مخزن التاريخ

في الساعة الرابعة والنصف صباحًا دار موتور السيارة اللاندروفر وغادرت الحديقة ثم صعدت إلى شارع الهرم الساكن … الذي لم يكن تقطعه في هذه الساعة المبكرة إلا بعض السيارات المسرعة تحمل آخر السهرانين في ملاهي الشارع الكبير.

كانت أضواء الفجر الباهتة تنتشر في جوانب الأفق … والهواء المنعش … والشياطين الستة مستسلمون للصمت … كانوا جميعًا يفكِّرون، عدا «زبيدة» التي تولت الإشراف على احتياجات الرحلة … فقد كانت تراجع على كشف معها ما تحمله السيارة من أطعمة وملابس، وأسلحة، وخيمة كبيرة تتسع لهم جميعًا … وزاد «أحمد» من سرعة السيارة بعد أن تركوا شارع الهرم خلفهم، وبدءُوا الطريق الصحراوي ووجهتهم المنيا … وهي المكان الذي حدده «أحمد» كأقصى ما يمكن أن ترتكب فيه حادثة السطو في اتجاه القاهرة، وقال «أحمد» قاطعًا الصمت المخيم على السيارة: أعتقد أننا سنصل إلى المنيا نحو الساعة التاسعة صباحًا.

ثم التفت إلى «زبيدة» منزعجًا وقال: هل أحضرتِ القطار معكِ؟

ردت «زبيدة» وهي تهز رأسها: لقد سألتني هذا السؤال من قبل، وقلت لك إنني أحضرته.

أحمد: ومعه بطاريات؟

زبيدة: نعم، فنحن لم نستخدم البطاريات التي كانت معه، وأدرناه في بيروت والقاهرة بالكهرباء.

وساد الصمت من جديد … ومضت السيارة القوية تشق طريقها مسرعة.

وقال «خالد» بعد قليل: إن فكرة المنحنيات التي يُبطِئ القطار سيره عندها تستحق الدراسة، ولو كان في إمكاننا أن نحصل على معلومات عن هذه المنحنيات لكسبنا وقتًا ثمينًا.

قال «أحمد»: إنني متفق معك تمامًا … وسوف نبدأ السؤال في المنيا.

بو عمير: إن الخريطة التي معنا توضح هذه المنحنيات.

أحمد: المنحنيات على الخريطة كبيرة جدًّا … وقد يبلغ طول المنحنى عشرين كيلومترًا. ونحن في حاجة إلى معلومات أدق … فبعض المنحنيات قد لا يزيد طولها على كيلومتر واحد … وربما أقل … وكل منحنًى من هذه المنحنيات قد يكون هو المكان الذي حددته العصابة.

بو عمير: في هذه الحالة كان يجب أن يركب أحدنا القطار من المنيا إلى قِنا ويحدد المنحنيات على الخريطة.

أحمد: ما زال هذا ممكنًا …

وعاد الصمت يسود السيارة … وفتح «عثمان» جهاز راديو ترانزستر على موسيقى خفيفة … ونظر «أحمد» إلى ساعته … ثم داس على بدال البنزين رافعًا سرعة السيارة إلى ١٢٠ كيلومترًا في الساعة.

وفي الثامنة و٤٥ دقيقة، بدأت السيارة تشق طريقها داخل مدينة المنيا حتى وصلت إلى محطة السكة الحديد … وقال «أحمد» وهو يوقف السيارة: إنني أبحث عن صيغة معقولة أسأل بها ناظر المحطة عن منحنيات الطريق … إنه بالقطع سوف يظنني مجنونًا.

قفزت «زبيدة» من السيارة قائلة: دع هذا للفتيات … سوف أخترع لحضرة الناظر قصة ممتازة عن حلية فقدت مني عند أحد المنحنيات التي لا أذكرها … و… و…

وابتسم الشياطين … وأسرعت «زبيدة» تختفي داخل مبنى المحطة … بينما قال «أحمد»: أظن أن في إمكانكم تناول إفطار مصري آخر … طعمية ساخنة!

وعندما عاد «أحمد» يحمل لهم كميات السندوتشات للإفطار … كانت «زبيدة» قد عادت هي الأخرى … وسمع «أحمد» من بعيد مناقشة حامية بين الشياطين … وأرهف أُذنيه … إن المناقشة تدور حول صدفة غير معقولة … وزاد سرعته حتى وصل إلى السيارة ووقف يستمع … وقال «بو عمير»، موجهًا حديثه إلى «أحمد»: لقد عثرنا على ما كنت تبحث عنه … صدفة غير معقولة … أو قل إنها أفضل ظروف ممكنة للعصابة لتقوم بضربتها.

قال «أحمد» وهو يغمض عينيه: إنني أستمع إليكم … وأتمنى أن تكون «زبيدة» قد عادت بمعلومات تحدد المنحنيات بدقة.

قالت «إلهام»: لقد عادت بمعلومات عن مكان الحادث!

أحمد: غير معقول!

إلهام: إذا استخدمنا أسلوبك في التفكير … ووضعنا أنفسنا مكان العصابة فلا بد أنها استغلت هذه المعلومات لتحديد أفضل مكان للسرقة.

أحمد: كيف؟

إلهام: قولي يا «زبيدة».

زبيدة: ناظر المحطة يقول إن القطار لا يهدئ سرعته في المنحنيات فقط … ولكن عند التصليحات أيضًا …

أخذ «أحمد» نفسًا عميقًا وقال: هذا هو المكان المثالي فعلًا … حيث يمكن الحفر لتركيب التوصيلة دون أن يلفت الأنظار … وحيث يمكن أن تكون هناك أتربة حديثة دون أن يشك أحد … وحيث يمكن أن تكون قطع من الخشب والحديد … نعم … نعم …

وارتفعت نغمة الحماس في صوت «أحمد»، وأمسك «زبيدة» من ذراعها قائلًا: إنكِ شيطانة حقًّا … وهل حددتِ المكان على الخريطة؟

قالت «زبيدة»: إنه ليس مكانًا واحدًا فقط … إنهما مكانان … أحدهما بين مدينتي صدفا وأسيوط، والثاني بين مدينتي أرمنت والأقصر.

قفز «أحمد» إلى السيارة قائلًا: المكان الأول أقرب إلينا … وسننطلق فورًا إلى هناك.

ارتفعت الأحاديث في السيارة بعد ذلك … وبدت ساندوتشات الطعمية أمتع وألذ … وبعد ساعتين من القيادة المثيرة … أشرفوا على مدينة صدفا، وقال «أحمد» وهو يبتسم: لعلكم لا تعرفون أن صدفا هي أخطر مراكز القتل في جمهورية مصر العربية … ومنها خرج أشهر القتلة.

إلهام: هل تثير فزعنا مثلًا؟

أحمد: ليس من المستبعد أن نصطدم بمجرمين من صدفا، وهم جميعًا من المطاردين.

زبيدة: ما معنى المطاردين؟

أحمد: إنهم الأشخاص الهاربون من أحكام القضاء، يلوذون بالجبل المتسع حيث يصعب الوصول إليهم … وإن كانت جهود رجال الأمن المصريين قد قضت إلى حد بعيد على هذه الظاهرة.

واقتربوا من المدينة الصغيرة. وعندما وصلوا إلى مشارفها، أخذوا طريقًا موازيًا لشريط السكة الحديد … وسرعان ما عثروا على مكان الإصلاح … وكان هناك مجموعة من العمال تتولى استبدال الفلنكات، وهي القطع الخشبية الضخمة التي تحمل القضبان الحديدية. ونزل «أحمد» و«بو عمير» واتجها إلى مجموعة العمال … كانت الأسئلة التي في رأس «أحمد» تدور حول أشخاص غرباء تواجدوا في هذا المكان في الفترة الأخيرة … وعن موعد البدء في الإصلاح … وهل هناك ملاحظات عن أية أشياء غريبة حدثت أثناء الإصلاح.

ولم تكن هناك أية إجابات مشجعة … لا أشخاص غرباء … لا أشياء غير عادية. وعن تاريخ الإصلاح قالوا إنهم بدءُوا منذ عشرين يومًا تقريبًا.

قال «أحمد» يسأل رئيس العمال: هل أنتم الذين تتولون إصلاح الطريق عند أرمنت؟

ردَّ رئيس العمال: لا … إنها مجموعة أخرى تتبع محافظة قنا!

وأشار «أحمد» إلى بقية الأصدقاء فنزلوا من السيارة … وأخذوا يطوفون بمنطقة الإصلاح … يفحصون قطع الأخشاب المتناثرة … وآثار الحفر هنا وهناك … ويتتبعون آثار الأقدام الذاهبة إلى الجبل القريب … وكان العمال يتبعونهم بأعينهم مندهشين، ولكن الشياطين كانوا يعرفون ما يبحثون عنه … ومضت الساعات وهم يوسعون دائرة بحثهم … ولكن … لا شيء على الإطلاق.

أشرفت الساعة على الثالثة مساءً. وقرر الشياطين الانطلاق فورًا إلى مكان الإصلاح الثاني عند الأقصر … وكانت الشمس قد ألهبت رءوسهم … وأحسوا بالجوع والعطش والحاجة إلى الراحة بعد عناء السفر الطويل … ولكن «أحمد» كان مستغرقًا في التفكير وكأنه قد انفصل بفكره عنهم جميعًا … كان يشعر كأن عجلات القطار تدور في رأسه، إن مكان الإصلاح أوحى له بأفكار كثيرة … أفكار عائمة … ولكنه يحاول أن يبلورها … ومضت السيارة تهدر على الطريق تحت أشعة شمس الصعيد الحامية … وتناولوا بعض الساندوتشات وشرب كل منهم زجاجة كوكا كولا مثلجة من الثلاجة الصغيرة الموضوعة تحت الكراسي. وفي السادسة مساءً كانوا قد أشرفوا على الأقصر … المدينة التاريخية حيث أكبر مجموعة من الآثار في مكان واحد … وادي الملوك … وادي الملكات … معبد الكرنك الشهير. قال «أحمد» وهو يشير إلى المدينة: إنكم مقبلون على مخزن التاريخ.

ودارت رءُوس الشياطين تنظر هنا وهناك … ثم تجاوزوا المدينة والتزموا مرةً أخرى خط السكة الحديد … وبعد ٤٠ كيلومترًا تقريبًا … أشار «خالد» إلى مكان الشريط وقال: هذه مجموعة من أخشاب الفلنكات الجديدة. يبدو أن الإصلاح كان هنا.

أوقف «أحمد» السيارة على جانب الطريق وقفز من السيارة … ووقف يتأمل ما حوله ثم قال: انظروا إلى هذه التلال … هذا المنحنى الصغير عند مكان الإصلاح … لو كنت مكان العصابة …

وأكملت «إلهام»: … لقمت بعملية السطو في هذا المكان!

وضحك الشياطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤