ثالثًا: أزمة الموقف الحضاري

تتجلى أزمة الموقف الحضاري في موقفنا من كل بُعدٍ فيه، سواءٌ كان التراثَ القديم، أو التراث الغربي، أو الواقع المَعيش للناس.

  • (١)

    فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين، وكأننا متفرجون عليه ولسنا أصحابَه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسئولين عنه، نُكرِّر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أن التراث القديم ليس منفصلًا عنا، بل هو جزء منا، ونحن جزء منه، كوَّنَنا وأعطانا تصوراتنا للعالم، وأمدَّنا بموجِّهات للسلوك. نحن مسئولون عنه بقراءتنا له مثل مسئولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منا إزاءه في القراءة والتفسير والفَهْم والتأويل. نُكرِّر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة، ولا نعرف كيف نشأت وأيَّ أغراض خدَمَت. وبالرغم من تغيُّر الظروف القديمة ونشأة ظروفٍ جديدة تتطلَّب اختياراتٍ بديلة، فإننا نُكرِّر الاختياراتِ النمطيةَ القديمة التي تُعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروفَ الجديدة التي نعيشها اليوم وكأنَّ التراث جسمٌ ميت، وجثَّة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور، أو أصحاب أو أهل؛ ومِن ثَم يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيًّا يتصورونه «كتبًا صفراء»، و«قيل وقال»، لا أمل فيه، لا يُثير قضية، ولا يُقدِّم حلًّا، فيتوجهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد «التغريب»، مما يجعل بعضهم يقوم برد فعل على ذلك، فيتمسَّك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة كلَّها، فتنقسم الأمة إلى فريقَين؛ فريق يرى صلته بالتراث صلةَ انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثم وصال. الأول يرى في التراث كلَّ شيء، والثاني لا يرى في التراث أي شيء.

    ثم نقلناه كلَّه، الصالح منه والضار. عمَّمنا الأشعرية، ودرسنا الفلسفة الإشراقية، واجتررنا فقه العبادات، وشرحنا المحبة والفناء، ودعونا إلى التخلِّي عن العالم في مجتمع مهزوم مطحون، مسلوب الإرادة، غيبي أسطوري، منهوب الثروات، أزمته الفقر، ومأساته الاحتلال. درَّسْنا أن النقل أساس العقل، وأن العقل قاصرٌ في حاجة إلى وحي، وأن هذا الوحيَ هو النبي،١ وأن أقصى ما للإنسانِ من فعله هو الكَسْب، وهو في نهاية الأمر تعليق لحرية الإنسان وإرادته بإرادة الآخر، وجعلها مشروطة بها، وأن مستقبل الإنسان خارجَ العالم، وأن الشهادتَين تكفيان، وأن السياسة كلها مركَّزة حول شروط الإمام وصفاته الحميدة. ولما كان ذلك هو الموروثَ السائد، بعد أن حِيكَت مؤامراتُ الصمت على كل تراث آخرَ مُناهِض، وهو ما يُساعد السلطةَ القائمة في سندها الشرعي أو في اقتضائها طاعةَ الناس لها، فقد درَّسناه واعتبرناه هو الصوابَ دون ما سواه، وأصبح ذلك عاملًا مُكونًا رئيسيًّا في ثقافة الطلاب، فاستمرت المحافظة، واستمر تراث السلطة، وقدَّمنا بأيدينا إلى السلطات رعيةً مطيعة له، مؤمنة به وبالله، وقضينا بأيدينا على كل احتمال للتغيير والمعارضة والثورة.

    لقد درَّسنا العقول العشَرة، وخصَّصْنا العقل الفعَّال، وتحدَّثنا عن الأفلاك العشرة، وبيَّنَّا أن الكواكب والأفلاك أرواحٌ ونفوسٌ وعقول على أساس حركتها، يتم كلُّ شيء في الأرض، فوجد وعيُنا القومي عِللَ ظواهره في السماء وليس على الأرض. أما المعرفة فبمدد من السماء وليس بإحصاء كمِّي لواقع الناس. وشرحنا نظرياتِ المحبة والفناء والحلول، وعرَضْنا قيم الزهد والورَع والصبر والرِّضا والتوكل والشكر، وبيَّنا أحوال الخوف واليأس والسُّكْر والغيبة. وتساءلنا في الفقه: ما حكمُ وصية يكتبها رجلٌ بين أنياب الأسد؟ هل يجوز أكلُ بيضة ولدَتها فرخةٌ نكحها إنسان؟ ما حكم رجل أقسم أن امرأته طالق إن هو جامعها في هذا الثوب، وإن لم يُجامِعْها في هذا الثوب؟ ما هي أحكام الاستنجاء والغائط؟ وما حجم الحجر وشكله واتجاه الغائط وكيفية الجلوس؟ وما هي أحكام حلق عانة الميت؟ وكأن مظاهر المجتمع المتخلِّف وموضوعاته هي التي فرَضَت اختيار ثقافته. أما فقه الثورة، وفقه العدالة الاجتماعية، وفقه التحرر من الظلم، وهو ما يُعاني الناس منه، فليس أساسًا للاختيار أو موضوعًا للتساؤل.

    ولم ندرس علمَ أصول الفقه بأكمله وهو ما يُعبِّر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيدًا عن الاستشراق، وأحكام منطق اللغة بعيدًا عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيدًا عن الروايات الموضوعة التي تُلهِب الخيال وتتحوَّل إلى جزءٍ من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهجَ للسلوك بعيدًا عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهجَ للرواية لضبطِ النقل أو وضع أصول المنطق الحسِّي الذي يقوم على المشاهدة ومَجْرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطقٍ بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهد، وقياس الأَوْلى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيُه. لم نَعْتنِ بكيفية نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم نَدرُسها إلا في إطار «تاريخ العلوم عند العرب» كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نُحاوِل نحن معرفةَ الصلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوُضِع ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابنُ خَلْدون مع باقي المؤرِّخين دون إدراكٍ للنوعية والاختيار.

  • (٢)

    لقد فعلنا الشيء نفسَه في التراث الغربي، فإذا درسنا الفلسفة الغربية فإننا ننتزعها من بيئتها وكأنَّ ديكارت وكانط وهيجل وماركس ونيتشه وهوسرل وبرجسون وسارتر وميرلوبونتي وهيدجر نجومٌ لامعة نتأمَّلها ونُعجَب بها، بل ونحكم عليها، على صدقها أو بطلانها، بحُجج الذَّوق السليم أو العقل الصريح، وربما أيضًا بالأخلاق الكريمة والقيم الفاضلة والنظُم السياسية — وأحيانًا الاجتماعية القائمة — والأعراف والتقاليد وكل الموروث القديم. ولما تشتتت المذاهب وتباينت الآراء وقعت الحيرة في الاختيار؛ هذا مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي، وذاك حسي؛ فالمحافظون يختارون المثالية، والتقدُّميون يختارون الواقعية، وينشأ الخلاف بيننا. والصراع على المذاهب في ظاهره غربيٌّ وفي حقيقته يكشف عن موقف حضاري خاص بنا، وهو أن المثالية وريث طبيعي للمحافظة والتقليد الديني، والواقعيةَ هي التطور الطبيعي للدين المثالي والأكثرُ قدرةً على الدفاع عن حياة الناس ومصالح الشعوب.

    وفي حقيقة الأمر فإنَّ المذاهب الغربية وليدةُ بيئتها، بل إن فكرة المذهب إنما نشأَت بعد أن تمَّت تعريةُ الواقع الأوروبِّي تمامًا من أغطيَتِه النظرية القديمة الموروثة من العصر الوسيط المسيحي الكنسي. وجاء عصر النهضة، فأزاح كل الغطاءات النظرية الممكنة، رافضًا الموروث باعتباره مصدرًا للعلم الذي تحول إلى العقل والطبيعة. العقل والوحي شيء واحد، والطبيعة والدين شيء واحد (وحي العقل، دين الطبيعة).٢ نشطت المذاهب في القرنِ السابعَ عشر في محاولة لإيجاد نسَقٍ كُلي شامل يقوم بدور الموروث القديم في تفسير العالم وإيجاد علاقةٍ بين الله والطبيعة والإنسان. فنشأت العقلانية، ومنها المثالية النقدية، تُعطي الأولوية للعقل وحقِّه في فَهم الطبيعة. كما نشأَت الحسِّية ومنها الوضعية؛ لتُعطِيَ الأولويةَ للحسِّ وحقَّه في رؤية الطبيعة. وظل المذهبان يتصارعان مرة، ويتركَّبان في مذهب ثالث مرَّة أخرى؛ إما على نحو آليٍّ خارجي ثابت (كانط) أو على نحو حيوي داخلي متحرِّك (هيجل). ثم أتت المذاهب الإنسانية الحيوية والإرادية والوجودية لِتُعطيَ الأولويةَ للإنسان على العقل والطبيعة، ولتُحوِّل العلوم الرياضية والطبيعية على السواء إلى علوم إنسانية، ففي سقراط الجديد يجتمع أفلاطون وأرسطو. وقد حكم تطورَ المذاهب قانونُ الفعل وردِّ الفعل، أو جدلُ الموضوع ونقيضه ومركَّبه، ثم طبَع هذا الجدلُ الوعيَ الأوروبي في بِنيته بقسمة ثلاثية ظاهرة؛ صورية، أو مادية، أو حيوية، وعادةً ما يتم الخلط بين هذه المستويات دون تمييز بينها.

    للوعي الأوروبي إذن تطور وبناء. له بداية وتطور ونهاية، له ظروف تاريخية واجتماعية خاصة مُمثَّلة في الرومانية القديمة، ومُعطًى ديني خاص هو المسيحية، ونظام ديني خاص هو الكنيسة، وبناءٌ ذهني خاص يقوم على التقسيم، وأُحادية الطرَف والتعارض بين عوامل الظاهرة الواحدة. وإن الحديث عن عقلياتٍ بُدائية، أفريقية أو آسيوية، هو في حقيقة الأمر إسقاطٌ من العقلية الأوروبية على غيرها. فأين نحن من هذا كلِّه؟ ديكارت محاولةٌ لإثبات عقائد الدِّين بحُجج العقل والبرهنة على صدق الايمان، وهو تقليدٌ شائع في حضارتنا القديمة كلِّها عند المتكلمين والفلاسفة. والفلسفة النقدية كأول محاولة للتعرُّف على إمكانية المعرفة في مقابل الدجماطيقية. والشكِّية هو ما كان يفعله الفقهاء، من نقدِ نظريات الحكماء ولاأدْريَّة الشُّكَّاك والمذاهب الحسِّية التي كانت تُدافع عن المعارف الحسية، والمشاهَدة والتجرِبة. دِعامة العلم الجديد هو ما كان يفعله المتكلِّمون والأصوليون من اعتبار شهادة الحس ومجرى العادات مصدرًا للعلم. والفلسفات الإنسانية والحيوية هي أشبهُ بمحاولات الصوفية عندنا من تركيز على التجارِب البشرية والوجود الإنساني والانفعالات النفسية مثل المقامات والأحوال، وما الفرق بين كيركجارد الصوفي والوجودي؟ لا يعني ذلك أننا أسبقُ من غيرنا في شيء، أو أنَّ لدينا ما لدى غيرنا، فنثق بالنفس، ونفخر بالأجداد، بل يعني أن المذاهب الفلسفية لا تُزرَع خارج بيئاتها الأولى، فإذا ما تشابهت المذاهب واختلفت البيئات فذلك لأن الأبْنِية الذِّهنية والنفسية والمواقف الحضارية والمراحل التاريخية قد تكون أيضًا واحدة. وما دام المذهب الفلسفي قد اجتُثَّ من جذوره فلا يمكن فَهمُه أو الحكم عليه أو التعرف على نشأته. ومن ثَم لا يتعلم الطالب أو يفهم شيئًا باستثناء مجموعة من المعلومات المتراصة المتراكمة، يحفظها للامتحان وينساها بعده، لا تُؤثِّر فيه ولا يُؤثِّر هو فيها، فقد تم الفصل بين المذهب والموقف، بين العلم والنشأة، بين الفكرة والتكوين؛ ومن ثَم لم ينشأ عندنا فكر تكويني يدل على موقف، بل أصبحت ثقافتنا أكوامًا متراصَّة من المعلومات، سرعان ما تتساقط جميعًا في أول مواجهة لموقف ثقافي أو موضوع علمي.

  • (٣)
    وقد تعثرَت الفلسفة لدينا لأن البُعد الثالث في موقفنا الحضاري، وهو الموقف من الواقع، أُزِيح جانبًا وأُسقِط من الحساب. فتحوَّلَت الفلسفة لدينا إلى نقل؛ نقل عن القُدماء، أو نقل عن المُحدَثين، وغاب التنظير المباشر للواقع. أصبحت الثقافة في جانب، والواقع في جانب آخر، ثقافة غريبة، وواقع غير مفهوم، مجرد وعي صوري بلا مادة. وقد يكون السبب في هذا الموقف هو وجود الغطاء النظري التقليدي للواقع، وهو الغطاء الذي يُفسِّر كلَّ شيء، وبالتالي لم تنشأ الحاجة إلى التساؤل عنه أو البحث عن نظرية له. هناك نوع من الوئام بين الأنا والنَّحن، وبين النَّحن والعالم بلا قطيعة أو شرخ، باستثناء الفقر كأزمة وضنك. وهما مفهومان في إطار التصور النظري القديم، ومقبولان في إطار الإيمان الشائع والعقائد الموروثة، أو في إطار عدم الالتزام بقضايا الواقع نظرًا للتعايش أو القهر السياسي أو لعدم الوعي به والارتباط بقضايا العصر؛ فالفكر ليس بضاعة، والمفكر ليس موظفًا. الفكر رسالة، والمفكِّر صاحب قضية.٣ وكادت صورة الأستاذ الذي يعيش من الفكر أن تصير صورة نمطية من خلال الإعارات أو الوظائف أو الكتب المقررة، وكادت تختفي صورةُ الأستاذ المفكر الذي يعيش بالفكر، صاحب القضية، والقادر على اتخاذ الموقف. إن عدم التعود على المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار أو نشأتها وتكوينها من الوضع الاجتماعي قد يجعل الباحثين يستسهلون عرض الأفكار، أو التحدث عن الظروف والبيئات في الفصول الأولى، وعن الأفكار والنظريات في الفصول التالية، دون أن يكون هناك رابطٌ بين هذه وتلك. وربما يكون السبب نقصًا في التكوين الذِّهني بالرغم من وجود كمٍّ من المعلومات ونقص في الممارسة؛ فالذهن لم يُمارس العلم، ولم يتعود على المنهج، ولم يعرف كيف نشأ، فاقتطف الثمرة دون الجذور، وحصل على النتيجة دون المقدمة. وقد يكون غياب معاهد البحث العلمي والعمل الجماعي في إطار مشروع قومي لدراسة الثقافة والفكر والعلم والفلسفة؛ أحدَ العوامل في إسقاط الواقع من الحساب بعد أن اقتصرت مهام الأساتذة على تخريج مدرسين أو موظفين أو رجال إعلام. كما تحولت الرسائل العلمية الجامعية إلى دراسات للماضي — لشخصية أو مذهب أو عصر — يقلُّ فيها عنصر الإبداع، أي بناء المشكلة الفلسفية ابتداءً من الواقع، فلم يَعُد الطالب يُبدِع نصًّا فلسفيًّا، بل صار مجرد شارح للنصوص. هذا بالإضافة إلى الجو العام لإجهاض العقول، والخطط العامة المعدَّة لذلك سواءٌ من الداخل أو من الخارج. فليس في صالح الأنظمة القائمة أو المصالح الكبرى أن يُبدِع العقل الذي هو بطبيعته تمسك بالحريات ودفاع عن المصالح العامة. وقد يتحول الإجهاض إلى إعدام إذا ما حاول أحد الأساتذة أو الطلاب الخروجَ على المألوف والتمسكَ بحقه الطبيعي في البحث الحر. فإذا لم يقبل شيئًا على أنه حق إن لم يكن مؤيدًا بالدليل اتُّهِم بالإلحاد أو الشيوعية، ويصبح شريدًا متهمًا مطاردًا لا وطن له، فلا يبقى له إلا الهجرةُ إلى الخارج ليتحول إلى مِهْني صِرف، يضع همَّه في العلم والإبداع العلمي، أو ليُواصل المعارضة في الخارج والدفاع عن حقوق الأوطان والشعوب، أو الهجرة إلى الداخل هَمًّا وكَمدًا حتى يُصاب بالجنون، أو يعمل عن وعي تاريخي طويل، من خلال الحركات السرية التي سرعان ما يتم انكشافها فيُصبِح نزيلَ سجون. إن عدم الالتزام بالواقع له أسباب كثيرة، منها ما يكمن في التراث — أولوية النص — ومنها ما يكمن في النقل عن الغرب — اجتثاث المعرفة عن بيئتها — ومنها ما يكمن في ظرف العصر، وضرورة العيش في ظروف القهر.

    إن حل أزمة الموقف الحضاري إنما يكون بإعادة النظر في هذه الأبعاد الثلاثة وأحكامها، وإعادة الاتزان إلى الوعي الحضاري القومي، وفرض الواقع نفسِه، أي البُعد الثالث، على البُعدَين الحضاريَّين الأوَّلَين. فالواقع يفرض — وبعد مائتَي عام من نهضة حديثة سرعان ما كبَتْ — أن يكون موقفنا من التراث القديم لا موقف المهاجم أو المدافع، بل موقف الناقد والمطوِّر؛ النقد عن طريق وصف نشأة التراث في الظروف القديمة، والتطور طبقًا لحاجات العصر والظروف الجديدة. والموقف من التراث الغربي ليس أيضًا موقف المدافع أو المهاجم، بل موقف الناقد والرادِّ لهذا التراث إلى حدوده الطبيعية: النقد؛ بوصف نشأته المحلية والقضاء على أسطورة عالميته، والرد؛ لتحجيم هذا التراث لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب. والموقف من الواقع ليس بالعزلة عنه أو بالتمرد عليه؛ فالعزلة إلى الداخل تتبدَّى في النفس إحباطًا وفي الخلية السرية نشاطًا، والعزلة إلى الخارج هجرة مهنية أو معارضة سياسية في العواصم الأوروبية أو تمرُّدًا عن طريق الانقلابات العسكرية، أو غضب الجماعات الدينية، أو تشكيل أحزاب تقدمية علمانية لأخذ السُّلطة. الموقف من الواقع هو فَهمُه أولًا، ومعرفة متطلباته، وسَبرُ مُكوِّناته (الثقافة الوطنية، الجماهير الشعبية) حتى يُمكِن الالتحامُ به وتفجيرُ طاقاته القادرة على الوقوف أمام الأبنية الاجتماعية والنظم السياسية التي تقوم على التصورات السلطوية الموروثة. حل أزمة الموقف الحضاري إذن في نقل الموقف من مستواه الخطابي إلى مستواه العلمي، وتحويل المواقف الإيمانية بالقديم أو الانبهارية بالغرب أو الخيالية بالنسبة إلى الواقع، إلى مواقف عِلمية حضارية تاريخية مُحكَمة؛ حتى يَنشأ الفكر في مواقفَ اجتماعيةٍ وحضارية وتاريخية محددة، تكون بالتالي أرضًا للفلسفة وتربة للفيلسوف.

١  هذه عبارة محمد عبده في «رسالة التوحيد» أقصى ما وصلَت إليه الحركة الإصلاحية من إعادة نظر في علم العقائد.
٢  انظر عرضنا لعقل الوحي ولدين الطبيعة في كتابنا «لسنج: تربية الجنس البشري»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٣  انظر دراساتنا: «رسالة الفكر»، «دور الفكر في البلاد النامية، أشكال التعبير» في قضايا معاصرة (١)، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م، وأيضًا «العلم قضية»، الجامعة، الرباط، ١٩٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤