في تبرئة الفلسفة من أوهام تاريخها

المفهمة في جوار الكاوس

عندما يرى دولوز الميادين المعرفية؛ الفلسفة، العلم، الفن، أنها تقتطع «سطوحها» من الكاوس، لا يعني هذا أن تلك الميادين تتوزع فيما بينها أو تتقاسم الكاوس. لسنا أمام وثيقة تصنيفية جديدة، توزع ميادين المعرفة كاقتطاعات من المطلق. هنالك قوًى في الفن خاصة تكشف عن صلات مبهمة بما هو قوة قووية خالصة: هنالك أعمال إبداعية تصير أمكنة للزمان، ذات حضورات فجائية لما لا يستوعبه أي حضور. فان غوغ يقول إنه بدلًا من أن يرسم جدارًا للغرفة، فإنه يرسم اللانهائي، بلون أزرق خالص. «فالفراغ الملوَّن [في الرسم]، أو بالأحرى الملوِّن (بكسر الواو) هو بالفعل قوة». في اللوحة التجريدية، لا يتجرد الشكل بل اللون كذلك، وتغدو عناصرها من الهندسيات والتقاطعات، والزوايا ما بين الخطوط، وانعكاساتها غير المرئية، قوًى من الجاذبية والثقل، والدوران، والانفجار، والانزياح. تلك هي «قوة الزمن»، «كما يمكن القول عن الموسيقى إنها تجعلنا نستمع إلى القوة التصويتية للزمن، مع ميسيين  Messiaen، وإن الأدب يتيح لنا أن نقرأ القوة اللامقروءة (للزمن). أليس ذلك هو تعريف العنصر الإدراكي للفن في شخصه، كأن موضوع الرسم، كما عند تانتوريه  Tintoret هو رسم القوى؟»١ ألا يعني هذا أنه أقصى ما تطمح إليه مفهمة إرادة القوة هو الفوز بالمفردات الإبداعية كلحظات من زمانها الخاص، أو كسرعات لماحة، كقوًى جمالية مخففة، تنوب عن مداهماتها الإطلاقية أو الوحشية الفجة.
قد يمعن دولوز في توصيف التصنيف الجديد لميادين المعرفة والإبداع، واضعًا ممالكها كلها في حرز أمين من خطر الكاوس نفسه الذي تنتزع منه ما تنتزع، شرط حفاظها على ذلك التأويل العسير الذي تلتزم به، وهي أن متناهيها لن يكون مجرد مؤشر على اللامتناهي، بل هو المسئول عن إعادة بث اللامتناهي، بطريقته الخاصة. وما حديث المبدعين أنفسهم، عن تلك المعاناة مع المجهول، الحاضر الغائب، الذي يترصدهم ويجذبهم إلى ممارسة اللون أو الحرف أو الصوت أو المعنى، ذلك الذي يسمى بالقوة وهو في أضعف حالاته. ليس حديثهم ذاك ضربًا من التأويل المجاني؛ إنه تعامل يومي مع الكاوس. ذلك «السديم» الذي يحتمل كل التأويلات، ولا يحتكره أحدها أبدًا. لذلك لا يُجهِد دولوز نفسه بأعباء شكلية من نوع التعريف بالكاوس وتحليله. إنه يفترضه قائمًا هناك. إشكالية مستمرة، ولا تطالب أحدًا بحلول لها، بل إنها تتدخل في كل ما من شأنه أن يجرؤ على المكوث لحظة في ظل وهجها الشفاف. وكل السؤال الفلسفي في «نهاية الفلسفة» لا يزال على الضفة الأولى. لم يمخر العباب، ولم ينتقل إلى الضفة المقابلة، إنه يجلس حيثما كان دائمًا. لم ينتقل حتى إلى مرحلة المفهوم، رغم كل صخب المذاهب و«مفاهيمها»، بل تراجع القهقرى هكذا: من الالتصاق بالمفهوم، من تخيل الإمساك بتلابيبه، إلى «عتبة» الأفهوم، إلى لحظة صنعه أو خلقه؛ حيثما ينبثق حاضر ما، كمكان للزمان.
افتراض الكاوس من بداية سؤال ماهية الفلسفة إلى خاتمته هو الإعلان عن بطلان الانشغال بالمفهوم نفسه، والانهمام بخلقه فحسب. ذلك أن هذا السؤال لم يستطع أن يتوصل إلا إلى جواب واحد: ما هي الفلسفة؟ إنها إبداع المفاهيم، التقاط المفهوم وهو لا يزال قوة. لا يقطع حبل سرته أبدًا من رحم الكاوس. ذلك المفهوم/الأفهوم الذي يشكل مكان الزمان، هو   الحاضر. خلق المفهوم هو جعل الكاوس على شفا الحاضر، دون أن يكون كذلك تمامًا.
غير أنه لا بد من الاعتراف أن دولوز الذي لمح هذا الانقلاب، لم يستفد من مفهمته كثيرًا. فقد سارع كعادته إلى ممارسة توصيف الحالة، أكثر من تمعينها. فهو الذي يلحظ منذ مقدمة كتابه، أن «الفلاسفة لم يهتموا كفاية» بطبيعة المفهوم بما هو واقعة فلسفية. وقد فضَّلوا النظر إليه باعتباره معرفة أو تصورًا معطيين، يُعلَّلان بملكات قادرة على تشكيله، هما: «التجريد أو التعميم»، أو باستخدامه: «الحكم». غير أن المفهوم ليس معطًى، إنه مبتدع، وله أن يُبدع، ليس مشكلًا، يطرح نفسه بنفسه، وهو ذاتي الطرح. والحالتان متطابقتان؛ إذ ما هو مُبدَع حقًّا، من الحي إلى العمل الفني، يتمتع لهذا السبب عينه بوضع ذاتي الطرح لذاته، أو بخاصية ذاتية الشعرية، يُعرف بواسطتها؛ بقدر ما يكون المفهوم مبدعًا، فإنه يطرح ذاته. من يتعلق [وجوده] بفعالية خلاقة، فإنه هو كذلك من يطرح ذاته بذاته، بصورة مستقلة وضرورية: الأكثر ذاتية هو الأكثر موضوعية.٢
لكن هذا التوصيف الدقيق ﻟ «شكلانية» المفهوم كإبداع، سرعان ما يعمد دولوز إلى تجييره إلى فلاسفة ما بعد كانط، إلى شللينغ وخاصة هيغل. هذا الأخير هو الأول والأهم في إشادة الصرح الفلسفي الأكبر للمفهوم. ولم يكن ذلك مبالغة حقًّا، بل لعلها قد تكون المحاولة الأهم في تاريخ الفلسفة التي استطاعت أن تقفز فوق الهوة القائمة بين الفكر والكينونة. وذلك باكتشاف المفهوم الذي عليه أن يمسرح الكاوس تاريخيًّا. «فلقد عرَّف هيغل باقتدار، المفهوم، عن طريق ترميزات  figures إبداعه، وبلحظات مراحل طرحه لذاته؛ إذ أصبحت الترميزات من استتباعات المفهوم، باعتبارها تنشئ الجانب الذي يبين كيف يتم فيه إبداع المفهوم داخل الوعي وبواسطته، خلال تتابع العقول les ésprits، في حين أن اللحظات تنشئ الجانب الآخر الذي تبعًا له يقوم المفهوم بطرح ذاته، ويوحد العقول في مطلق الذات». ولعل دولوز يضفي هنا تأويله الخاص على النص الهيغلي، فينفي عنه كل ما شاع عن انفصالية المفهوم وانسلاخه عن المحايثة، التي ستغدو من إعادة إنتاجه الخاص؛ لكن دولوز يسارع إلى زعزعة كل الأسس التي بُنيت عليها ما يشبه المسلَّمات التي عادة ما تُناقَش من خلالها تجريدية هيغل. وهكذا يدلِّل هيغل «أن المفهوم ليس له أية علاقة مع الفكرة العامة أو المجردة، ولا مع نوع من حكمة غير مخلوقة، ولا ترتبط بالفلسفة عينها».٣ كأن هيغل يدعو إلى أن الفكر لا يرجع إلا إلى ذاته. فالفلسفي إذن هو المعرفي الأنطولوجي. والكاوس ليس له ثَمة حيز يؤشَّر عليه إلا بقدر ما ينجح الفلسفي في التقاط ترميزات للفكر الذي يتجلى وينسحب على إيقاع الكينونة ذاته، وهو بدوره يسمح للمتناهي عينه بإعادة إعطاء اللامتناهي.

الفلسفي تذكير بالكاوس، كما لو كان وطنه الأصلي، وهو عندما يشرع في ارتياد المحايثة يتابع بحثه عن الترميزات القادرة على صياغة مفهوم، يحاول بدوره أن يحقق خطوة إلى الأمام بالنسبة للمجهول الذي انبثق عنه، ويظل حاملًا منه بعض آثاره. أعلى ما يستطيعه الفلسفي ليس القبض على المايحدث بواسطة مفاهيم يأتي بأشيائها من اللاشيء، بل إن الفلسفي يكتشف أنه والكاوس معًا هما من حادثات المايحدث، ومن بعض صدف المايحدث، شرط أن تجيء مختلفة بعد كل تكرار؛ لأنها لا تخرج عن كونها من صدفة المايحدث عينه، بما هو كذلك.

يرجع دولوز التأويل المشوَّه حول انفصالية المفهوم الهيغلي، إلى المرحلة ما بعد الكانطية التي راحت تدور حول «موسوعة شمولية [ينسجها] المفهوم، وترجع إبداعه إلى محض ذاتوية خالصة. بدلًا من أن تعهد لذاتها بمهمة أكثر تواضعًا، هي بيداغوجيا [تربية] المفهوم، التي ينبغي لها أن تحلل الشروط الإبداعية، من حيث إنها عوامل لحظات تبقى فريدة. فإذا كان المفهوم يمر عبر مراحل ثلاث، هي الموسوعة، والبيداغوجيا، ثم الإعلام المهني التجاري، فإن المرحلة الثانية وحدها تمنع السقوط من قمم المرحلة الأولى نحو الكارثة المطلقة للمرحلة الثالثة، وهي كارثة مطلقة للفكر، مهما كانت الفوائد الاجتماعية من وجهة نظر الرأسمالية العالمية».٤
الفلسفي، وخلفه الكاوس، هو الوطن المشترك لمولد المفهوم؛ بحيث لا يتبقى للفكر ثَمة من مهمة إلا اكتشاف الوليد العبقري، ورعايته بالتنشئة الإغريقية، التي إذا ما تحققت بفرادتها التاريخية، فإنها قد تمنع الانهيار نحو العصر الثالث الذي هو «العمل» حسب التوصيف الرأسمالي الشمولي. أما وقد حل أخيرًا هذا العصر الثالث بكلكله على كاهل الإنسانية، فإنه لم يتبق إلا نداء الإنقاذ الوحيد على: الفكر بما يرجع إليه وحده.

ماذا تعني بيداغوجيا المفهوم؟ إنها الانشغال بتربيته، بشروط إبداعه، وظروف تنشئته، وإشغال الإنسانية بتربيته أولًا، وتربية ذاتها في كنفه، في آن معًا؛ هذا لا يعيد إلى الفكر مهمته الأساسية [الإغريقية] فحسب، وهي تكوين التاريخ والتكون به؛ بل يمنح التاريخ دلالته الأنطولوجية، وهي كونه يصنع للأزمنة الشاردة أمكنتها. إنه ذاكرة الكينونة التي لا تأتي إلا لتنسحب … كونها الذاكرة الحافلة بالنسيان، وأخطره نسيان النسيان. ما هي الفلسفة اليوم؟ وكما كانت في كل أيامها المجيدة والبائسة؟ إنها إبداع المفاهيم. صحيح. ولكن شرط أن يسترد سؤالَ الماهية سؤالُ الكيفية، أن يغدوَا معًا وجهين لحقيقة واحدة، ألا يأتي أحدهما إلا ويسبقه الآخر. يعني أن الفلسفي هو فن المفهوم، كطريق وحيد إلى بيداغوجيا الكينونة: سكنى العالم شعريًّا.

يكتب دولوز مؤلفه الختامي الاستكمالي ذاك: ما هي الفلسفة؟ كمساهمة منه لوقف الانهيار من المرحلة الأولى (الفلسفة كموسوعة للحكمة)، إلى الثالثة (سيطرة الرأسمالية كإعلام)، دون المرور بالثانية إطلاقًا (الفلسفة، بيداغوجيا المفهوم)، أو بالتحييد عنها، كأنها غير موجودة. إنه يمارس الخوض في مسألة إبداع المفهوم، بما هي المسألة الأولى في كتاب البيداغوجيا؛ الذي لم يجرِ تأليفه بعد. كأن الفلسفي في هذا العصر هو البيداغوجي. ولقد التقط ميشيل سير هذه المهمة الأخيرة للفكر الذي يراد له ألا يحتجب من ساحة العقل كليًّا فحسب، بل أن تحتجب (حتى) ذكرى نسيانه كذلك. البيداغوجي، أو تربية المفهوم، عقبة حقيقية تقف أمام اجتياح القولبة الشمولية؛ في هذه اللحظة من حشر مختلف الأزمنة في «الزمن الواقعي» حيثما لا تتبقى لفكرة، أو هوية، أو حب، أية مهلة تخصه وحده.
لماذا لم تستطع أن تكون «المرحلة الثانية» التي هي: العمل٥ بالحرف الكبير إلا مرحلة الرأسمالية؟ هل الخروج إلى العمل لا معنى له إلا استسلام لنظام وحيد للعمل هو الرأسمالية؟ إن فيلسوفنا العزيز دولوز، ترك هذه المسألة معلقة هكذا. ولقد يكون له الحق تمامًا. ذلك أن السقوط مباشرة أو مداورة، من المرحلة الأولى إلى الثالثة، دون المرور بالثانية، جعل مولد العمل مختطفًا، محتكرًا لفعالية الاستغلال وحده. لم يُتَح للبيداغوجيا فرصة إشراف على المايحدث، هذا اللفظ البدائي. صار العمل هو الطارد للبيداغوجي، يجرِّد المايحدث، من اسم الفعل «ما»، يحيله إلى: اليَحدُثُ. يعزل «العمل» عن المفهوم.
لن تمر «الموسوعة» بالبيداغوجيا لتخرج إلى العمل، بما يجعله نفسه، وغير ذلك، في آن معًا. فالعمل الطارد للمفهوم، الجاهل للمفهوم، المتمرد على أسئلته مقدمًا، يعزل المعرفة/الموسوعة عن تاريخها. حين لا يتبقى ثَمة توسط للتربوي بين الموسوعي المعرفي والعملي، يغدو حتى إبداع التقني تقنيًّا خالصًا. عندئذٍ ما جدوى الحديث عن أعمار ثلاثة للمفهوم؟ بل ما هي الإضافة المعلوماتية التي يمكن أن يقدمها أي تحقيب معرفي، حتى لو كان ذلك يتمظهر في التاريخ الديالكتيكي (الهيغلي) الذي أنتج الموسوعة؟ ما الفائدة حقًّا من ذلك التاريخ، أو أي تاريخ آخر موسوعي، إن جاء يغمر العالم بطوفان المعارف/المعلومات، ولم يأتِ بالحقيقة، أو بحقيقة واحدة؟

ذلك ما يعنيه التوسط البيداغوجي بين الموسوعي والعملي؛ فإنه يعد بتاريخ للمستقبل، تولد آناته القادمة تحت هيمنة الحقيقة. بدون هذا التوسط، لا يسقط المفهوم في منتصف الطريق فحسب، بل قد يجهل نفسه، فيعد فقط بجوائز المعارف، التي تقايض كل شيء بكل شيء، مقابل اختفاء: الحقيقة.

يصير استخدام اسمه، اسم المفهوم، تزيينًا «فكرويًّا» للمنتجات في لغة الدعاية اليومية. ويتطلب ذلك غضب الفيلسوف، والأول هو دولوز، لابتذال هذا الاسم، وإلصاقه بما هو نقيض إشارته تمامًا، أو عدوها الأخير بالأحرى.
ما هي المسافة بين المفهوم والأفهوم؟ ليس الثاني تصغيرًا للأول لا في الكيفية ولا في الحجم. تقاربهما اللفظي ليس صدفة. يجمعهما ليجعلهما على مسافة من بعضهما، وليس ليفرقهما أو يبعثرهما. المفهوم كما يريده دولوز يبرأ من الكلي المجرد أو العام. لا قرابة له ﺑ «علم الكليات»، لا على طريقة منطق أرسطو، وليس حسب تعريف ابن رشد للعلم بأنه: لا علم إلا بالكليات؛ وهو عين القول المنطقي الأرسطي. فهل هذا التخارج بين المفهوم والكلي، هو عين التخارج بين المفهوم والأفهوم؟ نقول إن التفارق ليس تنافسًا على الخاصيات المنطقية بما هي كذلك. إلا أنه رغم نفي دولوز، فإنه لا يمكن التحدث عن المفهوم مع استبعاد تام للكلي. وكذلك بالنسبة للأفهوم الذي نستحدثه نحن هنا، فلن يكون مجرد مصطلح زائد. إنه يحاول أن يركز من خلال تحويره اللفظي، كل اللونيات الأخرى التي يكتسبها من إبداعية الاستخدام الدولوزي للملفوظ، مع ما يمكن أن يضيفه البيان العربي هنا من خصوصية أخرى. فالأفهوم، عربيًّا، كلمة مركبة نحويًّا، لتدل على تمعين عضوي آخر. والتركيب يدخل همزة «الأنا» بدل ميم الجمع، والانبناء إلى المجموع الغفل، بحيث لا يستغني المفهوم عن صيغة المتكلم المضمرة، الذي يقوم بعملية الفهم. فالأفهوم لا يطلق الكلية إلى آفاق التجريد، بل يجعلها متصلة بحركية الخاص، ودور الشخص. إنه يذكر بالوضع الأصلي لأقنوم اللغوي؛ إذ أنا الذي أتكلم، أخاطب الآخر أو الآخرين، وأتفاهم معهم. في هذه الحالة لا يظل المفهوم سابحًا أو معلقًا فوق رءوس الجميع، لا وثيقة ميلاد له، ولا تاريخ حياة، ولا أي انتماء إلا لما تُكسبه إياه صيغة إعرابه فقط.
الأفهوم يرد، أكثر من «المفهوم»، على الحكم الذي أطلقه نيتشه عندما قال: «إنك لن تعلم شيئًا عن طريق المفاهيم إذا لم تكن قد خلقتها من قبل، بمعنى أنك كنت أنشأتها.» كما يشرح دولوز ذلك. فالكليات إذن لا تُعلم شيئًا. هذا إذا كان مصطلح المفهوم لا يعني سوى بناء الكلي، أو المساهمة الرئيسة في بنائه. فالمفهوم عليه أن يعيد علاقته بقصة تكوينه. ولا تكوين بدون فعل الأنا الفاهم والمتكلم، أو الأنا المنشئ المولد، كسقراط الذي شبَّه توليده للمعاني بتوليد أمه، القابلة، للأطفال. الأفهوم يصاحب تركيبيًّا لغويًّا ما، يتم تكوينه عضويًّا حيويًّا. إنه الشاهد على مولد المعرفة، وليس هو المعرفة عينها. وإذا أردنا تطويرًا لحكمة: لا علم إلا بالكليات، كان علينا أن نجعل من الكليات نفسها بعض المفردات التي تستخدمها الأفاهيم، وليس جميعها. فالكلي في الخطاب التقليدي كان الشرط الحتمي للمعرفي، لكنه قد يبقى مع الأفهوم شرطًا ضروريًّا إلا أنه ليس كافيًا. وذلك لأن دولوز نفسه يربط إنشاء المفاهيم بالحدس الذي أتى بها: «هناك حقل، صعيد، أرضية، لا تتحد بالمفاهيم، لكنها تنطوي على بذورها وشخوصها التي تزرعها.»٦

ومع ذلك فالمصطلح العربي ليس مطابقًا تمامًا لهذا التأويل الدولوزي حول المفهوم؛ إذ سوف يظل المفهوم كلفظ، الذي لم يغيره الفيلسوف، محتاجًا كلما أتى، أن يأتي ومعه تأويله ذاك. في حين أن الأفهوم عربيًّا، قد يحضر معه المفهوم، وما ليس كذلك أيضًا. لا يريد أن يشحن وراءه كل التراث المفاهيمي، لكنه يطمح إلى التأشير على هذا التراث، وهوامشه معه أيضًا. الأفهوم يُبرز المفهوم وحدوده كذلك. إنه يعيد الأنا اللغوي إلى مركز الضمير، المتكلم. وبذلك لا يبرأ الأفهوم من وثيقة ميلاده وترعرعه. يأتي دائمًا و«نظامه معه».

قد يتحد الأفهوم بالمفهوم، ولكن لكي يعرضه كحكاية، كسرد، مراهنًا على الفوز بمهلته ومفرداته، بحيث تنمو فصوله بقدر ما تنمو كلماته. وما إن يبلغ خاتمة الحكاية، ويغلق قاموسه، مصطلحه، حتى يشرع الأفهوم بالانفصال عنه. لا يستطيع الظهور والغياب بحسب مغيوب الميم في المفهوم. إنه بالأحرى أفهوم، ليس مفروغًا منه بعد. وهو أقرب إلى همزة الأنا من ميم الهم. لذلك لا مبرر عنده أن يختم نصه بنقطة على السطر؛ فهو هنا أقرب إلى الكاتب من المكتوب. ولذلك مثلًا كان يمكن لهيدغر أن يتابع الكتابة، حتى بعد موته، لأنه لم يكتب المفاهيم، بل نشر الأفاهيم. ومراجعته لتاريخ الفلسفة لم تكن مزاحمة للمفاهيم بمفاهيم أخرى، بل كانت تفكيكًا لها، أي إرجاعها إلى حالة الأفاهيم. في حين أن كل فلسفات المفاهيم كانت تُختم فصولًا. وبذلك يبدأ نقصانها بالظهور إلى درجة زوالها من الوجود. وسارتر يبرز هنا مثالًا شيقًا على هذه المعاناة. فلقد عجز، داخل نصه الفلسفي، عن التعامل مع الأفهوم بدل المفهوم، فاضطُر أن يزدوج نصه الفلسفي بالنص الأدبي، حيثما وجد فيه تحررًا يقربه من صوَلان الأفهوم وفجائيته. وما اضطراره إلى الارتداد نحو الانصباب الكلي في القوالب الماركسية أخيرًا، إلا دليل العسر في نصه الفلسفي، في محاولة الخروج عن سلطة المفهوم. فالالتجاء إلى الأدبي يأس من الفلسفي. حدث هذا قبل أن تؤذن تاريخيانيته بمولد الأفهوم. لكن هيدغر هو الذي لم يخرج إلى الأدبي، لم يبدأ به، بل التقاه في طيات الفلسفي عينه؛ ولكن بعد أن تحرر الفلسفي من مخلوقاته المتخثرة جميعها: كل المفاهيم ومعجزاتها البهلوانية.
أليس ذلك هو ما جعل نص دولوز قليلًا ما يُعنى بالمفاهيم نفسها، بقدر عنايته بخلقها، بأفعال خلقها؟ لا يهمه المفهوم عينه بقدر ما تستفزه تلك العملية الغامضة، فريدة نفسها، بأفعال خلقها؛ هي دائمًا التي سبقته وأدت إلى خلقه. فالجواب على سؤال ماهية الفلسفة، لم يكن أنها هي المفاهيم، بل هي التي تخلق المفاهيم. لم يكن جوابه كلمة واحدة: المفهوم. كان الجواب نشوئيًّا. وبالتالي يظل مفتوحًا على ما لم ينشأ بعد. هكذا، فإن تاريخ الفلسفة لن يبقى تاريخًا للمفاهيم، إنه قراءة لتاريخ حكاياها، كيف تولد وتوجد وتزول. وحين نقول إن تاريخ الفلسفة يتقدم، فليس تقدمه بالمفاهيم، بل بنمو قدرته على خلق المفاهيم. فالمفاهيم ليست تمارين تذكِّر دائمًا بما كان ينقصها فحسب: كل تمرين منها عليه أن يثبت كذلك، ولو بطريقة ارتجاعية، ما كان عليه أصلًا كأفهوم؛ لن يكون مشروع مفهوم؛ إذ لن يلبث حتى يضع حدًّا لمشروعه هو ذاك. خلال مرحلة المشروع قد يتلاقى الأفهوم والمفهوم، يتنازعان المشروع عينه. المفهوم ينهي المشروع لحسابه كليًّا. الأفهوم يظل مشروع نفسه الذي لا ينتهي، الذي لا يموت في خاتمته. قد يظل الأفهوم هكذا حرًّا، هائمًا عائمًا. والنص الفلسفي الناجح هو الذي لا يضطر إلى التضحية بالاثنين للفوز بالواحد منهما، فإن النص الهيدغري أتاح لمفاهيم الفلاسفة الأخرى، منذ ما قبل السقراطية حتى كانط وهيغل وهوسرل، أن تتحول إلى: أفاهيم. وبذلك لم تعد ملك نصها الأصلي الوحيد، بل صارت لديها قابلية اختراق النصوص الأخرى، والترحال والتنفس في أرجائها، وفيما يتجاوزها.

الأفهوم قد يوحي أنه مادة التأويل أو مفردته الأولى. فإن قراءة نيتشه مثلًا عبر التأويل الهيدغري، تفكك «إرادة القوة» المفهوم [العمود الفقري] للجسد النيتشوي تبعثره إلى أفاهيم، لن تكون مفاتيح لغير ترميزياتها الخاصة. وبذلك لا تفسِّر إرادة القوة سواها، وتنأى هي نفسها عن كل تفسير. ذلك أن نيتشه لم يدَّع أنه اخترع بإرادة القوة المفتاح الذي يفتح جميع الأبواب المغلقة. وكانت كتابته المتقطعة نوعًا من الثورة الدائمة على التمذهب، على الكتابة السائلة المتعلقة بغير ذاتها، بقواعد الأسلوبية والسردية المتعارف عليها. ليست إرادة القوة مفهومًا متحكمًا ومسيطرًا على النص النيتشوي. كثيرًا ما يضعف ذلك المفهوم نفسه، ويمضي باحثًا بين أفاهيم أخرى، عما يساعده على تأدية خصوصيته؛ حتى يصير تميزه الخاص أنه الأفهوم الذي يخترق المفاهيم. حتى قال بعضهم إن نيتشه، مثلًا، لم يعلن موت الإله، بل موت مفهومه فحسب. فهل تغدو مهمة الأفهوم هي استرداد صيغة اسم المفعول إلى صيغة اسم الفاعل، أو أنها تسترجع المفهوم من خاتمته الأخيرة، إلى مقدماته المتجاوزة أو المسكوت عنها؟ لماذا يريد أن يكون المفهوم هو الخاتمة؟ [مسطح] الأفهوم أنه بدون هذا الادعاء. وربما كان مقعده الدائم عند البداية. وهو يكاد يتمتم الكلمات ولا يتلفظها تمامًا. ويجلس في العتبات، أقرب إلى الخروج وإلى الدخول، من وإلى كل قاعات الكاتدرائيات الفلسفية القائمة.

لم يستطع هيدغر أن يمفهم النص النيتشوي؛ تأويله العظيم له: كان عليه أن يصير نيتشويًّا حتى يرجع هيدغريًّا. ليس ثَمة نص كتبه هيدغر إلا وكان مصطحبًا معه نيتشه توءمه الخالد. ليست ازدواجية، لكنها سرد أفهومي تاريخاني، يحتمل الكثير، وهو أقل القليل. ولذلك قلما اعترض أحدهما على الآخر في الكتابة الإثنينية ذات القلم الواحد. لم يقارن هيدغر مرة بين مفهومه هو، حول موضوع معين، ومفهوم طيفه النيتشوي. ذلك أنه ما كان يكتبه الاثنان هي انحناءات الأفاهيم على بعضها. وإذا ما أتيح لنيشته أن يعترض على هيدغر — وهذا مستحيل تشخيصيًّا — فإنه سيلقى نفسه هيدغريًّا، مستبقًا هيدغر الإنسان. لم تعد هذه الإثنينية الواحدية ممكنة إلا لأن كلا النصين النيتشوي والهيدغري يتعاملان بالأفاهيم التي لا تطرد أو تطارد المفاهيم، ولكنها تصر على مصاحبتها، لتتولى عنها سرد قصصها، في الوقت الذي تتولى فيه هي، أي المفاهيم، تعليل أو تأويل قصص سواها.
حين يعرض هيدغر لمفهوم الفن عند نيتشه، فإنه يقص علينا مباشرةً الأفهوم الذي يصاحبه. سرعان ما يوضح الأفهوم أن الفن عند نيتشه ليس هو إبداع الفنون المعروفة في الإستطيقا المعاصرة لنا. إنه يتسع لكل ما يُصنع، لكل ما يتطلب المهارة والدقة إلى درجة الإبداع. لذلك عندما يربط نيتشه مفهوم الفن بالحياة، فإنه يلتقط من الحياة أهم أفاهيمها، تلك التي تتحلق حول إنتاجيتها. فلذلك لا يمكننا مثلًا أن نتوقف عند مفهوم للفن يتحدد بالمحاكاة. كما هو شائع لدى ثقافة القرنين الأخيرين. فالفني لا يحاكي، بقدر ما هو نموذجي ذاته؛ لأنه ينتج ما تنتجه الحياة نفسها. فالفني ليس تسجيلًا آخر خارج تسجيل الحياة. إنه علاماتها وأفعالها المباشرة. لا تلذ لي الزهرة المرسومة في لوحة لأنها تذكِّرني بأصلها في الطبيعة، بل لأنها تنسيني هذا الأصل، وتفرض متعتها (هي)، على عيني، بما فيها من شكلانيتها الخاصة. فالمحاكاة قد تبني أول مفهوم عن الفن في بداياته، وخاصة عندما كانت تسود لوحات الوجوه والهيئات البشرية أو المناظر والحدائق الطبيعية، والتماثيل الحجرية المحاكية لشخصيات أو رموز أسطورية دينية، عندما كان مقياس هذا النوع من الإنتاج، الصناعة، لا يمكنه أن يقدم أشياءه إلا بقدر ما تتشابه مع أشياء الناس والعالم. المطابقة مع الأصل هي المقياس. لكن الاعتراف فيما بعد باستقلال التخييل، حرر الأعمال الفنية من عبودية الأصل وفرض عليها أبوة الوهم. ولم يعد المبدع هو نفسه فحسب، إلا عندما نجح في فرض ذاته، باعتباره أفهومه الخاص. بمعنى أن التخييل الذي كدس تمعيناته مفهومًا لها وعنها، صار تلك الوظيفة النفسوية التي تريد أن تكون إستطيقية.
لقد أنتج التأشير الهيدغري على الصلة بين الفن والصناعة، نوعًا من إرادة التصحيح بالنسبة لفهم التعريفات/الأفاهيم المبعثرة في كل جهة من النص النيتشوية حول هذه الصلة. وإذا كان تتبعها هيدغر باعتبارها تعريفات/مفاهيم، لكان مضطرًّا إلى الاعتراف بتناقض الدلالات. ولكن كل نص نيتشوي هو متناقض حتمًا، من هذه الوجهة. ولا ينقذ السرد النيتشوي من هذه الوصمة المنطقية الفظيعة! إلا قراءة فذة، من نوع القراءة الهيدغرية، التي تتمعن ما يُسمى بمفاهيم، من نوع الحياة وإرادة القوة، بطريقة أفهومية. فالأفاهيم تنتشر، تتناسل وتتفرع، وتتقاطع وتتراكم، ويلتف بعضها على بعض، تمامًا كعروق الجسد الحي. لهذا فالفن رغم كل ما أُطلقت عليه وفيه من التعريفات والتأويلات في النص النيتشوي عينه، فإنه مستفز دائمًا، بحيث لا تأسره مقدمات ونتائج متطابقة فيما بينها. بقدر ما يتصاعد نحو أشمل المفاهيم من نوع الحياة وإرادة القوة، فإنه يتصاعد نحوها وهو في كل مرة، محمَّل بزاد مختلف من أفاهيمه الطارئة والمترجرجة، هناك دائمًا عواصف صامتة من آلاف الفراشات التي تحجب، تعكس طيران النسور النادرة.
يدخل الفن تحت جناح الصنع الذي يعني بدوره أصل التكنولوجيا، وهو مصطلح techné الإغريقي، أو فعل: أتقن العربي، الذي من الصدفة أو من التاريخ أن يتلاقيا معًا إغريقيًّا. فالفن هو حيز من الصنع الذي يتطلب إتقانه الخاص. ولا نصل إلى مفهوم الإبداع، إلا عندما يتطور فعل الإتقان نفسه إلى الإتيان بما لا يأتي إلا من ذاته [قبليًّا]. وهنا يبرز إلحاح نيتشه على شخصية الصانع، الفنان، الذي لا يدخل تحت دلالة المنتج المبدع عينه، ولكن الصانع أو الفنان هو الذي لا يمكن لتلك الدلالة أن تقوم بدونه في الوقت عينه. لذلك لم يعد يمكن طرح سؤال ما هو الجمال، أو ما هو الجميل، كما كانت تفعل الإستطيقا التقليدية قبل نيتشه. ها هنا استفهامه عن «مفهوم» الجمال، وليس عن أفهومه. الأول يطرح سؤاله عن ذلك الجمال، وقد صار منجزًا. وبالتالي يمكن أن يظل خاضعًا للكنيسة عينها التي ما تعهدت الفن إلا باعتباره تجليًا للعالم المنجز الذي [كان] هو من صنع الإله. وهو نفسه [كان] يجيء ظلًّا لمثال الجمال الأفلاطوني الذي يرنو إليه كل جميل ليستمد منه، ويحاكيه فيما يجعله شبيهًا به.
لكن عندما نرجع الفن إلى ذلك الجهد الذي يكشف عن إرادة القوة، معبرًا عنها بإرادة الإبداع والخلق من قِبل الكائن الزمني الخالص، الإنسان، الفنان، فإن الفن ينبثق من عائلة الفعل، أو الصنع؛ ومثاله الإتقان، الذي يصل إلى درجة الإتيان بما لا يأتي إلا من ذاته. وبذلك يفارق الفن مفهومه المتعالي، ليدخل أفاهيم البشر والخلق والإبداع، وظروف الإكراه والصراع، وفوز المبدع أخيرًا بما يمكن من سكنى العالم شعريًّا، ويجعله إجرائيًّا. نحن نعلم أن إرادة القوة هي في جوهرها فعل إبداع وفعل هدم. فالقول إن حادثة الكائن الأساسية هي «فن»، هذا يعني أنه هو إرادة القوة (ص٧١). والحقيقة أن دخول نيتشه إلى الفلسفة كدخوله إلى الحياة. حدث اختراق فني. فهو منذ كتابه: «ولادة التراجيديا»، الذي كتبه تحت كنف حبه/كراهيته لفاغنز، اعتبر، كما هو رأي فاغنز نفسه دائمًا «أن الفن هو المهمة العليا للحياة، باعتباره فعالية ميتافيزيقية»، كما يتابع هيدغر.
هذه الحركة الدائرية التي تمفصل نص هيدغر مع نص نيتشه، تجعل من تلك الأقانيم، إرادة القوة، الحياة، الفن، المعرفة، تتعلق ببعضها كهنيهات من أفاهيم منفتحة باستمرار على بعضها، كلما أتيح لأحدها أن ينفتح على تأويل أو شيء ما خارج الحلقة العتيدة إياها. فإرادة القوة لا تفسِّر الفن، ولكن عندما ننخرط في «أفهمة» الفن، يتم استدعاء إرادة القوة وسواها؛ وقد تجيء إلى حيث الاستدعاء، مختلفة. تشرع في قراءة ذاتها عبر ذلك (الآخر) الذي يفسرها، من حيث إنها تفسِّره. أما عندما نبقى في دائرة المفهوم، فإن إرادة القوة لا يمكن قراءتها إلا عبر العنف الذي تمتلئ به عبارتها اللغوية. لكن عندما تنسال إرادة القوة، عبر السرد النيتشوي، فإنها تبدو، كما لو كانت منخرطة في عملية كسر ونقر في جدران مفهومها [اللغوي] بالذات. ذلك هو الفارق الحاسم بين العنف المطلق الأعمى الذي لم يستطع شوبنهور أن ينفك عن رؤية إرادة القوة إلا من خلاله، وبين الانزياحات المتوالية التي تتعرض لها في النص النيتشوي. هذه الانزياحات تقول الأفاهيم التي تبرعم وتزدهر على تخوم العنف، على أطراف أجنحة العاصفة ذاتها. ذلك أن الاختلاف الفلسفي الذي يحدث في حادثة الكتابة النيتشوية، إنما يتأتى من كتابة إرادة القوة، ليس هو فقط كعنف حقيقي وزمني، ويُحدث العالم كل لحظة؛ ولكنه العنف الذي يفقد مركزيته كل لحظة، ويبعثرها مراكز لا تنتهي عددًا أو كيفًا، وينشرها على نتوءات محيطه، كأنها نوافذ الخارج على داخله. كل نافذة تقص مشهدًا مختلفًا، تؤسس أفهومًا فجائيًّا. تلك هي كتابة النص الذي لا ينهيه، أو يختمه المفهوم، ولكنه يُشرعه على أفاهيم لا حصر لها، قبليًّا أو بعديًّا.
الفن ليس عزاءً عن قضائية إرادة القوة (شوبنهور)، إنه بالأحرى نشوئي كالربيع الذي ينتجه شتاؤها عينه. الفن ليس الربيع المسالم حقًّا. إنه دعوة إلى دخول مركز العاصفة نفسها، حيثما هي لحظة الصمت التي تفجر الصخب الأكبر حولها. نيتشويًّا لا يمكن التعامل مع الفن إلا عاصفيًّا، إلا في الصميم من إرادة القوة كجوهر وكحدث. «نحن نلقاه الفن كأقوى حافز على الحياة». هذا هو طريق تحرير «معرفة الفن»، الإستطيقا، من تراثها الأنوثي، ووضعه تحت طائلة الأزمة الذكورية. إعلان عن مولد الإستطيقا المضادة. مع فاغنر، وضد فاغنر. ذلك أنه كان لا بد من إعادة كتابة عنف الكينونة من خلال الدراما، الأوبرا الموسيقية الكونية على الطريقة الفاغنرية، ولكن في الوقت عينه كان لا بد من رفض فاغنر نيتشويًّا؛ لأن تصعيد إرادة القوة عنده، فنيًّا، إلى ذروتها، لم يسمح لها بأن ترتد على ذاتها، وتبرز عنفها الخاص الخام، قبل الفني، فوق الفني، وما بعديته كذلك. هكذا يقوم اعتراض نيتشه على الميتافيزيقا الفاغنرية التي عجزت عن الإبقاء على العنف البدئي لإرادة القوة بالرغم من الفن عينه، وبواسطة الفن. كما لو أن الموسيقى/الميتافيزيقا الفاغنرية، فازت بكونية العنف كمفهوم، وخسرت عنف الكونية كأفهوم يتبعثر أفاهيم. وبذلك لم تستطع تلك الموسيقى أن تستحضر الكينونة البارمنيدية بكل جلالها البري، ولانهائية هيمنتها الوحشية الكليانية، إلا بطريقة المفارقة الأفلاطونية المسيحية المعهودة. فالمشروع الفاغنري في الموسيقى عجز، أو أنه لم يسعَ إلى: أن يكتب الفن/الإرادة القووية، بل كتب الفن الذي هو العزاء عنها بها. كان فنًّا شوبنهوريًّا أكثر منه نيتشويًّا. كانت موسيقى فاغنر تُحاذي إرادة القوة دون أن ترفضها أو تقبلها. ليس ذلك حيادية، بل كانت براعة الإبداع الفاغنري تتجلى في درمنة dramatisation هذه الحيادية، وبما يوحي أنها متورطة حقًّا في تجوهر إرادة القوة ذاتها؛ لكنه ذلك التجوهر الذي تظل الحيادية تلك مدينة به لدرامية أخرى تتعلق بالفعل الفني وحده. وهو الأمر الذي رفض نيتشه أن يتبينه، حتى لا يقر به، خلال حمأة غضبته التحلينفسية أكثر منها الميتافيزيقية على مجمل عبقرية صديقه اللدود؛ ماذا أغضب نيتشه حقًّا على موسيقى فاغنر؟ ألأنها أجهزت على إرادة القوة، على الإغريقية لصالح المسيحوية؟ لأنها لم تستطع أن تأتي محاكاةً حقيقية لإرادة القوة. لم تتركها كما هي، وتخترقها إلى مركز عاصفتها حيث تغدو الموسيقى تصويتًا لصمت المركز، حيثما صميم العاصفة، دونما أي مس بخامة العاصفة نفسها حولها.

الفن النيتشوي هو الاختراق نحو لحظة الصمت، المنبعث من صميم العاصفة نحو مركزها، وليس خروجًا منها، ولو كان هذا الخروج متوجًا بأعظم أكاليل الإنجاز؛ إذ كل إنجاز هو خاتمة ماضوية، في حين أن اللحظة الموسيقية من إرادة القوة تشغل الزمانية، قبل أي توزع تقليدي لآناتها الثلاث. فالموسيقى وجود زماني محض، كما عرفها هيغل. غير أن ذلك لا يعني أن الموسيقى والزمن واحد؛ لكنها تولد من لاشيئيته، وتُصوته، وتضمحل فيه، كأنها «خارج الزمن»؛ أي كونها ذلك التعبير الذي يلغيها. تلك هي المفارقة: مهما تأججت درامية الموسيقى فإن ذروتها هي خاتمتها، السكون، اللاشيء؛ إذ إن التجريد، أو اللاشيء، هو أهم أدوات الموسيقى في التأثير بالمحسوس بما ليس محسوسًا. كأن انعدامية الاستمرارية زمكانًا لأي صوت، هي التعبير عن إمكانية أن تدخل الزمانية إلى ملء العالم دون أن تنتشر طولانيًّا بين الآنات الثلاث. هي إمكانية أن يصبح للكونية نفسها اسم الزمانية التي لا مكان لها إلا العالمية داخل/عبر العالم.

مثل هذه التلفظات لا يمكنها أن تتخثر في مفاهيم كلاسيكية. إنها بالأحرى مراتع للأفاهيم. وعندما حاول بعض المتمذهبين من أشباه الفلاسفة والشراح، إشادة عمارة متراصة من المفاهيم المنحوتة على قياس بعضها، فلقد نشأت الأديان الاجتماعية، والكيانيات السياسة. ولم تستطع الفلسفة أن تسترد وطنها الخاص من المفهمة، إلا عندما أعادت صياغة جاهزيتها خارج كل جاهزية. حيثما، مثلًا، تُطلب إرادة القوة، فلن يُعثر إلا على نفاية لها.

لقد ودَّع نيتشه عقله، ثم حياته، وهو واثق أنه لم يخلف وراءه سوى إشارات، أفاهيم عن إرادة قوة لا تصير أبدًا مفهومًا. وكذلك كان خط الكتابة الهيدغرية التي ملأت آلاف الصفحات، فكانت تسير فوق درب يناظر دائمًا درب إرادة القوة، يتقاطع معها للحظات ذروية، لكن الدربين يتوازيان ولا يلتقيان أبدًا. ولقد كانت تلك الكتابة أمينة كل الأمانة على هذه الوضعية. لعل من أعظم ما أنتجته فلسفة التأويل في هذا العصر، هي تلك الكتابة الهيدغرية لقراءة نيتشوية، بعد انقضاء نيتشه الذي كف عن الكتابة، لكنه أطلق قراءته إلى الأبد. إلا أنه ينبغي التنبيه هنا أنه لم يكن لتحدث مثل تلك المعجزة من كتابة القراءة المنطلقة، ولم تكن لتلقى مثالها الأرقى والأغنى، منذ كتابة سقراط/أفلاطون، لدى نموذج التوءمين: نيتشه/هيدغر، لو لم تستطع القراءة الهيدغرية أن تكتشف أسرار لعبة: السحر/فك السحر بين المفاهيم والأفاهيم. تلك المفاهيم التي تتفكك أفاهيم، لتعود مفاهيم … وهكذا، فإن لعبة السحر/فك السحر، لا تنتهي أبدًا بلحظة فك السحر، ولكن بعودة السحر دائمًا. وذلك أيضًا هو من طقوس: عودة ذات العين، الأقنوم النيتشوي الآخر الذي أبدعته عبقريته ذات لحظة اختراقية فريدة، ثم قضت حياتها تعالجه وتؤوله وهي صامدة ما دون حد الجنون، حتى انهيار ذلك الحد.
قد تكون الفلسفة هي إبداع المفاهيم، حتى تصير هي أفهوم ذاتها. عندئذٍ فإن المفاهيم التي تخلقها لن تكون سوى علائم متناثرة على تخوم أفاهيم. المفهوم هو حق الوضوح. الأفهوم هو حق الاختلاف. وحيثما يقيم المفهوم التخوم حول الدلالة، فإن الأفهوم يعيد بناء الدلالة خارج أسوارها. عودة ذات العين لا تعني عودة عين الشيء، لكنها هي الشيء عينه الذي لا يكاد يغادر ذاته، حتى يرجع إليها، ومعه بعض ما يغايره من آثار مغادرته السابقة.
ليس ذلك سكونية وأبدية جوفاء. إنه فن تذكير بالتمعين الذي غالبًا ما يقرأ خارج كتابته. ألهذا لا يمكن للفلسفة أن تلقى وطنها الأصلي والطبيعي، إلا فيما لا يحد كتابتها، هذا الذي يُسمى الميتافيزيقا؛ وهي بدورها، كل ما يُكتب فيها يصبح خارجيًّا عنها، متخلفًا وراءها. لذلك من العبث التحدث عن مفاهيم ميتافيزيقية. هذه المفاهيم قد تدَّعي أنها مفاتيح؛ لكنها لا تعرف أيًّا منها، وما هي الأبواب التي عليها أن تفتحها، ولا الأقفال التي ستتحرك داخلها. ومع ذلك ليس لدى الفلاسفة ثَمة كلمات/أدوات للتعبير عما يخص الميتافيزيقا سوى ألفاظ المفاهيم. ليس ذلك شأنًا هينًا. نعلم كم لألفاظ المفاهيم من سلطة على الإنسان والتاريخ. لنتذكر فحسب كلمة الله، الموت، الحرية، الشر … إلخ. إنها ألفاظ قد توصف بكل خصائص التجريد والإطلاقية والعمومية، لكنها حاضرة الفهم والتأثير والتوجيه … بل من خصائص مثل تلك الألفاظ/المفاهيم أنها لا تتطلب شروحًا. ومع ذلك فهي التي أنتجت جبالًا من الشروح وشروح الشروح. وقد يقال إن الشرح هو الذي يأتي بالأفاهيم، هو الذي يعكس هذه الأفاهيم وكأنها تجليات أو دلالات أو توائم روحية أو سحرية، عملية أو علمية، للأقنوم الأصلي الذي يتعدد في كل هذا، لكنه يبقى وحيد ذاته، بحيث يمكن استعادة البدء منه وحده من جديد، وكأنه يولد اللحظة والهنا؛ لأن الكائن هو الذي يبدأ، ولا يمكن الانتهاء من بدئه؛ إذ إنه البدء الذي يعود بعد كل ما يتبعه، ذلك هو السكون المتحرك، الذي يتميز به ديونزيوس، الإله الأسطوري الإغريقي، وقد غدا هو المفهوم الأسطوري في فلسفة إرادة القوة، أو بالأحرى يصير ديونزيوس هو الأفهوم الذي يجمع بين مفهومَي الكينونة كثبات، والكينونة كصيرورة. ديونزيوس الذي يعود هو نفسه كل مرة؛ لأنه سيعود مختلفًا مع ذلك.
ألهذا يصف هيدغر توءمه نيتشه، أنه الفيلسوف الأخير في الغرب … لأنه يرجع إلى البدء الإغريقي الذي لا يريد أن يبرحه راهنيًّا، وبعد خمسة وعشرين قرنًا … هنالك النقلة من التأريخ إلى التاريخ. لكن النقلة تنسى الضفة الأولى، تجتازها ولكن دون أن تصطحبها معها. ولعل الخطأ العضوي التكويني، في المشروع الثقافي الغربي، أنه أوقع نفسه دائمًا في دائرة الاختيار ما بين الضفتين؛ إما هذه أو تلك: إما بارمنيد أو هيراقليط. الكينونة هيمنةً وشمولًا، أو الكينونة صيرورةً واختلافًا. نيتشه اختار الاثنين معًا، رآهما في عودة ذات النفس. أعطاها تسمية ديونزيوس الذي يرمز إلى اختيار الفرح، الحياة، في حين ينشغل الآخرون في إثبات وجود الله أو عدمه.

تلك «ديانة» زرادشت الجديدة: «ألم يعلموا أن الإله مات؟ أريد إلهًا يرقص.» هل الإله الذي يموت، أم «مفهوم» الإله؟ أليست دعوة إلى الالتقاء بالإله الآخر، خارج مفهومه، وعبر أفاهيم لا تنتهي؟

يحل هيدغر هذه الإشكالية حين يعتبر أن إرادة القوة هي الكينونة كما تصورها بارمنيد، هي الكائنة في كل كائن، حتى في عدم الكائن. كأن عودة ذات النفس هي طريقة الكينونة في الوجود، بمعنى أن الحادثات هي التي تحقق الحدوث، هي الطريقة الوحيدة لوجود الحدوث. فإن الدلالة الرئيسية للكينونة لوغوسيًّا، عند الإغريق، هي المبدأ. والمبدأ قبل أن يكون تمعينًا معرفيًّا فإنه يعني: البدء؛ بحيث إن كل شيء يلي البدء سيظل يحمل البدء معه. ومن هنا القول بمبدأ للوجود. كل حدث لا يعلن وجود حدثه فحسب، بل يذكر بالحدوث ككينونة. ولذلك فإن ديونزيوس يحتل المكانة الثالثة بين الكينونة والوجود، بين بارمنيد وهيراقليط. يجمعهما ويفصلهما ويتجاوزهما معًا، في نوع من الهوية الاختلافية.

عودة ذات النفس هي حضور البدء في كل ما يتبعه، لكي يبدأ من جديد، بما كان فيه، وبما ليس فيه، كذلك فيما بعده. وهذا مما لا يمكن لأي مفهوم أن يتحمله، إذا لم ينفرط عقده إلى أفاهيم، لا يتوقعها هو، ولا تعرف (هي) نفسها فيه قبل حدوثها. تظل الأفاهيم تنبع من الآخر؛ أما المفهوم تقليديًّا فإنه إسقاط الأنسنة على هذا الآخر. ولذلك قلما استطاع الكاوس أن يفرض وجهه الخاص الذي لا «نعرفه». إن أنسنة الكاوس تكرس الجهل به، كل الاختلاف الذي يحاول المفهوم/الأفهوم، بالدلالة الفلسفية الخالصة، أن يؤكده، في لحظات التنويرات الانعطافية الكبرى، في تاريخ الفكر، هو الفوز بلمحة خاطفة من رؤية الكاوس خارج الأنسنة. ذلك هو الاختلاف (الحقيقي) الذي لا يأتي مع ذلك إلا محمولًا على ما هو ذات نفسه، على الكاوس، الذي ليس هو كذلك إلا عندما يكسر مفهمته، إلا عندما لا تأتي المفاهيم عنه إلا مصدوعة، مجرد أفاهيم. حتى عندما يترجم الكاوس إلى معنى الفوضى، فالأنسنة هي التي تترجم، وهي التي تسمي هنا. إن إقرار اللاتعين ليس الامتناع عن إسباغ الشكل على الكاوس، حتى ولو كان شكل اللاتعين. كل المعرفة أنها ينبغي لها أن تجلس في جوار اللامعرفة. لكن الجلوس قرب الكاوس، هو دخول في حضوره. وهنا، الفلسفي يستنجد بكل ما فيه من طاقة الشعري المترسبة في أعماقه، ليس تعويضًا عن المفهمة، عن إسقاط الأنسنة، ولكن كطريقة أخرى في إمكان الحضور أنطولوجيًّا، ومعه اختلافه عن إمكان الأنسنة. بماذا ينجدنا الشعري في صميم الفلسفي؟ لعله يصلنا بالكينونة وهي تنسحب. يضعنا فوق حافة هاوية «الفراغ» الحقيقية التي تسبق بناء التصوير. يفاجئنا دفعة واحدة ﺑ «الضرورة المطلقة» و«الموضوعية المطلقة»، ليس في شائعاتهما العلموية، أو الإبستمولوجية، ولكن في نضارتهما الأنطولوجية، السابقة على كل تطبيق علموي، كمعيارية منطقية خالصة.

ومن المهم في هذه اللحظة من التمعين أن تستعيد مثل هذه الألفاظ براءتها الدلالية، أو عذريتها الأصلية، لعلها تقربنا من ثقافة «براءة الصيرورة». فالمصطلح الأنسني هو الذي يدعي أنه لا يسمي الشيء، في حين أنه لا يسمي إلا نفسه، لفظه عينه. وبذلك ينسينا المسمى الأصلي، ينسينا الشيء. فالضرورة في معرض توصيف الكينونة، ليست «الهدف» أو «الغاية» أو القصد، وهي كلها من تسميات الإبستمولوجيا الأنسنوية. حتى الصدفة أو الجواز، أو الفوضى، ليست غريبة عن تلك التسميات التي خصصناها بالإبستمولوجيا الأنسنوية، لكنها عندما تُعرض في مجال توصيف الكاوس، فإنها مضطرة إلى تحطيم سياقاتها الإنسانوية تلك.

لعل التسمية تفقد استراتيجيتها الضمنية أو الصريحة في الأنسنة، عندما تلقى ذاتها أمام تخوم الكاوس. لا تغدو اللغة عاجزة تمامًا أمام اللغز. قد تتراجع أمامه كتقنية؛ وقد تجاوره عندما تكتشف شعريتها. سكنى العالم شعريًّا هي اختراق للأنسنة، وتبديد لظلال وشباك العنكبوت. كأنها دعوة للعنكبوت كيما تتسلق حبال الفراغ فحسب بدون أية شباك. إنها الحاجة إلى إعادة تنظيم الأقانيم الفكروية خارج مرجعياتها الأنسنوية المعتادة. متى يتم اكتشاف موضوعية العالم الحقيقية، وضرورته المطلقة؟ لعله عندما تنهار كل الموضوعيات والضرورات المألوفة.

إذا كان الإله قد مات كمفهوم، لكن أين الإله؟

هكذا، فإن اكتشاف الكينونة تحت تسمية الكاوس قد تطلَّب الثورة على الأنسنة. لكن ما الذي يدعو كذلك إلى الثورة على الألهنة؟ أليست هذه الأخيرة هي الوجه الآخر للأنسنة نفسها؟ ليس معنى ذلك أن الإله اختراع إنساني. ولكن كلا المفهومين، الإنسان الإله، من صنع التقنية. وهما ليسا سوى ذريعتين للعقلنة؛ حتى ولو كان التاريخ هو قصة الصراع بين الألهنة والأنسنة، فليس ذلك لأن العقلية تصر على بناء عالم بديل عن عالم الكاوس، شرط أن يفتقد هذا البديل كل ذاكرته عن الآخر. كأنها ثنائية الألهني/الأنسني تريد أن تحل مكان الواحد. وقد استطاعت أن تخترع تاريخًا حافلًا بإنتاج كلٍّ من قطبيها هذين؛ بحيث لا يقع كل حادث إلا وهو محمَّل مقدمًا بدلالته، العائدة إلى أحد القطبين، فهي لن تتخطى أبدًا مفردات الثنائية الأصلية، لكن ليس من الضروري للأحداث أن ترفع عناوين ألهنة أو أنسنة مباشرة. فهناك سلالة لا تنتهي من الترميزات التي تبتكر لكل طارئ أدلجة ما، كيما يباشر سلطته، طقوسه، ناسجًا بذلك حكايته الزمانية والحضارية. ذلك أن اللغة كفيلة دائمًا بإلغاء المسميات لصالح الأسماء. فإن ثنائية الألهنة/الأنسنة استطاعت أن تنشئ تاريخًا مغلقًا لن يكون أبدًا موازيًا لتاريخانية اللوغوس، لكنه يظل لاغيًا لواحدية اللوغوس، تلك التي تتجلى في الهوية المتكلمة؛ أي إنها هي هذا: الصيروري دائمًا  le constamment devenant، أو أنها ما تعنيه «عودة ذات النفس»، بدون أية رنة صوفية لعبارتها.

ينبغي ملاحظة أن الأنسنوية هي غير العالموية. ومع ذلك فهما رديفتان لبعضهما لصالح إلغاء الكونية، من مقدم المايحدث ومن خلفيته. اللوغوس النيتشوي في أصله الإغريقي المتجدد، لا يقضي فقط على الثنائية: الواحد/المتعدد، لا يجعل الصيروري تجليًا للواحدي، لكن الصيروري هو واحديته؛ لأن هويته الثابتة هي أنه الصيروري دائمًا. كل مفهوم حول: الصدور للمتعدد عن الواحد، ليس هو إلا انعكاسًا ظليًّا لذاتوية الأنسنة، التي سوف تطيح بموضوعية الكونية حولها.

هذا هو التصحيح الأكثر ثورية لمفهمة العقل؛ فهو لن يرى نفسه في كل ما هو صائر، لا يرد الصائر المتحرك إلى سكونه الأصلي، كما كان يفعل تقليديًّا، بل سيرى نفسه ضروريًّا في خاصية الصيرورة عينها في كل صائر؛ إذ تغدو هي إمكان العقل وحده؛ أي محل العقلنة الحقيقية.

صيرورة الصائر هي: ضرورته. لكن عودة الهوية على هذا النحو لا تقلب «العلم» بعد، قبل أن يتم انقلاب الميتافيزيقا عينها. هنا يشتد وضوحًا ذلك الإعلان العجيب عن نهاية الميتافيزيقا كخاتمة للمشروع الثقافي الغربي، الذي لا يزال هيدغر يفاجئ به كل منعطف جديد في الفكر المعاصر. تعني «الخاتمة» أن التحدي الآن ليس في تغيير العقل لمذاهبه، كأن يخرج من أيديولوجيا ليعلن أخرى، لكنه في قدرة العقل على تغيير بنيته ذاتها، بحيث يتوقف لحظة عن لعبة المثَّال [النحات] الذي انقطع عن العالم واستغرق في صنع أصنامه، والانخراط في الحوار معها، وفيما بينها. فالسؤال التحدي: كيف يمكن للعقل أن يقر بالموضوعية (الخام)، أن يجلس في عتبة العالم، وألا يمسخ العالم إلى لعبة في أحضانه؟ حتى اليوم كانت الموضوعية كالذاتية تمامًا، تصورًا، كذلك كان التناقض بينهما تصورًا آخر.
[لا ننسى هنا أن اصطلاحات من مثل الذاتية والموضوعية ليست في سياقنا الحالي هي عينها في شائعاتها الإبستمولوجية]. وإذ نورد هذا التحذير فإننا ملزمون بإعادة إيضاحها. وهذا ما تفعله ما بعد المنعطف النيتشوي/الهيدغري. فإن قراءة الفقرة «١٠٩» من «المعرفة الجذلى»، والتي توقف عندها هيدغر طويلًا بصورة إبداعية فذة، يمكن أن ترسم الحدود الفاصلة بين الميتافيزيقا التي حانت خاتمتها، وبين الميتافيزيقا غير المنشغل بها أو عليها أو في الحالين معًا، بعد. ذلك لأن هذه الفقرة تقدم نموذجًا واضحًا عن ميتافيزيقا التمثل التي ينبغي وضع حد لها، من أجل إفساح المجال أمام الميتافيزيقا المنسية، ميتافيزيقا الهوية أو المماثلة مع الذات. فالكائن الحي العاقل يسبغ على العالم حوله مفهوم   الحياة. وبالتالي يرى فيه ما يرى في نفسه. يصير العالم عضويًّا؛ يولد وينمو ويسعى إلى غاية. في حين أن «الفرضية «القائلة» بأن الكل هو عضوية، تتعارض مع جوهر العضوي». فإن قياس الحياة على مثال الإنسان الحي يقلب الواقع، الذي يحتم رؤية الإنسان نفسه كأسلوب من أساليب الحياة، والحياة نفسها ليست سوى طريقة في مقاربة «الكل» أو الكاوس. «حذار من التفكير في أن العالم كائن حي. ذلك أن العضوي ليس سوى شيء متفرع للغاية متأخر، نادر، عرضي على قشرة الأرض». فهل ستمضي بنا السذاجة إلى تفسير هذا العضوي العرضي كأنه الجوهري الأساسي، الكوني «كما يفعل أولئك الذين يسمون الكل جهازًا عضويًّا»؟

إن هذا المثال، الحياة، يقدم النموذج الأحدث عن فكر المماثلة الذي ينقض تفكر الهوية. إنه يشير إلى النزعة الحيوية التي اشتد أُوارها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد داروين وسبنسر، انطلاقًا من علم الحياة إلى علم النفس فالفلسفة؛ فالكل يترجم كليًّا إلى أحد أعراضه. تصورٌ إنسانوي جديد يؤنسن الكون باسم الحياة. ذلك التفكير بالمشابهات، بالقاتلات يختلق دائمًا منظومات مفاهيمية؛ أول ما تفعله هو ادعاء ضرورات عرضية تحجب الضرورة الأصلية.

قد يصل الأمر بالحيويين المحدثين، كما كان بالنسبة للدينيين التقليديين، أن يسبغ على الكون خاصيات «التمفصل، الشكل، الجمال والحكمة». لكن ذلك المسمى السديمي، «ليس كاملًا ولا جميلًا ولا نبيلًا»، ولا يريد أن يغدو أبدًا على هذه الشاكلة، لا يطمح أبدًا إلى محاكاة الإنسان، وهو ليس مصابًا بعدوى من أحكامنا الجمالية أو الأخلاقية. بالإضافة إلى أنه لا يتمتع بغريزة للبقاء، ولا قطعًا بدوافع [فيزيولوجية نفسوية]. لا يعرف قانونًا أبدًا … هناك لا أحد يحكم، ولا أحد يخضع، لا أحد ينتهك [القانون]. يتابع نيتشه درسه الخاص في هذه الفقرة بتحليل أنموذج عن الأنسنة المغلوطة التي تخلط بين الحي الإنسان والحي الطبيعة، والحي الكائن … الذي ليس هو كذلك، وإن كانت «الحياة» هي: مما يعرض له نادرًا.

مع ذلك فإن التفكير بالتمثل، بالمحاكاة قد يحدد عمرًا طفوليًّا في سُلَّم المعرفة أنثروبولوجيًّا، لكنه يغدو حاجزًا حقيقيًّا دون التماسِّ مع الكل، خاصة عند نقله إلى سياق الميتافيزيقا؛ إذ يفقد «الآخر» بُعده المستقل. وبالمقابل تغدو الذات عينها نتاجًا للذاتوية. وبذلك تقتصر هذه الميتافيزيقا على التصور كمنتِج للمعرفي، وكمعيار له في آن؛ ولا تهمل الأنطولوجي أو تتناساه فحسب، بل تعاديه بشراسة التأريخ ضد التاريخ. تمسي الميتافيزيقا صانعة الأوهام الكبرى وحاميتها الأولى، فالمشروع الثقافي الغربي «انحرف» نحو ميتافيزيقا التصور. غدا أخطر نماذجها وأهم برهان على نجاعتها في تأكيد تأريخ للحادثة، ضد المايحدث. وما يفعله نيتشه/هيدغر، هو محاولة التصحيح. هو إنكار أن يكون هذا … هو المشروع الثقافي الغربي. ولذلك يسارعان معًا إلى ختم هذا التأريخ، والمناداة على التاريخ من جديد؛ بالعودة إلى البدء حيثما الكائن هو هذا الذي يصير دائمًا، هو الكائن الذي ضرورته هي صيرورته؛ أي براءتها من كل ما يُلصق بها تاريخاويًّا ثقافويًّا.
ما دام الحديث يدور حول الضرورة، فإنه ينبغي الاعتراف مع نيتشه مهما كان صادمًا وغريبًا، أن الوطن الأصلي للضرورة هو الكاوس، أو كل ما هو خارج عن الانخراط في لعبة الحتميات الوضعية، أو الأوالية الميكانية، أو الأوالية العضوية. ذلك لأن الكاوس يبقى هو عينه خارج كل مفهمة؛ مهما يصل الادعاء بالمفهمة إلى حد قطع الصلة بالكاوس، ورميه بكل النعوت السلبية من مثل الفوضى والعبثية أو العدمية واللامعقولية … إلخ، فقد تلجأ المفهمة إلى الشعري مع ذلك، باعتبار أن له مهمة لا يستطيع أن يقوم بها سواه، وهي استرداد ثَمة ترميزة علاقة بالكاوس، تريد أن تكون محدودة في لامحدوديتها، التباسية في إنارة الجانب الآخر من الإشكالية الوجودية الإبداعية، حيثما يجثم الكاوس متمتعًا باستثنائيته الدائمة: الضرورة المستحيلة، كالفجائية المطلقة. مما يحتم على الفلسفي المحض، كلما سعى مخلصًا نحو طريقة ما في التقاط الكاوس، أن يدخل صيرورة الشعري، أن يدع مهمة إبداع المفاهيم، تزدوج نفسها بمهمة كسر المفاهيم، حتى يمكن أن تتوافد الأفاهيم من كل حدب وصوب.
«عودة ذات النفس» تنشئ، أو تخلط الحدود الكلاسية بين المفهمة والكاوس. تجدد دلالة اللوغوس الإغريقي قبل السقراطي، الالتباسية أصلًا. تمزج الثبات بالتغير. بل إنها تجعل معنى الهوية يحتمل بالضرورة ما فوق المفهومية عينها، يحتمل   الصائر دائمًا، ليس كعرض خارجي أو طارئ، بل كتأسيس لا ينصبُّ كجوهر دفعة واحدة، ولكنه تأسيس لتجوهر لا يكفُّ عن تغيره جوهريًّا.
١  دولوز وفيليكس، ما هي الفلسفة؟ ترجمة صادرة عن مركز الإنماء القومي، طبعة ١، ص١٧٢.
٢  المصدر السابق، ص١٦.
٣  نفسه.
٤  المصدر السابق نفسه، ص١٦-١٧.
٥  العمل بحسب بيداغوجيا المفاهيم، وليس تحت وطأة صراع الخاصوية.
٦  المصدر السابق نفسه، ص١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥