رابعًا: الموقف من الواقع

بالرغم من تمايز الروافد الثلاثة في نهضتنا الحديثة إلا أنها قد يكون لها موقف واحد بالنسبة للواقع، وهو البُعد الثالث من الموقف الحضاري؛ فالحركة الإصلاحية بالرغم من بدايتها بالواقع وحماسها للناس وحرصها على الصالح العام وإدراكها لمآسي الاستعمار الخارجي والقهر الداخلي، ومواجهتها لقضايا الفقر والبطالة والجهل، إلا أنها أخذت موقفًا خطابيًّا حماسيًّا، ولم تستطع تجنيد الجماهير في حزب إصلاحي أو ثوري يُحقق المشروع الإصلاحي. وكان ذلك أحدَ أسباب فشل الثورة العرابية. وفي الوقت الذي تكوَّن فيه الحزب «الإخوان المسلمون» اصطدم بالسلطة مبكرًا صراعًا على السلطة؛ لأن الله يزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن.١ وما أسهل الانقلاب على السلطة! وما أصعب إدراك! المراحل! وطالما حصلت أحزاب على السلطة ولم تُغير شيئًا، وطالما غيرت تيارات مجتمعاتها دون الحصول على السلطة. كما كانت الحركة الإصلاحية ثورة على الواقع وليس إحصاءً كَميًّا له، كانت خطابًا عن الفقر والقهر، وليس تحليلًا لظواهر الفقر والجهل لمعرفة العلل المادية المباشرة كما يفعل الأصوليون. ولا فرق في ذلك بين الخطاب العلماني الثوري والخطاب الإصلاحي الثوري بالنسبة للتحليل الكمي للواقع، كلاهما إنشاء وليس علمًا. فلو حدثت الثورة بالفعل لما استطاعت أن تُغير من الواقع شيئًا لغياب هذا التحليل الكمي الإحصائي له. والغضب والتمرد ليس تحليل العقل ولا بصيرة الثورة، انفعال وقتي يُحرك الجماهير في فورة الغضب ثم يعود السكون، وما زال الأمر كذلك حتى الآن وكما يبدو في الجماعات الإسلامية المعاصرة بتمسكها بشعار «الحاكمية» دون ترجمته إلى واقع معين بلغة الفقر وتوزيع الثروة أو سياسة الأجور أو ملكية الأرض والمصنع أو برامج الدراسة أو نوع التمثيل الشعبي ودرجته وكيفيته أو تحديد لأهل الحَل والعَقد على مستوى العصر.

أما التيار العلماني فإنه منعزل عن الجماهير ولم يتجاوز مناقشات الصالونات الفكرية. لا تموت الجماهير في سبيله كما تستشهد في سبيل الله. وقد تتحرك الجماهير بشعاراته التي تُعبر عن مطالبها الوطنية (الوفد) والاجتماعية (الناصرية) ولكنها لا تنزل إلى الشوارع أمام الدبابات لتُحصَد بنيران الرشاشات (الثورة الإسلامية في إيران). كما أنه منعزل عن ثقافة الجماهير التي لا تعي قوانين الكم والكيف ولا تفهم النفي ولا نفي النفي. إنما تتحرك الجماهير بالشواهد النقلية، سواءٌ من النصوص الدينية أو الأمثال العامية والسِّيَر الشعبية أو الشعارات القومية. ثقافة الجماهير مستمَدة أساسًا من تراثها القديم الحي فيها وليس من الغرب المنقول إليها. وبالتالي انعزل التيار أيضًا عن تاريخ الأمة وتراثها وثقافتها وماضيها، وأصبح مجردَ طِلاء خارجي باهت، أو زرع بلا جذور لا ينتظر وقت الحصاد، تذروه الرياح وتعصف به الأعاصير. لم يُحاول أحد حتى الآن العودة إلى الواقع وهو أبلغُ من كل نظرية ثورية محكمة أو إلى الحس الشعبي التلقائي الذي هو أقوى من أي تصور علمي تاريخي. إن حكمة الشعوب التاريخية هي رصيدها الثوري وليست نظريات الثورة العلمية التي هي في حقيقة الأمر مضادة للعلم؛ لأنها بلا واقع حاضر وبلا رصيد تاريخي وبلا رؤية علمية لمكوِّنات الواقع.

أما التيار الليبرالي فإنه بالرغم من شعبيته وإنجازاته العملية من أجل بناء الدولة الحديثة وتخطيطه للزراعة والصناعة والتجارة والتعليم وإنشاء عديد من مراكز البحث العلمي وتأسيس الجامعات، إلا أن البداية لديه كانت الدولة، وكانت الإنجازات تتم باسم السلطة، وكانت الأولوية للرئاسة. فأصبح المثقفون كلهم موظَّفين في الدولة لا يستطيعون الخروج عليها. وانتهى الأمر في الثورات العسكرية الأخيرة وحتى قبلها إلى أن أصبحت الدولة أداةَ قمع للمعارضة أولًا، ثم لباقي الشعب ثانيًا. واستمدت سلطتها من العسكر دون ما حاجةٍ إلى جهاز دولة، فالعسكر قادرون على كل شيء. ومن ثم انتهت الليبرالية إلى عكس ما بدأت منه، وبدل أن كانت الدولة تعبيرًا عن العَقْد الاجتماعي أصبحت مهيمنة ومسيطرة على كل شيء. لم يُحاول أحدٌ من جيلنا تغيير هذا الموقف من الواقع والبداية منه دفاعًا عن حقوق المواطن وعن حرية القول والاعتقاد، والإصرار على استقلال الفكر وممارسة حق المعارضة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، وإعلان كلمة الحق في وجه السلطان الجائر.

ما زال الواقع كبُعدٍ ثالث في موقفنا الحضاري غيرَ مُحكَم الرؤية، وما زالت التيارات الثلاثة الرئيسية في نهضتنا الحديثة مداخلَ حضارية للواقع وليست تنظيرًا مباشرًا له. لذلك كبا الإصلاح الذي يعني أساسًا الإصلاح في الأرض ومقاومة الفساد فيها. إن التحديَ الأساسي لجيلنا هو مواجهة قضايا العصر الرئيسية، تحرير الأرض من الغزو الاستعماري والاستيطان الصِّهْيَوني، إعادة توزيع الثروة ضد التفاوت الهائل في الدخول بين الأغنياء والفقراء، الدفاع عن الحريات ضد كل قوانين القهر وأساليب القمع، تحقيق الوحدة ضد شتى صنوف التجزئة، تحقيق التنمية الشاملة في مواجهة ظواهر التخلف، التأكيد على الهوية الذاتية ضد صنوف التغريب، وأخيرًا تجنيد الجماهير وتحزيبها في مواجهة سلبيتها ولامبالاتها وسكونها.٢
١  انظر أبحاثنا العديدة عن «الإخوان المسلمين» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، (٢) اليسار الديني.
٢  انظر عرضًا تفصيليًّا لقضايا العصر في «التراث والعمل السياسي» الرباط، ١٩٨٢م، «موقفنا الحضاري»، عمَّان، ١٩٨٣م، «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»، الكويت، ١٩٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤