًا للكائن الحي، من حيوان وإنسان، على الجهاد، ثم استطاعت الرياضة أن تجرد المتحرك، وتقدم تصورًا يُسمى النقلة مرتبطًا بالمكان. فاعتبرت أن الحركة هي نقلة في المكان؛ ومن الطبيعي ألا تُفهم السرعة إلا كصفة لحركة المتحرك. غير أن السرعة انتظرت أينشتاين، بعد الانشغال الطويل بعالم الفضاء على مستوى الفيزياء الكلاسيكية؛ لكنها ما إن قفزت إلى الفيزياء الفضائية، حتى غدت هي نفسها — أي السرعة — الموضوع المحوري للكوسمولوجيا العصرية. فقد كان يحسب العلم أن التفكير في نوع من السرعة المتسارعة شبه المطلق، يصير ضربًا من التجريد، وإن أمكن الرمز له رياضيًّا تحت فصل حساب اللانهايات؛ لكنه يستعصي على التجريب. وذلك أن العلم يتشبث بالثابت، ولا يرى المتحول إلا من خلاله. فالحركة حالة موقتة مرجعها السكون؛ والقوانين الفيزيائية ليست سوى معادلات سكونية، تترجم المتحركات إلى أنظمة مفهومية وثبوتية. ثبات المشهد المادي أمام البصر تحكم عصورًا طويلة في سبل التقاط الحركة والمتحرك؛ ولكن تم ضبطهما خلال الترميزات، من ميتافيزقية ولاهوتية ثم علمية. وبالرغم من قطيعات هذه التحولات الثلاثة فيما بينها، فقد اشتركت جميعها في الحفاظ على مبدأ الثبات، كسبيل وحيد لتصوير أو تأويل، أو تنظيم المنفلت والطافر والمتغير، بصورة عامة. وحين انطلقت الأبحاث التشريحية العلمية للتلافيف الدماغية، لم تحدد حيزًا ماديًّا عصبيًّا للعقل ووظائفه، ولم توزع مناطقه بحسب هذه الوظائف فحسب، بل حاولت أن تضع معادلًا موضوعيًّا لما تعنيه فورية العمليات العقلية. فما هي السرعة الحقيقية التي تستغرقها عملية إدراكي للزهرة مثلًا، أو عملية تذكري لها في حديقة الحبيبة؟ قد يكون الدماغ هو المحل الوحيد للعقل ووظائفه، ولكن متى يمكن لعلم تشريح الدماغ أن يلتقط، حسب الزمن الطبيعي، فورية الصورة أو الذكرى أو الفكرة العابرة في خلاياه.

ما نرمي إليه في هذا الاستطراد [الفلكي]، هو أن السرعة التي تبلغ حد الفورية ليست سر الحركة المطلقة التي تنطوي عليها بنية المادة أرضيًّا وفضائيًّا فقط، بل كانت تحملها الحياة منذ خليتها الأولى، ويجسِّم الدماغ مكانيتها. ومع ذلك لا تستطيع أحدث فيزيولوجيا عصبية نووية أن تفسِّر حادثة العقل. قد «تتخيل» ما يوازي تحركه عبر الشبكة العصبية الخلوية، لكن العقل يبني سرعته الخاصة: إنها تعاليه، إنها فوريته. وليس ثَمة استعارة تقاربها إلا فورية الضوء. يحق للعقل الذي يزامن الفكر، أو يشكل له آلته غير الآلية أبدًا، يحق للعقل وحده أن يرى في الفكر الحيز الذي لا حيز له على الإطلاق، وهو الوحيد مع ذلك الذي يتمتع بفورية ذاته. حين يتقبل العقل أن يوظف نفسه نائبًا عن الفكر، فإنه يجعل من نفسه متحركًا، نقلة قابلة للتعيين، في ذات اللحظة التي تؤشر فيها على اللامتعين، الذي يستمر مع ذلك في تعيين ذاته على هذه الصورة. تلك هي الفورية، وذلك هو تعريفها الناقص دائمًا.
قد يكون التعالي/المتعالي هو مصطلح الجواب على السؤال الضمني الذي يتجوهر حوله «نقد العقل المحض». ماذا تُحدث حادثة العقل؟ إنه المتعالي. فلم تُبنَ شكلانية العقل كهيكلانية إلا بهدف تجسيد عمل العقل كشبكية، من عوامل ووظائف يمكن مقاربتها أنتروبولوجيًّا. لكن يبقى تفعيل هذه الشكلانية. وهنا يظهر دور المتعالي لكي يستوعب دلالة التفعيل هذه. فليس المطلوب هو ترسيم الهيكلانية كشكلانية، ولكن تفعيلها؛ أي التقاطها في إنتاجيتها التركيبية. كان المتعالي ترميزًا عن فورية العقل، التي تتجاوز جملة آليات التفعيل، لتخرج إلى الفكرة أو المفهوم كصنيع نفسه. ذلك ما كان يعنيه بروز دور للعقل الخالص في كل مفصل من مفاصل النقلة النوعية ما بين وظائف الفاهمة أو ملكاتها؛ إذ إن الترابط بين هذه الملكات لا يمكن أن يجري حسب التمفصل الآلي، أو المبدأ العلي. فهو ترابط (فوري) يلغي كل تصور متباطئ لعمليات الانتقال؛ فلا مجال لتخصيص ملكة عقلية بوظيفة معينة، إلا من وجهة تخطيطية لضرورة التحليل. ذلك أن إنتاجية الفهم تركيبية خالصة. وهي تركيبية لا مهلة فيها لأيٍّ من عناصرها. لذلك لم يكن ثَمة تفسير لتلك الفورية إلا بتدخل دور مجهول اصطلح عليه كانط بالعقل الخالص. حينما يظهر عمل للعقل الخالص، فإن كل التعليلات الشكلية تصبح تالية عليه، أو محكومة للغزيته؛ إذ إن الفورية تلازم العقل الخالص؛ لن تكون مجرد وصف لمتعاليه. ذلك أن الفوري هو حد التكون المتمادي على حد اللاتكون المتمادي. ولقد أمدتنا الطبيعة بمثال عن النور أو الكائن النوراني الذي هو شيء اللاشيء، إنه السطوع الخالص، ومع ذلك فهو كل وجوده (العقل نور).
١  مع الانتباه إلى الفارق المصطلحي عند كانط بين المتعالي الذي يميز عمل العقل مع ملكاته عبر فعالية النقد، وبين التعالي، وهو مصطلح الاتصال بمعطيات الحدوس الحسية من العالم الخارجي التي تؤلف مادة المعرفة. مع الملاحظة أن الفلسفة المعاصرة أصبحت تستعمل لفظ «التعالي» متضمنًا معه دلالة المتعالي كذلك. ونحن بدورنا نستخدمه هنا بدلالته الحداثية تلك.
٢  الفيزياء الفضائية تفترض أن كل جسم متحرك بسرعة الضوء (٣٠٠٠كلم في الثانية)، إنما يفقد «ماديته»، ثم يستردها ما إن تنخفض سرعته دون هذا الحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥