خامسًا: مخاطر وشبهات

لما كان التراث حاضرًا كبناء نفسي في المجتمعات النامية كان هذا النموذج الثالث «إعادة بناء التراث» هو طريقَ التنمية ووسيلةَ إحداث تغير اجتماعي جذري بالرغم مما يبدو عليه من نظرة إصلاحية دينية إحيائية. إعادة بناء التراث إذن جزءٌ من عملية التغير الاجتماعي إن لم تكن شرطَها الأساسي. وإن إعادة الاختيار بين البدائل من ثقافة القهر إلى ثقافة التمرد لهو تغير جذري في ميزان القوى الاجتماعية لصالح الأغلبية الصامتة صاحبة الحق في التنمية وفي التغير الاجتماعي.

ومع ذلك تُثار عدة شبهات ومحاذير يسهل إيضاحها والتخلص منها، وعلى رأسها:
  • (١)

    إعادة بناء التراث نزعة عملية ذرائعية صرفة لا تبحث عن الحق في التصورات أو الصواب في العقائد، بل مجرد وظيفية خالصة في أحسن الأحوال أو انتهازية صرفة في أسوأ الظروف. هي حركة «تكتيكية» تستغل الدين وتستثمره في قلوب المتدينين دون الإيمان به نظرًا، وبالتالي إيقاع العقائد الثابتة في مسار التغير، وضياع الحقيقة لصالح النفع الدنيوي العاجل. والحقيقة أن هذه الشبهة لا أساس لها، ولا تُعبر إلا عن مُزايَدة في الإيمان وتَملُّق لأذواق الجماهير إذا افترضنا سوء النية، أو تُعبر عن موقفٍ متطهر خالص، وتَقْوى زائدةٍ إذا افترضنا حسنَ النية. فالغاية هي مصالح العباد، والعقائد والشرائع وسائل وليست غايات. إن إعادة بناء التراث تصور علمي دقيق للمرحلة التاريخية للمجتمعات التراثية مثل المجتمعات النامية حتى يُمكِنها أن تُحقق أكبر معدَّل للتنمية وتقضي على معوقات التقدم من الجذور، وحتى تأمن الانتكاسات وحركات الرِّدة والثورات المضادة، وهي مهمة عدة أجيال حتى يتم محوُ الأمية وتجنيدُ الجماهير. فالبواعث مرحليًّا قد تكون بديلًا عن التصورات. ولا يوجد حقٌّ نظري إلا إذا نتج عنه نفعٌ عمَلي على ما يقول الأصوليون القدماء.

  • (٢)

    إعادة بناء التراث إنما يخضع لانتقائية عشوائية، وكل شيء في التراث يحتمل التأويل، وبالتالي فهو خلطٌ وتشويش دون مقياس واضح، وكل فكرة يُمكن أن تُؤدي إلى عمل وأثر؛ ولذلك لا بد من معاييرَ نظرية خالصة وثابتة. والحقيقة أن هذا الحذر أيضًا لا مبرر له؛ لأن إعادة بناء التراث تخضع لمقياس المصالح المرسَلة وتحقيق النفع لجماهير الأمة، وهذه يحددها الفقهاء الذين هم بمصطلح العصر علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد بما لديهم من لغة الأرقام والتحليل الكَمِّي للواقع. ومقياس جلب المنافع ودفع المضار مقياس شرعي تُقاس به الأحكام، ولا يقتصر فقط على الأمور العملية الفقهية بل يمتد أيضًا إلى العقائد النظرية وكما يتضح أيضًا من «علم اجتماع الثقافة». ولا يهم صحة التأويل النظري بل مقدار ما يُقدِّمه من نفع عملي، فالتأويل في نهاية الأمر هو قراءة الحاضر في الماضي وإسقاطه عليه. هو عملية تاريخية مشروعة تُحقق بها الأمة تجانسها وتواصلها في الزمان.

  • (٣)

    وما العمل إذا ما أخذ فريق آخر جانبًا آخر من التراث على أنه أكثرُ تحقيقًا للمصلحة مما أخذه الفريق الأول، وبالتالي يتشبَّث كل فريق بالشرعية ولا يُمكن ترجيح أحدهما على الآخر؟ والحقيقة أن هذا الاعتراض يُعبر عن حقيقة فعلية وهي أن الصراع بين اتجاهات التأويل هو في حقيقة الأمر صراعٌ بين القوى الاجتماعية التي يتمثل كلٌّ منها تأويلًا للتراث؛ تدعيمًا لمواقعه الاجتماعية. والذي يحسم الصراع في نهاية الأمر ليس الحجة والبرهان والصحة النظرية، بل صراع القوى الاجتماعية وأي قوة يكون لها الحسمُ في النهاية. وتكون القضية: أيُّ التأويلات أكثر تعبيرًا عن مصالح الأغلبية والقوى الاجتماعية التي يتم التغيير لصالحها؟ يستطيع البرهان أن يقوم بدور التوعية الاجتماعية ولكن المعركة تُحسَم في النهاية على أرض الواقع. والحس الشعبي الجماهيري قادر على التمييز بين مختلِف التأويلات، وعلى معرفة أيها يُعبِّر عن مصالح الأغلبية، وأيها يُعبر عن مصالح الأقلية.

  • (٤)

    إن في ذلك كلِّه قضاءً على الإيمان في قلوب الناس وإدخال الدين ذاته في اللعبة السياسية، وبالتالي الانتهاء إلى النسبية المطلقة وضياع الحق من قلوب الناس. والحقيقة أن هذه الشبهة تقوم على تصور خاطئ للتراث؛ فالتراث ليس الدين، والتصورات المختلفة للعقائد ليست عقائدَ الإيمان. إعادة بناء التراث عملية تاريخية صرفة تتعامل مع نِتاج تاريخي خالص. صحيح أن المعطيات التراثية في بداياتها كانت معطيات دينية، ولكن نُسِج حولها الفلسفة والأخلاق والفن والأمثال العامية وسِيَر الأبطال والملاحم الشعبية. فالتراث نتاج إنساني خالص ليس له صفة القداسة أو الألوهية. وما دمنا في نطاق التاريخ والمجتمعات البشرية فنحن شئنا أم لم نشأ في نطاق التغير والحدوث، ولسنا في نطاق الثبات والدَّيمومة. ويكون الأبقى هو منطقَ عملية التغيير ذاتها وليس نتاج العملية الذي قد يختلف من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع.

لقد قامت مجتمعات نامية أخرى بإعادة بناء التراث كوعاء لحركاتها الوطنية، مثل الصين وفيتنام وإيران والجزائر وأمريكا اللاتينية وبعض البلدان الأفريقية، وبقي أن نُحوِّل ذلك إلى علم دقيق خارج العلوم الاجتماعية الغربية — التي وقعت ضحية النموذج اللاتراثي الغربي — وتأسيس علوم اجتماعية وطنية تعترف بخصوصية الشعوب وبقدراتها على الخلق والإبداع بما لديها من رصيد تاريخي طويل وتَجارِبَ معاصرة أدت بها إلى التحرر والاستقلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤