سابعًا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية

إذا كان التقابل الذي يصنعه المؤلف بين مصر وتونس، المشرق العربي والمغرب العربي، والعروبة وفلسطين يُمثل مواقف فكرية وسياسية فإن اعتبار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كإطار نظري لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي تتم الإحالة إليه باستمرار هو نوع من التغريب النظري والمنهجي صاحبَ المؤلفَ من أول الكتاب إلى آخره. بل إن استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار إنما يكشف عن موقف حضاري أبعدَ وأعمق، وهو فهم الأنا أو الذات بالإحالة المستمرة إلى الآخَر أو الغير، وكأنَّ الأنا أو الذات ليس لها إطارها النظري الخاص ولا يُمكن فهمها بتكويناتها الداخلية أو باستعمال الإطار النظري الخاص بها من داخل حضارتها التي تكوَّنَت فيها الحضارة الإسلامية، وكأنَّ الأنا لا تعكس نفسها إلا في مرآة الآخر، لا تعي ذاتها بذاتها كأنَا إلا من خلال الآخر كمقياس ومعيار للحكم. إن من شروط التعريف هو عدم تعريف الشيء المجهول بشيء آخر مجهول بل تعريفه بشيء معلوم، وإن القارئ العربي الإسلامي الذي يُريد معرفة ذاته وشخصيته العربية الإسلامية ومصيره العربي لا يستطيع أن يعلمها بالذَّهاب إلى البوربون والهبسبورغ والبلغار والسلاف والبروتستانت والكاثوليك وأوغسطين ومردال وسِنسِناتوس Cincinatus، بل الإحالة إلى الخلفاء الراشدين والأُمويين والعباسيين والخلافة العثمانية. وإن القارئ العربي لا يفهم ذاته وشخصيته بالإحالة إلى سارتر وميرلو بونتي وفرويد واشبنجلر، بل بالإحالة إلى الأشعري والغزالي والباقلَّاني وابن سينا والرازي وابن عربي. ألا يستطيع القارئ الذي لا يعرف كل هذا التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية أن يفهم ذاته وشخصيته؟ وإذا كان المثقفون العرب لا يعلمون هذا الإطار المرجعي الغربي بالدرجة الكافية فالأَوْلى ألا تعرف جماهير القراء ذلك. بل إن القارئ العربي الذي يعرف التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية لَقادرٌ أيضًا أن يعرف ذاته بالإحالة إلى مكوناته الشخصية ومخزوناتها النفسية ورواسبها القديمة. لا يقع المؤلف فقط في نوع من التغريب يعترف به بادئ ذي بدء.١ بل إن التغريب لديه يتحول إلى نوع من الاغتراب، اغتراب الأنا في الآخر، مع أن من مكونات الشخصية العربية الإسلامية كما فهمها القدماء فهْمَ الآخر من خلال الأنا، وإعادة بناء حضارات الآخر يونانية ورومانية وفارسية وعبرانية ابتداءً من حضارة الأنا. بل لقد استمر ذلك عند رواد النهضة العربية الحديثة وفي مقدمتهم الطهطاوي سواءٌ في «مناهج الألباب» أو في «تخليص الإبريز»، وهم الرواد الذين أسقطهم المؤلف من الحساب كما أسقط التراث القديم، بعد أن اختار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كأساس نظري لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وكإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار.
والأمثلة على ذلك كثيرة. والنصوص تشهد على أن القارئ العربي لا يفهم شخصيته العربية الإسلامية بالإحالة إلى مكونات الشخصية القومية في الغرب. ألا يُمكن فهمُ الشخصية العربية الإسلامية دون الإحالة إلى الجرمان والإسبان والسلاف والمجر والبلغار؟ هل لا بد لفهم الشخصية العربية الإسلامية من المرور عبر الإمبراطورية الرومانية والغاليين في بلاد غاليا والبروطون في مقاطعة بريطانيا والسلتيبار في أسبانيا، والظاهرة الجرمانية والعصر النيوليتي ومملكة شرلمان والحرب بين ورثة لويس الزاهد؟ هل لا بد من تحليل العناصر المكوِّنة لظهور الشخصية القومية الأوروبية لفهم الشخصية الإسلامية العربية دون التحقق من صدق المفهوم أولًا ثم البحث عن مكوناته الداخلية في التراث القديم بدلًا من الإحالة إلى تاريخ الغرب وثقافته، النزعة الكسمبوليتية للأُسَر الأميرية في أوروبا والملك أصيل بلاد هانوفر وأسرة هابسبورغ وأسرة بوربون وعرش اسبانيا وعرش إنكلترا؟٢ وتتجاوز الإحالة من مجرد منطق للتقريب والفهم إلى منطق للحكم. فتكوين الشخصية القومية في الغرب يُصبح هو المعيارَ الذي يُقاس عليه تكوين الشخصية العربية الإسلامية، وكأن هناك نمطًا واحدًا فريدًا هو النمط الأوروبي عليه تُقاس كل النماذج لدى الشعوب الأخرى. فهو النموذج العالمي الذي انتشر في أوروبا الغربية والشرقية والوسطى منذ القرن الماضي، عصر القوميات حتى هذا القرن مرتبطًا بزوال الاستعمار وكأنه لم يستمر في الصِّهيونية باعتبارها من بقايا عصر القوميات في القرن الماضي.٣ وتأخذ فرنسا مكانًا مرموقًا في التاريخ الأوروبي كما أخذت تونس المكانة نفسَها في العالم العربي. فالثورة الفرنسية نموذج الشخصية القومية بعَلَمها المثلَّث الألوان وعيدها ونشيدها الوطني لفترة طويلة بشهادة بيجي وميرلو بونتي! وهي كذلك بما أعطت لها من تضامن قومي وولاء وطني للأمة وليس لشخص الملك وبطابعها الديمقراطي وسيادة الأمة. بل إن الأمر تجاوز حدَّ الهوامش الشارحة للتاريخ الفرنسي، شرح فرنسا بفرنسا والمستشارين البروتستانت لآخر ملوك الغالوا وتعاليم ريشيليو وعدله وتسامح لويس الرابع عشر، كل ذلك لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي!٤ ثم يأتي النموذج الألماني والأنجلوسكسوني والسوفياتي والأمريكي إلا النموذج الإسلامي العربي. فالنموذج الألماني يعتمد على التراب والعرق بجانب اللغة والدين. ويعتمد النموذج الأنجلوسكسوني الأمريكي على المجال الاقتصادي الواسع المنفتح على كل الطاقات البنَّاءة. ويقوم النموذج السوفياتي على قوة الأيديولوجية الماركسية كرسالة كونية توحيدية قادرة على التجنيد القومي للشعوب.٥ فالمؤلف يعرف تاريخ نشأة القوميات وتطورها في الغرب والشرق ويُحيل الشخصية الإسلامية العربية إليها دون تعميق لجذور هذه الشخصية في التوحيد الذي قام بالدور نفسِه الذي قامت به الأيديولوجية الماركسية بالنسبة لانصهار القوميات.
وتكثر الإحالات إلى المؤلفين الغربيين سواءٌ من العصور الوسطى أو الحديثة مثل سنسناتوس وأوريجان وسيريل وأوغسطين وماركس وفرويد واشبنجلر ومردال وسارتر في صراعه مع الرومان بالرغم مما في وجه المقارنة من تعسف وحكم جائر على الحسين شهيدًا ووصفه بأنه كان متعطشًا للحكم! وتُوصَف مصر المسيحية بأثر أوريجان وسيريل ومجمع خلقيدونية. ويتساوى في الثقافة العربية في المغرب العربي القديس أوغسطين وابن خَلدون وخير الدين باشا! والتاريخ باعتباره قاعدة أساسية للوعي القومي يعتمد بالضرورة على شهادة لاشبنجلر بالضرورة حتى ولو كان التشبيه أعجميًّا مثل «زاوية المدخن!». واقتران النظر بالعمل في الإسلام لا يوجد فقط عند الرسول محمد بل أيضًا عند ماركس. وتحليل الشعور العربي الإسلامي لا يتم إلا بالإحالة إلى فرويد في «مستقبل وهم» وإلى ميرلو بونتي حتى ولو كان الاستشهاد صعبَ الفَهم ركيكَ العبارة، وهو الذي يشعر المؤلف نحوه بقرب كبير، ووصف الخلق عن طريق سارتر والعالم العربي عن طريق مردال.٦ بل إن الحديث عن أيديولوجية البعث يتم أيضًا عن طريق الإحالة إلى الثقافة الغربية؛ سواءٌ في إنكاره للمادية التاريخية، أو في تأثر ميشيل عفلق برونبرغ والهيجلية والشخصانية.٧ حتى الخاتمة لم تسلم من استشهاد بمالرو ونقضٍ له فيما يتعلق بطيِّ صفحة التاريخ بطي صفحة اللاهوت.٨ إن تعريف الشيء الغامض بشيءٍ آخر أكثرَ غموضًا لا يتفق مع قواعد التعريف، وبالتالي فإن إحالة مكونات الشعور العربي الإسلامي الحالي إلى مكونات الشعور الغربي هي إحالة للشيء الغامض إلى شيء أكثر غموضًا، مع أن الإحالة إلى التجارِب المعاشة أو إلى المخزون التراثي الثقافي يُساعد على التوضيح المطلوب.
وتبدو مظاهر التغريب في دراسة الشخصية العربية الإسلامية؛ سواءٌ في الأحكام العامة أو في النظرة إلى التاريخ والعصور أو في بعض المصطلحات أو في المراجع العامة. فمن الأحكام العامة ما يقوله المؤلف من أنَّ تقهقر المشرق العربي وتقدم المغرب العربي ثقافيًّا — مع التسليم جدلًا بذلك — إنما يرجع إلى أن المشرق العربي لم ينهل من باع الثقافة الغربية قدر ما نهل المغرب العربي مما أغرق المشرق في القديم وقطعه عن الحداثة، في حين أن المغرب العربي قدَّم حلولًا لمشكلة التقليد والحداثة مازجًا بين الاثنَين. ومثل هذا الحكم يقوم على وضع معكوس، وذلك لانفتاح المشرق على الغرب منذ القرن الماضي بلا حدود، كما أن انفتاحه كان متنوعًا وليس فقط على الثقافة الفرنسية. والإغراق في القديم سِمةٌ عامة في المشرق والمغرب على حد سواء. بل إن المزاوجة بين القديم والجديد أكثر وضوحًا في المشرق على ما وضح في حركات الإصلاح منه في المغرب الذي تحولت فيه المزاوجة إلى ازدواجية وصراع بين الجديد الذي مثَّلَته ثقافة المستعمر وبين القديم الذي مثَّله التراث دفاعًا عن الهوية الوطنية. وما يُقدمه المغرب العربي في هذا العصر يُشابه ما قدمه الشوامُ في العصر الماضي، يُصبح البعض منه قريبًا من الشقشقات اللفظية التي تردَّد جوانب عديدة من ثقافات الحي اللاتيني. أما بالنسبة للتاريخ والعصور فإن المؤلف يعتبر الإسلام جزءًا من تاريخ العصر الوسيط، وكأنه يتبنَّى الغرب كمقياس لكل الحضارات، فتاريخ الغرب وعصوره الوسطى والحديثة والمعاصرة هي تاريخ لكل الحضارات وعصورها. فالمؤلف يقع ضحية المركزية الأوروبية والتي تجعل ما سواها مجرد أطراف. يتحدث المؤلف عن إسلام العصر الوسيط والإسلام التركي المتوسطي، وعن بِنْية الدولة في البلاد العربية خلال العصر الوسيط والحديث. وفي العصور الحديثة يتبنَّى المؤلف التاريخ الميلادي ويُسقط من حسابه التاريخ الهجري، فيتحدث عن ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وعن السلطان خليفة المسلمين في القرن السادس عشر.٩ ويستعمل المؤلف مصطلح البرجوازيات، والبرجوازية الصغرى نظرًا لاستقرار المصطلح وشيوعه في الفكر العربي المعاصر. أما بالنسبة إلى المراجع فإن نسبة المراجع العربية إلى المراجع الأجنبية كنسبة ١ : ٧. فمن بين ١٦٢ مرجعًا هناك ٢١ مرجعًا عربيًّا في مقابل ١٤١ مرجعًا باللغات الأجنبية منها ١٧ مرجعًا لمفكرين عرب، ٤٧ مرجعًا لمستشرقين أوروبيين، وبالتالي نسبة الاستشراق العربي إلى الاستشراق الأوروبي ١ : ٣. ولا تدخل في المراجع مؤلفات الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين في دراسة الشخصية العربية الإسلامية!

إن أهم نقد يُمكن إذن توجيهه إلى الكتاب هو استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وهو «التغريب» كأساس نظري لتحليل الموضوع. ويُمكن إرجاع ذلك إلى سببَين رئيسيَّين. الأول طول العلاقة بين الأخوة المثقفين في المغرب العربي والثقافة الأوروبية خاصة الفرنسية منها جعل الغرب يظهر في ثقافته كإطار مرجعي حتمي تتم الإحالة إليه باستمرار كما هو الحال قديمًا وحديثًا لدى الإخوة الشوام خاصة في لبنان. والثاني أن الكتاب أصلًا مكتوب باللغة الفرنسية ويهدف إلى مخاطبة الجمهور الفرنسي، وبالتالي أصبحت الإحالة إلى الثقافة الغربية ضرورية حتى يُمكن للقارئ الغربي عامة والفرنسي خاصة أن يفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي بسهولة ويسر وبالإحالة المستمرة إلى تاريخه وثقافته. ولو كان الكتاب أصلًا باللغة العربية للجمهور العربي لما ظهرت هذه الإحالة المستمرة إلى الثقافة الغربية ولتم استعواضها بالثقافة العربية الإسلامية التي يعرفها القارئ العربي والتي يسهل إحالة الموضوعات إليها تقريبًا للأفهام.

١  «فيمكن وصفه (الكتاب) بأنه متغرب وسلفي وأيديولوجي وروحاني» (ص٩).
٢  «وبمفعول التلاحق التاريخي: التقليد اليوناني-الروماني، الهندي-الصيني، والعربي-الفارسي منذ أن اكتسح الجرمان الأرض الرومانية إلى أن أُعيد ترسيخ الشخصية الإسبانية في شبه الجزيرة الإيبيرية التي استردت كلها مرورًا باستقرار الأمم السلافية وقدوم المجر وإنشاء مملكة البلغار والظاهرة التركية المغولية» (ص٣٢). «كانت الإمبراطورة الرومانية بناءً سياسيًّا ثقافيًّا فرض هيمنته على شعوب متفردة محددة في كيانات جغرافية قارة كالغاليين في بلاد غاليا والبروطون في مقاطعة بريطانيا والسلتيبار في اسبانيا والمغاربة في أفريقيا … إلخ. وبتدخل الظاهرة الجرمانية وظهور ممالكَ متميزة، جدَّ تدهور في مشروع توحيد العالم. على أن الظاهرتَين كانتا سببًا في نشوء بناءات سياسية أكثر التصاقًا بالواقع القومي انبعثت من العصر النيوليتي (الحجري الجديد)، وكان لتقسيم مملكة شرلمان أن حصلت فسيفساء الأمم الغربية الأوروبية المقبلة على وجهها النهائي، فظهرت خاصة مملكتا الفرنجة الشرقية والغربية بمعاهدة فردان. وتتضح الارتباطات القومية حين تنشأ الحروب بين الأشقاء ورثة لويس الزاهد، لكنها كانت ارتباطاتٍ غيرَ واعية نجمَت عن الكوارث السياسية والضغائن الحربية» (ص٣٣) «والعنصر الثالث الذي يعتبر في شرح ضعف الشعور القومي هو بنية الدولة في البلاد العربية في العصر الوسيط والحديث، ومن الغريب أن نُلاحظ أن النزعة الكسمبوليتية للأسر الأميرية في أوروبا لم تمنع قط أن تتكيَّف هذه الأسر تكيفًا وثيقًا بالواقع القومي الذي سريعًا ما تحملت آماله وطموحاته. إن الملك أصيل بلاد هانوفر إذا ارتقى عرش إنكلترا كان يعمل في الحال على أساس السياسة الإنكليزية حتى ولو تمادى وتحدث باللغة الألمانية، وكذلك الملك من أسرة هابسبورج أو من أسرة بوربون إذا اعتلى عرش أسبانيا فهو يتبنى المطامع الأسبانية، لكن ليس هذا هو الأمر الأساسي في مقولتنا؛ لأن ما يقع اعتباره هو الدور الرئيسي الذي لعبته بعض الأسر المالكة في بناء الأمم الأوروبية انطلاقًا من التشتت الجهودي والإقليمي. فهل كان الأمر كذلك في بلدان العالم العربي؟» (ص٣١).
٣  «ولكن نظرة تاريخية خاطفة تُتيح التأكيد أن الأمة لم تتحقَّق تمامًا بالتحديد في أوروبا الغربية إلا بدايةً من القرن التاسع عشر وهو قرن القوميات بالذات، ثم إن النموذج الأوروبي الغربي امتد إلى أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية خلال النصف الأول من القرن العشرين، ثم إنه لاقى رواجًا في النصف الثاني من هذا القرن كان متناهيًا، وارتبط بزوال الاستعمار فجعله يُطابق الأبعاد العالمية» (ص٤٨).
٤  «إن الثورة والإمبراطورية هما اللتان صنعتا فرنسا الحاليَّة مباشرة وفورًا. إن فرنسا مدينة لهما بتنظيمها الإداري وبنياتها الاجتماعية وصورها الفكرية. ومن الثورة اقتبست أيضًا رموزها القومية كالعَلم المثلَّث وعيد ١٤ يوليو والنشيد الوطني (لامارسياز). فغالبًا ما توجد في تاريخ الشعوب فترات ممتازة استثنائية يُشيد خلالها المستقبل لفترة طويلة كما اصطلح على ذلك بيجي واقتبس هذا الاصطلاحَ مارلو بونتي. يُقابل مارلو بونتي بين العصر فيُعرِّفه بأنه «واحد من تلك الأزمنة التي تنهار خلالها الأرضية التقليدية لأمة من الأمم أو مجتمع معين، ومهما كان الوضع فعلى الإنسان أن يُعيد بنفسه بناء العلاقات البشرية وبين الفترة حين يقتصر الإنسان السياسي على إدارة نظام أو حق موضوعَين.»» (ص٤٦٧). «لقد علمَنا التاريخ أن فرنسا الثورة هي التي حددت بأقصى الوضوح فكرة الأمة. الواقع أنه أمكن لهذا البلد أن يعقد منذ القرن السادس عشر بامتلاكه لواقع قومي متين مؤسَّس على الجغرافيا ولغة وضعت للثقافة ووحدة حضارية معينة فضلًا عن أن الدولة كانت صاحبة السيادة تتحمل طموحات الأمة ومصيرها الملقى على عاتقها. كانت الدولة الفرنسية متعسفة نجاه الحضارات الجهوية التي كانت حية في الماضي وقد أثبتت باستمرار ومنذ أن تولى الكابيسان الحكم أنها عبارة عن جهاز جمَّاع للأراضي وقبيل الثورة بقي الحدث القومي منقوصًا من وجهَين؛ لما كانت عليه الخصوصيات الجهوية من قوة، ولأن الوعي القومي في أعلى مستوى لم يتجاوز مرحلة الولاء للملك. وقد كانت الإضافة الرئيسية للثورة متمثلة في توسيع قواعد التضامن القومي واستبدال الوطنية التي كانت ولاء للملك — الدولة بوطنية تتعلق بالأمة المجردة بحيث إن هذه الحركة العظيمة التي أرادت إضفاء الديمقراطية على السلطة والتي أرادت تحقيق السيادة الشعبية وحققت في أن الأمة الفرنسية بصفتها كيانًا منسجمًا» (ص٣٨). ويذكر المؤلف في الهامش «تحالَفَ (لويس الرابع عشر) مع الأمراء البروتستانت وحارب أسبانيا وأكد بقوة مبدأ الفاليكانية (الدفاع عن حرية كنيسة فرنسا) لكنه ألقى مرسوم نائط الخاص بالبروتستانت» (ص٣٥، هامش ٤).
٥  «وهناك النموذج الألماني، وهو صنف آخر. لا شك أنه لا يمكن إنكار وجود أساس ترابي قارٍّ وأن الأساس العرقي الثقافي كان ملتحمًا ومتى تشكلت اللغة والثقافة الموحدتَين على مراحل، فكانت اللغة التودسك ثم ألمانية لوثر وأخيرًا لغة غوته الفُصحى. لكن القضية التاريخية لألمانيا وما فيها من تناقض هي فقدان الدولة القومية، فترتب عن ذلك إخماد كل وعي واضح الذي بقي لا محالة ضمنيًّا، وكان معاشًا كانتماء إلى مجموعة تاريخية ثقافية لكنه كان مُعاقًا على الصعيد السياسي بسبب تعدُّد الدول واستمرار فكرة الإمبراطورية. وجدَّ الصدام مع الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون كما جدَّ اضطراب فكري حامٍ عوضت به العبقرية الألمانية غيابها عن الرَّكْب السياسي. فوترت هذه الأمور الطاقات ووجهتها إلى تحقيق الدولة القومية التي ربطها رجال الفكر بالطموح إلى الحرية، لكن لم يكن نظام الرايش في حكم بيسمارك سوى تركيبٍ رخو نسبيًّا ومِن صُنع القوى الرجعية. وقد بلَغ التوحيد الذروة مع النازية في جوٍّ من الحدَّة والهيجان لا ضمن التوازن الديمقراطي وتقبل قيم العالم الحديث تقبلًا هادئًا» (ص٤٨-٤٩). «انطلاقًا من بوتقة لغوية أنجلوسكسونية دعمت الولايات المتحدة وحدتها على كل الطاقات البناءة. إن تماسُك الاتحاد السوفيتي يستند إلى قوة الأيديولوجيا الماركسية، أي إلى مشروع رسالة كونية توحيدية وإلى تحدٍّ للتأخر الذي تراكم عدة قرون. في الصورة الأولى هناك تجاوز للتجذير القومي لموجات المهاجرين. أما في الصورة الثانية فهناك تجاوز لفسيفساء الشعوب الموجودة مسبقًا والتي منها يتركب الاتحاد السوفياتي. وقد ترك في آنٍ واحد المجالَ للحدث القومي لكي يتطور في دائرة معينة بها يندرج الإنساني ويجد ترضيته حسب المعنى الذي أعطاه هيغل لهذه الكلمة» (ص٧٠).
٦  «وإن حسينًا كان متعطشًا للحكم ولم يكن يُشبه سنسناتوس Cincinnatus الذي اقتلعه الرومان عن محاربته ونصبوه دكتاتورًا» (ص٣٩). «وقد تأثرت (مصر) سابقًا بحضور أوريجان الذي أثر بقوة على تطور المسيحية بالاشتراك مع سيريل أصيل الإسكندر. وكانت العامة مولَعة بنتائج خلقيدونية، وكانت تُساهم في خصومات الأساقفة والحكام البيزنطيين» (ص٣٢). «القديس أوغطسين، ابن خَلدون، خير الدين باشا» (ص٧). «إن التاريخ الأكثر وجودية والأكثر محسوسية مباشرة هو ذلك الذي يُسميه اشبنجلر فيما أظن تاريخ زاوية المدخن حيث بواسطته تستعرض ملاحم الأجداد عَودًا إلى جيلَين أو ثلاثة» (ص٤٥). «مصاحبة النظرية للعمل المحدد عند محمد وماركس» (ص٨). «قال ميرلو بونتي إن الحركة تنجح حينًا ليست دائمًا الأكثر حقًّا والأكثر قيمة، لكن يجب أن تكون كذلك لو كان عليها أن تستمر» (ص١٢٢). «وهو الذي أشعر نحوه بقرب كبير» (ص١٢٩). «وكما قال فرويد بصورة بارعة في كتابه «مستقبل وهم»» (ص٢١٢). «الحديث عن الخلق عن طريق سارتر». (ص١٣٤). «وعن العالم العربي عن طريق مردال» (ص١٨٧–١٩١).
٧  «إنكار البعث للمادة التاريخية» (ص٦١). «وفيها (البعثية) تتجاور وتلتقي مؤثرات متباعدة مثل الهيغلية والشخصانية التي أتى بها مونييه. تجد بإيماء من هيغل الشاب إدانة للعالمية المجردة دون أن يُمكن التدليل على التقاءٍ مباشر. وأيضًا الفكرة القائلة إن الأمة تُحقق العالمية. ولعل مفاهيم الحياة والمصير وبصفة عامة ما نجد من اتجاه حيوي تاريخي متأتية كذلك من هيغل» (ص٦٣).
٨  «ولن تنصهر الخصوصيات فيما بينها وتشكل الكوني، لكنها قادرة كلها على التحلل في هذا الوسط حين نكون قد طوينا صفحة التاريخ بعد أن نكون قد طوينا صفحة اللاهوت. فإذا عوَّض التاريخ اللاهوت حين يُعوض الكائنُ التاريخي الكائنَ المتعاليَ فحسب — وذلك استشهادًا بمالرو ونقصًا له — فلن يخلف الكوني التاريخ إلا حين يمتصُّ المصير الكائنات التاريخية. وعندئذٍ لن يُوجَد تركيب بل ذوبان. وسيكون كياننا بتمامه مصيرَنا كما أن مصيرنا سيكون كياننا» (ص٢٢٤).
٩  «الإسلام التركي المتوسطي» (ص٧). «كان تاريخ العهد الوسيط رئيسًا حيث وضع فسيفساء الأمم على أراضيها الحيوية» (ص٣٢). «فهل نحن عرب مثل عرب القرن السابع للميلاد (…)» (ص١٥). «وأصبح السلطان خليفة المسلمين من القرن السادس عشر» (ص٣١). «وإن آخر العهد الوسيط رسم خطوطها الأولية» (ص٣٨). «ولنتمثل بتونس من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر» (ص٣٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤