خامسًا: الموقف من التراث الغربي

لا تعني الدعوةُ إلى تحجيم الغرب وردِّه إلى حدوده الطبيعية،والقضاءِ على أسطورة عالَميَّته وبيانِ محلِّيته مثلَ أي تراث آخر، وأن عصر الهيمنة الأوروبِّية هو الذي أفرز هذه الهيمنة الثقافية؛ لا يعني كلُّ ذلك أيَّ دعوة إلى الانغلاق أو العودة إلى جنون الذات أو رفض التعرُّف على الغير والانفتاح على الآخر؛ فتلك لم تكن سُنةَ القدماء الذين تفتحوا على الثقافة المجاورة، وفي مقدمتها اليونانية، وتمثَّلوها وعرَفوها واحتوَوْها داخل الإطار الحضاري الخاص، بل يعني أن فترة التعلم قد طالت، وأن فترة التتلمذ قد امتدت، فنحن نتعلم منذ قرنَين وما زالت مرحلة الإبداع بعيدةً في الأفق. إن التعلم من الغير وسيلة لا غاية، ومرحلة وليس تاريخًا، ومجرد باعث ومحرك وليس بديلًا عن الشيء ذاتِه. لقد تعلم القدماءُ قرنًا واحدًا هو القرن الثاني، وما إن أتى القرنُ الثالث حتى ظهر الكِندي أولُ الحكماء بادئًا علومَ الحكمة. لقد كانت الدعوة إلى الانفتاح على الغرب لها ما يُبرِّرها في أوائل القرن الماضي نظرًا إلى التحدي الحضاري الذي كان يُمثله الغرب علمًا وصناعة وحرية وديموقراطية، ودستورًا ونظمًا برلمانية، ونهضةً وتقدمًا وعُمرانًا. ولكن نظرًا إلى طول المدة انقلب الانفتاح إلى الضد وهو التقليد، والتعلم إلى تبعية. فنشأت ظاهرة «التغريب» في حياتنا الثقافية وفي وعينا القومي، والتي تبدو في الآتي:
  • (١)

    اعتبار الغرب النمطَ الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمطَ سواه، وعلى كل شعب تقليدُه والسيرُ على منواله، وقد أدى هذا بالتالي إلى إلغاء خصوصيات الشعوب وتَجارِبها المستقلة، واحتكار الغرب حقَّ إبداع تجارِبَ جديدة، وأنماطٍ أخرى للتقدم.

  • (٢)

    اعتبار الغرب مُمثلَ الإنسانية جمعاء، وأوروبا مركزَ الثقل فيه. تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية، الغرب فيه يصب كل شيء. ما قبله بدايات التاريخ البشري كما يقول هردر، وما بعده عصر الفضاء الذي يمتلكه الغرب. عصور الغرب هي عصور الكل، فالعصر الوسيط هو العصر الوسيط لكل العالم، والعصر الحديث هو العصر الحديث لكل الشعوب، مع أن وسيطنا هو نهضتنا، وحديثنا هو تخلُّفنا، ومستقبل الغرب هو نهضتنا.

  • (٣)

    اعتبار الغربِ المعلِّمَ الأبدي و«اللاغرب» هو التلميذَ الأبدي، وأن العلاقة بينهما أُحادية الطرَف؛ أخذٌ مستمر من الثاني، وعطاءٌ مستمر من الأول، استهلاك مستمرٌّ من الثاني، وإبداعٌ مستمر من الأول. ومهما تعلم التلميذ فإنه يَكْبر تلميذًا، ومهما شاخ الأستاذ فإنه يظَل معلمًا. ولن يلحقَ التلميذُ بالأستاذ لأن معدَّل الإبداع أسرعُ بكثير من معدل الاستهلاك، فيجري التلميذ لاهثًا وراء المعلم ولن يلحقَ به، وكلما جرى ازدادت المسافة اتساعًا، حتى يُدرِكَ الصدمة الحضارية فيقع، ويُدرك قدَرَه، ويرى مصيرَه.

  • (٤)

    ردُّ كل إبداع ذاتي لدى الشعوب غير الأوروبية إلى الغرب؛ فكل دعوة إلى العقل ديكارتية أو كانطية، وكل دعوة إلى الحرية ليبرالية غربية، وكل نِضال من أجل العدالة الاجتماعية ماركسية، وكل اتجاه نحوَ العلم وضعية، حتى أصبح الغرب هو الإطارَ المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي غير أوروبي، كما كان الحال مع الحكماء الأوَّلين بالنسبة لليونان، فخرج ابن رشد أرسطيًّا.

  • (٥)

    أثر العقلية الأوروبية على أنماط التفكير عامة، وعلى كل عقلية ناهضة. فالعقلية الأوروبية هي العقلية التي تضع كلَّ طرَفَي معادلة في علاقة تضادٍّ مثل: مثالية أو واقعية؟ صورية أو مادية؟ ذاتية أو موضوعية؟ فردية أو اجتماعية؟ عقلانية أو حسية؟ كلاسيكية أو رومانسية؟ وقد أثرَت فينا العقلية الأوروبية حتى نقلنا أنصافَ الحقائق هذه إلى ثقافتنا وتراثنا وتحزَّبْنا لها حيث لا أحزاب، واختَرْنا بينها حيث لا اختيار، وجعلنا أنفسَنا أطرافًا في معركة لم نَخُضها.

  • (٦)

    تحوُّل ثقافتنا إلى وكالاتٍ حَضارية وامتدادٍ لمذاهبَ غربيَّةٍ، اشتراكيَّة، ماركسيَّة، وُجوديَّة، وضعيَّة، شخصانية، بِنْيوية، حتى لم يَعُد أحدٌ قادرًا على أن يكون مُفكِّرًا أو عالِمًا أو حتى مُثقَّفًا إن لم يكن له مَذهبٌ يَنتسِبُ إليه، وتفرَّقْنا شِيَعًا وأحزابًا، وضاعت الثقافة الوطنية. الكلُّ يبحث عن الأصالة الضائعة فيُهرَع إلى الفنون الشَّعبية.

  • (٧)

    إحساسُ الآخَرين بالنقص أمام الغرب، لغةً وثقافة وعلمًا، مَذاهبَ ونظريَّاتٍ وآراء، ممَّا يخلق فيهم إحساسًا بالدونيَّة قد ينقلب إلى إحساسٍ وهميٍّ بالعظَمة، كما هو الحال في الجماعات الإسلامية المعاصرة، وفي الثورة الإسلامية في إيران. وليس هذا إلا ردًّا على مركَّب العظَمة الدَّفينِ في الثقافة الغربية والذي لا يخلو من عُنصرية ثقافية، صريحةٍ أو ضِمنية.

  • (٨)

    خلقُ بُؤَر وفئاتٍ ثقافية معزولة لدى الشعوب غيرِ الأوروبيَّة بحيث تَكون مُناصِرةً للغرب وجسرًا لانتقاله. وتنتهي هذه الفئة — إذا ما تولَّت الحُكم — بمُوالاة الغرب، فيتحول التغريب الثقافي إلى عَمالة سياسية مما يُسبِّب ثوراتِ الشعوبِ الوطنيَّة على الفئة كلِّها؛ تأكيدًا للهُويَّة والثقافةِ الوطنيَّة في جدَليَّة تاريخية بين الأنا والآخر.

إن التراث الأوروبي في حقيقة الأمر إنما يُعبِّر عن الوعي الأوروبي، وهو موضوع فلسفي واحد ظهَر في الفلسفة المعاصرة، خاصة في الظاهريات، فلا تُوجَد فلسفات غربية، بل فلسفة أوروبية، تُعبِّر عن وعي أوروبي: تطورًا وبِناءً، تكوينًا ورؤيةً.

ويشمل تطورُ الوعي الأوروبي نشأتَه ثم بدايةَ تطوُّرِه ثم نهايتَه. فمن حيث النشأةُ يجد الوعيُ الأوروبي أصولَه في ثلاثة: الأصل اليوناني الروماني، والأصل اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها. ولا يُذكَر الأصل الشرقي القديم على الإطلاق قبل الأصلَين الأوَّلَين، ولا يُذكَر الأصل الإسلامي قبل النهضة الحديثة؛ وذلك لأن الغرب قد اعتبر اليونانَ أصلًا عبقريًّا على غير مثالٍ؛ إذ لم يسبقهم أحدٌ، وكأنَّ الهند لم تُؤسِّس المنطقَ الصوري في البوذية، ولم تُسهِم في نشأة علم الحساب. وكأنَّ فيثاغورس وطاليس لم يَكونا على اتصالٍ بالنِّحْلات الشرقية، وكأنَّ أفلاطون لم يَدرُس الرياضيات في مصر، ولمَّا كان الغرب وريثَ اليونان فقد ظل نسيجًا عبقريًّا مثلَه، على غير منوال.

وبالرغم من التباين والخلاف في جوهر كلٍّ من اليهودية والمسيحية — كما لاحظ سلسوس من قبل — إلا أن الأصل اليهودي المسيحي قد جمَع بينهما ابتداءً من الكتاب المقدَّس، حيث ضُمَّ العهد الجديد كخاتمة للعهد القديم، وكنهاية للنبوة واكتمالٍ لها بالرغم من رفض اليهود. ونظرًا للتَّآلف الطائفي العنصري بين الحضارتَين اليهودية والمسيحية ضد الحضارات الأخرى، إسلاميةً كانت أو «بُدائية»، فقد أصبحَتا مصدرًا واحدًا. وكأن الإسلام لم يكن تحقُّقًا لصدق اليهودية والمسيحية في التاريخ، سواءٌ من حيث الصحةُ التاريخية للكتب المقدسة أو من حيث التصديقُ بالعقائد، أو من حيث أحكامُ السلوك العمليِّ لأهل الكتاب. وكأنَّ الحضارة الإسلامية بعد ترجمتها إلى اللاتينية لم تكن أحدَ روافد النهضة الأوروبية الحديثة والفلسفات العقلية، وكأن الرُّشدية اللاتينية لم تُساهم في نشأة العلم الحديث في الغرب.١

ولا يكاد أحد يذكر البيئة الأوروبية نفسها، كأنما الحضارة الأوروبية حضارة بلا بيئة، نشأت بلا عوامل ودوافع، بلا ظروف وملابسات، سواءٌ فيما يتعلق بطبيعة المعطى الديني الذي كان لديها، مثل عقيدة الاختيار التي كانت موجودة وراء العنصرية والاستعمار، أو الرُّوحانية الغالية والقائلة إن ملكوت السموات ليس في هذا العالم، وإنَّ للداخل الأولويةَ المطلَقة على الخارج، مما سبب ردَّ فعل جذريًّا تبدَّى في المادية الفظة، واعتبار ملَكوت السموات في هذه الأرض مُقرِّرًا أولويةَ الخارج على الداخل. ولا يكاد أحد يذكر أيضًا طبيعة السلطة الدينية التي نشأت في الغرب واعتبار أن للوحي مَصدرَين؛ الكتاب والتراث، الوحي والكنيسة؛ مما تسبَّب في نشأة السلطة الدينية واحتكارِها للتفسير وللعلم، وسيطرتها على السلطة السياسية. وقد أحدث هذا ردَّ فعل مضادًّا لصالح العلم والعقل والسلطة المدنية، فنشأ الوعي الأوروبي مُعاديًا للسلطة الدينية، داعيًا للعلمانية، معاديًا للدين باسم العلم والعقل والمدَنية. هذه هي الظروف التي نسج الغرب حولها مؤامرةَ الصمت ليجعل الحضارة الأوروبية نموذجًا للحضارة العالمية التي يتعيَّن على كل حضارة أخرى الاقتداءُ بها. عصرها كل العصور، ومذاهبها كل المذاهب، وتاريخها كل التاريخ، إبداعاتُها للتقليد، وتقنياتُها للنقل، وكأنَّ علم اجتماع المعرفة لا يُطبَّق إلا على ثقافات الآخرين.

أما من حيث التطورُ فقد مر الوعي الأوروبي بخمس مراحل: عصر آباء الكنيسة، الفلسفة المدرسية، عصر الإحياء والنهضة، عصر العقلانية والتنوير، ثم عصر العلم والتقنية.

ففي مرحلة آباء الكنيسة تَشكَّل الوعي الأوروبي باعتباره وعيًا دينيًّا أفلاطونيًّا إشراقيًّا، تحوَّلَت فيه آلهة اليونان إلى آلهة الدين الجديد وملائكته، ونظريَّات الدين اليونانية إلى نظريات للدِّين الجديد، وتمت ظاهرةُ التشكُّل الكاذب المضادِّ أي إن المضمون اليوناني الروماني أخذ شكلًا مسيحيًّا، حدث التشكُّل الكاذب في الجوهر لا في العَرَض، وفي المضمون لا في الصورة، وفي المعنى لا في اللفظ، وفي الشيء لا في التصوُّر. وقد استغرق ذلك القرونَ السبعة الأولى التي تشكلَت فيها العقائدُ المسيحية والتي أتى الإسلام بعدها ليتحقَّق من صدقها.

وفي الفلسفة المدرسية تحولَت التعاليم الدينية من الكنائس إلى المدارس، ومن المعابد إلى الجامعات. كما تحوَّل فيها الوعيُ الديني الأوروبي من الأفلاطونية الإشراقية إلى الأرسطية الطبيعية. وعاد التشكُّل الكاذب المضادُّ مرة ثانية، أي أخذ النسَق الأرسطيَّ في الحقيقة واستعمل الدين الجديد في الظاهر. وقد ظهر في هذه المرحلة أثرُ الفكر الإسلامي وامتداده سواءٌ من المتكلمين أو الحكماء؛ تدعيمًا للتيَّار العقلاني المدرسي حتى اتحدَت الفلسفة بالدين؛ أُسوةً بالنموذج الإسلامي، وأصبح المسلم نموذجًا للفيلسوف في مقابل اليهودي والمسيحي.

وفي عصر الإحياء في القرنِ الرابعَ عشرَ بدأت العودة إلى الأصول، وهو اتجاهٌ إسلامي، بالبحث عن النصوص والتعامل معها مباشرةً دون وساطة أحد. وكانت الأصول في الآداب القديمة. وظهر المصدر اليوناني الروماني مُخلِّصًا للوعي الأوروبي من الأصل اليهودي المسيحي. وفي عصر الإصلاح الديني في القرن الخامسَ عشرَ قامت نفس الحركة للعودة إلى الأصول ولكن في الدين من أجل الإصلاح، والقضاء على سلطة الكنيسة واحتكارها للتفسير والعلم، وتأكيد حرية الإنسان في الفَهم والتفسير، ورفض الوساطة بين الإنسان والله، وإعطاء الأولوية للداخل على الخارج، وللأخلاق على العقائد، ولم يكن النموذج الإسلامي بعيدًا عن غايات الإصلاح.

وفي عصر النهضة بدأ تأسيس الوعي الأوروبي على أسسٍ جديدة بنقد الموروث حتى يُمكِنَ التحررُ منه كمصدرٍ للعلم وكقيمة في السلوك، والتحول إلى العقل والطبيعة كبديل عن الوحي والسلطة. ووُضِع الإنسانُ مركزًا للكون على أنه بدنٌ قبل أن يكون نفْسًا. فنشأت علوم الأحياء والتشريح والطبِّ الحديثةُ، ثم أتت العقلانيَّة في القرن السابعَ عشر تتويجًا للعقل الذي أصبح له سلطانٌ على كل شيء: الدين، والفلسفة، والعلم، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق، والقانون. وبلغ الوعي الأوروبيُّ أعلى درجةٍ من الشمول والاتساع. ثم أتى عصر التنوير في القرن الثامن عشر بعد تفجير العقل في المجتمع، فاندلعَت الثورات، واهتزت الأنظمة، وسقطت العروش والتيجان، وتأسَّس كل شيء في العقل والطبيعة، وخرجَت أفكار الحرية والعدالة والمساواة والتقدُّم والإنسان والطبيعة والتاريخ، وتحولَت الفلسفة إلى ثورة، والفيلسوف إلى كاتبٍ للجماهير وقائدٍ لهم.

ثم أتى عصرُ الثورة الصناعية عندما تراكَم العلم، وظهرت الاكتشافات العلمية والاختراعات الحديثة، وحلت الآلة محلَّ الإنسان في الإنتاج، وظهرَت الطبقة العمالية، وقامت الثورات الاشتراكية. ثم أتى القرن العِشرون لإحداث ثورة صناعية ثانية: عصر التقنية، وفي الوقت نفسِه بداية أزمة العلم، وأزمة الوعي الأوروبي، وبداية النهاية منذ ديكارت حتى هوسرل، منذ الأنا أُفكِّر حتى الأنا موجود، وبالتالي تكون الملحمة قد شارفت على النهاية.

بعد هذا التطوُّر الكمي التراكمي للوعي الأوروبي اختُرِع بناءٌ خاص اكتمل أيضًا في النهاية. فالوعي الأوروبي ذو بناء ثلاثي أشبهَ بالبواعث أو المقاصد أو الاتجاهات؛ الأول هو الاتجاه العقلاني الذي بدأ في الأنا أُفكِّر في القرن السابع عشر عند ديكارت، واستمرَّ فيه الديكارتيُّون: اسبينوزا وليبنتز ومالبرانش، ثم تم تأكيدُه من جديد في الفلسفة النقدية عند كانط. لقد أصبح العقل مُشرِّعًا للواقع، والأنا، من جديد، مَركزًا للعالم كالشمس وسط الكون. ثم تطوَّر العقل عند تلاميذ كانط حتى ابتلع كلَّ شيء: الروحَ والطبيعة، الحسَّ والذهن، الحضارةَ والتاريخ حتى بلغ أكبرَ قدر من الصورية والشمول، وهو بمثابةِ اتجاه يبدأ من الأنا ويعرج إلى أعلى. والثاني هو الاتجاه التجريبي الذي بدأ مِن بيكون في المنطق الجديد من أجل تأسيس المعرفة الحسية وصدقها في التطابق مع الواقع، وليس في تطابق الذِّهن مع نفسه فقط. واستمر التيَّار نفسُه في المدرسة الأنجلو سكسونية: لوك وهوبز وهيوم، الذين طبَّقوا المذهب الحسِّي في الدين والأخلاق والاجتماع والسياسة، فيكون هذا بمثابة اتجاه يبدأ من الأنا هابطًا إلى أسفل.

ثم نشأت محاولات عديدة للجمع بين التيَّارَين في الفلسفة النقدية عند كانط في ألمانيا، فتصور العقل على أنه حِسٌّ أولًا فذهنٌ ثانيًا فعقلٌ ثالثًا. التحليل الترنسندنتالي أولًا ثم الجدل الترنسندنتالي ثانيًا. وقد وضع مشروعًا للتوحيد بين القَبْلي والبَعدي صائغًا عبارته المشهورة «التصورات بلا حُدوس فارغة، والحدوس بلا تصوُّرات عمياء». ولكن التوحيد بينهما قد تمَّ بصورة آلية تركيبية خارجية سُكونية ممَّا دعا تلاميذَه إلى التوحيد بينهما بصورة حرَكية جدَلية. الحسُّ ونقيضه الذِّهن، ثم يأتي العقل ليجمع بينهما (هيجل)، أو بطريقة صورية في فلسفة الهُوية والتوحيد بين الروح والطبيعة (شلنج)، أو في فلسفة الذاتية والتوحيد بين الأنا واللاأنا من أجل تكوين الأنا المطلق (فشته)، أو في فلسفة الإرادة تعبيرًا عن العقل والطبيعة (شوبنهور) … كما حاولت فلسفة التنوير في فرنسا الجمعَ بينهما عن طريق النظرة العقلية الحسِّية للعالم كما هو واضحٌ في دائرة المعارف الفلسفية.

وما إن أتى القرنُ التاسعَ عشر حتى بدأ الخصام من جديد بين التيارَين المتباعِدَين، كلُّ واحد يُحاول أن يجعل نفسه نمطًا لعلوم الإنسان. وظلَّت الظاهرة الإنسانية متأرجِحة بين نمط العلوم الرياضية العقلية تارة، وبين نمط العلوم الطبيعية الحسِّية تارةً أخرى. فنشأت أزمة العلوم الإنسانية، وضرورة صياغة مناهج مستقلَّة لها؛ حلًّا لأزمة الصورية والوضعية، وحلًّا للخلط بين المستويات كما ظهر في السيكوفيزيقا. وهنا ظهر الطريق الثالث، طريق فلسفات الحياة: برجسون، وهوسرل، وشيلر، ودلتاي وغيرهم. كما ظهر فلاسفة الوجود رافضين رفْعَ الوجود الإنساني إلى ما هو أكبرُ منه وهو العقل، أو حتى ردَّه إلى ما هو أقلُّ منه وهو المادَّة. أصبح العقل الأوروبي منقسمًا إلى ثلاثة اتجاهات: فلسفة روح، وفلسفة طبيعة، وفلسفة وجود. وضاعت وَحدتُه الداخلية. وتصارعَت فيه المذاهب كلُّها، كلٌّ منها يدَّعي أنه الحقيقة الكاملة. وحكَمها قانون الفعل وردِّ الفعل، وأخذَت العقلية الأوروبية هذا الطابَعَ التقسيمي التجريبي، وصدَّرَته خارجَها فقضَت على وحدة العقل، خارج الوعي الأوروبي، لدى الشعوب غيرِ الأوروبية.٢
فإذا ما أخذنا هذا الموقف من التراث الأوروبي، ووصَفْنا الوعي بناءً وتطورًا على هذا النحو حدث التالي:
  • (١)

    السيطرة على الوعي الأوروبي، واحتواؤه بدايةً ونهاية، نشأة وتكوينًا، وبالتالي يقلُّ إرهابه؛ لأنه ليس بالوعي الذي لا يُقهَر. ويتحول الدارس إلى مدروس، والذات إلى موضوع، وبالتالي لا نصبح ضائعين فيه؛ إذ يُمكِن للإنسان أن يراه مرة واحدة، وأن ينظر إليه من أعلى بدلًا من أن يقبع أسفل منه ويكون السؤال: مَن الذي سيأخذ الريادة الآن؟

  • (٢)

    دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخٌ وليس خارِجَ التاريخ. صحيحٌ أنه تاريخ تحرُّرٍ على مَراحلَ لا يُمكن القفز عليها أو تجاوز مراحلها المتوسِّطة، لكنه مع ذلك تَجرِبةٌ بشرية ومسارٌ حضاري مثل غيره من التجارِب. إنه ليس التجرِبةَ الوحيدة أو المسار الحضاري الأوحد. بل هو أحد مراحل تاريخ الوعي الإنساني الطويل ابتداءً من مِصر والصين وحضارات الشرق القديم.

  • (٣)

    ردُّ الغرب إلى حدوده الطبيعية وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المدِّ الذي لا حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية إلى بيئتها المحلِّية التي منها نشأَت حتى تظهر خصوصيتُها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة الإعلام، في لحظة ضعف الأنا، وتقليده للأجنبي، واقتصار تحرُّره على الأرض دون الثقافة.

  • (٤)

    القضاء على أسطورة الثقافة العالَمية واكتشاف خصوصيات الشعوب، وأنَّ لكل شعب نمطَه الحضاري الخاصَّ ووعيَه المتميِّز، بل وعلومَه الطبيعية وتقنيتَه الخاصة كما هو الحال في الهند والصين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتطبيق مناهج علم اجتماع المعرفة والأنثروبولوجيا الحضارية على الوعي الأوروبي ذاته.

  • (٥)

    إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية، وتحريرُها من هذا الغِطاء الذهني، وهذه البِنْية العقلية؛ حتى تُفكر الشعوب بعقلياتها الخاصة وأطُرِها المحلية، فتتعدَّدَ الأنماط، وتتنوَّع النماذج. فليس هناك نموذج واحدٌ لكل الشعوب، وتصير العلاقات بين الحضارات علاقاتٍ متبادلةً وليست علاقاتٍ ذاتَ اتجاه واحد.

  • (٦)

    القضاء على عُقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها بإبداعها الخلَّاق بدلًا من أن تكون مستهلِكة للثقافة والعلم والفن، فتصير قادرةً على التفوق على غيرها. وقد يتحول مُركَّب النقص إلى مركَّب عظَمة صِحي يُساعد على الخلق والإبداع.

  • (٧)

    إعادة كتابة التاريخ بما يُحقق أكبرَ قدر ممكنٍ من المساواة في حق الشعوب بدلًا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، واكتشاف دور الحضارات التي ساهمَت في تكوين حضارة الغرب وضرَبَ الغرب حولها مؤامرةَ الصمت، ولكن دون أن يكون الغربُ هذه المرةَ، وبموضوعية تاريخية، مركزَ الثِّقل في العالم فيه تصبُّ كلُّ الحضارات؛ إذ سيُعطَى لكل حضارة دورُها في الريادة.

  • (٨)

    بداية فلسفة جديدة للتاريخ تبدأ من ريح الشرق، واكتشافُ الدَّوائر الحضارية وقانون لتطورها أشمل من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ (هردر، كانط). وكما بدأت الحضارات من الشرق وانتقلت إلى الغرب، فقد تعودُ إلى الشرق من جديد.

  • (٩)

    إنشاء «الاستغراب» وتحويلُ الحضارة الأوروبية إلى موضوعٍ للدراسة. وسيكون هذا العلمُ الجديد لدراسة هذه الحضارة: بدايةً ونهاية، نشأةً وتطورًا، بناءً ومسارًا كما فعلَت الحضارة الأوروبية مع غيرها عندما حوَّلَتها إلى مواضيعَ للدراسة ولم تَسلَم من التحيُّز والمحاباة.

  • (١٠)

    انتهاء الاستشراق، وتحوُّل حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عُنْفوانه على حضارات الشرق. فالاستشراقُ يكشف عن طبيعة العقلية الأوروبية ونظرتِها إلى الآخر أكثرَ مما يكشف عن الموضوع المدروس، فهو موضوعُ دراسةٍ وليس دراسةَ موضوع.

  • (١١)
    تكوين الباحثين الوطنيِّين الذين يدرسون حضاراتِهم الخاصةَ من منظور وطني، وحضاراتِ الغير بطريقة أكثرَ حيادًا وإنصافًا مما فعل الغرب مع غيره. فتنشأ بالتالي العلومُ الوطنية وتتكوَّن الثقافة الوطنية، ويتأسَّس التاريخ الوطني، وينتهي الفِصام في الثقافة والسياسة بين العلم والوطن، بين الباحث والمواطن.٣
١  انظر كتابنا: Religious Dialogue and Revolution, Part I, Dialogue, Anglo-Egyptian Bookshop, cairo, 1977.
٢  انظر محاولاتنا السابقة في «موقفنا من التراث الغربي، الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في قضايا معاصرة (٢). دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م.
٣  انظر رسالتنا الثانية L’Exégèse de la Phénoménologie, pp. 3–12, Dar al-Fikr al-Arabi, Le Caire, 1977.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤