أولًا: مقدمة: تحديد المصطلحات

نظرًا لاتساع مفاهيم الألفاظ وشمول الموضوع في مثل هذا العنوان «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»، فإنه يجب أولًا تحديدُها حتى يسهل استعمالها على نحوٍ أدقَّ، وكذلك تحديد الموضوع حتى يُمكن فهمُه والوصول فيه إلى نتائج محددة ويقينية قدر الإمكان. فتحديد الألفاظ شرطٌ لتحديد الموضوع.

ويشمل العنوان ستة ألفاظ يُمكن تحديدها على النحو الآتي:
  • (١)
    «الفكر»: هو كل ما أبدعه الذهن في حضارتنا التي ورثناها منذ أربعة عشر قرنًا. وهو لفظ لم يستعمله القدماء بل استعملوا بدلًا منه لفظ «علم» وكأنَّ الفكر لا يكون إلا علمًا، أي فكر له موضوع ومنهج، غاية ومقصد؛ لذلك قامت الحضارة الإسلامية من خلال تأسيس العلوم، العلوم النقلية والعلوم العقلية والعلوم النقلية العقلية.١ بل إن لفظ «الفكر» لم يُستعمَل للدلالة على الفلسفة بل استُعمِل لفظ الحكمة بأنواعها الثلاثة، المنطقية والطبيعية والإلهية. فلفظة «الفكر» مستحدثة واردة من الغرب وشاعت في العصور الحديثة كبديل عن الإيمان أو كغطاء نظري للعالم وكإثباتٍ لوجود الذات ثم انتقلت إلى فلسفات الحضارات، فأصبح لدينا الفكر اليوناني والفكر المسيحي والفكر اليهودي، ومنها خرج المستشرقون بمفهوم الفكر الإسلامي. ثم نقلناه نحن إبَّان نهضتنا الحديثة من الغرب، وأسقطناه على تراث القدماء.

    ومع ذلك فلا مشاحة من استعمال اللفظ كما جرى عليه العرف، فالمعنى العُرفي أحد معاني الألفاظ طبقًا للأصوليين. الفكر في هذه الحالة يُشير إلى كل ما أنتجه الذهن في حضارتنا سواءٌ كان ذلك في العلوم النقلية أو العقلية أو النقلية العقلية. وهو ليس فكرًا مجردًا عِلميًّا رياضيًّا خالصًا، بل هو فكر إنساني مرتبط بحياة الإنسان في كل أبعادها، حامل لعقائدَ وقيمٍ ونُظم وتشريعات، يُعطي تصورات للعالم وموجهات للسلوك. هو فكر حي في نفوس الناس، وحاضر في شعور الأمة، قريب إلى وجدانها وحياتها وتاريخها، تعتمد عليه كحُجة في الإقناع، وتستخدمه كسلطةٍ في البرهان. يحتوي على دوافع التقدم كما يضمُّ معوقاتِه. فالفكر بهذا المعنى يُعبر عن مجموعة من المصالح المتباينة والأهواء المتعارضة، نصفه يُؤيِّد النظم القائمة ضد المعارضة وهو «فكر السلطة»، والنصف الآخر يُعبر عن موقف المعارضة ويشحذها ضد النظم القائمة وهو «فكر المعارضة»، فالفكر ينتج في أَتون المعارك السياسية كسلاح عقائدي في دولة عقائدية ولجماهيرَ مؤمنة. لذلك عبَّر فكرنا القديم في نصفه الأول عن سلطة الحاكم والطبقات الحاكمة، وفي نصفه الثاني عن ثورة المحكومين والأغلبية الصامتة. الفكر بهذا المعنى هو الموروث القديم عندما يتحول في وجدان الناس وفي شعور الأمة إلى تراكُمٍ تاريخي يُحدد بناء الذهن ويُوجه سلوك الناس وليس فقط عقلها، وجودها وليس فقط نظرها.

  • (٢)

    أما صفة «الإسلامي»: فإنها تعني الفكر الذي نشأ من ثنايا الإسلام وبفضله وبعد نشأته؛ فقد عرَف العرب الشعر والتجارة والديانات السابقة، وكانت لديهم مجموعة الأعراف والتقاليد والقيم العربية الموروثة، ولكن لم يكن لهم فكر بمعنى علم أو حضارة، نشأ الفكر الإسلامي إذن بنشأة الإسلام وهو السبب التاريخي في تسميته «الفكر الإسلامي». ومع ذلك هناك سبب آخر لا تاريخي؛ فالفكر إسلامي، يعني أنه ذو نمط محدد ويقوم على خصائص معينة سواءٌ من حيث صفاتُ الفكر العامة أو العقائد النابعة منه أو القيم التي يقوم عليها أو النظم والتشريعات التي يسنُّها، «الفكر الإسلامي» بهذا المعنى يختلف عن الفكر المسيحي أو اليوناني أو الغربي أو الهندي أو الصيني، كل فكر له طابع أو نمط أو «خصوصية»، ولا يوجد فكر عام شامل لا طابع له يُمثل الإنسانية جمعاء، ويكون فكرًا إنسانيًّا لا وطن له ولا حضارة ولا تاريخ ولا محل، حتى ولو كان الفكر في أعلى درجات التجريد والشمول. لا يوجد فكر إلا إذا كان تفكيرًا على نحو معين، وبمنهج مميز حتى الفكر الرياضي أو العلمي. الفكر هنا بالضرورة حضاري تاريخي؛ لأن الإنسان الذي يُفكر هو موجود حضاري تاريخي.

    أما صفة «العربي» فهي تُشير إلى لغة التدوين لأن معظم نتاج الفكر دُوِّن بالعربية. العربية هي اللسان وليس الفكر أو الطابع أو الشخصية أو القومية. وقد التبس علينا الأمر في فكرنا الحديث عندما انتشر الفكر القومي الغربي فيه، وعرَفنا الفكر الفرنسي والألماني والإنكليزي والأمريكي فقلنا «الفكر العربي» إثر نشأة القومية العربية كردِّ فعل على القومية الطورانية ونهاية لحكم الخلافة وبعد أن انزوى الفكر الإسلامي الذي تنصهر فيه القوميات في وحدة متعددة أو في تعدُّد موحَّد.٢ لقد استطاع الفكر الإسلامي القديم تمثيل غيره من الحضارات السابقة عليه، اليهودية والمسيحية والفارسية والهندية واليونانية. كما دخلَت فيه كثير من العقائد الشعبية والعادات والتقاليد والأعراف والأمثال العامية والحِكَم وسِيَر الأبطال، وكل أنواع التراث الشعبي الشفاهي أو المكتوب. الفكر بهذا المعنى «تاريخ الروح» أو «روح التاريخ». أما صفة «العربي» التي تستعملها أجيالنا الحديثة فإنها لا تُشير إلى أكثر من «المجتمعات العربية» أو «الأمة العربية» التي تتحدث العربية والتي تعيش في «الوطن العربي» من الخليج إلى المحيط، والتي تتحدث العربية والتي ارتبطت فيما بينها تاريخًا وتراثًا وثقافةً وعاداتٍ وتقاليدَ في الماضي وهمومًا ومصالحَ ومآسيَ في الحاضر، وتطلُّعات وآمالًا في المستقبل. لا تُشير صفة «العربي» إلى قومية أو فكر أو تمايز خاص في مقابل صفة «الإسلامي»، بل تُشير إلى «المجتمع العربي» الذي هو جزء من الأمة الإسلامية. فالفكر الإسلامي يضم المجتمع العربي والفارسي والهندي والتركي وكل الشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية والتي لم يحدث فيها توحيدٌ بين الإسلام والعروبة؛ نظرًا لوقوف حركة التعريب أو الوقوع أحيانًا في الشعوبية.٣
  • (٣)
    ويعني «التخطيط»: أن الفكر الإسلامي مسئولية المفكرين الإسلاميين، وأنه ليس مجرد نقل لفكر القدماء والتعريف به وعرضه وشرحه دون ما مراعاةٍ لظروف العصر واحتياجاته؛ وبالتالي يهدف التخطيط لتجاوز خطأَين شائعَين:
    • (أ)

      التعامل مع الفكر كخليط غير متجانس، كمذاهبَ وعقائد ونظريات ونظُم متضاربة عشوائية لا رابط بينها، ليس لها ظروف تاريخية معينة ساعدت على إفرازها. فتُعرَض نظريات التشبيه والتنزيه، النقل والعقل، الجبر والاختيار، الطاعة والخروج، الإيمان والعمل، الفيض والقِدَم، الأثر والرأي، النص والمصلحة، الفناء والبقاء … إلخ، وكأنها نظريات متعارضة، متساوية في القيمة، فيحدث التشتُّت، وتكافؤ الأدلة.

    • (ب)

      نقل ذلك كله وعرضه للمُحْدَثين دون ما مراعاةٍ لظروف العصر التي تُحتِّم اختيار نظرية دون أخرى، أي إسقاط الظروف التاريخية الحاليَّة من الحساب وكأننا نعيش خارج التاريخ مع أنها كانت حاضرة في الفكر القديم. فإذا تم الاختيار فإنه يحدث طبقًا للاختيار الأول، التشبيه دون التنزيه، والنقل دون العقل، والجبر لا الاختيار، والطاعة لا الخروج، والإيمان دون العمل، والفيض دون القِدَم، والأثر وليس الرأي، والنص وليس المصلحة، والفناء وليس البقاء … إلخ، ودون ما عرض للظروف التاريخية القديمة والصراعات الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء هذا الاختيار الأول، مع أن ظروف العصر الحاليَّة قد تُحتِّم الاختيار الثاني، التنزيه دون التشبيه، والعقل دون النقل، والاختيار لا الجبر، والخروج لا الطاعة، والعمل دون الإيمان، والقدم دون الفيض، والرأي لا الأثر، والمصلحة لا النص، والبقاء وليس الفناء … إلخ.

    يعني التخطيط إذن شيئَين:
    • (أ)

      معرفة الظروف التاريخية القديمة التي كانت وراء نشأة الأفكار والتي كانت وراء الاختيارات القديمة.

    • (ب)
      معرفة الظروف الحاليَّة التي تعيش فيها الأمة التي تُحتم إفراز فكر جديد أو اختيار بديل قد يتفق أو يختلف مع الفكر والاختيارات السابقة، خاصة وأن الأمة قديمًا كانت منتصرة متقدمة موحَّدة، والأمة الآن مهزومة متخلفة متجزِّئة.٤

    ولا يعني «التخطيط» مجرد وضع برامجَ عَملية كما يحدث في تخطيط التنمية، بل يعني التخطيط الشامل ابتداءً من التصورات والرؤى والمقولات والمفاهيم والألفاظ المستعملة، أي إنه تخطيط فكري وذهني أكثر منه تخطيطًا عمليًّا إجرائيًّا.

  • (٤)
    أما «الدور»: فإنه يعني أن الفكر الإسلامي وتخطيطه لا يعني مجرد عرض نظري لأفكار القدماء أو حتى لاجتهادات المُحدَثين اختيارًا أو إبداعًا، بل يعني أن للفكر دورًا يُؤدِّيه، ومهمةً يقوم بها، وفاعلية يُحققها، وهدفًا يسعى إليه. فنحن أمة بدأت بالفكر، وقامت على أساس الفكر مُمثَّلًا في التوحيد. وقد كان للتوحيد دورٌ في التاريخ في خلق وحدة فكر الأمة، ووحدة حضارتها، ووحدة شعوبها. وليس دور المفكر الإسلامي إذن التفرجَ على الفكر القديم أو عرضه أو اختيار حلوله اختيارًا عشوائيًّا طبقًا للاختصاص أو للمزاج أو للاهتمام أو للتكسب والتجارة أو بدافع التدرج الوظيفي ارتزاقًا بالمهنة وكسبًا للجوائز والمِنَح، بل يعني أن الفكر الإسلامي له دور كما كان للوحي دور، وهو ارتقاء الجنس البشري وتربية الإنسانية حتى ينتهي هذا الدور باكتمال الوعي الإنساني واستقلاله عقلًا وإرادة؛ ومن ثَم يقوم على خُطة مقصودة يهدف إلى تحقيق غاية قصوى في النهاية. وقد ظهرت الغائية في عقيدة الصلاح والأصلح، وفي الشريعة في تعليل الأحكام بغاياتها، وفي التصوف في اعتبار الإنسان قصدًا نحو هدف، وفي الفلسفة في إعطاء الأولوية للعلة الغائية باعتبارها علة فاعلة.٥
  • (٥)

    والدور هو بالضرورة دور «ثقافي» وليس دورًا سياسيًّا، أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا مباشرًا. فالدور يتحدد في الفكر، ويقوم به الذهن، يتعامل مع التصورات العقلية والقوالب الذهنية، فنحن مجتمع يعيش على الفكر، ويتوجَّه بالتراث. وذلك ليس مثالية وإعطاء الأولوية للفكر على الواقع، بل هو عين الواقعية ووصف الحقائق كما هي عليه. إن التعارض بين الفكر والواقع وأولوية كلٍّ منهما على الآخر بالتبادل طبقًا للمذاهب الفلسفية إنما أتانا من الفكر الغربي؛ فقد نشأ هذا التعارض في أول العصور الحديثة بعد تعرية الوعي الأوروبي من غطائه النظري الديني القديم، وحين بدأ الفكر يضع ذاته ويستنبط الواقع منه (ديكارت)، أو يكون مجرد رصد للواقع ثم يتم تجريده بالفكر (بيكون)، واشتداد الصراع بين المثالية والواقعية. وهذا كله لا شأن لنا به؛ إذ إن الواقع لدينا ما زال يقبع تحت غطائه النظري القديم لا يحتاج إلى تفسير جديد. كما أن الفكر لدينا، وهو الوحي، قائم على الواقع منذ البداية في «أسباب النزول» وفي «الناسخ والمنسوخ» وفي الاعتراف بالقدرة والأهلية، وعدم تكليف ما لا يُطاق، إلى آخر ما هو معروف من مبادئ الشريعة.

    وربما كان أحد أسباب الرِّدة في الثورات العربية المعاصرة هي أنها حاولت تخطيط دور في المجتمع بتغيير الأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون تغييرٍ مماثل على مستوى الأبنية الثقافية والقوالب الذهنية، فانقلبت إلى ثورة مضادة، سواء على مستوى الأبنية التحتية (العودة إلى الرأسمالية) أو على مستوى الأبنية الفوقية (الحركة السلفية). وأصبحت الثورة المضادة على المستويَين معًا تُقدم نفسها كبديل حتمي للثورة العربية كلها، وظهرَت الحركة السلفية كبديل حتمي مطروح للحركة العلمانية كلها. وضعت الثورة العربية المعاصرة العربةَ أمام الحصان لدى شعوب تتحكم أبنيتها الثقافية وقوالبُها الذهنية في نظُمها الاجتماعية وأوضاعها السياسية. فما كان أسهلَ من تغيير الأوضاع والنظم بقرارات من السلطة، مرة شرقًا ومرة غربًا، مرة اشتراكية ومرة رأسمالية، والأبنية الذهنية لم تتغير، بل ازدادت رسوخًا كرد فعل على تَهرُّؤ المذاهب العلمانية وهزائمها.

    الدور الثقافي إذن هو الأبقى، وهو الأقدر على الحفاظ على كل مكتسبات الثورة العربية المعاصرة، بل وعلى مكتسبات النهضة التي بدأناها في القرن الماضي إن كانت ما زالت باقية. الثورة الثقافية هي الثورة الدائمة، الثورة التي تُغيِّر مجرى التاريخ، الثورة التي تنبع من «روح التاريخ» أو تنبثق من «تاريخ الروح»، والتي لا تنشب فقط من مجرد انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة، يقوم بها الضباط الأحرار أو التنظيمات السرية سواءٌ كانت إسلامية أو ماركسية.٦ وبطبيعة الحال، يكون ذلك دور المثقفين، فليس المثقف هو المتعلم أو العالم، بل الذي تحولت الثقافة لديه إلى وعي بالذات وبالتاريخ. وليس مصدر الثقافة وحده هو المكتوب بل قد يكون الشفاهي، وبالتالي يكون أيضًا للمثقفين العاميين دور من خلال التراث الشفاهي. وقد كان الوحي تراثًا شفاهيًّا قبل أن يُصبح مدونًا.
  • (٦)

    والتخطيط لهذا الدور هو الذي سيكشف البُعد المستقبلي في وجداننا المعاصر وجذوره في الفكر الإسلامي؛ فالمستقبل هو هم الجميع لا هروبًا من الماضي وكرد فعل على الحركة السلفية وعلى نقيضٍ منها، أو هربًا من الحاضر وكرد فعل على هزائمه وكأن المستقبل سيأتي معه بحلول للحاضر رجوعًا إلى الوراء، بل يعني المستقبل رؤية شاملة تضع الفكر الإسلامي في منظور تاريخي، وكحلقة متصلة من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، دون إخراجه من الزمان أو ابتساره في إحدى لحظاته. ويقوم بهذا الدور عدة أجيال وليس جيلًا واحدًا لأنه «مشروع رؤية» تتحقق على فترات؛ فالتاريخ مراحل، والأجيال متعاقبة، والأدوار متصلة.

    والتعرض للمستقبل ليس تبعية للدراسات المستقبلية أو علوم المستقبل المعروفة في الغرب والتي أصبحت بريقًا عند المعاصرين منا، ومفتاحًا سحريًّا لمشاكل الجيل، بل ضرورة داخلية للفكر الإسلامي؛ نظرًا لامتداد جذوره في الماضي، وتراكمه في الحاضر وترسبه فيه. وبالتالي يكون بُعده المستقبلي ضرورة تاريخية نظرًا لامتداده في الزمان واتصال أبعاد الزمان الثلاثة. كما أنه لم يغب في تراثنا القديم في أمور المَعاد في علم أصول الدين، وفي الاتصال بالعقل الفعال وخلود النفس في علوم الحكمة، وفي تطور النبوة ومستقبلها ودور الولاية والإلهام والغاية في علوم التصوف، وكما ظهر في مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه. وبالتالي فإن هم المستقبل موجود في الفكر الإسلامي إلا أنه كان همًّا بما سيحدث بعد الموت؛ فقد كانت الدنيا عند القدماء تحت سيطرتهم، وكانوا سادتها في حين أن المهم لدينا هو هم الدنيا بعد أن فقدنا سيادتنا عليها، وأصبح غيرنا هم سادتها وسادتنا.

    وفي النهاية، يصعب على المفكر في أمثال هذه الموضوعات أن يجد وسطًا متناسبًا، وميزانًا متعادلًا بين العلم والحماس، بين العقل والانفعال، بين الموضوعية والغضب، بين التحليل والصرخة، بين الفكر والألم؛ فالمفكر هنا يُحلل ذاته، ويصف واقعه، ويُعبر عن همه بلغة العقل وبرود المنهج وهدوء الموضوعية. كما أنه يصعب عليه إيجاد لغة متسقة بين التعبير عن الأشياء ذاتِها أو عن تجارِب الأنا والنحن التي من خلالها تظهر الأشياء، وبالتالي يتردد المفكر بين ضمير الغائب للإشارة إلى الأشياء وبين ضمير المتكلم للإشارة إلى التجارِب الذاتية. ومع ذلك فإن تحليل التجارِب المعاصرة التي يعيشها الجميع تكشف عن المادة العلمية أكثر مما تكشف عنها المواد المكتوبة في المراجع العلمية القديمة والحديثة. فهذه أيضًا كانت تجارِبَ عند أصحابها ثم تحولت إلى تاريخ.

١  العلوم النقلية خمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والفقه، والسيرة. والعلوم العقلية تشمل العلوم الرياضية مثل الحساب، والجبر، والهندسة، والفلك، والموسيقى، ومعها العلوم الطبيعية مثل الطبيعة، والكيمياء، والنبات، والحيوان، والطب، والصيدلة. ومعها أيضًا العلوم الإنسانية مثل اللغة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ. أما العلوم النقلية العقلية فأربعة: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف.
٢  يُشير إلى ذلك القرآنُ بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … [الحجرات: ١٣].
٣  تُظهِر صفة «العربي» في صياغة السؤال الأول، مدى ما يُمكن أن يستلهمَه المجتمع العربي في قيمته المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه؛ فالصفة هنا للمجتمع وليس للفكر.
٤  د. حسن حنفي: «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٥  د. حسن حنفي: «لسنج: تربية الجنس البشري»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٦  انظر دراستنا: «الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟»، قضايا عربية، سبتمبر (أيلول) ١٩٧٩م، «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، في الثقافة الوطنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤