عقلانية الصيرورة

«عودة ذات النفس» ليست أسطرة نيتشوية مفارقة، لكنها هي حد المفترق الضائع بين المشروع الثقافي الغربي (الأصلي)، و«مشروع» انحرافه المتمادي الذي استرق الاسم وقمع الاختلاف مع الأصل. لكن هذا الأصل عندما يتم العثور عليه، هل سوف يظل محتفظًا باسمه وهويته (الغربية)، أم إنه مضطر عند ذاك إلى مفارقة المصطلح، والعودة إلى اللغوي، الممنوع تلفظه خارج تأريخ تشكيلاته، إلى اللوغوس عندما ينطق ملء الكون كونيًّا؟!

منذ كانت المُثل الأفلاطونية، ثم جاء التوزيع المعرفي/الأنطولوجي، الأرسطي، بين الجوهر والعرض، لم يعد يمكن المنطَقة عامةً إلا على أساس ثنائية الواحد/والمتعدد. هكذا حلت «أدوات» المعرفة محل المعرفة. أصبحت الثنائية المنطقية مثنوية أنطولوجية. ولكن الثنائية هي في حقيقتها واحدية؛ لأن أحد القطبين هو المرجع، والآخر هو العارض الطارئ. هنالك، حتى عند أرسطو، إقرار ضمني أنه كيما يمكن تشكيل المفهوم، فإنه ينبغي تجاوز الأعراض (مستوى المتغيرات) إلى حيث الثبات؛ أي الجوهر. لكن هل ثَمة طريق آخر إلى الجوهر، إلا عبر أعراضه ذاتها؟ مثل هذا السؤال كان غائبًا في مختلف الحقب المعرفية السابقة على ثورة العلم التقني. بعد هذه الثورة أصبحت الأعراض وحدها موطن المعرفة؛ لأنها ممكنة الإدراك، وضرورية الوقوع أو الحدوث في آن واحد. فالثنائية لم تبرح ذاتها في مرحلتَي ما قبل وما بعد العلم. كل ما هنالك أنه حدثت نقلة من الجوهر إلى العرض فحسب، وبذلك أحست الفلسفة كما لو أنها مرة واحدة أضحت بدون موضوع، في حين أن ما وقع هو أن الفلسفة لم تخسر لا الجوهر ولا العرض، بل ربحت خسارتها للثنائية فقط، وربما دون أن تدري.

ما هي الزهرة بدون الرائحة واللون والشكل والقوام؟ أليست هذه الأعراض، المتغيرات، هي أفاهيمها المتناثرة المتضامنة التي تشكل مفهومها؟ ما هو منطوق المفهوم بدون تلفظاته، أو أفاهيمه القابلة للالتقاط والانسحاب في آن معًا؟ أليست الأعراض هي طريقة المفهوم كيما يعرض نفسه، كأيٍّ من أعراضه الأولية تلك، وشيء آخر غيره، وما فوق ذلك أيضًا؟ ما هو هذا الشيء الآخر؟ أهو «العلاقة» كما درج المنطق على تسميته تقليديًّا، أم إنه هو التمفصل بين الثبات والتغير، حيثما تقع نقطة الهوية، نقطة البيان الأعظم والالتباس الأعمق؟ لكن الهوية منطقيًّا لا تقبل التمفصل خارجها، مع سواها، فكيف يمكن افتراضه داخلها؟ هنا لا بد من «انكسار مفهوم» الهوية عينه على ذاته. وهو الأمر الذي ما كان يطيقه العقل الأفلاطوني، فأحكم الفصل بين المادة (الهيولى) والمثل أو الفكرة. ولكن حاول أن يجمع بينهما أرسطو ديناميكيًّا، مخترعًا صيغتَي الوجود بالقوة، والوجود بالفعل، حتى يمكن إقامة علم للفيزياء، ووراءه علم للميتافيزياء. وفي ظنه أنه بذلك، يخرج من الاختيار الصعب ما بين بارمنيد وهيراقليط.

لكن مفهومًا نيتشويًّا للهوية العائدة اختلافيًّا أو لهذا المتغير دائمًا، لن يكون هو نفسه النموذج المنطقي لدلالة الهوية التي شرعها التراث الأفلاطوني، ثم الدينوي المسيحي، وحتى الأنواري وما بعده؛ وهو ما يشكل تمفصلات التحقيب المعرفي للمشروع الغربي. إن فهم المفهوم هو الذي ينبغي له أن يفترق عن أصله، كوصفة بين وصفات أخرى. لكن قد جرى اختيارها وحدها، وقمع زميلاتها. فالوصفة هي التي صاغت المفهوم في قوامه المعروف ذاك. المفهوم لم يصنع نفسه. إنه الوصفة البارعة، حيلة التقنية الأولى، التي سعت إلى إقامة أبنية مفهومية، استنتاجية استقرائية فوقها، وجعلتها موضوع الانتباه والمراجعة والتحليل والتركيب، واستثنت نفسها من كل ذلك. الهوية تفتح كل الأبواب، ولا أحد يفتح بابها الخاص السري.

بين المفهوم والهوية علاقة تصادٍ سمحت بمرور كلٍّ منهما عبر الآخر أحيانًا دون تدقيق، أو بدون تمعين. فكان مطلوبًا من المفهوم أن يعرض الدلالة في جوهرها؛ أي أن يلامس هويتها، وإن أمكن أن يتحد بها. ولقد قامت كل الوظيفة المنطقية على هذه الرابطة بين المفهوم والهوية. وجرت اللغة العادية على اعتبار أن مفهوم الشيء هو ماهيته. ولذلك خص المنطق نفسه بالتعامل مع المفاهيم، كأنها مفرداته. فقد حدد شروط بناء المفهوم الواحد؛ ثم صنَّف أحوال العلاقات الشكلية ما بين المفاهيم. صار يمكن للمنطق أن يستحوذ على عالم المفاهيم، باعتبارها أشكالًا تتبع دائمًا نماذج معينة قبليًّا؛ وتتداخل فيما بينها حسب شبكة من المقارنات الخاضعة لمبدأ الشمول الأكثر أو الأقل بالخصائص؛ بحيث إن المفهوم الذي يمتلك العدد الأكبر من الخصائص يتضمن المفهوم الأقل بالخصائص، وهكذا دواليك. فإن مفهوم الحيوان أشمل من الإنسان لأنه يستوعب خصائص تشمله هو وسواه من الحيوانات. لكن الإنسان يأتي بخصائص جديدة تميزه وحده. ومفهوم الإنسان ينطبق على جميع البشر، من عروق وألوان ومجتمعات ودول … إلخ. فالأخص قد يكون الأقل بالعدد المادي، لكنه الأكثر بالخصائص أو الكيفيات. هناك علاقة عكسية بين الشمول المفهومي بالخصائص والعدد بالوحدات الخاصة بكل مفهوم.

ولا شك فإن مثل هذه الشبكية من العلاقات الشكلانية التي أتى بها المنطق، سوف تحدد بنية المفهوم ككيان دلالي. بمعنى أن كل عملية تفكيرية لا بد لها من أن تستوعب هذه «الدروس» الأولى لشبكية العلاقات الشكلانية بين المفاهيم. وسوف يظل الحدس الطبيعي الذي يحدد ما يعنيه فهم الفهم، أنه إرجاع المفاهيم إلى بعضها حسب قواعد مضمرة أو ظاهرة تتعلق بكم الكيف بينها، أو بدرجة الشمول. فلن يكون مولد مفهوم جديد إلا بما يأتي به من خصائص تمتلكها المفاهيم السابقة عليه، ويمتلكها هو بدوره، ولكنه يضيف إليها ما لم يكن فيها قبلًا، وما يشكل خصوصيته هو وحده، مقابلها جميعًا. وبذلك اعتقد المنطق سابقًا، ثم العلم حديثًا، أنه يستطيع أن يمفهم العالم، ويحوله من أكوام ألغاز إلى أبنية هندسية تمامًا، شفافة، إلى درجة أنه يمكن إبدال العالم نفسه، والاستعاضة عنه بمجموعة مفاهيم، أو نظرية واحدة، أو معادلة رياضية شاملة. ذلك هو الفهم، الذي هو غاية الترميز.
ولقد قبل الفهم مصطلح الترميز كأحدث تسمية عصرية له، تحرره من أجهزة اصطلاحية مشتقة كلها من المنطق الأرسطي أو من تاريخ العلم الحديث، حتى خُيل للبعض أن حديث الهوية، والجوهر والعرض، قد انتقل إلى خزانة الأركيولوجيا نهائيًّا. لكن انبعاثًا مختلفًا لتلك الأركيولوجيا على ضوء السؤال عن المفهوم، لن يكون كمفتاح لأبواب المعاني الأخرى المغلقة فقط، ولكن كمفتاح لبابه الخاص به كذلك. إنه «سؤال» فهم الفهم، وقد راح يبعث ثقافة الهوية، ليس على الصعيد المنطقي هذه المرة أو حتى العلمي العصري جدًّا، ولكنه على مستوى السؤال الفلسفي الذي تنازل عن معظم ساحاته التقليدية لكي يعتصم أخيرًا في منطقة الفكر، حيثما لا يرجع إلا إلى ذاته؛ ولا محل له إلا خلال هذه المسافة التكثيفية الصامتة بين الفكر، والفكر الذي يفكر يبدع المفهوم.
هنا الفكر لن يصل إلى حالة هوية مطلقة مع ذاته، على الطريقة الهيغلية. وحدته مصدوعة دائمًا؛ لأنه منشغل بصناعة المفهمة، مضطر دائمًا إلى مبارحة ذاته. فأية ذاتوية تلك للفكر الذي لا يفكر؟ وهو حين يفعل ذلك لا يفكر ذاته، إلا حين يصدع هذه الذات بما ليس فيها أو منها. في هذه النقلة التي تلقى الفكر ملتحقًا دائمًا بصدوعه، يتدخل هذا التفكير الآخر، المسمى بالمماثلة (penser par analogie)، مهمته أن يرأب الصدوع كيفما اتفق، إنه بدلًا من أن يدع الفكر يبارح حقًّا سكونه الأولي، ويحقق نقلته إلى ما ليس منه وإليه، فإنه يفرض عليه العودة إلى الإقامة حيثما هو، والاشتقاق من هيئته شبهًا لها، تُسقطه خارجها، ثم تعتبره أنه الشيء الآخر في المحل المختلف. تلك هي الذاتوية الانتشارية التي تختزل موضوعية العالم، لكن حينئذٍ سوف ينأى مجهوله الحقيقي عن المثول، عما هو ذاتي مثوله. ذلك لأن هذا المثول وحده كفيل بإحقاق الصدع في صورة الفكر عند ذاته، فيما يجعله فجأة يفكر بما عنده وبما ليس كذلك في آن معًا.

فكرة الصدع، والإقرار بالصدع تطلَّبا تاريخ قرون من الفكر الواحدي المرآوي الشاحب. ولقد حاول هيغل أن يُعصرن كلًّا من بارمنيد وهيراقليط معًا، ويجعلهما لحظتَي اختلاف تضامني في ديالكتيك تكويني. ها هنا الفكر يمفهم صدوعه، يبدع مفهوم الديالكتيك. لكنه حتى عندما يقر بإمكانية الصدع، فإن المماثلة لا تدع المفهوم يبلغ كائنه المستقل. ذلك أن مفهوم الديالكتيك لا يسمح لتاريخانية تكوينه أن تفارق، لحظة من مسيرتها، هدفيتها القبلية/البعدية، وهي عودة الفكر للالتقاء بذاته تحت شعار العالم الذي أتم تكوينه، مفهمته. صيرورة: العالم/الفكر، أو الفكر/العالم.

ذلك هاجس اللوغوس الذي يريد أن يضع حدًّا لذاته في خاتمة متصورة للتاريخ. [هيغل] لكنه ليس اللوغوس البدئي الذي حدس به بارمنيد، وكتب توصيفه قصيدة في التكوين البدئي. هذا «الشيء ما» صرَّح عنه هيغل في بداية مؤلفه الثوري الكبير «المنطق». ما يسبق التسمية، أو ذلك «الشيء ما» الذي يرمز إلى بدء مجرد، لكنه ينتقل إلى البدئي المختلف. فتمكن تسميته ازدواجيًّا: الكائن المطلق والعدم المطلق. وهما يعنيان شيئًا واحدًا يُذكر مرتين، كما يصفهما باديو.١ وحسب تعبير هيغل نفسه في مطلع «المنطق»: أن هناك شيئًا ما وشيئًا آخر مختلفًا، وهو مصدر الواحد والمتعدد، المتناهي واللامتناهي. هناك الواحد الذي هو على علاقة ضرورية بالكل؛ أي إن الواحد لا يفسِّر نفسه إلا إذا «انتقل» إلى الاثنين. هذا الاثنان هو الذي يسبغ دلالة الواحدية على الواحد الذي سبقه، ولا يزال قابعًا في مكانه. إن انتقال «أ» المجردة إلى «أ» المطروحة، يأتي بالطرح كمحل للآخر. فالكائن واللاكائن، كلٌّ منهما مجرد في وحدته، لكنه متغير في الالتقاء بالآخر. بمعنى أن الواحد ليس له مكان إلا إذا انتقل إلى المحل الآخر، حيثما يصيبه الصدع؛ وليس ثَمة صدع إلا عبر العلاقة النافية بما ليس هو، أي عندما الكائن، كواحد أو كهوية مماثلية لذاتها، يلقى أمامه ما ليس كذلك. وإذا كان باديو، في عرضه ذاك، يريد إعادة تأسيس لمفهوم التناقض بالتحديد الماركسي — وقد كان باديو لا يزال ماركسيًّا أرثوذوكسيًّا عند كتابة نصه ذاك، وكما يصرح بذلك — فإنه وضع يده، من دون قصد ربما، على النقطة التي تهمنا نحن في السياق الحالي. ذلك أن المسألة تتعدى حدود التناقض المنطقي. وكان دعاها هيدغر، كما أشار باديو كذلك بنفسه، بالعلاقة الأنطولوجية والعلاقة الأونطية. إنها تمفصل «أ» مع الكل؛ إذ حين تبقى «أ» لا تعني سوى نفسها، فهي في وضع أنطولوجي، ولكن عندما تحقق النقلة إلى الوضع الآخر الذي يجعلها تقابل اللا «أ»، فإنها تغدو في الوضع الأونطي، أي الواحد مقابل الكل.
لم يقل هيغل إن التفكير بالكائن يستدعي بالضرورة التفكير باللاكائن. لكنه أشار إلى أن هناك شيئًا ما، ليس كذلك. فالضرورة إن وُجدت، هي من مستوًى أنطولوجي/أونطي، وليست تبريرًا للتناقض، الذي سوف يتطور إلى الديالكتيك هيغليًّا. لكن نيتشه بالمقابل رفض هذا الديالكتيك باعتباره إسقاطًا جديدًا من اختراع العقل الذي يدير ظهره إلى الفكر، كما هو في إشكاليته البدئية، فأدخل «الثابت» إلى مفهوم الصيرورة باعتبارها المسرح الأنطولوجي/الأونطي لما يسميه: الصائر دائمًا؛ أي هذا الثابت الذي يعود مختلفًا، ويثبت في تغيره المطرد ذاك. والفكر هو الذي يرقب ويراقب هذا الذي يصير دائمًا. المايحدث الذي هو ثبات الحدث المتغير، أو ثبات الحدث على التغير. بمعنى أن المايحدث هو الهوية؛ أي ما يمكن للفكر أن يقتطعه من الحدث لحسابه دون أن يتوقف هذا الشيء المقتطع عن الحدوث.
في حين لا يمكن للعقل، بدلالته التقليدية الأفلاطونية، لا يمكنه أن يتعامل إلا بما يسميه «شروط» الحقائق الثابتة، فإن الفكر هو الذي عليه أن يتفكر الحقيقة نفسها، باعتبارها هي التي تبرر شروطها، وليس العكس. فالحقيقة ليست فيما ثبت من المتغير، ولكنها هي ممن يعلن ويؤشر على ثبات التفسير نفسه. فالواحد لا يستدعي التفكير فيه، بقدر ما يفترض ذلك الكل الذي يجلس خارجه، وفي الوقت عينه يهدد واحديته ويؤكدها. يدخل الواحد، رياضيًّا، في كل عدد يليه. لكن كل ما يليه من الأعداد سوف يأتي مختلفًا عنه. المايحدث، هذا الثابت الوحيد، الذي لا «واقع» له إلا عند وقوع «كل» حدث؛ وعندئذٍ، عند «وقوع» الحدث، فسوف يأتي المايحدث عينه مختلفًا.

لماذا هيراقليط هو بارمنيد نفسه كذلك؟ لأن ماء النهر (الواحد)، لا يمكن السباحة فيه مرتين. هيراقليط لا يعارض أو ينفي بارمنيد، لكنه يفسِّره. والخطيئة الأفلاطونية الأولى كانت في إعادة العزل بينهما، وتسخير المعيارية للتمييز بين التغير (عالم المادة والفساد) أو الثبات (عالم المُثل). ذلك الانفصام الذي تشبثت به فيما بعدُ الحضارة اللاهوتية، المنتجة الحقيقية للتقنية، كبديل (عملي) عن «وجود» الكينونة، وعن «كونيتها».

الماهية ما إن تقوم حتى تفترض كل ما ليس هي. ذلك هو أصل العسف الذي توقعه في ذاتها وفي (الكل) الآخر الذي تنفصل عنه. تخترع الثابت فيما لا مكان له أصلًا. تستلب من الثابت المتغير مكانه، وتمنحه لذاتها فحسب. وبذلك يتم قلب أمكنة وأدوار كل شيء. ذلك أن عزلة الثابت لا مكان لها أصلًا. وهي مصطلح لا مسمَّى له بمعزل عن موضوعه الذي هو التغير. ما يثبت فحسب هو تغير المتغير. الثابت والمتحول ليسا قطبين؛ لأنه لا وجود إلا لأحدهما، وإلا للاثنين معًا. فليس الموضوع هنا هو كيفية تلاقي اللفظين الضدين، هما لم يفترقا أساسًا حتى يجتمعا. إن تغير المتغير هو الثابت، تلك هي عودة ذات النفس. فالماهية الأفلاطونية تنزاح؛ لأنها منذ البدء اخترعت نفسها واخترعت معها مكانها. لم يفقد بذلك العالمُ هويته أو موضوعيته المطلقة فحسب؛ لكن الهوية المختلَقة صنعت شرنقة من الذاتوية المنتفخة: سمَّتها تارة بالإله، وتارة أخرى بالإنسان؛ ثم وجدت لقيطتها الأبدية في التقنية. وكل ذلك جاء عالمًا مرآويًّا لا ينافس العالم الأصلي. ولكنه يتجاهله، ثم يجهله، ثم ينساه، وينسى نسيانه ذاك.

لكن العالم المرآوي ليس خارج العالم الحقيقي، بل إنه وهو في داخله وليس له أي مكان سوى هذا الداخل، يتعامل معه وكأنه مقصي عنه. وذلك هو وضع سوء النية الفعلي، الذي أثاره ذات مرة بعنف مبدعُه: جان بول سارتر، ولكن في غير هذا السياق. كان ذلك إنكار العالم، بينما المنكِر يتخبط بين أمواجه وعواصفه، يرد على ضعف الذات الأصلية باختلاق وهم الاحتواء لسواها. ذلك الانتصار الدونكيشوتي للسيوف الخشبية على طواحين الهواء.
من حق نيتشه أن يسخر من هؤلاء الذين ما إن اخترعوا مبدأ العلية، وراحوا يمدون شباكه إلى أبعد مدًى ممكن، حتى اعتقدوا أنهم حقًّا قد فضوا عُذرية/لُغزية الكون. ليس هذا حطًّا من شأن مبدأ السبب الكافي الذي هندسه عصريًّا ليبنيتز؛ لكن السخرية هي في اعتبار العقلنة انتصارًا على اللغز الكوني، الذي يفرض عليه أن ينهزم، بدلًا من الاعتراف له، أنه يتبدى من حيث إنه ينسحب. فالمسألة ليست فقط في الشائعة القائلة إننا كلما ازددنا معرفة بالمجهول، زاد جهلنا به، ولا حتى هي في هذا الاعتراف بنسبية المعرفة الإنسانية دائمًا؛ إذ قد يكون هذا الاعتراف نفسه جزءًا من غرور الانتصار عينه، وتوهمه. فالمعرفي لا يدعي أنه يأتي بالحقيقي فحسب، لكنه يجيء بالمعياري معه كذلك. وعندما اعتبر ليبنيتز أن العقلنة هي في اكتشاف مبدأ السبب الكافي، فإنه لم يبرز السبب وحده، بل مرافقًا بقيمة، هي: أن يكون كافيًا. وهنا فإن الفيلسوف لم يبتكر السببية. لكنه شرح السبب، أو «ما ينبغي» أن يتضمنه لكي يكون: سببًا، فعلًا. وهو أن يكفي لإنتاج المعلول. مثلًا إن دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس في وقت واحد كافٍ لإحداث الليل والنهار، والفصول، أي الزمن السنوي المنطوي على الفصول الأربعة، والحياة الطبيعية، ومعيشة كل شيء حي والحضارة … إلخ. ها هنا تقوم منظومة كاملة من الترابط العلي التي في مجملها تؤلف تاريخ الحياة في هذه الزاوية من الكون، التي مركزها الأرض للحياة، والشمس كمصدر للأرض وسبب للحياة. ومع ذلك فإن العلية الكوكبية (الشمس، الأرض، وحركة الدوران المزدوج)، ليست وحدها كافية لتفسير نشأة الحياة على هذا الكوكب بالذات. إنها أسباب ضرورية لكنها غير كافية. وما إن نتجاوز الواقع الفيزيائي إلى الحياتي، والإنساني بالذات، حتى تغدو للعلية دلالات مغايرة، وتطبيقات مختلفة عن صفحتها الأولى المادية؛ بحيث تمسي الظروف «المادية» ضرورية، لكنها غير كافية (لتفسير الإنسان وعالمه).
وفي الحقيقة ها هنا تنفتح منطقة «اللاكافي» على حدود غير معلومة. العلية تنكسر كمفهوم، لتفسح مجالًا لأفاهيم، تظل على قرابة من أرضها الأولى، المفهوم، لكنها ذات آفاق غير متوقعة. الأفهوم هنا لا يعطل المفهوم، لكنه يضيف إليه مساحات لا تجيزها عقلنته الخاصة، لكنها محتاجة إليها. الأفهوم يحقق مساحة للكل، الآخر، في ضواحي المفهوم. مع العلم أنه كثيرًا ما تُنازع الضواحي مركزية المركز، بما يضاهيها، وبما ليس كذلك أيضًا. الفكر ينتج العقل، دون أن يتقيد بحدوده. في حين يعارض العقل اللامعقول، ويتوجس خيفة من كل ما لم يفكر به بعد؛ فإن الفكر يقبل العقل، وما ليس كذلك الآن أو غدًا. وقبوله ليس سوى من أصداء اﻟ «نعم!» الكبرى أمام «موضوعية الوجود المطلقة».
أما نيتشه فهو يعتقد أن العقل، وكل إنتاجاته من مستوى القيم العليا في الحق والخير والجمال … إلخ ليس ذلك إلا نظامًا حيويًّا موازيًا لتجربة الإنسان وهو منخرط في فهم العالم حوله، عن طريق «التمثل، التصور» فحسب. هنالك اضطرار «حيوي» لابتداع مثل هذه الأنظمة التعقيلية التي أقام لها كانط صرحها المنطقي الجبار، باعتبارها أبنية التصور؛ وحاول أن يشتق من تماسكها المنطقي نوعًا من الوجود القائم بذاته بديلًا عن ذلك الوجود الآخر «في» ذاته، أو الكينونة بالنسبة لذاتها فحسب. كانط لم ينفِ الآخر، لكنه قدَّم حدودًا لإمكانية المعرفة من أجل تبرير قيام العلم الحديث في منعطف القرنين الأخيرين المعاصرين. فالمعرفة، وبالتالي الحقيقة، تقلصت تخومهما إلى حدود القانون الطبيعي، ثم إلى حدود المعلومة، في السبرانية، أو الترميزة فحسب في لغة الكمبيوتر التي تتسع لكل شيء، ولا لشيء في آن.
قد يفهم المناطقة من خاصية «الكافي» في السبب، حصرًا كميًّا لمختلف «العوامل» المكونة للسبب، بينما قد تشمل خاصية «الضروري» التعرف إلى كل عامل على حدة من حيث الدور الذي يؤديه في تحقق علية العلة، موضوع البحث. فالضروري ليس هو الكافي حتمًا، بينما الكافي يشتمل على الضروري (حتمًا)، بالإضافة إلى شروط أخرى معروضة للحصر، كما في الحقل العلمي (الصحيح)، وليست هي كذلك تمامًا، في الشأن الإنساني، أو الفكري عامة. غير أنه مع الاستخدام والشيوع يفقد مصطلح السبب الضروري والكافي، «خطاب» الإعلان عن هاتين الخاصيتين كلما أراد الإعلان عن نفسه. ويُكتفى فقط بلفظ السبب تذكيرًا بالحكمة الميتافيزيقية البدئية: كل كائن حامل للمعرفة، منذ القرن الثامن عشر. ولعل وحدة اللفظ الغربي واللاتيني خاصة: raison التي تعني العلة والعقل، هي المسئولة عن سهولة الانزياح المتبادل ما بين الدلالتين. ولا شك فإن العقلانية الأنوارية التي بلغت أوجها خلال القرن الثامن عشر، لم تعد تريد أن تفهم من العقل ذلك البحث عن العلل الأولى بالمعنى الإغريقي والأرسطي. فالنقلة من الميتافيزيقا إلى الواقعية والمادية المجسمة، يهمها أن تحصر العقل كمبدأ للأسباب المحايثة التي كلما توفرت، أنتجت النتائج عينها، الثابتة. وهنا يتراجع لفظ العلية، حتى يتم التخلص من أجوائه الميتافيزيقية، واللاهوتية خاصة، ويصبح العقل هو مبدأ نفسه، أو مبدأ السبب الكافي، الذي ترجمه ليبنيتز بهذه الصيغة، كما لو كانت بديلًا عن مفهوم العلل الأولى.
يسترعي انتباهَ هيدغر هذا المنطقُ.٢ فلماذا انتظرت الإنسانية مدة ألفين وثلاثمائة عام حتى توصلت إلى الصيغة الحديثة، على يد ليبنيتز؟ أهي كانت فترة تخمُّر أو نضج عميق temps d’uncubation؟ لم يرد هيدغر مباشرة: لن ينخرط سريعًا في تلقف مفردات «التحقيب المعرفي». فلم يقل بسرعة إن التحول كان مدينًا لتقدم فكر المحايثة على المفارقة. ذلك أنه يلاحظ مباشرة أن ليبنيتز لم يكن يقصد هذا التحول نفسه؛ إذ إنه وصف مبدأ العلة بكلي القدرة. ها هنا العقل يطمح إلى سيادة الفكر، ولا يقبل أن يكون (هو) مما يعرض للفكر من الأحوال. بمعنى أن الانقلاب الحقيقي الذي انطلق مع ليبنيتز هو تحقق انفصال العقل عن الكينونة، كما لو أن سؤال الكينونة لم يعد سؤالًا لها، بل عنها. فالعقل الذي يغادر الكينونة، يقف على مسافة منها، ويشرع في ابتكار التصورات التي تدعي احتواء الكائن؛ أي إن العقل يسأل الكائن عينه دون أن يتنازل عن شموليته قيد أنملة. من هنا جاء وصفه بكلي القدرة، كما لو كان العقل ينازع الكينونة عظمتها، فيدعيها لذاته. وبالتالي لن يستفظع أحدٌ خسارة الكينونة لعظمتها بعد فقدانها لاستقلالها؛ ذلك ما كان يعنيه مبدأ السبب الكافي مطبقًا على الكينونة، باعتبارها علة لذاتها أولًا؛ مما كان رشحها لأن تتشخص في مفهوم الإله طيلة القرون اللاهوتية التي تفصل الإغريق عن «العصور الحديثة». فحين يعلن ليبنيتز nihil fit sine causa، «لا شيء يحدث بدون علة»، أو لا شيء يغدو شيئًا بدون علة، فإنه كان يقصد الكينونة بشموليتها، ويعبر عنها من خلال اللفظة اليونانية القديمة natura، التي تعني حديثًا الطبيعة الفيزيائية والتاريخ: «إنه من طبيعة الأشياء المفهومة على هذا النحو، أن تتوفر علة [عقل] أن تجعل ثَمة شيئًا يوجد بدلًا من لا شيء.»٣ وسوف يصرح الفيلسوف أن هذه العلة هي الأسمى، وهي الأولى، والتي ينبغي أن تكون الله. فالعقل هو الله محايثًا، أو هو العلة الأولى، التي تنتشر عللًا لا تتناهى، لتنشئ الكائن بكليته. تلك هي من صلاحة العلة الأولى، أو المبدأ العلي، الذي يتحقق فيه وحده شرطا الضرورة والكفاية. وكل العلل الأخرى ذات المستويات الأدنى، عليها أن تستمد من تلك الصلاحية لتدعم صلاحتها الخاصة؛ أي إنها بقدر ما تكشف عن منطقتها الخاصة، فإنها تشير إلى المساحة الشاسعة التي تتخطاها، لكنها تظل تنتمي إليها.
الأهم في مبدأ السبب الكافي منذ صياغته الحديثة، أنه لم يعد يمكن تصور كائن ما إلا باعتباره نتيجة لسبب كافٍ أعطاه وجوده. بمعنى أنه ليس ثَمة من كائن، إن لم يتوفر سببه (المعقول). وهكذا فإن العقل لا يشيد نفسه من جديد إلا على أساس أنه هو الوجه الآخر للكائن. تلك هي النزعة التعقيلية التي تشكل جوهر الحداثة في المشروع الثقافي الغربي. إنها بكل بساطة تنطلق من فرضية مسكوت عنها، وهي من نوع المصادرة على المطلوب؛ وفحواها أن ثَمة عقلًا «يؤسس» الكائن. فالوجود المعقلن، أو التصور، لا يمنح الكائن مرجعية عقلانية فحسب، لكنه يغدق عليه من كينونته كذلك. الكائن ليس كذلك إلا لأنه يمتلك «سببه الكافي». فالعقل لا يبرر، ولكنه يتمتع بتلك القدرة على إنتاج الشيء عينه الذي يبرره. وبذلك يتخطى العقل وظيفته المعرفية؛ إذ غدا يصنع المعرفة، وموضوعها معًا، وذلك من خلال «التصور» فحسب.
التصور ليس مفردة معرفية فحسب؛ إنه يستمد من مبدأ السبب الكافي ذلك الدافع الآمر للعبور من المعرفي الخالص إلى الكائن. فالسبب الكافي يؤسس لذاته بتأسيسه لسواه، للنتيجة المتحصلة منه. هذه الحلقة من تعقيلية الذات بالآخر تبقى مغلقة على نفسها، ولا ينقذها من الدور (المنطقي الفاسد) سوى ابتكار المعيارية التي تعيد شبكية العلل والمعلولات جميعها إلى مبدأ للسبب الكافي، الذي يوصف (معياريًّا) بالأعلى والأول. وهو التصور الذي لا يسعه سوى مفهوم الإله؛ إذ لا بد من أن تتوقف سلسلة المتناهيات عند الحد الذي هو لا متناهي ذاته، حيثما يغدو هو السبب الكافي لكل حادث، هو علته الخاصة به كذلك. وهذا ما كان ينقذ الدليل الوجودي، الأعم في معرض البرهنة على وجود الله، من انهيار سلسلة العلل إلى ما لا نهاية. هذا الانهيار الذي صار له اسم منطقي تقليدي يُعرَف به، وهو عدم التناقض؛ إذ إنه مثلما يأمر العقل بأن لكل شيء علة، عليه في ذات اللحظة أن يختار العلة الأولى والأخيرة، حتى لا تتسلسل الأشياء من بعضها إلى ما لا نهاية. العقل نفسه هو الذي يأمر أنه لا كائن إلا بعلة، وهو نفسه الذي يختار العلة الأولى أو العظمى التي لا علة لها؛ وذلك درءًا من الوقوع في التناقض! كما لو أننا أعلنا أنه لا شيء بدون اللماذا إلا اللماذا عينها. ومع ذلك فإن هناك منطقة ثالثة بين اللماذا، ولماذا اللماذا، وهي منطقة: اللالماذا. الزهرة التي لا تفعل شيئًا لا تقدم أو تحجب نفسها، لا تريد أن تكون أو لا تكون موضوع رؤية أو شميم، فإنها مثال الشيء الكائن بدون اللماذا. «الزهرة بدون اللماذا؛ لأنها تزهر»؛ أي تزهر دون أي انهمام بذاتها، دون أن تدري أو لا تدري أنها زهرة أو اللازهرة. هذا الحديث يرجع إلى الشاعر الصوفي أنجيلوس سيلسيوس Angeluss Silessius، ويرد هيدغر، وهو الذي أتى بذلك المثل، أنه قد تكون الزهرة دون: لماذا، ولكنها ليست دون: لأنها؛ أي دون علة؛ إذ يمكن للزهرة أن تزدهر وتنشر عطرها دون أن يكون عليها إدراك ما تفعله. فهي ليست مضطرة إلى السؤال، وإلى طرحه على ذاتها، واكتشاف هذه الذات ومحلها من العالم حولها، في حين أن الإنسان لا بد له من هذا النوع من الاهتمام. إنه والزهرة، كما كل شيء، خاضع لمبدأ السبب الكافي، كلي القدرة. غير أن علاقة الزهرة […] والأشياء بالعالم مختلفة عن الطريقة التي بحسبها [نحن البشر] نقيم في العالم.٤ الزهرة لا تسأل عن علة وجودها؛ ولكن هذا لا يعني أنها دون هذه العلة. وفي الوقت عينه فإن الإنسان الذي يلحظ الزهرة هو الذي يكتشف علة الأزهار فيها. ذلك لأن الزهرة بالنسبة للملاحظ تغدو موضوع تصور، يُلحق ظاهرتها الخاصة كما كل الظواهر الطبيعية وسواها، بشبكية العلية المسيطرة، فالزهرة التي لا يهمها كيف تزدهر، تبقى شأنًا خاضعًا لمبدأ العلية، ولو تحت صيغته العامية الشائعة. إنها تلك الصيغة التي يخرج عنها مبدأ السبب الكافي عينه كما جاء به ليبنيتز. «ذلك أنه بالنسبة لليبنيتز، كما هو بالنسبة إلى مجمل الفكر التصوري الحديث […] فإن مجال صلاحة مبدأ العلة الفكري هو من الاتساع تمامًا، أي من اللامحدود، بقدر ما عليه بالنسبة لهذا المبدأ وهو في صيغته العامية». عند ليبنيتز فإن مبدأ «لا شيء بدون علة» يريد أن يقول ما يعني: «لا شيء بدون اللماذا.»٥ أما بالنسبة للشاعر أنجيلوس صاحب بيت القصيد ذاك، فإنه يريد أن يلاحظ أن ثَمة استثناءً، أن المبدأ ليس شاملًا كشائعته. وهو من موقع صوفي يمكنه أن يجمع بين القاعدة والاستثناء، وإن كلفه ذلك تناقضًا لا يعيره أدنى قيمة.
لكن قيمة السبب الكافي هي أنه ينطوي على «أمر»، الذي هو أكثر من مجرد نداء. المبدأ عينه هو الأمر، وقد جاء لفظه واضحًا في التعريف الذي أورده ليبنيتز، بحسب العبارة اللاتينية، بل إن هذه الصياغة الشكلية: مبدأ السبب، لا تقدم وصفًا أو تقريرًا لواقع، بقدر ما «تفرض» واقعًا، يغدو معيارًا. هناك مبدأ يأمر بالتعليل، يفترض العقل في كل شيء ويأمر باسمه، لكن دون أن يهتم بما عليه العقل نفسه. «يحدثنا مبدأ السبب عن العقل طبعًا. ومع ذلك فإنه لا يقول لنا شيئًا عن موضوع العقل كما هو».٦ كأنه ليس غريبًا بالنسبة لهيدغر أن يلقى العقل الذي يعلل كل شيء، لا يعرف كيف يعلل نفسه؛ خاصة بعد المحاولة الكبرى التي قام بها كانط، من أجل وضع بنية العقل نفسه موضوع التحليل. ذلك أن هيدغر يأخذ على عاتقه مهمة أخرى تتجاوز التحليل إلى التفكيك. وعلى ضوء هذه المهمة يبدو العقل ما يزال في أرض عذراء تمامًا. رغم أن نيتشه كان من أهم رواد الحدود البعيدة لهذه الأرض، إلا أنه قام بالنقلة النوعية عندما نضجت لديه المنهجية الجديدة التي سوف يترعرع في نواتها التفكيك، وهي اختلافية التأويل. ذلك أن التأويل يكتشف تلك الأقانيم الميتافيزيقية، أنها هي في غربة حقيقية عن كل استخداماتها التاريخية. وهذا ما يتيح للفيلسوف أن يأتي إلى أمكنة تلك الأقانيم كأنه الوافد الأول. يستعيد دهشة المفاجأة، ويقارب الأقنوم وهو لا يعرفه، ويظل هكذا طويلًا وهو في حالة التعرف. يقلب فيه أوجهًا مختلفة، وينظر إليه دائمًا وهو في تجاوره الدائم مع الأزمنة والأمكنة الأخرى غير المسجلة، أو المنعزلة، المهجورة أو المهجَّرة.

منهج التحليل يحدد عمله في تمفصلات أجزاء الموضوع، باعتباره جهازًا مصنوعًا. أما التفكيك فإنه يسأل عن كيفية الصنع، وعن الأهداف الخفية للمصنوع، وما سوف يُصنع به وعن طريقه. ونقول التفكيك هنا، ونحن نعني التأويل. وذلك لأن التأويل لا يكتفي بالتعليل، بل يسأل عن التعليل نفسه، عما يجعله كذلك. يفككه، ليس على ضوء بنيته، وهذه هي حدود التحليل فحسب، بل على ضوء السؤال عما يجعل بنيته هي كذلك. وبالتالي حين يقول هيدغر أنْ ليس الكائن من خاصية العقل، بل بالعكس، هو العقل من خاصية الكائن، فإنه يدع العقل يأتي هذه المرة ونظامه معه؛ أي يضعه في محله، فيما يعرض للفكر/الكينونة من المفكر به، ومما ليس كذلك بعد. ولا شك أن العقل هو من أهم حادثات الكينونة. ولكنه قد يتحول كذلك إلى أخطر الأخطار على ذاته والكينونة معًا، عندما يمضي بالتعليل لكل شيء يغايره، بما يخفي عنه تأويل ذاته، وبما ينسيه أخيرًا حادثة الإخفاء هذه؛ وبما لا يبقي عليه كخاصية للكينونة، ولكن كأنه هو الكينونة عينها.

هل ثَمة حل لهذه الإشكالية على صعيد التأمل المجرد، إلا بذلك الاختيار، تارة لهذا القطب أو ذاك، بين العقل والكائن، بين الفكر والكينونة، بين الحادثي والكوني. ما اقترفته الميتافيزيقا الغربية، برأي هيدغر، هو فرارها من الحل أو حتى من الاختيار. لم تَنحَز إلى جانب العقلانية ضد الكينونة، بل استحوذت عليهما معًا، أو هكذا اعتقدت، وذلك عن طريق التماهي مع العقل واستخدامه في السيطرة على الآخر: الكينونة. غير أن الكينونة لا تُمتلك، وليست موضوع تنازع من قبل أية سلطة، أو سلطات مفترضة، حتى ولو كانت غرور الإنسان. ذلك أن اللامتناهي لا يُمتلك، لا يُستوعب وإلا أصبح متناهيًا.

ذلك ما اجتهد المشروع الثقافي في محاولة اقترافاته الفلسفوية، والمذهبية، والأيديولوجية المتتابعة، عبر قدس أقداس «التحقيب المعرفي» المشهور إياه؛ ولكن دون جدوى؛ لأنه كان يمسك، كل مرة وكان حقبة، بقبضة ريح ليس إلا، وصولًا أخيرًا إلى تخطي الحداثة التي شكلت أوج الادعاءات كلها حول أسطورة: القبض على اللامتناهي. كل الجهد الهيدغري ينصبُّ، عبر آلاف الصفحات، على دحض ادعاء القبض على الكينونة، وبالمقابل على التذكير بإمكان الفوز بحق مجاورتها فحسب، ولكن وفق شروطها دائمًا، أو بطريقتها فحسب. ذلك أن المتناهي، المعترف بتناهيه، السابح في لُجج مفردات من المتناهيات اللامحدودة، قد يتفوق على ذاته، في ندرة من الحالات، ويكتشف الواحد الذي يدخل في تركيب جميع الأعداد، واحديًّا اختلافيًّا؛ أي إنه هو الواحد المختلف في كل عدد مختلف. إنه مطمح الوصول دفعة واحدة إلى حافة الهاوية، ومنها ممارسة السقوط الدائم إلى هاوية الأعلى. إنها حال المتناهي الذي يلتقط اللامتناهي كمتناهٍ هو نفسه، شرط أن يتابع الإعلان عن نقصانه، افتقاره إلى أصله اللامتناهي؛ بذلك وحده يغدو المتناهي مشروعًا عند ذاته، ما دام يحس حقيقته، ما دام يجيء ومعه نظامه (الناقص) دائمًا.

ليس ذلك انحرافًا نحو الحنينية اللاهوتية، بل هو تسمية للاجدواها كليًّا، لدورها المتمادي، والمتواتر من حقبة إلى أخرى، في تنفيذ مهمتها الأصلية، كإعاقة مستفحلة لعودة ذات النفس، لرجعة الكينونة، ذات يوم، إلى العالم، في حين أنها لم تخرج منه أبدًا، ذات يوم، بل فُرض عليها غيابها، وهي في عز حضور العالم بالنسبة لذاته منذ قدمه، مقابل وبعد هذا القدم، وتماديه في محايثة أبدية، وما هو غير ذلك أيضًا. أليس أن العالم هو الوطن الوحيد المعروف للمتناهي واللامتناهي معًا، المعروف المجهول معًا؟ قِدم العالم، لغزية العالم، حضوره الجاثم المطلق، بالنسبة لعين ذاته أصلًا، أليس هو ما يشكل مشهديته الكونية، غير المحتاجة إلى المشاهد، ولا إلى الشاهد ربما. ومع ذلك، هذا اللامتناهي/المتناهي، الصامت الضاج، هو الوطن الوحيد الممكن لكينونة لا تعرف لها مأوًى سواه. بمعنى أنه يشكل المنطقة اليابسة من الفراغ، من اللاشيء. يابسته تلك هي سلسلات من حواف تقع على مشارف الهاويات من حولها في كل جهة. الراقص الوحيد على أطراف هذه الحافات هو الإنسان، ذلك المتناهي الأصغر. وموكول إليه مع ذلك أن يسمي الحافة والهاوية، أن يأتي معه بالكينونة تشاركه تخوم الهاويات جميعها، تتراقص إشاراتها على حدود الأصوات والحروف؛ حيثما تسكن تغادر اللغة، بإذن من الإنسان، وبدونه أيضًا.

توءمة اللغة والعالم

اللغة معجزة الاستثناء التي تريد قول الشيء من دون الشيء عينه، من دون جسده، معجزة الدلالة التي وحدها تخلق عالمًا شريكًا منافسًا للعالم الأصلي. تترجم لامتناهيه إلى تناهيات الأصوات والكلمات. لا شيء يضاهي قدم العالم، عالميته، إلا اللغة في حدثيَّتها المطردة. الكلمة لا تخلق العالم، بل تُنبهه، توقظه، تضع لصمته حدًّا. إنها نسيج العلاقات مع الغائبين. الكلمة هي علاقة مع الغائب، هي حضور الغائب. هكذا يصير مع المتناهي دليل اللامتناهي، وضائعه الموجود. لكن توفر العلاقة مع الغائب ليس تأكيدًا دائمًا لموجود في صيغة الغائب. فلقد يكون التأكيد عكسيًّا، لغائب في صيغة موجودة.

اللغة هي لعبة المتناهي التي يمكنها، وحدها فحسب، أن تمارس لعبة اللامتناهي كذلك. إنها تبدع المفاهيم، وتكسرها بالأفاهيم. ليس للعالم ثَمة شريك حقيقي إلا اللغة. لعل الكينونة تلقى بينهما حافتها المفتوحة على الهاويتين معًا، إلى جانبيها.

كل مفاهيمنا مكسورة بالأفاهيم، على شاكلة وطننا، كرتنا الأرضية؛ وهي ذلك المفهوم الكوكبي مأوى الميتافيزيقا الكونية الوثنية، المعلق في الفراغ، والمكسور بأفاهيم، بحوافي الهاويات/الفضائيات جميعها من حواليه. هذا الوطن الكوكب الصدفة، كل ما فوقه يبدو كأنه ضروريات، ولكن بطريق الصدفة. حتى اللامتناهي في هذا العالم معلق في الفراغ، صدفويًّا بطريق الضرورة. وصدفته هو أنه لا مفر له من أن يعبر في تخوم المتناهي نفسه كعلامة حضور للكينونة وانسحابها. وهكذا فالجواز والضرورة هما مما يعرض للعالم داخل العالم، وليس في أي مكان آخر. واللغة تحتضن كل هذه الأعراض الضرورات. إنها تأتي بالدلالة كمقطع من الكاوس، ينافس صمت العالم بعالم الصوت والكلمة. من أين كان لأقانيم، من مثل المفهوم والأفهوم، الفكر والكينونة، عالم الضرورة والجواز، أن تأتي لو لم تنبع اللغة من صمت العالم نفسه، لتغدو شريكته وهي المنافسة بجوازاتها لكل ضروراته؟ لذلك تنحاز الكينونة إلى اللغة لكي تصبح عبرها فكرًا متجولًا في رحابة العالم الذي يغدو هو بدوره مصيرًا، يصير تاريخًا لتسجيل الدلالات وغياباتها معًا.

واختراع أقنوم الفكر يسجل بدء المنافسة الحقيقية بين اللغة والعالم، كتوءمين متصارعين على تحقيق الوحدة المستحيلة بينهما. وهنا فإن «الاختلاف» بين التوءمين: اللغة والعالم، يجمع فرقتهما، من حيث إنه يفرق بين تشابههما. وما يرجع دائمًا في التوءمة هو هذا التوافق المختلف. لكن ليست التوءمة بين اللغة والعالم إلا من قبيل الاستعارة التي لا تتقيد بواقعية أو مادية عناصر الاتفاق والاختلاف بين الاثنين كنسختين عن بعضهما. ليس ذلك هو المقصود هنا أبدًا، بل إن الأمر يعود إلى واقعة المنافسة بين التوءمين كأسلوب وحيد لمعايشة التوافق بينهما. إنها نوع من توءمة الاختلاف. وقديمًا فُهم اللغوي على أنه ترجمة للآخر، وأنه نسخةٌ مرجعها في غير شيئها الخاص. خصوصيتها أنها دليل خصوصية الآخر. إنها أفضل نموذج عن تجسيد العلاقة بالغائب. ونتيجةً لوضع «الترجمة» ذاك، لم يُسمح للغوي أن يتمتع مرة بصيغة ألا ينوب إلا عن نفسه، بدلًا من هذه الإنابة المحتومة عن الآخر. ولذلك، فإن كل الأقانيم الميتافيزيقية كانت محتاجة للبحث عن مراجعها خارج كياناتها باعتبارها مجرد كلمات، فكان الفكر يتوسل بكل ما عداه ليرجع فكرًا لسواه. ولم ينجح طيلة تاريخ الميتافيزيقا، والتاريخ «العام»، في تأسيس مرجعيته في ذاته. فالصيغة: الفكر بما يرجع إليه وحده، لم تكن واردة، حتى وإن وردت فذلك تغطيةً لوساطة مغيبة، لكنها قائمة فعليًّا بين الفكر وذاته.

قد يقال إن كل الناتج الحضاري، من ثقافة وفن واجتماع وعلم … إلخ إنما كان يشغل دور الواسطة من أجل أن يقدم الفكر نفسه كحقيقة، هي من صنع التاريخ، ولا تصنع التاريخ فحسب؛ كأن الفكر كان مفتقرًا دائمًا إلى كل هذا السِّوى ليكون الأنا. ولقد أثبتت بعض أكبر المذاهب في الفلسفة، بدءًا من هيغل، كيف يكون إنتاج الآخر إثباتًا للذات وتحقيقًا تاريخيًّا لها. لكن مثل تلك المذاهب رسَّخت بالمقابل حاجة الفكر إلى «السوى» أكثر من حاجته إلى الذات. فقد انتهت إلى إشباع الحديث عن كل شيء، ما عدا الفكر نفسه. وما كان ليحدث هذا لولا أن اللغة استقالت تدريجيًّا من صيغة التوءمة مع العالم، وأصبحت تُمعن في استقلالية عالمها الخاص، حتى أمست هي تلك اللغة التي قبلت بالتنازل إلى الحجم الذي سوف يعادل حروفيتها فقط، مع النحو والصرف، وثقافة التدوين وأساليبه البلاغية […]؛ أي اللغة كمصطلح قد تحجب اللغوي الكوني، بما فيه من المعجمية وقواعد اللغوي الكينوني. وأخيرًا فإن اللغة التي صارت ذاتية الاختزال أصبح من السهل والممكن استبدالها بأية إشارات […]، بحيث يسمح هذا التحول بدخول اللغة تحت الكنف التقني كليًّا. وعند ذلك فإن السبرانية تدمر عالم الدلالات لصالح أنصاب الإشارات. يحدث ذلك انطلاقًا من استقالة اللغة من توءمتها مع العالم، كمنافس حقيقي لها، كعالم ناطق مقابل عالم صامت. ولكن ما إن يغرها نطقها ذاك، الذي يسمح لنفسه أن يشيد كل أبنية الثقافة والممارسة، حتى يتم محو الصمت من العالم، وبالتالي يغدو حد الدلالة دلالة أخرى، دون أن يصل انفراط التسلسل إلى محاذاة الحد المختلف، العالم. بدلًا من أن يحد الدلالةَ العالمُ، تحدها الثرثرة. (فرط المعلومات يلغي العلم.)

المستفيد الأول من فصم التوءمة بين اللغة والعالم هو «العقل»، الذي يعيش كذلك انفصام توءمته المبدئية مع الفكر. في صيغة التوءمة بين اللغة والعالم لا يقوم الحد بين التوءمين خارجيًّا عند أطرافهما المتماسَّة المتباعدة، بل ينبثق من داخل كلٍّ منهما. متى لا تعود الكلمات مجرد أكاذيب، كما يصفها نيتشه، عندما لا تتوقف عند وظيفة المرآة، وعكس الآخر كرمز أو كصورة، بل تدع الآخر، الشيء، يصير خارجيًّا وهو في داخلها. وهو ما ليس في استطاعة اللغوي التداولي أن يمارسه قطعًا، إلا عندما يسترد بعض اللغوي استثنائيًّا، أي إبداعيًّا، قدرته على الإدهاش، كما لو كان مخلوقًا فجائيًّا لذاته أولًا من الكلمات والحروف، بحيث يأتي ليس كأية كلمات أو حروف؛ أي عندما يفارق اللغوي مجازيته أو أكذوبته، لا لكي يرجع شيئًا، وهو ما لا يقدر عليه أبدًا، ولكن لكي يصير متناهيًا حقًّا، ولا يصير كذلك إلا إذا فاز بحده من الكاوس، من اللامتناهي عينه، دون أن ينقطع عنه. ليس كل متناهٍ هو كذلك إلا بقدر ما يثبت أن حافته إنما تطل، في جانبها الآخر، على اللامتناهي. تلك هي وظيفة التراجيدي؛ إذ إنها في لحظة تستطيع أن تأتي بلمحة عابرة من الهاوية تحت حافة كان شيء، وليس بشيئها فحسب.
لحظة التراجيديا في فن الرسم، تجلَّت في ذروتها العصرية من خلال التجريد؛ إذ اشتغل التجريد أساسًا على الفراغ، ذكَّر بوجود الأرض معلقة في الفضاء كصدفة فراغية. فالأصل هو الفراغ، والشكل حد طارئ عليه. وهكذا تذكِّر الأشكال التجريدية بصدفويتها في عالم الفراغ. ما هو الشكل التجريدي؟ إنه مفهوم شكل مكسور بأفهوم اللاشكل دائمًا. بمعنى أن الشكل لم يعد يستطيع البروز في عمق اللوحة، إلا إذا أتى بفراغيته معه؛ أي إن الشكل ليس حدًّا قاطعًا في فراغ اللوحة، ليس شيئًا يبرز فوق العمق، بقدر ما هو العمق، مؤسسًا بالفراغ. لم يعد الفراغ يعني الخلاء، يصير إلى قوًى، كما يقول دولوز. «وما يفعله الرسم التجريدي هو أنه يستدعي القوى، يؤمُّ الأرضية بالقوى التي حملها، يدفع إلى رؤية القوى غير المنظورة فيها، يقيم الأشكال الهندسية ظاهريًّا، ولكنها لم تكن أكثر من قوًى؛ قوة الجاذبية، والثقل، والدوران، والزوبعة، والانفجار، والانتشار، والبذار.» التجريد يرسم قوى الفراغ اللامتناهي، مثلما تسمع الموسيقى أصوات الزمان، قواه اللامتناهية. «كما يمكن القول إن الموسيقى تجعلنا نسمع القوة المصوتة للزمان، وكذلك الأدب، مع ميسان Messiaen مثلًا، أو بروست، فإنه يجعلنا نبصر القوة اللامقروءة للزمان.»٧ ومن تراجيدية المتناهي/اللامتناهي في الفن يريدنا دولوز أن نتعرف إلى تراجيدية «المايحدث»، انبثاقة التماس كالبرق بين المتناهي واللامتناهي التي تنطوي عليها صيغة وجود الكائن في العالم، ذلك التماس النادر الذي نحس به المايحدث الاستثنائي بطريقة الوجود في العالم كصيغة تقع تحت طائلة الكينونة دائمًا، في غيابها وفي حضورها الخاطف. ذلك التشكيل العارض الذي يقتطع ثَمة نتوءًا من الكاوس، يختطف من القوى الفائتة الهاربة، بعض ما يصنع الحياة، وإبداع الحياة، كمفاهيم تغامر بانكسارها إلى أفاهيم، كيما تجمع بين سُكنى الإقليم وانفتاحه، وصميمية البيت وإطلالة نوافذه على العالم.

سُكني العالم شعريًّا: كسر المفهوم إلى أفهوم. لا تعني هذه السكنى الشعر فحسب، ولكنها هي الشعري الذي يخالط الفلسفي، والفني، والعلمي عندما يجدد علاقة كل أقنوم منها، وعبر خصوصيته، بالكاوس الذي يناضلونه جميعًا كما لو كانوا نقائضه، في حين أنه ليس لأحدهم ثَمة جواز، أو إمكان إلا في مجاورة الكاوس وضرورته غير الممنطقة.

مثلما لم تكن هذه الأقانيم الثلاثة تجليات معرفية أو إبداعية للكينونة حسب النظرة الأفلاطونية التراثية، كذلك فهي ليست استقطابات ثلاثة معارضة للكاوس، للسديم، كما هي حال النظرة التعقيلية التقنية العصرية؛ إنها بالأحرى منطقة المفهوم الذي لا يصير مطلقًا حسب نموذج الفكرة أو المثل، ولا ينهار إلى النسبية الذرية أو الفالتة، حسب نمط «الرأي» أو الشائعة. المفهوم يشغل المنطقة الثالثة ليس بين الشائعة doxa، والمثل orodoxa، ولكنه يبحث عن منطقته خارج هذه التراتبية عينها. إنه لا ينقب عن ثَمة فراغ يقع بين ممتلئين. لذلك لن يكون الثالثَ بالنسبة لتجسيدية السابقين. يرفض ثنائية الاستقطاب بين الشائعة والفكرة. ليس هو نظامًا لأحدهما دون الآخر. ليس مضطرًّا إلى مثل هذا الاختيار الذي يأتي من خارج «النص» دائمًا. قد يمر بهما معًا أو بأحدهما، ولكنه لا يتوقف في محطة الواحد، ولا في محطة الاثنين معًا. ولذلك لم يعد مفهومًا متخثرًا، يُتداول لصالح هذا القطب أو ذاك. إنه مفهوم هو على طريق التشكيل، ولا يصير شكلًا معماريًّا مغلقًا. مفهوم منكسر إلى أفهوم. لا يهمل المعرفي كشائعة، ولا يفارق أرض الشائعات وما سواها كذلك، ليلجأ إلى ما فوق المحايثة، ادعاءً لنزاهة من تلوث لئيم أو حميمي، ومطلوب رغم كل شيء، في حمأة المحايثة. إنه المفهوم المضاد للمفهوم، الذي لا غنى له عما يضاده؛ لأنه يجلس دائمًا، هو وما يضاده معًا، في جوار سديم، لا يلتقطه أحدهما أبدًا دون الآخر. إن انبثاقة الأفهوم، كمفهوم مضاد، تغير من «التصور» الذي يشكل مادة المفهوم تقليديًّا، ومن البقعة التي يدعي التقاطها من السديم، من الموضوع والمحمول معًا حسب الشكلانية المنطقية. يتجلى هذا التغيير في تحول علاقة المفهوم، كبؤرة تصورات، مع السديم، من صيغة علاقة «تنظيمية» بالسديم، وهو ما كان أعطى كماله (نقد العقل المحض) عند كانط وتوقف عنده، إلى صيغة علاقة تحافظ على وصفها هي عينها بالسديمانية؛ علاقة أفهومية. تمامًا كما أبرز دولوز عبر «المفهوم الإبداعي» في الفن: إن الفن يحول إمكان التنوعية الفوضوية la variabilité chaotique إلى تعددية سديمانية la variété chaotique.٨
إن المفهوم يصور، والأفهوم يخترق، الأول يأنف من تلوثه بموضوعه فيرتد عنه سريعًا. أما الأفهوم فإنه يلقى نفسه والآخر في هذا التلوث عينه. المفهوم يصور الكوني الميت. والأفهوم يكتشف الكوني الحي في: الحياة. كما أن كل حي مبني على النقص، فإن الأفهوم منفتح على صدع ما. ذلك هو، مثلًا، لغز الفرد، بوصفه كذلك، وببساطته أيضًا. إنه كائن حي، لا يمكن تعريفه بأقل أو أكثر من ذلك. فهو أفهوم من الحياة، و«يحيي» بدوره أفاهيم. والحياة تختلف عن الكوني الميت، بما هي كوني لا يفتأ يختلف؛ لأنها لا تكفُّ عن التكون/التكوين: تلك الخاصية الازدواجية التي تجعل من صاحبها الوحداني يصير كثيرًا. الحياة تعني الزمان؛ لأنه لا تكوُّن/وتكوين، إلا بوجود الحد الذي وصفه الأساسي، هو أنه غير محدود بعد. هنا الزمان الذي يتميز بالمستقبل، وحده يؤسس الفارق بين كونية الحياة، وكونية الكوسمولوجيا. مما يجعل الحياة نفسها مركبًا تجريبيًّا يقع على خطوط التمفصل (التواصل والتفاصل) بين الأنطولوجيا، بما هي معرفة الكينونة، وبين الكوسمولوجيا، بما هي مساحة للمطلق العيني، وما ليس كذلك أيضًا.
قد ينفع المفهوم في تسجيل الزمن الثابت أو المتكرر تماثليًّا كزمن الساعة، لكن الأفهوم لا يعترض على الزمن الثابت، قد يختطفه ويجعله أحد متغيرات أزمانه، كالثابت في خضم من المتحولات، يغدو أحد المتحولات هذه، ولكن بطريقة أخرى. ولعل ذلك ما لمح إليه هوسرل بقوله: «إن الزمن جامد، ومع ذلك فإنه يسيل في ذاتها.» وهذا يرجع إلى دور «الآن» التي تجيء هي نفسها دائمًا من حيث الشكل، لكنها مختلفة بما يقترن معها من حدث: ولعل دولوز يعطي تأويلًا هنا أكثر شفافية لهذا الوجود المتعارض للآن. «فالزمن لم يعد يتعلق بالحركة أبدًا، إذ إنه وهو الشكل الأصلي أساسًا للتغير، غير أن شكل التغير لا يتغير».٩
الآن هي شكل الزمن؛ هي مفردته الوحيدة التي تسمح لنا بالتعامل معه. الآن تستخرج الزمن من سيولته، من سديميته. إنها نقطة التعيين في اللامتعين. فالآن لا تزال مفردة فارغة، تحتاج إلى الحدث لكي يأتي ثباتها عينه كضامن للتغيير، ومبدأ له. الآن ليست شكليًّا ثابتة إلا بالنسبة للمتغير الذي يملؤها حدثًا. الآن هي وسيلتنا الوحيدة للقبض على الزمن، لمعايشته لحظة: الزمن ليس هو إلا الهارب أبدًا. إنه «السرعة». وكل شيء هو مهلة بالنسبة إليه. حتى «الآن»، فهي أضعف المهل وأبقاها في وقت آخر. إنها وسيلتنا الوحيدة للقبض على ما لا يُقبض، كقبضة ريح، أو غرفة ماء بين الكف وأصابع اليد. فهي للتسرب والانسلال والانسياح، أفعال ومصادر أفعال تحاول أن تجسد غير المتجسد. تظل أفعالًا ماضية. من الماضي، بالنسبة للآن. لذلك ليس ثَمة من سبيل للتحدث إلى الزمن، إلا بواسطة المستقبل. الآن ليست من الحاضر إلا بالقدر الذي لم تأتِ عبره بعد. قد تعطي الآن وهم الحاضر، في حين أنها لا تحمل منه إلا توقعه لسواه: للمستقبل، الذي لا يلبث أن ينقضي، حالما يأتي، كما لو كانت الآن هي تراجع المستقبل. ذلك التراجع يُسمى الحاضر مجازيًّا. الآن هي لحظة المستقبل في «الحاضر». الزمن هو كله للمستقبل. فلا بد من انتظار الحاضر نفسه في المستقبل. وأما الماضي فليس سوى المستقبل الذي شاخ تراجعيًّا؛ وأمسى مقبرة لانتظاراته التي لم تعد تنتظر شيئًا. الماضي مقبرة المستقبل. مع ذلك يقال إن الماضي وحده هو الموجود؛ لأنه يشكل غاية الطريق لكل الراحلين، وحكاياتهم التافهة والعظيمة. وبالتالي فإن الزمن ليس مستقبليًّا إلا من حيث الشكل. أما إنتاجاته فهي تراجعاته الدائمة إلى مستودع الماضي. ذلك أن كل شيء يتقدم مستقبليًّا نحو الماضي، ليتراكم ويرقد قبل الزمن، تحت تضاعيف الصمت. مثل هذه الأوصاف/التحليلات التي ترد هنا، تنشر مفاهيم منكسرة إلى أفاهيم. وتساعد مثلًا على تقبل هذا المفهوم/الأفهوم، وهو: أن الماضي يأتي دائمًا قبل الزمن، وكل أبعاده الأخرى. إنه مستقبل المستقبل.

نكرر القول بمثل هذه الأوصاف/التحليلات التي ترد هنا، لم تكن لتوجد لو لم تتوفر «مفهمة» جديدة، تتراوح بين حدَّي المفهوم/الأفهوم. «مفهمة» شاذة خارقة، تسعى إلى ملاحظة حدث «الآن» في ذاته، قبل أن ينتظر شيئًا من المستقبل، أو ينحل في حاضر، أو يستقيل من اسمه في الماضي. لكن ذلك ليس الآن المجردة، بل الآن كحدث؛ أي ما به تقع «الحادثات» الأخرى. إنها العتبة التي تقتطع من الزمان، أزمنته الخاصة، التي بدورها تسجل أوقاتًا لسواه وسواها معًا. وهي على كل حال أوقات ما إن تنبثق، حتى تكون انبثاقاتها عينها مناسبات لانقضائها، لهدرها. لذلك لا تأتي الآن لوحدها، بل تجلب معها دائمًا وقتًا ما لسواها. الآن تنسلخ عن سديمية الزمان، لتسجل وقتًا، تنحت بروفيلًا لما لا وجه له أصلًا؛ تمفصل مع السديم، الكاوس، حادثة المايحدث [تبدع الأفاهيم].

واللغوي هو محل هذه الحادثة، منطقة المايحدث. فالقول الشائع عند سماع سمفونية: هذه هي الموسيقى! أو قراءة قصيدة رائعة: هذا هو الشعر، هذا هو الحب، هذه هي التضحية! هذه الاحتفالية اللفظية تعلن عن التقاط الجوهر بعلامة، ببعض ما يمشهد تجوهره، ببعض ما يلتقط علامة «من» تجوهره «على» المايحدث، كما لو كانت العلامة صارت كونية دفعة واحدة، ولكن في وطن المحايثة وحده؛ إذ إن كل الحديث هنا إنما ينصب على المتحقق الموصوف بالحي، كعلامة نفسه على أنه من الكينوني، أو من عابري ضواحيه. فالحي ليس نظام نفسه إلا بالقدر الذي يفتح «نظامه» عينه على الكاوس الذي يجاوره، الذي يداهمه، ويحف به، ويفرض عليه كل لحظة أن يتمفصل معه، وإلا ابتلعته سكونية الأشياء حوله وفيه؛ لأن «الحياة لا تحيا إلا متجسدة».١٠ ذلك أن الجسدي لا يغدو مقر الحي، وعلامة الحياة الفارقة، إلا لأنه المتناهي الوحيد الذي يمكنه أن يتحسس اللامتناهي ويقاربه، كأنه من جيرانه وضواحيه. الحي هو القوس العبقري الذي يربط بين الكوسمولوجي والأنطولوجي. إنه الحي حاملًا بذرة الوعي، فيختص بإعادة تشكيل الكاوس فيه، ومن حوله، يمنحه مخطط اللغة الذي يصوغ الكاوس، اللامتناهي بترميزات المتناهي نفسه. ولذلك حدد نيتشه المعرفة من حيث إنها ترسيمية schematisme مقابل سديم (كاوس)، مهمتها إعادة التطابق مع الحاجة العملية. تلك الترسيمية التي توقف عندها طويلًا «نقد العقل المحض» الكانطي. وكانت أهمَّ إنجاز في ثورة الحداثة التقليدية؛ لأنها حاولت لأول مرة في تاريخ الفكر، أن تجعله، أي الفكر، ينتقل من سؤال ماهية المعرفة، إلى سؤال كيفيتها؛ مما سوف يسمح بتأسيس العلم الحديث. ورغم الأهمية البالغة التي تحققها هذه النقلة الحاسمة، خاصة عندما ينشئ كانط العقل باعتباره جهازًا متراكبًا من وظائف عديدة، مهمتها قلب الحسي إلى معرفي، دون التخلي عن أصله من الكاوس، ومحله فيه؛ فإن هذا النوع من التمفصل الخارق بين المفهوم، كمادة نفسه، وبين «ما يفهمه» كمادة سواه، لا تكفي وظائف أو عمليات الفاهمة كجهاز، من أجل إيضاح آليتها؛ ها هنا يبرز ويتأكد، للمخيلة الإبداعية التي خصها كانط بوظيفة الإستطيقا، ذلك الدور اللغزي/الإبداعي، الكبير الذي يحقق الفهم عينه، أو ما يعبر عنه بالتمفصل بين الدلالة وأصلها في الكاوس، حسب المصطلح اللساني.
كأن مختلف أجهزة جهاز الفاهمة l’entendement تصاب بالعجز عند اللحظة الذروية التي تقلب اللامعرفي إلى معرفي، إن لم تتدخل المخيلة، فلم يجد كانط من حيز لهذه اللغزية إلا لدى المصطلح التخييلي، باعتباره يختص ﺑ/ويتعامل مع جوهر الإبداع؛ أي الإستطيقا. كأن كل أجهزة الفهم، أو الفاهمة، التي كشفها، وأعاد بناءها، حللها وركبها، نقد العقل المحض، تغدو غير جاهزية عندما تبلغ نقطة المعجزة: حادثة الفهم نفسها. ليس ثَمة من «مفهوم» قد يغطي هذه الهاوية، سوى فورية الإبداع. فالإستطيقا ليست من ضواحي العقل، بل هي نقطة التمفصل الخارقة، بين العقل ولحظة تماسه الحقيقي مع الفكر. فالفصل بين العقل والفكر ليس سوى لحظة عملانية قد تفيد في تحديد وظيفي أنثروبولوجي للعقل، كجهاز منتج للمعرفة، يحتل فضاءً مناظرًا لفضاء الكاوس. تلك هي تشكيلة مواقعية لا غير. وبين حدَّي هذه التشكيلة، تشتغل اللغة في فبركة ألفاظها وترابطاتها، وكأنها تنشئ عالمًا مرآويًّا؛ لا يمكنه أن يلتقط من العالم (الأصلي) إلا ما كان عكَسه هو عليه. وأشمل وأهم ما عكسه، هي المرآة نفسها. في مثل هذه التناظرية، المرآوية مع نفسها، لا مجال لحادثة الفهم، بل يظل «التصور» وحده سيد الساحة. لا ينبثق المايحدث، لا ينبثق الفهم، كحادثة نفسه، إلا عندما يتمكن العقل من كسر هذه التناظرية، وقلبها إلى تمفصل مواقعي؛ عندما يضع العقل نفسه حدًّا لترسيمته، لجاهزيته كآلية تحليلية، مفسحًا المجال هكذا واسعًا أمام عمل الفكر التركيبي، حين يشرع في نحت ترسيمة الكاوس، عبر حضوره وغيابه، واقتطاع «الأفاهيم» من مادته عينها. عبر الأفاهيم يتمفصل الفكر والكاوس معًا؛ ينكسر المفهوم كمحل للتصورات فحسب. يصير فجاءة نفسه، أفهومًا يشتغل دائمًا على الحد من انكسار المرآوية بالمواقعية، وذلك بانبثاق الكلمات والأشياء كحالات متناهية في رحاب لا متناهٍ، خارقًا كونيته المائتة وقد صار المايحدث، هذا «الثابت» الوحيد الذي لا واقع له إلا عند وقوع كل حدث. وعندئذٍ، عند الحدث، عند الحي، سيأتي المايحدث عينه مختلفًا.
في هذه الحالة لا يعود يمكن التحدث عن المفارقة إلا وهي مسفوحة على أمكنة مسطحات من المحايثة ذاتها. تغدو المفارقة تعاليات تعددية، تحمل معها أمكنة مسطحات١١ المحايثة التي تتجاوزها. من أجل فهم هذه العلاقة المتعارضة، وفهم هذا الفهم عينه، يُضطر العقل إلى التخلي عن ترسيمة جاهزيته، ليلتحق بترسيمة أخرى للكاوس، يعجز وحده عن استشرافها إن لم ينجده الفكر بما يرجع إليه وحده بتلك «الميتافيزيقا» الحائرة، التي أسيء تفكرها دائمًا؛ إلى حين استطاع نقد العقل المحض القبض على معجزتها، وأسماها الإستطيقا؛ فهي «لحظة المايحدث» في تمفصل الفكر مع الكينونة. ذلك أن المايحدث هنا هو من التحقق والانخطاف بحيث صار يمكن إضفاء مصطلح تجريبي عليه، شديد الراهنية في التداول التواصلي. إنه: السرعة أو «الشدة» في حد ذاتها، كما عبَّر عنها سابقًا دولوز في كتابه «الاختلاف والتكرار»، الذي يمكن اعتباره بمثابة نقد العقل المحض «الجديد» لنهايات القرن العشرين. لكنه، أي دولوز، قد قرَّ واستقر على ملفوظ السرعة/الانسراع، على أن تُفهم سرعة فلسفة، مقابل السرعة، التقنية التواصلية والفضائية التي جعلها بول فيريليو محور تفكره المتميز في عصر «الزمن الواقعي» الراهن.
١    Alain Badiou: Théorie du sujet, ed. Seuil, pp. 22–30.
٢    Heidegger: Le principe de raison, pp. 85–96.
٣    ibid., p. 87.
٤    ibid., p. 108.
٥    ibid., p. 109.
٦    ibid., p. 11.
٧    Deleuze: Qu’est-ce que la philosophie, p. 172.
٨    ibid., p. 192.
٩    Deleuze: Différence et répétition, p. 120.
١٠    Heidegger: Nietzsche, vol. II, p. 439.
١١  مصطلح المسطح أو المكان الذي ابتكره دولوز منذ كتابه الرائع: «ألف مسطح» وكرَّسه كمحل للأفهوم، في «ما هي الفلسفة؟» أجهز على الميتافيزيقا التقليدية وخارطتها التراتبية المتراوحة دائمًا بين المتعالي كمفارقة إطلاقية ولاهوتية، والمحايثة، كوطن إنكار وجحود للحياة وبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥