أولًا: التراث الذاتي

التراث الذاتي هو ما يصل إلى شعبٍ ما ممَّا خلَّفه القدماء، وتتوارثه الأجيال، ويحدث لتيَّارات عامة واتجاهاتٍ ومدارسَ فكرية، ويُؤثر في سلوك الناس. وهي مسئولية تاريخية تتحملها الأجيال فتُواصل تاريخَها، أو تتركها فتنقطع جذورها فتذوب في ثقافاتٍ مُغايِرة، والفعل اللاتيني Tradere يُفيد كِلا المعنيَين: يحمل أو يخون.

ونعني بالتراث هنا التراثَ «الإسلامي»؛ فهو الأعم والأشمل من التراث «العربي» أبدعه العربُ وغير العرب، ومكتوب باللغة العربية وباللغات الإسلامية. والقرآن مكتوبٌ بلغة العرب ولكنَّ الإسلام لكافة الشعوب، والحضارة إسلاميَّة، والعلوم إسلامية.

(١) الأصالة والخصوصية

وأهم ما يُميز التراثَ الذاتي الأصالةُ والخصوصية؛ فالأصالة تعني الأنا في مقابل الآخر، والمألوفَ ضد الغريب، والقريبَ في مواجهة البعيد، والمحليَّ كمانعٍ للمستورد. تعني الأصالةُ الذاتيَّ في مقابل العرَضي، والطبيعيَّ في مواجهة المصطنَع، و«الجوَّاني» ضد «البراني». أما الخصوصية فتعني نوعية التراث وسِماته المميزة ونموذجه الأوحد وقانونه الخاص ليس في مقابل الشمول والعمومية، ولكن في مقابل فقدان النوعية والذوبان في خصوصية أخرى تَدَّعي أنها الخصوصية الشاملة. وهو التقابل الذي وضعه كانط في وصفه للإرادة بين الذاتي Autonomous والغيري Heteronomous.

(أ) جذور التراث

وللتراث جذورٌ في وجدان الشعب. فهو تأكيدٌ للأنا ضد الآخر وإثباتٌ للذات في مقابل الغير. ولما كان التراث مُعاشًا في وجدان الناس، فإن جذوره تُعطيهم عمقًا تاريخيًّا قد يصل أحيانًا إلى بدء الخليقة ونهايتها، وقد يتجاوزها إلى ما قبل العالم وما بعده. يُعطي التراثُ للشعب رؤيةً تاريخيةً تجعله يضع نُصبَ عينَيه الزمانَ كله في لحظة واحدة، ويصل فيها بُعْدُ النظر إلى رؤية العالم كنقطة هندسية مجرَّدةٍ بلا زمان ولا مكان. يمتدُّ التراث بجذوره في وجدان الشعب ويُعطيه الآتي:
  • (١)

    الأصالة ضد التذويب والتميُّعِ والاغتراب، خاصة إذا ما تمت محاصرة الذات بالآخر، كما حدث في إيران قبل الثورة. التراث هو الحارس للذات، وسبب وجودها وبقائها، والضامن لأمنها ضد أخطار الغير. والذاتُ بلا تراث تتحول إلى الغير المجرد.

  • (٢)

    العُمق التاريخي ضد نقل الحضارات واستيرادها، وملء الشعور القومي بحيث لا يكون فارغًا تصبُّ فيه حضارات الغير، والردُّ المستمر على الغزو الثقافي الخارجي باعتبارها (حضارات الغير) جسمًا غريبًا على التراث القومي كما هو الحال في السلفيَّة.

  • (٣)

    كما تمتدُّ جذور التراث في الماضي فإنها أيضًا تُورق في الحاضر، فما الحاضر إلا تراكمٌ للماضي وظهور له. ومِن ثمَّ فلا حلَّ لمشاكل الحاضر حلًّا جذريًّا إلا بالرجوع إلى جذورها في الماضي، ولا سبيل للقضاء على عقبات التنمية (عدم اشتراك الجماهير مثلًا) إلا باجتثاث جذورها في التراث.

  • (٤)

    دفعات أكثر نحو التقدُّم في مسيرة الشعوب وإطلاق طاقاتها، وترسيخ مكتسبات الثورات الوطنية مثلًا: الإصلاح الزراعي، المِلكية الجماعية للأرض، العمل وَحْده كأساسٍ للقيمة، النضال … إلخ.

  • (٥)

    الاستمرارية التاريخية والتجانُس في الزمان ووحدة الشخصية الوطنية، وعدمُ وجود مستويات متجاورة منفصلة في الشعور الوطني كما هو الحال في تركيا (إسلام في العمق وتحديث في السطح)، أو في بولندا (كاثوليكية في العمق وماركسية في السطح).

  • (٦)

    الحفاظ على خصوصية الشعوب ونوعيتها، والقضاء على نمطية التنمية وأحادية النموذج الأوروبي، التنمية الاقتصادية أساسًا والتنمية البشرية فرعًا، وغياب التنمية الحضارية كُليَّة.

  • (٧)

    تباينُ الشعوب، وتعدُّد النماذج، ووضعُها كلِّها على قدم المساواة التاريخية من حيث إسهاماتُها في تطور البشرية دون الوقوع في نظرية المركز والأطراف (الغرب بالنسبة للشعوب غير الأوروبية). وهنا يتمُّ الإثراء المتبادَل، ونهاية الأثر الغربي من المركز إلى الأطراف ذي الاتجاه الواحد.

(ب) مادة التراث

والتراث هو الإبداع الفكري الذاتي للشعوب، ابتداءً من معطَياتٍ تكون في الغالب دينيةً ثم تتحول بالتدريج إلى حضارية، بعد عملياتِ تمثُّل الحضارات المجاورة، وتفسير هذه المعطيات وإعمال العقل فيها بحيث تتم إعادة صياغتها في منظور إنساني طبيعي. وبالتالي كانت مادة التراث على النحو الآتي:
  • (١)

    الكتب المقدَّسة في ديانات التوحيد الثلاث التي خرَجَت من إبراهيم: العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن خاصة بالنسبة للشعوب العربية والأوروبية؛ أو الفدنتا والأوبانيشاد وكتاب «التغيرات» وغيرها في الديانات الآسيوية. وهي تراث حي في قلوب الناس وليست فقط تُراثًا مكتوبًا، بل إنها كانت في البداية تراثًا شفاهيًّا يتناقلها الناس وتتوارثه الأجيال، أضافت عليها من خبراتها سواء داخل النصوص الأولى بتفسيرها أو بإضافة نصوص جديدة من خارجها. وما زال الناس يستشهدون بها ويتخذون أوامرَها ونواهيَها كمعاييرَ مطلقةٍ للسلوك.

  • (٢)

    العلوم الدينية أو كما يُسميها القدماء العلوم النقلية التي بدأت حول هذه الكتب المقدسة لضبطها وقراءتها وتفسيرها، وتقنينِها وتَمثُّلها، مثل علوم القرآن والحديث والتفسير، والفقه والسيرة. ففي هذه العلوم تعلَّمَت الشعوب مناهج البحث، ووضعَت طرقها الخاصةَ للتعليم وتصوُّرَها للعلم. فقد نشأ «النقد التاريخي» عند القدماء بدافع من الحرص على صحة النصوص، وتم وضع «مناهج الرواية» لتحويل التراث الشفاهي إلى تراث مكتوب. وهي علوم أقربُ إلى التقديس والاحترام وأقرب إلى الإيمان الديني منها إلى البحث الأكاديمي الصِّرف. فكتبُ الحديث مثل «البخاري» تُقرَأ عبادةً للتبرُّك ولدرء الأخطار وجلبِ المنافع. وكتب التفسير مثل «الطبري» تحظى من الاحترام قدرًا لا يسمح بالمناقشة والحوار. وكتاب «الأم» للشافعي أو «موطَّأ» الإمام مالك أو «مُسنَد» الإمام ابن حنبل مَواطِنُ للتصديق، ومصادرُ للمعرفة. وسيرة «ابن هشام» تتَّحد بشخص النبي ولا يجوز المساس بها. مقولة «المُقدَّس» إذن هي لُبُّ التراث، وأيُّ تنمية لا تأخذ في الاعتبار هذا المركزَ وأيُّ نهضة تُحاول تَجاوُزَ هذه المقولة؛ لا تُحدِث أي تغيير في العمق.

    والعلوم الفلسفية كما يُسميها القدماء العلوم النقلية العقلية التي تجمع بين التقديس والتعقيل مثل علم أصول الدين، وعلوم أصول الفقه، وعلم الحكمة من منطق وطبيعيات وإلهيات، وعلوم التصوف وتهذيب الأخلاق ما زالت علومًا تعيش في قلوب الناس. يستشهدون بها، ويَقرءون أعمالها. تسري مَقولاتُها وتوجيهاتها في حياتهم الخاصةِ والعامة، ويحتفظون بها في بيوتهم، بركةً ورحمة. فالعقائد الإسلامية وعلى رأسها التوحيد، والقدَر والنبوَّة والإيمان والآخرة، تقوم في قلوب الناس بوظيفة الأيديولوجية السياسية التي تُحدِّد تصورهم للعلم، وتُعطيهم مُوجِّهات للسلوك. وعلم أصول الفقه هو الذي يُحدد لهم كيفية العبادات وطرقَ المعاملات، ومقاييسَ السلوك من حلال وحرام. وعلومُ الحكمة هي التي أمَدَّتهم بأن الفضائل النظرية أعلى من الفضائل العمَلية، وبأن المعرفة تتم إشراقًا من الله في النفس وأن العلم هو العلم اللدُنِّي، وبأن الطبيعة مخلوقة من الله يفعل فيها ما يشاء، وبأن الله والنبي والفيلسوف والرئيس والأمير والإمام شخص واحد، كامل الأوصاف، تجب له الطاعة المطلَقة. وعلوم التصوف هي التي وجَّهَتهم نحو الخلاص من العالم والفرارِ منه إلى الله، وإلى تَمثُّل القيم السلبية مثل التوكل والصبر والرضا والقناعة، وحالات النفس مثل الخوف والخشية والرهبة.

    ومنها العلوم العقلية الخالصة سواءٌ منها الرياضية مثل الحساب والجبر والهندسة والفلَك والموسيقى والضوء، أو الطبيعية مثل الكيمياء والطبيعة والطب والأدوية وهي التي لم تُؤثر في حياة الناس أو في ثقافتهم ولم يَرِثْها أحد من علمائنا المُحدَثين بل ورثها الغرب وأصبحَت رصيدَه العلمي قبل عصر النهضة، طوَّرَها وأكملها ودخلَت في علمه الحديث وتطبيقاته التي تنقلها الشعوب غير الأوروبية الآن ومنها الشعوب العربية والإسلامية التي بدأتها أولًا. ومنها العلوم الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب التي انتشر البعض منها في الأدب العربي الحديث، وعلوم الجغرافيا والتاريخ التي تُرِكَت لحضارة الغرب يُطورها ويُكملها علماء الغرب المُحدَثون.

  • (٣)

    الأمثال العامية، والأدب الشعبي، وكتب السِّيَر والملاحم التي ما زالت الشعوب تستشهد بها وتأخذ منها معاييرَ للسلوك ونماذجَ لحياة البطولة والوفاء يسمعها الناس سماعَهم للقرآن، ويهتزون للاثنَين إعجابًا وطربًا.

    مادة التراث إذن، مادةٌ سمعية أكثر منها مادةً مرئية، تعتمد على الأذن وليس على العين. ومن هنا أتت خبرة الأجيال والتواصل مع الماضي، والعيش مع «تجارب الأمم».

(ﺟ) تجارب الشعوب

لما كان التراث حيًّا في قلوب الناس فإنه اختلط بتَجارِبهم الفردية والاجتماعية، وخبراتهم التاريخية في السِّلم والحرب، في المجاعة والثراء، وفي الهزيمة والانتصار. وأصبح من الصعب التمييزُ بين ما يأتي من التراث المكتوب والتراث الحي للشعوب. حدث ذلك في «العهد القديم» خاصة، ثم في «العهد الجديد» بصورة أقل، وحدَث أيضًا في الحديث وفي العلوم الدينية، وإن لم يحدث في القرآن نظرًا لعدم مروره بفترةٍ شفاهية، وتدوينه مباشرة في لحظة الإعلان.

وهذا التقابل بين التراث المكتوب وتَجارِب الشعوب طبيعي. فالمعطى الديني ذاته كان نتيجةً لتجارِب الأمم وحصيلة رسالات الأنبياء. والإسلام بالنسبة للأمة العربية يُمثل دين الطبيعة والفطرة. ومن ثم صَعُب التمييز بين ما يأتي من القرآن وما يأتي من الطبيعة والفطرة. لذلك اختلفَت الأحكام على شعوب المنطقة العربية بين أكثر الشعوب تدينًا وأقل الشعوب تدينًا. الأول يخرج من الدين والثاني يخرج من الطبيعة. وهما في واقع الأمر شيء واحد لدى الأمة. وتُؤيد ذلك النصوصُ الدينية مثل صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً [البقرة: ١٣٨] أو فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ [الروم: ٣٠]. كما تُثبتها الأمثال العامية مثل «اللي عاوزه البيت يحرم على الجامع».

(٢) تفسير التراث

ومن هنا كان تفسير التراث شرطَ النهضة الحضارية. فكل تراث يحتوي على اشتباه يُفيد الضدَّين، ويحتوي على المعنيَين المتناقضَين سواء في التراث الديني المكتوب أو في التراث الشعبي أو في تَجارِب الأمم والشعوب. ونظرية التفسير لدى شعوب المنطقة تُعادل نظرية المعرفة في الحضارة الغربية.

(أ) مناهج التفسير

يحدث التفسير بعدة مناهج هي في حقيقة الأمر طرق لا شعورية أولًا عند الناس، ثم تُصبح مناهجَ شعورية عند المفكرين، وأهمها:
  • (١)

    قراءة الحاضر في الماضي. وليس للتراث مَعانٍ موضوعية في نصوصه أو في تجارِبه بل مجرد حامل تُسقَط عليه الاحتياجات الحاليَّة. وحقيقة المعنى هو مقدار ما يُثيره الحاضر في الماضي. فإذا كانت احتياجات العصر ومطالبه الحريةَ والعدالة فإننا لا نفهم من نصوص التراث إلا ما سدَّ هذه الاحتياجات مثل قول عمر: «لماذا استعبَدتُم الناس وقد ولدَتهم أمهاتُهم أحرارًا» أو القول المأثور: «العدلُ أساس الحكم». ويحدث الانقطاع عن الماضي إذا ما ظن الناس والمفكرون أن التراث يحتوي على معانٍ في ذاته يتمُّ إخراجها بصرف النظر عن الاحتياجات، فيظل التراث هائمًا في الأذهان لا يجد له مستقَرًّا، ولا يُحقق مطلبًا. وهذا هو إشكال الذاتية والموضوعية.

  • (٢)

    الانتقاء من التراث ما يُحقق مصالح الأغلبية. فالتراث فيه كل شيء، ويحتوي على الشيء ونقيضه. ومن ثَم فرَضَت احتياجاتُ العصر نفسَها كمقياسٍ للانتقاء. فإذا احتاج العصر للعقلانية ظهر التراثُ العقلاني، وإذا احتاج العصر للعلمية ظهر التراث العلمي، وإذا احتاج العصر للأيديولوجية السياسية ظهر التراث السياسي.

  • (٣)

    الاختيار بين البدائل، وإعادة الاختيار طبقًا لاحتياجات العصر. فقد قدَّم التراث بدائلَ كثيرة: العقل والذَّوق، العبادة والمعاملة، العقل والنقل، النظر والعمل، التنزيه والتشبيه، الجَبْر والاختيار، التنزيل والتأويل. كما قدم التراث اتجاهاتٍ مختلفةً: سُنَّة وشيعة، أشاعرة ومعتزلة، مرجئة وخوارج، وكل اتجاه يُمثل اختيارًا سياسيًّا. ولما كانت ظروف العصر قد تغيرت فإن إعادة الاختيار بين البدائل، وعرضها كلِّها من جديد أمام الوعي القومي؛ يقضي على أحادية الطرَف، وسيادة تيار وتكفير التيارات الأخرى.

(ب) سلبيات التراث

لما كانت احتياجات العصر محددة تُعبر عن حركة التاريخ وكانت في الوقت نفسِه مقياسًا للانتقاء واختيارًا بين البدائل؛ فإن كل ما تختاره يكون إيجابيًّا وكل ما تتركه يكون سلبيًّا. فإيجابيات التراث وسلبياته ليست مطلقة، بل تُحددها اختياراتُ كل عصر، وتتغير طبقًا لمتطلبات الأجيال. وبالنسبة لجيلنا فإنه يُمكن تحديد بعض هذه السلبيات كالآتي:
  • (١)
    سيادة التصور التسلطي للعالم المتمركز حول الواحد، الذي يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء. ويظهر ذلك بوجه خاص في العقائد «الأشعرية» التي ورثتها الأجيال أكثرَ من ألف عام، وأصبحَت جزءًا من روح الأمة والذي أصبح عنوانًا «للطغيان الشرقي». ويظهر ذلك أيضًا في الواحد الحر، والمسيطر على كل ما سواه وما ينتج عنه من قدَرية. ويتمثل ذلك أيضًا في احتياج العالم إليه في صورة نبوةٍ تهدي العقل وتُكمله وتعصمه من الخطأ، وإيمانٍ به يجعل العمل في المرتبة الثانية، وإنكارٍ لغائية الطبيعة وقوانينها، وتجاوز هذا العالم إلى ما وراءه. هذا التصور المركزي الواحد للعالم ليس سلبيًّا «في ذاته»؛ فقد استخدمته الصين لصالح الثورة، ولكنه حتى الآن يُمثل عنصرًا سلبيًّا في التراث بالنسبة للأمة العربية، ويُمثل بالنسبة لنا إشكال الحرية.١
  • (٢)

    سيادة المعرفة النصية وهو ما يُسمَّى بأولوية النقل على العقل أو بالقول بالمأثور دون المعقول أو بأهل الأثر في مقابل أهل الرأي حتى غابت المعرفة العقلية، أو المستمدة من الواقع المباشر أو من استقراء حوادث التاريخ، حتى قال أحد الشعراء المعاصرين: «واحتمي أبوك بالنصوص، فجاء اللُّصوص»، وهو ما يُسمَّى أيضًا بسيادة الفقه الافتراضي، وتحكيم النص في الواقع وليس تفسير النص طبقًا للواقع. وهو ما يُسمَّى «الحَرْفية» التي تقتل «الروح» والشكل الذي يقضي على المضمون. وبالنسبة للتراث الشكل هو اللغة، والمضمون هو حياة الناس وواقعهم.

  • (٣)

    المنطق الصوري الذي تغلب عليه أشكال القياس وصور الفكر كما هو الحال في منطق القضايا، وغياب منطق الواقع، واستبعاد أحوال التاريخ وقوانين الصراع. صحيحٌ أن علماء الأصول من متكلِّمين وفقهاءَ قد نقَدوا المنطق الأرسطي ووضعوا منطقًا تجريبيًّا حسيًّا ومنطقًا عَمليًّا للسلوك، كما نقد حكماءُ الإشراق المنطقَ الصوري ووضعوا قواعدَ للمنطق الإشراقي، ومع ذلك غاب منطق التاريخ باستثناء ابن خلدون.

  • (٤)

    التصور الثنائي للعلم الذي ظهر في علوم الحكمة، وقسمة العالم إلى أولٍ وآخر، صورة ومادة، عقل وحس، مطلق ونسبي، باقٍ وفانٍ … إلخ. وظهور هذه الثنائية في الطبيعيات: تخلخل وتكاثف، زمان ومكان، جوهر وعرَض، كيف وكَم … إلخ. وظهورها أيضًا في الأخلاق: خير وشر، ملاك وشيطان، جنة ونار، إيمان وكفر، ثواب وعقاب، رجل وامرأة. وقد أعطَت هذه الثنائيات الطرَفَ الأول كل شيء وسلبَت من الطرف الثاني كل شيء. فعاشت الأمة في عالم سلبي بلا قيمة، غير موجود بذاته، يستمد وجوده من غيره.

  • (٥)

    سيادة الفضائل النظرية على الفضائل العملية، وجعل التأمل أعلى قيمةً من العمل، والحكيم أفضلَ من العامل. وقد ورث الناسُ هذا الاختيار فنشأت أفضلية الجامعات على المعاهد العليا والمدارس الفنية، وقيمة الأعمال المكتبية على الأعمال اليدوية، وقيمة التنظير والتخطيط وإعطاء الأوامر على الإنتاج والتنفيذ. وقد ظهر ذلك أيضًا في «المدينة الفاضلة» التي يقبع الملك الفيلسوف على قمتها.

  • (٦)

    سيادة القيم السلبية التي ظهرت في علوم التصوُّف كما هو الحال في المقامات مثل التوكل والرضا والقناعة والصبر والزهد، أو في الأحوال مثل الخوف والخشية والرهبة، حتى أصبحت قيمًا اجتماعية تُوجِّه سلوك الناس. مع أنها نشأت في البداية كردِّ فعل على قيم اجتماعية مضادة مثل التكالب على الدنيا، والتمتع بمباهج الحياة، والتنافس والتقاتل على السلطة. كما ظهرت قيم الفناء والفقر والمحوِ والمَحْق، ولكنه فناءٌ صوري بلا مضمون ودون نتيجة من أجل إحداث تغيير في واقع الناس الفعلي.

(ﺟ) إيجابيات التراث

تتمثَّل شروط النهضة الحضارية إذن في الخلاص من السلبيات التي استمرت في وجداننا القومي أكثرَ من ألف عام، وإظهار الإيجابيات من كوامن الشعور والتي توقفت منذ حُسِم الصراع في القرن الخامس الهجري لحساب السلبيات التي تجسدَت في الأشعرية، فكر الدولة السُّنية، والذي ازدوج فيما بعدُ بالتصوف خاصة في فترة الحكم العثماني، وأهم هذه الإيجابيات هي:
  • (١)

    بالرغم من سيادة الإشراق إلا أن العقل استطاع في أصول الدين، خاصة عند المعتزلة، أن يكون أساسًا للنقل، فإذا تعارض النقل والعقل يُؤوَّل النقل لحساب العقل، وكما قال الفقهاء: «اتفاقُ العقل الصريح مع النقل الصحيح»، ومن يقدح في العقل يقدح في النقل؛ لأن العقل أساس النقل. ظهر ذلك بوضوح عند المعتزلة، فانتهَوا إلى التنزيه أي تصور الله كمبدأ عقلي خالص وليس كإله مُشخَّص يقبع في وجداننا القومي كأساسٍ «لعبادة الأشخاص» في حياتنا. كما ظهر ذلك في الفلسفة وتحويل العالم كله إلى تصوُّر عقلي خاصة عند ابن رشد، فالحكمة هي الأخت الرضيعة للشريعة المتَّحِدتان بالطبع المتحابَّتان بالجوهر والغريزة على ما يقول القدماء. ونحن في نهضتنا الحاليَّة نُصارع من أجل العقل وندعو إلى العقلانية وكأنها تراث الغير وليس التراث الذاتي.

  • (٢)

    بالرغم من جعل الطبيعة مخلوقة من الله إلا أن العلم نشأ للسيطرة على قوانين الطبيعة التي سخرها الله لخدمة الإنسان، فكان الفلاسفة القدماء علماءَ طبيعةٍ وكيمياء وفلك ورياضة وطبٍّ وصيدلة، وفي الوقت نفسه متكلِّمين وفقهاءَ وفلاسفةً وأدباء. وظهر أصحابُ الطبائع من المتكلمين يُحللون الكُمُون والطفرة والذرَّات في الطبيعة. ونحن الآن في نهضتنا الحديثة خاصة عند أنصار الغرب نُحاول من جديد الدعوة إلى العلم وإلى الفكر الطبيعي.

  • (٣)

    إثبات حرية الإنسان وخلق أفعاله خاصة عند المعتزلة، وأنَّ له قدرةً واستطاعة، وأنَّه قادرٌ على الاختيار بما له من عقل وتمييز، وبما يتمتع به من تدبُّر ورويَّة، والتأكيد على الغائية والبواعث في الحياة، وإثبات الصَّلاح والأصلح وأن الله لا يفعل إلا ما فيه مصلحة العباد، بدلًا من العشوائية والتشتُّت والتضارب في الاتجاهات.

  • (٤)

    بالرغم من أولويَّة النظر على العمل إلا أن قيمة العمل ظهرت أيضًا في أصول الدين، خاصة عند المعتزلة والخوارج، فالعمل هو مقياس الإيمان، ومن لا عمل له لا إيمان له، والعمل هو العمل الصادق الكامل الذي لا يقبل أنصاف الحلول أو المساومة. كما ظهر في أصول الفقه على أنه غاية الشريعة، يتم في الوقت على الفور وإلا كان متراخيًا وقضاءً. كما ظهر في التصوف على أنه الطريق إلى المعرفة، فالأحوال ثمرات الأعمال. والدعوة إلى العمل منتشرة في الأمثال العامية والأدب الشعبي انتشارَها في نصوص التراث.

  • (٥)

    بالرغم من سيادة بعض القيم السلبية في التصوف إلا أنه ظهرت به أيضًا موضوعات الطاقة والحركة والنشاط ومفاهيم الارتقاء والنُّكوص، والتقدُّم والتأخر. وقد استطاع بعض الصوفية تحريك الجماهير وحشد قُوى المعارضة وتفجير طاقات الناس وتوجيههم في ثورات شعبية عامة. كما استطاع «إقبال» تحويل التصوف إلى طاقة حيوية وحركة في التاريخ تُوقظ الأمة وتبعث نهضتنا. المهم هو تغيير محوره من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف حتى تتحقق الوحدة الشاملة بالفعل بين الواقع والمثال، وليس فقط عن طريق الخيال.

  • (٦)

    اعتبار المصلحة هي أساسَ الشرع كما وضح في علم أصول الفقه وأنَّ «ما رآه المسلمون حَسنًا فهو عند الله حسَن» وأنْ «لا ضرَر ولا ضرار»، وهي المبادئ المقرَّرة عند القدماء. فقد قام الشرع على الحفاظ على مصالح الناس، وهي الضرورات الخمس: الدين، والعقل، والحياة، والنَّسل، والمال. وكل ما حافظ عليها فهو شرعي وكل ما هدَّدها فهو غير شرعي. والاجتهاد هو إعمال الجهد للاستدلال، وإبداع حلول جديدة فيها الحفاظُ على المصالح العامة.

فإذا ما استطاعت الأمةُ إيقافَ سلبيات التراث والاستمرار في إيجابياته تحقَّقَت شروط النهضة الحضارية من الداخل دون ما حاجةٍ إلى «التغريب».

(٣) سلطة التراث

والتراث ليس مكتوبًا فقط، وليس حيًّا في شعور الناس فقط، بل يُمثِّل سُلطة قد تكون أقوى من السلطة السياسية القائمة. دخل التراثُ في مَعارك تدعيم السلطة السياسية كما دخل لتأليب حركات المعارضة. وتمثلته أيضًا مُختلِفُ القوى الاجتماعية.

(أ) التراث وحركات المعارضة

لما استتبَّ الأمر للدولة الأموية أفرزت فكر السلطة أو تراث الأمر الواقع، فظهرت سلطوية التصور، وعقائد القضاء والقدر، والإيمان بالقول؛ حتى تستكينَ الناسُ وترضى بالأمر الواقع، فالمفضول أولى من الأفضل، وكل شيء في هذا الكون يتم بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولما كانت الدولة الأموية قد اغتصَبَت السلطة اغتصابًا ظهرت حركات المعارضة؛ كلٌّ منها يُفرِز فكرها وعقائدها لتُغيِّر الأمر الواقع وكان أبرزها:
  • (١)

    الشيعة: التي ترى السلطة الأموية مغتصِبة للخلافة التي تم اغتصابها قبل ذلك منذ وفاة الرسول. وصاغت عقائدَها في الإمام من أجل فعالية المعارضة ونجاحها: الألوهية (الكاريسمية)، العلم الباطني، الغيبة، التقيَّة، العصمة … إلخ. وبهذه العقائد يُمكن تجنيد الجماهير وطاعة الإمام ونائبه كما حدث في الثورة الإيرانية.

  • (٢)

    الخوارج: التي ترى أن الإمامة تكون بالاختيار والبيعة لا بالقهر والسيف والترغيب والترهيب كما حدث في الدولة الأموية، وصاغت عقائد تُساعدها على المعارضة مثل العمل الذي لا ينفصل عن الإيمان، الإسلام الذي لا يتجزَّأ، التنزيه الخالص، وجوب الخروج على الدولة، الاستشهاد في سبيل الله كما يحدث أحيانًا في الجماعات الإسلامية المعاصرة.

  • (٣)

    المعتزلة: التي وجدت في الأصول الخمسة بناءً عقائديًّا للمعارضة: التنزيه في مقابل التشخيص، والعقل، والحرية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان الهدفُ من (المنزلة بين المنزلتَين) إيجادَ نوعٍ من الوحدة الوطنية تضم جميع فئات المعارضة، ولكنها معارضة فكرية من خلال الوضع القائم وليس خروجًا بالسيف.

وقد ظهرَت معارضة نشطة دون أن تُنتج فكرًا للمعارضة مثل معارضة بعض الصوفية عن طريق النصح والإرشاد، ومعارضة بعض الفقهاء قيامًا بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممارسةً لوظيفة الحِسْبة.

(ب) التراث والقُوَى الاجتماعية

وقد وجَدَت القوى الاجتماعية في نظريات التراث واتجاهاته خيرَ سند لها، وتدعيمًا لمركزها الاجتماعي. كما أنها ساعدت على إفرازها وصياغتها وتحويلها إلى فكر رسميٍّ للدولة. ويُمكن وصفها كالآتي:
  • (١)

    طبقة الأمراء والحكام أرادت لتزيين مجالسها الشعراءَ والأدباء والفلاسفة والعلماء. فنشأت الفلسفةُ والأدب من داخل قصور الأمراء. ومنهم مَن تَقلَّد الوزارة مثل ابن سينا أو تقلَّد المناصب العليا مثل تقلُّد ابن رشد قضاءَ قُرطبة، ومنهم من كان نجم سيف الدولة الحَمْداني مثل الفارابي. ومن هنا خرج فكر الصفوة، فكرًا فلسفيًّا نظريًّا، وجد في الفلسفة اليونانية، فلسفة الصفوة أيضًا، ما يريد.

  • (٢)

    طبقة العلماء والفقهاء والمحدِّثين، وهم في غالبهم ينتسبون إلى الطريقة المتوسطة، لا يهتمُّون بتغيير الأوضاع الاجتماعية، بل العمل من خلال الأوضاع الموجودة، وهو الفكر الرسمي لأهل السُّنة الذي أصبح فكرَ الدولة والذي منه تمت صياغة كل علوم التراث والتي استمرت حتى الآن. يغلب عليه الاتزانُ والهدوء، ويرفض الدخيل، على عكس الفلاسفة الذين تمثَّلوا الحضاراتِ المجاورةَ ودافعوا عنها.

  • (٣)

    عامة الناس التي انتشر فيها التصوف والذي تحوَّل فيما بعد إلى طرق منظمة قادرةٍ على حشد الآلاف. ولما كان التصوفُ حركةَ استبطانٍ ورجوعٍ إلى الذات وترك العالم فقد أيدَته الدولة وغذَّته بالفكر الرسمي الأشعري، فِكْر السلطة القائم على سلطوية التصور.

وحتى الآن ما زالت إلى الآن اتجاهات التراث المختلفة تُستخدَم لتدعيم القُوى الاجتماعية مثل استخدام الإسلام «الشعائري» لتدعيمِ الوضع القائم نظرًا لعدم مساسه بالأوضاع الاجتماعيَّة والسياسية والاقتصادية. وكذلك استُخدِم الإسلام «الباطن» للتأكيد على دور الإلهام في حياة الناس وأن العقل قاصر عن التحليل والفَهم، وأن كل مشاكل العالم الخارجي إنما تجد حلَّها في «التحول إلى الداخل» وفي مقولات الإيمان والطاعة والرضى.

(ﺟ) التراث والثورة

التراث نعلمه جميعًا، والثورة تعيشها أجيالنا بصرف النظر عن مراحلها: الإصلاح الديني أو النهضة أو الثورة في النهاية. فقد قدمت الشعوب غير الأوربية موضوع الثورة والتحرر إلى الوعي الإنساني على أساس أنه تَجرِبة عُمرِها. ولما كانت شعوبًا تراثية ثار في ذهنها إشكالُ التراث والنهضة كمقدمة للثورة.

وقد حاول المصلِحون والمفكرون إعداد التراث كي يكون ركيزةً للنهضة، ويُمكن إجمال هذا الإعداد في ثلاث:
  • (١)
    تغيير المراكز من الواحد إلى الكثير، أو بتعبير ديني شائع: من الله إلى الإنسان؛٢ حتى يتم تفجير القوى من خلال الفرد. فلا يوجد عصر نهضة بلا نزعة إنسانية، يستردُّ فيها الإنسانُ العلمَ والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة من الله؛ لأن الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: ٩٧]، جل شأنه، وتعالى عمَّا نَصِف. وكل نهضة في حقيقة الأمر إنما تعني الانتقالَ من «التمركز حول الله» إلى «التمركز حول الإنسان».
  • (٢)

    تغيير المحاور، من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف؛ وذلك أن الارتقاء والنكوص في التراث يتمَّان صعودًا وهبوطًا كما هو واضح في نظرية الفيض عند الفلاسفة وفي المقامات عند الصوفية. والشعوب في نهضتها إنما تنتقل من التخلف إلى التقدُّم، فالأعلى في التراث هو التقدم في النهضة، والأسفل في التراث هو التأخر في النهضة. وعلى هذا يتحول الخلود إلى زمان، والزمان إلى تاريخ.

  • (٣)

    تغيير المستويات اللاهوتية والفقهية والصورية إلى مستويات شعورية واجتماعية؛ حتى يتمَّ تحليل الظواهر تحليلًا إنسانيًّا خالصًا. فالعقائد ليست أبْنيةً إلهية، والأحكام ليست أوامرَ أو نواهيَ إلهية، والشرائع ليست مجردَ قوانينَ صورية، بل كل ذلك له وجودٌ طبيعي في شعور الفرد وفي علاقاته الاجتماعية. وبالتالي كان الانتقال من العلوم الدينية إلى العلوم الإنسانية انتقالًا ضروريًّا حتى تتم الحركة من التراث إلى النهضة.

١  انظر مقالنا: «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديموقراطية في وجداننا المعاصر» المستقبل العربي، يناير ١٩٧٩م.
٢  انظر مقالنا «ثيولوجيا أم انثروبولوجيا» في «نهضة العالم العربي» بالاشتراك مع د. أنور عبد الملك، د. عبد العزيز بلال، بلجيكا ١٩٧٢م (بالفرنسية).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤