الفصل الخامس

نظرة عامة في الرد على الدهريين

إن التحديد والضبط ومطابقة الواقع، هي المعاني الحقيقية التي تنقلها كلمة «طبيعي» إلى الذهن. ولذا نوقن بأن كل شيء راجع إلى فعل الطبيعة محتاج إلى ذات مدبرة مدركة، تؤثر فيه تأثيرًا متداركًا أو خلال فترات متباعدة من الزمان، بحيث تكون الحوادث مطابقة للمعنى الذي ندركه من هذه الكلمة تمامًا. ومن هذه السبيل تؤثر ما بعد الطبيعة أو المعجزات في العالم تأثيرها.

بطلر

***

للسيد جمال الدين الأفغاني في قلوب الشرقيين عامة، وأهل أواسط القارة الأسيوية خاصة، منزلة قل أن يفخر بمثلها عالم من علماء الشرق المحدثين اللهم إلَّا النادر اليسير. وهو فضلًا عن اتساع علمه وبسطة معارفه، فيلسوف نحمل له في أذهاننا أخص ذكريات التبجيل، وفي صدورنا أفضل مظاهر الاحترام.

وضع السيد جمال الدين الأفغاني رسالة قصد بها الرد على الماديين أو الفلسفة المادية اسماها «الرد على الدهريين». وضعها رحمه الله باللغة الفارسية، ونقلها إلى العربية الإمام محمد عبده كبير لاهوتيي مصر في القرن الماضي، مستعينًا على ترجمتها بفاضل من فضلاء الأفغانيين. ومن يقرأ هذه الرسالة ويلم بأطرافها يجد أن فيها من الحجج ودامغ البراهين ما يصح أن يقام سدًّا في وجه الفلسفة الأبيقورية، أكثر مما يصح أن يعتبر نقضًا صريحًا للفلسفة المادية. ذلك لأن الفلسفة الأبيقورية، إن كانت جزءً لا يتجزأ من الفلسفة المادية، بل مذهبًا من مذاهبها التي شاعت وانتشرت في عصر من عصور المدنية اليونانية، إلَّا أن هناك من مذاهب الفلسفة المادية ما قرن بين الحض على التزام القانون الأدبي مصبوبًا في قالب ارتضاه واضعه، وبين الترغيب في إنكار كل شيء غير المادة والحس الذي يدرك به الإنسان ما هو خارج عن حيزه. ففي الرسالة فصول أفضل ما يكون توجيهها إلى الفلسفة الأبيقورية. منها مطلب في ضرر مذاهب النيشريين حتى بعقول مَنْ لا يأخذ بها إذا خالطهم، وآخر في بيان الأمم التي خنعت للذل وضرعت للضيم بعد العزة والشرف بما أفسد فيهم «النيشريون» أو «الدهريون»، وثالث في «السوسياليست»: الاجتماعيون، و«النيهلست»: العدميون، و«الكومونيست»: الاشتراكيون. وقد جمع واضع الرسالة بين هؤلاء وبين الدهريين أو النيشريين، كما يدعوهم أحيانًا، وهو إلى جانب الإسراف أدنى منه إلى جانب التحقيق؛ لأن بين الاجتماعيين مَنْ هم بعيدون كل البعد عن الفكرة الأبيقورية التي يحمل عليها فيلسوفنا في رسالته تلك الحملة، ولأن من الاشتراكيين مَنْ هم أثبت في عقيدتهم بالألوهية من أخص رجال الدين؛ ولأن من الجائز أن يوجد من العدميين مَنْ هم أكثر تدنيًا من طبقات عامة الشعوب.

أما الفرق بين الفلسفة المادية بمعناها المعروف في المباحث الحديثة، وبين الفلسفة الأبيقورية، أن الأولى ينحصر اعتقاد أصحابها في أن المادة كل شيء ولا مرادف لها إلَّا القوة، التي هي والمادة صنوان لا يفترقان، وأن كل الصور الحادثة في الطبيعة بما فيها الإنسان، ليست إلَّا مظاهر لتفاعل المادة والقوة، وأن ليس هنالك من شيء يصح أن يقال أنه آتٍ من وراء الطبيعة. وأما الثانية ففلسفة انتحلها قوم من اليونانيين قاموا بمضادة الأديان، وكانوا من أتباع الفيلسوف «أبيقور» تطرفوا في بعض نظريات فلسفته وأفسدوا الكثير من أوضاعها، حتى بلغ بهم الغلو في ذلك إلى الاعتقاد بأن العالم وجد بالمصادفة، وأن المعبودات لا تقدر أن تعنى بحالات الإنسان، وأنكروا خلود النفس، فجرهم ذلك إلى القول بأن حاجة الإنسان العظمى من السعادة إنما هي التمتع بالملذات، وأن قيمة الفضيلة مقصورة على استخدامها لهذه الغاية وحدها، فساقهم ذلك إلى عيش الرفاهية والخلاعة، وجرهم إلى ارتكاب كبائر الإثم والفواحش.

جاء في تاريخ الفلسفة للعلَّامة «أردمان» ما يلي:

ويعتقد «أبيقور» أن الخير الحقيقي في تحصيل اللذة، وأن كل الفضائل التي يمتحدها المشاءون، أرسطو وأتباعه، ليست بذات قيمة إلَّا من جهة ما تؤدي إليه من الملاذ. وقد يُعَرِّف اللذة تعريفًا سلبيًّا بأنها التحرر من الألم، وأنها قد تأتي من طريق التأمل العقلي، وأن اللذة في الواقع حيازة أكبر قسط ممكن من المتعة التي يسعى الإنسان إلى تحصيلها ولو تحمل في سبيلها ألمًا. ولأن اللذة التي يسعى إليها لا تأتي إلَّا بالتبصر وإعمال الفكر، دعاها اللذة النفسية أو لذة الروح. غير أن الباحث إذا تدبر جميع ما ينطوي تحت عنوان تلك اللذة النفسية، فإنه يشك في أن الأبيقوريين ينزلون من الناموس الأدبي منزلة أمثل في منزلة السيرينيين مع تفضيلهم اللذة الحسية. فإن من معتقدات «أبيقور» أن الفضيلة إنما يتبعها العاقل لا لذاتها، ولكن كوسيلة للذة وأنه إذا خيل للعاقل أن الاستغراق في اللذة البهيمية والإفراط فيها قد ينجيه من الخوف، ويبعده عن متاعب الحياة، فله أن يكب عليها. وأن هذا الإحساس ذاته هو الذي يجعل العاقل يعيش في نظام مدني، أو يخضع لسلطة ملكية، وهو الذي يحمله على احترام القوانين الوضعية.

وقال العلَّامة «أردمان» بعد ذلك:

إن حياة «أبيقور» العملية كانت أرقى من نظرياته في استباحة اللذات. على أن «أبيقور» فضلًا عن استغراقه في المادية، كان حسن السيرة عفيفًا فاضلًا، اتبع من مذهبه الأخلاقي فكرة تحصيل اللذة من طريق الألم فكان مثالًا من الفضيلة يناقض الأمثال التي وضعها أتباعه، حتى أصبحت الفلسفة الأبيقورية قاصرة في مدلولها على ما امتدح إتباعه من مذهبه الأخلاقي، حيث وجدوا في نظرياته من الحرية ما استباحوا به لأنفسهم ما استباحوا.

وأنت أينما قلبت صفحة من صفحات «الرد على الدهريين» رأيت أن فيها من آثار التعصب ضد الفلسفة الأبيقورية أكثر مما ترى من آثاره ضد الفلسفة المادية، تعصبًا مصروفًا إلى جهة من النظر انحصرت في الأضرار التي يحدثها الإكباب على مبادئ الإباحة الأخلاقية من فساد في الجماعات الإنسانية. هذا إذا نظرنا في الرسالة نظرة عامة شاملة، غير مقصورة على طرف خاص من أطرافها.

•••

ولو نظرت في السبب الذي من أجله وضع السيد جمال الدين الأفغاني هذه الرسالة لبانت لك وجهة النظر التي كان ينظر من ناحيتها رحمه الله في مذهب الدهريين أو النيشريين، ولظهر لك جليًّا من عباراته التي تبادلها وبعض الفضلاء في رسائله، أنها حملة مصروفة في غالب أمرها ضد الفلسفة الأبيقورية، باعتبارها فرعًا من الفلسفة المادية، تلحق أضراره المجتمع الإنساني من ناحية ما تبث فيه من الفساد الأخلاقي، وما توحي به من مبادئ الخروج على النظم الاجتماعية والدينية الموضوعة، لأنه كان يعتقد أن الدين والنظام الاجتماعي مرتبطان بوثيقة إلهية لا انفصام لها.

في ١٦ المحرم سنة ١٢٩٨ هجرية أرسل فاضل من فضلاء الفارسيين كتابًا للسيد جمال الدين الأفغاني جاء فيه:

يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر-نيشر» وأنه ليصل إلينا من جميع الأقطار الهندية. فمن الممالك العربية الشمالية، وأَودة، وبنجاب، وبنجالة، والسند، وحيدر أباد الدكن، ولا تخلو بلدة أو قصبة من جماعة يلقبون بهذا اللقب «نيشري». ويظهر لنا أن مَنْ يطلق عليهم هذا اللقب ينمو عددهم على امتداد الزمان خصوصًا بين المسلمين. ولقد سألت أكثر مَنْ لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين؟ وهل من قصد هذه الطائفة بشكلها الجديد عندنا أن تقوم عماد المدنية ولا تعدو هذا المقصد، أم لها مقاصد أخرى. وهل طريقهم تنافي الدين المطلق؟ أو هي تعارضه؟ وأي نسبة بين آثار هذا المشرب وآثار مطلق الدين في عالم المدنية والهيئة الاجتماعية الإنسانية؟ فإن كانت هذه الطريقة من النحل القديمة، فلم لم تنشر بيننا، ولم نعهد لها دعاة إلَّا في هذه الأوقات؟ وإن كانت جديدة فما الغاية من إحداثها؟ وأي أثر يكون عن الأخذ بها.

ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شافٍ كافٍ، ولهذا التمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينقع الغلة ويشفي العلة والسلام.

فرد عليه السيد جمال الدين بخطاب وضع بعده رسالته إشفاءً لغلة سائله: وجاء في ذلك الخطاب ما يلي:

النيشر اسم للطبيعة، وطريقة النيشر، وتلك الطريقة الدهرية، ظهرت ببلاد اليونان في القرن الثالث والرابع قبل ميلاد المسيح. ومقصد أرباب هذه الطريقة محو الأديان، ووضع أساس الإباحة والاشتراك في الأموال والأبضاع بين الناس عامة. وقد كدحوا لإجراء مقصدهم هذا وبالغوا في السعي إليه وتلونوا لذلك في ألوان مختلفة، وتقلبوا في مظاهر متعددة. وكيفما وجدوا في أمة أفسدوا أخلاقها، وعاد عليهم تعبهم بالزوال.

وأيما ذاهب ذهب في غور مقاصد الآخذين بهذه الطريقة، تجلَّى له أن لا نتيجة لمقدماتهم سوى فساد المدنية، وانتقاضِ بناء الهيئة الاجتماعية الإنسانية، إذ لا ريب في أن الدين مطلقًا هو سلك النظام الاجتماعي، ولن يستحكم أساس التمدن بدون الدين بتة. وأول تعليم لهذه الطائفة إعدام الأديان وطرح كل عقد ديني.

وأما عدم شيوع هذه الطريقة وقلة سلاكها مع طول الزمن على نشأتها، فسببه أن نظام الألفة الإنسانية — وهو من آثار الحكمة الإلهية السامية — كانت له الغلبة على أصولها الواهية، وشريعتها الفاسدة، وبهذا السر الإلهي انبعثت نفوس البشر لمحو ما ظهر منها. وفي هذا لم يسبق لهم ثبات قدم، ولم تقم لهم قائمة أمر، ولا في وقت من الأوقات.

ولتفصيل ما ذكرنا نتقدم لإنشاء رسالة قصيرة، أرجو أن تكون مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.

من هذه الأسطر يظهر القارئ الخبير على السبب في وضع هذه الرسالة. يظهر منها على أنها لم توضع إلَّا نقضًا للمذهب القائل بمحو الأديان ووضع أساس الإباحة والاشتراك في الأموال والأبضاع بين الناس عامة. ومن طريق النظر في نقض هذا الرأي، الذي لم يقُم عليه مذهب فلسفي عملي مذ كان للفلسفة في الدنيا وجود، حمل السيد الأفغاني على الماديين، ولو لم يكن في فلسفتهم شيء من تلك الإباحة التي يحدها في رسالته بتلك الحدود، وطعن على مذهب «داروين» وسفه آراءه؛ بل تعدى ذلك إلى الطعن في عقليته لاحتمال أن يكون لمذهبه في «أصل الأنواع» علاقة بالإباحة الاجتماعية التي يكرهها الدين، ويمقتها الله، متخذًا من أقاصيص بعض الرواة قصصًا رووها عن هذا العلَّامة لا تجد لها من أثر في مذهبه أو كتبه التي خطتها براعته. فمن ذلك مثلًا تلك الخرافة التي ينسبونها إلى «داروين» إذ يقولون بأنه كان على اعتقاد في أن الإنسان كان قردًا ثم ارتقى من بعد ذلك. في حين أنه لم يقل بشيء من هذا، بل قال بما يؤيده فيه الآن مجموع علماء الأرض من أن الإنسان لم يكن على صورته هذه منذ بدء الخليقة، وأنه تسلسل في أحدث العصور الجيولوجية مرتقيًا عن صورة أحط من صورته التي نراه عليها في هذا الزمان، وأن الراجح أن تكون أرقى صور البريمات أقرب صور العضويات الحية الموجودة الآن لتلك الصورة التي تسلسل عنها الإنسان.

غير أننا لا نستطرد الآن إلى نقد هذه الرسالة قبل حصر نقطها إحقاقًا لتاريخ العلم والمذاهب الفلسفية التي تناثرت أشلاؤها بين أسطرها، تناثرًا فكك عراها وخلط بين أصولها، وإظهارًا لحقيقة الماديين على ما عرفهم تاريخ الفلسفة والعلم، لا على ما صورهم به السيد الأفغاني في «رسالة الدهريين». وإن كان في كتاب السيد الأفغاني لذلك الصديق من كلمة يقف عندها الباحث متريثًا فهي قوله: «عسى أن تكون — أي «رسالة الدهريين» — مقبولة عند العقل الغريزي.» وذلك حق. فإن السيد الأفغاني إنما كان يناجي المشاعر في رسالته، ولا يخاطب العقل.

•••

تنقسم رسالة «الرد على الدهريين» قسمين كبيرين: القسم الأول «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم.» وعلى هذا القسم وحده ينحصر ردنا، وما أردنا أن نبلغ من نقد لتلك الرسالة، والقسم الثاني في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان. وذلك ما لا شأن لنا بالكلام فيه.

لهذا رأينا أن نحصر نقط القسم الأول من تلك الرسالة حتى يحيط القارئ بمجمل ما فيه، ويدرك شيئًا من التهوش والفوضى اللتين سادتا بين سطوره، لا من حيث التدليل وإقامة الحجة، ولكن من حيث الخلط بين مذاهب الفلسفة والاجتماع، وإجمال القول بأن كل رأي في الفلسفة المادية مؤدٍ بطبيعته إلى الإباحة واشتراك الناس في الأموال والأبضاع وتحطيم الأديان، حتى إن بحث العلَّامة «داروين» في أصل الأنواع على بعده عند تلكم الطريقة، لم يسلم في رسالة الرد على الدهريين من أن يناله أكبر الأذى، بل إن كل واقف على حقيقة ما قضى به «داروين» في نظرية أصل الأنواع، ليدرك لأول وهلة أن كاتب الرسالة لم يُحِطْ بطرف واحد من أطراف المذهب، فضلًا عن تاريخه ونشوئه وأصل الفكرة فيه، ونحن نحصر فقط تلك الرسالة نقلًا عن الطبعة الرابعة عام ١٣٣٣ هجرية بمصر.

•••

قال المؤلف:

ثم اختلف هؤلاء الماديون بعد اعتماد أصلهم هذا في تكوين الكواكب وتصوير الحيوانات وإنشاء النباتات. فذهب فريق منهم إلى أن وجود الكائنات العلوية والسفلية، ونشأة المواليد على ما نرى إنما هو من الاتفاق وأحكام الصدفة. وعلى ذلك إتقان بنائها وإحكام نظامها، لا منشأ له إلا الصدفة. فكأنما أدت بهم سخافة الفهم إلى تجويز الترجيح بلا مرجح. وقد أحالته بديهة العقل (ص٢١ و٢٢).

•••

وذهب فريق آخر إلى أن الأجرام السماوية والكرة الأرضية كانت على هيئتها هذه من أزل الآزال ولا تزال ولا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات. وزعموا أن في كل بزرة نباتًا مندمجًا فيها، وفي كل نبات بزرة كامنة، ثم في هذه البزرة الكامنة نبات وفيه بزرة، إلى غير نهاية. وعلى هذا زعموا أن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانًا تام التركيب، وفي كل حيوان كامن في الجرثومة جرثومة أخرى. يذهب ذلك إلى غير النهاية. وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه. وهو من المحالات الأولية (ص٢٢).

•••

وزعم فريق ثالث أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية وهيئاتها قديمة بالشخص. ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية والبذور النباتية قديم، وإنما كل جرثومة وبزرة هي بمثابة قالب يتكون فيه ما يشاكله من جرثومة وبزرة أخرى.

وفاتهم ملاحظة أن كثيرًا من الحيوانات الناقصة الخلقة قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة. وكذلك الحيوان التام الخلقة قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها (ص٢٢).

•••

ومال جماعة منهم إلى الإبهام في البيان. فقالوا: إن أنواع النباتات والحيوانات تقلبت في أطوار وتبدلت عليها صور مختلفة بمرور الزمان وكرور الدهور، حتى وصلت إلى هيئاتها وصورها المشهودة لنا. وأول النازعين إلى هذا الرأي «أبيقور» أحد أتباع «ديوجنيس الكلبي» ومن مزاعمه أن الإنسان في بعض أطواره كان مثل الخنزير مستور البشرة بالشعر الكثيف، ثم لم يزل يتنقل من طور إلى طور حتى وصل بالتدريج إلى ما نراه من الصورة الحسنة والخلق القويم ولم يقم دليلًا ولم يستند على برهان فيما يزعم من أن مرور الزمان علة لتبدل الصور وترقي الأنواع (ص٢٣).

•••

ولما كشفت علوم الجيولوجيا «طبقات الأرض» عن بطلان القول بقِدَم الأنواع، رجع المتأخرون من الماديين عنه إلى القول بالحدوث، ثم اختلفوا في بحثين:
  • الأول: بحث تكون الجراثيم النباتية والحيوانية.
    • (١) فذهب جماعة إلى أن جميع الجراثيم على اختلاف أنواعها تكونت عندما أخذ التهاب الأرض في التناقص، ثم انقطع التكون بانقضاء ذلك الدور الأرضي.
    • (٢) وذهبت أخرى إلى أن الجراثيم لم تزل تتكون حتى اليوم خصوصًا في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة.

    وعجزت كلتا الطائفتين عن بيان السبب لحياة الجراثيم حياة نباتية أو حيوانية، خصوصًا بعد ما تبين لهم أن الحياة «فاعل» في بسائط الجراثيم، موجب لالتئامها حافظ لكونها، وأن قوتها الغاذية هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيًّا بالتغذية. فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها، ثم صارت إلى الانحلال.

    وظن قوم منهم أن تلك الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن كرة الشمس. وهو ظن عجيب لا ينطبق على أصلهم من أن الأرض عند الانفصال كانت جذوة نار ملتهبة. وكيف لم تحترق تلك الجراثيم ولم تمح صورها في تلك النيران المستعرة.

  • والثاني: من موضع اختلافهم صعود تلك الجراثيم من حضيض نقصها إلى ذروة كمالها، وتحولها من حالة الخداج «النقص» إلى ما نراه من الصور المتقنة والهيئات المحكمة والبنى الكاملة. فمنهم قائل أن لكل نوع جرثومة خاصة ولكل جرثومة طبيعة تميل بها إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية وتجتذب إليها ما يلائمها من الأجزاء الغير الحية فيصير جزء لها بالتغذية ثم تجلوه بلباس نوعه. وقد غفلوا عما أثبته التحليل الكيماوي من عدم التفاوت بين نطفة الإنسان ونطفة الثور والحمار مثلًا، وظهور تماثل النطفة في العناصر البسيطة في منشأ التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها. ومنهم ذاهب إلى أن جراثيم الأنواع كافة خصوصًا الحيوانية، متماثلة في الجوهر متساوية في الحقيقة. وليس بين الأنواع تخالف جوهري، ولا انفصال ذاتي، ومن هنا ذهب صاحب هذا القول إلى جواز انتقال الجرثومة الواحدة من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى، بمقتضى الزمان والمكان، وحكم الحاجة والضرورات، وقضاء لسلطان القواسر الخارجية (ص٢٣، ٢٤).

ورأس القائلين بهذا القول «داروين» وقد أَلَّف كتابًا في بيان أن الإنسان كان قردًا، ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية حتى ارتقى إلى برزخ «أوران أوتان»، ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان فكان صنف اليميم وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين فكان الإنسان القوقاسي (ص٢٤، ٢٥).

•••

وعلى زعم «داروين» هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك (ص٢٦).

فإذا سئل «داروين» عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنًا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته وشكله وأوراقه وأصوله وقصره وضخامته ورقته وزهره وثمره وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء، أظن أن لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.

•••

فإذا قيل له هذه أسماك بحيرة «أورال» وبحر «كسبين» مع تشاركها في المأكل والمشرب وتسابقها في ميدان واحد. نرى فيها اختلافًا نوعيًّا وتباينًا بعيدًا في الألوان والأشكال والأعمال. فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر.

وهكذا لو عرضت عليك الحيوانات المختلفة البنى والصور والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة ولا تسلم حياتها في سائر المناطق، والحشرات المتباينة في الخلقة المتباعدة في التركيب المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها بقطع المسافات البعيدة لتجلو إلى تربة تخالف تربتها، فماذا تكون حجته في علة اختلافها؟

بل إذا قيل له: أي هادٍ هدى تلك الجراثيم في نقصتها وخداجها، وأي مرشد أرشدها على مقتضى الحكمة وإيداع كل منها قوة حسية، ونوطها بكل قوة في عضو إزاء وظيفة وإيفاء عمل حيوي مما عجز الحكماء عن درك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء معلمًا لتلك الجراثيم وهاديًا خبيرًا لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ لا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ وينتكس بين أمواج الحيرة يدفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين١ (ص٢٦).

•••

وكأني بهذا المسكين «داروين» وما رماه في مجاهيل الأوهام ومَهَامِهِ الخرافات إلا قرب المشابهة بين القرد والإنسان. وكأن ما أخذ به من الشبه الواهية ألهية يشغل بها نفسه عن آلام الحيرة وحسرات العماية.

إلى أن قال: «ومن واهياته ما كان يرويه «داروين» من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم فلما واظبوا على عملهم هذا قرونًا صارت الكلاب تولد بلا أذناب. كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته. وهل صمت هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب وما يجرون من الختان آلافًا من السنين، لا يولد مولود حتى يُخْتَنَ. وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختونًا إلا لإعجاز»٢ (ص٢٦، ٢٧).

ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم نبذوا آراءهم وأخذوا طريقًا جديدة.

فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية عن الشعور مصدرًا لهذا النظام المتقن والهيئات البديعة والأشكال العجيبة والصور الأنيقة وغير ذلك مما خفي وظهر أثره. ولكن العلة في نظام الكون علويه وسفليه، والموجب لاختلاف الصور والمقدر لأشكالها وأطوارها وما يلزم لبقائها تتركب من ثلاثة أشياء «متيير» و«فورس» و«إنتيليجانس»؛ «أي مادة وقوة وإدراك» ص٢٧.

من هذه الصفحات القليلة يستطيع الباحث الخبير أن يستخلص فكرة عامة من المبدأ الذي من أجله وضعت هذه الرسالة، مبدأ الإباحة واشتراك الناس في الأموال والأبضاع. ومن هذه الأسطر نستطيع أن نكون فكرة نستطرد بعدها في نقد هذه الرسالة وتفصيل ما أبهم كاتبها إحقاقًا لتاريخ المذاهب الفلسفية وتمحيصًا للمكانة التي يشغلها القائلون بالمادة من القائلين بالإباحة، لا على ما صورها السيد الأفغاني، بل على حقيقتها التي يعرفها تاريخ تطور الفكر الإنساني.

قانون الدرجات الثلاث

إن كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري في عالم الطبيعة الكونية، فإن قانون «الدرجات الثلاث» الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير «أوغست كونت» لأكبر استكشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية.

إننا إذا أردنا أن نكون في العقل كفاءة خاصة نقتدر بها على إدراك ما «للفلسفة اليقينية» Positivism من الخطر العظيم، فإنا لا محالة نعجز عن ذلك العجز كله، ما لم تتناول العقل البشري ببحث نفصح به عن خطى التدرج الارتقائي التي تمشي فيها العقل خلال الأزمان، باعتبار أن للإنسانية عقلًا عامًّا يضبط خطاها. ومما لا ريبة فيه أنه ما من شيء نستطيع أن نبلغ منه بفهم أو علم صحيح، إلَّا من طريق النظر في تاريخ تطوره ونشوئه.

إن دراسة الإدراك الإنساني من كل ناحياته، وخلال كل الأزمان، لتدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نستبينه من حقائق النظام الاجتماعي والتجاريب التاريخية الثابتة.

إن كل فكراتنا الأولية، ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بُدَّ من أن يمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة. الأولى: الحالة اللاهوتية أو التصورية التخيلية. والثانية: الميتافيزيقية الغيبية أو المجردة. والثالثة: اليقينية الواقعة. هذا هو قانون الدرجات الثلاث. ويمكننا أن نحصر القول في هذا القانون بأن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاث طرق للتأمل من حقائق الأشياء. وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنها تتضاد تمام التضاد. من هنا ينتج ثلاثة ضروب من الفلسفة، أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير في اكتناه حقيقة الظاهرات، كل منها تنافر الأخرى. أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق والبحث عن مصادرها. وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة. وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية بين الأسلوبين.

أما العقل في الدرجة اللاهوتية فإنه يبحث في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة. يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في «المعرفة المطلقة» وهنالك يفرض أو يسلم بأن كل الظاهرات ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات مما وراء الطبيعة.

أما في الدرجة الثانية؛ أي في الحالة الميتافيزيقية أو الغيبية، وهي ليست إلَّا صورة محورة عن الدرجة الأولى، فإن العقل يتبدل من فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود، في مستطاعها استحداث مختلف الظاهرات. وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظاهرات إلَّا عبارة عن نسبة كل منها إلى مصدرها الأول.

أما في الدرجة الأخيرة، وهي الدرجة اليقينية، فإن العقل يكون قد أطرح طريقة البحث الضائع وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظاهرات، وألقى بجهوده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها، أي صلاتها المتشابكة وتلاحقها، ومشابهاتها. هنالك يتحد العقل والمشاهدة، ليكونا أساس المعرفة. فإذا ما تكلمنا في تلك الحال في تفسير حقائق الكون، فلا تخرج عن إيجاد صلة بين ظاهرة ما من الظاهرات، وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجًا بحسب تقدم العلم اليقيني.

ندرك مما سبق أن العقل الإنساني قد تقلب في أدوار وتشكل في حالات عديدة على مر العصور التي بدأ يرسل فيها أشعته الفياضة من ثنايا الطبيعة. مضى على العقل الإنساني العصر اللاهوتي وتبعه العصر الميتافيزيقي ومن ثم أسلم به التطور إلى العصر اليقيني. وبين كل عصر من هذه العصور، وكل حالة من تلك الحالات التي تقلب فيها العقل درجات نشوئية دقيقة عفت آثارها خلال القرون، فلم نتمكن من اكتناهها؛ لأن شأنها في الزوال شأن التغايرات غير المحسة التي تلحق الأفراد في تطورها النوعي، قد تمضي في التدرج في خطى ضئيلة لا تلبث أن تستجمع في الصور العضوية من الآثار ما يدركه النظر ويحده البحث، فلا تعرف منها إلَّا النتائج العامة، دون الخطى الجزئية التي كانت سببًا في إحداث تلك الآثار الكلية.

مضى على الإنسان العصر اللاهوتي، فكان راسخ العقيدة في صحة كل ما توحي به إليه مخيلته من الأسباب التي يعزو إليها الظاهرات الطبيعية التي أحاطت به في العصور الأولى على ما كان عليه من جهل بأسبابها. فكان اعتقاده مرتكزًا على الاحتمال، بل غالب ما ارتكز على التقليد، أكثر من ارتكازه على الاقتناع المنصرف إلى الاستنتاج والموازنة بين مجموعة من الحقائق يستوردها الفكر ويحكم فيها العقل. ثم انتقل الإنسان إلى العصر الميتافيزيقي — الغيبي — الذي بدأ الإنسان فيه حياته العلمية ووضع فيه بزرة المبادئ الفلسفية، فأخذ يعزو الظاهرات التي تحوطه إلى أسباب بدأ يتلمسها. ومن ثم بزغ في الفكر الإنساني شعاع الشك، فأخذ الشك في تلك الأسباب التي سلم بها آباؤه، وأخذ الشك يملأ نواحي العقل، فلم يلبث أن نزع إلى النقد التحليلي متعمدًا الاستقراء والاستدلال، نابذًا التسليم للظاهر دون التعمق في البحث ومقارنة الأسباب ومعرفة الروابط التي تربط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب. إذن فعصر النقد المبني على الشك، الذي أسلم بالإنسان إلى العصر اليقيني، هو آخر نتاج لقوى التطور في القوة العاقلة في الإنسان.

واختلاف الفكرة العلمية بين شعوب الأرض راجع إلى ما بلغ كل منها من هذه الأدوار النشوئية من حيث النضج العقلي. ففي الأرض قبائل مستوحشة لا تزال مستغرقة في الدور الأول من النشوء الفكري، فهي لا تزال في العصر اللاهوتي والاعتقاد بما تتوفر لديها عليه أسباب الاحتمال. فهي تعزو الظاهرات الطبيعية إلى أسباب خفية كأرواح الآباء والأجداد، أو الشياطين أو الجن، ولا تزال مستغرقة في بحبوحة الاعتقاد بالسحر وتأثير الأسباب المفتعلة في الأجسام الحية أو الكائنات الطبيعية. ولا يزال في نواحي الأرض أمم تعزو هياج العناصر الطبيعية إلى غضب الآلهة الموكلة بها. وفي العالم أمم بلغت دور الشك ونزعت إلى النقد، وهنالك غيرها لا تزال في دور انتقالي بين العصر اللاهوتي والعصر اليقيني. وإلى هذا يرجع السبب في اختلاف الأمم من حيث القدرة على التفكير والوضع العلمي.

وكما أنك تجد في الطبيعة أن أنواعًا قد انتابها الفساد واستعصى عليها التغاير بعد أن مضت دهورًا متطاولة ممعنة في النشوء والارتقاء، كذلك تجد أن بعض الأمم قد وقفت عند حد ما من الرقي الفكري والتطور العقلي. فمنها ما وصل به التدرج إلى العصر الميتافيزيقي ثم تعطلت صفات الارتقاء فيه. أما الأسباب التي تقف ببعض الأمم عند حد محدود من الرقي الفكري فغامضة، وهي تبلغ من الغموض مبلغ الأسباب التي تصد الأنواع عن الرقي الوصفي. كلاهما ضارب في أصول الاستغلاق بقسط وافر.

أما المدنيات الفطرية برمتها والأمم التي توارثت هذه المدنيات إلى القرن السادس قبل الميلاد فوقفت عند العصر اللاهوتي لم تتخط حدوده على الأرجح. ولا نقصد بهذا إلَّا أن الصفة اللاهوتية كانت سائدة على العقول حتى ذلك الزمان. وأما المدنيات القديمة، وهي المدنيات التي انتهت بالمدنيات الثلاث العظمى، مدنية اليونان، ومدنية الرومان، ومدنية العرب، فبدأت شوطها الفكري بالعصر اللاهوتي منتهية بالعصر الميتافيزيقي. وقد انتهى ذلك العصر بالنهضة العلمية في أوروبا بعد فتح القسطنطينية. وما نقصد بذلك إلَّا أن الصفة الميتافيزيقية كانت غالبة على العقل البشري خلال تلك الأزمان. أما عصر النقد العلمي أو العصر اليقيني، فمقصور على ثلاثة القرون الفارطة، السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. أمَّا القرنان السادس عشر والخامس عشر، فعصر انتقالي بين دوري الغيبيات والنقد العلمي — اليقيني — تجمعت فيه أسباب متناقضة وحالات متنافرة من تعصب للرأي إلى تطوح مع الشك، حتى استقر في آخر الحالات التي تقلب فيها على صورة برزت من ثنايا تلك المدنيات المتهدمة البائدة بمدنية قوامها النقد العلمي الصرف والنظر اليقيني البحت.

ونحن أبناء الضاد قد وقف بنا الشوط عند العصر الميتافيزيقي، ولم تستقو ملكاتنا في العصور الخالية على تخطي ذلك الحد بل إن قوة الشك التي ورثناها كادت تزول بالإغفال، بل كاد يقضي على هذه الملكة الموروثة بمؤثرات الاستيحاش من حرية الرأي وعدم الشجاعة على إبدائه، وهي أسباب ترجع إلى أشكال الحكم الاستبدادي التي توالت على أبناء الشرق تحت تأثير أمرائهم طورًا، وبفعل الغزو الأجنبي طورًا آخر، أكثر من رجوعها إلى صفات يقال إنها فطرية في الشرقيين. وما هي إلَّا حركة بسيطة تنبه من ملكاتنا الكامنة، فتؤدي بنا حتمًا إلى دور النقد فنماشي العصر الذي نعيش فيه، وتتحرر ملكاتنا من تقاليد القرون الوسطى. ولا مشاحة في أننا قد أخذنا نجتاز هذه السبيل. إلَّا أن الأسباب الصحيحة التي يجب أن تحرك تلك الملكات الكامنة لم تستكمل بعد. ومعرفة تلك الأسباب والسبيل التي يجب أن تنصرف فيها لتهيئة الملكات الكامنة للظهور يجب أن تكون هم المصلحين من أبناء الشرق، وعندي أن تعويد الفكر على الحرية والشجاعة على إبداء الرأي، هما السببان الأولان والفضيلتان اللتان سوف تقودانا، إذا ما ارتكزتا في أنفسنا على قرار مكين، إلى أبعد حد تصبو إليه النفوس الخيرة من الرقي العلمي والمدني معًا.

صح عند الطبيعيين أن الأنواع إذا غزيت مآهلها ونازعها سلطانها وغلبتها أنواع أخر أكثر منها كفاءة وأتم استعدادًا فرض عليها أن تمضي متغايرة في أوصافها متهذبة في عاداتها حتى يتم التعادل بينها وبين غزاة أرضها كمًّا وكيفًا، وإلَّا انتابها الانقراض ومضى بها الزوال. وها نحن أولاء أهل العربية من الشرقيين يغزونا كل يوم أصحاب النقد والتحليل العلمي بما أوسع لهم النقد والاستدلال من ضروب الكفاءات، وما أثبت في ملكاتهم العلم اليقيني من صنوف القدرة على الإنتاج العقلي والمادي، لم نلبث إلَّا قليلًا حتى بان لنا مقدار الفرق بين حالنا وحالهم، ليس بالنظر إلى كفاءة بضعة أفراد منا وبضعة أفراد منهم، بل بمقدار الفرق بين مجموعنا ومجموعهم. فإذا لم تسارع خطواتنا بالخروج من حيز الغيب والتخيل إلى تحدي طريق النقد والتحليل، لنوازن بين كفاءتنا وكفاءتهم، ونسوي بين ملكاتنا وملكاتهم، لنأمن بذلك شر الفساد والانحلال العقلي والعلمي، كان نصيبنا نصيب الأنواع غزيت مآهلها واستعصي عليها التهذيب والارتقاء، بل يجب أن ننبه في فطرتنا ما كمن فيها من آثار التوثب إلى العلم والعمل فنجتاز عصر النظر الغيبي الذي خلفنا فيه آباؤنا، ونتخطى إلى عصر النقد والتحليل، فنكون قد ماشينا روح العصر الذي نعيش فيه، واتبعنا خطى التدرج الطبيعي الذي سيقت فيه العقول سوقًا لا طفرة فيه، وأمنا بذلك شر الانقراض من عالم الفكر الإنساني كشعوب ذوات صفات ومشاعر خاصة وملكات معينة، أقل ما فيها من قوة وحياة أننا بلغنا بها في العصور الوسطى حدًّا من التطور الفكري أسلم بأهل الغرب من أصحاب النقد التحليلي في هذا الزمان إلى تلك المنزلة التي يجب علينا أن نعمل على اجتياز عقباتها بما وهبتنا الطبية من الذكاء نقويه بشيء من الثبات والصبر على مكاره التفكير والبحث، وما خصتنا به طبيعة بلادنا من قوة التخيل نزكيها بشيء من النظر التحليلي لنبلغ من الوضع العلمي منزلة النقد الصحيح، فننفض عنا غبار الأوهام لنستعيض عنها بأشعة النقد في عصر هو آخر ما نقلب فيه الفكر الإنساني من رقي علمي قوامه النقد وسنادته المقارنة والاستقراء، لا النقل تحيط به الريب، والتقليد يكتنفه الشك، كما كان شأن العرب في آخر عصور مدنيتهم.

مدى الفكر العربي

والسيد جمال الدين الأفغاني وريث العرب في علومهم وفلسفتهم. وقف من الرقي الفكري حيث وقفوا. وقف عند النظر الميتافيزيقي الغيبي. فكان فيما دبج من أسطر «الرد على الدهريين» مثالًا لما اختلط من مباحث آبائه، ولما تناثر خلال كتبهم من مختلف الأبحاث وما تضمنت مجلداتهم من متنافر الوضع الذي اتصفت به تواليفهم. والعصر الميتافيزيقي — الغيبي — الذي انتهوا عنده أجدر العصور بإبراز أمثال ما أبرزوا من كتب اختلط فيها العلم بالفن، على أن يخرج من مجموعها فلسفة، هي عنوان على ما بلغ الفكر من تهوش واختلاط في آخر عصور التخيل التي تقلب فيها الفكر الإنساني.

وإنا إن نقدنا اليوم رسالة «الرد على الدهريين» فإنما ننقد معها أسلوبًا للتفكير ذاع في عصره، نعتبره من العصور البائدة في مصر. عصر عدمت فيه مؤلفات اللغة العربية خاصة، ومؤلفات أكثر لغات الشرق عامة، نعمة التحقيق، وانصرف فيه المؤلفون عن البحث والتعمق في التدقيق، بل إنهم لم يتجشموا مؤنة الوقوف على حقيقة تلك الجلبة التي كان صداها يملأ أجواء أوروبا، فظلت روح التأليف واقفة عند الحد الذي تركه العرب منذ القرن الثالث عشر الميلادي. وتلك روح اقتصرت على التقليد ووضع التواليف على صورة ألفها أهل القرون الوسطى، فلم يتجل فيها شيء من النقد العلمي الصحيح، ولم تخص بشيء من التعمق في صميم الأبحاث الفلسفية. تلك تواليف الواثقين بِمَنْ لا يوثق بعلمه، المكتفين بأخذ الأسانيد من أفواه مَنْ يتلقفونها من الناقلين، الذين كثيرًا ما يعرض لنقلهم مواضع من التشابه واللبس، ونزعات من التعصب الفكري، ضد مسائل من العلم، لو أنهم جدوا على تفهمها وتحملوا شيئًا من الجلد على تعرف حقائقها، لكانوا أقرب إلى الهدى، وأدنى إلى إصلاح ما أفسدت في الشرق يد التفريط في تراث الآباء العلمي، الذي هدم الإغفال من كيانه ما هدم، وقوض الإهمال من أركانه ما قوض. وأقرب مثال على ذلك ما يدعي السيد الأفغاني أنه من نظريات «داروين» إذ يقول بأن مذهب هذا العلَّامة في أصل الأنواع يفضي بالبرغوث لأن يصبح فيلًا بمر القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا. وهذه الأسطورة التي تبادر إلى ذهن هذا المؤلف أنها من مقومات مذهب «داروين» في أصل الأنواع، لم تكن إلَّا خرافة نقلها بعض مَنْ لا يوثق بعلمه وتلقفها السيد الأفغاني من أفواه الناس ومن الصحف الإخبارية، فراح يقوض بها من مذهب «داروين» بما شاء له وهمه. ولا جرم أن «داروين» إن قال بهذا لكانت دور المشعوذين أجدر به من مقاعد المجمع العلمي البريطاني.

وليس لدينا من مثال يدل على ما بلغ التعسف في قلب الحقائق التاريخية مما ذكره السيد الأفغاني من أن «أبيقور» أحد أتباع «ديوجينيس» الكلبي. فإن «ديوجينيس» من المدرسة الكلبية Cynics و«أبيقور» مجدد، وهو واضع الفلسفة الأبيقورية والفرق بين تعاليم المدرسين غير خاف على أحد من صغار المشتغلين بتاريخ المذاهب الفلسفية في هذا العصر. قال العلَّامة «إردمان» في كتابه تاريخ الفلسفة ص١٨٢ مجلد أول:
إن «أبيقور» إن كان يفخر دائمًا بأنه علم نفسه بنفسه، فإنه مدين بالأكثر لزنيوقراط Xenoerates وأرسطو طاليس، وإلى دراسة الفلسفة السيرينية وفلسفة «ديمقريطس». والفلسفة السيرينية هي التي وضعها الفيلسوف «أرستيب» Aristippus الذي علم بين عامي ٤٠٠ و٣٦٦ق.م. وهي فلسفة قوامها اللذة الحسية.

تلك أمثال من التناقض والخلط البين نمسك عن الإفاضة في بيان الكثير من أمثالها مما تضمنته رسالة «الرد على الدهريين» مستبقين ذلك إلى حينه وموضعه من النقد. غير أننا إن أتينا على هذه الأمثال في هذا الموطن فذلك لنثبت أن شاكلة البحث في القرون الوسطى، بما كان فيها من النزعة إلى التفريط في وزن الحقائق، والإفراط في الثقة بالنقل، قد ورثها مؤلفو الشرق حتى عهد قريب، و«رسالة الدهريين» خير دليل على ذلك في عصرنا هذا.

ونريد الآن أن نثبت الفرق بين تقليد العرب ونقد الغرب، لنقارن فيما بعد بين رسالة الدهريين وبين الحقائق العلمية والوقائع التاريخية الصحيحة التي أفسدتها تلك الرسالة كل فساد وسطت على صورتها الحقة، فشوهتها، بل ألبستها ثوبًا سقيمًا من الخيال الشعري، بدل أن تزينها بشيء من التحقيق العلمي التي هي جديرة به.

الفكر قوة تشييدية

يسع الفكر الإنساني كل شيء. يسع الحقيقة والخيال. وفيه القدرة على إدراك المجردات، كما أن في مستطاعه أن يتناول المرئيات بالتحليل والتجربة. فيه الشعر والموسيقى. وفيه الفلسفة والتاريخ. فيه الكون برمته. وهو بحق العالم الأصغر كما يقولون.

ونحن إن أردنا أن نظهر الفرق بين تقليد العرب ونقد الغرب، فلا بدَّ من أن نتناول ذلك العالم الداخلي، عالم الفكر، بشيء من النظر التحليلي، لنعرف مقدار ما يؤثر الفكر في مقومات المدنية. فإن الراجح أن لا يكون لتغير طرق البحث العلمي أو النظر الفلسفي والتاريخي باعث أكثر في ترقي الفكرة المدنية التي تختمر في رءوس الأفراد، أو في رءوس أكبر مجموع من جماعة إنسانية، لا تلبث أن تظهر حتى تفيض على العالم بنواتج من العلم أو ثمرات من الفلسفة حديثة، لم يألفها تاريخ التطور الفكري، إذا ما تهيأت محركات الفكر وبواعث الارتقاء في عقلية الجماعات.

لا نقصد بذلك أن العصور الانتقالية التي تطور فيها الفكر قد ظهرت فجاءة. ذلك لأن الطفرة محال حتى في عالم الفكر.

إنك إذا نظرت في تطور الفلسفة، ربيبة الفكر الإنساني منذ أبعد العصور، لوجدت أن العصور الانتقالية التي نعثر بها إذا ما أزمعنا سفرًا طويلًا نقضيه في التأمل من تاريخ الفلسفة، لم تتقدمها حركات فكرية عنيفة تسوق إليها. بل إن الثورات القلمية، ومشاحنات الجدل والكلام، لم تظهر إلَّا نتاجًا للدفاع عن فكرة أو مبدأ، يأخذ الصبغة المذهبية غالبًا، وتكون اختمرت مقدماته في جو هادئ وعصر فتور، ينفجر بعده بركان الفكر المتجمع على مدى الزمان نتيجة لاختمار المذاهب والأفكار في عقول الجماعات. فالأسباب تتجمع في هدوء الزمان، وباتصال حركة الفكر في العالم، والمسببات تظهر عادة عند بلوغ حد خاص من الاختمار الفكري، يثور في حوله غبار الجدل، وتقوم قيامة الكلام.

وكأن للفكر الإنساني عين خفية تنقل إليه وتطبع في صفحته الجذابة الحساسة صور الحركات العالمية التي تحيط به من طريق لا شعوري. فإن الإنسان إذ ينظر في كل تغير يحدث في الطبيعة، أو تبديل يقع في عالم الحياة الإنسانية، كالثورات الفكرية أو السياسية، أو الحروب أو إغارة بعض الأمم على بعض، أو انتقاض مذهب من المذاهب الفلسفية أو العلمية، يجد نفسه مسوقًا إلى التساؤل أي أثر أحدث ذلك التغير في عالم الفكر؟ وأية فائدة أو ضرر، أو تقدم أو انحطاط قد أحدث في عقول الناس أو في الجلبة المدنية القائمة في حوله؟ وهل ضاعف من معلوماتنا؟ وهل زاد إلى مجموعة أفكارنا وآرائنا؟ وهل زادنا بعدًا في النظر وإمعانًا في التغلغل إلى صميم الحقائق؟ وهل أوسع من حياتنا الداخلية، حياة الفكر، فجعلها أكثر امتلاء وأقل فراغًا؟

أما إذا تدبرنا ضروب التغير وأثرها واقعًا في عالم الأعمال العامة ناظرين فيها من جهة أسبابها ونتائجها، وما ساق إليها من العلل، فإننا نتساءل: ماذا كان أثر الفكر، عالم الحياة الداخلي، أو العالم الأصغر، في إحداث ذلك التغير؟

يلاحظ الفكر الفردي تمشي الفكر العام في تنقل خطاه وتدرجاته ليستجمع في فرديته وانقطاعه أسبابًا يحدث بها حركة ارتقائية أخرى، إذا ما تقشعت غيامة ثورة تقدمتها وانتفعت منها الإنسانية بقسط من المتعة العقلية أو المادية. وهكذا تتجمع الأسباب في رءوس الأفراد، حتى إذا اختمرت تناثرت في انفجارها، فعمت نتائجها عالم الفكر العام.

وليس للفكر حدود يحد بها. بل لا تعريف له. وحسبنا أن نقول فيه أنه مبدأ اللانهاية الكامن في النفس الإنسانية، يصدر عنه في الآثار ما لا نهاية له.

إن وضع تعريف للفكر قد يحوطنا بكثير من أسباب التناقض، وغالب ما يفضي بنا إلى الخلط والفوضى. وإني أعتمد في ذلك على ما تؤدي كلمة «الفكر» ذاتها من المعنى عامة غير محدودة بتعريف، على اعتبار أنها تنقل إلى كل كائن مفكر معنى ذاتيًّا يدركه منها. معنى يؤهل به إلى فهم مغزاه أو يسوق به إلى الاعتقاد بوجود عالم خفي يقع وراء عالم الحوادث والحقائق البارزة، أو يقوده إلى التيقن من أن لذلك العالم الخفي طبيعة دائمة التغير مستمرة الحركة، أو يدفع به إلى الإيمان بأن هنالك علاقة وصلة بين هذين العالمين، عالم الفكر، وعالم الحقائق البارزة، وإن كلاهما يحدث في نظيره أثرًا هو نتيجة رَدِّ فعل أحدهما في الآخر.

والعالم الأصغر، عالم الفكر، سواء أكان من ناحية الوجود الزماني، أم من ناحية الخطورة والشأن، هو المتقدم على العالم الآخر، وسواء أكان ما ننسب من المكانة والمنزلة في عالم الفكر لحيز الاستدلال والاستنتاج، على ما فيه من الجلاء والوضوح، مساويًا أو غير مساوٍ لما ننسبه إلى حيز الإحساس والتصور مشفوعًا بحيز الانفعالات غير المدركة، على ما فيه من الغموض والإبهام، فعامتها مسائل ليس من الضروري أن نجيب عليها في موقفنا هذا. ويكفينا في ذلك أن نشير إلى وجود عالمي الحياة والفكر، لنعرف بذلك أننا لا نعني بعالم الفكر تلك الآراء ذوات التعاريف المحدودة الجلية المنظومة في سلسلة ما فحسب؛ بل نشفعها بعالم الرغبات والمشاعر والانفعالات والإحساس والتصور، تلك التي تؤثر في حياتنا الداخلية، حياة النفس الخالدة، تأثيرها في العالم الخارجي.٣

ذلك شأن الفكر الإنساني. لا نهاية نشعر بآثارها ولا ندرك حدودها.

والفكر يسع المدركات وفيه الانفعال والتصور والإحساس. بَيْدَ أن فيه قدرة على التفريق بين هذه المدركات ووضع حدود لكل مدرك منها في ذاته. كما أن في مستطاعه أن يفرق بين المحسوسات، فيحكم على أن هذه لذة حس وتلك لذة روح. وفي مقدوره أن يحكم في أن هذا إحساس ألم، وذاك إحساس لذة، وأن يحكم بأن الألم شر وأن اللذة خير. ومن قدرة الفكر على تحديد المدركات يأتي تبويب العلوم والمعارف الإنسانية، وتحديد منافعها وعلاقاتها، والتفريق بين العلم والفن والفلسفة، التي ينحصر همها في إدراك العموميات والنظر في الكليات مجتمعة. غير أن الفكر قد خضع في نشوئه ونمائه لسنة التطور البطيء على مر الأجيال، فاصطبغ في كل عصر من عصور المدنية بصبغة، وتلون بلون، بل وسم بطابع، تراه بارزًا في جبين مستحدثات كل دورة من الدورات الزمانية التي مرت على الإنسان فوق هذه الأرض.

على أن الفكر الإنساني مهما وسع من قوة اللانهاية، فإنك تجد أن فيه قوتين إحداهما متوثبة متعطشة إلى التغلغل في صميم المجهولات ابتغاء الوصول إلى حقائقها، وتلك قوة الفكر الفردي، وهي قوة تتخطى حدود التطور المنظوم عادة، بل إنك لتجد في تاريخ الفكر وثبات فردية هي في ذاتها أقرب إلى الحقيقة وأبعد عن الخيال، غير أنها قد تترك وتنسى زمانًا محدودًا حتى يتهيأ الفكر العام لقبولها. والقوة الثانية قوة نشوئية تطورية تتبع خطوات تدرجية دقيقة تدرك آثارها الكلية ولا تدرك جزئيات تحولها مطلقًا. وتلك قوة الفكر العام؛ لأن الوقوف على دقائق تحولها غير مستطاعٍ إلَّا باستطلاع رأي كل فرد ومعرفة الاتجاهات الخفية التي تتمشى فيها التصورات والانفعالات، وأثر الإحساس في كل ما يبرز الفكر من مستحدثات العلم والفلسفة والفن. وإنك رغم هذا تجد أن لهاتين القوتين متجهًا واحدًا، متجه الارتقاء والضرب في عالم التقدم والنشوء بخطوات ثابتة، قد تنتابها عواصف التزعزع في بعض الأحيان، ولكنك لا تتبين في سلسلتها صدعًا أو تفريقًا. فهما قوتان مؤلفتان تنزعان بالإنسان دائمًا إلى غاية غير محدودة من الرقي العلمي والمدني.

وأنت كلما رجعت بالنظر إلى مدنيات العصور الأولى وجدت أن قوة الفكر الفردي أقوى أثرًا وأبين فعلًا. انظر في مدنية اليونان مثلًا تجد أمثال «سقراط» و«أفلاطون» و«أرسطو» و«ديمقريطس» وغيرهم، ممن لا نسبة بينهم وبين مجموع أهل زمانهم من حيث النضوج العقلي والفكري. فهنالك تتجلى لك قوة الفكر الفردي ظاهرة جلية على صفحات التاريخ. ثم تنتقل من بعد ذلك إلى مدنية الرومان فتجد أن نواحي الفكر أكثر اتصالًا وأقرب تناسبًا بين القوة المفكرة في الفرد وبين قوة المجموع فيه. فترى مدنية أزرت بمدنية اليونان، لا من حيث القدرة على التفكير الفردي والصفات العقلية، ولكن من حيث التوازن بين القوى المؤلفة التي يمد بها الفكر العام مهيئات المدنية. ثم تلقى مدنية الإسلام وقد قامت على تأليف ما تبدد من نزعات الشعوب العربية، فتستقوي بما فيها من قوة الإجماع الفكري والمعتقد على ما تقدمها من المدنيات، حتى إذا ما نظرت في القرون الوسطى، وهي عصر انتقال فيه كثير من التهوش والفوضى، ألفيت أن قوة الفكر الفردي أخذت تزول في قوة الفكر العام شيئًا فشيئًا وتدرجًا على مر الزمان. ذلك شأن الرقي المدني، يستجمع دائمًا القوى الفردية ليؤلف بين بعضها وبعض، ومن ثم يدفع بمجموعها نحو غاية من الارتقاء لا حد لها في نظر الفكر. ومتى كانت جهة التوازن بين قوة الفكر الفردي التي تبدو واضحة جلية في تقدم العلوم والمعارف الإنسانية، وبين قوة الفكر العام التي تبدو في المدنية ومهيئاتها، أكثر كفاءة وأشد تلاؤمًا، كانت قدرة الأفراد على الانتفاع من مواهبهم أقرب متناولًا وأسهل بلوغًا وأدنى إلى النفع للمجموع. هنالك تصبح القوة الفردية لدى خضوعها لمجموع يلاءم نزعاتها، وهي خاضعة للمجموع دائمًا لما فيها من أثر البيئة الاجتماعية، أكثر قدرة على النظر النقدي والتحليل العلمي والفلسفي، وأبعد عن التقليد والشك. لا يدلك على هذا مثل مقابلتك بين أثر فكرتين جديدتين من شأنهما تغيير أفكار المجموع ظهرتا في عصرين متباعدين.

برزت في العصور المظلمة ودورات النشوء الفكري الأولى، فكرات وتعاليم فاضت على العالم وأشعت في ظلمات الجهالة الأولى، فأنارت جوانب العالم بنور حقيقتها الساطعة. استكشف «غليليو» أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، فطورد وسجن واضطر إلى السجود أمام قضاته يكفر عن جناية القول بما يخالف تيار الأفكار السائدة إذ ذاك، والتي كانت تفيض بها الكنيسة على الناس، بل تمليها عليهم إملاء المعصوم من الخطأ المبرأ عن الزلل. وبان لكوبرنيكوس ما دعم به نظرية «غليليو» إذ استكشف أن السيارات ومنها الأرض تدور حول الشمس في أفلاك أهليلجية الشمس ثابتة في إحدى محترقيها. فلم يكن بأسعد حظًّا من «غليليو» ولم يفت الكنيسة أن تنزل به أشد العقاب حتى تحرجت به الحال وضاق ذرعًا بما أحس من كراهية، شاركت فيها معاهد العلم سوقة الناس وذؤبان الجاهلين.

ظهر بعد ذلك إسحاق نيوتن مستكشف سنة الجاذبية ومعلل حركة الأجرام، فكان الفكر العام أكثر تقبلًا لنظريته بما مهد لها الباحثون من قبله، فامتصت الفكرة العامة الفكرة الفردية بتقبل لم يظهر فيه شيء من أثر التعصب للرأي السائد بمثل ما ظهر في عهد «غليليو» أو «كوبرنيكوس». في حين أن استكشاف نيوتن لم يكن بأقل أثرًا في هدم المعتقدات القديمة من مستكشفات سابقيه في تاريخ التطور الفكري.

ذهب الناس يعللون الكون على نظرية الجاذبية كما وضعها نيوتن مقتنعين بأن هذه النظرية حقيقة كاملة في ذاتها، على اعتبار أن في مستطاعها تعليل ما في الكون من غموض، وما يحف الباحثون فيه من ريبة، تشابكت حلقاتها واختلطت أصولها بفروعها. وظل الناس على نظرية نيوتن عاكفين حتى أتى لهم العلَّامة «إنشتين» في هذا الزمان بنظرية «النسبية» فقلب معتقداتهم رأسًا على عقب، وأظهر لهم أن حقائقهم الثابتة في علم الطبيعة والهيئة والهندسة ناقصة بعيدة عن الواقع.

قال اللورد «هولدين أوف كالون» في خطبة ألقاها في جامعة «كنجس» بلوندرا عندما زارها العلَّامة «إنشتين» وتكلم في النسبية في شهر يونيو سنة ١٩٢١ ما يأتي: «إننا إن حيينا اليوم العلَّامة «إنشتين» فإنما نحيي رجلًا ليس بذاته نابغة من النوابغ المبرزين فقط، بل رجل تنزل نظريته في تاريخ العلم منزلة نظريات نيوتن و«غليليو» و«كوبرنيكوس». وهي نظريات قلبت العلم الإنساني والفكر، ووجهت البحث العلمي في اتجاهات جديدة، وأوسعت من أفق الأبحاث العلمية.»

وليس لنا في هذا الموطن أن نتابع الكلام في نظرية «النسبية» وأثرها في الانقلاب الفكري الحديث. ولكن حسبنا أن نقول إن هذه النظرية قد غيرت من وجهة النظر في العلم ونظام العالم بعد تدعيمه على قرار لم يكن ليدر في خلد الباحثين أن من حقائق الطبيعة ما يقوى على تصديعه. وكفى بها أنها هدمت كثيرًا من أركان العلم الطبيعي المقول بها حتى اليوم، وزعزعت كثيرًا من مبادئ علم الفلك، واستقوت لأول مرة في تاريخ العلم على زعزعة اليقين في طريقة تطبيق مبادئ إقليدس. ولم تقتصر على ذلك بل إنها تناولت النظر في العلوم الأدبية وفلسفة الأخلاق والاجتماع، حيث نشر اللورد «هولدين أوف كالون» كتابًا في هذه النظرية طبقها فيه على المسائل الأدبية مظهرًا أن كل مبادئ الأخلاق والشرائع الأدبية مسألة نسبية، وأن قياسها من حيث الرقي والفساد، راجع إلى نسبة ما تفهمه منها الأفراد والشعوب.

ظهرت هذه النظرية في أوائل القرن العشرين ففتح لها العلم ذراعيه وتقبلها الرأي السائد في العلم كما كانت تتقبل الجماعات التي استقوى عليها شعور الأديان لدى أول انتشارها وحي المرسلين. فعم أثرها عالم العلم في أقرب زمان واستقوت على هدم القديم وأخذت العقول تعمل على تأسيس العلم الإنساني من جديد جريًا على ما توحي به تلك النظرية الفذة في هذا الزمان.

من هنا نستبين الفرق بين أثر فكرتين ذاعتا في عصرين متباعدين، إن اختلفتا من حيث الأصل والجوهر، فقد اتفقتا من حيث الأثر في عقول الناس. فلو أن نظرية النسبية ذاعت في عصر «غليليو» أو «كوبرنيكوس» لكان العلَّامة «إنشتين» الآن رهين سجن من السجون أو واقفًا أمام محكمة من محاكم التفتيش يركع أمامها ليكفر عن ذنبه من القول بالنسبية، أو مسوقًا إلى محرقة اجتمع من حولها الناس ليشهدوا حرق هرطيق، تعمل فيه نار، إن خمدت بعد تحليل جسمه الترابي في هذه الدنيا، فهنالك في العالم الآخر مثلها تتلقفه من يد محكمة التفتيش تلقف المستزيد.

هنا يظهر لنا مقدار من قرب المكافأة بين الفكر الفردي الوثاب إلى الحقائق القفاز إلى غايات من العلم بعيدة، وبين الفكر العام إذ يتقبل الفكرة بمقدار ما يظهر له فيها من مطابقة الواقع، لا بمقدار ما يظهر له فيها من القرب من تيار الأفكار السائدة أو البعد عنها، شأنه في العصور الأولى. ووقوع ذلك دليل على ترقي الفكرة المدنية العامة والمبادئ الملائمة لطبيعة الإنسان أكثر مما فيه من الدلالة على ترقي النوع ذاته من حيث التكوين العضوي؛ لأن التكوين العضوي بطيء الأثر في التطور. فهو آلة مقدرتها على إبراز الآثار الثابتة مرهون على مقدار ما تفسح لها مبادئ الحياة من مجال تظهر فيه آثارها وتطلق فيه كفاءاتها المختلفة، لتنبعث في سبيل يسلم إلى الحقيقة. لذلك تجد أن فكرة «إنشتين» إن بلغت من التأثير في عقول الجماعات مبلغ غيرها مما تقدمها في العصر الأول، فإنها ذاعت في عصر كان فيه من المهيئات ما جعل الناس يتقبلونها بقبول حسن، وذلك ما نعني من قرب المكافأة، وعكسه ما نعني من بعد المكافأة، بين الفكر الفردي والفكر العام.

حظ العرب من البحث اليقيني

أما إذا نظرنا في علوم العرب وأفكارهم فإننا لا محالة واقعين في كل ناحية من نواحيها على نسبة خاصة من بعد المكافأة بين القوة الفكرية في الأفراد والمجموع، يرجع إليها في الحقيقة وقوفهم عند حد محدود من النظر الميتافيزيقي الغيبي، ففيهم عقول فذة توثبت إلى النقد التحليلي، ولكنها لم تستطع الانتفاع به ولم تمكنها القوة المفكرة في المجموع من بث مذاهبها وإذاعتها بحق خلال العصور التي ظهرت فيها. خذ مثلًا العلَّامة الكبير ابن خلدون. فهو من ثقات الناظرين في التحليل التاريخي في العصور المظلمة. وضع مقدمته المشهورة وبث فيها من المذاهب التاريخية ما اتخذ نظيرها من بعده العلَّامة «بوكل» الإنجليزي أساسًا أخرج به مذهبًا تاريخيًّا في كتابه «تاريخ المدنية في إنجلترا» قوامه أن التاريخ الإنساني يرجع إلى تأثير العناصر الطبيعية ومؤثرات الجو والمناخ وطبيعة الأرض والبيئة في عقلية الأمم ومشاعرها ونظامها الاقتصادي. يضاد بذلك أصحاب القول بأن محور التاريخ الإنساني يدور حول المؤثرات النفسية أو الاقتصادية أو الجنسية مثلًا. وليس من شأننا أن نحكم في أي المذاهب التاريخية أصح، أو أيها أقرب إلى الواقع. بل نريد أن نقول أن فكرة ابن خلدون قد صح تطبيقها وإذاعتها في عصر معين وبتهيئة صبغة مخصوصة اصطبغ بها الفكر العام، تقبل بها الفكرة الفردية ومكنها من الظهور والبروز، في حين أن ابن خلدون أول ناظر في هذه الفكرة، بل أول واضع لها في تاريخ الفكر الإنساني، لم يقو على أن يتبع في بقية تاريخه نفس المبدأ الذي بثه في مقدمته. فإنك إن نظرت في ستة المجلدات التي خطتها براعته في التاريخ لا تجدها تمتاز بشيء عما كتب ابن الأثير أو الطبري. كلهم قرر حوادث وسرد وقائع ليس فيها من التاريخ إلا الاسم دون المسمى. ولو قارنت بين هذه المدونات بما فيها تاريخ ابن خلدون نفسه وبين مقدمته، لبان لك الفرق بين قوة التفكير عفت آثارها في المدونات، وبرزت ظاهرة جلية في المقدمة. وما ذلك إلا أثر الفكر العام وتأثيره في الفكر الفردي، يحد الأول من وثبات الثاني ليتبع في تطوره سنة النشوء التدرجي. وكلما كان أثر القوة الفردية أشد ظهورًا، كان ذلك دليل على أن الفكر العام ومهيئات المدنية أضعف أثرًا في مجموع الأمم، وعلى العكس من ذلك تكون قوة الفكر في المجموع.

أمَّا مدنية العرب فكانت الجماعات خلال كل عصورها أضعف من حيث الفكر من الأفراد، فكسب الأفراد بذلك قوة السيطرة بالتفرد في حيز بينه وبين المجموع من الفروق ما لا ألفة فيه، فعدمت العبقرية الفردية نعمة تقبل المجموع لمنتجاتها، وإلى هذا يرجع ذلك الشك القاتل والتقليد الفكري الذي تراه شائعًا في مؤلفات العرب وطريقة تأليفهم، وإليه ترجع تلك النزعة إلى الخلط وعدم التحقيق التي ورثها المؤلفون من أبناء الشرق إلى عهد قريب، وإليها يعزى السبب في هدم الأفكار الفردية التي توثبت إلى النقد التحليلي، فخمدت جذوتها خضوعًا للروح الفكرية في المجموع. إذن فتأخر الجماعة في القوة الفكرية عن اللحاق بقوة الفكر في الأفراد، وعدم المكافأة بين الناحيتين، هو الذي قعد بالعرب دون بلوغ دور النقد العلمي والنظر التحليلي، حتى في آخر العصور التي ازدهت فيها المدنية العربية.

•••

ذلك شأن العرب في مدنيتهم وتطورهم الفكري. وقد يتبادر إلى ذهن بعض المتعصبين الذين وقف بهم حد الدرس عند المدرسة المصرية القديمة، إننا ننكر على العرب شيئًا من أثرهم في ترقي الفكر أو المدنية عامة. ألا بعد بين ما يقولون وبين ما نريد أن نثبت.

جرت عادت المؤلفين في هذا العصر أن يتبعوا لدى نظرهم في العصور الماضية نظرتين تختلفان باختلاف المتجه الذي يريدون أن يصرفوا نظرهم نحو البحث فيه. فإنهم إذا أرادوا أن يبحثوا مثلًا في مدنية عصر من العصور القديمة وأن يتناولوا تاريخ الفكر فيه، عمدوا إلى قراءة ما ثبت في أفكار أهله، وما خطته يد المؤرخين فيه، وما خرج من ثمار الأدب خلاله ليحيطوا أولًا بفكرة عامة في ذلك العصر، وليكونوا جهد المستطاع أقرب إلى تشرب روح العصر الذي يريدون أن يكتبوا فيه، فتخرج مجموعة ما يكتبون صورة، إن لم تكن فيها الحقيقة كلها، كانت أقرب ما يمكن من الواقع. وهذا هو النظر التقريري الصرف. أما إذا أرادوا النظر في ذلك العصر نظرة نقد علمي أو تحليل تاريخي، قاسوا دائمًا بين منتجات ذلك العصر وبين منتجات عصر آخر يشابهه في التاريخ، ليخرجوا من ذلك بفكرة عامة في مقدار ما قطعت الإنسانية من أشواط الرقي في ذلك العصر مقيسًا بغيره في مشابهاته التاريخية. وهذا هو النظر التحليلي النقدي. أما إذا كان قصدنا أن نعمد إلى وجهة النظر الأول، فكان يحق للناقدين أن يعيبوا علينا الخلط بين الطريقتين. أما وقصدنا من هذه العجالة أن نتحدى الطريقة الثانية، فليس لهم إلى الاعتراض علينا من سبيل.

تنظر فيما أبرز العرب من نواتج الفكر، من علم أو أدب أو فلسفة أو فن، فتجد فيها من آثار التخلخل والانشعاب ما هو جدير بأن يبرز في عصر عكف فيه الفكر على طريقة الشك لم يعدها إلى طريقة التحليل والنقد. تجد عندهم مذاهب فلسفية نقلها المترجمون، وجُلُّهم من النساطرة واليهود ووثنيي حران، عن اليونانية. ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية ينسب إليهم خطر ابتكارها. فليس لهم مدرسة تعزى إلى الفارابي أو «ابن رشد» أو ابن سينا مثلًا، بل إن «ابن رشد» على الأخص لم تصبح له مدرسة تعتنق مذهبه الفلسفي الذي ذهب إليه في تفسير أرسطو طاليس، إلَّا بعد أن انتقلت كتبه إلى جامعات أوروبا في القرون الوسطى. فالمذهب الفلسفي بقى رأيًا فرديًّا عند العرب، وانقلب مدرسة فلسفية في أوروبا عند بدء نهضتها العلمية. ذلك فرق جلي بين درجتين معينتين يمر بهما العقل الإنساني. الدرجة الميتافيزيقية، والدرجة اليقينية.

وقد يخطئ بعض الناس إذ يقولون بأن للسنيين أو الأشاعرة أو المعتزلين مدارس فلسفية. فإن هذه جماعها وما يجرى مجراها مذاهب دينية، استعانت بالفلسفة وببعض ضروبها فقط، على بث أفكارها. وقد يصح أن يكون في أفرادها من غلب عليه النظر الفلسفي. فواصل ابن عطاء مثلًا قد نعتبره مجددًا من جهة ما يدعو إليه من حرية الرأي في النظر العلمي والفلسفي والديني. ولكن مدرسة المعتزلين، إن صح أن تدعى مدرسة بحق، ترجع في أصلها ونشأتها إلى الدين الممسوس بالفلسفة أكثر من رجوها إلى الفلسفة الصرفة. وكذلك الباطنيون «المتصوفون» قد نقول إن فيهم فلاسفة يقولون بوحدة الوجود، كما كان يقول الذين أخذوا عنهم من الفرس وأساتذتهم أصحاب الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، ولكن لم يكن لأحدهم مدرسة تنسب إليه ذاع رأيها وكان لها أثر في تطور الفكرة الفلسفية في المجردات خلال عصر من العصور.

وكذلك الحال إذا نظرت في الأدب العربي. فإنهم على ما بلغوا في الأدب من علو المنزلة التي تفاخر بها العربية لغات الأرض قاطبة، لم يضعوا علمًا يقال له بحق علم الأدب. فإن الأدب العربي في الحقيقة ليس سوى مجموعة قيمة من الشعر والنثر وصنوف البلاغة انتحى كل شاعر أو أديب من مشهوريهم فيها طريقة نسج عليها غيره من الشعراء أو الأدباء. وكل ما نعثر عليه في أدب العرب من تاريخ الأدب عندهم أنهم يقسمون الشعراء ثلاثة أقسام؛ جاهليون ومخضرمون ومولدون، لولا قيام الإسلام بوضع حد فاصل بين عهدين، لما وجدت لهذا التقسيم في الأدب العربي من أثر. بل إن كل مَنْ كتب في الأدب من العرب، وكتبهم بين أيدينا نقلبها كل يوم، بل إن كتاب الأغاني نفسه، وهو من أمهات كتب الأدب العربي، لم يتجشم واضعه أن ينظر في ناحية من نواحيه نظرة تحليل يصح أن يقال إن فيها فكرة في تكوين علم الأدب العربي، بل إنك لا تجد أن من الكاتبين مَنْ عمد إلى تقسيم الأدب العربي إلى عصور تبدأ وتنتهي ببدء الدول العظيمة وسقوطها. وهذا أول ما يبعث على تبويب علم الأدب ووضع قواعده الأولية.

ثم انظر في التاريخ عند العرب مرة أخرى، وقلب صفحات مؤلفاتهم فيه. فإنها تدلك على أن فكرة النقل والتقليد قد تملكتهم فلم تترك لغيرها من مجال حوادث متتابعة على حسب ترتيب السنين لا تواصل بينها ولا علاقة تربطها. فهي في الواقع مدونات حوادث لا كتبت تاريخ. قيمتها تنحصر في أنها كتبته في عصر قريب من العصر الذي وقعت فيه الحوادث التي ترويها. فهي مآخذ للتاريخ وليست تاريخًا. مراجع يصح أن يعتمد عليها في كتابة التاريخ.

يقول جوته:

إن التاريخ يجب أن يعاد تدوينه والنظر فيه من حين إلى حين. لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت على مر الأيام، بل لأن أوجهًا من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين، الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها، يساقون دائمًا إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.

هذا ما يقوله «جوته» في التاريخ الصحيح المترابط الأطراف المتواصل الأسباب المحبوكة سلسلته حول فكرة بعينها. فما بالك بحكمه على ابن الأثير أو الطبري مثلًا، وهي مؤلفات لم تتعد أنها مدونات حوادث وقعت في عصر من عصور الحياة وفي بقعة خاصة من بقاع الأرض، لم يتناولها الفكر بنظر أو تحليل؟

ثم ارجع بالنظر كرة إلى تاريخ العلم والفلسفة عند العرب. أخذ العرب الفلسفة عن الإغريق وعمن نقل عنهم من السريانيين. فعرفوا من الفلسفة فلاسفة ولم يعرفوا مدارس متميزة بعصر من العصور أو بفكرة محدودة، شأن الفلسفة القديمة في العصر الحاضر. لم يعرفوا مثلًا أن الفلسفة الإغريقية قد تقدمها في تاريخ الفكر الإنساني فلسفة أخرى تدعى الفلسفة الشرقية كان لها مذاهب وأفكار ذاعت في أشور وبابل ومصر والهند وفارس القديمة، اللهم إلَّا بعض نتف من مذاهب متناثرة منشؤها الهند. على أنهم كانوا قريبي العهد بها محوطين بأسبابها مستشمين ريح مدنيتها التي ورثوها عن تلك الأمم. ولم يعرفوا أن هنالك فلسفة يقال لها الفلسفة الإغريقية وأخرى يقال لها الفلسفة الإغريقية الرومانية كما تسمى اصطلاحًا، وهم ورثة الرومان. ولم يضعوا حدودًا لمدارس الفلسفة فلا تجد في مصنفاتهم مثلًا أنهم ميزوا في مذاهب الفلسفة مدرسة سموها المدرسة اليونية أو الإلياوية. ولم يفرقوا بين الوضع الفلسفي قبل «سقراط» وبعده، ولم ينظروا في أثر انتشار مذهب «سقراط» الأخلاقي فيما عقبه من مذاهب الفلسفة. بل إن أول مدرسة عرفوها بحق هي مدرسة المشاءين، «أرسطو طاليس» وأتباعه، وقد ترى فيما كتبوا أثرًا للسفسطائيين أو «الرواقيين». وهؤلاء لم يعرفوهم إلَّا عن النساطرة واليعاقبة في أواسط العصر السرياني، ولم يزيدوا على ما نقل إليهم شيئًا.

ثم تجد من بعد ذلك أنهم أهملوا النظر في المدرسة الميغارية، وأنهم لم يفقهوا شيئًا من فلسفة الهيدينين أصحاب اللذة الحسية أو الكلبين مثلًا. عرفوا من هذه المدارس بعض أعلام فلاسفتها، ولكنهم لم يميزوا هذه المدارس بعضها عن بعض بشيء من النظر التحليلي. فإنك إن وجدت مثلًا بعض الكتاب تناول «الرواقيين» بكلام، وهم بعد عهد أرسطو طاليس، فإنهم لم يتكلموا في المدرسة الأبيقورية بشيء، وإن كانوا قد عرفوا شيئًا من مبادئ «أبيقور» الفلسفية على أنهم قلبوا حقيقتها وشوهوا كثيرًا من معالمها. ناهيك بأنهم لم يعرفوا شيئًا عن الشكيين، أصحاب الشك، واللاأدريين، أو الأكاديميات أو الانتقائيين.

كل هذا يرجع إلى عكوفهم على طريقة الشك التقليدي، وهي طريقة من شأنها أن تصرف الذهن إلى المباحث المحدودة. فالفكر إن وقف عند حد الشك، شك في مقدرته على الابتكار، ولم يتجاوز إلى النقد الذي يقوم على المقارنة والتحليل عادة، وقنع بالتقليد والدور حول محور معين وفي دائرة خاصة لا يتعداها. وأكبر مثال على ذلك ما نراه في كتب العرب الفلسفية من عقيم الجدل الكلامي وسقيم الفروض التي لن تجد لها من وجود إلَّا في مخيلة واضعيها.

وإنك إن نظرت نظرة أخرى في المؤلفات العلمية الصرفة عند العرب لوجدتها قليلة، اللهم إلَّا بعضًا منها في الطب والكيمياء وخصائص النبات. وهي مؤلفات وسمت بطابع لا تراه يختلف كثيرًا عن الطابع الذي وسمت به بقية مؤلفاتهم في فروع المعرفة الذائعة لعهدهم.

كذلك إذا نظرت فيما كتبوا في النبات أو الحيوان، تجد أن المؤلف إن تحرر عن الخلط بين فروع من التاريخ والأدب، لم يتخط حد الوصف. فمن الكلام في صفات النبات والحيوان إلى نفعه في العقاقير. وهنالك بعض مؤلفين أرادوا أن يوسعوا من دائرة تواليفهم فتناولوا الكلام في خصائص النباتات والحيوانات السحرية والطلسمات أو نفعها في التمائم وتفسير الغيب.

وتراهم في حين آخر قد مزجوا بين الفلسفة والفن فوضعوا الموسيقى في الفلسفة، اعتمادًا في الغالب على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس لدى قوله: «العالم عدد العالم موسيقه.»

إن الأسطر السالفة كافية في نظرنا لأن تعطى القارئ فكرة إجمالية عن الطريقة التي تحداها العرب في وضع تواليفهم ونظرهم الفلسفي والعلمي، وهي طريقة نراها جلية تامة الظهور في أسطر الرد على الدهريين. فلنأخذ من ثم في نقد هذه الرسالة بادئين بالنظر في الفكرة الأصلية التي من أجلها وضعت. ولنبدأ في ذلك بإظهار الفرق بين الفكرة الأبيقورية والفلسفة المادية؛ لأن ذلك أول ما تبين لنا فيه وجه الخلط في هذه الرسالة.

١  إن مذهب «داروين» الذي بثه في كتاب أصل الأنواع لا يكشف عن شيء من أسرار الطبيعة إلا عن تلك الأشياء التي سأل عنها السيد الأفغاني.
٢  لا أعلم كيف ساغ للسيد الأفغاني أن ينسب إلى العلَّامة داروين، وهو من أكثر علماء الأرض حذرًا وأبعدهم استعماقًا في النظر الاختباري، أنه جزم بأن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم فلما واظبوا على عملهم هذا قرونًا صارت الكلاب تولد بلا أذناب. ثم يعقب على ذلك بقوله: كأنه يقول — أي «داروين» — حيث لم تعد للذنب من حاجة كفت الطبيعة عن هبته. ولست أدري كيف يسيغ لنفسه أن ينعت العلَّامة «داروين» بالوهن في الرأي والجهل والجري وراء الأساطير في نقد لم يقم عند السيد الأفغاني من علم بمفصلاته إلا قوله: «وهل صمت هذا المسكين «داروين» عن سماع خبر العبرانيين والعرب وما يجرونه من الختان ألوفًا من السنين لا يولد مولود حتى يختن.» على أنه لو وقف عند هذا الحد لكان في برهانه من الوزن العلمي قدرًا يستلفت النظر. غير أنه يمشي مع الأساطير العامية وما يدعي بعضهم من القول ﺑ «ختان الملائكة» فاستقوت عليه وراثة التقليد فما لبث أن قال: «وإلى الآن لا يولد منهم مختونًا إلا لإعجاز.» ولو صح أن هناك أطفالًا يولدون مختونين لكان ذلك دليلًا قيمًا على احتمال توارث الصفات المفروضة على الأعضاء بمجرد التشوه الخلقي كما يدعي «برون سكوار»، ولعجز السيد الأفغاني عن إظهار وجه الإعجاز في ميلاد طفل مختونًا، ولاستطاع الباحثون في الوراثة أن يستقووا بأدلتهم الطبيعية على إعجازه ولو استعان هو بكل مَنْ أقلتهم الأرض من المناطقة وقصر الطبيعيون برهانهم على المشاهدة وحدها. ولست أعرف في أي كتاب من كتب العلَّامة «داروين» وقع السيد الأفغاني على ذكر الجماعة التي كانت تقطع أذناب كلابها، فإنه لم يذكر مصدر هذه الرواية ولا محلها. وكل ما وقعت عليه في هذا الصدد كلام في آخر الجزء الأول في كتاب «داروين» «تأثير الإيلاف في الحيوانات والنباتات» أبدى فيه «داروين» كثيرًا من الشك في صحة هذه الرواية نفسها. كما أني لست أعلم على أي البراهين العلمية الصحيحة بنى السيد الأفغاني معتقده في أن الختان، إن صح وقوعه طبيعيًّا لا يكون إلا لإعجاز. ولعمرك لو صح إعجاز الختان في يقين السيد الأفغاني أفلا يصح عنده أن تكون التشوهات الخلقية الأخرى كالمسوخ ذوات الرأسين وزيادة عدد الأصابع واستسقاء الدماغ وازدواج الأطراف وغيرها، جريًا وراء زعمه، أبلغ في الإعجاز وأشد نيلًا من الأنفس في العظة والاعتبار؟ على أن كلا الأمرين اللذين ادعاهما السيد الأفغاني لا يزالان رهن التحقيق العلمي. فلا قطع أذناب الكلاب أورث جيلًا منها فقد الأذناب، ولا الختان الطبيعي قد ثبتت صحة بالطرق العلمية. ولقد قال لي أحد مشهوري الأطباء في خطاب أن نسبة حدوث تلك التشوهات التي تدعى عند العوام بطهارة الملائكة بين المواليد المسلمين واليهود ليست بأكثر منها عند الأوروبيين الذين لم يعتادوا الختان. وهذه التشوهات تحدث عن نقص خلقي قد يتناول أجزاء أخر من الجسم. ولقد قال «داروين» في كتاب أصل الأنواع فصل ٥ ص٢٦٦ من النسخة العربية «إن ما رواه «برون سكوار» من الحالات وما لاحظه من المشاهدات في خنازير غينيا وتوارثها من الصفات ما يحدث بتأثير التجاريب العملية فيها، أمر يسوقنا إلى الركون إلى الحيطة قبل الحكم في إثبات ذلك الأمر أو نفيه. ولذا كان من أقرب الأشياء إلى الحيطة والحذر العلمي، القول بأن فقدان الأتيوخس أرساغه وكونها أثرية في أجناس أخر هو الإغفال، وأن ليس لتوارث التشوهات الحادثة فيها من أثر»، وأحرى بمن يقول هذا القول أن لا يعتقد بأن جيلًا من الكلاب فقد أذنابه لمجرد المثابرة على قطع أذناب تولداته زمانًا ما.
٣  راجع الأستاذ «مرتز» في «نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر» ص٩، ١٠، ١١ من النسخة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤