الفصل التاسع

قِدَم الأنواع والمذاهب الحديثة في الحفريات وعلاقتها بمذهب النشوء

هنالك مؤلفون من ذوي الشهرة وبعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة. أما عقليتي فأكثر التئامًا والمضي مع ما نعرف من النواميس والسنن التي بثها الخالق في المادة، والاعتقاد بأن نشوء سكان هذه الأرض وانقراضهم في الحاضر والماضي يرجع إلى نواميس جزئية مثل النواميس التي تحكم في توليد الأفراد وموتهم. وإني كلما نظرت في الكائنات الحية نظرة القانع بأنها أعقاب متسلسلة عن بضعة عضويات عاشت قبل ترسب أول طبقة من الطبقات الكبيرة، شعرت بأن نظرتي هذه أكثر إجلالًا، وأبعث على التأمل، وأدل على العظمة.

داروين

***

تناولت بالبحث في الفصل السابق تقلب الرأي في علم الجيولوجيا، وكيف انتهت معارك الفكر الأوروبي في أواخر العقد الثالث من القرن التاسع عشر بانتصار مذهب النشوء، وكيف أن علم الجيولوجيا قد دل على قدم الأنواع وأثبت تسلسلها، وأنه لم يكشف عن بطلان ذلك القول كما يدعي السيد الأفغاني. ولا ريبة في أن علم الجيولوجيا ذا صلة بالبحث فيما تحويه الطبقات الأرضية من الحفريات، وهي صور الحيوانات التي عاشت في الأزمان الأولى ثم انقرضت وانطمرت في الطبقات حيث استحجرت وحفظت هياكلها أو بقاياها. لذلك نعقب بهذا الفصل باحثين في ماهية الحفريات، وكيف يثبت بحثها أن الأنواع قديمة، لا بالمعنى الذي يدركه قدماء الفلاسفة، بل بالمعنى الذي يدركه علماء الأزمان الحديثة، إذ يقصدون بقدم الأنواع نشوء بعضها من بعض على تتالي الأجيال وتلاحق الأحقاب.

ولما كان أكثر قراء العربية بعيدين عن مصطلحات العلوم الحديثة، لذلك نمهد للكلام في علاقة مذهب النشوء بآثار الحيوانات المستحجرة، ببحث موجز فيما هو علم الحفريات، ثم نستطرد بعد ذلك إلى الكلام في علاقة هذا العلم ببقية العلوم الحديثة متوخين في كل ذلك إظهار أواصر تلك الرابطة التي تربط تلك العلوم بمذهب النشوء الحديث الدال على قدم الأنواع بالمعنى الذي يدركه من هذا الاصطلاح علماء العصور الحديثة.

علم الحفريات عامة

ما هو علم الحفريات؟

التعريف: هو العلم الذي يبحث صور الأحياء التي عمرت الأرض خلال العصور الأولى، وكل ما يتعلق بها من حيث التركيب الآلي والتقسيم الوضعي، وصلاتها النسبية، وتسلسلها، وحالات وجودها، والظروف التي أحاطت بها، واستيطانها وتوزعها على بقاع الأرض خلال كل العصور التي تكونت فيها الطبقات الجيولوجية، وعلاقة ذلك بنظريات التطور العضوي والكوني، التي يحتمل أن يكون لها صلة بهذه المباحث.

ذلك هو التعريف. أما «الحفريات» فاصطلاح يتناول مدلوله كل البقايا والآثار التي خلفتها الحيوانات والنباتات التي عمرت الأرض قبل أن يبدأ هذا العصر الحالي الذي نعيش فيه، وطمرت فاستحجرت في باطن الأرض.

والقاعدة التي نستطيع بها التمييز بين خصائص الصور العضوية المختلفة تنحصر في تحديد العصر الجيولوجي الذي انطمرت فيه العضويات التي عاشت خلاله تحديدًا نسبيًّا. أما دراسة الحالات التي حفظت بها بقايا تلك العضويات وطريقة حفظها في الصخور أو باطن الأرض، والبحث في الصلة التي تربط بين الصور التي تخلفت عنها هذه البقايا، وبين عضويات انقرضت من قبلها، أو عضويات خلفتها ولا تزال تعمر الأرض في هذا الزمان، فالحكم فيه مرهون على الحوادث الاتفاقية التي تعرض للباحثين.

والحفريات، إن كان ينتابها كثير من التغير التركيبي والكيماوي على مر العصور التي تتغير فيها بقاياها أو هياكلها من حالة التركيب العضوي إلى التركيب المعدني بتأثير النواميس الطبيعية، فإن كثيرًا من ها قد يبقى حافظًا لتكوينه العضوي وتركيبه الكيماوي، وفاقًا للظروف والحالات التي تحيط بها. فإن الجليد مثلًا عامل على حفظ البقايا العضوية من عاديات التحلل أو الانتقال إلى الحالة المعدنية. وبذلك قد يعرض للباحثين في بعض الحالات أن يعثروا على بقايا حيوانات ونباتات لا تزال محتفظة بكامل صفاتها الأولى.

وكثير من جثث الحيوانات العليا كالمموث وذي القرن، توجد محتفظة بكامل تكوينها لانطمارها في بقاع جليدية منذ عصور جيولوجية عريقة في القدم، وكذلك كثير من الهوام والحشرات والعناكب والنباتات، حيث تكون انطمرت في بقاع وحوطت بظروف ساعدت على حفظها طوال هذه الأعصر على إيغالها في القدم، من غير أن يطرأ عليها أي تغير كيماوي أو تكويني.

وإن عددًا عظيمًا من الحيوانات والنباتات التي يعثر على بقاياها المستحجرة في طبقات الأرض الثالثة؛ أي تكونات العصر الثالث Tertiary formations قد تكون ذات صلة نسبية بأنواع لا تزال تعمر الأرض في العصر الحاضر. بينا يتعذر على الباحث أن يعتبر كثيرًا من الصور التي انقرضت خلال زمان التاريخ المعروف من الحفريات الصحيحة الحائزة لأخص الصفات التي ينطبق عليها مدلول هذا الاصطلاح، إلَّا بمقدار ما يعتبر الصور الحديثة التي قد يعرض لها أن تنطمر بقاياها في الرواسب التي لا تزال آخذة في التكون خلال عصرنا هذا بتأثير القواسر الطبيعية.

كذلك لا يغيب عنا أن التغايرات التي تلحق بقايا العضويات في تاريخ تحولها إلى الحالة الحفرية قد تكون ذات طبيعة كيماوية تارة، أو آلية تارة أخرى.

وأجزاء العضويات التي تستحجر لا تبلغ مرتبة «الحفريات» إلا بعد أن يطرأ عليها تغايرات عديدة في مادتها الأصلية التي تتكون منها، كضياع جزء من مادتها، أو تغير مادة بعض الأجزاء بمادة أخرى جوهرًا بجوهر ودقيقة بدقيقة، ولذا تكون نتيجة هذا الانقلاب حالة من أربع، فإما التحول إلى مادة كربونية، وإما التحليل الجزئي، وإما التلاشي التام، وإما التحجر.

والبقايا التي يعثر عليها قلما توجد تامة. ولا يوجد منها تامًّا إلا العضويات التي انطمرت في البقاع الجليدية. ووجود البقايا على تلك الحال مانع من بحثها البحث الوافي، فيقوم ذلك حائلًا في أغلب الظروف دون معرفة الحلقات التي كانت تربط بين المراتب العضوية في سالف العصور.

وكذلك البقاع التي تناولها البحث صغيرة جهد الصغر مقيسة بالمساحات العظمى التي تغمرها المياه الملحة والعذبة، ثم الجبال والصحاري التي لم تمسها يد الإنسان بالتنقيب. ولذا يرى الباحث الخبير أن موانع طبيعية كثيرة تحول دون الوقوف على الحلقات التي انقرضت في العصور الأولى، وكانت تربط بين صور عديدة.

على أن تدرج وجود الحيوانات والنباتات التي نعثر على بقاياها مستحجرة في باطن الأرض، ليدل واضح الدلالة على أنها لم تخلق طفرة خلال عصر محدود من العصور. وإنما نشأت متسلسلة بعضها من بعض متعاقبة في الوجود الزماني، وإن مذهب النشوء أكثر المذاهب انطباقًا على المشاهدات الطبيعية، وأقدرها على تعليل نشوء العضويات وتدرجها في الوجود الزماني.

تلك هي المسائل التي ينحصر فيها بحث علم الحفريات. ولكن لا يغيب عنَّا في مثل هذه المباحث أن العضويات التي تنطمر في الأرض غالب ما تعدو عليها عاديات الفواعل الآلية. فتذهب بأكثرها ولا نعثر منها إلا على قطع أو بقايا متناثرة، حكمنا على صلاتها الطبيعية بأنواع انقرضت من قبلها، أو أنواع لا تزال تعمر الأرض، يتطلب وافر الحذر وكبير الانتباه.

الحفريات وعلم الحياة البيولوجيا

إن بقايا الحيوانات والنباتات التي يعثر عليها مستحجرة في طبقات الأرض إن كانت على درجة كبيرة من التهوش والنقص، ولم تحفظ بها الطبيعة كاملة، بل غيرت كثيرًا من معالمها الظاهرة، فإنها مع ذلك تؤهل بالباحثين إلى معرفة أوصافها الطبيعية وعلاقتها بالصور التي انقرضت أو الصور التي لا تزال باقية إلى الآن تعمر بقعة من بقاع الأرض في هذا العصر، وفضلًا عن ذلك فهي صالحة للبحث الطبيعي من الوجهتين الحيوانية والنباتية. ورغمًا عما يراه الباحثون من الاختلاف والتباين البين إذا قيس بعضها ببعض، فإن تراكيبها العامة تقارب في الشكل الظاهر كثيرًا من تراكيب العضويات التي تعيش في هذا الزمان، ولذلك يجد الباحثون في سبيل تحديد مرتبتها الصحيحة ومعرفة خصوصياتها الحيوانية كبير العناء، لا سيما عند مقارنتها بالعضويات التي تقاربها نسبًا، حيوانًا كانت أم نباتًا.

على أن السبل التي يتحداها علماء الحفريات في أبحاثهم، لا تختلف عما يتبعه علماء الحيوان والنبات في بحث الصور التي يعكفون على دراستها. غير أن علماء الحفريات مقيدون في أبحاثهم بما يعثرون عليه من تلك البقايا المتناثرة المهوشة التي لم تعد عليها عاديات الأعاصير الطبيعية. وهم فوق ذلك ملزمون بالبحث فيما يمكن أن تكون تراكيب عضلات الحيوانات التي تختلف عنها تلك البقايا أو أليافها، ويتخذون دراسة الحيوانات العائشة اليوم، والتي تقاربها في النسب الطبيعي، سبيلًا إلى الوقوف على شيء مما يحاولون معرفته. وعلى الباحث في الحفريات فوق ذلك أن يجد وراء الوقوف على المعلومات الأولية التي يستطيع استنباطها من بقايا العضويات التي يعثر عليها، وأن يستعين عليها بكل الوسائل التي توصله إلى غرضه منها. وبذلك لا تقف مباحث العالم بالحفريات عند حد العلم بالأوصاف الظاهرة أو الخصوصيات المجهرية، بل تتعدى هذا الحد إلى البحث في التراكيب التشريحية. ولقد نفحت المباحث الحفرية علمي الحيوان والنبات بكثير من المستكشفات التشريحية التي كان لها في عالم البحث أكبر الآثار، كما كان لبحث ذوات الفقار من الوجهة الحفرية في كثير من الحالات، وافر النفع في علم تشريح المقابلة، حيث قام بذلك كثير من جهابذة الحفريين مثل «كوفييه» و«أوين» و«هكسلي» و«فون ميير» و«ريو تمييه» و«مارش» و«كوب» و«أوزيورن» وغيرهم من الباحثين، حيث استطاعوا أن يكشفوا عن حقائق عديدة استنبطوها من دراسة العظام والهياكل والأسنان والبقايا المستحجرة التي عثروا عليها.

ولقد أدت مباحث «كوفييه» في الحيوان والحفريات إلى كثير من المستكشفات الخطيرة. فهو أول من كشف عن قاعدة «تبادل التغايرات في النشوء». فقد أوضح أن أي عضو من الأعضاء الظاهرة أو الباطنة التي تتركب منها العضويات، نباتًا كانت أم حيوانًا، إن تغاير أي تغاير مهما كان ضئيلًا، فلا بدَّ من أن يطرأ على غيره من الأعضاء ذوات الصلة به تغاير يعادل في كيفه وكمه، على وجه التقريب، ما طرأ على ذلك العضو. وطبق هذه القاعدة على الحيوانات الفقارية. وأثبت الذين أتوا من بعده، ونحوا من البحث نحوه، أن هذه القاعدة تصدق تمام الصدق على الحيوانات اللَّافقارية أيضًا.

وكان للكشف في هذه السنة شأن خطير في المباحث الحفرية، حيث استطاع الباحثون، بعد أن ثبتت لديهم صحة هذه السنة أن يعرفوا أوصاف الحيوانات التي انقرضت منذ أزمان بعيدة بالبحث في بقاياها التي قد يعثرون عليها كقطعة من العظم أو سن من أسنان حيوان أو صدفة من الأصداف، مؤتمين بما استناروا به من نور هذه السنة الخطيرة.

من هنا نرى أن المباحث الحفرية لا تخرج عن نطاق علمي الحيوان والنبات وما يتبعهما من التشريح العام وتشريح المقابلة، إلى غير ذلك مما له علاقة بهما، حتى اصطلح الباحثون على تقسيم علم الحفريات إلى قسمين منفصلين؛ أولهما: علم الحفريات الحيوانية Paleozoology وثانيهما: علم الحفريات النباتية Paleobotany ويجمع هذين الفرعين علم الحفريات العام Paleontology فعلم الحفريات على هذا الاعتبار علم من العلوم الطبيعية الحديثة التي كان لها أكبر الأثر في توثيق علمي الحيوان والنبات. ولقد سد من نواحي البحث في هذين العلمين فراغًا كبيرًا، حيث استطاع الباحثون أن يثبتوا به مقدار التباينات التي وقعت على الحيوانات والنباتات خلال العصور الجيولوجية الأولى، وفتح على طلاب العلم بابًا من البحث قلما يتصور فكر إلى أي حد هو بالغ بهم في مستقبل الأيام.
ومما عرف في أواخر القرن الماضي من طريق البحث في الحفريات التي عرض لها أن تحتفظ بكثير من صفاتها التي كانت عليها في الحياة أن الصور التي عمرت الأرض خلال الأزمان الأولى تزيد على ما يعمرها الآن أضعافًا، واستطاعوا فوق ذلك أن يوثقوا لمباحثهم في علم الحيوان والنبات الوضعي — وهو تقسيم المملكتين الحيوانية والنباتية حسب مراتبها وأقسامها الطبيعية — إذ حققوا موضع كثير من أنواع الإسفنج والمرجان والحيوانات الرخوة وذوات الفقار وغير ذلك من أنواع النباتات المعدومة الزهر أو اللَّازهرية Cryptogamio فكان علم الحفريات أكبر مُهَيِّئ لإتمام تلك المباحث؛ لأن كثيرًا من الحيوانات مثل الذراعية الأرجل Brachiopodea أو المعدومة الرأس Acephalous أو الزواحف Reptilia أو ذوات الثدي Mammalia لا يوجد لها من الصور الحية الآن إلَّا نزرًا يسيرًا مقيسًا بما عمر الأرض من صورها في العصور الفارطة. وقد تكون النسبة فيما يوجد من هذه الأنواع الآن واحدًا لعشرة أو لمائة أو لألف مما كان موجودًا من قبل. وهذه النسبة آخذة في الازدياد كلما تقدمت المباحث في علم الحفريات جيلًا بعد جيل، بمقدار ما تتسع دائرة التنقيب في بقاع مجهولة من الأرض.

الحفريات والجغرافية الطبيعية

إن المستنتجات التي وقف عليها الباحثون في علم الحفريات لا تقتصر على معرفة العصور التي تكونت فيها طبقات الأرض خلال أدوراها الأولى، والتوثيق من فروع علم الجيولوجيا، لا سيما ما يتعلق منه بتاريخ الأرض الطبيعي، بل أعان الباحثين فضلًا عن ذلك على معرفة أصل الصخور التي يرونها في مختلف الطبقات المحشوة بصور الحفريات وتقسيم سطح الأرض من يابس وماء، ومواضع كل منها، وحالات المناخ خلال العصور الأولى، ناهيك بما كشف لهم من الحقائق الجمة في مباحث الاستيطان وتوزع بقاع الأرض على الكائنات بحسب طبائعها.

ومن التجانس الذي يظهر عليه الباحثون بين كثير من الأنواع التي تعمر الأرض الآن، استطاعوا أن يعرفوا من بقايا الحيوانات التي يدرسونها إن كانت الأنواع التي تخلفت عنها هذه الآثار قد عمرت اليابسة أم المياه الملحة أم العذبة، ومما يستنتجونه من بحث الحالات التي تكونت بتأثيرها تلك الطبقات التي انطمرت فيها البقايا العضوية ظهرت لهم حقائق عديدة سهلت لهم سبل البحث في كثير من العلوم الأخر. ومن البحث في التكونات التي حدثت في جوف البحار الملحة أو الأنهار العذبة العظيمة، عرف ذوو العلم مقدار البقاع التي كانت تغمرها هذه المياه من سطح الكرة في الأزمان الغابرة، مستدلين على ذلك بصفات البقايا المستحجرة التي توجد فيها.

وليس ثمة من سبيل استطاع به علماء الظاهرات الجوية الوقوف على حقيقة حالات المناخ في أقطار الأرض خلال العصور الأولى، إلا البحث في الحفريات فعرفوا مثلًا أن نماء النباتات اللَّازهرية وانتشارها على سطح الكرة خلال تكوين النباتات المتفحمة Carboniferous، لا بُدَّ من أن يحدث في طقس حارٍ ومناخٍ رطبٍ ندي، تختلف حدوده بين خطوط العرض من سطح الأرض اختلافًا يسيرًا، وعلموا أن النباتات ذوات الفلقتين التي نراها الآن في خط الاستواء ونرى بقاياها الأولى في تكونات الأرض الثالثة من جزيرة «جرينلاند»، وأن الجزر المرجانية التي تكونت خلال العصر الأول من العصور الجيولوجية Paleozoic وكانت تقع على خطوط العرض الشمالية من كرة الأرض، تدل واضح الدلالة على أن الطقس في تلك البقاع كان خلال ذلك العصر أكثر اعتدالًا منه الآن، وأن مياه المحيط كانت أكثر احترارًا. كما أن العثور على بقايا الغزال الأحمر وذئاب المنجمد الشمالي وغيرها مما يقطن البقاع الجليدية، في صخور أواسط أوروبا، ليوضح أن عصرًا جليديًّا قد عبر على تلك الأصقاع الشمالية خلال دورٍ ما، حدي بتلك الصور إلى المهاجرة إلى أواسط القارة الأوروبية.

والاستيطان، ظاهرة طبيعية لها أكبر العلاقة بحالات هذا السيار من حيث المناخ وتأثير الظواهر الجوية في مناطقه التي تقطنها الأحياء. والبحث في استيطان العضويات الحفرية ليكشف لنا عن أن المناطق التي تعمرها الحيوانات والنباتات في هذا العصر إلى درجة ما، هي نفس المناطق التي كانت تقطنها العضويات التي تقاربها نسبًا، في سلسلة النظام العضوي، والتي كانت تعمر الأرض خلال العصر الثالث. وأن الشواذ في هذه القاعدة يسيرة لا يعتدُّ بها، وأن الصور الحية خلال العصور الأولى كانت خاضعة لسنن الاستيطان التي تخضع لها العضويات التي تعمر الأرض في هذا الزمان.

نستدل على ذلك بأن البقاع التي يعمرها الآن صنوف من الحيوانات الخصيصة بها، كان يعمرها فيما مضى من الأجيال صور عضويات شبيهة بها كل الشبه. فإن بقايا ذوات الثدي والطيور والزواحف التي كانت تعمر أوروبا وآسيا وأستراليا وشمال أمريكا خلال الزمان الأول من العصر الجيولوجي الرابع قلما تفترق بشيء من الصفات التي تغاير صفات الصور التي تعمرها في هذا الزمان مغايرة ذات شأن كبير. وكذلك البقاع التي عمرتها ذوات الكيس Marsupials والحيوانات الدرداء Edentata قد اقتصرت على أستراليا وما يجاورها من الجزر وجنوب أمريكا، وظلت على ذلك حتى زمان قريب، أقربه الزمان الأول من العصر الجيولوجي الرابع، وأبعده آخر زمان من العصر الجيولوجي الثالث، وهو الزمان الذي اعتبرت من أجله آسيا وأوروبا وشمال أمريكا مهد الأصول العضوية الأولى التي تسلسلت عنها العضويات التي تعمر الآن النصف الشمالي من كرة الأرض.

على أنه من المتعذر أن نقف على ماهية الحالات الطبيعية التي تخضع لها الحيوانات والنباتات في العصور الحديثة كل منها بنسبة ما يعمره من البقاع، أو كما يقولون على حقيقة «تتابع الصور المتشابهة» من غير أن نعرف حالاتها الاستيطانية وتوزعها على بقاع الأرض خلال العصور الأولى. كذلك دراسة مناطق الأرض الطبيعية وحالات المناخ التي كانت تؤثر فيها، وتقسيم الأرض من يابس وماء خلال العصور الخوالي، مرهونة على دراسة الحفريات المستحجرة في بقاع مختلفة من الأرض.

الحفريات والانقلاب الجنيني

ينحصر الكلام في الانقلاب الجنيني كما رأينا من قبل في البحث في نشوء العضويات حيوانًا كانت أم نباتًا، وتاريخ تطورها الفردي خلال كل الانقلابات والأدوار التي تقع للفرد الواحد من ساعة التلقيح وبدء الحياة الفردية، حتى يبلغ الفرد النهاية بالموت والانتقال من هذه الحياة.

وعلماء الحيوان والنبات في هذا العصر مكبون على دراسة علم الانقلاب الجنيني لما لمباحثه من الشأن في علم التكوين العضوي — الحياة — عامة، والتقسيم الوضعي خاصة، وهو تقسيم صور العالم العضوي في مراتب حسب منازلها الطبيعية. ولم يكن لمباحث التقسيم الوضعي قبل عصر «كوفييه» من ضابط معين أو دستور محكم يتحداه الباحثون ويتخذونه قاعدة يبنون عليها أبحاثهم. ولقد وضع «كوفييه» و«أغاسيز» قواعد طبيعية في تقسيم العالم العضوي لا تخرج عن الالتجاء إلى المشابهات الظاهرة بين صور العضويات حيثما تشابهت على الباحثين مراتب الصور التي هم عاكفون على ترتيبها. ولا جرم تصبح كل التقاسيم المعول عليها في ترتيب العضويات اجتهادية صرفة في غالب الأمر، حيث يرجع الحكم فيها لمحض التجاريب الشخصية. ولكن علم الانقلاب الجنيني وضع لهذا الفرع من العلم أصولًا جامعة وقواعد راهنة، بها يستطاع تقسيم الصور العضوية تقسيمًا طبيعيًّا مبنيًّا على البحث في أجنة الصور المختلفة خلال تطورها في أدوار حياتها الأولى.

ولا مشاحة في أن تشابه أفراد الأنواع والأجناس التابعة لمجموع معين من العضويات في أول أطوارها الجنينية وتقلبها في صور متشابهة على وجه التقريب خلال نشوئها في أدوارها الأولية، وأجنة الحيوانات التابعة لمرتبة بعينها أو فصيلة بذاتها، حيث تمر في أدوار انقلابية متشابهة إلى حد محدود في زمان ما من أزمنة تكونها الأول، حتى لقد تكون في دور من تلك الأدوار الانقلابية متدانية الصورة جد التداني بحيث لا يمكن التفريق بينها، ليدل دلالة واضحة على ما بين تلك المراتب من لحمة النسب وروابط الاتصال، مهما بلغت فروق بعض أفرادها من بعض في حالة البلوغ شأنًا كبيرًا.

يدل على ذلك أن كثيرًا من الحشرات مثل السلكية الأرجل Cirripedes لا تتوالد إلَّا في بويضات، هي بذاتها التي تتولد منها غيرها من الحشرات مثل الذراعية الأرجل البراتشيو بودا Brachiopoda وغيرها، حتى عدها علماء الحيوان خطأ لأول عهدهم ببحثها في عداد الحيوانات الرخوة من ذوات الأصداف، مع أن أفراد هذه الحشرات تكون لدى البلوغ مختلفة تمام الاختلاف عن تلك. وكذلك ذوات الفقار فإن أجنتها على وجه عام تكون متشابهة خلال أدوارها الجنينية الأولى، ولا تأخذ طابعها القياسي وصفات مرتبتها الأصلية التي هي تابعة لها، إلَّا بعد زمان معلوم، ودور من الأيام.

على أن نواتج البحث في علم الانقلاب الجنيني لم تقتصر على ذلك، بل كان لها أكبر الأثر في توثيق علم الحفريات ونهوضه فإن كثيرًا من الحفريات التي وقف الباحثون على صفاتها، لتَشابه في بعض أوصافها عضويات حديثة في أزمنة تطورها الجنيني لدى مقارنة بعضها ببعض. والأمثال على ذلك عديدة نراها في ذوات الفقار ممثلة فيما تخلف عنها من الآثار في باطن الصخور؛ لأن هياكل ذوات الثدي غالبًا تتكون من عظام صلبة منذ أول نشأتها في الحياة، وبذلك يمكن المقارنة بين صور من ذوات الفقار لم تبلغ بعد درجة البلوغ، وصور حفرية من ذوات الفقار البالغة.

وقد يشتبه على بعض القراء كيف تصح المقارنة بين صورة حية غير بالغة من ذوات الثدي وأخرى بالغة في الحالة الحفرية. ولكن ذلك يمكن تقريبه من الأذهان، إذا عرفنا أن هذه المقارنة مقصورة على صور المراتب المتدانية اللحمة، الأسماك بالأسماك، والزواحف بالزواحف، وذوات الثدي بذوات الثدي. فإذا وقفنا على وجوه التشابه التي تقع بين هياكل أجنة ذوات الثدي التي تعمر الأرض الآن، وهياكل أسلافها التي عمرت الأرض خلال العصور الأولى، كان ذلك دليلًا على أن الصورة التي يشابه جنينها هيكلًا حفريًّا، لا بُدَّ من أن تكون في عصور تطورها الأول قد مرت على تلك الحالة التي يشابه جنينها فيها ذلك الهيكل الحفري، أو أن لها بها صلة من النسب على الأقل.

نقف لذلك على أمثال ننتزعها من المشاهدات التي نراها في كثير من بقايا الأسماك والزواحف الحفرية. فإن فقارها لا يبلغ حالة التعظم التام أبدًا، بل يظل غضروفي التكوين في أكثر الحالات، شأن كثير من أجنة الأسماك والزواحف التي درسها علماء الحفريات في كل دور من أدوارها الجنينية الأولى. وأمفيبيات العصر الجيولوجي الأول — أي الحيوانات البرية البحرية — كانت تتنفس في غالب الأمر بخياشيمها ورئاتها معًا طوال حياتها، على العكس من كثير من أمفيبيات هذا العصر، فإنها تفقد خياشيمها وشيكًا، وتتنفس برئاتها فقط. وفي جماجم كثير من الزواحف وذوات الثدي الأولى صفات تفقدها سلالتها الحديثة، بل إن جماجم كثير من تلك الحفريات لا تشابه جماجم الصور الحديثة إلَّا خلال دور أولي من أدوار الانقلاب الجنيني. والأمثال على ذلك في الحيوانات اللَّافقارية كثيرة نقتطعها من البحث في هياكلها المستحجرة.

ويوجد عدى ذلك حفريات تجمع بين صفات كثيرة لا يجمع بينها شيء من العضويات الحية في هذا الزمان، بل نراها موزعة بين صور شتى تتبع فصائل وأجناس متباينة. وما هذه الحفريات إلا الصور التي وقفت دون التغاير العضوي حيث أمعنت فيه سلالتها المشتقة منها. وتلك الحفريات «ذوات الصفات العامة» أو «الصفات المشتركة» كما يدعونها تسبق عادة ظهور الصور «ذوات الصفات الخاصة»، على أن الخصائص التي كانت موزعة في الصور القديمة، قلما تجتمع في أنواع أو أجناس أحدث منها وجودًا في عصر من العصور الجيولوجية. لذلك نرى أن أمفيبيات العصرين الأول والثاني من عصور التكوين الجيولوجي وزواحفهما وذوات الثدي التي ظهرت في أوائل العصر الثالث، جماعها من الصور «ذوات الصفات العامة» تلك الصفات التي اختصت بها أكثر صور العضويات فيما عقب ذلك من العصور.

ونرى في مراتب كثيرة من ذوات الفقار عامة، وذوات الثدي منها خاصة، مثل ذوات الأظلاف Ungulata والمفترسة Carnivora، أن تتابع صورها وتعاقب أجناسها في الظهور تدرجًا ذا أدوار متعاقبة، موافقة تمام الموافقة لتاريخ أعقابها التي خلفتها، حتى إن ملاحظة تطور الفرد منها في أدواره الجنينية قد أظهر أن لكل دور من هذه الأدوار التي يتقلب فيها الفرد حال تكونه الجنيني، صورة حفرية تماثله جد المماثلة. وهذه الحقيقة المشاهدة قد أيدت «سنة التوالد العضوي» Biogenic Iaw التي وضع لها كثير من الباحثين، مثل «جفروي سانتيلير» و«سيريز» و«ميكل» و«فرتيز موللر» مصطلحات شتى، وشرحها «هيكل» أخيرًا فقال: «إن تاريخ نماء الفرد والأدوار التي يتقلب فيها ليست إلَّا تاريخًا مقتضبًا يستعيد فيه الفرد مدارج النشوء والتطور التي تقلب فيها نوعه والشعبة العضوية التي هو تابع لها على مر ما خلى من العصور الجيولوجية الأولى.»

ومن ثم استبان للباحثين أن «سنة التوالد العضوي» هذه تصدق على الحيوانات اللَّافقارية وما يتبعها من الأصول المنقرضة، صدقها على ذوات الفقار. ثبت لهم ذلك من المقارنة بين كثير من الصور الحية والصور الحفرية التي عثروا عليها.

أما الصلات التي وقف عليها الطبيعيون بين «الأعضاء الأثرية» في عضويات تعيش اليوم، وبين أعضاء كانت ذوات شأن كبير في حياة كثير من الحفريات فمسألة من أكبر مباحث التاريخ الطبيعي خطرًا في هذا الزمان. قارنوا بين أعضاء عديدة في حيوانات بائدة، كبعض الأطراف وأعضاء الحس والتنفس والهضم والتناسل، فعرفوا أن هذه الأعضاء على ما كان فيها من النفع لتلك الصور البائدة، قد فقدها أغلب أعقابها التي تعيش في هذا الزمان ولم يصبح لها من فائدة في مطالب حياتها وحاجياتها التي تقوم بحفظ كيانها. ومن هنا ومن المقارنة بين صور عديدة من الطيور البائدة والطيور الحية قد أثبتوا أن «الأعضاء الأثرية» كثيرة الذيوع والانتشار في صور من الطير تعمر الأرض الآن.

على أن «سنة التوالد العضوي» طالما يستبهم علينا أمرها في بعض الحالات. فقد نرى أن أجنة صورتين من العضويات قد تتخذ كل منها طريقًا مخالفًا لطريق الأخرى. وتعليل ذلك معروف. فإن أجنة بعضها قد تساق بتأثير ظروف خاصة غير قياسية إلى اجتياز أدوار من الانقلاب الجنيني تعدوها إلى غيرها من غير أن تتشكل بها. وهذه الحالات المبهمة قد تدفع بالباحثين إلى التطوح في الحيرة، وهي لا تخرج عن كونها حالات طبيعية صرفة خاضعة لمؤثرات عامة لا نستبينها.

تسلسل الأنواع

كما أن علماء الحياة قد استطاعوا بمباحث التكوين الجنيني أن يقفوا على تلك الأدوار الانقلابية التي تقع على كل «فرد» من أفراد الحيوانات والنباتات، ونمائه ونشوئه العضوي، كذلك استطاعوا بالبحث في الحفريات أن يقفوا على حلقات تسلسل كل «نوع» من أنواع المملكتين الحيوانية والنباتية عامة، ودعموا مباحثهم على تتابع وجودها وتدرج حدوثها في الطبيعة، مستندين في كل ذلك على تلك الحقائق التي استنبطوها من البحث في الحفريات. وقد مكنتهم تلك المباحث من تطبيق نظرية النشوء على الأحياء التي تعمر الأرض، بما شاهدوا من تدرج وجود العضويات المنقرضة في غابر الأزمان، وبما عرفوا من بقاياها المستحجرة في طبقات الأرض المتعاقبة في سطح هذا السيار.

يدل علم الجيولوجيا على أن الحيوانات والنباتات التي توجد بقاياها المستحجرة ضمن صخور رتبة واحدة تكون متشابهة، متقاربة الأوصاف، متدانية اللحمة. ويحدث أن كثيرًا من بقايا الأجناس قد توجد في طبقة معينة من طبقات الأرض، ثم يعثر على بقاياها في طبقات الرتبة التي تليها، من غير أن نلحظ بين البقايا التي يعثر عليها في كلتا الطبقتين أي تغاير أو اختلاف ما. يدل ذلك على أن سنن النشوء التدرجي قد تمضي مؤثرة في بعض الصور الحية فتغير من أوصافها خلال أزمان لا يمكن تحديدها، وقد يقصر تأثيرها عصورًا دون التغيير في أجناس مخصوصة نعثر على بقاياها في طبقتين معينتين من طبقات الأرض. ونستدل من أوجه الشبه الكائنة بين تلك الصور الممعنة في تغاير الصفات، وبين الأجناس التي وقفت دونه؛ على أن تلك الصور ليست إلَّا أعقاب تلك الأجناس التي نلحظ بقاياها حشو النظام الحفري في كثير من الطبقات.

وعلى الرغم مما ينقصنا من مواد النظر التي تمكننا من البحث في الحفريات بحثًا به نستطيع أن نحيط بتاريخ العضويات الحفرية، بحيث يصح النظر فيها صحته في فروع كثيرة من العلوم الطبيعية الأخر، فإن وقوف الباحثين علي كثير من «الحلقات الوسطى» التي تربط بين كثير من الصور الحفرية قد وثق لهم من ذلك العلم، علم النشوء الحديث وتسلسل العضويات بعضها من بعض على مر العصور البارحة. وما تلك «الحلقات الوسطى» إلَّا صور عضوية توجد بقاياها في طبقات معينة وتتوسط أوصافها بين صورتين من الصور، بحيث لا يترك بحثها مجالًا للريب في ارتباط نسبها بتينكما الصورتين التي تتوسط بينهما. وقد توجد تلك الحلقات على حال من المشابهة بحيث لا يستطيع الباحث أن يفرق بينها وبين الصور التي تربطها، إلَّا في اعتبارات عرضية صرفة، لا يتيسر أن تلحق في طبيعتها بالتغايرات الصحيحة. ولكن إذا تتبعنا سلسلة من تلك السلاسل التي تربط بين نوعين كبيرين أو جنسين ضخمين، فإننا نجد أن طرفي السلسلة مختلفان جد الاختلاف، على الرغم من تشابه حلقاتها. وأكثر ما تشاهد هذه الظاهرة في الحيوانات التي يهيئ لها تركيبها العضوي سبيل الاحتفاظ بكيانها خلال تحجر هياكلها في باطن الأرض مثل المساكن الصدفية والمرجان وذوات الفقار. فإن حلقات الاتصال بين ذوات الفقار أجلي ظهروًا منها بين اللَّافقاريات، حتى إن الباحثين لم يجدوا من مندوحة، لدى النظر في ترتيب أجناسها وأنواعها، من تتبع سلسلة أنسابها وصورها المتعاقبة، ليستخلصوا من البحث فيها مشاهدات تمكنهم من ترتيب صورها المختلفة التي يعثرون على بقاياها الحفرية.

وكلما تعمق الناظرون في الحفريات في أبحاثهم، وهيأت لهم الفرص سبيل العثور على كتير من بقايا الحيوانات الحفرية، ازدادت معرفتهم بالحلقات التي تربط بين الأنواع، وتثبت تسلسلها بعضها من بعض على مر العصور.

ولا تنحصر نتيجة علمنا بالحلقات التي تربط بين الأنواع عند هذا الحد. فإن تعمقنا في البحث ووقوفنا على الحلقات التي توجد بين الأنواع، يجعل تحديدنا للأنواع وتعريفنا لكلمة «نوع» أكثر صعوبة وأبعد عن متناول البحث.

ولقد ظلت المدرسة القديمة التي أقامها «لينيوس» و«كوفييه» متابعة لرأي بعض الباحثين في القرون الوسطى. كانت تقول بأن كل نوع من الأنواع قد خلق ووضع على سطح كرة الأرض وفيه خواص وصفات ثابتة لا يشاركه فيها نوع آخر من الأنواع. بذلك أمكنهم أن يضعوا تعاريف لكل قسم من الأقسام التي اصطلحوا عليها في تقسيم عالمي الحيوان والنبات، وظل الناس على هذا الاعتقاد عاكفين حتى ظهرت المدرسة الداروينية، مدرسة النشوء الحديث، وقال زعماؤها بأن التقاسيم المعول عليها في علمي الحيوان والنبات، وكل المصطلحات الموضوعة مثل تنوع أو نويع، ونوع وجنيس وجنس، وأسرة وأسيرة، وفصيلة ومرتبة، تقاسيم اجتهادية صرفة، اضطر الباحثون إلى وضعها تقريبًا لمباحث العلوم الحيوانية والنباتية من العقول، وأن لا فرق في الحقيقة بين هذه المسميات إلَّا في الظاهر، مثلهم في ذلك كمثل الباحثين في علوم الطبيعة، قسموا القوى والمادة إلى أقسام وصرفوا عليها أسماء، يدل كل منها على ظاهرة تعود بكلياتها إلى أصل واحد منه اشتقت وإليه تعود. ومعتقدهم الثابت أن كل تلك الصور التي نراها حشو الطبيعة، والتي يصرفون عليها تلك الأسماء الاصطلاحية، قد نشأت من جرثومة أولية واحدة بلغت بالنشوء التدرجي على مر أزمان لا نحصيها هذه الحالة التي نرى عليها عالم الحياة في شكله الحاضر.

ذلك فرق من الفروق الجلية التي تقع بين المدرستين القديمة والحديثة في علم الحياة، يتبعه فرق آخر لا يقل عنه شأنًا ولا ينزل مكانة.

كان من معتقدات المدرسة التي أنشأها «لينيوس» و«كوفييه»، القول بأن الأنواع مكونة من أفراد بعضها متسلسل من بعض تسلسلًا مباشرًا، أو بالأحرى من أصول أولية عامة تشابه أعقابها مشابهتها بعضها لبعض. وأن الأفراد التي تكون كل نوع قد تتوالد بالتزاوج، ولكن أفراد الأنواع المتباينة لا يتلاقح بعضها وبعض، وإن تلاقحت وأنتجت كان نتاجها عقيمًا لا يلد، أو تقل غريزة الإنتاج فيه إلى حد بعيد، قد يتعذر معه الإنتاج الصحيح.

أما زعماء مذهب النشوء الحديث فقد أثبتوا أن لا فرق في الواقع بين الأنواع وأن الأفراد التي تلحق بنوع من الأنواع هي التي تشابه ذلك النوع في كثير من الأوصاف العامة الثابتة في تضاعيف فطرته، ولا صلة لها بشيء من جموع الصور العضوية التي تقارب ذلك النوع، ولا تربطها بتلك الجموع حلقات وسطى. ولا جرم أن هذا التعريف غير موثق الحدود، وفيه مجال واسع للبحث والمقارنة والاستنتاج، غير أنه لا محالة مؤدٍ بالباحثين إلى حرية الفكر وعدم التقيد بحدود موضوعة لدى البحث في مسألة لا حدود لها في الواقع. ذلك لأن تسلسل الأفراد التابعة لنوع من الأنواع لا يمكن أن نحدها دائمًا في العالم الحي، كما أننا لا نستطيع حدها في الحفريات مطلقًا، بحدود تتناولها المباحث التجريبية، وبرهان ذلك أن الباحثين في تقسيم العالم الحي قلما يتفقون على تلك الحدود التي يريدون أن يعينوها للأنواع والأجناس والأسر والفصائل إلى غير ذلك.

•••

بان لنا من قبل أن نظرية النكبات الجيولوجية التي أيدها «كوفييه»، ونقضها الباحثون في أوائل القرن الماضي، كان لها أكبر الأثر في القضاء على مذاهب النشوء جمعاء قبل ظهور السير «شارلز ليل» الذي أثبت أن تاريخ الأرض الطبيعي يدل على تكون طبقاتها خلال عصور غير متناهية في القدم ولا يعرف مداها إلَّا حدسًا، وأن تكونها قد حدث تدرجًا، وأنها مضت متنقلة في أدوار من النشوء الطبيعي على مر تلك الأزمان، وأن حدوث ذلك النشوء كان بطيئًا جهد البطء، وقال بأن طبقات الأرض، إن كانت في الحقيقة مميزة بكثير من الفروق المشاهدة، إلَّا أن بينها كثيرًا من درجات الانتقال تجعل بين كل طبقة وأخرى صلة لا يمكن فصمها في حالة من الحالات.

على أن مذهب النشوء وتسلسل الأحياء من أصل واحد، ذلك المذهب الذي بدأ «وولف» عام ١٧٥٩ ببحثه في الانقلاب الجنيني، وعاود البحث فيه «لامارك» عام ١٨٠٩، وأتمه «داروين» عام ١٨٥٩ بكتابه أصل الأنواع، لم يقتصر على البحث فيه هؤلاء الفحول الثلاثة دون غيرهم، فقد كان له من مباحث «دي كاندول» و«جفروي سانتيلير» في فرنسا، و«ليل» و«هكسلي» و«وولاس» في إنجلترا، و«جوته» و«أوكن» و«ميكل» في ألمانيا، أكبر نصير وأعظم عضد، حيث أزاحت مباحثهم كثيرًا من تلك الحجب التي كانت تعمى على عقول طلاب العالم في ذلك العصر، وحمل هؤلاء وتلاميذهم من بعدهم على مذهب النكبات فقوضوا أركانه ودحضوا براهينه بمشاهدات طبيعية صرفة. وذلك ما مهد لكتاب «أصل الأنواع» سبيل الذيوع والانتشار في أواسط القرن الفارط، وذلك المجهود الكبير هو الذي جنى من بعد ثماره العلامة «داروين».

ولقد كان لنقض مذهب النكبات أثر كبير في علم الحفريات. فإن هذا العلم من أكبر أنصار مذهب النشوء العضوي وتسلسل بعض الأحياء من بعض. وطالما قعد مذهب النكبات بالباحثين، كما رأينا من قبل، دون النظر في تلك الحقائق التي استمد منها الباحثون في النشوء مبادئهم التي يقوم عليها المذهب من هذا العصر. فالوقوف على تلك الحلقات الحفرية التي كانت تربط بين كثير من الأنواع المنقرضة وتتابع وجودها في طبقات الأرض، ووجود تلك الأصول العليا التي تسلسل منها كثير من الصور، والتوافق بين تسلسل الأفراد وتبعيتها لصور حفرية عثروا عليها، وتشابه الحيوانات والنباتات التي كانت تعمر الأرض خلال كل عصر من العصور التي تكونت فيها طبقاتها، والتبادل الاستيطاني بين كثير من الصور المنقرضة والصور الحية في هذا الزمان، إلى غير ذلك من الحقائق التي كشفت لهم جماع هذه البراهين التي تعتبر الآن من مقومات مذهب النشوء، لم ينصرف الباحثون إلى النظر فيها إلَّا بعد أن نقض مذهب النكبات في أوائل القرن الماضي.

وكان «لامارك» يرجع أسباب التغاير إلى الاستعمال والإغفال أولًا، وإلى اختلاف المناخ وتأثير الحالات الخارجية في الأحياء ثانيًا، وإلى استعداد العضويات للتغاير الطبيعي ثالثًا. ومن ينظر في هذه الأسباب يجد أنها لا تؤدي بالطبع إلى توارث الصفات التي قد تنالها العضويات بالتغاير، وانتقالها منها إلى أعقابها. ويتبع ذلك أن هذه الصفات التي تحدث في صور العضويات أو جمع من الأفراد، لا يمكن أن تثبت في طبائع الجموع المختلفة. ولقد تابع «جفروي سانتيلير» زميله «لامارك» في ذلك، ولكنه جعل لتأثير البيئة أكبر الأثر في تغاير الأنواع.

أما المذهب الدارويني الحديث في النشوء فعمدته على قاعدة الانتخاب الطبيعي، تلك السنة المؤثرة التي تعود نتائجها إلى الاحتفاظ بالتغايرات التي تحدث في العضويات وتكون ذات فائدة لها واستجماعها وتثبيتها في طبائع الصور الحية.

ولقد تسوقنا طبيعة البحث إلى الكلام في بعض مقومات المذهب الدارويني، ثم نعقب على ذلك بالمبادئ التي وضعها الباحثون من بعده مثل «ويزمان» و«دي فريس» و«بووار» و«أوتيمان» و«غوليك» وغيرهم.

عرفنا من خمسة الفصول الأولى التي نشرناها في المجلد الأول من «أصل الأنواع» من الترجمة العربية أن كفاءة الأحياء لتحمل أعاصير الطبيعة المحيطة بها، وحدوث تلك الكفاية في طبائعها، وتقلبها في وجوه من النشوء والتطور حتى تحوز تلك الكفاءة، هي في الحقيقة المبادئ الأولية في المذهب الدارويني الحديث. وعلمنا أن التناحر على البقاء قاعدة دائبة التأثير في العضويات من نتائجها الاحتفاظ بالتولدات ذوات الكفاءة التامة بين الجموع المختلفة، وأن الطبيعة مسوقة إلى مضاعفة عدد الأفراد التي تكون حائزة لأرقى التغايرات وأجمها للأحياء نفعًا في حياتها الطبيعية. ومن طريق الاستجماع، استجماع التغايرات الوصفية المفيدة للعضويات وانتقالها بالوراثة من الآباء إلى الأبناء، تتكون التنوعات أولًا من طريق امتيازها بتلك الصفات الجديدة، ومن ثمة تحدث الأنواع والأجناس والفصائل والمراتب إلى غير ذلك. ولذا كانت التقاسيم المعول عليها في مباحث علمي النبات والحيوان، ليست عند «داروين»، إلا تعبيرات يفصح من طريقها عن السلسلة النسبية التي تربط بين العضويات، قاعدتها الوقوف على حقيقة الروابط التي كانت تربط بين الصور المختلفة في العصور الغابرة، وتوحد بين الصور التي تعمر الأرض في هذا الزمان.

ولقد لاقى مذهب «داروين» لأول عهده بالذيوع أنصارًا من كبار العلماء وفطاحل المفكرين قبلوا نظريته في نشوء الأنواع، تلك التي دعمها على أساس «اللَّاماركية» مضافًا إليها مذهبه في الانتخاب الطبيعي والتناحر على البقاء من هؤلاء «وولاس»، و«هكسلي» و«هيكل» وغيرهم. ولكن هذا المذهب على ما كان له في ذلك الحين من الشأن، وعلى تطوع هؤلاء الباحثين للدفاع عنه، لم يعدم المعارضين، شأن المذاهب الحديثة علمية وفلسفية واجتماعية، وكان ذلك دليلًا على ما فيه من عناصر القوة والحياة.

وكان من هؤلاء المعارضين عالم كبير وجهبذ محقق هو «موريتز فجنر» مذهبه أن حرية التلاقح بين صنوف العضويات المختلفة — أي تزاوج بعضها من بعض وإنتاجها من طريق هذا التزاوج خلقًا ينزع لأبويه — أكبر عقبة تحول دون حدوث تغايرات وصفية طارئة على صور العضويات، وأن انفراد جمع من الأفراد وانقطاعه في بقعة غير معمورة، مؤثر ضروري لإحداث التنوعات والأنواع. وقال بأن انقطاع جمع من الأفراد على هذه الصورة التي تصورها، أمر كثير الوقوع لدى الهجرة من بقعة إلى أخرى من بقاع الأرض.

ولقد اتخذت فئة تلك القاعدة التي وضعها «فجنر» في التفرد والانقطاع ذريعة لمناوأة مذهب «داروين» في الانتخاب الطبيعي منهم «نايجيلي» و«برون» حتى قال كثيرون ممن تابعهم في الرأي إن كثيرًا من الأعضاء ليست بذات فائدة للعضويات. وبذلك لا يتسنى أن يكون الانتخاب الطبيعي الذي ترجع تأثيراته في مجموعها إلى الاحتفاظ بالتغايرات ذوات الفائدة، السبب الذي أحدث تلك الأعضاء المعدومة النفع، أو أنه لم يستطع على الأقل أن يهذب من أوصاف تلك الأعضاء تهذيبًا يجعلها ذات نفع للأحياء.

قال «نايجيلي»: «إن الانتخاب الطبيعي يجب أن يقترن بميل غريزي في الأحياء يسوقها دائمًا نحو الوصول إلى درجة من الكمال، وأن هذا الميل مؤصل في فطرة كل فرد من أفراد العضويات، وأن له أكبر الأثر في الحكم على نماء الصفات الآلية، وأن كل تغاير، سواء أرجع سببه إلى ظروف خارجية أم غير خارجية، فطبيعته لا محالة عائدة إلى «التغاير العضوي المعروف في علم وظائف الأعضاء، وأن هذا التغاير العضوي ليس إلَّا خطوة تخطوها العضويات في سبيل تقسيم العمل على أعضاء الجسم حسب وظائفها العضوية. وذلك تهذيب في طبائع الصور الحية تناله من طريق فسيولوجي صرف بعيد عما يعزوه «داروين» إليه من الأسباب.»

على أن العلامة «داروين» لم يفته أن ينظر نظرة نقد في مذهب «موريتز فجنر» وفكرة «نايجيلي» فأيد مذهب أن الانفراد وانقطاع البقاع عن المعمور من الأرض مؤثر في إحداث الأنواع، ولكن لا بُدَّ من أن يقترن تأثيره بتأثير الانتخاب الطبيعي. بيد أنه نفى أن لتطاول الأعصار أثرًا في تكوين الأنواع على قاعدة أن صور الأحياء كانت ممعنة في سبيل تغاير الصفات بتأثير طبيعة ثابتة مؤصلة في تضاعيف فطرتها.

قال ردًّا على العلامة «فجنر» في الفصل الرابع من كتابه «أصل الأنواع» ص٢١٨ و٢١٩ من الترجمة العربية طبعة أولى ما يلي: «كذلك لا يجدر بنا أن ننسى أن الانفراد وانقطاع البقاع عن المعمور من الأرض، عامل ذو شأن في تغاير صفات الأنواع بتأثير الانتخاب الطبيعي. نرى في البقاع المنفردة النائية، إذا لم تكن متسعة مترامية الأطراف، أن حالات الحياة العضوية وغير العضوية، تكون على وجه عام متعادلة بعيدة عن الانحراف، فيساق الانتخاب الطبيعي إذ ذاك إلى تغيير صفات الأفراد، أفراد النوع الواحد، إذ تمضي ممعنة في سبيل التهذيب والارتقاء على نمط واحد ودرجة معينة. والانفراد والعزلة، على ما مر ذكره، يمتنع معهما على الأفراد أن تتلاقح وتخالط بقية الكائنات القاطنة بأقاليم أخر. ولقد وضع «مورينز فجنر» رسالة قيمة في هذا المقصد طبعت أخيرًا، أظهر فيها أن التأثير الذي يحدثه الانفراد والعزلة عن بقية أطراف المعمورة — كالجزائر النائية والبقاع المحدودة بتخوم طبيعية يتعذر اجتيازها، أو الخصيصة بحالات حياة يغلب فيها الانحراف — لا يقف عند الحد الذي سبق إليه حدسي في التلاقح والتخالط بين أفراد التنوعات الناشئة في الطبيعة لعهد قريب، بل يتخطى أثره تلك الحدود التي ظننت أنها المدى الأخير لما يمكن أن تبلغ إليه من التأثير في طبائع الكائنات. غير أني لا أتفق مع هذا الطبيعي إذ يعتبر أن مهاجرة الكائنات الحية من جهة، أو أن انقطاعها عن المعمور من البقاع من جهة أخرى، مؤثران ضروريان لتكوين الأنواع المستحدثة، لما أن ذلك يناقض كثيرًا من الاعتبارات الثابتة. ورأيي الذي لن أتبدل به رأيًا آخر، أن تأثير الانفراد لا يعظم شأنه، ولا يشتد خطره، إلَّا حيثما يطرأ تغاير طبيعي في الحالات الظاهرة المحيطة بالأحياء، كالمناخ أو ارتفاع الأرض وانخفاضها أو غير ذلك، إذ يحول بعد الشقة وانقطاع الأسباب دون مهاجرة العضويات التي هي أكثر مناسبة لطبيعة مواطنيها من غيرها، فيبقى في نظام الكائنات العام في ذلك الإقليم مراتب خالية تحتلها على مدى الأزمان صور الأحياء الخصيصة بذلك الإقليم بمضيها متدرجة في تغاير الصفات. ولا مشاحة في أن انقطاع البقاع عن المعمور في بعض الأحيان يكون ذا شأن كبير في تهذيب التنوعات تهذيبًا بطيئًا على مر الأجيال، وقد يكون ذلك وقتًا ما في الغاية القصوى من الشأن والخطر. فإذا فرضنا وجود بقعة صغيرة المساحة من البقاع النائية المنقطعة الأسباب، إما لإحاطة الحواجز الطبيعية بتخومها، وإما لاختصاصها بحالات طبيعية شاذة غير مألوفة، نجد أن عدد الأحياء الآهلة بها قليل. وهذه الظروف بالطبع تؤجل حدوث الأنواع الجديدة بالانتخاب الطبيعي أزمانًا متطاولة، إذ تنقص معها مهيئات تلك القوة الطبيعية التي تحدث التغايرات المفيدة للكائنات في حالات حياتها.»

وقال ردًّا على العلامة «نايجيلي» ص٢١٩ من الترجمة العربية طبعة أولى ما يلي: «إن كر الإصباح ومر العشي، ومضي الأزمان المتتابعة وحده لا يحدث في الانتخاب الطبيعي أثرًا ما إيجابًا أو سلبًا. ولقد اضطررت إلى التكلم من هذا المبحث لأن بعض الطبيعيين أيقن خطأ بأني أعتقد أن لمضي الأزمان وترادف الأعصار، الأثر الكلي والجولة الواسعة في تغيير صفات الأنواع، على قاعدة أن صور الأحياء عامتها كانت ممعنة في تغاير الصفات بتأثير سنة طبيعية مؤصلة في تضاعيف فطرتها. بَيْدَ أن مضي الأعصار وتلاحق الدهور لا يتعدى تأثيره تهيئة الظروف لظهور التغايرات المفيدة للكائنات وانتخابها انتخابًا طبيعيًّا، واستجماعها ثم تثبيتها في طبائع الصور العضوية. ولا جرم أن لذلك أثرًا بينًا، غير أنه بعيد عما يتوهمون. كذلك بعد مضي الوقت طبائع الكائنات من حيث تركيبها الآلي، لقبول تأثير الحياة الطبيعية قبولًا مباشرًا.»

ثم قال في ص٢٢٠: «فإذا رجعنا إلى الطبيعة لنعرف مبلغ هذه الاعتبارات من الصحة وانطباقها على الواقع، ونظرنا في أية بقعة من البقاع صغيرة المساحة كجزيرة من الجزائر التي لفظتها الطبيعة في جوف محيط زاخر، تبين أنه إن كان عدد الأنواع الآهلة بها صغيرًا، كان جلها من الأنواع المستحدثة في تلك البقعة، الخصيصة بها دون بقية البقاع. من هنا يظهر للباحث لأول عهده بالبحث أن هذه الجزيرة مهيأة تمام التهيؤ لإحداث الأنواع. غير أننا كثيرًا ما نخدع أنفسنا؛ لأننا إذا أردنا أن نبحث عن أي البقاع أكثر إنتاجًا لصور الأحياء العضوية واستحداثها، أهي تلك البقاع الصغيرة المنعزلة عن المعمور من الأرض، أم القارات المتسعة المترامية، لزمنا أن نقصر المقارنة على ما استغرقه تكوين تلك الأنواع من الزمان في كلتا البقعتين. هذا ما ليس في استطاعتنا أن نصل إليه.»

على أنك تستبين من التعمق في بحث كتاب أصل الأنواع أن لداروين مذهبًا خاصًّا يناقض كلا من مذهب «فجنر» و«نايجيلي» في أي البقاع أكثر استحداثًا للأنواع. فإنه إن كان يؤمن أن للانفراد والعزلة أثر في تكوينها، إلَّا أنه يعتقد أن ذلك الأثر يكون معدوم القيمة إن لم يدركه الانتخاب الطبيعي بقوته ويزكيه بعنصره. وهو يعتقد أن لاتساع المساحة التي تقطنها صور الأحياء أثر في استحداث الأنواع أبلغ من أثر الانقطاع والعزلة. على أنه لا يؤمن أن لهذه المؤثرات الجزئية من قوة إلا من طريق التضايف بما لمبدأ الانتخاب الطبيعي من أثر في تكوين الصور الحية. ولذلك يقول ص٢٢٠ ف ٤ ما يلي: «وانقطاع البقاع عن المعمور إن كان ذا شأن كبير في استحداث أنواع جديدة، فإني مسوق إلى الاعتقاد بأن اتساع المساحة التي تقطن بها الأنواع أكبر شأنًا وأبعد خطرًا، لا سيما في استحداث أنواع أكثر قدرة على البقاء أجيالًا طويلة متعاقبة، والانتشار انتشارًا كبيرًا ضاربة فيما يجاورها من البقاع. واتساع تلك المساحة التي تأهل بها الأنواع وسهولة اجتياز تخومها الطبيعية، لا يقتصر تأثيره على تهيئة الظروف التي تنتج التغايرات المفيدة المستحدثة في الأنواع بتأثير ائتلاف عدد عظيم من أفراد النوع الواحد في بقعة معينة تلائمها الحالات الطبيعية فيها، بل إن حالات الحياة ذاتها تكون إذ ذاك مختلطة الاطراف مشتبكة الحلقات، وفاق ما تنتجه كثرة عدد الأفراد التابعة لأنواع شتى في بقعة ما. فإذا وقع لعدد معين من الأنواع التي تأهل بها تلك الأرض تغاير مفيد لها أو تهذيب في صفاتها، يكسبانهم قوة جديدة، فإن الأنواع الأخر يجب أن تتغاير تغايرًا يعادل كمه وكيفه ما طرأ على الآخرين، وإلَّا فالانقراض نصيبها الأرقى.»

على أن من ينظر نظرة بتأمل في هذه النظريات ليعلم أن هذين الجهبذين لا يختلفان مع «داروين» في النتائج، بل كل الاختلاف بينهما وبينه محصور في الأسباب التي يعزو إليها كل منهم أسباب التغاير وآثارها. وإنا لنترك لنايجيلي رأيه في التغاير من ذلك الطريق الفسيولوجي الصرف. ولكن ذلك لا يحول دون التنبيه على أن في القول بأن الانتخاب الطبيعي لا يمكن أن يفقد بعض الأعضاء فائدتها للأحياء بعد أن كانت ذات فائدة، كما يقول «برون» غفلة عمَّا قال به «داروين» في هذه «الأعضاء الأثرية» وقد اتخذها دليلًا على إثبات مذهبه وعزاها إلى الاستعمال والإغفال، حتى قال في الفصل الخامس من كتابه «أصل الأنواع» أن الانتخاب الطبيعي قد يعضد سنة الإغفال في الذهاب بتلك الأعضاء. جاء في ذلك الفصل ص٢٦٨ من الطبعة الأولى العربية ما يلي: «والحشرات التي لا تقتات بمواد الأرض في جزر «الماديرا» مثل ذوات الأجنحة المغلفة وذوات الأجنحة القشرية، والتي تغتذي بالأزهار، تكثر من استعمال أجنحتها في كسب أرزاقها فلا تكون أجنحتها بتراء، بل على العكس من ذلك تكون نامية كبيرة كما قال مستر «وولاستون». تلك حقيقة تؤيد مذهب الانتخاب الطبيعي بما لا يترك للريب مجالًا. فإن أية حشرة لدى أول عهدها باستعمار تلك الجزر، يمضي الانتخاب الطبيعي مؤثرًا فيها، فيعمل على نماء أجنحتها أو إضعافها، وبقدر ما يكون لعديدها الأوفر من القدرة على مجالدة الرياح أو قصورها عن مقاومتها، يكون تأثير الانتخاب الطبيعي في العمل على نماء الأجنحة أو إضعافها، فيقل طيرانها أو تتركه البتة، حتى تفقد تلك الملكة بمهيئاتها. كما هي الحال في رجال سفينة حطمها النوء على شاطئ مهجور، فمن أحسن السباحة منهم، كانت متابعته السبح حتى يبلغ اليابسة أرجح له من البقاء فوق حطام السفينة، ومن لم يحسنها منهم كان بقاؤه على ظهر السفين المحطوم أرجح له من السباحة، حيث تتلقفه الأمواج.»

ثم قال من بعد ذلك في الفصل عينه: «والخلد وبعض الحيوانات القارضة التي تتخذ من الجحور بيوتًا فتحات عيونها أثرية الاتساع، وقد تكون في بعض الحالات مكسوة بطبقة من البشرة أو الفرو. تلك حال قد تعود إلى الإغفال وعدم استعمال تلك الأعضاء. والراجح استدراكًا أن يكون للانتخاب الطبيعي، قسط في إحداثها. وفي جنوب أمريكا حيوان حفار من مرتبة القوارض يقال له «التوكو توكو» Tuko-Tuko عادته في اتخاذ باطن الأرض سكنًا أثبت من عادة الخلد، وأخبرني بعض الإسبانيين الذين اعتادوا صيده أن الغالب في هذا الحيوان أن يكون فاقد البصر، فاحتفظت بفرد منه وتبينت بعد تشريح العين تشريحًا شطريًّا، أن سبب العمى التهاب في غشاء العين الحاجب. وإذ كانت الالتهابات التي تصيب العين من أكبر الأخطار الوبائية التي تعرض للحيوانات في حالات حياتها، وكانت أعضاء البصر ليست بذات قيمة محسوسة أو فائدة للحيوانات التي تتخذ من باطن الأرض بيوتًا، احتمل أن يكون تلاحم الأجفان ونماء الفرو عليها، ذا فائدة في مثل هذه الحالات، وهنالك يعضد الانتخاب الطبيعي مؤثرات الإغفال في إبراز نتائجها.»

ذلك ما قال به «داروين» في أصل الأنواع، وذلك ما يعلل به وجود تلك الأعضاء المعدومة المنفعة التي يتخذها «برون» ذريعة لنقض سنة الانتخاب الطبيعي. في حين أن «داروين» نفسه يعزو وجود تلك الأعضاء لهذه السنة نفسها. وهذا أبعد ما وقفنا عليه من التناقض في أقوال الباحثين في هذا المذهب.

•••

ولقد حاول «ويزمان» من بعد ذلك أن ينقص من شأن الانتخاب الطبيعي بنظرية وضعها وقصرها على القول بأن «البلاسما الجرثومية» The Germ-Plasm أي المادة الجرثومية الحية، في قدرتها الذاتية أن تحدث كل التغايرات المفيدة لصورة ما من صور العضويات. وتأثير الانتخاب الطبيعي على مذهب «ويزمان» محصور فيما ينتج في المادة الجرثومية أو عناصر الإنتاج من مهيئات التغاير التي تنتقل إلى الأفراد البالغة انتقال الآثار العضوية التي تكون في الجنين إلى الأفراد حال بلوغها. وباستمرار تلك الحال، حال انتقال الأوصاف من عناصر الآباء الجرثومية إلى أعقابها وتهذيبها من بعد بالانتخاب الطبيعي، تتكون الصور العضوية المختلفة، وأن ذلك كل ما يعني بمذهب النشوء والتسلسل في معتقده.
ولم يجعل «ويزمان» لأثر الحالات الخارجية المحيطة بالأحياء، لدى أول عهده بالبحث، شأن يذكر في إحداث التغايرات، وأنكر ما يعزى إلى سنن الوراثة من التأثير في إحداثها. ولكنه عدل عن ذلك فيما بعد، إذ قضى بأن التغايرات العرضية التي يرجع حدوثها إلى مؤثرات البيئة قد تتنقل إلى الأعقاب. وحاول أن يفصح عن ذلك مستهديًا بنظريته الأصلية في «البلاسما الجرثومية» متابعًا في ذلك المدرسة «اللَّاماركية» الحديثة Neo Lamarckian School التي قال بمبادئها «هربرت سبنسر» و«كوب» و«هيات» و«أوزبون» و«سيمبر» و«رو» وغيرهم، وهي المدرسة التي ترجع بأسباب التغاير شيئًا فشيئًا إلى نظريات «لامارك» وتعزو إلى الاستعمال والإغفال وأثر الحالات الخارجية المحيطة بالأحياء أكبر الأثر في تغاير العضويات. ولقد حاول رجال هذه المدرسة إثبات تأثير الحالات الخارجية في الحيوانات الرخوة فوصلوا إلى إثبات تأثيرها في كثير من الحالات، وقالوا بأن زيادة الغذاء والمران تزيدان نماء أي عضو من الأعضاء، بينما تحدد المؤثرات الطبيعية المحيطة به شكله الذي يجب أن يتشكل به. وحيث إن الأسباب المشابهة تحدث نتائج متشابهة في العالمين الحي وغير الحي، لذلك كان من البين أن الأعضاء المتشابهة يجب أن تنشأ في كثير من صور الحيوانات والنباتات المختلفة أينما تعرضت جماعها لتأثير حالات واحدة، لا سيما إذا أثرت فيها مؤثرات طبيعية معينة.
على أنه يعوزنا في هذه الحال أن نبحث عما يفصح لنا عن حقيقة سنة «التعادل» — أي وجود أعضاء متقابلة في صور مختلفة — تلك السنة التي لا نستطيع أن نجد في الوقت الحاضر من سنن الوراثة التي نعرفها ما يكشف لنا عن كنهها. وكثيرًا ما يحدث أن صورتين مختلفتي الأصل تمامًا قد تحوزان شكلًا واحدًا في الظاهر، أو أن الطبيعة قد تهيئ كلتاهما بأعضاء متناظرة فيهما. ففي ضروب من الأسماك مثلً كثير من الأعضاء المتناظرة، كأعضاء السبح في صنوف من الأسماك العادية والحيتان. ونجد أعضاء متشابهة في أطراف الحيوانات المجترة الطويلة السوق، وغيرها مثل الحصان والفيل والحيوانات المفترسة، جماعها ترجع إلى تأثير الحالات الخارجية والاستعمال. غير أن «كوب» لم يبلغ من البحث في سنة «التحول العضوي» Kinetogenesis — ويقصد بها تحول الأعضاء إلى غيرها على مر الزمان، كتكون الجمجمة بتحول الفقار — مبلغًا أثبت به أن حدوث هذا التحول ممكن الوقوع بتأثير الظروف المحيطة بالأحياء والاستعمال، دون غيرهما من السنن الطبيعية. وتلك من مناحي الضعف التي يأخذها كثير من الكتاب على هذه المدرسة الحديثة.

•••

أما «دي فريس» De Vries العالم الهولندي الأشهر فعلى نقيض ما تقول به هذه المذاهب برمتها. ونظريته — نظرية «التغاير الفجائي» Mutation — ترمي إلى القول بأن الأنواع النباتية المستحدثة في الطبيعة لا تنتج إلا بتأثير سنة «التغاير الفجائي». وضروب التغاير عند «دي فريس» ليست إلا انحرافات ذات أثر بين، أو غير بين، تحدث في الأعقاب وتظهر في الأنسال فجاءة بين فترات الزمان. وكان على اعتقاد أن هذه الانحرافات الفجائية وحدها ذات قدرة تامة على الإنتاج وتخليف الأنسال التي تنزع إليها، وأنها المؤثر الوحيد في تكوين الأنواع. وانحصرت مباحث «دي فريس» في القول بأنه من الممكن أن تحدث هذه الانحرافات التي تظهر في الأنسال من طريق التغاير أنواعًا جديدة أي صورًا صحيحة التناسل ممتازة بصفات معينة.

•••

وآخر ما ذاع من مذاهب النشوء مذهب قامت بنشره فئة من العلماء منهم «بووار» و«أوتيمان» و«غوليك» وهذا المذهب في الحقيقة تحوير في مذهب «فجنر». ويعزو هؤلاء الكتاب أسباب التغاير إلى وجود أنواع عديدة متعاصرة في وقت معًا، ويطلقون على نظريتهم هذه اصطلاحًا نظرية «التنوع». وهذه النظرية إن استطاعت أن تبين لنا كيف أن نوعًا قد يندمج في نوع آخر أو يفنى بالتلاقح في غيره، فإنها لا جرم تعجز عن الكشف عن كيفية حدوث الأنواع بالتسلسل من صورة أصلية معينة.

•••

تلك هي آخر الآراء في النشوء أوجزنا شرحها ليعلم القارئ الخبير على الأقل أن مباحث هذا المذهب مختلطة مهوشة، بل إنها قد تغمض على كثير ممن يتصدون للبحث فيها، وأن أسباب التغاير ترجع في حقيقتها إلى سنن طبيعية شتى، نلحظ أن بعضها قد يؤثر في بعض بحيث يمضي تأثير إحداها بتأثير نظيرتها، شأن الطبيعة في تعاضد سننها من جهة، وتدافعها أو تصادمها من جهة أخرى. ولكن ذلك لا يحول دون القول بأن السنن الأربع، التباين، والوراثة، والانتخاب الطبيعي، والانفراد، هي أكبر السنن التي تسوق إلى التغاير شأنًا وأنفذها أثرًا.

وإنا إن كنا لا نستطيع أن نظهر في كل الحالات التي نشاهدها أن هذه السنن الأربع دائمة التأثير في طبائع العضويات، مستمرة الفعل في إنتاج مختلف التغايرات، فلا أقل من أن نعتقد بتأثيراتها في أغلب الظروف ما تهيأت لها الفرص. وغالب ما تغيب عنا تلك الأسباب التي تبعثها على التأثير أو تصدها عنه. وسنتا التغاير والوراثة أكثر السنن خضوعًا لمؤثرات هذه الأسباب. ولقد كشف العلامة «مندل» عن كثير من نواميس الوراثة، ولكن هذه النواميس لا تزال في حاجة إلى التمحيص والتجربة، لأنها إن صدقت على حالات معينة فإنها لم تصدق على حالات كثيرة لم يمهد لها الباحثون بالنظر بعد، ما يجعلها في حرز من أقلام الناقدين.

الحفريات وانقراض الأنواع

دلت التجاريب وأيدها النظر الصادق، أن ضروب العضويات الحية خاضعة لتأثيرات الطبيعة التي تحوطها. ودلت مباحث الحفريات على أن كثيرًا من المراتب الحيوانية قد ظلت غير متغايرة خلال أزمان مديدة من الأعصر الجيولوجية، فأطلق عليها الباحثون اصطلاحًا اسم «الصور الثابتة» ليعارضوا بذلك اصطلاح «الصور المتغايرة»، ويقصدون بذلك الصور التي مضت خلال الأعصر الجيولوجية ممعنة في تغاير الصفات. فالصور المتغايرة هي تلك الصور التي أخذت في التغاير منذ أبعد الأزمان الأولى وأنتجت العديد الأوفر من التنوعات والأنواع والأجناس، وملأت بشعبها الحية نظام الطبيعة العضوي. وقد تلبث تلك الصور ماضية في ذلك حتى تبلغ في التشعب والكثرة حدًّا عنده يتولاها الانقراض ويذهب بها العدم في بعض الحالات، وقد تمضي في تشعبها مجتازة تلك الأدوار الانقلابية التي تتولاها خلال أعصر تغايرها. ولا نزال نرى تلك الصور في زماننا هذا محتفظة بما لها من قوة وحياة. وغالب ما يحدث أن صورًا قد تصبح «ثابتة» بعد أن كانت «متغايرة» خلال أعصر مديدة، إذ تأخذ قوتها في إنتاج مختلف التغايرات المفيدة لها في النضوب شيئًا فشيئًا، ويتدرج استعدادها للتشكل والتنويع في التناقص على مدى الأجيال حتى تنفد قدرتها على إنتاج التنوعات والأنواع والأجناس، وتمعن في هذه السبيل حتى تضمحل قواها وتتقطع بها الأسباب، وهنالك تهمل ونظل ننظر إليها وهي ممعنة في جولتها إلى الانقراض، نظرنا إلى خرائب بعض المدن الأثرية أو الآثار المهملة التي خلفها آباؤنا الأقدمون، وهي قائمة على تخربها عنوانًا على الماضي في وسط هذا العالم المعمور. والأمثال على ذلك عديدة نلحظها أينما ولينا أوجهنا حشو نظام الطبيعة.

ولاحظ الباحثون أن نماء بعض الأعضاء في صورة بعينها، حيث تقصر بقيتها عن التغاير والنشوء، كازدياد الحجم أو التخصص للقيام بوظائف معينة، عنوان على الانقراض في كل الحالات المشاهدة. فإذا لم يأخذ النظام الطبيعي لصورة بعينها في التغاير بنسب متكافئة، كان تغاير تلك الصورة مضرًّا بها. وفي العضويات جموع عديدة تغايرت عدة تغايرات ذات أثر بين في حالات حياتها، ولكنها انقرضت لذلك السبب عينه، حيث فقدت في سرى تغايرها تكافئ النسبة بين تغاير أجزائها المختلفة ونمائها. فحفظ التوازن بين نسب النشوء والتغاير في أجزاء الصور الحية من أخص مؤديات ذيوعها وانتشارها، وفقدان هذا التوازن مؤذن بزوالها، وبمقدار ما يكون من حفظ هذا التوازن أو فقدانه، يكون قرب الصور من الانقراض أو بعدها عنه.

وقد يحدث أن صورة من «الصور الثابتة» قد تمضي في التغاير الوصفي فجاءة، فتنتج عددًا وجيزًا من الأنواع خلال عصر معين من الأعصر الجيولوجية. غير أن هذه الصور التي تنبعث في التغاير فجأة وتمضي فيه معجلة إليه، غالب ما تنقرض من الوجود. أما الجموع التي تتدرج في التغاير والنماء تدرجًا بطيئًا على مر الأزمان، فغالب ما تهيأ خلال تغايرها البطيء بمعدات تجعلها أكبر حظًا من البقاء خلال أزمان مديدة في مستقبل أيامها.

وكثير من الصور الثابتة قد احتفظت بكيانها إلى عصرنا الحاضر مقصورة في البقاء على بقاع تختلف ظروفها الطبيعية عن بقية بقاع الأرض جد الاختلاف، كما يشاهد في بعض البرك الراكدة والبحيرات الملحة أو الأماكن الجليدية. وهذه الصور الثابتة التي ظلت على حال واحدة منذ أبعد أزمان التاريخ المعروف عن عمر الأرض، قد حازت أكبر الكفاءات التي أهلت بها للبقاء في تلك البقاع التي تقطنها. فكانت خلال كل الأزمان التي عمرت فيها تلك البقاع خاضعة لضرب من التناحر على البقاء شدته وقوته في كل الحالات رهن على تزايد عدد العضويات التي كانت تعمر ما يجاورها من البقاع، ومنازعتها لها الغلبة والسلطان في حياتها، فتدرجت خلال تلك الأعصر البعيدة في كسب شيء من التغاير يؤهل بها إلى المقام في تلك البقاع، وما زالت تتدرج في هذه السبيل حتى بلغت من التغاير ذلك المبلغ الذي نراها عليه في هذا العصر؛ ولذا كانت الحيوانات التي تقطن أعماق البحار وغيرها من البقاع التي تشذ حالاتها الطبيعية عن حالات بقية البقاع المعروفة من سطح الأرض من الوجهة الحيوية الصرفة، أغرب تركيبًا وأكثر كفاءة لتحمل مؤثرات البيئات التي تأهل بها، ولا بدَّ من أن تكون قد تدرجت منذ أقدم العصور الجيولوجية في التغاير ناحية ذلك المنحى، مسوقة في سبيل اكتساب تلك الكفاءة، حتى بلغت مبلغها المعروف في هذا الزمان من النشوء الخلقي، والتغاير الوصفي.

والباحثون في أسباب الانقراض لم يجدوا علة طبيعية يعللون بها انقراض النباتات التي عمرت الأرض خلال العصور الأولى، بلغت من يقينهم مبلغ الأسباب التي استكشفوها وعللوا بها انقراض ضروب الحيوانات المختلفة. فعزى البعض انقراض صور من تلك النباتات إلى أسباب عددوها، مثل توزيع مناطق اليابسة والماء في بقاع الأرض الجغرافية في غابر أزمانها وتقلبات المناخ، وملوحة الماء، وثوران البراكين، وضعف عناصر مواد الغذاء، وتزايد عدد الأعداء والمنافسين في الطبيعة. ولكن هذه الأسباب لم تحقق لديهم السبب في انقراض نوع أو جنس برمته، وإن وثقوا بتأثيرها في انقراض الصور الصغيرة والشعب المختلفة التي كانت تتشعب بالتغاير والانحراف عن بعض الجموع العضوية.

وعزى البعض سبب الانقراض إلى بلوغ الصور حد الشيخوخة Superannuation فإن الصور التي تبقى لأزمان مديدة، تشتق غالبًا من صور ثابتة محدودة الذيوع والانتشار، وخاصيات توالدها، تكون قد تضاءلت على مر العصور، فتظهر عليها وعلى أنسالها في وقت معًا، ظواهر من الضعف والاضمحلال، شبيهة بما يظهر على الفرد عند بلوغه طور الشيخوخة والانحلال.

أما «داروين» فيعزو لتأثيرات التناحر على البقاء انقراض الصور التي لم تحز من الكفاءة ما يؤهل بها إلى البقاء، ولذا يكون ظهور الأنواع والصور الناشئة في شعب النظام العضوي بفضل الانتخاب الطبيعي مقرونًا بالتغاير الوصفي واستجماع الانحرافات الطارئة على صور العضويات بطيئًا جد البطء. وإذ إن كل صورة من الصور الناشئة في الطبيعية، لا بُدَّ من أن يحيط بها ضروب من الأعداء تنازعها الغلبة والسلطان ضمن حدود مواطنها التي تقطنها، كان لا مندوحة لنا عن أن نعثر، بالبحث في الطبقات الجيولوجية، على صور عديدة كانت تربط بين كثير من شعب النظام الحي في الأزمان الغابرة، ذلك بفرض أن نتمكن في مستقبل الأيام من العثور على مجموعة تامة لصور الحلقات الوسطى التي انقرضت وهيأت لها الظروف سبيل الاحتفاظ بكيانها خلال تحجرها في باطن الصخور.

ومن المشاهد أن أنواعًا حفرية قد احتفظت بصفاتها وبقيت «ثابتة» — غير متغايرة — عصرًا برمته من العصور الجيولوجية. ولا نلبث أن نرى في أول العصر الذي يليه أنواعًا برمتها أو أجناسًا قد انقرضت من الوجود، وسد الفراغ الذي تركته في نظام الطبيعة أنواع مما يقاربها نسبًا في سلسلة النشوء، مختلفة عنها اختلافًا كبيرًا أو ضئيلًا، حسب ظروف البيئة التي تحوطها. ومن هنا يتضح أنه قد مر على تاريخ الأرض عصورًا كان فيها لنظام «التحول والانقراض» كليهما أكبر الأثر في حياة العضويات، وأن كثيرًا من الصور قد ظلت ثابتة خلال كثير من الفترات في تلك الصور، فلم تتغاير فيها تغايرًا ذا أثر ما. والحقيقة أن نشوء العضويات وتطورها كان ذا قفزات فجائية إلى التغاير، أو الثبات على صفة من الصفات، عصورًا محدودة، أمعنت بعدها الأحياء في التطور خضوعًا لسنن نجهل أكثرها الجهل كله في هذا العصر.

والظاهر أن حفظ التوازن بين شعب النظام الحي لا بُدَّ من أن يظل ذا نسب متكافئة حتى تسلم الصور الدنيا في كل رتبة من مراتب العضويات من الانقراض. وحفظ ذلك التوازن رهن على إمعان العالم الحي برمته في التغاير بنسب متكافئة. والطبيعة مسوقة إلى الاحتفاظ بهذا التوازن. ومن هنا يكون للتناحر على البقاء ذلك التأثير الذي نلحظه بين الجموع المتقاربة الأنساب في كل بقعة من بقاع الأرض. وللطبيعة عدى ذلك نواميس في الاقتصاد لا تعدوها. نلحظ ذلك في أن كل نبات على ظهر الأرض لا بُدَّ في أن يحوطه نظام خاص يحتفظ من طريقه بالأسباب الأولية التي تهيئ له سبيل البقاء على احتياجه إلى كميات محدودة من الغذاء وعناصر خاصة يستمد منها تلك الكمية التي يحتاج إليها، وحالات من المناخ تلائمه، كل نبات بما يوافق طبيعته وعاداته في كل عصر من العصور. ورغم هذا فإن لتلك الحالات أكبر الأثر في استيطان النباتات على سطح الأرض. ناهيك بما نرى من توقف انتشار أنواع من الحيوانات على انتشار أنواع من النبات، بحيث نجد أن مقدار ذيوع أحدهما مرهون في كل الظروف على مقدار ذيوع الآخر ضمن حدود البقاع التي ينتشر فيها كلاهما. تلك حالات من اعتماد بعض الكائنات على بعض أتينا على ذكرها لنستجمع لدى القارئ شيئًا من الظروف التي تحد انتشار العضويات وقد تكون عاملًا على انقراضها من الوجود في بعض الظروف الخاصة.

ولا يقتصر أثر التطور الذي نلحظه خلال البحث في صور العضويات الحفرية على إنتاج مختلف تلك الصور والأنواع والأجناس، وتشابك حلقات صلاتها في الأدوار الانقلابية التي قطعتها خلال العصور الأولى؛ بل إن العضويات مسوقة برمتها من طريق التغاير إلى التخصص للقيام بوظائف معينة ضمن رتب النظام وشعبه المختلفة، كل منها بما قدر له. فإذا صحت نظرية التسلسل — ولا نخالها غير صحيحة — قضي على العضويات أن تنشأ في طبائعها غريزة «التخصص» كل عضو من أعضاء أفرادها بنسبة نظامه الخاص، وكل فرد منها بنسبة التنوع أو النوع الذي يتبعه، وكل مرتبة بنسبة النظام العضوي في مجموعة. وذلك هو السبب فيما نراه في نظام الطبيعة من ضروب الحكم البالغة التي نستقرئها لدى البحث في الحفريات وعلاقة بعضها ببعض، أو علاقتها بالصور التي تعمر مناطق الأرض الجغرافية في هذا الزمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤