مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ

وبعد، فأتقدم بهذا الكتاب «مَلْقَى السبيل» إلى قرَّاء العربية، بعد أن قضيت ما يُنَيِّف على عشر سنوات مُكِبًّا كل الإكباب على دراسة مذهب العلَّامة «داروين» في النشوء والارتقاء، ترجمت خلالها كتابه «أصل الأنواع»، وطالعت زُبدة المؤلفات التي كتبها، والتي كتبها غيره من جهابذة علماء القرن الماضي مثل «هيكل» و«وولاس» و«شميت» و«برون» و«نايجيلي» و«هكسلي» في أصل الأنواع وأصل الإنسان، والأساتذة «أرثر طمسون» و«جوهانسن» و«ويزمان» و«مندل» في الوراثة، وخرجتُ من مجمل ذلك بمذكرات وتعليقات، إن أردت أن أخرجها في كتاب لأتمت صفحاته بضعة آلاف صفحة.

لذلك آثرتُ أن أُخرج ما جمعتُ موزعًا على عدَّة كتب أبدأ منها بهذا الكتاب، وسوف أنشر بقيتها في كتب خاصة، كما أني آثرت أن أخص كتاب «أصل الأنواع» بتعليقات من التراجم والمصطلحات وشرح أوصاف النباتات والحيوانات والحفريات والمواقع الجغرافية مع البيان عن كثير من مشكلات التاريخ الطبيعي التي عرض ذكرها في ذلك الكتاب القيم. غير أني أبقيت على كل هذا إلى الطبعة الكاملة التي أُعدها لذلك الكتاب. على أن إعدادها للطبع لا يستغرق من زمني أقل من ستة أشهر. لهذا آثرتُ أن أُخرج هذا الكتاب، وهو أصح ما يكون مقدمة مستفيضة يدخل بها القارئ إلى كتاب «أصل الأنواع».

وكان قد خطر لي أنَّ أَمْثَلَ طريقة لِبَثِّ هذا المذهب أن أنشر هذه الأبحاث في مجلدات صغيرة تحت عنوان «مذهب النِّشُوء والارتقاء». وطبعت الفصلين الأول والثاني في كتيب صغير تحت هذا العنوان ونشرته بين القراء، غير أنه استبان لي بعد قليل أنَّ أَضْيَعَ ما تكون الفائدة من نشر المذاهب، ففي نشرها قِطَعًا وإعطائها للقراء أقساطًا؛ لأن المذهب العلمي كالمذهب الفلسفي، قد يتجزأ، ولكن يجب أن يخرج كل جزء منه كاملًا حاويًا لمجموعة من الفِكَر تؤدي إلى ذهن الباحث فكرة كاملة عن الناحية التي يتناولها. ولعلِّي ظافرٌ الآن بما لم أظفر به في المحاولة الأولى. ولهذا الغرض نفسه قسمت الفصل الأول المنشور في «مذهب النِّشُوء والارتقاء» إلى فصلين، جعلت الأول تمهيدًا وبيانًا للغرض من الكتاب، وما بقي منه يؤلف الفصل الثاني من هذا الكتاب. أما الفصل الثالث فلم أغير منه حرفًا، وهو بذاته الفصل الثاني مما نُشر قبلًا.

•••

إن لمذهب النِّشُوء والارتقاء من الأثر في فروع العلم الحديثة ما يجعلني أعتقد تمام الاعتقاد بأن هذا المذهب جدير بأن يقف الإنسان أكبر شطر من حياته وجهوده في سبيل درسه ونقله إلى العربية، وأبناء الضاد على أبواب انقلاب علمي أدبي أخذت معاوله تهدم في بناء أساليبنا القديمة لتحل محلها أساليب حديثة للتفكير. فعسى أن يسد هذا الكتاب ثغرة من تلك الثغرات التي سوف يحدثها الانقلاب الأسلوبي في بلادنا وفي غيرها من البلاد التي تجتاز عقلية أفرادها شوطًا من النِّشُوء شبيهًا بالشوط الذي نمضي جادين في سبيله، متناهبين حلبته.

أحطت في هذا الكتاب بنقد رجلين من رجال القرن الماضي، هما دكتور «شميل»، والسيد «جمال الدين الأفغاني»، لما كان لأولهما من الأثر في نشر المذهب الدارويني مشبعًا بالرأي المادي، ولما كان لثانيهما من الأثر في العمل على نقض المذهب، قضاءً لمعتقده من أن نشر هذا المذهب قد يُفسد من طبيعة الشرقيين وتقاليدهم أكثر مما ينفعهم. نقدت دكتور شميل؛ لأنه اتخذ مذهب النِّشُوء منسوبًا إلى «داروين» ذريعة لإثبات المذهب المادي الذي اعتنقه ودافع عنه طوال أيام عمره. وأسهبت في نقد رسالة «الدهريين» التي كتبها السيد الأفغاني إسهابًا، كانت بغيتي فيه شرح الأصول العلمية التي ترتكز عليها فكرة النَّشُوء أكثر من تعمدي النقد لذاته. ذلك لما في تلك الرسالة من بعد عن محجة التحقيق، وتخبط في شرح الحقائق الطبيعية والمذاهب الفلسفية، مما حدى بالكثيرين من أبناء الجيل الماضي إلى أن ينظروا إلى العلم الطبيعي نظرة الجزع والاستكراه.

وإني لأشعر وأنا مُكِبُّ على كتابة هذه السطور أن جرأتي على مثل هذه الموضوعات سوف تثير عجب الكثيرين من القراء والباحثين. على أني لا أشك مطلق الشك في أن إحساسهم بالعجب لا يلبث أن يزول متى عرفوا بأني أكببت على ترجمة كتاب «أصل الأنواع» منذ عشرة أعوام ونيف، حيث كنت إذ ذاك مكبًّا على الفلسفة القديمة أنهل من موارد العرب بأقصى ما تصل إليه استطاعتي. حينذاك وقعت في يدي نسخة من كتاب الدكتور «شميل» (فلسفة النِّشُوء والارتقاء) فأحدثت قراءتها في ذهني من الانقلاب ما يعجز قلمي عن التعبير عنه أو وصفه. فدلفت بقدمي في مفازة الآراء المادية. والحق أنها مفازة كثيرة الأشواك موحشة مجرودة صمَّاء، عانيت في اجتيازها أشد ما يعانيه كل مَنْ تعمد مثل هذه الأسفار الطويلة من مشقات يتلقفها فيه الشك بعد اليقين، ويقرضه فيها اليقين شيئًا من الطمأنينة والهدوء، بعد أن يعنته الشك وتقتله الريب.

لم يكن مثلي في سفري هذا إلا كمثل مَنْ وقع على درب تقدمه فيه جبابرة أصحاب العقول من الأوربيين منذ أوائل القرن السابع عشر، فسار على أثرهم، ولكنه كان كالقزم يخاطر بنفسه في طريق صعر فيها خده كل جبار، ومن ثم أرتد كليل الطرف، مشتت الفكر.

وإني إن استعذت بالله من شر شيء، فإنما أستعيذ به من شر التعصب المذهبي. فإني لم أشعر في يوم من الأيام بأن العلم الإنساني قد وصل إلى معرفة حقيقة شيء في ذاته، أو ماهية شيء في ذاته. وإن كنت على علم بشيء، فإني إنما أعلم أن ما أكتب اليوم وما كتبت من المذكرات والتعليقات، وكل خطرات نفسي، ليس لي فيه من فضل إلا فضل المثابرة على تفهم المذاهب الحديثة في النشوء وعلاقته بفروع المعرفة الإنسانية التي أكببت على دراستها بنفسي غير معتمد على أستاذ ولا متلق عن خصيص، واستخلصت من كل ذلك ثمرة نقلتها إلى العربية، لغتي ولغة آبائي، شاعرًا بأن ذلك الواجب يجب أن أصرف في سبيل القيام به أقصى ما تصل إليه مواهبي وكفاءاتي.

على أني إن خرجت من كل ما قرأت واستجمعت من الآراء والنظريات بفكرة، يصح أن يقال فيها إنها الفكرة المسلطة الآن على مشاعري وإحساساتي فهي فكرة تتراوح بين الشك واليقين، بين التفاؤل والتشاؤم، في مستقبل الجماعات الإنسانية. ولا مشاحة في أن العصر الذي نعيش فيه عصر انقلاب وثورة، لا يستطيع المرء أن يقضي فيه بحكم على مستقبل النوع الإنساني إلا بعد أن تنجلي غمرة الآراء الثورية الحديثة عن نظام ثابت، إن لم تَسُد فيه نظرية تسود الفرد واستقلاله الذاتي، فلا ريبة في أن الإنسانية سوف تعاني من مساوئ الانحطاط والفساد ماديًّا وأدبيًّا، ما لا يتسع معه مجال الاعتقاد في عصر ذهبي تضرب إليه بقدمها الجماعات الإنسانية في خطى نشوئها.

أتقدم بهذه الكلمات وأنا على يقين من أنه مهما وضع مؤلف لكتاب ينشره من مقدمات، فإن ذلك لا يغني عن حكم القارئ المستقل شيئًا. لذلك نقتصر على هذه الصفحات قانعين بأن القراء سوف ينشطون إلى نقد هذا الكتاب نقدًا يتوخون فيه النصفة إزاء موضوع أخص ما نتمنى أن يصبح من المعارف المتداولة بين العلماء والمتعلمين في أقرب حين.

أما وإني أقدم هذا الكتاب إلى القراء، فعساهم يشعرون بأني قد قمت بشيء من الواجب نحو لغتنا العربية وعشيرتي من الناطقين بالضاد، فإن أصبت فذلك حسبي، وإن أخطأت القصد فحسب المحققين تقويم خطئي واغتفار زللي، وعلى الله الاتكال وإليه المبدأ والمعاد.

إسماعيل مظهر
برقين في ٤ ديسمبر سنة ١٩٢٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤