أولًا: مقدمة: ماذا تعني الفلسفة والتراث؟١

أصبح لفظ الفلسفة شائعًا في فكرنا المعاصر وإن كان أقلَّ شيوعًا في تراثنا القديم الذي فضَّل لفظ الحكمة، وأسس لها علومًا بأكملِها هي علوم الحكمة.٢ وإن كان بعض القدماء قد استعمل أيضًا لفظ الفلسفة ويعني بها الفلسفة اليونانية خاصة،٣ بينما آثر البعض الآخر استعمال تعبير «الفلسفة الأولى» على العموم.٤
أمَّا لفظ «التراث» فإنه من استعمال المعاصرين تحت أثر الفكر الغربي وكترجمةٍ لا شعورية وغير مباشرة لكلمات مثل Heritage, Legacy, Uberlieferung مما يدل على نهاية مرحلة وبداية أخرى.٥ ففي الوقت الذي يتحوَّل فيه الماضي إلى تاريخ ينشأ الوعي التاريخي فاصلًا بين القدماء والمحدَثين. حدث ذلك عندما أصبح أرسطو مؤرخًا معلنًا اكتمال الفلسفة اليونانية، وفي معركة القدماء والمحدَثين في القرن السادس عشر إبَّان عصر النهضة الأوروبي وعند ديكارت في القرن السابع عشر مميزًا نفسه عن القدماء ومعلنًا نهاية العصر الوسيط حتى انتصر الجديد كلية في العصور الحديثة وبدأت المرحلة الثانية في الوعي الأوروبي. وقد حدث ذلك أيضًا عند ابن رشد في الفلسفة الإسلامية عندما أرَّخ للسابقين عليه، وعند ابن خلدون عندما أرخ للحضارة كلها وحاول وضع قانون لقيام الحضارات وسقوطها. ومنذ الإصلاح الديني الحديث والسؤال قائم بصياغات مختلفة: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟٦
وأما ما يُسمَّى عند الباحثين من جيلنا — العقل العربي — في «تحديث العقل العربي» أو «نقد العقل العربي» أو «تكوين العقل العربي» فإنه مفهومٌ غريب على التراث. فالعقل لا قومية له. هناك العقل الخالص الذي يُوجَد في كل إنسان، الفاعل أو المستقل، بالقوَّة أو بالفعل، بالملَكة أو المستفاد، وهو إحدى قُوى النفس ولا يدل على حضارة أو تُراث. نشأ في أمَّة إسلامية، العرب أحد شعوبها، يتحدَّثون اللسان العربي. وقد نشأ المفهوم في الغرب إبان المد القومي في القرن التاسع عشر الأوروبي مثل «العقل الألماني» و«العقل الفرنسي» و«العقل البريطاني» أو «العقل الأوروبي» و«العقل اليهودي»، ومن نفس البيئة خرج «العقل العربي» تُروِّجه الأوساط القومية والعنصرية في الغرب، ويُعطي خصائصَ ثابتةً للشعوب وطرقِ تفكيرها؛ استئنافًا لمفهوم «العقل البدائي» في علم الأنثروبولوجيا إبان نشأته الأولى.٧

وماذا يعني التراث؟ هل المقصود هو التراث الفلسفي، خاصة أي ما يُسمَّى بعلوم الحكمة عند الكِندي وأبي بكر الرازي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وأبي البركات البغدادي وفخر الدين الرازي، وكأن لفظ الفلسفة الأول يأتي كمُخصص قبل المخصص وليس بعده أم أن المقصود التراث الفكري كله الذي يشتمل على الفلسفة والكلام والتصوف وأصول الفقه، أو التراث كله الذي يشمل العلوم العقلية النقلية الأربعة والعلوم النقلية الخمسة والعلوم العقلية الخالصة الرياضية أو الطبيعية؟

أما حرف العطف «الواو» فهو أصعبُ تحديدًا وأدقُّ معنًى. فمنطق العلاقات أصعبُ وأكثر تشابكًا من منطق الجواهر. السؤال إذن: ما الصلة بين الفلسفة والتراث، تلك الصلة التي يُشير إليها حرف العطف ويفترضها منذ البداية؟ هل المقصود كيف نشأت الفلسفة، أي علوم الحكمة في تراثنا القديم؟ أم أن المقصود هو صلة الفلسفة المعاصرة التي ندرسها في جامعاتنا ومعاهدنا بالتراث الفلسفي القديم؟ الأرجح هو الثاني. فالأول سؤال تاريخي أكاديمي خالص وإن كانت له دلالته المعاصرة في أن الفلسفة قد نشأت من تراثنا القديم في حينِ أن الفلسفة في عصرنا إما نقلٌ من النشأة الأولى دون نشأة ثانية، أو نقل عن التراث الغربي المعاصر بعد أن أصبح الغرب الحديث هو المركز وما سواه من الشعوب والحضارات هي الأطراف. وانتقال العلوم والمعارف من المركز إلى المحيط مثل انتقال الجيوش والخبرات وبرامج الإرسال من أجهزة الإعلام. والثاني سؤال يكشف مباشرة عن أزمة الفلسفة في عالمنا العربي اليوم.٨ لماذا تبدو الفلسفة وكأنها وليد مريب في بيئة ثقافية تلفظها؟ وفي كلتا الحالتَين الفلسفة في أزمة لأنها تبدو وكأنها إما نقلٌ للمذاهب الغربية الحديثة والمعاصرة كما هو الحال في جامعاتنا في تدريس فلسفات القرنَين السابع عشر والثامن عشر في الفلسفة الحديثة وفلسفات القرنَين التاسع عشر والعشرين في المعاصرة ونقل للعلوم الإنسانية الغربية مثل علوم المنطق والنفس والاجتماعى والأخلاق والسياسة والجمال، أو نقل للفلسفات والعلوم القديمة مثل علوم الكلام والفلسفة والتصوف، باستثناء أصول الفقه الذي لم يحظَ حتى الآن بإدخاله ضمن العلوم الفلسفية بالرغم من التنبيه على أهميته والتحذير من إغفاله.٩ وعلى أقصى تقدير يتم وضعُ بعض جوانب التراث القديم في العلوم الفلسفية الغربية المعاصرة كبدايات لها، وصياغات لا علمية في مرحلة ما قبل العلم، وأسوة بما يحدث في التراث الغربي في نظرته للتراث الشرقي باعتباره بدايات العلم قبل صياغاته الأخيرة في العصور الحديثة،١٠ وأحيانًا تُعقَد بعض مقارنات بين روَّاد المثالية في الفلسفة الغربية ومؤسِّسي حركة الإصلاح الديني في فكرنا المعاصر.١١

وقد يكون المقصود من «الفلسفة والتراث» هو صلة الفلسفة كواقع حالي، أي كفِكْر ومنهج واختيار، بالتراث القديم بالمعنى الفلسفي الخاص أو بالمعنى الحضاري العام. كيف يتعامل أساتذة الفلسفة حاليًّا باسم الفلسفة مع هذا التراث القديم؟ ما هي مسئولية الفلسفة كمنهج والتزام بالنسبة للموروث الفلسفي القديم؟ هنا تُشير العلاقة بين الفلسفة والتراث من خلال حرف العطف إلى الجبهة الثالثة في موقفنا الحضاري، أي الواقع الحالي، وكيف يفرض نفسه، في حالة استيقاظه، على التراث القديم، يتفاعل معه، وينتقي منه، وينقد رواسبه، ويُطوِّر عناصره التي توقفت، ويُبرز مواطن قوته.

وعلى أية حال، سواء كان المقصود المعنى الأولَ الذي يجعل العلاقة بين الفلسفة والتراث سؤالًا تاريخيًّا خالصًا مشيرًا إلى تراثنا القديم (الجبهة الأولى)، أو كان المقصود هو المعنى الثانيَ الذي يجعل هذه العلاقةَ سؤالًا فلسفيًّا معاصرًا قريب الصلة بالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة؛ حيث إن لفظ الفلسفة أقرب إليها (الجبهة الثانية)، أو كان المقصود علاقة الفكر ذاته والفلسفة كعملية ممارسة للتفلسف وصلتها بالتراث القديم (الجبهة الثالثة)، فإنه يظل سؤالًا مطروحًا بكل هذه المعاني الثلاث وفي هذه الجبهات الثلاث، خاصة وأنها مَعانٍ متداخلة وجبهات متشابكة. وتكون الصعوبة في معرفة إلى أي حد تميل العلاقة بين «الفلسفة والتراث» إلى أيٍّ من هذه المعاني أو الجبهات الثلاث.١٢
١  يصعب على الإنسان أن يُعاود الكتابة في موضوع كتب فيه من قبلُ عدة مرات في مؤلفات مثل «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، دار التنوير بيروت، ١٩٨١م. أو في مقالات مثل «موقفنا الحضاري» في «الفلسفة في الوطن العربي المعاصر»، «بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول الذي نظمَته الجامعة الأردنية»، ديسمبر ١٩٨٢م، ص١٣–٤٢، المستقبل العربي ص٦٦–٩١ يونيو ١٩٨٥م، «تراثنا الفلسفي» في «دراسات إسلامية» دار التنوير، بيروت، ١٩٨٣م، وما زال الموضوع موضعَ البحث والدراسة على نطاق أوسع وأشمل في «من النقل إلى الإبداع، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة»، وبالتالي فأُقدِّم العذر إذا حدث بعضُ التكرار في هذا البحث؛ فالقضية واحدة، والموقف واحد. كما تتمثل صعوبة البحث في الفلسفة في كونها بين العلم والقضية، بين الدراسة التاريخية والدراسة المعاصرة، بين تحليل القديم وقراءة الجديد، بين تأصيل العالم وروح المواطن، بين البحث العلمي والالتزام بموقف. وتلك هي المهمة المزدوجة لجيلنا.
٢  ابن رشد: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، ابن سينا: «النجاة، في الحكمة المنطقية والطبيعية والالهية»، «عيون الحكمة»، الفارابي: «فصوص الحكم»، الخير أبادي: «كتاب الهندية السعيدية في الحكمة الطبيعية».
٣  الكِندي: «رسالة في كمية كتب أرسطوطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة»، الفارابي: «فيما ينبغي أن يُقدَّم قبل تعلُّم الفلسفة»، «المسائل في الفلسفة والأجوبة عنها»، «فلسفة أرسطوطاليس، وأجزاء فلسفته، ومراتب أجزائها، والوضع الذي منه ابتدأ وإليه انتهى».
٤  الكندي: «رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى».
٥  اللفظ موجود في القرآن الكريم بمعنى الإرث المادي مرةً واحدة في وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: ١٩-٢٠] وليس بمعنى التراث الحضاري، في حين أن مشتقَّات فعل «ورث» مثل «الإرث» والميراث قد ورد ٣٢ مرة. ويرد غالبًا بمعنى ميراث العلم والحكمة والنُّبوة والكتاب أو الأرض والجنة أو الفردوس، وليس فقط بمعنى الإرث المادي.
٦  السيد أبو الحسن علي الحسني النَّدوي: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» الأمير شكيب أرسلان: «لماذا تأخر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟» وهو نفس سؤال جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وأديب إسحاق وعبد الله النديم.
٧  Philipp Petai: The Arab Mind.
٨  كان هذا هو موضوعَ المؤتمر الفلسفي العربي الأول، عمَّان، ديسمبر، ١٩٨٣م، انظر أعمال المؤتمر في «الفلسفة في الوطن العربي المعاصر»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٨٥م.
٩  مصطفى عبد الرازق: «التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، علي سامي النشار: «مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسطي» د. حسن حنفي: «علم أصول الفقه» في «دراسات إسلامية»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٣م.
١٠  عبد العزيز عزت: «فلسفة التاريخ في الفرن الثامن عشر»، وقد صدَّر المؤلف كتابه بفصل عن ابن خَلدون.
١١  عثمان أمين: «الجوانية»، «نظرات في فكر العقاد»، «فلسفة اللغة لعربية»، «رائد الفكر المصري»، «رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي».
١٢  حسن حنفي، «موقفنا الحضاري»، في الفلسفة في الوطن العربي الراهن ص١٥–٢١، ص٣٦–٤٠، قضايا معاصرة (١) «في فكرنا المعاصر» دار التنوير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤