الفصل الرابع

مذهب النشوء إزاء الدين والآداب

إن الثورات القلمية ومشاحنات الجدل والكلام، لم تظهر إلا نتاجًا للدفاع عند فكرة أو مبدأ أو مذهب، تكون اختمرت مقدماته في جو هادئ وعصر فتور، ينفجر بعده بركان الفجر نتيجة لاختمار المذاهب والأفكار في عقول الجماعات. فالأسباب تتجمع في هدوء الزمان باتصال حركة الفكر في العالم، والمسببات تظهر عادة عند بلوغ حد خاص من الاختمار الفكري، يثور من حوله غبار الجدل، وتقوم قيامة الكلام.

***

أفضى بنا البحث في آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب إلى الكلام في الوظيفة التي يقوم بها الدين في تطور الجماعات. وانتهى بنا البحث في آخر الفصل الثالث إلى نقد الدلائل والبراهين التي يقيمها زعماء الفلسفة اليقينية Positive Philosophy حائلًا دون الاعتقاد بالله من طريق العلم، وأثبتنا أن الاعتقاد بالله ضرورة أولية للاحتفاظ بألفة العقل الإنساني.

على أننا لم نكد نفرغ من ذلك حتى اعترضت طريقنا فكرة ذاعت بين فئات من أهل العلم، مؤدَّاها أن مذهب النشوء الحديث مذهب طبيعي صرف، مقصور على النظر في التغايرات العضوية التي تنتاب الأنواع والصور الناشئة في الطبيعة حفافيها وليس له من أثر في تطور الفكرة في الدين أو الآداب أو الفلسفة، فهو بذلك مذهب مادي، لا صلة له بغير الأنواع وتطورها، والتنوعات وتغايرها، والأجناس ونشوئها، وأنه لن يخرج عن هذا الحيز، وأن ليس له على بقية منتجات العقل الإنساني من سلطان.

لقد حاول العلَّامة «هربرت سبنسر» أن يبلغ بفلسفته التركيبية Synthetie Philosophy إلى توحيد فروع المعرفة الإنسانية، وعمد إلى تطبيق مذهب النشوء الحديث على العلوم والآداب، وطبقه في كتابه «المبادئ الأولية» First Principles على نشوء الكون المادي ونظامه، وطبقه في كتابه «مبادئ علم الحياة» Principles of Biology على التكوين العضوي، وطبَّقه في كتابه «مبادئ النظام الاجتماعي» Principles of Sociology على نشوء الجماعات والنظامات الاجتماعية وتطورها، وطبقه في كتابه «مبادئ الأخلاق» Principles of Ethies على سلوك الأفراد وخضوعهم للنظامات المدنية، وبين حقوقهم وواجباتهم، ووصف طبيعة الارتقاء في ذلك المقال الخالد: «الارتقاء: سننه وأسبابه» Progress: its Laws and Causes.

خلص العلم من ذلك في أواخر القرن الماضي بأن النشوء سنة عامة يخضع لها كل ما في الكون من حيوان ونبات وجماد، وأن الارتقاء الحقيقي ينحصر في التغاير من حال التجانس إلى التنافر والاختلاف. لم يخرج عن سلطان هذا الارتقاء النشوئي ونواميسه شيء في الكون، حتى الدين والفلسفة والآداب، فإنها ظلت متنقلة من درجة إلى درجة تليها، وكانت كلما ضربت في أصول الارتقاء وتمشت في سبيل النشوء والنماء، زاد تنافرها وقل تجانسها، متبعة في ذلك خطًا متكافئة، ترجع في الواقع إلى مقدار ما بلغت كفاءات العقل الإنساني من ارتقاء، لم تخرج طبيعته في زمان في الأزمان عن قانون الارتقاء العام، قانون التحول من التجانس إلى التنافر.

لم تذع تلك الفكرة الرجعية، فكرة أن النشوء إن تناول كل ما في العام ببحث وتنقيب، فإن سلطانه لا يتناول الدين ولا الآداب ولا المعنويات، إلا نتاجًا لما حاول دكتور «شميل»، مستعينًا بفلسفة «بخنر» المادية، من المضي في بحث النشوء والارتقاء مشبعًا بالرأي المادي وإنكار الألوهية. والحقيقة أن كفاءات العقل الإنساني لم يختلط حابلها بنابلها في كتاب، بقدر ما تخالطت في تلك المقدمة التي مهد بها دكتور «شميل» لكتابه «فلسفة النشوء والارتقاء».

ولو أردنا التوسع في هذا الموضوع لما وسعنا صدر كتاب ضخم نحيط فيه بمجمل الآراء التي ذاعت في تطبيق مذهب النشوء على الآداب والدين. غير أننا نكتفي هنا ببضعة صفحات نبدؤها بوصف موجز للمذهب استجماعًا للفكرة فيه، ثم نعقب على ذلك بتطبيق مبادئه الأولية على نشوء الإحساس الأدبي، وأثر تمكن العقائد من النفس في الاحتفاظ بتوازن خطا الجماعات في شوطها الذي تمضي فيه نحو الارتقاء.

لقد يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن القول بأن لمذهب النشوء أثرًا في العقائد الدينية، تهديم للمبدأ الذي يرتكز عليه الدين في النفوس، أو تعرض لما لا يصح للعلم أن يتحداه بسلطانه. والحقيقة أن المذهب لا يبحث في الدين من حيث نشأته والعقائد التي يقوم عليها، بل يبحث فيه من حيث تأثير الفكرة الدينية في الجماعات تأثيرًا يسوقها نحو درجة خاصة من الارتقاء.

يقوم عند فئة من الباحثين شعور استمكن من أنفسهم يوحي إليهم بأن النشوء والارتقاء، إن تكلم في نشوء الدين فإنه يتحدى بذلك الشرائع المنزلة. لذلك يقومون في وجه المذهب مستصرخين ذوي اليقين من شباب هذا العصر وشيبه، نادبين إلى قتل الفكرة في مهدها. على أن الواقع يضاد ما يذهبون إليه. ذلك لأن البحث في تطور الأديان بتطور العقل البشري شيء، والبحث في صحة التنزيل والوحي وما إلى ذلك شيء آخر.

للعقيدة الثابتة في النفس مثلًا أثر في نشوء الجماعات، وارتقاء النظامات المدنية. ذلك ما يبحث فيه النشوء، من غير أن ينصرف إلى البحث في طبيعة تلك العقيدة وصحتها أو خطئها. فللبوذيين عقيدة، وللكونفوشيوسيين أخرى، وللبراهمة ثالثة، ولعباد الأصنام رابعة. كذلك تجد أن للأديان المنزلة عقائد خاصة، تتشابه في بعض وجوهها وتختلف في البعض الآخر. ومما لا مشاحة فيه أن ثبات هذه العقائد في أنفس الأفراد والجماعات، أمر يختلف تمام الاختلاف عن طبيعة الشيء المعتقد به. وما المباحث التي يسوقها النشوئيون في الدين إلا مباحث عامة ترجع إلى الفحص عن أثر المعتقد الثابت في نشوء النظامات الاجتماعية. أما البحث في مفصلات الشيء المعتقد به، فأمر متروك للمباحث اللاهوتية وما يشابهها، ولن يتعرض إليها النشوئيون بنظر أو بحث، أكثر من نظرهم في أصل الحياة ومنقلب الإنسان بعد الموت.

وإنك إن رجعت إلى الحقيقة لوجدت أن البحث في تطور الفكرة في الدين ونشوئها عن شعوب الأرض كافة، أمر يرجع إلى نشوء التكوين العضوي في الإنسان أكثر منه إلى أي شيء آخر.

يقول «هربرت سبنسر»: «إننا لا نستدل على ترقي القوى المدركة في الإنسان، ذلك الترقي الذي يظهر خلال أطوار النماء من حال الطفولة إلى الرجولة الكاملة، أو في ارتقاء الهمجي من حالته تلك إلى منازل الفلاسفة المجربين، إلا بزيادة عدد الحقائق التي يعرفها، والسنن الطبيعية التي يدركها. بينما ينحصر الترقي الحقيقي في تغاير الصفات الباطنة، التي لا يدل عليها شيء مثل التبحر في العلم والمعرفة، واستنباط المدركات.»

من ذلك نعرف أن ترقي الفكرة الدينية دليل على ارتقاء الصفات التكوينية الخاصة بكل جماعة من الجماعات. وما دين كل جماعة وآدابها وفنونها ومعارفها، إلَّا مرآة تعكس على صفحتها صورة مكبرة من صفاتها الكافة. فالنشوئيون إن بحثوا في تطور الدين بتطور العقل البشري، فإنما هم يبحثون في ذلك ليستدلوا على أن الارتقاء سنة عامة تتناول الصفات التكوينية الخفية، وأن ارتقاء الفكرة في الدين، مظهر من مظاهر ذلك الارتقاء. وإن بحثوا في ماهية الدين من حيث إنه عامل من العوامل الثابتة المؤثرة في ترقي النظامات الاجتماعية، فإنما هم ينصرفون إلى البحث فيه من ناحية تأثير المعتقد الثابت في نفسية الفرد المجتمع، لا من ناحية طبيعة الشيء الذي ينصرف الإنسان إلى الاعتقاد به.

لهذا نجد أنفسنا أمام مسألتين إن اختلفتا موضوعًا، فإنهما تمتان لبعض بصلة وآصرة متينة. المسألة الأولى: أن الدين يتطور بتطور العقل البشري، وأن مبادئ النشوء لا تبحث في الدين من حيث طبيعة العقائد التي يرتكز عليها، ولكنها تبحث في العقيدة كظاهرة فكرية نفسية لها أثر في تطور الجماعات الإنسانية، وتحاول أن تفصح عن المرتكز الذي ارتكزت عليه تلك العقيدة في طبيعة الإنسان، والمرجع الذي تعود إليه والمنشأ الذي تنشأ منه. والمسألة الثانية: أن العلم والدين لا يختلطان، وأن للعلم حدودًا يحد بها، وأن الذين يعتقدون بأن النشوء كمبدأ علمي، لا يصح أن يتناول تلك المسائل ببحث وتنقيب، إنما هم في غفلة عن أمرين معينين؛ الأول: أن النشوء لا يبحث في الدين من حيث الأصل الذي يبنى عليه والعقائد التي ينتحلها الناس. والثاني: أن للعلم حدودًا لا يتعداها، وأن النشوء كمذهب علمي لا يتعدَّى حدود العلم. فهو إن بحث في الدين فإنما يلزم في ذلك حدود العلم، فلا يتخطَّى حدود العقلية البشرية، ويترك للدين وازع ما بعد العقلية.

لذلك نسوق الكلام في هاتين المسألتين ونفرد لكل منهما بحثًا خاصًّا لنظهر في البحث الأول أن للعقائد أثرًا في ارتقاء النظامات الإنسانية، ولنعرف على أي مرتكز في طبيعة الإنسان ترتكز تلك العقائد، ولنفصح في البحث الثاني عن حدود العلم والدين، وكيف أن العلم لا يتعدَّى حدوده إلَّا لينقلب دينًا، وأن الدين لا ينزل عن حدِّه إلَّا لينقلب علمًا يقينيًّا.

النشوء إزاء الدين والآداب

إن من الحقائق الذائعة في هذا العصر أن فكرة النشوء قديمة. ولقد بَيَّنَ العلَّامتان «زيللر» و«هيكل» في ألمانيا، والأستاذ «أوزبورن» في أمريكا، أن فكرة النشوء قد نبتت في عقول الفلاسفة اليونانيين منذ خمسة أو ستة قرون قبل الميلاد. على أن ما يعثر عليه في فلسفة اليونان من بذور المذهب النشوئي غالبًا ما يختلط بالأوهام والأساطير، رغم ما تعثر عليه في ثنايا أبحاثهم من الحقائق التي شيد عليها «داروين» ومعاصروه مذهبهم الحديث، بعد أن ظلت تلك الحقائق خمسًا وعشرين قرنًا من الزمان مخبوءة وراء أستار التعصب، وفي ثنايا الجهل والتقليد.

على أن المنتجات العلمية والحقائق اليقينية التي أبرزها العقل اليوناني، قد عدت عليها عاديات النسيان بتأثير المدارس في القرون الوسطى، وعلى الأخص تلك المدرسة التي بنت فلسفتها الكونية على نصوص سفر التكوين.

ومما لا ريبة فيه أن تقبل تلك المدرسة قصة الخلق كما هي وذيوع آرائها وأفكارها بين المتعلمين، قد استقوى على العلم الطبيعي في العصر النصراني، فاستعصى على الطبيعيين بث أفكارهم في الناس، فكان ذلك سببًا في رسوخ العقيدة في ثبات الأنواع، مشفوعة بفكرة الخلق المستقل، مشايعة وتقليدًا.

على أن تاريخ العلم لم يخل في عصر برمته من عقل فياض يخرج من ثنايا الظلمة نورًا ومن موات العقول وجدب الفكر، حقائق ثابتة. فإن «ليبنتز» على الرغم مما ذاع في أوائل القرن الثامن عشر من المذاهب الخداعة فيما وراء الطبيعة، قد تنبهت مشاعره إذ ذاك إلى تلك المشابهة الكائنة بين صور النباتات من جهة، وبين صور الحيوانات المختلفة من جهة أخرى، فاجتاز حواجز الآراء السائدة في عصره، حيث كانوا يعمدون في ترتيب الصور الحية إلى طريقة الاجتهاد والاقتناع الذاتي، فيقسمونها تقسيمًا صناعيًّا اجتهاديًّا، لا يستندون فيه إلى علم ولا قاعدة، وقضى بأن نشوء بعض الصور من بعض، ليس من المحالات على قوى الطبيعة، وعمد إلى وضع قاعدة جديدة في ترتيب الصور العضوية، أطلق عليها اسم طريقة «التقسيم الطبيعي» وجعل مبناها على المشابهات الكائنة بين الفصائل.

إن النظر في فكرة أصل الأنواع بنشوء بعضها من بعض لم تُبْنَ على قاعدة علمية منطقية إلا عام ١٨٠٩ عندما أذاع العلَّامة «لامارك» كتابه «فلسفة الحيوان». على أن نظرية «لامارك» في تعليل أصل الأنواع إن لم يتقبلها العلماء في عصره، فإنها مهدت لنظرية «داروين» في النشوء والارتقاء، المدعمة على الاختبار وصدق المشاهدة، سبيل الذيوع والانتشار.

إن أول ما صرف «داروين» إلى التفكير في أصل الأنواع كان ما رآه أثناء رحلته حول الأرض من الحقائق في استيطان بعض النباتات والحيوانات التي تأهل بها أمريكا الجنوبية، وتلك الصلات الحفرية التي تقع بين الحي من قطان تلك القارة، وما انقرض منها. ولقد استجمع «داروين» إذ ذاك كثيرًا من المشاهدات التي أثبتت عنده تغاير الصور التدرجي، وهنالك فكر في احتمال تسلسلها من أصل أولي عام. غير أنه ظل في حيرة من تعليل ذلك، ولم يستنر بشيء من نور اليقين إلا بعد أن قرأ كتاب «روبرت ملتاس» في الإحصاء وسبب تكاثر السكان، والاحتفاظ في ذلك بنسبة معينة. هنالك عرف أن السبب في تغاير الصور راجع إلى ازديادها وتضاعف عدد أفرادها بنسبة كبيرة مطردة، واستبان له أن تلك السنة لا تصدق على الصور الكثيرة الإنتاج وحدها، بل تصدق أيضًا على الصور القليلة الإنتاج، حيث عرف أنه لا يصل إلى سن البلوغ من نتاج تلك الصور إلا النزر اليسير، وأن ما يهلك منها إنما يمضي في سبيل الفناء لعجزه عن منافسة غيره من أفراد نوعه، أو الأنواع التي تقاربه نسبًا في التناحر على حاجات الحياة، أو ذهابه فريسة غيره من الأعداء التي تحف به، أو قصوره عن تحمل أعاصير الحالات الطبيعية.

وكان قد ظهر للباحثين من قبل «داروين» أن الأحياء لا تتجانس صفاتها، ولا تتماثل كفاءاتها، وأثبت «داروين» أن نسل أبوين معينين لا يمكن أن ينشأ منه اثنان يتفقان في كل مفصلات تكوينهما. ولولا هذا الاختلاف الواقع بين الأفراد الناشئة في الطبيعة، لما ترك التناحر على البقاء من أثر في طبيعة الأحياء، ولما بلغ إلى استحداث أي حدث في تغاير صفاتها.

إن تلك التغايرات الجمة التي تفرق بين الأفراد في الحجم واللون والقوتين البدنية والحيوية، لا بُدَّ من أن تنتهي بعراك شديد وشجار دائم، أطلق عليه «داروين» اصطلاح «التناحر على البقاء»، وإن هذا العراك لا محالة سائق إلى نتيجة مؤداها أن قليلًا من الأفراد الناشئة في الطبيعة تمكنه فرص الحياة من بلوغ حد النضج، وأن البقية ينتهي بها الأمر إلى الفناء قبل بلوغ ذلك الحد. هنالك يموت الضعفاء ويبقى الأقوياء. ولقد أطلق «داروين» على هذه القاعدة، قاعدة بقاء الأصلح في التناحر على البقاء، اصطلاح «الانتخاب الطبيعي» Natural Selection وهذا الاصطلاح يمثل قوة دائبة الفعل دائمة التأثير، من شأنها أن تحفظ على أنواع العضويات درجة عظمى من الكفاءة والقوة.
غير أن «داروين» قد لاحظ فيما وقع تحت حسه من الحقائق في أمريكا الجنوبية، أنه فضلًا عن تلك التغايرات غير الثابتة، فإن هناك تغايرات ذات طبيعة أخرى قد تحدث ذاتيًّا Spentaneous Variations على ما يلوح من ظاهر أمرها، وإن هذه التغايرات تكون صفاتها مختلفة عن صفات آبائها اختلافًا جوهريًّا، وإن أمثال هذه الصور المتغايرة إن استطاعت أن تفوز في معارك التناحر على البقاء، أدت إلى استحداث صور جديدة متغايرة.
أما بقاء أمثال هذه التغايرات، فلا بد من أن يعود إلى سبب، محصله أن كل تغاير ذاتي لا يمكن أن يبقى في الطبيعة إلا إذا كان ذا فائدة ما. فإن التغايرات الضارة أو المعدومة النفع، تنزع دائمًا إلى الانقراض بنسبة ما. كذلك لا ننسى أن الحالات الطبيعية التي تعيش النباتات والحيوانات واقعة تحت سلطانها، قد مضت متغايرة خلال الأزمان الخالية عدة تغايرات ذات بال، طوال الأعصر الجيولوجية. فالنباتات والحيوانات التي كانت تعيش خلال العصر الجيولوجي الأول Paleozoic-Period ليست هي بذاتها التي تتحمل كفاءتها البقاء معرضة لتأثير الحالات الطبيعية في عصرنا هذا. لذلك نرى أنه بتغاير الحالات الطبيعية تنقرض مجموعة من الصور، ليسد فراغها الذي يحدثه انقراضها في نسق الطبيعة الحية، صور أخرى تختلف عنها في التكوين اختلافًا عظيمًا. فأنواع العصر الحاضر مثلًا لا تلتئم وأنواع العصور الماضية. من هنا نقضت فكرة الخلق المستقل، ليسد فراغها القول بأن أنواع الزمان الحاضر، ليست سوى أعقاب متحولة عند أنواع طواها الانقراض.

من هذا الشرح الموجز ننتقل إلى الكلام فيما أحدثت هذه النظرية من الأثر في الفكرة التي ترتكز عليها الآداب.

•••

إن من أصعب الأمور التي يعالجها باحث مدقق في العصر الحاضر أن يقدر إلى أي حد من التأثير في فروع المعرفة الإنسانية سوف تبلغ نظرية «داروين» في النشوء والارتقاء في المستقبل.

لقد قوبلت هذه النظرية بشيء من الحيطة والحذر عند العلماء، وبكثير من تعصب أهل التقليد. غير أن رياح الشك لم تلبث أن تثور من حولها حتى هدأت، وانكشف غبارها عن الاعتقاد بأن هذه النظرية تعلل أسباب تلك التغايرات التدرجية التي لا بُدَّ من أن تكون قد مضت مؤثرة في استحداث صور النباتات والحيوانات على مر ما خلى من القرون، وتتالى من الأجيال، تلك التغايرات التي لا يتيسر أن نفقه بدونها شيئًا من تلك الحكم البالغة التي نلحظها إذا ما تدبرنا استيطان الأنواع التي تعمر الأرض الآن، وتوزعها على بقاع الأرض بمقتضى كفاءاتها المختلفة.

لم تتقدم نظرية النشوء والارتقاء خطوة واحدة من بعد ذلك إلا لتتناول بسلطانها كل فروع المعرفة التي تتجشم مئونة البحث والتأمل من حالات الإنسان.

طبقت سنة التغاير التدرجي التي أخذت بضلع عظيم في تكوين مدنيتنا وعاداتنا وكفاءاتنا ولغاتنا على مباحث النظام الاجتماعي، وعلى علم الإنثروبولوجيا «الإنسان»، ولم يقتصر أثرها على الكشف عن الأسباب التي أحدثت الحالات القائمة اليوم في عالم الاجتماع الإنساني، بل إنها قد نبهت المشاعر وشحذت الأفكار والعقول إلى الضرب في سبيل الكشف عما أبهم على الناس من أمر الإنسان وحالاته الفردية بقدم ثابتة راسخة، حتى في تلك الناحية المستغلقة التي تتناول دراسة الآداب والدين، والتي ظن خطأ أن مذهب النشوء لا بُدَّ من أن يغشاها يومًا ما بسحب كثيفة من الإلحاد والشك. فقد استبان الباحثون أن مجال العلم قد اتسعت دائرته بما مهدت فكرة التطور من سبل البحث في نشوء العقل الإنساني وتطور النظامات الاجتماعية والمعتقدات الدينية بتطوره.

لقد أحدثت نظرية «داروين» في الانتخاب الطبيعي لدى أول عهدها بالذيوع انقلابًا لم يشهد تاريخ العلم أمثاله إلا قليلًا. فإن التبدل من الاعتقاد بالأثر المباشر لليد الخالقة في الطبيعة، بأثر غير مباشر يوكل إلى قوة من الانتخاب بثت في تضاعيفها، قد تمكن تأثيره في نفوس الذين كانوا يعمدون إلى الأخذ بظاهر الإنجيل في أوروبا، ولولا أن هيأ القدر فئة من زعماء الكنيسة أخذت تنظر في سفر التكوين نظرة أوسع مدى وأقرب إلى مناهج العلم رحمًا، لما ذاعت تلك الفكرة القائلة بأن في النظر إلى المخلوقات الحية، ومنها الإنسان، نظرة الاعتقاد بأنها نتاج للتغاير التدرجي البطيء، أوجهًا من الروعة والجلال لا نستبينها في فكرة الخلق المستقل، ولظلت التقاليد حتى اليوم مؤثرة أثرها المحتوم في صد العقول عما توثبت إليه من آيات الحق الثابت.

كذلك كان الحال في نظرية التناحر على البقاء، تلك السنة التي تركت آثارها الخالدة بارزة في جبين كل ما بلغ إليه الإنسان من أوجه الارتقاء. فإن الفكرة فيها لم تظل كما كانت في أواخر القرن الفارط، إذ كان المعتقد أن هذه السنة لا محالة مفضية إلى تفوق بضعة أفراد من النوع الإنساني يمتازون بشيء من المواهب البدنية، أو الكفاءات العقلية، يستعبدون بها بقية النوع ويسخرونه لمشيئتهم. فإن الناس لم يلبثوا إلا عشية وضحاها، حتى كشف لهم عن أن تلك السنة الطبيعية قد نفحت الإنسانية بسلسلة منظومة من العظماء الذين خلفت أعمالهم وأفكارهم ميراثًا يستنير بهديه النوع الإنساني في تنقل خطاه نحو المثل الأعلى من الفضائل المدنية، أو الحكمة العملية.

إن النظر السطحي فيما يحتمل أن يكون من أثر التناحر على البقاء في مستقبل الاجتماع الإنساني، قد ينزع بنا إلى الاعتقاد بأن التناحر يقوي من شعور الاحتفاظ بالذات والأنانية، فضلًا عما يسوق إليه من نزعات العسف والوحشية، بقدر ما يضعف من حاسات الدعة والغيرية، تلك الصفات التي تقوم عليها أسس المدنية الصحيحة. بل قد يزعم زاعم أن الأفراد التي تتصف بهذه الصفات الأدبية، لا بُدَّ من أن تنهزم في معمعة التناحر المتشابكة حلقاتها، وتنقرض، لأنها بذلك تكون غير صالحة للبقاء، في وسط مجموع لا عيش فيه إلا لمن استحوذ على أكبر قسط من القوة.

ولقد حاول البعض نقض هذه الفكرة، فعمدوا إلى الاعتقاد خطأ بأن الصفات الأدبية لم تخضع يومًا للنواميس التي خضعت لها الصفات الطبيعية في الحيوانات، والصفات العقلية على الأخص في الإنسان. والحقيقة على نقيض ذلك. فإن أعظم ما امتازت به نظرية «داروين» في النشوء والارتقاء أنها طبقت مؤثرات السنن الطبيعية على الكائنات جماعها. فقد أثبت «داروين» في كتابه «تسلسل الإنسان» أن طبيعة الإنسان الأدبية لها بداياتها في صفات غريزية نستبينها في كثير من الحيوانات، وعلى الأخص تلك الغرائز التي تسوق العضويات إلى العمل على حفظ نوعها، مستقلة عن العمل على حفظ أفرادها.

إن نزعات الغيرية وإنكار الذات التي نعتقد بحق في وجودها في عالم الحيوان ترجع إلى ظاهرتين؛ الأولى: عجز تولدات الحيوانات العليا عن حماية ذاتها أو كسب قوتها. والثانية: ميل بعض الحيوانات إلى العيش معًا في جموع أو قطعان.

أما الظاهرة الأولى فقد حقق العلماء أن ارتقاء العضويات من حيث التكوين يصحبه في الغالب نقص بيِّن في عدد ما تنتج من النسل. فإن الحيوانات العليا تستعيض عن ألوف البويضات التي تلقيها الأسماك، أو مئات الأفراد التي تخلفها ضفدع، بقليل من البيض أو نزر من الصغار.

ولا ريبة في أن أنسالها قد تقع تحت مؤثرات عتية تذهب بها لولا ما حبت به الطبيعة الحيوانات العليا من غرائز الأمومة، التي قواها الانتخاب الطبيعي حالًا على حيال خلال تتالي الأجيال المتعاقبة. فإن الحيوانات التي تحرس بيضها، أو التي تحمي صغارها وتحتمل مئونة تقويتها والقوامة على حياتها، لن تترك صغارها إلا في حالة أكثر صلاحية للبقاء من غيرها من الحيوانات التي لم تهيئها الطبيعة بتلك النعمة العظمى. ومن ثم نجد أن الحب الأبوي، تلك الصفة التي نعتبرها من أخص الفضائل الإنسانية، له أصله ومنشؤه في طبائع الحيوانات وغرائزها. نراه واضحًا في الدجاجة إذ تلاحظ أفراخها وتطعمها وتذود عنها بروحها، وفي الشاة الوادعة إذ تنقلب وحشًا ضاريًا إذا ما هاجم ولدها عدو مفترس.

وأما الظاهرة الثانية: فإننا نلحظ أن من بين جموع الحيوانات قد فازت بضعة صور ضعيفة التكوين بحظ البقاء في معمعة التناحر، بفضل ميولها المؤصلة في تضاعيف فطرتها، إذ تعيش في أسر متحدة أو في قطعان مجتمعة. ولقد كان لهذه الغريزة، غريزة الاجتماع، من الأثر البين في إحداث أوجه النشوء والارتقاء في الحيوانات، ما استحدث تلك الجماعات ذوات النظامات الاجتماعية، كجماعات النحل والنمل، وتلك الصور المدنية المختلفة التي نقع عليها كلما قلبنا صفحات التاريخ الإنساني.

غير أن نشوء مثال هذه الحالات الحيوية قد أدَّى إلى استحداث غريزة اجتماعية وضعت، كما وضعت إحساسات الحب الأبوي من قبلها، حدًّا للحب الذاتي، ينشأ بالضرورة عن غريزة حب الاحتفاظ بالنفس، وأنبتت في الطبائع العضوية إحساسات الإخاء، التي هي من أخص ما تمتاز به الحيوانات المجتمعة. والعلَّامة «داروين» إن كان قد أشار إلى هذه الحقيقة في الفصل الذي عقده في «الحاسة الأدبية ونشوئها» في كتابه «تسلسل الإنسان»، فإن الباحثين لم يعيروها ما تستحق من عناية الدرس والبحث فيما ثار بينهم من المناقشات حول مذهب النشوء، حتى نفحهم العلَّامة الكبير البرنس «كروبوتكين» بآيات بينة في كتابه القيم «التعاضد المتبادل: كعامل نشوئي» أبانت للناس ما خفي عليهم من غريزة التعاون الواقع بين كثير من صور الحيوان. وهذه الصور الاجتماعية الأولى، التي لم تكن في مبدأ أمرها غير موجهة إلا إلى غرض واحد هو الدفاع عن النفس والوقاية من الأعداء، قد أدت إلى استحداث صفات في الحيوانات طالما دفعتها إلى الإقدام على أفعال من البطولة عددها العلَّامة «داروين» في كتابه ذاك، كما أنها أنتجت في الإنسان تلك الإحساسات الأدبية العليا، كالوطنية والحب الأخوي، تلك التي لم يخل دين من الأديان من الحض عليها واتخاذها دعامة من دعاماته.

غير أن سلوك الإنسان لا يرجع برمته إلى الغرائز. فالإنسان كائن مفكر، كما هو مجتمع، وإحساساته إن رجعت إلى بضعة انفعالات معينة تدفعه عليها غريزة الاحتفاظ بالذات والنوع، فإنه قد بلغ من الرقي حدًّا أصبحت معه كل أعماله وأفعاله خاضعة للقانون الأدبي الذي تعتنقه السلالة أو الجماعة التي ينشأ فيها.

ولقد بحث العلَّامتان «هوبهوس» و«وستارمارك»، الأول في كتابه «الآداب في طور النشوء»، والثاني في كتابه «أصل الفكرات الأدبية ونشوئها وطبيعة الإحساسات الأدبية للجماعة» هذه المسألة، وكلاهما يتفق وصاحبه في التسليم بأن الغرائز الاجتماعية في الحيوانات أصل نشأت منه الآداب الإنسانية، وأساس بنيت عليه دعاماتها، وقضى كلاهما بأن الفرق بين أفعال الإنسان الأدبية وقواسر الحيوان العاطلة من مؤثرات الآداب، راجع إلى أن الإنسان فيه كفاءة على تكوين فكرات ومدركات عامة تؤهل به إلى وضع قواعد للآداب، ونواميس للأخلاق. ولقد يظهر لنا، إذا ما وجهنا بأنظارنا إلى المستوحشين أن بعض أعمالهم الراجعة إلى قانون العادة بعيدة عن النزول على حكم الآداب. قد تراهم يرتكبون جريمة وأد أطفالهم، مشفوعة بصنوف من القسوة والشدة في معاملة أعدائهم، إذا ما وقعوا في أيديهم أساري حرب أو عابري سبيل. غير أن هذه الأفعال التي تلوح لنا بعيدة عن كل قانون أدبي، تمثل في الواقع آداب الجماعات الأولى في طور فطرتها وطفولتها، كما أنها تلتئم تمام الالتئام وغريزة الاحتفاظ بالذات. والآداب الاجتماعية التي تحض على الأمانة والعدل بين أفراد قبيلة بعينها أو شعب بذاته، وتدفع على التعاضد المتبادل في وقت الحاجة، ونظامات الزواج، لأولي الخطى الضرورية في سبيل الاحتفاظ بكيان الجماعة، وشأنها من حيث التأثير في الجماعات الإنسانية، كشأن الغرائز الاجتماعية من حيث التأثير في الحيوانات المجتمعة. ومما لا مشاحة فيه أن الآداب مرتبطة تمام الارتباط بنشوء العقلية الإنسانية العامة، وهي تتبع في رقيها وتطورها تقدم العقل نحو الكمال. لذلك نرى أنه بينما نعثر بين السلالات الأولى التي لا تزال على فطرتها على قانون أدبي يحكم سلوك الأفراد، يتعذر علينا أن نجد في عقلياتهم أي أثر لبزرة الآداب المثالية التي لم يبلغ إليها العقل الإنساني، إلا بعد بلوغ درجة من المدنية ارتقت معها الحاسات الأدبية إلى حد قضى معه الفلاسفة وأصحاب الأديان، بأن المثالية الأخلاقية هي الغاية التي ينبغي أن تبلغ إليها الأخلاق الإنسانية.

الآداب وتطور الجماعات

هنالك فئات من ذوي العلم يزعمون أن التهذيب الأدبي والسلوك الشخصي، ليس بذي قيمة بينة الأثر في الجماعات، وأن الفرد قد يتطور ويضرب بقدم ثابتة نحو النشوء والتطور، ولكن نشوءه وتطوره لا يرث منه الأعقاب شيئًا، ولا يترك في الأجيال المقبلة من أثر يدفع بها نحو الارتقاء.

ولا مرية في أن هذا الاعتقاد يضرب في أصول التربية والتعليم بمعول التهديم، ولم يسد في الأذهان إلا اقتناعًا بأن المذهب الدارويني قد برهن على أن الصفات المكتسبة لا تورث. غير أننا لا يجب أن ننسى أن توارث الصفات المكتسبة لم ينف نفيًا تامًّا. فقد يكون صحيحًا، ولكن لم يقم الدليل العلمي عليه من طريق المشاهدة. بَيْدَ أن «داروين» قد نسب كثيرًا من نتائج مذهبه إلى ما دعاه «التغايرات الذاتية» Spontaneous Variatious وهي التغايرات التي غالبًا ما تظهر فجاءة، وقد تمضي ثابتة في صفات العضويات، فتنتقل بالوراثة من جيل إلى جيل. كذلك لم يغب عن ذلك العلَّامة الكبير ما للظروف المحيطة بالعضويات من أثر في صفاتها، ناهيك بما شاهد من مؤثرات البيئة في استحداث مختلف ضروب التباين في الأنسال التي تنتجها آباء تخضع لمؤثرات بيئات تختلف اختلافًا كبيرًا أو يسيرًا.
ولقد فصل العلَّامة «داروين» في كتابه «تأثير الإيلاف في تغاير النباتات والحيوانات» الذي نشر بعد كتابه «أصل الأنواع» بتسع سنوات، نظريته في «وحدة التناسل» Pangenesis، التي قضى فيها بأن الخلايا التناسلية تستمد دقائق بروتوبلاسمية. من كل خلايا الجسم الذي تتولد فيه أو تنشأ منه، حتى إن كل التغايرات التي تنشأ في الجسم الحي، تترك أثرها في البويضة التناسلية التي سينشأ منها النسل الجديد.
وهذه النظرية التي وضعها العلَّامة «داروين» تأييدًا لفكرة توارث الصفات المكتسبة قد نماها وأيَّدها العلَّامة «دي فريس» De Vries الهولندي عام ١٨٨٩ والعلَّامة «هيكل» الألماني عام ١٨٧٦، وكلاهما حاول أن يعلل بنظريته الخاصة تلك الظاهرة وأسبابها. حتى إذا رجعت إلى العلَّامة «ويزمان» وهو أكثر الباحثين اقتناعًا بأن الصفات المكتسبة لا تورث البتة، ألفيته يقضي في كتابه «البلاسما الجرثومية» The Jerm-plasm بأننا لا محالة مسوقون إلى الاعتقاد بأن الأصل الذي يعود إليه توارث الصفات الفردية، محصور في تأثير الظروف الخارجية المحيطة بالعضويات تأثيرًا مباشرًا.

وأنت مهما قلبت وجوه الرأي لا تستطيع أن تقول بأن النظرية الدارونية في النشوء تنافي القول بتوارث الصفات المكتسبة. وغاية ما في الأمر يمكن أن يقال بأن التعاليم الأدبية لا تترك من أثر في العضويات يظهر موروثًا في أعقابها. غير أن التربية الأدبية، سواء أرجعت إلى العلم، أم إلى الأدب، أم إلى مجرد الدوافع النفسية، إن هي استدامت تأثيراتها بالعكوف على إتباع ما تقضي به الآداب حتى تصبح عادة، فمما لا شك فيه أن تأثيرها لا يقل، في طبيعة الأخلاق، عن تأثير الظروف الخارجية المحيطة بالعضويات، في طبيعة التكوين.

ولقد أثبت جهابذة أولي النظر والعلم أن تكرار فعل ما على وتيرة واحدة، ينقلب عادة تعكف عليها الأفراد ولا تخلص من مؤثراتها الأنواع ولا الأجناس ولا الفصائل. وحقق «فرنسيس داروين» ابن العلَّامة «تشارلز داروين» الكبير بتجاريب أجراها في النباتات بأن عكف على تنبيه بعض الأعضاء البتراء بشكل خاص خلال فترات محدودة من الزمان، فوجد أن الحركة التنبيهية التي أحدثها، قد أخذت بعد زمان ما في الاستمرار وقتًا قصيرًا، بعد أن كفَّ عما ينبهها به من الوسائل.

وأيَّد «هيرنج» Hering و«صموئيل بطلر» Samuel Butler نظرية أن في الحياة العضوية ظاهرة خفية سمياها «الذاكرة اللاشعورية» Unconscious memory وقضيا بأنها ظاهرة تلازم الحياة العضوية في جميع مظاهرها وعلى مختلف وجوهها. وتبعهما العلَّامة «سيمون» Simon فبحث هذه الظاهرة من ناحية حيوية صرفة، وكشف خلال بحثه المستفيض عن كثير من البراهين المقنعة الدالة على أن كل منبه ما لا بُدَّ من أن يترك في العضويات، فضلًا عن الانبعاث الموقوت الظاهري، تأثيرًا ثابتًا في مادتها. وهذا التغيير الثابت إذا تكرر حدوثه واقترن أثره بما تحدث الظروف الخارجية من حدث، استجمع في الفرد صفات يورثها أعقابه جيلًا بعد جيل، ويقوى أثرها في الصور بحسب ما يكون فيها من الفائدة لها في حالات حياتها. وهذه «الذاكرة اللاشعورية» Unconscious memory تصبح مبدأ من مبادئ الاحتفاظ بالذات والنسل، إذ تستجمع على مدى الزمان تجاريب الأفراد خلال حياتهم، كما أنها عامل أولى في استحداث تغايرات ارتقائية في العضويات الحية. ولقد جهر «فرنسيس داروين» في خطاب الرياسة الذي ألقاه في مجمع العلوم الذي التأم في «دبلين» أنه من أنصار «سيمون» كما أن العلَّامة «هيكل» لم يتردد في أن يعبر عن اعتقاده الثابت في أن مذهب «سيمون» يعد أكبر دعامة ترتكز عليها نظرية «داروين» في الانتخاب الطبيعي.

فإذا مضينا في تطبيق هذه المبادئ على عالم الآداب، لم نجد من صعوبة تحول دون القول بأن تكرار «الفعل الأدبي» حادثًا بما تبعث في النفس قوة الإرادة من عوامل التنبه، لا يقتصر على أن يصبح عادة ثابتة في الفرد، بل إنه تحدث تغيرًا ثابتًا في طبيعته تتوارثه الأجيال المتعاقبة، ماضيًا في الارتقاء جيلًا بعد جيل خلال تواتر الزمان.

ارتكانًا على هذه الفكرة التي تلتئم ومذهب «داروين» ومعتقده، تقضي بأن ارتقاء الأفراد من حيث الإحساس الأدبي، ارتقاء راجعًا إلى جهاده المستمر في سبيل التخلص من بواعث الاستغواء ونزعاته، لا بُدَّ من أن يكون قد بعث الإنسان إلى منازل ذات بال من الرقي، فرديًّا واجتماعيًّا، ما دام قد ثبت لدينا أن كل فعل تنبهي ممثل لقوة تبعثها في الإنسان حواسه الأدبية، محتوم أن تحتفظ به الطبيعة، كأثر ثابت في الأفراد ينتقل إلى أعقابهم.

من هنا نحكم بأن قانون بقاء القوة الذي يحكم كل ما في الكون من نظام، يقابله في عالم الآداب قانون يماثله، إن لم يستمد منه، يقتصر تأثيره على ترقية الصفات الأدبية في العضويات تدرجًا على مدى الأجيال.

أما وقد بلغنا هذا المبلغ من البحث، فإنه يحق لنا أن نتساءل كيف أن تقدم الإنسانية نحو المثل الأعلى من الفضائل الخلقية، يكون على ما نعهد من البطء، ما دامت السنن التي أدلينا بالكلام فيها قد ظلت دائبة على استجماع مختلف المؤثرات الناتجة عن الأفعال الأدبية طوال أزمان لا نقدرها إلَّا قليلًا؟

فإننا إذا سلمنا، وسلم معنا أكثر الباحثين، بأن الإنسانية قد قطعت شوطًا في سلم الأخلاق، فإن ذلك الشوط ليلوح ضئيلًا إذا تذكرنا أن الأديان المنزلة ظلت تنشر تعاليمها الأدبية بضعة آلاف من السنين بين الأمم التي مثلت مختلف صور المدنيات العليا في التاريخ الإنساني. هنا يجب أن نتريث قليلًا لنبحث في تلك العوامل التي مضت مؤثرة في صد الطبيعة البشرية دون البلوغ إلى المثالية الأخلاقية.

هنالك باعث واحد يصح أن يقال فيه إنه القوة القاسرة في الغرائز النوعية. فإنك بينما تجد أن قانون الأخلاق الفطري — بين المستوحشين — قد اشترع بضعة اشتراعات وجهت جماعها إلى خير القبيلة أو الجماعة، فإن هذه الظاهرة قد اصطحبت بغريزة مضادة لها، هي غريزة الكراهية للقبائل والسلالات الأخر. وهذه الغريزة قد استمكنت من طبيعة الإنسان لأنها ترجع إلى حفظ الذات أكثر من رجوعها لأي شيء آخر، بحيث لم يكن من المستطاع أن تستقوي عليها فكرة أخلاقية تبنى على أساس الحب الأخوي المتبادل بين السلالات المتباينة. ولئن وجدت اليوم أن ما كان في الغريزة النوعية من تخصيص قد اتسع حتى أصبح وطنية قومية، فإن الشعور بالحب المتبادل بين الشعوب لم يتجاوز مداه حدود كل بقعة من البقاع التي تأهل بشعب متجانس الصفات.

يقول العلَّامة «داروين» في كتابه «أصل الإنسان» ما يلي:

لما أن ضرب الإنسان بقدمه الثابت في مدارج المدنية، واتحدت الفصائل الصغيرة فكونت جماعات كبرى، همس وحي الغريزة من ضمير كل فرد من أفراد تلك الجماعات بأنه ملزم بأن يمد بيد الحب والعطف، وبكل ما أوتي من غرائز الاجتماعية، إلى كل أعضاء الأمة التي هو تابع لها، ولو لم يكن على صلة بهم. أما وقد وصلت الإنسانية إلى هذا الحد، فلم يبق أمامها من حائل يصد موجة الحب الأخوي والعطف المتبادل أن تطمو على خبائث الإنسانية، اللهم إلَّا حوائل مصطنعة مفتعلة.

من هنا نستدل على أن العلَّامة «داروين» يتنبأ بأن المستقبل كفيل بتحطيم تلك الحوائل التي تضعها القوميات، إذا ما وجهت الغرائز الإنسانية نحو العمل على سعادة النوع البشري. ومن هنا نعرف أن تعاليم الأديان العظمى جميعها لا تتنافى مع ما يؤدي إليه قانون الارتقاء التدرجي من النتائج.

ولدينا باعث آخر ظل عاملًا على صد تيار التقدم الإنساني نحو المثل الأعلى من الآداب. ذلك باعث المؤثرات السيئة التي تنتج عن البيئة المصطنعة التي تخلقها. فلقد أظهر «داروين» تأثير البيئات المصطنعة وما لها من الأثر في تغاير صفات الصور العضوية، إذا ما وقعت تحت مؤثرات الإيلاف. والإنسان المتمدين لن يفلت من مؤثرات ما تحدث تلك الفواعل. وكلنا يعلم إلى أي حد يذهب تأثير المدن المملوءة بضروب الحياة المصطنعة، لا بضروب الحياة على صورتها الطبيعية، من هدم سعادة الجماعات طبيعيًّا واجتماعيًّا. وارتكانًا على ما أدلينا بالقول فيه، نوقن بأن كدورة الهواء وقلة الغذاء أو فساد نوعه، أو الانبعاث مع الانفعالات غير المرغوب فيها، كلها مؤثرات لا محالة مؤدية إلى استحداث فساد تكويني في جماعات النوع الإنساني. ذلك الفساد الذي نراه جليًّا واضحًا بين قطان الأحياء الفقيرة في المدن العظمى. فسوء السلوك، وتفضيل الذات على ما عداها، والقسوة والعنت والصلف صفات كثيرة الذيوع. وهي تؤثر بطبيعة الحال أثرها المحتوم في الحط من مستوى الأخلاق في الأفراد، كما أنها تضعف من أخلاق النسل على وجه عام.

غير أن المصلحين لم يلبثوا إلا قليلًا حتى استناروا بهدى ما ألقت في روعهم نظرية النشوء والارتقاء، فوجهوا جهدهم نحو القضاء على تلك الخبائث الأدبية التي تخلقها البيئات المصطنعة. وقد أصبح في مقدورهم اليوم أن يستقووا عليها بما أوتوا من مهيئات القوة المادية التي ترتكز عليها المدنية الحديثة.

وفضلًا عن مؤثرات البيئة المصطنعة، فقد ينشأ في الجماعات المتمدينة مؤثر ذو خطر كبير. فإن التناحر الاقتصادي الذي يعمل في الحياة الاجتماعية الحديثة، لا يمكن أن يكون ملائمًا لتنمية مبادئ الغيرية وتقويتها في الإنسان. ومما لا شك فيه أن التبدل من النظام الاقتصادي الموضوع اليوم، بنظام آخر يتحقق فيه قسط أوفر من التعاون بين الأفراد والجماعات، أو يرتكز على نظام للإنتاج والتوزيع أكثر ملائمة لحاجات الجمعية، بحيث يتحرر من ضروب المنافسات المضيعة المهدمة بما يتبعها من ضروب الخبائث، وألوان المتاعب، يكون أبعد أثرًا من النظام الحاضر في سوق الجماعات في طريق الارتقاء المدني.

علاقة النشوء بالرقي الديني

لم تواجه نظرية النشوء في جهة من جهات الفكر الإنساني بما واجهها به اللاهوت من المعارضة. في حين أن هذه النظرية قد أحدثت في الفكر آثارًا نبهت الناس إلى التفكير في المسائل اللاهوتية، والاستعماق في التأمل منها. ولم يقف تأثيرها عند حمل الناس على النظر في الكتب المنزلة نظرة أوسع مدى وأقرب لمناهم البحث اليقيني، بل إن الآراء التي أذاعتها الأديان في أصل التكوين قد أدت إلى البحث في مقابلة الأديان ومقارنة بعضها ببعض، مع الاستناد في كل ذلك إلى فكرة النشوء. قام بذلك جهابذة من علماء طبائع الإنسان مثل «فريزر» Frazer و«تيلور» Tylor وكان لمباحثهم في مختلف الأديان وضروب المعتقدات الفطرية الأولى، أثر في دراسة تاريخ الأديان، والوقوف على كيفية نشوئها وتطورها.

علمتنا هذه الأبحاث أن مثل الأديان كمثل الأنواع الحية في الطبيعة لم تخلق فجاءة؛ بل إنها قد مضت متطورة في خطى نشوئية تدرجية، حتى إن الديانات التي أتى بها مبشرون من أكبر من يذكرهم التاريخ قدرًا، قد كونت على أساس كان بذاته نتاجًا لخطى من النشوء والتدرج المستمر، وأن المعتقدات القديمة البالية غالب ما أثرت في الديانات الحديثة، وعرقلت من خطاها الاصطلاحية.

إننا لا نستطيع أن نرجع في دراسة الدين إلى غريزة في الحيوان نتخذها دعامة للبحث والمقارنة والاستنتاج، كما فعلنا في الآداب. فإن التأمل من أحط صور الديانات التي نراها ذائعة اليوم بين المستوحشين والهمج، لتدل على أنها ترتكز بداءة ذي بدء على طبيعة مفكرة في الفرد. وإذ نجد أن بعض ضروب المعتقدات المستمدة مما وراء الطبيعة ذائعة بين كل السلالات المستوحشة، فإنا لا محالة نساق إلى القول بأن المعتقدات إنما ترجع نشأتها إلى ضرورة عامة تدفع الأفراد المفكرة إلى التأمل من أنفسهم وما يحيط بهم من الكائنات وفي الحياة، وما يتلوها من الموت.

إن أولى البدايات الدينية بين السلالات الفطرية تنحصر في مظاهر من المعتقدات هي عبارة عن صورة من صور الرأي الروحاني، يصحبها عادة اعتقاد في السحر والشعوذة.

إن هذه المعتقدات على تباين ضروبها واختلافها باختلاف الجماعات والأقطار، تقوم على أن في الكائنات الطبيعية والحيوانات أو النباتات التي تحيط بالأفراد أرواحًا أو أشباحًا موكلة بها تشابه أرواح الناس. وجائز أن لا تكون هذه الصور إلَّا عبارة عن تعبير صرف عما يقوم في نفس الإنسان الفطري من رغبة في تبادل مظهر من مظاهر الصداقة والحب الأخوي مع الكائنات الحافة به، وبذلك يكون لها أصل تعود إليه في غرائز الإنسان الاجتماعية، مثلها في ذلك كمثل الانفعالات الأدبية.

إن هذه الروحانية، وما يتبعها من صور تكثير الآلهة، بعيدة عن أصول الآداب، كما أن مراسمها التي يقوم بها السحرة أو أصحاب التعاويذ ذات طبيعة اجتماعية، أكثر منها أدبية. على أن خطوة الانتقال من الروحانية الصرفة إلى التكثير، لا يستطاع الوقوف على تدرجاتها بدقة. وجل ما نعرف أن الروحانية في آخر درجات تحولها قد اقتصرت على الاعتقاد بأن جل الأرواح أو كلها ليست بأرواح الحيوانات أو الأشياء الطبيعية الكائنة حول الإنسان، بل جعلت هذه الأشياء موضعًا تحل فيه الأرواح، وبذلك اتخذت كمعبودات خاصة، لا كأرواح ذوات طابع معين. بذلك ترجع الشجرة، التي كان يعتقد من قبل بأن لها حياة روحانية، إلى كمية من المادة لا حياة ولا نشاط فيها، وتصبح الروح إذا ما اعتقد بأنها ليست بروح الشجرة ذاتها بل مبدأ منفصلًا عنها، إلهًا من آلهة الغابات. ولقد اصطحب هذا التغيير بنشوء ضروب مختلفة من الأساطير، تنسب عادة إلى حياة الآلهة والأبطال. هذا لأن قوة التخيل قد ظلت ذات أثر غالب في حياة المستوحشين، فكانت تذهب بهم إلى حيز من الأساطير يظهر جليًّا في عاداتهم، أو في تفسير الظاهرات الطبيعية.

إن مختلف ديانات التكثير التي ذاعت في المدنيات الفطرية الأولى كانت خلوًا من التعاليم الأخلاقية. ولم تعصم آلهتها من الخطيئات والخبائث البشرية، سواء أمن ناحية الفعل المادي أم الصفات الأدبية. فكانت آلهتها تعيش وتموت، غير أنها خصت بالقدرة على أن تبعث تارة أخرى. كما أنها تركت معرضة في نظر تلك الأديان إلى السقوط تحت سلطان الشهوات، كالغيرة والانتقام والكراهية وما إلى ذلك من الصفات الإنسانية التي تمت إلى الحيوانية بآصرة قريبة.

وإنا لنجد أنه في أكثر حالات الفكر غورًا في تكثير الآلهة، أن هذه العقيدة قد امتزجت بصور كثيرة من الفكرة الروحانية. ففي مصر القديمة مثلًا نجد أن تمثال «حوريس» Horus المنحوت رأسه على شكل صقر، يمثل الامتزاج بين عبادة ابن الشمس وعبادة الصقر القديمة. كذلك الحال في آلهة اليونان القديمة وإلاهاتها. فإنك تُلْفِي أن لكل منهم حيوانًا يرمز به لكل إلهة أو إله، ولم تخل ديانة اليونان القدماء من مراسم السحر والشعوذة. فلما أن ارتقت المدنية وتقدمت الفكرة فيها، لوحظ أن العقل الإنساني قد تدرج في فكرة تسويد أحد الآلهة على بقيتها. هنالك لا يفقد صغار الآلهة خطرهم كموضع اعتقاد، وإن فقدوا شيئًا من منزلتهم الأولى، كما حدث في مدنية اليونان والرومان. وغالب ما كانت تجتمع صغار الآلهة مع إله رئيسي، فتؤلف ثالوثًا خاصًّا. وهكذا كانت الحال في مصر القديمة، حيث كان كبير الآلهة في إقليم ما يقترن بزوجة ويعقب ولدًا.

أما الصعوبة التي كان يلاقيها الفكر الإنساني من الاعتقاد بانفصال جواهر تلك الشخصيات الثلاث، فقد أدت إلى كثير من الخلاف والتناقض، ولم يلبث الفكر أن نزع إلى الاعتقاد بأن الأب والابن ليسا سوى مظهرين لإله واحد يتضمن في شخصه درجات خاصة من العلاقات والصلات، هي بذاتها علاقات الأسر البشرية.

أما فكرة التكثير عند البابليين فهي أخص ما ذاع بين البشر من أشكالها. وفيها تجد أن إلهًا قد تسود على بقية الآلهة في إقليم بعينه، أو في بقعة محدودة من البقاع. وهنالك نزع الفكر إلى الاعتقاد بالتوحيد، ولكن بصورة أولية موضعية. ولم يكن من معنى التوحيد في تلك الصور أن إلهًا واحدًا قد تفرد بالبقاء في نظر العقل الإنساني؛ بل كان معناه أن إلهًا من تلك الآلهة قد أنحى بسلطانه وجبروته على سلطان غيره من الآلهة وجبروتهم، فحواهم في شخصيته، كما يحوي المكان الأجسام المادية. أما فكرة التوحيد وما فيها من الخطورة، فتنحصر في مختلف صور العلاقات التي يخلقها الفكر بين العابد والمعبود. فإن التوحيد يجعل الخالق مدبر السماوات والأرض ومصرف شئونها وأنه علة العلل، وخالق الكون ومخلص الخلق في الدار الأخرى. وهذه الصفات عامة قد نسبها البابليون إلى إلههم الكبير «مردخ» وهذه الحالة الفكرية تتضمن صورة جديدة من صور العلاقة بين الإنسان وخالقه. هذا فضلًا عما فيها من فكرة المسئولية التي تقع على عاتق الإنسان أمام الله، الذي تصوره فكرة التوحيد تصويرًا تجعله السلطة القائمة على الاحتفاظ بالشريعة الأدبية والأخلاق الفاضلة، كما أنه حافظ نسب التكوين والتحليل، أو كما يقولون «الكون والفساد» في العالم الماديِّ. من هنا تندمج نواميس الآداب في الفكرات الدينية. فإذا عرفت أن أحط الجماعات الفطرية لا تملك من النظامات المدنية ما يصح أن يطلق عليه اسم «الدين» بالمعنى المعروف بين جماعات المدنية العليا، وعرفت كيف يغير إدماج النواميس الأدبية في الفكرات الدينية من معاني الألفاظ، وكيف يقوِّم من سلوك الأفراد، وكيف يحكم الصلة بين الاعتقاد في الفضائل وبين إتباعها عملًا، لم يحل بينك وبين التدرج في سبيل الكشف عن خطى النشوء التي خطاها العقل البشري نحو المثل الأعلى من الفضائل حائل، ولقنعت بأن فكرة النشوء تتناول الدين والآداب، تناولها عالمي الحيوان والجماد، إذ ليس في العالم من شيء ينفلت عن قطر تلك القاعدة، حتى المعنويات وفكرات الخير والجمال.

حدود العلم

ننتهي من ذلك إلى الكلام في حدود العلم، لنعرف إن كان العلم يتحدى الدين بسلطانه كما يقول البعض إسرافًا واعتباطًا. وفي يقيني أن تلك المنازعات التي وقعت بين الدين والعلم في القرون الوسطى، والتي تملأ وقائعها بطون المجلدات مصورة لصفحة من أخبث ما فاضت به الطبيعة البشرية، لم تكن نتاجًا لعداء واقع في طبيعة الدين يعاند طبيعة العلم، بل نعتقد بأنها راجعة إلى جهل الإنسان وغروره في عصور استحكمت فيها نزعات المشاعر الهوجاء، وتمكنت فيها عواطف التسلط على العقول عند رؤساء الدين، استمكان عواطف التسلط على رقاب الناس عند المستبدين من رءوس حكومات القطائع.

إن نزعة العلم Science وطريقته ووجهة نظره، وعلى الجملة كل ما يقع تحت معنى العلم من منتجات العقل البشري، شيء حادث من مستكشفات الأعصر الحديثة. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا مع القائلين بأن تحديد طريقة العلم ووضعها على قواعد خاصة ثابتة، كان أبلغ أثرًا وأعمق فائدة للإنسان من أعظم مستكشفات المحدثين جميعًا، إذ باستكشافها، لم تعد قضايا العقل الإنساني وكفاءاته لتتخالط ذلك التخالط الذي ظهر جليًّا واضحًا على صفحات التاريخ طوال العصور الأولى.

ومما لا مشاحة فيه أن جنوح العقل إلى التساؤل عن حقيقة الأشياء ومصادرها، وحوادث الكون وظاهرات الطبيعة، كان في الواقع أول الضرورات الجوهرية التي أفضت بالإنسان منذ أبعد العصور إلى البحث وراء الحقيقة. فالإنسان الأول عندما نزع به الفكر إلى تصوير نظرياته الروحانية التي كان يعلل بها حقائق هذا الوجود، لم يضع البزرة الأولى للدين وحده، بل غرس مبادئ العلم وقضايا الفلسفة. فالأساطير والخرافات قد تضمنت من العلم بذورًا، كما احتوت من الدين مبادئ. غير أن العلم قد احتاج إلى عصور متطاولة موغلة في القدم، حتى أصبح له وجود مستقل بذاته. فإن نزعة العقل إلى البحث، إن كانت قد صورت منذ القدم مختلف صور الأديان ونظمت مبادئ الفلسفة الأولية، فإن العلم لم ينفصل عن الفلسفة ولم تفرق كفاءات العقل بين قضايا الفلسفة وبين مبادئ العلم ونظرياته، إلَّا منذ عهد قريب.

إن كل الباحثين في تاريخ الفكر الإنساني ليعتقدون بحق أن «فرنسيس باكون» هو أول مَنْ وضع للعلم حدودًا فصلته عن الفلسفة، وذيوع كتابه «النظام الحديث» Novum Organum يعد أول عهد العلم بالوجود المستقل. أما ما ندعوه اليوم «بالاستكشاف العلمي» الراجع إلى حب الناس لدراسة الطبيعة عامة، فقد أدَّى ﺑ «باكون» إلى القول بأن الطريقة المثلى التي يجب أن نمضي عليها في حل مشاكل الحياة ومسائلها، هي الطريقة العملية المعارضة للطريقة الفلسفية، التي ذاعت في القرون الوسطى، وكانت تعمد إلى المناقشات الكلامية والعلم الضروري.
إن من أخص ما نحتاج إليه في هذا الموطن أن نظهر الفرق بين نزعة العلم ونزعة الدين. أما الدين فنزعته ذاتية Objective محدودة في أنها تنسب، أو تحاول أن تنسب، قيمة ذاتية خاصة لحادثات الحياة وظواهرها، وهي في أهم وجوهها عبارة عن معرفة الوجود بشكل عام مطلق مستمد من الرغبات والضرورات الراجعة إلى الشعور أو القلب الكامن، وإلى روح الإنسان إذ ترتد إلى النظر في حياتها الداخلية أكثر من نظرها في عالم الطبيعة الخارجي. أما نزعة العلم فيفخر العلماء بأنها غير ذاتية؛ بل موضوعية Subjective عامة. والعلم إن كان في حقيقة وجوده ومرجعه، وبحكم العقل الإنساني إزاء الكون المحيط، ذاتي كالدين، إلا أن موضوعية العلم تنحصر في أنه ينظر في عالم الطبيعة الخارجي، أكثر من نظره في طبيعة الروح المستترة.

يصل الدين إلى العالم المنظور مزودًا بمطالب يحاول من طريقها أن يخلق جوًّا ملائمًا لمجموعة من الرغبات والانفعالات الخاصة. أما العلم فيظهر خلوًا من كل شيء ولا يصل إلى العالم إلَّا ليعرف الكون من طريق النظر في طبيعته. يترك العلم الطبيعة حرة في أن تُلقي في روع كل بشر سرها وروايتها بلغتها الخفية. أما الدين فلا يرضى للطبيعة أن تتكلم بلغتها. يضع لها لغة، وينتحي لها أسلوبًا من البلاغة مخالفًا لبلاغتها. يرجع في كل الحالات إلى استيفاء أغراضه الأولية، لا إلى الترجمة عند حقائق الكون كما تريد الطبيعة أن تلقيها في روعنا.

والعلم غير ذاتي في أشياء أخر. فإنه لا يجعل لحقيقة ما قيمة نفسية ترجع إلى الانفعال. لأن روح العلم الصحيحة، تسوِّي دائمًا بين النظر في حالات أحقر دابة فوق الأرض، وبين النظر في «شكسبير» أو «ملتون» أو في حقائق الوجود الكوني. ولا يستنكف العلم أن يهتم بدراسة حالات المجرمين والسفاحين النفسية اهتمامه بنظام السيارات وما يحفظ عليها دورتها حول أفلاكها من الجاذبية. ورجل العلم يجب أن يلقي بنظره على كل ما في هذا الكون من الأشياء من غير تفضيل بينها. يجب عليه أن يقدم على دراسة الطبيعة، كما يقول «باكون» بعقل غير مدخول، ونظر غير مفسد بالتقاليد، ليكون على استعداد لأن يتعقب سلسلة الحقائق المتتابعة، مهما كانت وجهتها، ومهما كان من أمر الغاية التي تؤدي إليها.

من هنا نعتقد أنه لا يوجد من حد لتطبيق العلم على حقائق الكون وأسراره. إذ أي طريق يمكننا من الوصول إلى معرفة الحقائق سوى التأمل في ظاهرات الوجود وحقائق الحياة والخروج من ذلك التأمل باستنتاجات منطقية يقبلها العقل، أو استقراءات ترجع إلى صدق المشاهدة والاختبار؟ لا طريق غير هذا. ولكن ذلك لا يمنع أن يكون للعلم حدود، إن لم تتناول نزعته وطريقته، فإنها تتناول وجهة نظره؛ لأن العلم لا يبحث إلَّا في الكيفيات دون الماهيات. والعلم إن أخرج من دائرته بعض مظاهر الحياة، وأهمل النظر في بعض الأشياء المحيطة بالوجود، فإنا لا يجب أن نتغافل مع ذلك عن أن ذلك تحديد للعلم، وأن ذلك ما نقصد من اصطلاح «حدود العلم» متيقنين من أن تلك الحدود لا تنقص من قدر الأشياء التي يخرجها العلم عن دائرة نظره؛ لأن هذه الأشياء قد تكون ذات قيمة كبيرة في الحياة، وإن خرجت عن حدود العلم.

على أن اصطلاح «العلم» Science طالما أبهم أمره على كثير من المفكرين والباحثين في اللغة العربية. ويكفي هنا أن ننبه على أننا لا نقصد بالعلم إلَّا كل ما خرج عن حيز الآداب والفن والفلسفة، بحيث يكون ذا قواعد راهنة لا ينتابها التغير والتبديل.

•••

لم تشرق شمس القرن التاسع عشر حتى برز العلم من ثنايا الفكر الإنساني بمستكشفات راح ذوو العلم يبالغون في قيمتها مبالغة جرتهم إلى القول بأن مغاليق الوجود قد فتحت أمام العقل من طريق العلم، وأن الإنسان لا محالة دالف بقدمه يومًا إلى حدود المعرفة المطلقة التي استغلقت عليه القرون الطوال، وأنه سوف يصل إلى حل رموز الكون وأسرار الوجود في أقرب حين. ساد إذ ذاك الاعتقاد بأن ليس أمام الإنسان من طريق يوصله إلى ذلك سوى الركون إلى الطريقة العلمية يستدر وحيها فتنفحه بما يحل به معضلات الحياة وأسرارها. ولقد ظلت هذه الفكرة ذات أثر بَيِّن في كل ما أخرج الفكر خلال القرن التاسع عشر من منتجات، ولا تزال ذات أثر كبير في عقول بعض الباحثين في هذا العصر، إذ طالما يسمع طلاب الفلسفة ودارسو الدين بأن طريقتهم التي يعكفون عليها في تفسير حقائق الحياة طريقة «غير علمية»، وأن ليس لشيء في العالم من حق في الوصول إلى ذلك المدى القصي من المعرفة سوى العلم.

على أن القرن التاسع عشر لم يشرف على الختام، حتى ودعه العلماء بعدة مستكشفات خطيرة في «الفوسيقة» Physics والكيمياء والتاريخ الطبيعي. غير أن أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري خلال القرن التاسع عشر على معتقدي تيقن أهل العلم بأن للعلم حدًّا يقف عنده. هنالك ترك العلم ادعاءه بحق التفرد بالوجود والتسلط وحده على كفاءات العقل البشري، إذ بان لأهله أن وظيفة العلم تنحصر في «وصف» حقائق الكون؛ لأن العلم يتناول معرفة الظاهرات وآثارها وعلاقة بعضها ببعض، وأن وظيفته بعيدة عن «تفسير» الماهيات.

هنالك نامت عاصفة «العلم»، وانتصرت الطبيعة البشرية على نزعات الوهم السائدة فيها، وهنالك تحددت المعارف الإنسانية بحسب كفاءات العقل الإنساني، فترك للدين سلطانه، وحدد للعلم حيزه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤