الفصل الحادي عشر

أصل الإنسان إزاء مذهب النشوء

أول مدارج الماهيات آخر حدود المعرفة الإنسانية اليقينية. لهذا حق على أهل العلم أن لا يتحدوا أهل الدين بسلطان علمهم. وحق على أهل الدين أن لا يتحدوا أهل العلم بسلطان دينهم. فإن الفريقين لم يمتزجا يومًا امتزاجًا ظاهريًّا إلا ليتلوه انفصال بين.

***

يقول السيد الأفغاني: إن «داروين» قد ألف كتابًا في بيان أن الإنسان كان قردًا ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة وبتأثير الفواعل الخارجة حتى ارتقى إلى برزخ أوران أوتان ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان، فكان صنف اليميم وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى من أفق الزنجيين فكان الإنسان القوقاسي. ص٢٤ وص٢٥ من الرد على الدهريين.

•••

نشر العلامة «داروين» كتابه أصل الأنواع عام ١٨٥٥، وقضى في آخر فصل من فصول ذلك الكتاب بأن مذهبه في تغاير الأنواع «قد يحتمل أن يفيض بشيء في نور الحقيقة على أصل الإنسان وتاريخه.» وظل هذا العلامة بعد أن نشر أصل الأنواع يجد في استجماع ملاحظاته العلمية التي يستطيع بها أن يكشف عن شيء من أصل الإنسان، وما زال يعالج هذا الموضوع على ما يحف به من إبهام وما يحيط به من استغلاق، حتى عام ١٨٧٤ إذ نشر كتابه «تسلسل الإنسان» وقال في مقدمته ما نصه: «إن الغرض الأول من تأليف هذا الكتاب ينحصر في النظر، أولًا: فيما إذا كان الإنسان كبقية الأنواع الحية قد تسلسل من صورة كانت موجودة من قبل ثم انقرضت. ثانيًا: في الطريق التي تمشي فيها الإنسان ماضيًا في النشوء والتحول. ثالثًا: في قيمة الفروق الحقيقية الكائنة بين ما يدعوه الباحثون بالسلالات البشرية.»

جاء هذا البحث بعد أن أثبت كثير من العلماء كالعلامة الفرنسوي مسيو «بوشيه ده برت» وسير «شارلز ليل» الجيولوجي الإنجليزي الأشهر، وسير «جون لابوك» — لورد أفيبوري فيما بعد — والأستاذ «هكسلي» المشرح العظيم، قدم النوع البشري وبعد أن قضى الأستاذ «هكسلي» من طريق تشريح المقابلة بأن «جهابذة أهل النظر قد أثبتوا إثباتًا قاطعًا بأن مباينة الإنسان للقرود العليا، أقل من مباينة القرود العليا لمراتب البريمات الدنيا.»

من هنا ذاعت الفكرة بأن «داروين» على اعتقاد أن الإنسان «كان قردًا ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة» إلى آخر ما يقول السيد الأفغاني. على أن الحقائق التي يبني عليها العلامة «داروين» مذهبه في أصل الإنسان ويجاريه فيها العلامة «الفرد روسيل وولاس» وهو من أثبت العلماء المحدثين اعتقادًا بالألوهية والأرواح، هي في ذاتها حقائق طبيعية لن تنقض إلَّا بمشاهدات طبيعية من نوعها؛ لأن البرهان الطبيعي التجريبي لا ينقض إلَّا ببرهان مثله مقتطع من المشاهدات الطبيعية الصرفة. أما إذا حاولت أن تتخذ من النقل أو المنطق براهين تعارض بها حقائق الكون المحسوسة، فإن نصيبك من الخطأ يكون أضعاف نصيبك من الصواب.

وكنت أود أن أبقي على الكلام في أصل الإنسان لفرصة أخرى ولا أعرض لشيء منه في هذا الموطن لولا أن نقد السيد الأفغاني قد يترك في ذهن القارئ فراغًا لم نجد عن سده من بد بهذا الفصل نعقده في أصل الإنسان، متوخين في ذلك أن نجعل إلمامنا بموضوع النشوء في هذا الكتاب تامًّا بقدر المستطاع، على أن أرجئ تفصيل الموضوع إلى مؤلفات أو مترجمات أنشرها فيما بعد، ولهذا أوجز في القول غير مفرط في الإيجاز ولا مطنب في الشرح.

إذا نظرت في الجسم الإنساني من وجهة فسيولوجية — أي من جهة وظائف الأعضاء — ألفيته جسمًا حيوانيًّا في كل تفاصيله، وأنه إن اختلف من حيث المجموع مع بقية ذوات الفقار، فإنه يتفق وإياها في كل التراكيب الجوهرية. فهيكله العظمي يلحقه بذوات الفقار، وإرضاعه صغاره يضمه إلى ذوات الثدي. كذلك إذا نظرت في تركيب دمه وعضلاته وأعصابه وتركيب قلبه بما فيه من الأوردة والشرايين، ورئتيه ومفصلات أجهزة التنفس والدورة الدموية فيه، فإنك تجدها تناظر ما في ذوات الثدي تمامًا، وقد تجدها في كثير من الحالات مماثلة لها كل المماثلة. ولا ننسى أن للإنسان من عدد الأطراف ما لذوات الثدي، فضلًا عن أن أطرافه جميعها تنتهي بعدد من الأصابع تجدها بذاتها في المرتبة الثديية. كذلك تجد تشابهًا بين الإنسان وبين تلك المرتبة في الحواس الطبيعية وتلقى فوق ذلك أن مهيئات الحس فيه كمهيئات الحس فيها، وهي تشغل من جسمه مكانًا مناظرًا لما تشغله في تكوين تلك. وبالجملة تجد أن كل مجهزات القوام في الإنسان هي بذاتها في ذوات الثدي وأن الإنسان لا يختلف عنها في شيء، اللهم إلا في الدرجة والصفة، اختلاف أنواع ذوات الثدي وصنوفها وأجناسها بعضها عن بعض. فإذا ثبت لدينا بعد ذلك أن كل جماعة من ذوات الثدي قد تأصلت عن أصل أولي عنه نشأت، كما يثبت مذهب النشوء الحديث، وأن كل جنس أو أسرة أو مرتبة من مراتب الثدييات قد نشأت عن أصل أمعن في القدم من أصول تلك الجماعات المتفرقة، فحينذاك لا نستطيع أن نفرد الإنسان بأصل مغاير لأصول ذوات الثدي ما دامت مشابهته الطبيعية لها بالغة ذلك المبلغ البعيد، أو نفرض أنه قد نشأ بطريقة مخالفة للطريقة التي نشأت بها تلك الحيوانات.

وإذا نظرت في الحيوانات العليا وجدت أن فيها من الأعضاء الأثرية ما لا تقع على فائدة لوجودها فيها. ولكنك إذا حققت خفية الأمر وجدت أن هذه الأعضاء بذاتها ذات فائدة عظمى لحياة غيرها من الحيوانات التي تقاربها نسبًا في الرابطة الطبيعية، وهنالك لا يخالجك شك في أن هذه الأعضاء قد توورثت متنقلة في الأعقاب جيلًا بعد جيل عن أصل أولي معين. فإنه يوجد في الحيوانات المجترة مثلًا أسنان قواطع أثرية لا تشق اللثة لتخرج منها في بعض الأنواع. ولكثير من السحالي أقدام أثرية ترى معلقة على ظاهر بشرتها. كذلك تجد أن لكثير من الطيور وأخصها الأبتري Apteryx — ذو الأجنحة الأثرية — أجنحة ضامرة لا فائدة منها البتة. وإذا حققت النظر في الإنسان وجدته غير خلو من هذه الأعضاء الأثرية الغريبة، وأن بعضًا منها قد يكون ثابتًا فيه، وبعضها قد يظهر أحيانًا، لا لشيء إلا ليثبت للباحثين صلته التامة وأواصر قرابته المتينة، بغيره من الحيوانات الأدنى منه مرتبة في النظام الطبيعي.

وفي كثير من الحيوانات عضلات تستطيع بها تحريك بشرتها أو قبضها. وفي الإنسان بقية من هذه العضلات، لا سيما في الجبهة. ففي قدرتنا مثلًا تحريك الجبهة إلى أعلى ثم نخفضها. ونجد أن كثيرًا من الناس لهم هذه القدرة في أجزاء أخر من الجسم. فمنهم من في استطاعته أن يحرك جلد جبهته ورأسه إلى درجة يتسنى له معها أن يلقي أي شيء يوضع فوق مقدم جمجمته، وقد ثبت أن هذه الخاصية قد تورث. ولا مشاحة أن الكثيرين من قراء هذه الصفحات قد لاحظوا في بعض الناس المقدرة التامة على تحريك آذانهم حركة اختيارية وهي صفة موروثة عن الأسلاف الأقدمين فقدها الآن غالب النوع البشري بمقتضى تحضره وتمدينه وبعده عن الحاجة لاستعمال آذانه، وإرهافها للسمع، وبعده عن توقع الأخطار الداهمة التي كان يتوقعها الإنسان في العصر الظرائي وما قبله. ولا نظن أن من قرأ هذا الكتاب من لم يلاحظ أن آذانه قد تتحرك حركة غير إرادية بانقباض عضلاتها المحركة عند سماع أي صوت مزعج يقع عن كثب وعلى غير انتباه منه، قضاء لقواسر النسب الأدنى الذي لا تزال فواعله الوراثية كامنة في تكوين الإنسان، وإن أصبحت أثرية في الزمان الحاضر.

ثم ارجع النظر كرة إلى قابلية التغاير في أجزاء جسم الإنسان، فإنك تجدها ظاهرة جلية. بَيْدَ أن أكثرها يكون ذا نزعة إلى الرجوع إلى صفات لا تقف لها على أثر إلا في حيوانات أحط من الإنسان مرتبة وأدنى منزلة. فإن توزيع الشرايين في الجسم الإنساني قابل لكثير من صور الاختلاف والتغاير، حتى اضطر الباحثون إلى وضع نسبة خاصة لتغايرها حتى يتمكنوا من تدعيم أبحاثهم على أسس ثابتة. كذلك إذا نظرت في العضلات المختلفة في الجسم الإنساني، فإنك تجد أن اختلافها وتغايرها قد بلغ حدًّا لم تتشابه عنده عضلتان اثنتان من خمسين حالة بحثت فيها عضلات القدم، بل عن نتيجة البحث قد دلت على أن انحراف بعض هذه الحالات عن بعض، كان عظيمًا إلى درجة محسوسة قد تستبينها أعين الذين لم يعتد بصرهم النظر في مثل هذه الأشياء والبحث في تفاصيلها.

كذلك قد لاحظ كثير من جهابذة أهل النظر في التشريح صفات تغاير فيها بعض العضلات بعضًا، حتى إن العلامة «وود» J. Wood قد استبان في ثلاثة وستين حالة امتحنها ما لا يقل عن ٥٥٨ شكلًا من أشكال التغاير والاختلاف واقعة في عضلات معينة. وذكر فضلًا عن ذلك أنه رأى في رجل امتحنه امتحانًا تشريحيًّا سبع تغايرات عضلية جميعها تمثل أجلى تمثيل عضلات خاصة بصنوف معينة من القردة. وكذلك عضلات اليد والعضد، وهي أعضاء تكاد تكون ذات فائدة خاصة للإنسان لا يشاركه فيها شيء من بقية الحيوانات، فإنها لا تعدو نظام التغاير، بل تخضع له خضوعًا كليًّا. وكثيرًا ما تشابه عضلاتها عضلات كثير من الحيوانات الأخر.

والعلامة «داروين» على اعتقاد أن ظهور هذه العضلات يعود إلى الرجعى إلى صفات فقدها الإنسان منذ أزمان موغلة في القدم، ومراحل قطعتها أسلافه خلال انقلاباتها النشوئية العديدة. يذكر ذلك في كتابه «تسلسل الإنسان» إذ يقول: «إن من الأشياء التي لا تسلم بها بديهة العقل أن يشابه الإنسان من طريق المصادفة العمياء القردة العليا فيما لا يقل عن سبع عضلات من عضلات جسمه، إذا لم يكن هنالك شيء من أواصر القربى والنسب بينهما. أما إذا اعتقدنا بأن الإنسان متسلسل عن صورة تشابه صور القردة العليا، فلست أجد من حائل يحول دون القول بأن بعض العضلات قد تعود إلى الظهور مرة أخرى فجأة بعد أن تكون قد فقدتها تراكيب الجسم الإنساني منذ عدة آلاف خلت من الأجيال، بمثل ما تظهر الخطوط الملونة القاتمة فجأة في أرجل الخيل والحمير والبغال وأكتافها، بعد أن فقدتها تلك الصور منذ مئات، لا بُدَّ منذ ألوف، مضت من الأجيال.»

كذلك تجد الحال إذا نظرت في هذه القضية من الوجهة الجنينية. فالحيوانات الفقارية برمتها تشترك في حقيقة أولية، ذلك أنها تتكون من بويضة حية. سواء في ذلك السحالي والأفاعي والضفادع والأسماك وغيرها. فإن أجنة هذه الأجناس عامة تعيد في انقلابها الجنيني سيرة واحدة متبعة نمطًا معينًا وطريقًا مرسومًا لا تعدوه إحداها. فجميعها ينشأ من بويضة حية ينقسم جثمانها البلاسمي على نفسه عدة انقسامات أولية بنسبة رياضية محكمة، فيكون اثنين ثم أربعة ثم ثمانية ثم ستة عشر وهكذا دواليك حتى يبلغ ١٢٨ قسمًا وهنالك يأخذ في التعضن Differentation فتتميز فيه الأعضاء بصورة أولية صرفة. وإذ ذاك يمر على أجنة ذوات الفقار فترة تتشابه فيها حتى لا يكون من الهين على الباحث أن يميز بين كثير من أجنة الأجناس المختلفة. ثم إن تشابه تلك الأجنة لا يكون مقصورًا على شكلها الظاهر، بل يتناول كل تفاصيلها الجوهرية، ولا يتبين اختلافها إلا بعد فترة من تطورها الجنيني، إذ تبدأ الأنواع الأحط مرتبة في عالم الحياة بالاختلاف عن غيرها. حتى لقد استبان الباحثون في ذلك سنة من سنن الطبيعة التي تلازم تطور الأجنة، إذ وقفوا على أن الحيوانات الفقارية كلما كانت أكثر تشابهًا عند البلوغ طال أمد تشابهها في الحالة الجنينية. فأجنة السحالي والأفاعي مثلًا تبقى متشابهة مدة أطول من المدة التي تتشابه فيها أجنة هذين الجنسين مع أجنة الطيور. وكذلك الحال في الكلاب والهرر، فإن أجنتها تشابه بعضها بعضًا زمنًا أطول من الزمان الذي تشابه فيه أجنة الطيور، أو أجنة القردة.

من ذلك يتضح لنا أن هنالك علاقة طبيعية وصلة من النسب؛ بل آصرة من القرابة، تصل بين الحيوانات التي تبلغ الاختلافات بينها في الشكل الظاهر أبعد مبلغ. ولا ريبة في أننا إذ وقفنا على هذه الحقائق وأمثالها نساق دائمًا إلى التساؤل هل يحدث هذا التشابه في أجنة الإنسان؟ وهل للإنسان من طريقة للنماء الجنيني يتبعها سوى ذلك الطريق الذي نراه ذائعًا في كل ذوات الثدي، كما يجب أن يكون إذا تابعنا البحث مقتنعين بنشأته عن أصل مغاير للأصل الذي نشأت عنه هذه الحيوانات؟

يقول الأستاذ «هكسلي» المشرح المشهور: «إن الرد على هذا لا يحتمل الشك لحظة واحدة. ذلك لأن السبيل التي تتبعها أجنة الإنسان في أول مدارج تطوره الأولى ونشأته، لا تختلف مطلق الاختلاف عن السبيل التي تخضع لها بقية الحيوانات التي تقع في الطبقة التي تليه في سلسلة التتابع الارتقائي في عالم الحيوان. فإنه ليمضي زمان طويل قبل أن يستطاع بحق أن نفرق لأول وهلة بين جنين الإنسان وبين الجراء إذ تكون أجنة. وإن كان ذلك لا يمنع مطلقًا من التفريق بين البويضتين، بويضة الإنسان وبويضة الكلب، لاختلافاتهما التي لا تستبينها العين المجردة.» وبعد أن تابع الأستاذ «هكسلي» الكلام في الأوصاف الطبيعية التي تفرق بين بويضة الإنسان والكلب قال: «غير أن الإنسان إن اختلف خلال تطوره الجنيني في كل هذه الاعتبارات عن تطور أجنة الكلاب، فإنه يتفق فيها برمتها مع القردة العليا، حتى إن الباحث لا يستطيع أن يظهر على اختلافات بينة في جنيني الإنسان والقرد إلَّا في أخريات مدارج الانقلاب الجنيني، بَيْدَ أن أجنة القردة تختلف عن أجنة الكلاب بمقدار ما تختلف أجنة الإنسان عنها. وهذه الحقائق على ما فيها من الغرابة، وعلى ما يحيط بها من عجب، واقعة في الطبيعة بما لا يترك مجالًا لشك في أنها كافية لوضع الإنسان من حيث الوحدة في التركيب والشكل مع بقية الحيوانات عامة، والقرود خاصة.»

كذلك تجد في مدرج من مدارج التطور الجنيني في الإنسان أن عظم العصعص قد خرج باستطالته وامتداده عن القياس، حتى ليظهر كأنه ذنب يذهب إلى مدى أبعد بكثير عن امتداد الرجلين في الحالة الجنينية.

واللفائف المخية في الإنسان تشابه حتى الشهر التاسع من أشهر الحمل اللفائف المخية في البابون  Baboon وهو نوع من القرود العليا. ومما لا مشاحة فيه أن إبهام القدم في الإنسان من أغرب الخصائص التي يختلف فيها الإنسان عن بقية القرود العليا، ولولاه لما استطاع الإنسان أن يمشي منتصبًا. ولقد ظلت هذه الخاصية موضعًا من مواضع الضعف في مذهب القائلين بأن الإنسان متسلسل من صورة حيوانية أحط من صورته، وأن هذه الصورة أقرب إلى البرمائيات منها للإنسان في حالته الحاضرة، حتى أعانهم على تكوين الأجنة على دحض هذا الاعتراض وفض ذلك المشكل العظيم، إذ بان لهم أن إبهام القدم في الإنسان خلال أول مدارج انقلابه الجنيني يكون أقصر من بقية الأصابع، ويكون على الضد من القياس في حالة البلوغ، منفصلًا عن قوام القدم بزاوية تعادل مقدار الزاوية التي ينفصل بها إبهام القدم في القرود العليا ذوات الأيدي الأربع Quadrumana حتى عند بلوغها.
وإن من الحقائق الأولية المعروفة في الطب الحديث أن لبعض الحيوانات القدرة على تلقيح الإنسان ببضعة أمراض تنتابها. ومن هنا استدل الباحثون في علم الحياة على أن هنالك تشابهًا كبيرًا بل تجانسًا ذا بال بين تراكيب الأنسجة وطبيعة الدم والأعصاب وتكوين المخ في الإنسان والحيوانات العليا. فداء الكلب والغدة والكوليرا والطاعون يمكن أن تنتقل بسهولة من الحيوانات إلى الإنسان أو بالعكس. في حين أنك تجد فوق هذا أن القردة قد تصاب بكثير من الأمراض غير المعدية التي تصيب الإنسان. وحقق البحاثة «رينجار» Rengger أن القردة العادية Cebus Azarae قد تصاب بالنزلات الصدرية وغالب ما ينتهي مرضها بالسل الرئوي. وهذه القرود قد يصيبها الصرع والتهاب الأمعاء. والعقاقير الطبية لها من الأثر في شفاء هذه الأمراض في القرود بمثل ما لها من شفائها إذا أصابت الإنسان.

ولا ريبة في أن كثيرًا من أنواع القرود لها ولع شديد بالمنبهات والمخدرات كالقهوة والشاي والخمر والدخان. وأقل ما في ذلك من الدلالة إثبات أن بين تركيب أعصاب الذوق في القرود والإنسان تشابهًا، وأن أجهزة القرود العصبية تتأثر بنفس الطريقة التي يتأثر بها الجهاز العصبي في الإنسان.

وعامة هذه الحقائق وما يجري مجراها تناقض الرأي القائل بأن تكوين الإنسان الحيوي مخالف لتكوين بقية الحيوانات، أو أن للإنسان أصل منفصل عن الوحدة الحيوية التي تربط بين الأحياء.

إذا نظرت في فصيلة القردة تخيل إليك أنك تنظر إلى صورة مشوهة للإنسان. فوجوهها وأيديها وحركاتها وما تعبر عنه تغيرات وجهها وكافة أعمالها تشابه ما يأتي به الإنسان مشابهة ما. غير أن في هذه الفصيلة جماعة تشتد المشابهة بينها وبين الإنسان، ولذلك أطلق عليها الطبيعيون اسم الأنثروبويد Anthropoid؛ أي القردة المشابهة للإنسان. وهذه الجماعة قليلة الصور وتقطن المناطق الاستوائية في آسيا وأفريقيا، حيث يتشابه المناخ، وتشتد كثافة الغابات وتكثر الفواكه في كلتا القارتين طوال العام. وهذه الحيوانات أصبحت معروفة لدى الباحثين، وتنحصر في الأوران أوتان الذي هو في بورنيو وسومطره والشمبانزي والغوريلَّا الذين هما في غرب أفريقيا، وصفوف الجيبون أي القردة الطويلة الأذرع، وهي عدة أنواع تقطن الجنوب الشرقي من آسيا وغالب أرخبيل الملايو. وأنواع الجيبون أقل مشابهة للإنسان من ثلاثة الصور الأولى، حيث اختلف الباحثون على تلك الصور الثلاث أيها أقرب للإنسان شبهًا وأيها أدنى إليه في اللحمة الطبيعية نسبًا. أما مسألة مشابهة هذه القرود للإنسان فمسألة ثار من حولها غبار الجدل فأدت إلى نتائج ذات بال في أصل الإنسان وقدم تاريخه.

إذا قارنا بين هيكل الجيبون أو الشمبانزي العظمى وبين هيكل الإنسان، وجدنا أن كلا الهيكلين عبارة عن نموذج واحد، كل عظم في أحدها يناظره عظم في الآخر مع اختلاف في الحجم أو التناسب أو الوضع، ذلك إذا غضضنا النظر عن بضعة مستثنيات لا يعتد بها.

وأما الفروق الكبيرة التي يعثر عليها المشرح إذا ما تعمد المقارنة بين هياكل هذه القردة وبين هيكل الإنسان، تلك الفروق التي تتناول وجود بعض عظام وانعدام البعض، لا تلك الفروق التي تتناول الشكل والنسق، فقد عددها الأستاذ سانت «جورج ميفارت» وحصرها في أربعة أشياء جوهرية:
  • أولًا: يتفق هيكل الإنسان وهيكل الجيبون في عدد عظام الصدر حيث يقتصر كلاهما على عظمين. أما الشمبانزي والغوريلَّا فالصدر فيهما يتكون من سبعة عظام متصلة في سلسلة واحدة، بينما يتكون صدر الأوران أوتان من عشرة عظام متسقة في سلسلتين.
  • ثانيًا: إن عدد الضلوع العادي في الأوران أوتان وبعض صور الجيبون اثني عشر زوجًا كما في الإنسان، بينما نجد أن ضلوع الشمبانزي والغوريلَّا ثلاثة عشر زوجًا.
  • ثالثًا: يتفق الإنسان والأوران أوتان والجيبون في أن لكل منها خمس فقارات قطنية Lumbar verlebra أما الغوريلَّا والشمبانزي فليس لهما سوى أربع، وفي بعض الحالات ثلاث.
  • رابعًا: تتفق الغوريلَّا والشمبانزي مع الإنسان في أن لها ثمانية عظام في رسغ اليد في حين أن الجيبون والأوران وبقية القرود يكون لها تسعة.

أما الفروق التي يعددها المشرحون في الشكل والحجم وتركيب العظام المختلفة وبقية أعضاء هذه القرود وأعضاء الإنسان فكثيرة متخالطة جهد التخالط متشابكة جهد التشابك. فبينا تجد أن ذاك النوع يقارب الإنسان في بعض الصفات فإذا بك ترى غيره أكثر من الأول مقاربة له في صفات آخر، بحيث تخرج من جماع ذلك بشبكة غير متناهية من الخصائص المتشابهة يتعذر عليك أن تبلغ منها بحل أو تنتهي في بحثها بشيء محدود.

ومثال ذلك. أنك إذا اعتمدت على الهيكل العظمي وحده ظهر لك جليًّا أن الغوريلَّا والشمبانزي أدنى إلى الإنسان من الأوران شبهًا، كما يثبت لديك ذلك من أن في الأوران انحراف عن الإنسان في تكوين العضلات وتركيبها. وإذا اعتمدت على الشكل الظاهر بان لك أن أذن الغوريلَّا أقرب إلى البشر من كل بقية القرود جميعًا. بينا تجد أن لسان الأوران أدنى إلى الشكل الإنساني من بقية الصور الأخرى. كذلك تُلْفِي أن الجيبون يقارب الإنسان أشد تقارب في تكوين المعدة والكبد ثم يليه في ذلك الأوران ثم الشمبانزي، وتجد أن كبد الغوريلَّا تشابه أحط صور القرود أخص مشابهة.

•••

وما كان ينبغي لي أن أستطرد في هذا البحث قبل أن ألقي بشيء من التأمل على ما يحيط بجونا من فضول الكثيرين من زعماء المدرسة القديمة. فإن كل من يتعمد النقل أو الوضع في هذا العصر إنما يقدم على شيء محفوف بكثير من الأخطار التي لا يجب أن يغمض عنها جفونه. والواقع أن كثيرين من أفراد المدرسة القديمة في مصر سوف تشخص أبصارهم إلى الفكرات التقليدية التي ورثوها عن ثمانية قرون خلت واضعين نصب أعينهم أن خلق الإنسان ووجوده فوق الأرض مسألة فرغ منها أهل اليقين، وأن العلم إن تحدى أصل الإنسان بسلطانه فإنما هو يهاجم أخص معتقدات أهل التقليد. والحقيقة الواقعة أن التوفيق بين الدين والعلم الحديث إزاء أصل الإنسان مشكلة عظمى من مشكلات هذا العصر. ولا يستطيع باحث خبير أن يطالب أهل العلم بالتوفيق بينه وبين الدين، ولا يستطيع عالم طبيعي أن يطالب أهل الدين بالتوفيق بينه وبين العلم. غير أن هنالك مذهب شاع في عصر من عصور المدنية العربية في الأندلس وكان زعيمه الفيلسوف «ابن رشد» قال بوجوب التأويل حتى يوفق الباحثون بين الشريعة والحكمة.

على أنه ليس من شأننا أن نبحث ذلك في هذا الموطن؛ لأننا إن تكلمنا في أصل الإنسان إزاء مذهب النشوء فإنما ننقل مذهبًا مدعمًا على حقائق طبيعية مشاهدة قال به جهابذة من العلماء الطبيعيين في أوروبا ودعموه على حقائق اقتطعوها من بحثهم نواحي الطبيعة الحية وغير الحية وليس من سبيل إلى نقضها إلا بمشاهدات وسنن طبيعية أخرى تثبت من طريق يقيني صرف أن الإنسان خلقٌ وَحْدَهْ، لا صلة بينه وبين ما يليه من مراتب الحيوانات التي تنزل عنه مرتبة في نظام الطبيعة.

وقد يسبق إلى حدس البعض أننا نتحدى الدينيون بما نكتب في هذا الباب. والحقيقة على النقيض من ذلك. فإن المعتقد الثابت لدي هو أن الإنسان مدين بأصله لعلة أولية، تلك العلة التي يدين لها بوجوده كل شيء في العالم من حيوان ونبات وجماد وقوة. تلك العلة مخبوءة وراء عالم الظواهر والأعراض، وهذا العالم دون غيره، عالم الأعراض والظاهرات المتسلسل بعضها من بعض، وهو الذي يتناوله عقل الإنسان بالبحث، وهو الذي في مستطاع الإنسان أن يقضي فيه بنظرة علمية. وراء هذا العالم عالم آخر مستغلق مبهم غامض، هو عالم الماهيات، أول مدارجه آخر حدود المعرفة الإنسانية.

وكل من نظر في حقائق العلم الطبيعي يعلم يقينًا أن وجود الإنسان فوق هذه الأرض راجع إلى سنن منظومة التأثير متناوبة التفاعل، مضت منذ الأزل منتجة نتائج محتومة، وأن الإنسان إحدى هذه النتائج. غير أن في الإنسان كما في كل كائن في العالم شيئين: أحدهما غامض مبهم لا يتناوله عقل الإنسان إلا بنظرات تأملية فلسفية، والآخر ظاهري عرضي يتناوله العقل بالعلم اليقيني. أما الشيء الغامض المبهم فهو ذلك السر المودع فيه، سر الحياة، باعتبار ماهيتها، يتلوه سر آخر لم يخلص إنسان مفكر من الإغراق في التأمل منه، سر وجود الإنسان أصلًا في هذه الحياة، وعلى هذه الصورة، وعلى هذا التكوين. أما الشيء الظاهري العرضي فتكوين الإنسان وتسلسله من صورة أحط من صورته وخضوعه لسنن النشوء والتحول مثل بقية الحيوانات. أم الحكم في الشيء الأول فمتروك للفلاسفة وأهل الدين. وأما الشيء الثاني فمتروك لأهل العلم. ولما كانت أول مدارج الماهيات آخر حدود المعرفة الإنسانية كان حقًّا على أهل العلم أن لا يتحدوا أهل الدين بسلطان علمهم، وحق على أهل الدين أن لا يتحدوا أهل العلم بسلطان دينهم، فإن الفريقين لم يمتزجا يومًا امتزاجًا ظاهرًا إلَّا يلتوه انفصال بين. وللدين يترك اليقين والاعتقاد والتسليم، وللعلم يترك الانتقاد والاستقراء والمقارنة وما إليها. من هنا نستطيع أن نقضي بأن القول بتسلسل الإنسان من صورة أحط من صورته وأنه نتيجة لسلسلة النشوء العام، أمر لا يمس اعتقادنا في أن الإنسان أنشئ لحكمة تغيب عنا وتغمض علينا؛ لأن كلا من القضيتين لها حيزها الذي لا يتجاوز حدوده ولا تتفلت من قطره، إلا وترتد المعرفة الإنسانية إلى عماء وفوضى لا نهاية لهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤