الفصل الثاني

الرأي المادي ومذهب النشوء

مثل المادة كنهر دائم الانسياب والجريان. والقوى مستمرة التغيير دائمة التبديل. والعلل تشكلها في صور من التنوع لا نهاية له. وليس في العالم من شيء غير متبدل، أو ثابت لا تنويع فيه.

مارك أوريل أنطونين

***

طبيعة العلم والأدب

لم يكن دكتور «شميل» بصاحب مدرسة حديثة. ولا هو برأس فكرة جديدة انتشرت في الشرق وذاعت. ولكنه أول ناقل للرأي المادي الحديث إلى اللغة العربية. وفيلسوف، نظر في العالم من ناحية ارتضاها عقله، وسكنت إليها نفسه. فيلسوف راسخ والعقيدة في مذهبه الذي اعتنقه. ثار ضد التقاليد القديمة. فأثمرت جهوده ثمرة، كان أقل آثارها وزنًا أن قد عرف الشرق القريب أن في أوربا حركة يقال لها: الفلسفة المادية، وجلبة تدعى الاقتصاد. تتجلى ثورته الفكرية في كلمات أثبتها في رأس كتابه: «فلسفة النشوء والارتقاء»: حيث أوصى قائلًا: «كن شديد التسامح مع مَنْ يخالفك في الرأي، فإن لم يكن رأيه كل الصواب، فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك. وأقل ما في حرية الفكر والقول تربية الطبع على الشجاعة والصدق. وبئس الناس إذا قسروا على الجبن والكذب.» وهو حر الرأي بحق حيث يقول: «الإصابة ليست دائمًا في جانب الإجماع. فالكثرة ليست حجة قاطعة، أو هي وحدها برهان القوة الوحشية. والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع.»

لم يكن دكتور «شميل» فيلسوفًا ماديًّا عريقًا في المادية، مقصورًا على النظر في العالم من ناحية الحس وحده، بل كان مصلحًا اجتماعيًّا، خرج على النظامات المدنية الموضوعة وأبان عن سوآتها، بما جعل القانون في ثوبه الحاضر عنده مجلبة الشقاء والتعاسة، والتربية على صورتها الحاضرة أصل الإجرام. أراد أن يرد الشرائع إلى الأصول الطبيعية الخاصة بكل أمة، وأن تؤسس معاهد التربية على الحرية الفكرية، وأنه يترك النشء للطبيعة متطورًا مع الزمان بمقتضى ما تحتمل عقليته لا عقلية غيره، لئلا يدب فيه الفساد، وتجتاحه تعاليم الفكر العتيق. وتطرق من هذا إلى الطعن في الآداب وقواعد الأديان، وأنكر أن لهذا العالم مدبرًا حكيمًا عاقلًا قديمًا أزليًّا، عنه تحدث الماهيات، وإلى إرادته تعود الظواهر. كل هذا متابعة لفكرته المادية، التي ارتكزت عليها عقيدته، ورضيت بها نفسه.

ونحن إن نقدنا اليوم آراء دكتور «شميل»، فإنما ننقد ضربًا من الفلسفة شاع في القرن الثامن عشر، وكثر أنصاره في أوائل القرن الماضي. فلسفة ارتجت لها نواحي العالم المتمدين خلال أجيال عديدة، وهي مدرسة خرجت على الكنيسة وأفكارها خلال ذلك الزمان، شبيهة بعض الشبه بمدرسة المعتزلين، التي وضع قواعدها أول ناشر للواء حرية الفكر في عصور المدنية العربية، واصل بن عطاء، وهو في نظرنا من أكبر الفلاسفة، وحامل لواء المصلحين. على أن الفروق بين الفلسفة المادية والاعتزال كبيرة. ذلك لأن الأولى راجعة إلى المادة دون غيرها. والاعتزال راجع إلى الإيمان أولًا، وحرية الفكر ثانيًا. وهاتان المدرستان إن استمدتا من نبع واحد، هو حرية الفكر، وعدم التقيد بالثابت الراسخ من التقاليد، فإنهما تختلفان من حيث الوضع. فإن أولاهما تنكر وجود الموجود، في حين أن الثانية تعتقد في وجوده اعتقادًا أوليًّا، مع التحرر من المنقول على ألسنة الناس من أساطير الأولين.

فدكتور «شميل» إذن تلميذ تخرج في المدرسة المادية. عشق رأي لابلاس، وهام بفكرة لافوازييه. وتملكت المدرسة الألمانية المادية ناصية اعتقاده وإيمانه، فراح يجري وراء «بخنر» أشواطًا، وقدس من علماء الجرمان نتشه وهيكل، ولم يلبث أن نشر لواء الزعامة لداروين ونيوتن من قبله. فهو في فلسفته تلميذ، وفي نفسه فيلسوف، نظر في العالم نظرة فلسفية صرفة، وتطلع كما يتطلع كل فيلسوف إلى إصلاح العالم الاجتماعي إصلاحًا أساسه مثل أعلى يتمثل لكل نفس متوثبة فياضة بمعاني الحياة والأمل، ولكنه حاول أن يقتطع من العالم المادي ومن الطبيعة المادية، مثله الأعلى الذي أراد أن يصب العالم في قالبه. فطعن في الشعر لأنه بعيد عن الحقيقة، قريب من الخيال، وثار ضد الآداب والفلسفة الكلامية، لأنها فروض عقلية لا تستند إلى شيء مما يقع تحت الحس، وغضب على المباحث اللاهوتية لأنها مثار العقيم من المناقشات ولأنها الباعث على التعصب. ونكد عليه عيشه أنه يرى مسائل القانون معدودة من العلوم؛ لأنها بعيدة عن القانون الرياضي، ولأنها تستمد من ناحية من العقل مباينة للناحية التي تستمد منها قاعدة أن مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين. فأراد أن يهدم معتقدات الناس رأسًا على عقب، وأوصى بأن يحمل كل مشتغل بالآداب حقيبة كتبه الأدبية وفي يده عصًا يتوكأ عليها، هي فلسفة العلوم الطبيعة، هائمًا على وجهه، تقتاده خطواته إلى شاطئ يم مهجور، ليلقى بكتبه، بل بتراث الإنسانية، وميراث القرون، في جوف ذلك البحر، وفي لجة منه ما لها من قرار. ولماذا؟ ليعود بذلك إلى المجتمع حاملًا بيده وثيقة الرجوع إلى عالم الحياة الصحيحة، حياة الفكر المادي، نابذًا شاعرية «امرئ القيس»، وحنين «طاغور»، وإلياذة «هومير»، وجنة «ملتن»، ونواح «دانتي»، وحزن «بيرون»، ووصف «شيلي»، وعبرات «كيت»، ونظرات «جوته»، ورنات قلب «شيللر»، إلى جاذبية «نيوتن»، ونظام «لابلاس»، وكيمياء «لافوازييه»، وإلحاد «بخنر»، وزندقة «هيكل»، وأنواع «داروين»! ولعمرك كيف يعيش الناس قانعين بالمادة وهم على ما تجد من اختلاف الأهواء، وتباين المشاعر، وتنابذ المعتقدات الراجعة إلى أصل التكوين؟ وكيف تنبذ الإنسانية تراث القرون وقد أصبح من أنفس الأفراد والأمم طبيعة ثانية، حتى وصفت إيطاليا بالفن، وإنجلترا بالفلسفة العملية، وألمانيا بالعلم وفلسفة المثال والغيبيات، وفرنسا بفلسفة ما بعد الطبيعة والتشريع، وحتى وسم الشرق بأنه مهبط الأديان، ونبع الخيال الفياض؟ بل كيف تحول بين الطبيعة وبين نفثات الصدر الحزين، ورنات القلب اليائس، أو تقيم سدًّا بين لوعة الصدور وبين لسان المرء يتحرك بها فتخرج فياضة على قلوب المصدورين، أو تضع فرجة بين الشاعر، وقد فنت نفسه في الطبيعة، وفي جمال الكون، فأخرجهما موصوفين على سنان قلمه، فيعجب بهما الهائمون بحب الطبيعة، أمهم العظمى، أو تهجر فلسفة الكلام وهي في الحقيقة أول باعث على تحريك الفكر نحو التطلع إلى ما وراء المنظور؟ كيف يترك الإنسان عامة ذا، ليعكف على قانون أرخميديس، ونظريات الأجسام المتحركة دون سواها؟

كذلك ترى أن لكل أمة روحًا أدبية تظهر متجلية في كل دور من أدوار نشوئها وتطورها. فالعلوم الأدبية ربيبة الفكر الإنساني، تدرجت بتدرج العقل الإنساني وتطوره، واصطبغت بروح الأمم وطبائعها، شأنها في ذلك شأن العلوم الطبيعية. ومحاولة إنكار آثارها وثمراتها، إنكار في الحقيقة لجهود الإنسانية طوال قرون عديدة.

ونحن إن استطعنا أن ننكر جدلًا على الآداب أثرها في زيادة المستحدثات المادية، فكيف ننكر آثارها في قيام المدنيات وتحديد الفضائل الإنسانية، بل إلى أي شيء نعزو حركة التطور البشري، وتلك الأشواط التي قطعها الإنسان نحو السمت الأعلى من الفضائل؟

قد يقول البعض: إن المشاهدة لم تدل على أن مثلًا أعلى من الفضائل ذاع وانتشر أثره العملي بين فئة يمكن الاعتداد بها من فئات بني آدم. وهذا صحيح. فإنا لا نزال في هذا العصر نفتش، كما فتش من قبل «ديوجينيس»، عن إنسان. ولكنا رغم كل هذا قد استوعبت عقليتنا قدرًا من الفكرة المعنوية، عرفنا عنده المدى الذي تنتهي إليه الفضائل، وهي أثر من آثار الفنون الأدبية، وبرز من بين صفوف الإنسانية «سقراط» مثال الفضيلة التي تحتملها الطبيعة البشرية، وهو فيلسوف قد نتخذه المثل الأعلى لما يجب على الفرد بصفته فردًا، وبصفته تابعًا لهيئة راعية من مجموع إنساني. وأنبتت الإنسانية «بوذا» و«كونفوشيوس»، فوضعا القواعد من صرح الفضيلة، التي هي خير ما ترث الجماعات عن آبائها الأولين.

والفضيلة، وهي ثمرة العلوم العقلية والآداب، حرز المدنية وسياج الرقي العمراني.

أينعت المدنية الرومانية، فساست الشعوب، وأبرزت للعالم أمثال «بلوتارك» و«سنيك» للأدب، و«بومبي» و«يوليوس قيصر» للقيادة، و«هادريان» و«جستنياتوس» للتشريع، و«أوريل أنطونين» للتأمل الفلسفي، ونهضت بنظام الحكومات الديمقراطية، وتمثيل الشعب والتحليف في القضاء. سارت هذه المدنية بقدم الجبار خلال قرون أشرقت فيها أشعة العلم والأدب والسياسة في جو «روما» القديمة، فأنارت سواد الجهل والعماية التي ناءت بكلاكلها على أمم الشرق والغرب.

ظلت هذه المدنية قوية الدعائم، متينة الأساس، قويمة الأركان، شديدة الأثر في كل ما أخرج للناس من مستحدثات العلوم وظريف المعاني الأدبية والنفسية، أزمانًا متطاولة، حتى إذا عدت عليها عاديات الخروج على الآداب والاستهانة بمكارم الأخلاق، وتفشت فيها روح الاستباحة والانغماس في شهوات يجرها الاستغراق في تحصيل الملاذ عادة على عامة الشعوب، راحت تتنابذ أحزابها وتتخالف سناداتها الاجتماعية، فتزعزعت من أساسها، ثم بادت ومضت، غير مخلفة من ورائها إلا تراثًا للإنسانية نستجليه اليوم في شعر شعرائها، ومبادئ كتابها في الأدب والاجتماع.

ولست أقصد بذلك أن هذه المدنية لم تترك للناس من أثر في العلم الطبيعي، أو أن العلم الطبيعي ليس له من أثر في قيام المدنيات. كلا. ولكن حسب الآداب أنها الدعامة الأولى في بناء العمران، وحسبها أنها مرجع الفضائل ومُسْتَكَنُّ الحكمة العقلية. وكفى أنها مقومة أخلاق العامة، ومنصرف الخاصة إلى نواحي من التفكير كانت في الحقيقة الجرثومة التي أفرغت العالم في قالب من الفكر صرفه في آخر حالاته إلى النظر في العلم الطبيعي.

وإنك إن نظرت في واقع الأمر، لوجدت أن تقدم العلوم الطبيعية راجع بكليته إلى معان أدبية انصرفت إليها نفوس نقية عاونتها عقول فياضة في استِكْنَاهِ ما استكنز من أسرار الطبيعة وما استكن من خفايا الحياة. فلولا عشق الشاعر للطبيعة لما انصرفت نفس الفيلسوف الطبيعي إلى النظر في قوانينها. والكيماوي، إذ ينظر في خصائص الجوهر الفرد وألفة العناصر، والميكانيكي، إذ ينصرف إلى استجلاء ما استغلق من سنن القوة والطاقة، والفيلسوف الطبيعي، إذ يستعمق في تدبر نواميس المادة، والعالم الفلكي، إذ يستبصر في قواعد الجاذبية إنما يساقون في هذه السبيل بنزعة نفسية طالما قوتها الآداب وطالما كان لخيال الشاعر عليها من سلطان آثار من كوامن النفس بما أورى زناد الفكر، فازدادت حركته واتسعت دائرة تأمله، فأخرج ثمارًا من العلم الطبيعي، تعود بكليتها إلى ما أودع في النفس البشرية من حب الجمال، الذي يراه الإنسان جليًّا واضحًا، إذا ما فتحت عينه روح الخيال، فاستطلع من كتاب الطبيعة أسرار الكون، وغوامض الفلسفة.

فالآداب والتشريع والشعر والعلوم اللغوية وجمال الطبيعة والبحث في الخير المطلق والجود المحض والنفس والروح وأصل الحياة ومنقلبها، كلها مسائل تحتاج إليها الميول والنزعات البشرية، احتياجها إلى العلوم الطبيعية. والإنسان بطبيعته قوة متوثبة إلى استيعاب المعاني الخفية، فياض بمعاني الحكمة، وقد يأخذها من أفواه المجانين. والإنسانية لن تستطيع أن تعيش في جو العلوم الطبيعية وحده. وهو جو مفعم بالجفاف ترضاه بعض النفوس دون بعض. ولعمرك أي فيلسوف طبيعي لا يطرب لمقطوعه في غروب الشمس تفيض بها نفس هوغو، أو خطرة يجيش بها صدر أفلاطون؟ ذلك دليل على أن المعاني الأدبية وحب الجمال صفات نفسية ثابتة وأنها الباعث على الانصراف إلى العلوم، والخيال، الذي كثيرًا ما ينقلب منطقًا صحيحًا، والفرض، الذي كثيرًا ما يصبح حقيقة واقعة.

•••

متى عرف الهمجي أن طول النهر من منبعه إلى مصبه، أكثر سعة من عرضه الواقع بين شاطئيه ومتى لحظ أن العصا تحترق إذا ألقيت في النار، وأن الواحد أقل من الاثنين، فذلك أول عهد الإنسان بالعلم. أول عهده بالعلم التجريبي، وهو العلم بشيء أتى من طريق تجربة وقعت للإنسان عفوًا ومن غير قصد. ومن هذه الدرجة يتطلع الإنسان إلى الاختبار. وهو العلم من طريق التجربة المقصودة. وبين العلم التجريبي، والعلم الاختباري، فسحة فيها تمشى العقل الإنساني، وتدرجت المعرفة، حتى بلغت إلى ما نرى اليوم، ومنها أينعت ثمار العلم الطبيعي. ولو اقتصرت الإنسانية على التدرج في سبيل العلم التجريبي والاختباري مقصورين على النظر في قوانين الطبيعة ونواميس الجاذبية والجوهر الفرد، من غير أن تلفت بنظرها إلى الناحية الأدبية، لما قام صرح المدنية ولأصبح الاجتماع والمجتمع، هيكلًا جافًّا بعيدًا عن أن يبعث في الحياة من إحساس بواجب أو شعور بمسئولية، إلى غير ذلك من الصفات، التي هي في الحقيقة أول حجر في بناء المدنية.

وللإنسان حاجاته. وللحياة ضروراتها. فنحن نحتاج إلى العلم الطبيعي لنبلغ به حاجة من الحياة تكمل علينا نقصًا قد نشعر به إذا فقدنا ذلك العلم. ولكنا لا جرم نخطئ إذا توقعنا أن في مستطاع الإنسان أن يعيش مجتمعًا بالعلم الطبيعي، من غير قانون أدبي أو وازع نفسي. وإذا قيل: إن التربية قد تقوم مقام الأديان، وهي الوازع لكثير من العامة والخاصة، فلا أقل من أن نعتقد أن قوانين التربية لم تقم حتى في طرفٍ من أطراف العالم بما يطلب الفيلسوف من النتائج. فاحتياجنا إلى القانون الطبيعي، يقترن باحتياجنا إلى القانون الأدبي، وإلا فإن الاجتماع الإنساني لا محالة فاقد لمدنيته التي يتطلع إليها، لا سيما إذا اعتقدنا، وحق لنا الاعتقاد، أن المدنية نظام موروث، وليست قانونًا موضوعًا.

على أننا نلحظ دائمًا أنه لكل عصر روحًا. تخضع لها الأفراد. وتخضع لها الجماعات. يخضع لها الفرد بصفته عضوًا من مجموع يطأطئ رأسه خشوعًا أمام تلك الروح. فللوحشية روحها الخاص بها، روح الإباحة والبعد عن كل قانون أدبي. وللمدنية صبغتها المستمدة من شريعة الآداب والقانون الأدبي. ولكن ما هي شريعة الآداب؟ هي شعور معنوي الإحساس به أقرب بكثير في حده وتعريفه. هي المعنى النسبي الذي يفرق به الإنسان بين الخير والشر. أو هي اتباع ما لا يألم منه الضمير، في آخر درجات يبلغ إليها ضمير الإنسان من الحساسية بالمسئولية والشعور بالواجب، مصروفًا إلى ناحية الخير الصرف. أو هي غير ذلك مما تحس به النفس ويصعب على اللغة حده، وعلى الفكر تصويره. لذلك ترى أن لكل مدنية روحًا وطابعًا خاصًّا. فروح البحث والتطلع إلى ما وراء المنظور تمشت في المدنية اليونانية. وروح الفروسية والقيادة تمشت في المدنية الرومانية. وروح الشعر أو قوة الشاعرية تغلبت في مدنية الجاهلية من الأعراب. وروح التنابذ القومي تمشت مدنية الأندلس العربية. وروح الذوق العام تمشت في مدنيتنا الحاضرة. وما تلك الروح التي تتمشى في كل عصر إِلَّا نتاج التطور الفكري. وهي الطابع الذي توسم به المدنية في عصور التاريخ. ترجع إلى النفس والعقلية والآداب أكثر من رجوعها إلى قوانين العلوم الطبيعية. فهل في مستطاع الإنسانية أفرادٍ وجماعات أن تنبذ هذه الروح أو تخرج عن قانونها العام؟ إذا كان هذا في مستطاعها فهي لا جرم تكون قادرة على أن تشيد على القانون الطبيعي وحده بناءً مدنيًّا يزري بسياسة روما وفلسفة أثينا وآداب بغداد، أو تبنى من المادة بناءً يطاول مثال بوذا وتعاليم خريسنا وفلسفة كونفشيوس الأدبية، وشرائع حمورابي، وربانية عيسى وفضيلة محمد عليهما السلام، ولكن أغلب الظن ليحملنا على الاعتقاد بأن مدنية القرن العشرين، وهي روح هذا العصر الذي نعيش فيه وعنوانه، إن فقدت اليوم فن إيطاليا وتشريع باريس، ومثال برلين، وفلسفة إيقوسيا، لانهارت من وهن أساسها، ولذهبت المدنية تتلمس جوًّا أدبيًّا، هو في الواقع حقيقة خالدة؛ إذ تفيض بها نفس الإنسان الباقية بآثارها ومعانيها، وتفيض بها روحه، السرمدية بحساسيتها الأدبية، وضميرها الخالد بآثاره المعنوية.

ولا غرابة في أن يقول دكتور «شميل»: إن الحقيقة ما كانت أدنى من الواقع. وهي الحقيقة النسبية. حقيقة المادية والماديين. ذلك لأن دنوها من الواقع كما تدركه الحواس الناقصة لا يجعلها حقيقة مطلقة في ذاتها. بل إن مقدار ما فيها من الحق يقاس دائمًا بنسبة قربها من الواقع أو بعدها عنه. هذه هي حقيقة دكتور «شميل». وإذا صحت هذه الحقيقة على معتقده، فكيف به ينكر الحقيقة الأدبية التي يشعر بها الكائن المفكر الذي يتخذ قوة تفكيره دليلًا على وجوده؟ بل كيف ينكر آثار هذه الحقيقة؟ تلك الآثار التي لا يجتليها إلا في جو الآداب دون غيرها. وطالما كان الوجدان الصادق أقوم من الفكر. فالفكر أداة قد يجوز عليها الخطأ كما يجوز الصواب. والوجدان جائشة نفسية، كل المعاني التي تنقلها إلى النفس تؤدي على الأقل معنى، كفى أن يقنع الإنسان بما فيه من رضى أو غضب، أو جمال أو وحشة. وعلى هذا الوجدان الصادق تقوم الآداب، ويشيد صرح القانون الأدبي. فإنكار هذه الحقيقة إنكار في الواقع لذاتيتنا، وبعد عند الطبيعة فيه كثير مما يبغضه دكتور «شميل»، وأنصاره من الماديين.

الغرض من الفلسفة والحكمة

يقول دكتور «شميل»: «إن الفلسفة إن كان لها بعض معنى اليوم، فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام. فالمستقبل اليوم للعلم، وللعلم العملي وحده فقط.»

بشر دكتور «شميل» بذلك لأبناء الجيل الماضي، وأذاع رأيه هذا قانعًا به، شديد الاعتقاد في صحته، من غير أن يضع للفلسفة حدًّا يحدها به، أو تعريفًا يتناول مدلولها الذي فهمه منها، أو على الأقل بيانًا يعرفنا حقيقة ما يعني من اصطلاح «الفلسفة». ولا جرم أن الفلسفة قد ظلت طوال القرون اصطلاحًا غامضًا لم يتفق على تحديده الفلاسفة ولا المتفلسفون. أخذ منه كل باحث بمعنى، واقتنع منه بفكرة، غالب ما كانت مباينة لفكرة غيره. وكان هذا سببًا في كثرة ما نرى من مدارس الفلسفة ومعاهدها، التي ظهرت في المدنيات القديمة والقرون الوسطى. والفلسفة اصطلاح كغيره من الاصطلاحات، نشأ محدودًا، ولكن بفكرة النظر في المجهول مما يقع حول الإنسان المفكر، ثم نمى وتشعب وزادت الصعوبة في تعريفه وحده كلما أمعن الناس في النظر الفلسفي. فأقام أرسطو فلسفة المشائين على فكرة تباين فكرة أفلاطون من قبله، وهذا أقام مدرسة خالفت مدرسة «سقراط»، أول الواضعين لأساس الفلسفة الأدبية والأخلاق في المدنية اليونانية. وهكذا تجد الحال إذا ما نظرت في عالم الفلسفة، أن كل مدرسة من مدارسها قد قامت على فكرة اعتقد الباحثون فيها أنها السبيل الموصل إلى كشف ما غمض عليهم من أسرار الكون وصفات الألوهية.

عرفنا أن الفلسفة قد قامت في العصر اليوناني على أنها «محبة الحكمة» وعرفها العرب، ورثة اليونان في فلسفتهم، بأنها: «معرفة الحقائق الكونية بما هي عليه بقدر الطاقة البشرية.» وكلا التعريفين يعبر أصح تعبير عن الفكرة التي تمشت في كلا العصرين. فمحبة الحكمة في العصر اليوناني، حدت بفلاسفته إلى النظر في الآداب مقرونة بالنظر في العلم الطبيعي. فوضعوا أول حجر في بناء الهندسة النظرية، وأقاموا صرح الآداب والعلوم معًا، فوضعوا المنطق، وفكروا في الجوهر الفرد. ومعرفة الحقائق الكونية بقدر الطاقة البشرية، ساقت العرب إلى النظر في المفروض نظرهم في الثابت من حوادث الكون، وتمشت فيهم روح الجدل بما أخرج لنا أمثال كتاب «المواقف» لعضد الدين، و«الأسفار» للشيرازي، و«الشفاء» لابن سينا. وهكذا إذا نظرت في كل مدرسة من مدارس الفلسفة التي ذاعت آراؤها وتأملاتها بعد مدرسة الإسكندرية في القرون الوسطى، رأيت أن طابعها قد وسم عادة بمعنى التعريف الذي وضعوه للفلسفة. حتى إذا رجعت النظر كرة إلى العصور الحاضرة ألفيت أن المدرستين الحديثتين اللتين تتنازعان ميدان الفلسفة في هذا الزمان، وهما مدرستا «كونت» في الفلسفة اليقينية Positivism و«كانت» في نقد العقل الصرف Critique of pure reason لم تعدوا هذه القاعدة فإن «كونت» و«كانت» لو لم يعتقد كلاهما بأن فلسفته ستؤدي إلى كشف حقائق الكون، وإن التعريف الذي وسم به الفلسفة منبثًا في تضاعيف مذهبه لا يطابق الواقع، لما خط كلاهما حرفًا مما أفاضا فيه.

فالفلسفة إذن اصطلاح يؤدي عند كل مفكر في الفلسفة إلى حقيقة يقنع بها اقتناعًا ذاتيًّا. وتعريفها محدود دائمًا بما يؤدي هذا الاصطلاح من المعنى في ذهن كل شخص تصدى للنظر في العالم ابتغاء الوصول إلى الحقيقة من طريق فلسفي. وهذا هو السبب فيما نرى من تلك الضجة الكبيرة التي يطالب بها بعض المشتغلين بالفلسفة من وضع تعريف جامع مانع لها. في حين أن وضع هذا التعريف محدود بفكرة فلسفية تصح فيه وحده، ولا تتناول غيره. فتعريف الفلسفة على ذلك يجب أن يكون مجموع التعاريف التي وضعت لكل مدرسة من مدارسها القديمة والحديثة. ولا جرم أن ذلك بعيد عن المستطاع، والتصدي له تصدٍ لوضع حدود لمسألة لا حدود لها في الواقع. وليس ذلك براجع إلى طبيعة الكلمة ذاتها؛ لأن طبيعتها محدودة بالاصطلاح. بل يرجع إلى طبيعة الفكر الإنساني؛ إذ تتشعب نواحيه، وتختلف اتجاهاته.

فالفلسفة لا تعريف لها ولا حد. رغم أننا نجد أن لكل مدرسة من مدارسها تعريفًا قد ينطبق على ما يقصد واضع المدرسة من الفلسفة، باعتبارها اصطلاحًا غير محدود الأطراف. وإنا إن طالبنا دكتور «شميل» بوضع تعريف للفلسفة، فإنما نطالبه بما يخرج عن طوقه، بل بما خرج عن طوق فلاسفة الأزمان الماضية برمتها. ونحن إن حددنا موقفنا إزاء ما يقصد «شميل» من الفلسفة بهذه الأسطر، لما استطعنا أن نضع حدودًا للنقد، كما أننا لا محالة نخفق إذا أردنا أن نضع حدودًا للإطناب والمدح، فيما يرى دكتورنا من معنى الفلسفة.

يقول دكتور «شميل»: إن الفلسفة إن كان لها بعض معنى اليوم، فإنها ستصبح مبتذلة في مستقبل الأيام. ومن هنا لا نشك مطلق الشك في أن معتقده في الفلسفة يرجع إلى النظر في ما اختلط بالفلسفة من نزعات الباحثين فيها، من تطوح مع الوهم، أو جري وراء الفرض بما لا يتفق مع العلم العملي، أو الاستنتاجات العقلية السليمة، أو الاستقراءات الراجعة إلى صدق المشاهدة والاختبار. وإن صح لدينا أن نفسر ما يعني دكتور «شميل» من اصطلاح الفلسفة بما قدمنا، وإن صح أن هذا ما يقصد من معنى الفلسفة، فلا جرم أننا نساق مع هذا إلى القول بأن في إطلاق هذا الحكم على الفلسفة من غير تحديد غفلة عن كثير في حقائق العلوم ذاتها نأخذها عليه.

خرج العلم العملي من القرن التاسع عشر مزودًا بحقائق كثيرة، ونواميس طبيعية انكشفت لنا مخبئاتها، وبانت لنا خفاياها. ولقد اقترن تقدم العلوم العملية بحقائق فلسفية لم يكن في مستطاع المستمسكين برأي الدكتور «شميل» أن يحولوا دون ظهورها أو يطفئوا نورها الذي أنار من نواحي الفكر ظلمة، إن اشتركت العلوم العملية في تهيئة الظروف الفعالة لأزاحتها، فإنها لم تنزح عن عالم الفكر، إِلَّا بتأثير الفلسفة المستمدة من العلوم الطبيعية. إذن، فالعلوم الطبيعية أداة جرت إلى غاية، هي فلسفة الطبيعة. وهي آخر نتاج لغرس العقول.

عُرف في القرن التاسع عشر أن الجاذبية أصل الفلك. وأن الجوهر الفرد أصل الكيمياء. وأن قانون المادة؛ أي بقاء القوة والمادة، أصل العلم الطبيعي «الفوسيقة» Physics وأن القوة والطاقة أصل علم الآلة؛ أي العلم الميكانيكي. وبرزت حقائق الحفريات من ثنيات البحث في طبقات الأرض، ووضع علم الحيوان والنبات من نظرية الخلية. وخرج من التاريخ فلسفة له كونت فيما بعد علم الاجتماع، ونشأ من علم النفس الفرديِّ في الأعصر الحديثة علم نفسية الجماعات. فإذا اقتصر الإنسان على النظر في هذه العلوم كل منها قائمًا برأسه، ولم ينظر فيها بعين المقارنة والنقد، فهل كان في مستطاعه أن يبلغ إلى ما بلغ إليه اليوم من فلسفة في التشريع إلى أخرى في الاقتصاد؟ وهل كان في مقدوره أن يبرز فلسفة يقصرها على التاريخ، وأخرى يخص بها الاجتماع؟ وهل كان في مكنته أن يستوضح فلسفة في التطور يدعوها دكتور «شميل» نفسه فلسفة النشوء والارتقاء؟

ذلك برهان قيم على أن الفلسفة إن بنيت في عصر ما على الفرض، فليس ذلك بنقص في مدلولها، ولا يصح أن يتخذ مطعنًا يُقضى به على أن الفلسفة، التي هي ربيبة الفكر الإنساني، ستصبح مبتذلة في عصر آخر. وما ابتذال الفلسفة في العصور القديمة إلَّا قياسًا على مقدار ما هو كائن من الفرق بين عقلية الإنسان إذ تختلف باختلاف العصور. والواجب أن نعرف أن الفلسفة قد تطورت بتطور العقل البشري وبتقدمه في العلوم العملية نفسها. شأنها في ذلك كشأن الفكرة الدينية عند شعوب الأرض كافة، لا بُدَّ من أن تتطور مع حركة الفكر الإنساني متبعة في كل أدوارها مقدار ما يبلغ من حرية واختبار، هما على الأرجح السبب في تقدم العلوم العملية ذاتها.

فالفلسفة اليوم عبارة عن مبادئ عامة في حقيقة الحياة الإنسانية، مستنتجة من مقارنة بعض العلوم العملية ببعض. لا ينبو عن هذه القاعدة شكل من أشكال الفلسفة ولا وضع من أوضاعها. حتى «فلسفة الغيبيات» Metaphysics فإن الناظرين فيها يتخذون من العلوم العملية نفسها ما يؤيدون به وجهة النظر الذي ينظرون به إلى الطبيعة والحياة والفكر والنظام الكوني. فكما أن «لابلاس» قد وضع النظرية الكونية، أو فلسفة النشوء السديمي، من نظره في العلوم العملية، كذلك نرى أن غيره من الفلاسفة الربانيين يتخذون من نفس الأدلة التي أنكر بها وجود الله دليلًا على وجوده. وذلك مثبت بالطبع أن الفلسفة بفروعها متطورة دائمًا بتطور العقل البشري، متمشية مع روح كل عصر، بما يكشف فيه من غوامض الطبيعة. ولقد ظل الماديون وأصحاب العلة الأولى على خلافٍ، ولا يزالون مختلفين. ولعمرك أي مفكر يستطيع اليوم أن يقضي لفريق منهم، رغم ما كشف من حقائق العلوم الطبيعية؟ وليس أدل على ذلك من المقارنة بين رأي «لابلاس» المادي الإلحادي الصرف، وبين رأي «هيويل» الفيلسوف الإيقوسي مؤلف كتاب «فلسفة العلوم الاستقرائية» إذ يقول: «أما العالم المادي فليس لنا أن نتدبر فيه لأبعد من القول بأن ظروفه وظاهراته، لا يمكن أن تحدث بتأثير القوة الخالقة في كل طرفٍ من أطرافه تأثيرًا مباشرًا؛ بل إن حدوثها راجع إلى السنن العامة التي توكل إليها القوة الخالقة العظيمة تدبير حالات العالم»، وهذا القول مطابق لرأي «كانت» الفيلسوف الألماني العظيم، وهو بعينه رأي مدرسة عربية في الفلسفة منها «ابن رشد» تقول بأن الله سبحانه وتعالى لا يصرف إلا الكليات دون الجزئيات. كما أن «بطلر» قد يزودنا بشيء من ذلك حيث يقول: «إن التحديد والضبط ومطابقة الواقع، هي المعاني الحقيقية التي تنقلها كلمة «طبيعي» إلى الذهن. ولذا نوقن دائمًا بأن كل شيء راجع إلى فعل الطبيعة محتاج إلى ذات مدبرة مدركة، تؤثر فيه تأثيرًا متداركًا، أو خلال فترات متباعدة من الزمان، بحيث تكون الحوادث مطابقة للمعنى الذي ندركه من هذه الكلمة تمامًا. ومن هذه الطريق تؤثر ما بعد الطبيعة أو المعجزات في العالم تأثيرها.»

كذلك لن تجد في العلم الطبيعي من فلسفة تخرج لنا حكمة بقولها «باكون» أول واضع للفلسفة الطبيعية في العصور الحديثة حيث يوصي بأنه «لا ينبغي للإنسان أن يزج بنفسه في منازل من التشامخ والوقار المتصنع تسوقه إلى الغرور، أو أن يتمادى في درجة من الاعتدال ينظر من طريقها نظرًا معوجًا سقيمًا، أو أن تمر به خطرة من الظن بأن بشرًا مخلوقًا في مستطاعه أن يستعمق في تدبر كتاب الله، أو أن يستقصي أسرار حكمته، أو أن يستوعب نتائج أعماله ومستحدثاته، أو أن يبرز للعيان ما استكن من صفات الألوهية وغوامض الفلسفة. بل الواجب على البشر أن يتطلعوا إلى ارتقاء وحضارة لا نهاية لهما، أو على الأقل إلى الغاية المستطاعة منهما.»

هذه كلمات يخرجها النظر الفلسفي وحده. ما كان لقانون المادة أن يرشدنا إليها، أو للجاذبية أن توصلنا إلى سرها، أو للعدد أن يكشف لنا عنها. وما كان للعلم الطبيعي أن يخطو إلى هذه الحدود القصية من الفكر الإنساني، قبل أن ينقلب فلسفة تفيض بها النفس، ويجلوها النظر الصادق، والفكر الهادئ العميق. فالفلسفة على ذلك غاية تبلغ إليها العقول من التأمل، العلم الطبيعي سنادتها، والنقد قوامها، والمقارنة منبتها.

فإذا صح نظرنا في معنى الفلسفة، فلا جرم نعتقد بعد ذلك أن حكم دكتور «شميل» عليها حكم بعيد عن الواقع، لم يتذرع فيه بشيء من الحيطة العلمية التي اتصفت بها أحكامه، ولم يستعمق في النظر فيه استعماقه في كثير مما تصدَّى إلى البحث فيه.

كذلك لم يفرق دكتور «شميل» بين الفلسفة والحكمة. وعلى أن الفرق بينهما كبير، فأنا لعلى يقين من أن دكتورنا لم يفرق بينهما، صارفًا، كما يفعل الكثيرون، معنى واحدًا على اصطلاحين، أو بالأحرى، على معقولين، طالما خلط بينهما الكاتبون. فإذا كان معنى الحكمة، كما اصطلح عليه بعض ذوي العقول الراجحة، هو وضع الشيء في موضعه، كانت بمدلولها هذا نتاجًا للتأمل من حالات العالم، أو بالحري للفلسفة، وغاية يبلغ إليها الفلاسفة، وهي درجة من العقل الكسبي طالما ركن إليها «سقراط»، وحنَّ إليها أفلاطون، وهام بها أرسطو، وتطلع إليها الفارابي وابن رشد، وصبى إليها فلاسفة الأجيال الغابرة والحاضرة، وستظل متجه العقول، وقد تملكها حب الفلسفة، ومنصرف الفكر البشري، وقد اشرأب إلى معرفة المجهولات، والموازنة بين حوادث الاجتماع وظاهرات الكون، متشابكة متواصلة، والترجيح بين الحقائق، مقارنة واستدلالًا.

هذا إذا استطعنا أن نصرف على الحكمة حكم دكتور «شميل» على الفلسفة. وما دامت الحكمة غاية يبلغ إليها الإنسان من الاكباب على النظر الفلسفي، والتعمق في تدبر حقائق الكون، طبيعية وأدبية، والانصراف إلى التأمل الهادئ العميق، متغلغلًا في لجة هذه الطبيعة، هيامًا بكشف الأستار عن الأسرار، كانت الحكمة منزلة عقلية لها أكبر الأثر في تصريف حالات العالم الاجتماعي، ويجب أن تكون الدعامة التي ترتكز عليها قواعد العمران. وها نحن أولاء نتدبر نواحي الفكر والتأمل لنقع على ضرب من الحكمة العملية نوليه الزعامة الأولى على تصريف حالات الحيوان الناطق، والموازنة بين حاجاته ونزعاته، والمكافأة بين أهوائه ورغباته، مصوبين بأنظارنا وأعمالنا صوب غرض واحد، ناظرين نحو غاية محدودة، مفكرين أو مدفوعين بحكم الحاجة والغريزة، إلى البحث ابتغاء الوصول إلى مستكن الحكمة العملية من طريق فلسفي، بقدر الطاقة البشرية. هذا واجبنا في هذه الحياة الدنيا ككائنات مفكرة عاقلة، واجب كل فرد من أفراد هذا الحيوان الناطق وفي مجموعه. فإذا كان هذا متجه الفلسفة ومنصرفها، وتلك غايتها ومنقلبها، كان حكم دكتور «شميل» عليها لا مشاحة محدود بما دخل على الفلسفة من نزعات التصور وجدل الفروض الوهمية، التي لن نجد لها، في بعض الحالات دون بعض، أثرًا في الخارج. وهو نظر سطحي صرف، تبرأ منه الفلسفة وإن كان له بعض الأثر فيما أدخل فيها فئة من الفلاسفة من ضرب مع الفرض إلى جري وراء التخيل والتصور الباطل، مما يعافه العقل السليم، والحكم الصادق. فالفلسفة المدخولة بالوهم المرتكزة على الفرض وحده، فلسفة الكلام الجدلي والسفسطة الصرفة، هي التي يصح عليها حكم دكتور «شميل»، وهي وحدها، دون غيرها، ستصبح مبتذلة في المستقبل، أو هي ابتذلت فعلًا في هذه الأيام.

الدين والمادية

حمل دكتور «شميل» على الدين حملة، لا نبرئها من أثر التحامل، مصروفًا إلى ناحية الاقتناع بالرأي، لا إلى جهة التعصب للمبدأ.

الإنسان كائن اجتماعي. اجتماعي بحاجاته وضرورات وجوده. لذلك قيل: إنه اجتماعي بفطرته.

كان أول ما وجَّه بالإنسان نحو الشعور بضرورة الاجتماع العمراني، حاجة إلى التعاون، هي أولى الخطى التي خطاها نحو المدنية، التي ترى اليوم من آثارها ما لم يخطر بوهم إلَّا في هذه الأرض الأقدمين. والاجتماع ظاهرة تدرج فيها الإنسان من حالات الوحشية الصرفة، تلك الوحشية التي لا نجد لها اليوم في أطراف سيارنا هذا مثالًا، ولا ندركها إلا من طريق الآثار التي خلفتها الجماعات الإنسانية في العصور الغابرة.

غير أن هنالك ظاهرة أخرى طالما صرف عنها الباحثون في أصل الدين نظرهم. وهي ظاهرة من الجائز أن تكون قد سبقت في الوجود أول مدارج الاجتماع الإنساني. تلك ظاهرة الاعتقاد. فكما أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، فهو كذلك كائن معتقد بفطرته؛ أي إنه ذا عقيدة في صحة شيء وبطلان ما ينافيه.

ومما لا مرية فيه أن الاجتماع كان نتاجًا لمقدمات استقرت في آخر حالاتها على شكل من الأشكال ولَّد الصور الاجتماعية الأولى.

فالحاجة مثلًا، حاجة الإنسان إلى الاحتفاظ بكيانه وحياته، جرته إلى الموازنة بين الحالات المحيطة به، مقودًا بحكم فطرته، مسوقًا بمقتضى غريزته، إلى الاعتقاد في صحة عدد من الحقائق التي تحف به ظاهراتها وتحوطه نتائجها.

عاش الإنسان الهمجي عيشه الفطري الساذج في جوف هذه الطبيعة يتلمس أوجه الحقيقة ليزيح عن عينيه وشاح الجهل والعماية التي جرَّته إلى عبادة الأوثان والعناصر، ومضى يتأمل نواحي الطبيعة ليقع على قبس من نور الحق يجلو به ظلمة الشك القاتل الذي يحوط بماضيه ويحف بمستقبله، فلم يجد سوى الوهم والتخيل يحبوه الخوف من جهل بالمستقبل، فراح يضرب مع أوهامه في فلوات الفكر القصيِّ، يأخذ بيده الخيال، وتنجده، كلما زلت قدمه في مزالق التأمل، تصورات، ما أنزل الله بها من سلطان.

تلك حالة تطمئن إليها النفس، ويسكن إليها الضمير، ما دامت آتية من ناحية الفكر منتهية بالإنسان إلى حالة من حالات الاعتقاد بصحة شيء ما، مهما كان في ذاته باطلًا. فالإنسان إذن كائن معتقد بطبيعته. وما كان لإنسان مفكر أن يتبدل بمعتقده معتقدًا آخر، قبل أن تصح عنده مقدمات تسوق إليه، وما كان له أن يثبت على معتقدين متناقضين أو متضادين تلقاء شيء بذاته، في زمان واحد. ذلك لأن للفكر طبيعة لا تسع إلا اعتقادًا في شيء بعينه في زمان بعينه، كدورة السيارات في أفلاكها، تقطع أبعادًا متساوية، في أزمان متساوية.

فالاعتقاد الفطري في الإنسان تكأة الدين، كما أن الخوف والجهل منشؤه. ولا نذهب لأبعد من هذا متطوحين في البحث في منافع الدين أو مضاره، بل إننا نبحث فيه من حيث الباعث عليه ومن حيث الأصل الذي يرتكز عليه في طبيعة الإنسان. لا نبحث فيما يجب أن ينصرف فيه الدين، فلا ننظر فيما كان يقول به الأولون من أن الدين يجب أن ينصرف دائمًا إلى معرفة أسرار السماء وما تنطوي عليه من مجهولات، أو يتطلع إلى معرفة أصل الإنسان ومنقلبه بعد الموت، ولا نبحث فيما يقول به دكتور «بوزانكويت» مثلًا من أن «المعتقد الديني يجب أن ينصرف إلى تعليم الإنسان كيفية القيام بواجباته في هذه الحياة الدنيا»، بل نريد أن نثبت أن ظاهرة الدين التي يحمل عليها دكتور «شميل» على اعتبار أنها وهم مخترع تسلط على قلوب الناس، ليست سوى ظاهرة لا يستطيع الناس أن ينفكوا عنها، لثباتها في نفوسهم ثباتًا يرجع إلى فطرة الاعتقاد فيهم، غير ناظرين في تطور الأديان بتطور العقل البشري؛ لأن ذلك شيء، والبحث في أصل الدين شيء آخر.

•••

صوِّر لنفسك آباءك الأولين أمام كهوفهم العارية، وقد مال ميزان النهار، وانكفأت الشمس لتغيب في تلك العين الحمئة، وامتلأ الجو بذرات الماء فانعكست أشعته على الأرض فألبستها حلة قانية، وسجى الليل فأرخى سدوله عليهم، وقد ذهب الخوف بروعهم، وأذهلهم الرعب والوجل، وظلل الأرض غبار ثارت بعده الطبيعة ثورة الجبار الذي لا تأخذه على الضعفاء رحمة، ولا تهزه على المنكوبين شفقة، وانهمل المطر فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبدًا رابيًا، وطغى الماء فاجتاح في سبيله الحرث والنسل، واقتلع الأشجار من أصولها يتلاعب بها في جوف الليل تلاعب اليم الثائر بالقصبة الجوفاء، وأضاء البرق، فكاد يخطف الأبصار بشدة وهجه، وأرسلت السماء صواعقها فدكت الأرض دكًّا، وأرعدت الطبيعة فكادت تصم الآذان وعصفت الرياح فخرج لعصفها قصف عتي شديد، كل هذا وأبناء آدم الأولون في مستكن من جوف الصخور العارية يأكل جسمهم البرد، وينهشهم الجوع، ويحوط بهم الخوف، متخيلين أن الموت لا محالة آتيهم من كل مكان، وكأنهم يتوهمونه كامنًا لهم في كل قطرة من قطرات الماء التي تصيب جسومهم، وفي صوت الرياح المتناوحة من حولهم، وفي قصف الرعد، وضوء البرق، وفي الأرض التي تقلهم، وفي السماء التي تظلهم، وكلما لفح وجوههم عات من الريح، أو صب عليهم الليل من جلبابه كسفًا حالكة، وهي جلدهم، وذهب صبرهم، وخانهم روعهم، وتقطعت من الحياة آمالهم. حتى إذا ما تنفس الصبح، وأشرقت الشمس، فهدأ الريح، واعتدل مزاج الطبيعة فتبسم وجهها بعد العبوس، وشعر الإنسان الأول بشيء من الدفء فعادت إليه طمأنينته، وارتد عليه جلده، وهدأ روعه، ووصلت الحياة أمله، وأبصرت عيناه ثمرات من الطبيعة حملها إليه الماء في طغيانه، فأكل منها مليًّا، وخرج من مكمنه يتنفس من هواء الأمل، ليعيد على نفسه بعض ما فقد باليأس من حياة وفكر، هنالك يخر ساجدًا لتلك العروس الباسمة الوضاحة الوضاءة، التي برزت من خلال الجبال والهضاب لترد عليه الحياة فياضة بالشبع والري، هنالك يعبد تلك «الشمس» كأنها إلهه القادر على كل شيء، تلك حالة من الفكر مقصورة على مطلب محدود من الحياة، لم يتعدها الإنسان إلا بعد أن طرأ عليه من الحالات التكوينية، ما كشف له عن ظلمة تلك القرون، فراح يستهدي بهدى العقل، بعد أن تسلطت عليه الأوهام قرونًا متطاولة، شكلت مختلف صور الأديان التي نراها ذائعة إلى اليوم بين القبائل المستوحشة في كثير من بقاع الأرض، كما كانت معابد الكلدان ومصر، وهياكل أشورية وبابل، في عصور المدنيات القديمة، من طريف مخترعاتها وتالد غاياتها.

يقول الأستاذ «ليكي» في كتابه «تاريخ حرية الفكر في أوروبا» ص١٦ طبعة ١٩١٣ ما يلي:

نجد في حياة الإنسان الوحشية الأولى أن الاعتقاد بالسحر كان عامًّا، بل غالب ما ظهر ذلك الاعتقاد مصحوبًا بضروب من القسوة الغاشمة. والسبب في ذلك ظاهر. فإن الفزع كان في كل الحالات الباعث الأول على تصوير الأديان؛ لأن الظاهرات التي كانت تبلغ من عقول المستوحشين أبعد مبلغ من التأثير، ليست هي الظاهرات التي تدخل في حيز الأشياء الطبيعية من الأسباب الموصولة بالمسببات التي تقع تحت التجربة، أو تلك التي تنتج أكثر مظاهر الطبيعة عودًا بالنفع والخير على الإنسان؛ بل هي الظاهرات المهدمة العتية القاسية التي ترى على ظاهرها كأنها خارجة عن النسق العام. والحب والعطف أقل في الواقع من الخوف في النفس أثرًا. لذلك نرى أنه أقل خروج في الطبيعة على أوجه تجانسها الظاهر، مدعاة إلى إحداث انفعالات نفسية في الإنسان أمعن في النيل من شعوره من أبعث مظاهر الطبيعة على الروعة الهادئة والإعجاب الساذج. فإذا ما وقع في عقل الهمجي من آثار الطبيعة أبلغها في الشدة والعتي، أو إذا أصابه من الأمراض مهلكها، أو من أخطار الطبيعة ما يؤدي به إلى العدم، فهنالك يستمد الهمجي من تلك الحوادث أسبابًا يبني عليها اعتقاده في الشياطين والأرواح الشريرة. ففي ظلام الليل الحالك، أو في حدوث العواصف الشديدة العاتية وترديد الوديان والجبال صدى تلك الرياح المتناوحة، أو في ظهور مذنب عظيم يضيء الليل بوهجه وضيائه، أو في حدوث خسوف أو كسوف تظلم معه جوانب الطبيعة بعد إشراقها، أو في حدوث قحط يذهب بالحرث ولا يبقي النسل، أو في أي مرض يكون له تأثير ما على قوام العقلية السليمة، بل في كل ما يسوق إلى شر أو ينتج ضرًّا، مبعث في نفس الهمجي على الشعور بشيء يتخيله من وراء الطبيعة. وهو إذ يعيش معرضًا إلى قواسر الطبيعة وأعاصيرها، جاهلًا سلسلة الأسباب التي تصل بين أطرافها المشعبة، يقضي الهمجي عيشه في خوف مستمر، فتخيلا أن هالة من الأرواح تحيط به، وأن جوًّا من الشر يئويه.

ذلك يدل على أن منبت الدين الأصلي اعتقاد فطري ينزل منزلة الضرورات التي يرجع أصلها إلى الغرائز، جرت إلى تشكيله حالات أحاطت بالإنسان، فاختلفت نظراته في المعتقد الديني باختلاف تلك الحالات. ولكل من الأديان حالة جرت إليه، وأصل تطرق منه إلى الاعتقاد الإنساني، إذ هو جاهل أسباب الطبيعة مروع بمسبباتها، وإذ هو متعطش إلى معرفة أصل الحياة، ومنشأ هذا الوجود في حالتي التوحش والمدنية.

•••

وإنا إن كنا لا نستطيع أن نقطع بأن هذه الحالات التي صورناها في الأسطر السابقة هي بذاتها التي جرَّت الإنسان إلى عبادة العناصر، فإن في مستطاعنا على الأقل أن نقضي بأن حالات متتابعة متشابهة، قد حوطته في حياته الأولى، حياة القصور العقلي، حياة الإنسانية في غرارتها وطفولتها، فكان لكل من تلك الحالات أثر في نفس الإنسان، جره إلى الاعتقاد بأن هنالك قوة خفية لا يستطيع إدراك كنهها، تدبر هذا الكون، فأخذ يتلمسها. فتمثلها طورًا في العناصر، وطورًا في الأصنام، وآونة في الكواكب، وأخرى في أرواح آبائه الأولين. تلك هي البزرة الأولى التي جرت إلى الدين في أثوابه الحاضرة.

ولو أنك نظرت في واقع الأمر لما وجدت إلَّا أن تكثير الآلهة والتثليث والتوحيد، ليست سوى صور تشكل فيها الفكر بنسبة ما يحيط به من الحقائق المعروفة. ذلك الفكر الذي هو والاعتقاد في نفس الإنسان، كالقوة والمادة في الطبيعة، صنوان لا يفترقان. فأصل الدين، على ذلك، فكرة مرتكزة على الاعتقاد. ومن هنا قضى الباحثون بأن الدين ظاهرة لازمت الإنسان خلال أدوار نشوئه التي تقلب فيها، منذ انبثق فجر الفكر في ظلمات القرون الأولى.

ولا نريد أن نبحث في ضرورة الدين للإنسان في حالته الوحشية الأولى، بعد أن ثبت لدينا أن الدين ضرورة من ضرورات الاعتقاد، لم تخرج عن حكم كل ضرورة في أنها ذات قاعدة ما. فضرورة التغذية، ضرورة طبيعية لها آثارها. والتعاون ضرورة اجتماعية أنشأت للإنسان مدنيته وعمرانه. والاعتقاد ضرورة عقلية لها آثارها الخاصة بها. فهل بقيت تلك الضرورة، ضرورة الاعتقاد الديني، متنقلة مع البشر في حالاتهم المدنية على مدى القرون، تنقل بقية الضرورات الطبيعية والاجتماعية؟ وهل الدين ضرورة من ضرورات المعتقد في هذا العصر كما كان في العصور الأولى؟ إنا إن بحثنا ذلك فإنما نسوق القول فيه معتقدين أن دكتور «شميل» كان يسلم معنا بضرورة المعتقد الديني للإنسان في حالة توحشه، وإنه إن حمل على الأديان، فإنما يحمل عليها مقتنعًا بأن من النظامات الأهلية والمدنية وضروب من المعتقدات الأخر ما يقوم مقامها ويسد فراغها، تزكية أنفس، وردعًا عن الغي، وصدًّا عن الهوى، إذا نبذها الناس. نسوق الكلام في الدين من حيث هو حقيقة أدبية ارتكزت أصولها في صميم الاعتقاد الإنساني، أفضت به إلى بلوغ حد فرق به بين الخير والشر من تلقاء نفسه. نبحث فيه من حيث أنه صلة تربط الفرد بالمجموع، لا من حيث إنه مماحكات فرق، واختلافات أحزاب، ترك تناحرها في عصور المدنية من الآثار ما لا يحمد عواقبها اللبيب ذو الحكمة. ولا نذكر للاهوت عداءه للعلم في القرون الوسطى، إلَّا متذكرين أن الدين إن فهم منه غير حقيقته، فذلك راجع إلى ما فهم منه رؤساء الكنيسة في تلك القرون، لا إلى ماهية الدين ذاته. فالدين لم يأمر بابوات روما بتأليف محكمة التفتيش لتقتل وتذبح وتحرق مئات الألوف من بني آدم، بدعوى الهرطقة، وهي في عرفهم الخروج على الدين، لمجرد نظرهم في فلسفة «ديمقريطس» أو ابن رشد، أو في علوم الرياضة والفلك، أو غيرها من ضروب المعارف الإنسانية، التي كانت تنافي ما تملي الكنيسة على الناس من معتقدات، وكانت توجب عليهم أن يقنعوا بها إكراهًا وغصبًا. فنحن لا نعرف من الدين في بحثنا هذا، إلَّا أنه القانون الأدبي المرتكز على الاعتقاد في حقيقة يستمدها الإنسان مما بعد عقليته، إذ تترك له أقصى حرية معقولة في اختيار الطريق التي يسلكها في الحياة، بحيث يعتقد أنها أقصى الجود والخير، مقرونة بالنظر في الكون على اعتبار أنه نتيجة إرادة حرة شكلت العالم، وحوطته بحكمتها وعنايتها.

ويجب أن نعرف بادئ ذي بدءٍ أن ارتقاء الفكرات الدينية على مدى العصور كان غاية للرقي العقلي في الأفراد، وأن الدين لم يكن وسيلة لارتقاء العقل البشري. إن الإنسان في حالاته الأولى لم يعرف من الدين سوى أنه حق القيام بفرض الخضوع للقانون الأدبي الذي سنته تلك القوة الخفية التي حوطته بعنايتها وأمدته بأسباب الحياة والاحتفاظ بها طوال أيام عمره الذي يقضيه فوق هذه الأرض. لم يصرف نظره نحو الدين كأنه مبدأ لتزكية النفس الإنسانية، بحيث يجعلها صالحة للقيام بواجباتها في الحياة الاجتماعية، أو غاية يجب أن تتحرر من آثار المنفعة الشخصية! لم ينظر الإنسان في الأديان باعتبارها شريعة أدبية وأخلاق هي الدعامة الوحيدة التي تسوق الاجتماع الإنساني في مدارج الرقي والتزكية، إلَّا بعد أن استنار بهدى البحث في العلوم والفلسفة والفحص عن أثر المعتقدات الدينية في تطور الجماعات. فارتقاء الفكر من حيث الأصول التي يرتكز عليها الدين تبعت تطور العقل ذاته. وعلى ذلك كان ارتقاء الفكرة في الدين غاية للتطور العقلي في الأفراد.

ذلك من حيث المعتقد الفردي الذي يقوم عليه الدين في عقلية كل شخص منفرد بذاته. أمَّا إذا نظرت في المجتمع فلا تلبث أن تعتقد أن الرقي الاجتماعي غاية لقوة الإحساس الديني في الجماعات. إذ إن الإحساس الديني في المجموع يقوي الغيرية، وهي تضحية الفرد مصالحه للجماعة، ويضعف الأنانية الفردية، وهي إيثار الفرد مصلحته على صالح الهيئة الاجتماعية.

وكلما كان خضوع عقلية الفرد المجتمع للإحساس بالغيرية أقوى، كان تطور الجماعة أثبت وأبين أثرًا. وخير الجماعات جماعة يستقوي على أفرادها إحساس مما بعد عقليتهم، ينصرف إلى إنكار الذاتية الفردية ويضحيها لصالح المجموع.

•••

ولقد تصدَّى للنظر في الدين فحول من مفكري القرن الماضي، لو اطلعت على التعاريف الشتى التي وضعوها للدين لأيقنت بأن الدين لا يزال كما عهدناه في الإنسان الأول، ظاهرة مرتكزة على الاعتقاد. ظاهرة تطورت الفكرة فيها بتطور عقلية الإنسان فبلغت حدًّا عرفنا عنده أن الدين عقيدة تتلخص في أمرين اثنين لو جمع بينهما الفرد كملت ذاتيته بصفته فردًا صالحًا من جماعة تضرب في أصول الارتقاء بسهم بعيد.

  • الأمر الأول: الاعتقاد بوجود قوة مدبرة حكيمة عاقلة سرمدية لا تدرك حقيقتها العقول البشرية إلَّا بقدر ما تستطيع أن تبلغ من إدراك لقوة تدبر عالمًا وقف الفكر أمامه معترفًا بالعجز.
  • الأمر الثاني: أن الدين شريعة أدبية صلة الفرد بها حاجة للجموع تؤدي به إلى أبعد غاية من الارتقاء المدني.
وإليك كلمات استجمعها العلَّامة «بنيامين كيد» لعديد من كبار المفكرين من معاصريه وَمَنْ تقدمهم في عصور المدنية نأتي عليها لنظهر الباحث الخبير على آخر حالات تشكلت فيها العقلية الفردية في إدراكها لحقيقة الدين:

الدين معرفة الله والتَّشَبُّه به.

سنيك

ينحصر الدين في اعتقادنا بأن كل واجباتنا أوامر إلهية.

كانت

إن الدين شرع أدبي ممسوس بالانفعال.

ماتيو أرنولد

الدين عبادة الإنسانية.

كونت

إن العاطفة الدينية يكونها الانفعال الهادئ مقرونًا بالخوف وحساسية الخضوع للعظمة.

إسكندر باين

إن دين الإنسانية عبارة عن التعبير عن أقصى حالة عقلية يعلل بها الكون. هو المعنى المجمل، بل محصل ما يبلغ إليه إدراك الإنسان، من معرفة لحقيقة الأشياء.

إدوارد كايرد

إن الدين حد المعرفة الذي تدركه النفس المحدودة المتحيزة، من ماهيتها كنفس مطلقة غير متناهية.

هيجل

الدين إجلال المثل الأعلى من الأخلاق، ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة.

هكسلي

إن ماهية الدين عبارة عن توجيه الانفعالات والرغبات بقوة وصدق عزيمة نحو تحقيق مثل أعلى نقنع بأنه أقصى الجود والخير، وأنه فوق كل الرغبات النفسية التي تسوقنا إليها الأنانية.

ميل

إن الدين هو الشيء الذي يعتقد الإنسان في صحته اعتقادًا عمليًّا. هو الشيء الذي يحسه الإنسان بقلبه، ويأخذه على أنه حقيقة واقعة فيما هو كائن من علاقاته المتعددة بهذا الكون المستعمق في الغموض، الأصيل في الاستغلاق، وفيما يتعلق بواجباته في هذه الدنيا، ونهاية هذه الحياة.

كارليل

إن الدين في أول درجاته، وإبان حالاته، عبارة عما يمكن أن نصفه بأنه عادة مقرونة بشغف دائم.

صاحب كتاب الدين الطبيعي

إن الدين اعتقاد في إله باق قديم. أي إرادة قدسية، وعقل قدسي، يدبران الكون، في حين أن علاقتهما بالنوع البشري أدبية صرفة.

دكتور مارتينو

ذلك هو أصل الدين، وتلك هي آخر الآراء فيه، فهل يصدق عليها رأي دكتور «شميل»؟ هذا ما نريد أن نسوق القول فيه.

السبب في الحملة على الدين

لماذا حمل دكتور «شميل» على الأديان؟ حمل عليها متابعة لرأيه المادي، بل جريًا وراء غاية محدودة. غاية سعى إليها كثير من ماديي القرن الثامن عشر، وتنحصر تلك الغاية في أن يتبدل الناس بدينهم الأدبي دينًا آخر. وما هو ذلك الدين؟ هو عبادة المادة. أرادوا أن ينظر الإنسان إلى المادة على أنها المصدر الأول والعلة الأولى التي فطرته، وأنها التي تحبوه بأسباب الحياة التي ينعم بها فوق هذه الأرض. ناهيك بأن إليها مرده ومعاده. بل تخطوا تلك الحدود زاعمين بأن الإنسان ليس سوى جسم ذو تركيب آليٍّ، لكل عضو منه وظيفة خاصة، وكذلك فيه جهاز خاص للفكر. أي إن الفكر الخفي، ذلك العالم المجهول الذي يحمله الإنسان بين جوانحه غير شاعر به، له في عالم الفسيولوجيا — وظائف الأعضاء — مرد يرجع إليه. قالوا بذلك جزافًا وإسرافًا، وهم إلى الآن لم يدركوا للفكر كنهًا، ولم يعرفوا للحياة مصدرًا طبيعيًّا يردونها إليه. وقال الذين عندهم علم من الكتاب والحكمة: إن الإنسان إن شعر في هذه الحياة بالنقص، من حيث هو كائن ذو بدء وانتهاء، فإن الإحساس بالنقص في النفس البشرية، لم يأت إلا شعورًا أو اقتناعًا بوجود شيء كامل، الإنسان ذات ناقصة بالنسبة إليه. وذلك ما يريد اليوم بعض الفلاسفة أن يتخذوه برهانًا على أن هنالك وراء هذا العالم المنظور، عالم خفي، الفكر الإنساني أحد مظاهره.

تلك الفلسفة التي روجها مفكرون من زعماء القرن الثامن عشر، لم تلبث أن تذيع حتى وقعت في مشكل عظيم لم تجد حتى اليوم لها مخرجًا من ظلماته. كانت العودة إلى تلك الفلسفة نتاجًا لضغط زعماء الدين على العلم في أوروبا، بحجة أن العلم إنما يقوض من بناء الكنيسة ما يريد الله أن يقيم على يد القساوسة في قرون الظلمة والوحشية. من أجل هذه الروح، روح التعصب للقديم، وإحساس القيام بالواجب وإن كان خطأ، طُورِدَ كوبر نيكوس، وسجن غليليو، وأحرق برونو، ليقام له بعد عشية وضحاها تمثالًا مكان المنصة التي أحرق عليها.

غير أن حركة الإصلاح الديني لم تلبث أن تذيع حتى تبعتها مذاهب في حرية الفكر، فكت العقول من عقالها، والأفكار من إسارها، فتناهبت حلبة العلم ومضمار التفكير، وكانت الفلسفة المادية والإغراق في الزندقة، وذيوع ما إليها من المذاهب، ضرورة أفضت إليها قوة الانفجار العقلي في تلك الأزمان.

نظر الفلاسفة والعلماء في الطبيعة فوقعوا على نواميس لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، نواميس تضبط حركات الأجرام في أفلاكها، وسنن تحوط العالم المادي بدقتها ونظامها. وقوانين تتحكم في العالم مستبدة بأمره. حينذاك وبين أفكار العلماء، كانت تفيض الكنيسة على العالم بأفكار عتيقة. أفكار أفضت برجالها إلى الاعتقاد بأن قطرة واحدة من دم المسيح — عليه السلام — كافية لتخليص العالم الذي سبقه كله. فماذا يصنعون ببقية دمه؟ ابتدعوا طريقة مفردة في بابها. هي أنهم يبيعون بقية دمه على كل مَنْ ارتكب ذنبًا أو اقترف جريمة لا تغتفر. يبيعونه شيئًا من دم المسيح يفتدي به نفسه جزاء مبلغ من المال يعود إلى خزائن رجال الدين. يقول المسيح بالأمس: «اتركوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، ومن بعد يباع دمه غفرانًا للمجرمين والسفاحين؛ وما كانت طريقته إلا رحمة ومحبة في العالمين وعصمة وسلام.

خرج الفكر من تلك الغمرة إلى سماء الحرية المطلقة، يفكر فلا يملى عليه شيء من معتقدات أهل الدين، ويناقش الطبيعة السرمدية، لماذا تدور الأجرام؟ ولماذا تتغير الفصول؟ ولماذا تتدافع دقائق المادة وتتجاذب؟

أجهد الإنسان نفسه وراح يتطلع إلى كشف ذلك السر، سر النظام الكوني، فما لبث أن وقع على بضعة حقائق مضى يتيه بها فخارًا وعجبًا. فزعم أنه عرف الدنيا بمكنوناتها والطبيعة بمعمياتها، فقال الفلكيون: يكفينا قانون الجاذبية في تعليل الكون. وقال الطبيعيون: يكفينا قانون المادة والقوة عن الاعتقاد بقوة تدبر العالم لا تقع تحت الحس. وقال الكيماويون: تكفينا خصائص الجوهر الفرد وألفة العناصر في معرفة نسبة التكوين الماديِّ. وقال الميكانيكيون: تكفينا سنن القوة والطاقة لمعرفة حقيقة القوى المنبثة في نواحي الطبيعة!

قالوا بذلك غير ناظرين إلى الحقيقة مجردة عن الغاية. ولو وجهوا بأفكارهم ساعة نحو التأمل في العنصر الأول الذي يضبط تلك الجاذبية ذاتها، أو العلة التي تقضي ببقاء المادة والقوة، أو العقل المدبر الذي يضبط نسب التركيب والتحليل في الجواهر الفردة، أو الإرادة التي تسير تفاني القوى بعضها في بعض، كما لو كان للطبيعة عين حكيمة تنظر بها، لما قالوا بأن تلك السنن كافية لتعليل ماهية الكون في مجموعه، وإن كفتهم في تعليل بعض ظاهراته. فالعلم اليوم لم يصل لسوى جزئيات نراها حقيرة، إذا قسناها بحقيقة الكون كله. ذلك هو الإشكال الذي وقعت فيه الفلسفة المادية، لم تقو على صد تياره، فجرفها إلى حيث وقفت سفينتها بين متناوح رياح الفكر، تتقاذف بها أنواؤه.

وإنك إن نظرت في الواقع لرأيت أن الإنسان إنما يسير من طريق العلم إلى الجهل والاعتراف بالعجز. مثله في ذلك كمثل مَنْ يصعد سلمًا حلزونيًّا كلما تقدم في تصعيده اتسعت أمام عينه دائرة النظر، ولكنه في الوقت ذاته أخذ يتيه في لا نهاية لا يعرف لها حدًّا ولا قصدًا. وكلما كشف للباحثين عن سر أَلْفَوْهُ محاطًا بأسرار ومغمضات. فهم إن تقدموا نحو العلم خطوة سعوا إلى الجهل خطوات. ورغم هذا يقول الماديون أن لا علة، وأن الطبيعة بنظامها التام خرجت من جوف العماء الصرف. فإذا سألتهم: كيف ينتج العماء نظامًا وألفة، أو كيف ينبت القصد في اللاقصد، والنسبة من اللانسبة، والحياة من اللاحياة، ثنوا إليك صدورهم ليستخفوا منك.

إن من أكبر الأدلة التي يقيمها الماديون على قدم المادة قولهم: «لا يمكن خلق شيء إلا من شيء، ولا زوال شيء إلى لا شيء»، وأنت أينما وليت وجهك في نواحي الطبيعة، وعرفت شيئًا من أسرارها، وقعت على قصد ونظام، ونسبة تضبط تركيب المادة، وتكون ظاهراتها. فسلهم كيف يخرج القصد والنظام من الفساد المطلق والعماء الصرف، وسلهم كيف تأتي النسبة من الاختلاط واللانسبة، متخذًا من نفس برهانهم، وطريقة تفكيرهم، وإثبات مدعياتهم سبيلًا إلى مناقشتهم، وهنالك تستبين مقدار ما في براهينهم من قوة، وما في أدلتهم من حق.

عاب الفلاسفة على الكنيسة ادعاءها أن الإنسان محور العالم، وأن السماء لم تخلق إلَّا ليجيل فيها نظره ابتغاء الترويح على نفسه، وأن الأرض والعناصر ما فطرها الله إلا ليسخرها الإنسان حسبما شاءت إرادته، واتجهت رغبته. فلما كشف للناس عن أن الأرض سيار صغير يدور في فلك إهليلجى الشمس ثابتة في إحدى محترقيه، وأن في الفضاء الذي يترامى فيه بصرنا، شموس ثوابت وسيارات أكبر من الأرض مئات؛ بل ألوف من المرات، استصغر الناس رأي الكنيسة، وقالوا بحق، إن الإنسان متكبر عنوت. ولكنهم زلوا بعد ذلك زلة أمر من رأي الكنيسة وأدهى، إذ زعموا بأن بضعة السنن التي عرفوها كافية لتعليل الكون فأنكروا موجده، وجحدوا القوة التي تدبره. وهل يصح للعقل الإنساني أن يحكم ذلك الحكم على عالم، ليس الإنسان إلا دابة مجهرية، تعيش فوق نقطة منه، ذرة الرمل في وسط الصحراء، أقرب تشبيه للأرض التي يعمرها بالنسبة إلى الكون؟ هل كان للإنسان أن يفخر بعلمه، ويروح تياهًا بقوة إدراكه وتبصره، بعد أن ينكر مصدر تلك الآثار العقلية التي تفيض من نواحي الطبيعة؟ هل كان لفئة من الفلاسفة الماديين أن يعيبوا على الكنيسة رأيها الأول، ولا يعيبوا على أنفسهم فكرة إمكان تعليل الكون بنظرية في الجاذبية، وأخرى في الجوهر الفرد؟ وهل كان لبشر مخلوق أن ينكر أن للعالم الذي وقف أمامه الفكر باهتًا علة أولى تبدو فيه حكمتها، لمجرد أنه عرف شيئًا في ألفة العناصر، ونزرًا في ضبط الأجرام السماوية، وحشاشة لا تغني في أصل الأنواع؟

وظيفة الدين في بناء المدنية

يقول الأستاذ «تيودور مرتز»: «هنالك وراء تلك المشاهد التي تتمثل أمامنا في الحوادث العالمية، والتغيرات التي يكشف لنا التاريخ عنها جلية أمام حواسنا، يقع العالم الخفي، عالم الرغبات والبواعث، ومحركات الفكر متبوعًا بالانفعالات النفسية والقوى الحيوية التي تنتج تلك الظاهرات أو تصحبها. هنالك وراء مظاهر الحياة، نجد العالم الداخلي، عالم الفكر.»

إذن فتفكير الإنسان غير مقصور على ناحية واحدة، ناحية المادة الصرفة، كما يقول الماديون. ذلك لأن العالم الداخلي، عالم الفكر، مسوق بطبيعته الفياضة، وبحكم البيئة التي تحوطه، إلى النظر في عالم الحياة الإنسانية ومظاهرها، نظره في عالم المادة وقوانينها. وعلى ذلك العالم الداخلي، عالم الرغبات والبواعث والانفعالات ترتكز حقيقة الإحساس الديني في الحيوان الناطق، مشفوعة بغريزة الاعتقاد التي تلزمه إياها طبيعته المفكرة.

فإذا نظرت من بعد ذلك في الدين، فإنما يجب عليك أن تنظر فيه نظرة مَنْ يعتقد أنه ظاهرة اجتماعية صرفة، بل ضرورة من ضرورات الطبيعة البشرية، إذ يعود إلى جوهر أساسي في طبيعة الإنسان، جوهر الفكر الخالد.

وما كان للماديين اليوم أن ينكروا على مباحث النفس والاجتماع آثارها، وإن تصدوا إلى إنكارها بالأمس، بعد أن ثبتت تلك العلوم على أصول من المباحث الطبيعية ذاتها أفضت بكل مفكر في حقيقة الاجتماع الإنساني إلى الاعتقاد بأن الدين ظاهرة اجتماعية صرفة تقلبت مع الإنسان في كل الحالات التي مضى متطورًا فيها على مر العصور. بل تعدوا تلك الحدود مثبتين أن للدين وظيفة خاصة يقوم بها في تطور الإنسانية.

وما دمنا قد سلمنا بأن الإنسان كائن ترجع طبيعته إلى عنصرين، عنصر مادي ملموس، وعنصر للتفكير خفيٌّ على حواسنا، بعيد عن دائرة تجاريبنا العملية، فليس لنا، ولا لأكبر الماديين استغراقًا في ماديته، أن يعلل طبيعية الدين، الذي هو فكرة أدبية وأخلاق اجتماعية، حدها الأقصى مبدأ تضحية المصالح الفردية لصالح الجماعة، بكونها عقيدة زائدة على الحاجة الإنسانية، لا سيما إذا اقترن ذلك بالاعتقاد في أن الدين مثل أعلى من الفضائل التي تحتملها النفس ويدركها الفكر الإنساني.

قضى الدين بالأمس بين الناس نادبًا إلى فضيلة الخلق، ناهيًا عن الرذائل، وساق الفضلاء إلى الجنة زمرًا، وجرف أمامه أهل الرذيلة إلى حميم جهنم وردًا، على اعتبار أن الإنسان يجب أن يرغب بالثواب ويرهب بالعقاب. فما بالك وقد بدت في أفق الدين من مجالي التطور ما سيحمل الناس يومًا ما إذا ما بلغوا حدًّا من الإدراك عنده يتبعون الفضيلة عملًا لا قولًا، إلى عمل الخير لذاته لا ابتغاء جزاء ولا رهبة من ألم؟ ذلك أثر من آثار الإحساس الديني، سوف يمضي بالإنسانية في سبيل التزكية حتى تبلغ حد الفضيلة بقدر ما تحتمل الأنفس البشرية.

وما كان للجوهر الفرد أو لقانون الجاذبية وما إليهما، أن تبعث في النفس الإنسانية من الإحساس بالواجب ما يبعثه الدين. والإنسانية اسم معنوي ندرك منه معنى بعيدًا عن المادة ونواميسها. لذلك نوقن دائمًا بأن لها مرجعًا ومستكنًا تسكن إليه، هو حساسية الإنسان الخفية بأمثال معنوية تستوعبها النفس ويحدها الفكر، فعرفنا الشرف ومبادئ التضحية، والخضوع لصالح الجماعة وإن خالف صالح الفرد. تلك مبادئ بعيد على المادة أن تثبتها في النفس أو تستجليها معامل الكيمياء في أنابيبها ومجهزاتها؛ بل بعيد على العلم الطبيعي في مجموعه أن يخرج إنسانية مهذبة فاضلة جديرة بأن تدعى إنسانية بحق، بغير إحساس ديني قيم في ذاته ومبناه، لا في ما يسع فكر بعض الناس من إدراك له، وفلسفة تدمج في الدين، أساسها الواجب والعمل لخير الإنسانية في مجموعها، وترجع إلى اعتقاد يقوم على التشبه بالخير المحض بقدر الطاقة البشرية، أو على الأقل، فلسفة تجل المثل الأعلى من الأخلاق، وتعمل على تحقيقه في هذه الحياة.

وظيفة الدين الاجتماعية

إن الكلام في الوظيفة التي يقوم بها الدين في تطور الجماعات، ليثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه، أن الرأي المادي لم يعاند الأديان أو بالأحرى العقائد الدينية، إلا لمجرد التعصب ضد كل شيء خرج به الإنسان من مهد مدنياته الأولى.

إن المحور الذي دار وتدور حوله رحى التاريخ الإنسانيِّ؛ بل مظهر التاريخ البشري الوحيد، ينحصر في موقعة كبيرة وشجار دائم، قامت به الجماعات ابتغاء أن تخضع عقليتها وقوتها الاستنتاجية لقوتها الشعورية. ذلك لطبيعة في الجماعات لن تنفك عنها. طبيعة، تخضع الجماعة دائمًا لسلطان الشعور دون سلطان العقل. فالفرد بعيدًا عن التأثر بروح الجماعة قد يفكر تفكيرًا صحيحًا، وغالب ما يكون فكره المستقل — إن جاز عند الاجتماعيين وعلماء النفس استعمال هذا الاصطلاح — قيمًا بعيدًا عن التأثر بالقوة الشاعرة. وما تلك الحروب التي مزجت دم الإنسانية الزكي بحضيض الثرى، وتلك الثورات المدنية والاجتماعية، إلا نتيجة من نتائج تلك الروح. فالانتقام والغضب والكراهية والتعصب للجنس والمعتقد، مظاهر لن تجد لها في الأفراد من أثر في تحطيم بناء مدني أو قيام حالة من الحالات العمرانية، ولكنك ترى للجماعة من مظاهر الخضوع لهذه البواعث، ما كان سببًا في قيام الحروب والثورات على مدى الأزمان.

ولقد أخفق كثير من فلاسفة القرن الماضي ومنهم «ميل» Mill و«بنتام» Bentham وشيعتهما، في وضع فلسفة يقوم أساسها على «النفع المطلق» Utilitarianism النفعية ما عَتَّمَتْ أن تذيع حتى استقوى عليها شعور الجماعات، فنبذت، لأنها ترتكز على أساس يعاند في طبيعته فكرة الخضوع لشريعة المشاعر. وحاول البعض تثبيت هذه الفلسفة على قاعدة أنها إن لم تكن ملائمة لروح الجماعات، فإنها متكافئة وروح الفرد المستقل. ولكن اصطلاح «الفرد المستقل» ذاته، اصطلاح لم يتفق على تحديده علماء الاجتماع، ولا علماء النفس. فقد عجز العلماء حتى اليوم عند وضع حد لعلاقة الفرد بالمجموع، ولم يستبينوا دستورًا محكمًا تضبط به هذه العلاقة. وسيبقى اصطلاح الفرد المستقل اصطلاحًا غامضًا. بل مظهرًا من مظاهر اللبس والغموض، إن لم يكن اصطلاح خطأ محض لا يقوم له في الطبيعة الاجتماعية مثال، ما لم يصل العلم إلى تحديد علاقة الفرد بالجماعة التي يلحق بها، أو علاقة الجماعة التي يلحق بها بمجموع النسل البشري، أو كما اصطلح عليه، ﺑ «الكُلِّ الاجتماعي» Social Organism. إذن فشعور الجماعات لا بُدَّ من أن يجرف أمامه عقلية الفرد إذا ما استحوذ عليها، في كل حالة من حالات التطور الاجتماعي. وما هو «التطور الاجتماعي»؟ ذلك اصطلاح آخر لم يكشف العلم عن قانون له. ولم يعرف الباحثون من الماضي ما يمكن أن يكون قياسًا تقاس به الظروف والحالات التي يتشكل فيها التطور، ولم يفصح العلم عن تلك الأسباب التي تسوق الجماعات إلى التغاير والنشوء، وتدفع بها إلى الرقي، أو تبعث بها إلى حضيض الفساد والانحلال.

فالفرد والجماعة لا يتفقان، بل هما كائنان متضادان. كل منهما ذو طبيعة تختلف عن طبيعة الآخر. يدلك على ذلك أن العديد الأكبر من الأفراد التي تعيش في زمان ما، لا تعير تطور الجماعة التي تلحق بها شيئًا من الانتباه لمظاهرها أو محاولة صرفها إلى طريق الخير والسلام. فالفرد يتطور بتطور الجماعة، خضوعًا لروحها، من غير أن يدرك من هذا التطور حين وقوعه شيئًا. والجماعة ذاتها تساق إلى التطور من غير أن تحس بشيء منه، حتى يظهر الزمان فرقًا بين حالة الجماعة في زمانين مختلفين، تدركه الأجيال المستقبلة.

وخضوع الفرد لشعور الجماعة يبعده عن عقليته المستقلة يجرفه تيار الشعور العام إلى حيث يراد به، إلى الخطأ أم إلى الصواب، إلى الشر أم إلى الخير، حسب المتجه الذي يملك شعور الكل الاجتماعي. والشجار القائم بين شعور الجماعة وعقلية الأفراد كوَّن التاريخ الإنساني برمته. فما من حادث من حادثات الحروب، أو مظهر من مظاهر الثورات الاجتماعية، أو قيام المدنيات المختلقة، إلا وتجد تلك الروح متجلية فيه، تسوق أمامها الإنسانية سوقًا إلى حيث يريد بها مقدار ما أثر فيها شعور بكارثة قومية أو إحساس بعزة النفس، أو خيال الدفاع عن شيء، أكثر ما كان موهومًا لا واقعًا بالفعل.

ولكن بأي شيء استطاع الإنسان أن يحتفظ بخضوع عقلية الفرد لشعور الجماعة؟ هنالك في معتقداته الدينية، وجد الإنسان تلك القوة التي استقوى بها على عقليته الفردية فأخضعها لقوة إحساسه بالشريعة الأدبية. أما وظيفة تلك المعتقدات فتجهيزها الفرد بقوة نفسية تقوده إلى الخضوع لمجموعة من آداب السلوك ومبادئ من الأخلاق تبقي عقليته واقعة تحت سلطان الإحساس بواجباته الأدبية، أي إنها تخضع العقلية الإنسانية لقوة مستمدة مما بعد العقلية. وتلك ظاهرة لازمت قيام المدنيات في كل عصر من عصور التاريخ.

تلك روح خالدة في الجماعات قد تتغير مظاهرها وجوهرها ثابت في الزمان، مرتكز على طبيعة الإنسان المفكر، المعتقد، المدرك لحقيقة الشريعة الأدبية، التي يجب أن ترتكز عليها أصول المدنية.

عبثًا حاول بعض الفلاسفة أن يقاوموا تلك الروح بمذهب فلسفي في النفعية يستغوي الفرد ليخرج عن شعور الجماعة وروحها. كثر في أوروبا مَنْ حاول ذلك في أواخر القرن الفارط، ونشر بعض المشتغلين بحركة الآداب كتبًا في «دين الطبيعة» ما لبثت أن قتلتها روح الجماعات، شأنها في كل شيء يصد طريقها الشعوري الصرف. حاول هؤلاء أن يجعلوا العقل حد الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية. ولا يزال بعض المفكرين يتابعون ذلك الرأي، قائلين بأن دين المستقبل سوف يكون معتقدًا بعيدًا عما تبعثه في أهل هذا العصر معتقدات ما بعد العقلية البشرية. حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هاديًا ومرشدًا أمينًا بصفة فردًا صالحًا من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيأة البشرية المدعمة على أساس من الحس الأدبي. أخفقوا سعيًا وضلوا سبيلًا؛ لأن الطبيعة لم تَحْبُ الإنسان بشيء من ذلك. رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات وتحت تأثير أي ظرف من الظروف. لذلك انتهى البحث بالاجتماعيين إلى الاعتقاد بأن هذه الغريزة الإنسانية أصل الدين، وأنه ما من معتقد من معتقدات الإنسان في مستطاعه أن ينقلب في نظر الفرد دينًا يدين به، مع خضوعه لتطور الجماعة في ذاته، ما لم يكن من طبيعته أن يهيئ الفرد بوازع مما بعد عقليته يضبط سلوكه نحو الجماعة التي يلحق بها، أو بالكل الاجتماعي في مجموعه، وأن الاعتقاد بإمكان وضع دين يرجع إلى العقل وحده، بحيث يكون في مستطاعه أن يضبط علاقة الفرد بالجماعة حال تطورها، وهي متطورة على الدوام، أمر مستحيل علميًّا وعمليًّا.

ولو كان ذلك في مستطاع الفلاسفة والعلماء الماديين لما تركوا الجماعات تضرب في فلوات من الفوضى، ولأمكنهم أن يكشفوا عن قانون لتطور الجماعة. فإن النظام الاجتماعي المهيأ بمبادئ يتقبلها بمحض إرادته في الحياة، وتظهر متجلية في طاعة الناس لقوانينهم الوضعية، لشيء يبعد جهد البعد عما خيل إلى زعماء المادية في هذا الزمان، أو لما تخيله زعماؤها في العصور الأولى. وما النظام الاجتماعي في الواقع إلَّا نظام عضوي حبته الطبيعة بنعمة الاعتقاد في مبدأ تعتنقه في حياتها الأفراد المكونة له، ويتجلَّى في حاسة الخضوع للقانون؛ بل إن حاسة الخضوع للقانون هي مثال المدنية المرتكزة على ضرب ما من ضروب المعتقد الديني.

على أنك تجد أن في النظام الاجتماعي قوتين متضادتين تتنازعان بقاءه: قوة مفرقة، وقوة مؤلفة. فالقوة المفرقة يمثلها عقل الفرد الأناني المحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها معتقد ديني يستمد مما بعد عقلية الفرد، وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي، الذي هو أكبر من الأفراد مصلحة، وأطول بقاء. وأن الدين في ذاته ضرب في ضروب المعتقد يهيئ الإنسان بوازع مما بعد عقليته يضبط سلوكه نحو المجموع، إذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة المجموع. وبذلك الوازع يحتفظ المعتقد الديني بخضوع المصالح الفردية الخاصة، للمصالح الاجتماعية العامة، التي تتمثل في خطى النشوء التي يخطوها الكل الاجتماعي.

ذلك هو الدين، وذلك مركزه من الضرورات الاجتماعية، وتلك وظيفته الحقيقية، وهي قاعدة كل المعتقدات الدينية في كل العصور وبين كل جماعة من الجماعات، مع غض النظر عما ينسب أهل كل دين إلى دينهم من المراسم وضروب الواجبات والفروض، ومعتقدات الخلاص والثواب في الآخرة، بحسب ما تقوم حاجة الدين لكي يثبت في نفسية كل جماعة تؤلف بين أفرادها مشاعر وأفكار وبيئات متماثلة أو متشابهة.

ذلك هو الدين وأثره، فهل يجحده بعد الماديون؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤