رأس الثعبان

سنعسكر هنا الليلة.

قال «أحمد» هذه الجملة وهو يشير إلى الجانب الغربي من الطريق … وسرعان ما كان الشياطين الستة ينزلون الخيمة … وعاد «أحمد» يقول: لقد حدث كل شيء هنا … لا بد أن يكون قد تمَّ هنا …

قال هذا وكأنه يحدث نفسه … ومضى الشياطين في عملهم … وتركهم «أحمد» وأخذ ينظر حوله. مكان نموذجي للسرقة. وربما كان هذا هو خطأ العصابة الوحيد … إن وجود مكان ممتاز للسرقة يحدد على الفور ما حدث … ولكن أين الأدلة؟ أين التحويلة وكيف أعدوا الخطة. أهم من هذا كله … أين عربة القطار المحملة بالذهب؟ إنها لم تختِف في الهواء … لا يمكن أن توضع في منديل كما يفعل الساحر بالفيل … إنها هنا في مكان ما حوله. في هذه الجبال الصلبة الصفراء. ولكن أين؟

ظلَّ يتجوَّل في المكان. فحص القضبان. إنها جديدة لأنهم غيروها، وهكذا فإنه لن تظهر عليها أية آثار، ولو كانت قضبانًا صدئة لبدت آثار ربط التحويلة. لقد أعدوا خطتهم ببراعة وساعدتهم الظروف وكأنها تعمل معهم.

وعاد إلى الشياطين. كانت الخيمة قد انتفخت ووقفت في ظل تل مرتفع. وأخذت الأدوات تنقل من السيارة … ومد سلك به لمبة كهرباء موصلة بموتور السيارة الدائر.

وعندما مالت الشمس للمغيب كان معسكر الشياطين قد أُعدَّ، وجلسوا خارج الخيمة يتحدثون ويرسمون خطة البحث.

قالت «زبيدة»: أعتقد أننا يجب أن نحفر خطًّا موازيًا لخط السكة الحديد بامتداد خمسين أو مائة متر. إن التوصيلة التي نبحث عنها لا بد ستترك آثارًا، وهم بالطبع قد غطوا هذه الآثار … وإذا استطعنا أن نحفر هذا الخط في المنطقة التي نتصور أنهم نفَّذوا خطتهم فيها … فربما عثرنا على أثر.

قال «أحمد»: معقول … معقول جدًّا … سنحفر على الجانبين. الجانب الشرقي ثم الغربي. ولكن هل معنا أدوات حفر؟

زبيدة: للأسف لم يخطر ببالي أننا سنحتاج إليها.

أحمد: إنه خطئي … فقد كان يجب أن أُفكر عند إحضار السيارة …

بو عمير: على كل حال يمكن الحصول عليها من مدينة الأقصر.

هبط الظلام تدريجيًّا على المنطقة الموحشة. وساد الصمت. وقال «أحمد»: سيظهر القمر في ساعة متأخرة. أريد أن أتجول في المنطقة قليلًا.

وقام وفكَّر قليلًا ثم قال: هل تأتي معي يا «بو عمير»؟

بو عمير: طبعًا … هل أحضر سلاحًا؟

أحمد: نعم. فهذه المنطقة تنتشر فيها الثعابين. وهات بطارية.

وسار «أحمد» و«بو عمير» … وبين لحظة وأخرى كان «بو عمير» يطلق شعاعًا من بطاريته. وسارا خلف التل وقال «أحمد»: إنني في حاجة إلى دليل واحد … دليل صغير فقط على أنهم كانوا هنا … إن المكان مناسب جدًّا … إنه المكان النموذجي … هناك منحنًى قريب يهدئ القطار فيه من سرعته. هنا إصلاح يمكن أن يخفي آثار تركيب الوصلة. وهنا تلال يمكن الاختباء فيها. ولكن هذا كله ليس دليلًا، إنه إمكانيات ممتازة فقط!

فجأة جمد «بو عمير» مكانه وهو يطلق ضوء بطاريته. ثم قال: ثعبان!

ووضع البطارية في يده اليسرى وسحب مسدسه بسرعة، واتجهت عينا «أحمد» إلى حيث سقط الشعاع. كان الثعبان الطويل ممددًا في هدوء على الرمال. ولاحظ «أحمد» على الفور أن عددًا هائلًا من النمل مجتمع حوله فقال: إنه ميت.

قال «بو عمير»: نعم … ميت!

واقترب أكثر ووجَّه ضوء بطاريته بتركيز شديد على رأس الثعبان ثم قال: مات بطلقة رصاص!

أحمد: رصاص!

بو عمير: نعم … طلقة رصاص أصابت الرأس تمامًا.

أحمد: إن الفلاحين لا يقتلون الثعابين بالرصاص … إنهم يقتلونها بالفئُوس. هل أنت متأكد؟

بو عمير: نعم … إنه عملي.

أحمد: إنك أكثرنا خبرةً بأدوات القتل … ولكن … هل أنت معي؟

وفهم «بو عمير» على الفور ما يقصده «أحمد» وقال: نعم.

واقترب من الثعبان وجلس القرفصاء … ثم أخرج مطواة ضخمة من حزامه، وبضربة واحدة فصل رأس الثعبان. ثم علقها بطرف المطواة وعلى ضوء البطارية أجرى «بو عمير» عملية تشريح سريعة للرأس، ثم مد أصابعه وأخرج رصاصة وضعها على كفه وقال: أطلقت من مسدس كولت عيار ٤٥مم.

انحنى «أحمد» على الرصاصة وأمسكها بين أصابعه ونظر إلى «بو عمير» … ولاحظ «بو عمير» رغم الظلام النظرة اللامعة في عيني «أحمد» وقال: هل هذا هو الدليل الذي كنت تبحث عنه؟

قال «أحمد» وهو يقف: نعم … لقد كانوا هنا … بل هم هنا حولنا في مكان ما يا «بو عمير» … هيا بنا نعد.

أسرعا إلى حيث كان بقية الشياطين ما زالوا جالسين يتحدثون … وجلس «أحمد» وسط دائرة الضوء وفتح يده وقال: رصاصة في رأس ثعبان. مسدس كولت ٤٥مم.

وفهم الشياطين ما يقصده «أحمد». وقذف «عثمان» كرته الجهنمية إلى فوق وقال: والآن أين الرءُوس التي أضربها؟

رد «أحمد»: ستكون هناك رءُوس كثيرة تستحق الضرب … ولكن هناك مسألة هامة … إن العصابة لا يمكن أن تكون قد أتت وعسكرت هنا وقامت بمد التحويلة دون أن يشعر أحد … إن ذلك مستحيل. إنها جاءت ونفَّذت خططها تحت ستار من التمويه الدقيق …

إلهام: سواح مثلًا!

أحمد: ممكن … ولكن ماذا يدعو مجموعة من السواح للحفر والتركيب. لا. إنهم هنا تحت ستار آخر …

ونظر «أحمد» في ساعته ثم قال: الساعة الآن التاسعة والربع ما زال أمامنا وقت للذهاب إلى الأقصر والسؤال … إن أقرب مدينة فيها فنادق هي الأقصر … إنهم لم يناموا في الصحراء مثلنا … إنهم ينامون في فنادق محترمة … ويخرجون للعمل ليلًا … ستأتي معي «إلهام» و«زبيدة» و«بو عمير».

وانطلق الأربعة بالسيارة وقال «أحمد»: ستكون وجهتنا فندق «ونتر بالاس» إنه أفخم فنادق المدينة. وقد علمتني التجارب أن اللصوص يختارون أفخر الفنادق، ويعيشون حياة مثالية في ظاهرها، فذلك في اعتقادهم أفضل طريق لإبعاد الشبهات عنهم!

وبعد نصف ساعة كانوا أمام الفندق الفخم. وكانت الأضواء تملأ جوانب الساحة الخارجية. وعشرات من الناس يتحركون في كل اتجاه … وموسيقى راقصة تنساب من الأبواب الزجاجية. والخدم بثيابهم الحمراء المزركشة يقفون قرب الأبواب يفتحون للداخلين والخارجين.

قال «بو عمير» وهم ينزلون من السيارة: هل عندك خطة معيَّنة؟

أحمد: لا شيء أكثر من أننا نبحث عن رجل يحمل مسدس كولت ٤٥مم.

زبيدة: وهل تتصور أنه سيضعه أمامه على المائدة حتى نتعرف عليه؟

ابتسم «أحمد» وقال: نعم … هذا ما أتوقعه …

وضحك الأربعة وهم يدخلون إلى صالة الفندق الواسعة … كانت هناك فرقة موسيقى تعزف وبعض الراقصين في حلبة الرقص … وآخرون حول الموائد … وكان أكثر الموجودين من الأجانب … واختار «أحمد» مائدة في مكان خافت الضوء وجلسوا … وقال «أحمد»: شيء مدهش هذا العدد الكبير من السواح في الصيف …

وعندما حضر الجرسون الشاب قال له «أحمد» نفس الملاحظة فقال الجرسون: الواقع أنهم ليسوا جميعًا سواحًا … فعدد منهم أعضاء بعثة أثرية تقوم بالحفر بحثًا عن كنوز التاريخ المدفونة في أرض مصر كالمعتاد.

عاد «أحمد» يسأله: ومن أين أتت هذه البعثة؟

ردَّ الشاب: لا أعرف يا أستاذ … فقد تسلمت عملي أمس فقط.

فقال «أحمد»: أرجو أن تسأل متى أتوا … وكم عددهم … وإلى أي جنسية ينتسبون … ولك عندي مكافأة سخية؟

وبعد أن كتب الشاب ما طلبه الشياطين الأربعة انصرف، وقد وعدهم أن يعود إليهم بالمعلومات التي طلبها «أحمد» … وانصرف الشياطين للاستمتاع بالرقص … وفجأة قال «أحمد» ﻟ «إلهام» وهو يقف وينحني أمامها: هل تسمحين بهذه الرقصة؟

دهشت «إلهام». وابتسمت «زبيدة». وزَمَّ «بو عمير» شفتيه … ثم قامت «إلهام» وتقدمت «أحمد» إلى باحة الرقص المزدحمة … واندمجا في رقصة سريعة صاخبة، ونسيت «إلهام» نفسها وانهمكت بالاستمتاع في الرقصة، ولكنها لاحظت أن وجه «أحمد» لم يكن وجه شخص يرقص. فقد بدت عليه علامات الحذر والتوقع … ولاحظت أنه يقودها للاندماج وسط الراقصين … بل لاحظت أكثر أن «أحمد» … وهو راقص ماهر يتعمد أن يرتكب أخطاء ضايقت بعض الراقصين الآخرين … ولكنها أدركت لماذا يفعل «أحمد» هذا … خاصةً عندما احتضنها وشعرت بأنفاسه الساخنة تلفح رقبتها وهو يهمس في أُذنيها: رجل مسلح!

همست أيضًا: ذلك الذي تعمدت أن تخبط فيه؟

أحمد: نعم … انظري إليه جيدًا … إن شكله يعتبر نموذجًا لرجل العصابات.

ودار «أحمد» ليقرِّب «إلهام» من الرجل … ونظرت إليه «إلهام» من تحت رموشها المسبلة … كان قصير القامة. عريض الكتفين بشكل غير مألوف كأنه مصارع … كثيف الشعر. عصبي الحركات. حذر العينين كأنه ذئب مطارد … ولاحظت كما لاحظ «أحمد» قبلها ذلك الانتفاخ قرب الحزام … مسدس ضخم تحت الجاكت الأصفر الغامق ومن بين كل الحاضرين لم يكن هناك سوى رجلين يلبسان الملابس الكاملة.

قالت «إلهام» ﻟ «أحمد»: هل يكفي هذا للتدليل على أنه أحد ممن نبحث عنهم؟

ردَّ «أحمد»: ولكن أليس مثيرًا للشبهات بما يكفي لمتابعته … جاكت في هذا الحَرِّ … مسدس في الحزام … عيون حذرة … وجه شرس …

ومن بعيد كان «بو عمير» و«زبيدة» يرقبان «أحمد» و«إلهام» … وقالت «زبيدة» بخبث: إن حديثهما الهامس لافت للأنظار …

وقبل أن يرد «بو عمير» … وصل الجرسون الشاب وسأل عن «أحمد» … فقال «بو عمير»: تستطيع أن تقول لي معلوماتك.

ومال الشاب على «بو عمير» وأخذ يتحدَّث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤