ماذا تحت الأرض؟

عاد «أحمد» و«إلهام» إلى المائدة. فقال «بو عمير»: بعثة الآثار في مصر منذ ثلاثة شهور، تعمل في المنطقة بين الأقصر وأرمنت … أعضاؤها جميعًا من الفرنسيين.

استمع «أحمد» بانتباه إلى هذه المعلومات ثم قال: الرجل القصير ذو الجاكت الأصفر يحمل مسدسًا في حزامه. حاولت الاصطدام به لإسقاط المسدس حتى أتعرف عليه ولكني لم أنجح.

قالت «زبيدة»: أستطيع أن أنجح أنا … هيَّا نرقص يا «بو عمير».

وانطلق الشابان. وانهمكا في الرقص، و«أحمد» و«إلهام» يرقبان خطة «زبيدة»، وسرعان ما حققت الفتاة الذكية ما أرادت … فقد استطاعت أن تراقص الرجل ذا المسدس … بينما انتقلت السيدة التي كانت تراقصه إلى «بو عمير».

كان الرجل القصير شديد السعادة بالفتاة السمراء التي هبطت عليه من السماء … فأخذ يبذل ما في وسعه ليجاريها في الرقص … وزادت سعادته عندما احتضنته «زبيدة» ودارت به في الحلقة وهو يبتسم وقد تخلَّى عن حذره … واستسلم ﻟ «زبيدة» تحركه كيف تشاء …

قالت «إلهام»: يا لها من فتاة!

ثم لاحظا أن «زبيدة» والرجل يتحدثان ويبتسمان … ثم غادرا باحة الرقص إلى شرفة الفندق … بينما استمر «بو عمير» يرقص مع زميلة الرجل … كان «بو عمير» بقوامه الفارع الأسمر قد انهمك في الرقص وأصبح موضع اهتمام المتفرجين … وكانت زميلته الشقراء تباريه في المهارة … ومضى الوقت وارتفعت درجة حرارة الرقص.

فقال «أحمد»: يبدو أننا سنحل المشكلة عن طريق الرقص لا عن طريق الاستنتاج ولا العنف …

إلهام: هل أخرج لأرى ما يحدث؟ قد يلجأ الرجل إلى العنف مع «زبيدة» إذا اكتشفت أنها تحاول معرفة حكاية المسدس!

أحمد: سنخرج معًا.

وخرجا إلى الشرفة. ولم يكن هناك الرجل ولا «زبيدة». ونزلا إلى الحديقة … ولكن الرجل و«زبيدة» كانا غير موجودين أيضًا … وعلى امتداد البصر خلف الفندق لم يكن هناك أحد سوى المصابيح الضئيلة تشترك في محاولة لتبديد الظلام.

لم يتحدثا … فقد كان كل منهما يعرف ما يفكر فيه الآخر … هل أوقع الرجل ﺑ «زبيدة» وعرف حقيقتها … أو أن «زبيدة» هي التي أوقعت بالرجل؟ وأين هما؟ ولم يكن من الممكن الوصول إلى إجابة.

وعادا إلى صالة الرقص مسرعين … ولم تكن «زبيدة» قد عادت … بل كان «بو عمير» والشقراء يجلسان مع عدد من الأجانب والجميع يتحدثون.

قال «أحمد»: سننتظر حتى ينتهي «بو عمير».

ومرَّ الوقت. وبدأت الصالة تخلو من روادها، ثم خرج «بو عمير» مع المجموعة التي كان يجلس معها … ولم يكن أمام «إلهام» و«أحمد» إلا أن يخرجا … ووجدا «بو عمير» ومن معه قد اتجهوا إلى شاطئ النيل … وبدءُوا يركبون قاربًا … فقال «أحمد»: سنعود إلى المعسكر وننتظر.

وركبا السيارة وعادا.

ووجدا «عثمان» و«خالد» قد تمددا خارج الخيمة على ظهريهما يتأملان النجوم البعيدة في الظلام … وشرح «أحمد» في كلمات موجزة ما حدث … وتم توصيل لمبة الكهرباء بموتور السيارة … وعاد الضوء يغمر المكان.

قال «عثمان»: ماذا تتوقعان من غياب «زبيدة»؟

أحمد: لا أدري … ولكن من المؤكد أنها ستعود بمعلومات.

ولم ينتهِ «أحمد» من جملته حتى سمعوا صوت أقدام مقبلة … وظهر شبحان من بعيد وقفا يتحدَّثان ثم انصرف أحدهما وأقبل الآخر … وقال «أحمد» بسرعة ﻟ «عثمان»: اتبع الشبح الذي انصرف إنه الرجل ذو المسدس.

وأسرع «عثمان» ينسل في الظلام … وجاءت «زبيدة» وجلست، ومضت تقدِّم تقريرًا سريعًا: الرجل يدعى «لنك» وهو مهندس معماري ملحق ببعثة الآثار … وقد ذهبت معه إلى معسكر البعثة وهو قريب من هنا … بعد أن أقنعته أنني مهتمة بالآثار … قال لي إنهم يبحثون عن تمثال كبير لأحد ملوك الفراعنة، وإن مصلحة الآثار تقدم لهم كل عون. وقد قاموا بعدة حفريات خلال الشهور الثلاثة ولكنهم حتى الآن لم يوفَّقوا … ووجدت في المعسكر ثلاثة من أعضاء البعثة … وقد أوصلني «لنك» إلى هنا، على موعد أن نلتقي غدًا وهم يعملون.

سأل «أحمد»: والمسدس؟

ابتسمت «زبيدة» قائلة: إنني لم أنسَ مهمتي الأصلية … فقد قلت له إننا مجموعة من الشباب جئنا لزيارة مناطق الآثار … وإن ما يضايقنا هو وجود الثعابين والعقارب في المنطقة.

وسكتت «زبيدة» لحظات ثم قالت: وقال لي «لنك» بمنتهى البساطة إنه قتل ثعبانًا ضخمًا قريبًا من معسكرنا بطلقة من مسدسه.

ابتسم «خالد» قائلًا: يا لكِ من داهية.

وعاد «أحمد» يسأل: ما هو نوع الآلات والتجهيزات التي معهم؟

زبيدة: الأدوات التي توجد في عمليات الحفر كلها … الفئُوس … الرافعات.

أحمد: لا شيء يلفت النظر؟

زبيدة: لم يكن هناك ضوء كافٍ لرؤية كل شيء … ولكن غدًا في النهار سأدقق في فحص كل ما عندهم.

برز من الظلام شبح «عثمان» وتقدم وجلس … بدا سارحًا قليلًا وهو يقول: لقد أفلت مني … شيء لا يصدق … كنت أسير قريبًا منه بين التلال قريبًا من هنا … وفجأة اختفى كأن الأرض انشقت وابتلعته …

اهتم «أحمد» بحديث «عثمان» وقال: انشقت الأرض؟

عثمان: لا أقصد بالضبط أن الأرض انشقت … ولكن اختفى بطريقة غامضة …

عاد «أحمد» يقول: إن التعبير معقول جدًّا … لقد انشقت الأرض وابتلعت عربة الذهب … وها هي تنشق مرة أخرى وتبتلع «لنك» …

وساد الصمت الأصدقاء … ولم يعد يقطع السكون إلا صوت موتور السيارة وهو يدور في رتابة. قال «أحمد»: لقد قضيا يومًا شاقًّا … في إمكانكم أن تناموا … سأقوم بالحراسة أول الليل … وسأنتظر حضور «بو عمير» …

وأخرج «أحمد» القطار الصغير من علبته، وأداره وجلس بجواره، يتأمله. ومضت ساعتان، وظهر «بو عمير»، فانضم إلى «أحمد» … وقال: إن البعثة الأثرية لا غبار عليها.

أحمد: كيف؟

بو عمير: لقد تحدثت مع مفتش الآثار المصري. فقال لي إن البعثة متفق على حضورها منذ العام الماضي … ورئيسها هو المليونير والعالم الأثري الفرنسي الشهير «رينيه بلانكارد» وهو الرجل الطويل القامة ذو اللحية الذي كنت أجلس بجواره في الفندق.

أحمد: لقد لاحظته … إن مظهره يوحي بالاحترام حقًّا … بلحيته الصغيرة وعويناته الذهبية الرقيقة. وهذا الانحناء الخفيف في أكتافه دليل الانكباب على القراءة.

بو عمير: وقد تحدثت مع أعضاء البعثة وفهمت أنهم لم يعثروا على شيء بعد … ونظرًا لاشتداد الحرارة فقد قرروا إيقاف العمل، على أن يعودوا في الشتاء القادم.

قال «أحمد» بضيق: إن هذه المعلومات للأسف الشديد تحطم أفكاري كلها، فقد كنت أتصور أنها عصابة جاءت في ثياب علماء الآثار للاستيلاء على عربة الذهب ولكن حديث مفتش الآثار … وإشراف الحكومة على أعمال البعثة لا يدع مجالًا للشك فيها.

بو عمير: شيء يدعو إلى اليأس.

أحمد: ولكن الحقيقة التي لا يمكن تناسيها أن عربة «قطار الذهب» قد سرقت فهي لم تختفِ وحدها … فأين ذهبت؟ ومن الذي …

بو عمير: ألا يمكن أن تكون البعثة بريئة … ولكن بعض أفرادها هم الذين قاموا بالسرقة!

أحمد: هذا ما سنحاول أن نثبته غدًا … هل تستطيع تقديمي إلى رئيس البعثة المسيو «رينيه»؟

بو عمير: بالطبع … فقد أصبحنا أصدقاء.

أحمد: إلى الغد إذن … فإذا لم نصل إلى شيء، فلا بد أن نعيد حساباتنا كلها. وعليك أن تنام الآن، وسأوقظ «عثمان» بعد قليل لتولي الحراسة حتى الصباح.

بعد لحظات عاد الصمت يلف المكان … وجلس «أحمد» وحيدًا تحت النجوم يفكِّر … لقد كانت حساباته كلها معقولة … المسافة التي قطعها القطار … المكان النموذجي للسرقة … الإصلاحات التي تخفي آثار التحويلة … رصاصة المسدس الكولت في رأس الثعبان والتي تدل على وجود غرباء في المكان … ولكن كل هذا لا يصمد أمام الحقائق، أن «لنك» عضو في بعثة محترمة للبحث عن الآثار … وأن هذه البعثة حضرت بعلم الحكومة وبمواعيد محددة …

وهزَّ «أحمد» رأسه وهو يصيح في الظلام: إذن كيف اختفت عربة القطار؟ ونظر إلى ساعته … كانت قد أشرفت على الثالثة صباحًا … وأحس بالنوم يداعب عينيه فقام بإيقاظ «عثمان».

وعندما استسلم «أحمد» للنوم … نظر «عثمان» حوله … ثم تسلل بهدوء مبتعدًا عن المعسكر … إن اختفاء الرجل عند التل القريب لا يمكن أن يمر دون أن يبحثه … هناك شيء غريب في هذا الاختفاء. لقد كان أمام عينيه ثم فجأة اختفى …

واقترب «عثمان» من التل … وأخذ يدور حوله ويدور … وخُيِّلَ إليه أنه يسمع حركة ما … ووقف وقد تحوَّل إلى كتلة من الانتباه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤