مقدمة
الفكرُ العربي الحديث منشغلٌ بالغربِ والفكرِ الغربي منذ أكثر من قرنَين، مولَعٌ بما أنتجه، وغارقٌ بأسئلته واهتماماته ومقولاته ورؤاه ومعالجاته وإجاباته، إثباتًا أو نفيًا، أو تلفيقًا وتوفيقًا. نادرًا ما يتعرَّف هذا الفكرُ على الفلسفات والفضاء الميتافيزيقي والآداب والفنون الشرقية في الهند واليابان والصين وبلاد الملايو، ولم يعرف إلا القليلَ جدًّا عن الفكر الإيراني حتى الأربعينَ سنةً الأخيرة. الفكرُ الإيراني منفتحٌ على الفضاء الغربي بشكلٍ واسع، يحتفلُ بترجمات المتون الأساسية والشروح بالألمانية والفرنسية والإنجليزية، بنحوٍ صارت به الترجماتُ تتسيَّد عددَ العنوانات المطبوعة كلَّ سنة. أخبرني وكيلُ وزير الإرشاد أن عددَ العنوانات المطبوعة قبل سنواتٍ بلغ نحو سبعينَ ألفَ عنوانٍ باللغة الفارسية في سنةٍ واحدة. يتميَّز الفكرُ الإيراني بتفاعله الواسع مع الفلسفات والأديان وعوالم الميتافيزيقا الشرقية، ويعود هذا التواصلُ والتفاعل إلى العصور القديمة، وتنامَى ذلك بالتدريج في العصر الإسلامي، ولم ينقطع في العصر الحديث. يتميزُ الفكرُ الإيراني الحديث غالبًا بغطاءٍ ميتافيزيقي، خلافًا للفكر العربي الحديث الذي يكون متمردًا غالبًا على الميتافيزيقا. حتى الفكرُ الديني العربي لا يرتدي ذلك الغطاءَ الميتافيزيقي بهالته الرمزيةِ والعرفانيةِ وإيحاءاته الفلسفية.
اللافتُ أنه لا الفكرُ الإيراني ولا الفكرُ العربي حدث بينهما تواصلٌ ديناميكي وتفاعلٌ خلَّاق في العصر الحديث، بمستوى تفاعلِ الفكر العربي مع الفكر الغربي، وتفاعلِ الفكر الإيراني مع الفكر الشرقي والغربي. هذا الكتابُ محاولةٌ لفتح نافذة حوارٍ فكري عربي إيراني، بعرضِ ونقدِ مشاغل نماذج من المفكرين متنوعة وشديدة التمايز في الفضاءين. كنا نقرأ في كتابٍ واحد دراسةَ نماذج لمفكرين عرب وغربيين، أو إيرانيين وغربيين، ولم نقرأ كتابًا يتسعُ لأصواتٍ عربية بجوار أصواتٍ إيرانية. في هذا الكتاب يتحدث الفكرُ العربي للفكر الإيراني، والفكرُ الإيراني للفكر العربي، كلٌّ منهما ينطلقُ من سياقاته ورؤيته للعالم وطريقة تفكيره المختلفة ولغته الخاصة. وهي محاولةٌ تتطلع أن تكون فاتحةً لكتاباتٍ تعيدُ وصلَ ما أحدثَت التعصباتُ من انفصالٍ داخل فضاء الإسلام الثقافي المشترَك، وتعكس تنويعاتِه المتعدِّدة، بتعدُّد اللغات والثقافات والمجتمعات، والإكراهاتِ المتنوعةِ أمسِ واليوم. حاولتُ في هذا الكتاب انتخابَ جماعةٍ من مفكري الفضاءين العربي والإيراني، يختلفون أكثر مما يتفقون في فضائهم الثقافي الواحد، لكلِّ واحدٍ منهم فرادةٌ في طريقةِ تفكيره، وبصمةِ لغته، وتميزٌ عن غيره في رؤيته للعالم، وتباينٌ في شخصيته الفكرية، وكيفية تذوُّقه الأشياء، ومعالجته الأفكار، وصياغته المفاهيم.
بدأ الفصلُ الأول في الكتاب بحديثٍ عن علي الوردي، وجاء الاهتمامُ بفكره لأكثر من سبب؛ الأول يعودُ إلى أن كاتبَ هذا الكتاب ينتمي إلى جيلٍ بدأ يقرأ كتاباتِ الوردي في المرحلة الثانوية قبلَ نصف قرن، وتشبَّع وعيُه ومشاعرُه بآراء الوردي، وظلَّ الوردي حتى اليوم يتجدَّد حضورُه في وعي هذا الجيل. والسبب الآخر يعود إلى أن الوردي كان ضحيةَ جفاءٍ في وطنه وفي غير وطنه؛ ففي العراق صمتَت وسائلُ الإعلام بأَسْرها عن أعمال الوردي في المرحلة الأخصب من حياته، وكأنه غيرُ موجود على خارطة الفكر العراقي، وتواصَل هذا الصمتُ حتى وفاته. وهو موقفٌ معلَن من السلطة السياسية المستبدَّة، بوصف فكرِ الوردي يقوِّظ الاستبدادَ بكلِّ تعبيراته في العائلة والمجتمع والسلطات السياسية وغيرها، ويُرادف هذا الموقفَ صمتُ اليسار العراقي بتنويعاته الأممية والقومية وتجاهلُه لفكر الوردي في حياته، وتُزعج الإسلامَ السياسي كتاباتُ الوردي العقلانية النقدية. فكرُ الوردي يرفض الأيديولوجيا، والأيديولوجيا معبودةُ اليسار بكلِّ أنماطه، ويرفض أيضًا اختزالَ الدين في الأيديولوجيا لدى الإسلام السياسي.
في العشرينَ سنةً الأخيرة تعرَّض فكرُ الوردي إلى نوعٍ آخر من الجفاء؛ إذ لم تهتم به مراكزُ البحوث والأكاديميات العلمية في وطنه، ولم نقرأ دراساتٍ تحليليةً نقديةً جادةً لأعماله، وقلَّما صارت هذه الأعمالُ مادةً للدراسات العليا في العلوم الإنسانية، ونادرًا ما تجرَّأ باحثون على مراجعةٍ نقدية وتمحيصٍ لكتاباته وآرائه وأحكامه المتنوعة الكثيرة، خاصةً على الفرد والمجتمع العراقي. وإن ظهر اهتمامٌ بكتاباته في العشرينَ سنةً الأخيرة، لكنه كان على شكل موجةٍ جماهيرية، بنحوٍ صارت به كتاباتُه تُطبع وتُباع على الأرصفة، وكأنها قصصُ عنترة بن شداد والسندباد البحري والزير سالم وأمثالها.
وخارجَ وطنه جفاه المثقفون والأكاديميون العرب حتى اليوم، إلا في حالاتٍ استثنائية، وكأنَّ هناك تواطؤًا على نسيانه، في الوقت الذي انشغل فيه الفكرُ العربي أحيانًا بشخصياتٍ هامشية ليست في مكانة الوردي الفكرية. لا تهتم في الغالب أقسامُ العلوم الاجتماعية في الجامعات العربية بأعماله، ونادرًا ما نقرأ مَن يكتب عن فكره في المطبوعات الثقافية، المحتكَرة لجماعاتٍ تتكرَّر أسماؤها في المناسبات المختلفة، ولا تسمح لغيرها بالحضور على هذه المنابر. ولم يحدث أن تبنَّت دُورُ النشر المعروفة في بيروت وغيرها إصدارَ أعماله، ولبثَت مؤلَّفاتُه إلى اليوم تُنشر تجاريًّا، كما تُنشر الكتبُ الشعبية وتُباع على عربات الأرصفة.
الفصل الثاني في الكتاب يدرُس فكرَ حسن حنفي، وهو مثالٌ ينفرد فيه مفكرٌ متعدِّدُ التكوين، خبيرٌ بالتراث، وأكاديميٌّ تخرَّج في جامعة السوربون. مُدهِشٌ في مثابرتِه وصبرِه الطويل، وتدفُّقِ إنتاجه المتواصل بغزارة. قلَّما رأينا كمًّا بحجم كتاباته لدى أمثاله في موطنه مصر والبلاد العربية الأخرى، ولعلَّه من أغزر المفكرين العرب في نصف القرن الأخير في حجم إصداراته الموسوعية المتنوعة. خاض حنفي مغامرةً فكرية لم يسبقه إليها كاتبٌ قبله، تراه يخصِّص موسوعاتٍ تبدأ بالتراث وتعود للتراث، كلُّ موسوعة منها تتكدَّس فيها مجلداتٌ متعددة، يحاول فيها إعادةَ إنتاج التراث بلغتِه الخاصة، ذاتِ الصبغة الشعاراتية التعبوية الشديدة الإيقاع، وبقدرتِه الاستثنائية على التوفيق والمصالحة بين الأضداد. تشعُر وأنت تقرؤه كأنك داخلَ مكتبة يتحدث فيها المتكلمون واللاهوتيون، والفلاسفة، والمفكرون، من المسلمين والغربيين، تستمع إلى أصواتهم المتنازعة، بصوت كاتبٍ يلفِّقها بشكلٍ مثير للدهشة، فتنطق بصوته لا بصوتها، وتتحدث لغتَه لا لغتَها، وتُعبِّر عن رؤيته لا عن رؤيتها.
وجاء الفصلُ الثالث لينتقل من الفكر العربي ويدرُس فكر داريوش شايغان، وهو مفكرٌ إيرانيٌّ معروفٌ على نطاقٍ محدود في الفضاء الثقافي العربي المشرقي، ومعروفٌ بصورة أوسع في الفضاء الثقافي الفرانكفوني. يكتب داريوش شايغان بالفرنسية، وقلَّما يكتب بلغته الأم الفارسية. تتميز رحلتُه الفكرية بثرائِها وكثافتِها النوعية، وشجاعةِ عقل هذا الرجل الفذَّة على الانتقال عبْر محطات، يغادر في كلِّ سابقة منها مُقلِعًا إلى لاحقةٍ لا تُكرِّرها، وهو يستأنف النظرَ في مُسلَّماته وقناعاته وأحلامه الماضية، ويُدلِّل على خطئها بنفسه.
ودرس الفصلُ الرابع فكرَ مواطنه وصديقه حسين نصر، وهو أيضًا مفكرٌ مثيرٌ للجدل، تميَّز ببصمةِ فكره الميتافيزيقي المركَّبةِ المُلتبِسة، ذات المنحى الغنوصي الغامض. أفكارُه الغريبة هذه لم تجد صدًى لها في الفضاء الثقافي والميتافيزيقي العربي.
واتسع هذا الكتابُ لدراسة فكر أحمد فرديد، وهو المفكر الإيراني الغريب الأطوار، الذي لم يُدوِّن أفكارَه، ولم ينشُر شيئًا منها في حياته. ظلَّ مفكرًا شفاهيًّا، غير أنه ملأ الدنيا وشغل النخبةَ الإيرانية في زمانه، بمنحوتاتِه اللغوية ومعجمِه الاصطلاحي الفريد، وأفكارِه الغائمة الهجينة، وما أحدثَته مقولاتُه من ضجيجٍ وسجالاتٍ لم تسكت حتى اليوم، لا سيما بعد رحيلِه وصمتِه الأبدي.
ووقف الكتابُ في فصله الخامس عند ظاهرةٍ فكرية ليست شاذةً في الفكر العربي في زماننا، وانتخب أحدَ أبرز ممثليها، وهو محمد عمارة، الذي رحل من الماركسية إلى السلفية عبْر سلسلة من المحطات. وفي الفصل السادس تحدَّث الكتابُ عن داعيةِ اللاعنف جودت سعيد، وأمانيه الرومانسية بموت الحرب، ونسيانِه أن الحربَ لن تموت ما دام الإنسانُ إنسانًا. وفي فصله الختامي تحدَّث الكتابُ عن هاجس الهُوية والصراع الحضاري لدى المفكر الجزائري مالك بن نبي.
بغداد ١ / ٩ / ٢٠٢٣م