الفصل الأول

علي الوردي: ولادةٌ مُجهَضة لأول مثقف ديني عراقي

(١) اللقاء الأول بفكر علي الوردي

بعضُ المدن تمكث في ضميرك، إن غادرتها فلن تغادرك، إن نسيتها فلن تنساك، إن تذكَّرتَها تُشعرك بأنها تتذكَّرك قبل تذكُّرك لها، تفرض حضورَها عليك وإن هجرتها. الشطرةُ جنوبَ العراق كانت أفضلَ مثالٍ لهذه المدن والبلدان المتنوعة التي تنقَّلتُ فيها. بدأتُ فيها أجملَ محطات حياتي، ظلت هذه المدينةُ حيةً مُلهمةً في ذاكرتي، لن تمحوَ الأيامُ مهما تقادمَت أثرَ ثلاث سنواتٍ عشتُها فيها، أحببتُ فيها نفسي وحياتي لأول مرة، بعد أن كنتُ أكره نفسي وأكره حياتي منذ طفولتي، إثر عذابات العيش المُوجِعة التي تجرَّعتُها بمرارة في طفولتي وفتوَّتي، أحببتُ: أهلها، ونهرها، وبيئتها، وثقافتها، وليلها ونهارها، والعيش فيها.

تعرَّفتُ في هذه المدينة على كتابات علي الوردي، قرأتُ الجزءَ الأولَ من كتاب «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث»، سنة ١٩٧٠م، في مكتبتها العامة، وأنا تلميذٌ بدايةَ المرحلة الثانوية، جذَبني عقلُه النقدي، وطريقةُ تفكيره، وواقعيتُه، واهتمامُه بالمهمَّش والمهمَل واليومي في المجتمع، وأسلوبُه المُيسَّر، وذكاؤه في تفسير الظواهر المجتمعية، وبناء فهمٍ مختلفٍ لها، أدقَّ وأعمقَ مما هو شائعٌ في الفهم الشعبي الساذج.

لم أواصل مشواري مع الوردي لعدم عثوري على كتابٍ آخر له في المكتبة العامة، كنتُ أفتقر للمال الذي يمكِّنني من شراء الكتب. قرأتُه وأنا بعمر ١٥ سنة، ندمتُ لاحقًا لأني غادرتُ مدرسةَ الوردي العقلانية الواقعية، وإن عُدتُ لها بعد سنواتٍ قليلة. كتابات الوردي كان يمكن أن تثير عقلي، وتستفز تفكيري فتوقظه من سُباته، وتُوفِّر عليَّ سنواتٍ ضائعة في رُكام كتابات يتبلَّد فيها العقل، وتُغرقه في أحلامٍ مثالية، وأوهامٍ عبثية.

تنطلق النهضةُ بانطلاقة العقل وقدرته على تحطيم أغلاله، الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع هي ما يكفُل إيقاظ العقل، ويمنحُه القدرة على تفسير الأشياء والظواهر المتنوعة تفسيرًا علميًّا. عندما نبحث عن بداية انبثاق النهضة نجدُها وُلدَت بعد إيقاظ العقل وتشكُّله من جديد في ضوء الفلسفة الحديثة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة. حين استفاق العقل وُلدَت الاكتشافات والاختراعات وكلُّ المنعطفات العظمى في العلوم والمعارف والتكنولوجيا. لم تظهر فيزياءُ نيوتن وغيرُها من الاكتشافات في العلوم الطبيعية إلا بعد ظهور الفلسفة الحديثة.

كلُّ بدايةٍ للتجديد في عالَم الإسلام تتجاهلُ الدينَ تُخطِئُ الطريق. فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحوُّلات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات والأفراد. الدينُ هو الحبل السُّري الذي يتغذَّى منه تكوينُ الفرد، وتقاليدُ المجتمع وأعرافُه وقيمُه وهويتُه، والبنيةُ اللاشعورية للمجتمع.١ لم يهتمَّ أكثرُ من يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثرِ الفاعل لاختلافِ طرق فهم الدين، وكيفيةِ قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع، ولم يُسلَّط الضوءُ على دورِه في رفد اللاشعور الجمعي وترسيخه، وإنتاج المخيال الجمعي والسيطرة عليه، وأثرِه في تشكيل شخصية الفرد في طفولته، وتوجيهِ سلوكه وبناءِ مواقفه في مختلف مراحل حياته. قلَّما تحضر دراسةُ الدين وتمثلاتُه في الحياة الفردية والمجتمعية في الجامعات العراقية في ضوء المناهج العلمية الحديثة، يمكن أن يكون الدينُ ونصوصُه وتمثلاتُه موضوعًا خصبًا لدراساتٍ متنوعة في علوم الإنسان والمجتمع الحديثة في جامعاتنا. للأسف ما زال حضورُ الدين في الأكاديميا العراقية شحيحًا جدًّا، ينظر بعض الأكاديميين بسطحية إلى الدين وتمثلاته في حياة الفرد والمجتمع، ويحتمي آخرون من الخبراء ذوي التكوين الرصين بكتاباتٍ عن قضايا لا صلة لها بالواقع الذي يكابده الإنسان العراقي؛ حذرًا من أن يصطدم بالمجتمع والمؤسَّسة الدينية.

الوردي كاتبٌ يتقن مهارةً إنشائية ينفرد بها؛ فهو يكتب فهمًا سوسيولوجيًّا، وتفسيرًا أنثربولوجيًّا، وتحليلًا سيكولوجيًّا لمختلف الظواهر في المجتمع العراقي بأسلوبٍ شعبي مباشر؛ يفهمه كلُّ الناس، لما يسوقه من أمثال وقصص وفلكلور، بلغةٍ لا تخلو من تهكُّم وسخرية لاذعة أحيانًا، وكأنه حكواتي يتحدث في مقهًى قديم يُدمن روَّادُه الإصغاءَ لقصص الحكواتيين. لم أقرأ لعالمِ اجتماعٍ يكتب باللغة المتداولة في تخاطُب الناس ومحادثاتهم اليومية في مختلف القضايا كعلي الوردي؛ فهو لا يكف في كتاباته عن الإثارة والتحرُّش في تابوات مؤسَّسات الدين والعشيرة والسلطة. وتظهر مهارةُ الوردي في انتخاب عناوين كتبه، كأنها لافتاتٌ تحريضية، مثل: «وعَّاظ السلاطين»، و«أسطورة الأدب الرفيع»، و«مهزلة العقل البشري».

(٢) ولادة أول مثقَّف ديني نقدي عراقي

حاول علي الوردي أن يُقدِّم نفسَه نموذجًا لمثقَّف لم يعرفه المجتمعُ العراقي من قبلُ، وهو «المثقَّف الديني النقدي»، الذي خرج من سجون المجتمع والأيديولوجيات السياسية. مثقَّفٌ يتساءل ويفحص ويشكِّك في التابوات المعروفة، ويدرُس تجلياتِ الدين المتنوِّعة وتعبيراتِه المتضادة في المجتمع العراقي، من منظورِ علوم الإنسان والمجتمع الحديثة. كان الوردي يحظى بتبجيلٍ في الجامعة من الأساتذة والتلامذة، وكان محترمًا في مدينته، بفعل حضوره في المجتمع وشخصيته الساخرة، والتماعات وعيه المتوهِّجة. وبوصفه ابنَ مدينة الكاظمية المقدَّسة، وسليلَ عائلةٍ علوية معروفة، وهذه العوائل تحظى بتقديرٍ ومكانةٍ دينية خاصة عند الشيعة.

رؤيةُ الدين للعالَم وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحولات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في كلِّ المجتمعات. ظل الدينُ مسكوتًا عنه في كتابات أغلب العراقيين من أكاديميين وأدباء ومثقفين، وكأن التفكير والبحث والحديث في الدين والتدين شأنٌ خاص بالمؤسسة الدينية ومعاهد التعليم الديني. كان علي الوردي الأكثرَ اهتمامًا بدراسة تمثُّلات الدين وتعبيراته في حياة المجتمع، مقارنةً بغيره من الأكاديميين والأدباء والمثقَّفين، الذين انشغل كثيرٌ منهم بدراسة موضوعاتٍ لا صلةَ لها بحياة الناس اليومية وآلامهم، غير أن اهتمامَ الوردي بالدين لم يتخذ موقعَه الذي يتناسب مع أثرِ الدين العميق في حياة الناس والتحكُّم بمصائرهم.

انفرد علي الوردي بكونه أولَ متخصص في العلوم الإنسانية من جيله يقتحم دراسةَ الظواهر الدينية بشجاعة، ويفسرها في ضوء تخصصِه وخبرتِه في المجتمع. الوردي يمتلك تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في علم الاجتماع، ولديه خبرةٌ واسعةٌ بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفلكلوره، وتاريخه في القرنَين الأخيرَين. وذلك ما يعكسه كتابُه: «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» وغيره من أعماله. بدأ علي الوردي حياتَه العلمية بالكتابة عن الإسلام في رسالته للماجستير، المقدَّمة في جامعة تكساس ١٩٤٦م، بعنوان: «سوسيولوجيا الإسلام»،٢ وواصل البحثَ في الدكتوراه عن ابن خلدون. وتحوَّل «وعَّاظ السلاطين»، الذي نشره سنة ١٩٥٤م، في بغداد، إلى أحد عناوين الضَّجة الثقافية في وقته، وتباينَت ردودُ الفعل بشأنه؛ ففي حين استأثر باهتمام قُراء كثيرين وإعجابهم، استَفزَّ بعضَ رجال الدين فكتبوا يناقشونه ويتهمونه. لفت هذا الكتابُ نظرَ القُرَّاء لظهور نوعٍ من النقد الديني الجريء بلغةٍ مختلفة وأفكارٍ جديدة، نقدٍ لم تألفه الثقافةُ العراقية قبل الوردي، حتى صار الكتابُ سببًا لانطلاقِ شهرة الوردي وانقسامِ مواقف الناس حوله.

كان «وعَّاظ السلاطين»، صوتًا غريبًا في مجتمعٍ يسوده تدينٌ تقليدي، وتتحكم في سلوكِه ومواقفِه قيمٌ عشائريةٌ راسخة، ويهيمن على توجيهِه وإدارة شئون حياتِه شيوخُ عشائر أغلبُهم أميون، ووعَّاظ ورجال دينٍ أكثرُهم لا يمتلكون تكوينًا تراثيًّا رصينًا يحيل إلى عصرِ ازدهار الميراث العقلاني والإنساني في الإسلام، ويكرِّرون مواعظَ تحكي عصرَ انغلاقِ العقل في الإسلام وسُباتِه، ويسوقونها كحقائقَ دينيةٍ أبدية.

لحظةَ صدور «وعَّاظ السلاطين» كان النظامُ السياسي في العراق هشًّا، يتمثل في حكومةٍ قلقةٍ سريعةِ التغيير،٣ تنهشها أحزابٌ سياسيةٌ فتيَّةٌ مُراهِقة، وكانت النخبةُ الناشئة منقسمةَ الولاءِ بين يسارٍ أمميٍّ مهووسٍ بطُوبى الشيوعية، ووعودِها الخَلاصية الخلَّابة ﺑ «وطن حر وشعب سعيد»، ويسارٍ قومي مسكون بطوبى الوحدةِ العربية، ومخدوعٍ برومانسيةِ أدبياتِ البعث المبسطة، ومفتونٍ بشعاراتِ جمال عبد الناصر المثالية، وأبواقهِ الإعلامية الصاخبة،٤ البارعة في إذكاءِ الغرائز العدوانية، وإيقادِ المشاعر المنفَعلة، وإسكاتِ صوتِ العقل الهادئ. المتمرِّسةِ في تجييشِ الجماهير وتهييجِها، وزجِّها في معاركَ موهومةٍ لا نهايةَ لها.

لم يكن «وعَّاظ السلاطين» كتابًا يشبه غيرَه من الكتب، كان بمثابةِ «مانِيفِسْتُو» وُلِد في غيرِ موعده، وأُعلن عن حضورِه في غير أجله؛ إذ صدرَ في بيئةٍ لا توفر الحدَّ الأدنى من الشروط الضرورية لغرسِه واستنباتِ مفاهيمه. أثار «وعَّاظ السلاطين» أسئلةً ممنوعة، واخترق فضاءً ظلَّ يكرِّر مواعظَ مملةً سنواتٍ طويلة، وتجاوز خطوطًا حمراء في الثقافة الدينية التقليدية، وتندَّر بقيمٍ وأعرافٍ عشائرية مكرَّسة، وفضَحَ قناعاتٍ جاهزة، وأعادَ النظرَ ببداهاتٍ راسخة، ولم يتواطأ مع أحلام وشعارات النُّخب اليسارية بمختلف أطيافها وأسمائها.

لم يلجأ مؤلفُه علي الوردي للتمويه، واللعبِ على الكلمات، وقولِ نصف الحقيقة، أو التخفي خلفَ مجازاتِ الكلمات، وكناياتِ العبارات. كان يخاطب الناسَ بلغتهم المحكية، ولم يوظِّف ألفاظًا غيرَ متداولة في علاقاتهم ومعاملاتهم، أو يلجأ لمفرداتٍ غير مستعمَلة في محادثاتهم اليومية، مثلما يفعل بعضُ الكُتَّاب الذين ينسجون نصوصَهم من كلماتٍ غريبة وربما ميِّتة يلتقطونها من معاجم اللغة، فتفتقد الكلماتُ قدرتَها على إيقاظ المعنى لدى المتلقي، بوصفها تفتقرُ للتدفق العفوي.

وُلدَت بذرةُ «المثقَّف الديني النقدي» العراقي بولادة «وعَّاظ السلاطين» لعلي الوردي، وغذَّاها ببعض الأفكار في أعماله الأخرى، غير أن هذه البذرة وُلدَت ولادةً مجهَضة. المثقَّف الذي أبصرَت نَواتُه النورَ في أعمال الوردي، لم يكتمل تشكُّلُ هذا النوع من المثقَّف حتى اليوم في الثقافة العراقية، بفعل افتقار المجتمع العراقي للشروط الضرورية لولادته وتكوُّنه. لبثَت تتعثَّر محاولات تكوُّنه سنواتٍ طويلة، وإن كنا نقرأ اليوم كتاباتٍ عراقية تتسلح بعقلانيةٍ نقدية، تؤشِّر لبدايات تكوُّن مثقَّفٍ ديني نقدي.

انصرَف الوردي تدريجيًّا عن الكتابة في الموضوع، واهتم بدراسة وتحليل قضايا مجتمعية لا تتصل مباشرةً بالدين. بعد أن أجهضَت ولادةَ هذا النوع من المثقَّف القيمُ التقليدية الراسخة في العشيرة، ونمطُ التديُّن الكلامي الفقهي الذي تُنتِجه معاهدُ التعليم الديني. لم يجد التفكير الديني النقدي للوردي بيئةً وسط النخبة العراقية للتفاعل معه، ولم يكن المجتمع مستعدًّا للإنصات إليه. في هذا المجتمع لم يجد المثقَّف الديني النقدي الشروطَ الضرورية لتكوينه وتطوره. كان المجتمع العراقي وما زال ينتمي للماضي أكثرَ من الحاضر، وللتراث أكثرَ من الحداثة، وللقبيلة أكثرَ من الدولة، وللخرافة أكثرَ من العقل، وللتفسير الأسطوري للظواهر الطبيعية أكثرَ من التفسير العلمي، ولنداء الموت أكثرَ من الحياة. لو وُلِد كتابُ «وعَّاظ السلاطين» في مجتمعٍ يُنصِت إليه لكان صيحةً مدوِّيةً تفرض حضورَها في الإعلام والثقافة والتربية والتعليم، وتفتح نافذةَ ضوء لإعادةِ النظر في المفاهيم والقيم والتقاليد السائدة المُكبِّلة للفهم، وإيقاظِ العقول لتبدأ بتفكيكها وهدمها، كي يباشر المجتمعُ الالتحاقَ بالعصر في سياق متطلَّبات الواقع ومنطق العلوم والمعارف الحديثة.

(٣) روافد تشكُّل المثقَّف الديني النقدي

روافدُ تشكُّل هذا النوع من المثقَّف مركبةٌ مزدوجة، تعتمد نمطَين من التكوين؛ تكوينًا تراثيًّا أولًا؛ إذ لا مثقَّف دينيًّا بلا درايةٍ علمية بالتراث الديني. وتكوينًا حديثًا ثانيًا؛ إذ لا مثقَّف دينيًّا بلا خبرةٍ جادةٍ بالفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة. يعتمد تشكُّلُ المثقَّف الديني النقدي على البيئة الحاضنة بمختلف مكوِّناتها، وأهمها: وجود «مجتمع معرفة»؛ فلن يتشكَّل هذا المثقَّف ما لم يتشكَّل مجتمعُ المعرفة، الذي يمثِّل البنية التحتية لتكوُّنه. في «مجتمع المعرفة» يسود وعيٌ نقدي ينطوي على عدمِ الارتياب من العلوم والمعارف الحديثة، وعدمِ تحريم الأسئلة الكبرى، وعدمِ منع التفكير الحر، وعدمِ تعطيل العقل الخلَّاق الذي يقتحمُ المناطقَ الممنوعةَ في التفكير، والذي يتخطَّى مدَياتِ السقف المتعارَف عليه في المجتمع للرأي والتساؤل الجديد.

المثقَّف الديني النقدي يتخذ العقلَ مرجعية، ولا يتردَّد في النقد العلمي لمختلف المسلَّمات والمفاهيم المتجذِّرة والقناعات الراسخة. لا يخيفه اللايقينُ والشك، يُعلي من قيمة العلم والتعليم، لا يؤجل التفكيرَ بأية قضية راهنة، ولا تُثنيه أيةُ ذريعةٍ عن فتح أرشيفات التاريخ المطمورة، ودراسة ما هو منسي ومهمَّش ومتكتَّم عليه فيها، والإعلان عن محتوياتها وغربلَتها مهما كانت. وعي المثقَّف الديني النقدي يفضح المسكوتَ عنه في التراث، ويكتشف أنساقَه المضمَرة، وأشكالَ السلطات السياسية والروحية وشبكاتِ المصالح المتنوعة، وآثارها في تكوين التراث وتكريسه واستمراريته، ويعرف مواطنَ القصور في دين الآباء، وعجزَه عن الإصغاء لإيقاع الحياة الجديدة.

يتميز هذا المثقَّف باستيعابه للتراث، وخبرتِه براهنِ الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، واهتمامِه بدراسةِ الدين وأشكالِ تعبيراته المختلفةِ في الحياة، وتحليله العلمي لتمثُّلاته في الحياة الشخصية والاجتماعية. إنه مثقفٌ قادر على تقديمِ فهمٍ نقدي للتراث، فهم لا يتحدث فيه الماضي للحاضر، ولا تترسخ فيه سطوةُ الآباء على الأبناء.

المثقَّف الديني النقدي ليس مرادفًا للمتكلم القديم أو الفقيه، ولا بديلًا عنهما، بل يمكن أن يكون هذا النوعُ من المثقَّف أحيانًا متكلمًا جديدًا، وفقيهًا مجدِّدًا. المثقَّف هذا مفكرٌ حرٌّ، وليس مبشرًا أو داعيةً أو مناضلًا أو فدائيًّا. مؤمنٌ برسالة الدين الروحية والأخلاقية والجمالية، ذو عقلٍ حر، لا تأسِرُه المعتقَداتُ المغلَقة، وليس مسكونًا بأدلجة الدين. يحرصُ على فهمِ ونقدِ ما يتفشَّى في مجتمعاتنا اليوم من قراءةٍ مغلَقة للنصوص الدينية، كما يعمل على نقضِ القراءة الفاشية المتوحِّشة لهذه النصوص. يسعى لاكتشاف القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في القرآن الكريم، وما تتضمنه النصوصُ والمعارف الدينية من آثارٍ ذات مغزًى كوني، وبصماتٍ مضيئةٍ في الحضارة الإسلامية، يهتم بالكشف عن القيَم السامية، والتشديد على ضرورة حضورها في حياة المسلمين الخاصة والعامة.

لا ترتهن عقيدةَ هذا المثقَّف مقولاتُ متكلِّمي الفرق، وما تدعو إليه من نبذٍ للمختلِف في العقيدة والبراءة منه. لا يرى هذا المثقَّف ما تراه كلُّ فرقة من احتكار النجاة لمن ينتمي إليها خاصة، ولا تأسِرُ حياتَه فتاوى لا تعترف بتساوي حقوقه وحرياته مع حقوق وحريات الشركاء في الوطن المختلِفين في المعتقَد، ولا تهدرُ حاجتَه للجمال فتاوى لا تكترث بالذوق الفني، وتُحرِّم تذوُّقَ تجليات الجمال في العالَم. يعرفُ أن تلك المقولات والفتاوى اجتهاداتٌ وتأويلاتٌ للنص الديني تنتمي للزمان والمكان والأفق التاريخي الذي أسهم بإنتاج مقولات المتكلم وفتاوى الفقيه، وليست نصوصًا ترقى إلى القرآن الكريم.

علي الوردي يمتلك تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في علم الاجتماع، ولديه خبرةٌ واسعةٌ بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفلكلوره، وتاريخه في القرنَين الأخيرَين، غير أنه كان يفتقر لتكوينٍ مماثل في الفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والحديث، والتصوف، وغيرها من علوم الدين التراثية. كانت أحكامُه تتموضع في تمثُّلات الدين المجتمعية والفردية، وقلَّما تُلامِس البنيةَ التحتية والأنساقَ الاعتقادية العميقة؛ بوصفها المنابعَ الأساسيةَ التي تبتني عليها وتتغذَّى منها تلك التمثُّلات.

رؤيةُ الدين للعالَم وكيفيةُ قراءة نصوصه فرضها في الإسلامِ علمُ الكلام التقليدي، وما صنعَته الأنساقُ الراسخةُ لمقولات الأشعري الاعتقادية، ومختلفُ معتقدات متكلمي الفِرق. كان لهذه الرؤية الكلامية للعالَم تأثيرٌ بالغٌ في انحطاطِ مجتمعات عالَم الإسلام، وتعطيلِ الاجتهاد والتجديد في الدين. الوردي بوصفه عالمَ اجتماعٍ كان ماهرًا في الكشف عن عناصرَ أساسيةٍ مكوِّنة لشخصية الفرد والمجتمع العراقي، غير أن بحثَه لم يتوغل في الحفر ليصل إلى البِنى الدينية والأنساقِ الاعتقادية المترسخة في اللاوعي الجمعي، وأثرِها في رؤية العراقي للعالَم، وطريقةِ فهمه للمعاد، وتأثيرِ ذلك على سلوكه في المعاش.

يمكن التماس العذر للوردي؛ لأن الكشفَ عن تلك البِنى الدينية والأنساق الاعتقادية الغاطسة في اللاشعور الجمعي يتطلب خبرةً تخصصيةً في علوم الدين وعلم الكلام خاصة، ومعرفةً واسعةً بالتراث ومسالكه المتشعبة، مضافتَين إلى خبرة في علوم الإنسان والمجتمع. وذلك حقلٌ لم يكن علي الوردي متمرسًا فيه، وهكذا أغلب أمثاله من الأكاديميين المتخصصين في علوم الإنسان والمجتمع.

المثقَّف الديني النقدي خبيرٌ بالتراث ومسالكه المتنوعة، متشبعٌ بمُناخاته، حفَّارٌ لطبقاته العميقة، متوغلٌ في مدَياته القصية. يفترض أن يكون مكوَّنًا تكوينًا جادًّا في العلوم والمعارف الحديثة، يقرأ التراثَ والنصوصَ الدينية بمناهج التأويل وهذه العلوم والمعارف، من دون وجلٍ ولا ارتيابٍ ولا قلق. يمارس هذا المثقَّف الاستيعابَ النقدي للتراث، والعلوم والمعارف، دون أن يستسلم للتراث، ولا يتقبل أية نظريةٍ جديدةٍ من دون أن يتعرَّف عليها، ويتحقَّق علميًّا منها. يتمسَّك بحرية البحث العلمي، لا يمنع أيَّ تساؤلٍ عقلي، لا يرى فهمَه نهائيًّا، لا يسقط في القراءة الإسقاطية، ولا يعتقد أن قراءتَه وتفسيره للنصوص الدينية هما القراءة والتفسير الأخير.

كتابات المثقَّف الديني النقدي تفتح الأسئلةَ المغلَقة، لن تقدِّم إجاباتٍ نهائية لكلِّ سؤال. إنه ليس متكلمًا قديمًا يُنتج مقولاتٍ اعتقاديةً مغلَقة، مَن يعتقد بها ينجو ويُكتب له الخلاص في الدنيا والآخرة، ومَن لا يعتقد بها يكون من الهالكين. المثقَّف الديني النقدي غيورٌ على الحياة العقلية للناس، يحرص على إيقاظ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين. تنشُد رسالتُه: إيقاظَ العقل، وإحياءَ الروح، وإثراءَ الأخلاق، وتربيةَ الذوق الفني. يعمل على حماية العقل من أن تستهلكه الخرافات، والروح من أن يستنزفها تقديسُ غير المقدَّس، وأن تستلبَها عبوديةُ الآلهة الزائفة، وما تُفضي إليه من أوهام وتشوُّهات في رؤية العالَم، ويحرص على الكشف عن رسالة الدين الحقيقية، بوصفه نظامًا لإنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة.

يهتم المثقَّف الديني النقدي ببناء تديُّن عقلاني، يُعلِن حدودَ ما هو دنيوي وما هو ديني، ويرسم المجالَ الخاص بكلٍّ منهما، ويُعرِّف بالمجالاتِ التي يتحقق فيها الدنيوي، والمجالاتِ التي يتحقق فيها الديني. يهتم هذا المثقَّف بالسعي لبناء تديُّن أخلاقي، مقابل ما يتفشى من تديُّن شكلي زائف.

همومُ المثقَّف الديني النقدي ترمي إلى بناءِ الإيمان وتمتينِه، لا تبديده وتهديمه، والعملِ على حمايةِ الأجيال الجديدة من القلق والتمزُّق والعبثية والضياع، وفقدانهم لمعنى الحياة. يهمُّه تكريسُ الحياة الروحية، وتنميةُ الحياة الأخلاقية، بوصفها تجربةً للحياة يعيشها، وتجربةً للحقيقة يتذوَّقها. يفترض أن يعيش حياةً روحية وأخلاقية يجسدها فعلُه قبل قوله، وإلا فلن يكون لكلامه أثرٌ عمليٌّ ما لم يكن سلوكُه مرآةً للقيم التي يتحدث عنها.

المثقَّفُ الديني لا مرجعيةَ له خارجَ دين القيم الروحية والأخلاقية والجمالية، لا ترتهن عقيدتَه مقولاتُ متكلمي الفِرق، وما تدعو إليه من نبذٍ للمختلف في العقيدة والبراءة منه، ولا يرى هذا المثقَّفُ ما تراه كلُّ فرقة باحتكارها للنجاة لمن ينتمي إليها خاصة، ولا تأسِر حياتَه فتاوى لا تعترف بتساوي حقوقه وحرياته مع حقوق وحريات الشركاء في الوطن المختلفين في المعتقَد، ولا تُهدر حاجتَه للجمال فتاوى لا تكترث بالذوق الفني، وتُحرِّم تذوُّق تجليات الجمال في العالَم؛ لأنه يعرف جيدًا أن تلك المقولات والفتاوى اجتهاداتٌ وتأويلاتٌ للنص الديني تنتمي للزمان والمكان والمتكلم والفقيه الذي أنتجَها، وليست نصوصًا ترتقي إلى مكانة المقدَّس.

(٤) نقاش حول المثقَّف الديني النقدي

بعد نشر مقالتي: «ولادة مجهَضة لبذرة مثقَّف ديني عراقي»، في صحيفة الصباح الصادرة ببغداد، في ١٢ كانون أول (ديسمبر) ٢٠٢٠م، التي كانت محاولةً أوليةً للكشف عن شيءٍ من توصيفِ هذا المفهوم وفهمِه، وبيانِ ملامح هُويته وحدودها، والسياق الذي يمكن أن يتشكَّل فيه، بادَر بعضُ الأصدقاء ممن قرءوا المقالَ مشكورين في إثراء النقاش حول مفهوم «المثقَّف الديني النقدي»، وأثار قراءُ آخرون أسئلةً إنكارية حول إمكان تحقُّق مصداقٍ واقعي لهذا المفهوم. أسعدَني النقاشُ والأسئلة، النقاشُ يغربل الأفكارَ ويمحِّصها وينقِّحها ويعمِّقها، النقدُ العلمي والنقاشُ المنطقي ضربٌ من الاهتمامِ بالأفكار والاحتفاءِ بها وتكريمِ صاحبها.

في المكتبة كتاباتٌ متنوعة عن «المثقف» عربية ومعرَّبة، وبحدود مطالعاتي لم أعثر على كتاباتٍ حاولَت تحديدَ مفهوم «المثقَّف الديني النقد» وتشكُّله في مجتمعنا، وكيفية ولادة هذا المفهوم كبذرة في وطننا، منتصف القرن الماضي، وكيف أن هذه البذرةَ سرعان ما أُجهضَت، فماتت قبل استنباتها ونُموِّها في المجتمع العراقي. لا أريد أن أخوضَ في التعريف اللغوي والاصطلاحي لكلمة «المثقَّف»؛ فذلك خارج غرضي. القول في هذا الموضوع لا يخرج عن الأقوال الكثيرة المتنوعة، عندما كتبتُ كلمةَ «مثقَّف» في google، عند كتابة هذا النقاش، كان عدَّادُه يحصي حوالي ٧٩٩٠٠٠٠ نتيجة بالعربية فقط. أما كلمة cultured الإنجليزية فأخبرني محركُ البحث أنها جاءت في حوالي ٩١٦٠٠٠٠٠ نتيجة، لحظةَ الكتابة.

مفهومُ «المثقف» غامضٌ مشوَّش في العراق. ومفهومُ «المثقف الديني» أشدُّ غموضًا؛ لأنه قلَّما يجري استعمالُه، ونادرًا ما نقرأ كتابات عنه. كلُّ النقاشات والأسئلة حول مقالتي المُشار إليها تمحورَت حول إمكان اجتماع «مثقَّف»، و«مؤمن»، أو «متدين»، أنكر بعضُ الأصدقاء اجتماعَ هاتَين الصفتَين المتضادتَين لدى إنسانٍ واحد؛ لأنه يرى أن إحداهما تنفي الأخرى؛ لذلك شدَّد على أن: «مَن يكون مثقفًا لن يكون مؤمنًا، ومن يكون مؤمنًا لن يكون مثقفًا»، كان يشير لذلك كمسلَّمة، وكأنها واحدةٌ من اليقينيات الراسخة في الثقافة العراقية. يسارع كثيرون لنفي صفة الثقافة عن المؤمن، يفترضون التضادَّ بين الإيمان والثقافة؛ بنحوٍ صارت كأنها بداهةٌ لا تتطلب برهانًا، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وأمسى لكلٍّ من: المثقف المتدين فضاؤه الفكري وحياته الثقافية، والمثقف غير المتدين فضاؤه الفكري وحياته الثقافية، وتمدَّد الفضاءُ الثاني ليبتلع كلَّ شيءٍ يتصل بالثقافة، فأضحى مفهومُ المثقَّف لا يصدُق إلا على غير المتدين. تسيُّد هذا التقليدِ في الثقافة العراقية يعود إلى مجموعةٍ من العوامل المختلفة، من أهمها:

  • (١)

    «مركزية الشعر في الثقافة العراقية» الحديثة، الذي دعمَه الدورُ الطليعي للعراق في تدشين الحداثة الشعرية، بولادة الشعر الحر في أربعينيات القرن الماضي، في قصائد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وغيرهما؛ ما عزَّز اختزالَ الثقافة بالأدب خاصة، والمثقَّف بالشاعر. كلُّ مَن يحلُم أن يكون مثقفًا ينبغي أن يكون شاعرًا أولًا، وقبل كلِّ شيء، واتسع فضاءُ الكتابة الشعرية لمن لا يمتلكون موهبةً، وأغوى الأذكياء الذين يمتلكون مواهبَ في غير الشعر، ممن تَعِدُ مواهبُهم بولادة مثقَّفٍ كبير، لو شاءوا أن يتكوَّنوا تكوينًا علميًّا صبورًا.

  • (٢)

    الحضورُ المهيمن لليسار الأممي والقومي على الحياة الثقافية في العراق منذ منتصف القرن العشرين، ومواقفُ بعض الكتَّاب الاستئصالية المتسرِّعة حيال الدين والحياة الروحية والشعائر والفرائض الدينية، إلى الحدِّ الذي تقرأ فيه للبعض مواقفَ تذهب إلى: «أن كلَّ ما هو ديني ليس عقليًّا، وكلَّ ما هو عقلي ليس دينيًّا.»

  • (٣)

    القطيعةُ بين الحوزات ومعاهد العلوم الدينية من جهة، والجامعات من جهةٍ أخرى، وهي قطيعةٌ فرضتها عواملُ مجتمعية ودينية، وسياساتُ الأنظمة الحاكمة، وفرضها الوضعَ الخاص لهذه المؤسَّسات، وحذرُها من الانفتاح على منتديات الثقافة والآداب والفنون في المجتمع، وشيوعُ فتاوى تُكرِّس هذه القطيعة؛ مثل: حرمة الفنون السمعية والبصرية، وحرمة كتب الضلال. وإن كانت بعض المبادرات الرائدة في الحوزة تستحق التبجيل، مثل المبادرة الشجاعة للشيخ محمد رضا المظفر بتأسيس منتدى النشر وكلية الفقه لاحقًا، وانفتاح الكلية على نخبة من أساتذة الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في جامعة بغداد، بغَض النظر عن هويتهم الاعتقادية وحياتهم الدينية. كان يحدِّثني الصديق هاني فحص عن أساتذته الزائرين من جامعة بغداد، الذين تأثَّر بهم يوم كان تلميذًا في كلية الفقه، قبل أكثر من نصف قرن، كان هو ومجموعةٌ من زملائه العراقيين واللبنانيين في حوزة النجف، مثل محمد حسن الأمين، ومصطفى جمال الدين، وغيرهما، ممن اهتمُّوا بالثقافة والأدب الحديث، وانفتَحوا على الفضاء الثقافي والأدبي خارج الحوزة.

  • (٤)

    تجربةُ الجماعات الدينية المريرة في السلطة بعد ٢٠٠٣م، وفشلُها في الوفاء بوعودها الرومانسية، وإخفاقُها في بناء الدولة الحديثة ومؤسَّساتها، وغيابُها كليًّا عن المشهد الثقافي الفاعل والمؤثِّر، وما يَحفِل به من إصداراتٍ وفعالياتٍ ومواسمَ أدبية وثقافية متنوِّعة.

  • (٥)

    كثافةُ الحضور العنيف للفصائل المقاتلة سنيَّة وشيعيَّة، وسطوتُها على المدن والأحياء الشعبية، خاصةً بعد ٢٠١٤م، واستيلاءُ داعش على مساحةٍ شاسعة من أرض الوطن. السلطة السياسية والفصائل تتحدث باسم الدين، وتتخذه غطاءً لمشروعيتها وتبرير سلوكها في إدارة الحكومة، والاستئثار بالسلطة والثروة، وممارسة العنف غير المشروع خارج الدولة. كلُّ ذلك وغيرُه من عوامل مباشرة أو غير مباشرة عَمِل على تكريس قناعة بأن الثقافة والمثقَّف لا علاقة لهما بالإيمان والدين والتديُّن.

في ضوء تعريفي للدين بوصفه «حياةً في أفق المعنى؛ تفرضُه الحاجةُ لإنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة»، لا أرى تضادًّا بين أن تكون متدينًا ومثقفًا. وهذا ليس ممكنًا فقط، بل يتحقَّق مصداقُه على الدوام في كلِّ الأديان بمختلف المجتمعات والأزمنة. يبتني مصطلحُ «المثقَّف الديني النقدي» على رؤيةٍ لا تجد مفارقةً أو تضادًّا بين أن يجتمع العقلُ النقدي، مع الإيمانِ باللهِ ووحيِه ورسولِه «ص»، وقيمِ الدين الروحية والأخلاقية والجمالية. وذلك ما يتحدَّث عنه الواقعُ والتاريخ؛ إذ لا يمكن لخبيرٍ بتاريخ الفلسفة وعلم الكلام وعلوم الدين أن ينفيَ عقلانيةَ وإيمانَ وتديُّنَ متكلمي المعتزلة وغيرهم، وفلاسفةٍ مسلمين؛ وذلك ما تتحدَّث عنه حياتُهم الخاصة وآثارُهم؛ فقد اجتمع لدى هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين العقلُ النقدي مع الإيمان والتدين. لسنا في مقام إحصاء واستقراء المؤمنين وأصحاب التجارب الروحية المشرقة من مفكري الإسلام أمس واليوم.

لا يمكن لأي خبيرٍ تجاهلُ البصيرةِ الإيمانية لمحمد إقبال، وبصمةِ الفكر الفلسفي واللاهوتي والعرفاني العميق في تكوينه، ودعوتِه لإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام في ضوء رؤيةٍ جديدة. وكانت دروسُ وأعمال محمد عبده العقلانية النقدية بدايةً لدخول الثقافة في مصر عصرَها التنويري المتدفق كالشلال، عبْر تلامذته المباشرين وتلامذة مدرسته، مثل مصطفى عبد الرازق، وعلي عبد الرازق، ومحمد عبد الله دراز، وأمين الخولي، وطه حسين … والعشرات غيرهم. وكانت لأعمالِ محمد حسين الطباطبائي ودروسه الفلسفية وغيرِها بصمتُها المضيئة، في الحياة العقلية والثقافية في إيران، في الحوزات وخارجها. كتابُه «الميزان في تفسير القرآن الكريم»، الذي ألَّفه في ٢٠ مجلدًا، تفسيرٌ يتضمن مباحثَ متنوعة، يحضُر فيها العقلُ النقدي للطباطبائي، وتتكشَّف ثقافتُه الخصبة الموسوعية. وهكذا يعكس تفسير «التحرير والتنوير» للشيخ محمد الطاهر بن عاشور بصيرةً تراثيةً دقيقة، وثقافةً موسوعيةً حديثة، وعقلانيةً نقديةً شجاعة.

كنت أذهبُ لزيارة الشهيد محمد باقر الصدر في حوزة النجف باستمرار، في سبعينيات القرن الماضي، أسأله بمختلف أسئلة الدين والحياة، كان يتدفق تفكيره كالشلال بعقلٍ تحليلي نقدي، يفصح عن ثقافته الثرية المتنوعة. تحدث الصدرُ أكثر من مرة عن قراءاته لمؤلَّفاتٍ حديثة من عدة مجلدات خارج حقل التراث، وهو يشير إلى أنه كان يطالعها من الغِلاف إلى الغِلاف، وكان يستحضر شيئًا من مفاهيمها وأفكار مؤلِّفيها في سياق أحاديثه. إن لم يصدُق على: محمد عبده، ومحمد إقبال، والطاهر بن عاشور، وأمين الخولي، والطباطبائي، والصدر، وأسماء عديدة غيرهم، مفهومُ «مثقَّف ديني نقدي» فمَن هو هذا المثقَّف!

(٥) المثقَّف النقدي والمثقَّف العضوي

على الرغم من أنَّ النقدَ الاجتماعي احتلَّ مساحةً واسعة في كتابات علي الوردي، لكن كثافة حضور الظواهر الدينية والطقوس والشعائر في المجتمع العراقي دعَتْه لأن يهتم بها في كتاباته بشكلٍ خاص. لم يتجاهل الوردي نقدَ تعبيرات الدين المتنوعة، وتحليلَ آثارِه الاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ومختلفِ آثاره في العلاقات داخل العائلة والمحلَّة والعشيرة والمجتمع.

في ضوء التمييز بين المثقَّف النقدي والمثقَّف العضوي يمكن وضعُ كتابات الوردي في سياق العقلانية النقدية المشغولة باكتشافِ العالَم أولًا، اكتشافِه خارج أسوار الأيديولوجيا المغلَقة على نفسها. أكثرُ مواقف المثقَّف النقدي معرفيةٌ، وأكثرُ مواقف المثقَّف العضوي معياريةٌ. الموقفُ المعرفي غيرُ الموقف المعياري. الموقفُ المعرفي مهمتُه الأساسية تفسير وإيضاح وفهم ظاهرة معيَّنة، ومحاولة اكتشافها كما هي، بحدود ما يصل إليه العقلُ وما تكتشفه العلومُ والمعارفُ البشرية. مهمةُ الموقفِ المعياري هي تحديدُ موقفٍ بالقبول أو الرفض حيالَ ظاهرة، تفرضُه عقيدة أو أيديولوجيا في سياق نمط رؤيتها للعالَم ووعيها للواقع. الموقفُ المعرفي يعبِّر عن الحقيقة من حيث هي بوصفها حقيقة، أما الموقف المعياري فيعبِّر عن الموقف المطلوب أن يُتخَذ من الواقع.

المثقَّفُ العضوي مثقَّفٌ مهموم بتغيير العالَم، واتخاذ موقف من الواقع، غالبًا يفرض عليه موقفُه المسبق الحكم قبل اكتشاف الواقع، وقبل تحليل نسيج المصالح المتضادة والعناصر المعقَّدة المكوِّنة له. يثق هذا المثقَّفُ بالأيديولوجيا التي يعتنقها، من دون مراجعةٍ نقدية وتبصُّر وتأمُّل، ويعمل على أن يكونَ الكلُّ كما هو، إن اقتنع بفكرة أو شعار يريد الكلَّ يردده معه. يتزمَّت تجاه أية معتقداتٍ مغايرة، ولا يقبل من الغير إلا أن يكون نسخةً مكررة له.

مفهومُ المثقَّف العضوي يتناغم والأيديولوجيات النضالية خاصَّة اليسارية، التي اختزلَت مفهومَ المثقَّف، فأصبح مبشرًا وواعظًا، في إطار منظورٍ أيديولوجي للعالم، يعكس موقفًا طبقيًّا نضاليًّا، يعبِّر عن هموم طبقة معينة. وظيفةُ المثقَّف وفقًا لهذا المفهوم هي وظيفةُ المبشِّر في الأديان، ليس مهمًّا لديه اتخاذُ العقل مرجعية، والتفكير العلمي منطلقًا لمواقفه وأحكامه. رسالتُه في الحياة تتلخص في أن يكون صوتًا يصرُخ بشعاراتٍ أبدية في إطار الموقف الذي تفرضه الأيديولوجيا التي يعتنقها.

هذا المثقَّف مسكونٌ بالتبشير بالأيديولوجيا، لا يرى سواها، بوصفها وصفةَ خلاص لكلِّ عذاب الإنسان وشقائه في الأرض. وفقًا لمعتقده يمكن أن تُصيِّر هذه الأيديولوجيا كلَّ ظلامٍ نورًا، وكلَّ ظلمٍ عدلًا، وكلَّ بؤسٍ سعادة. لا ينظر لما تتضمنه هذه الأيديولوجيا من رفضٍ لكلِّ رؤيةٍ مختلفة للعالَم، وفهمٍ مغاير للواقع المعقَّد وكيفية تغييره، وانتهاكٍ للحريات والحقوق الشخصية، وعنفٍ دموي لحظةَ الاستحواذ على السلطة.

لفَرْط شغَفه بالتغيير يمارس أحيانًا هذا المثقَّفُ مهمةَ مفتِّش العقائد والقاضي. ظهر في القرن العشرين هذا النوعُ بين أكثر مثقَّفي الثورة البلشفية في روسيا، والثورة الثقافية في الصين، وكثيرٍ من مثقَّفي اليسار الثوري في العالَم العربي، الذين انحازوا لأنظمةٍ شمولية، أسكتَت كلَّ صوتٍ لا يكون صدًى لشعاراتها، وأباحت لنفسها ارتكابَ مجازرَ شنيعة، بذريعة القضاء على مناهضي الثورة من الرجعيين.

تواطأ بعضُ المثقفين مع أنظمةٍ يساريةٍ أممية وقومية، ضحَّت بالكائن البشري من أجل أيديولوجيا لا ترى الفردَ إلا بوصفه جزءًا منصهرًا في ماكنة عملاقة هي الدولة. هذه الأنظمة أهدرَت الكرامةَ البشرية، وصادرَت أبسطَ حريات الإنسان، واستباحت حقوقَه. مؤسِّسُ النظام الشيوعي في الصين ماو تسي تونغ قتل الملايين، زمنَ السلم لا الحرب في ثورته الثقافية. جوزيف ستالين قتل الملايين أيضًا. الجنرال بول بوت قتل ربعَ شعبه عندما استولت حركةُ الخمير الحُمْر التي يقودها على السلطة في كمبوديا. لم تكن ممارساتُ الأنظمة الثورية اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا أرحمَ، ولا أقلَّ استبدادًا وعنفًا من ذلك التوحُّش، بعد استحواذها على السلطة، واتخاذ المواطنين رهائن.

المثقَّف ليس قاضيًا أو مفتِّش عقائد، المثقَّف ليس مبشرًا ولا واعظًا. مهمةُ المثقَّف الفهمُ والتحليلُ والنقدُ والتمحيص، باعتماد العقل المتحرِّر من كلِّ إطارٍ أيديولوجي. المثقَّف ينشغل بتفسير العالَم واكتشاف الواقع المركَّب. لا تُحجِّر على عقله وتستلب وعيَه الأيديولوجياتُ مهما كانت شعاراتُها عاطفيةً عاصفة. يتحرَّر المثقَّفُ من رؤية العالَم بمنظورٍ أُحادي، ويجرؤ على النقد والاحتجاج والإدانة، إنه مثقفٌ تشغله الأسئلةُ قبل الأجوبة، مثقفٌ يتغلَّب على سجون المجتمع، فيعمل على مساءلةِ الوثوقيات، وزعزعةِ القناعات الراسخة، وتمحيصِ الموروث وغربلته، واختبارِ ما تعلنه المعتقداتُ من شعارات تدَّعي إسعادَ الناس، واختبار مصداقية الشعارات في ضوء تحقُّقها في الواقع، والقدرة على تجسيدها في أفعال وسلوك ومواقف عملية ترعى الناس وتهتمُّ باحتياجاتهم.

حاول علي الوردي أن يقدِّم نفسَه نموذجًا لمثقَّف لم يعرفه المجتمعُ العراقي من قبل، هو «المثقَّف النقدي»، مثقفٌ يفكر ويتحدث خارج أكثر القيم السائدة، والأيديولوجيات السياسية المغلَقة، ورومانسيات المثقَّفين الشائعة. مثقَّفٌ يتساءل ويفحص ويشكِّك في التابوات المعروفة، يدرس تجلياتِ الدين المتنوعة وتعبيراتِه المختلفة في المجتمع العراقي، مثقفٌ تنعكس في كتاباته عقلانيةٌ نقدية، تعتمد علومَ الإنسان والمجتمع الحديثة في تفسير الظواهر الاجتماعية، وتحاول اكتشافَ شيءٍ من العوامل الخفية لها، في ضوء تخصُّصه في علم الاجتماع. سبق علي الوردي وعاصره مثقَّفون عراقيون كانوا يتساءلون ويفحصون ويشكِّكون في التابوات المعروفة؛ مثل: جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، وعلي الشرقي، وجعفر الخليلي، وغيرهم. الوردي تميز عن الكل بدراسته ونقده وتحليله للتابوات وللظواهر الدينية في المجتمع من منظور علوم الإنسان والمجتمع الحديثة، استطاع الوردي بذكاءٍ الإفادة من تخصُّصه في علم الاجتماع، وتوظيفه في تفسير تمثلات الدين والتراث في المجتمع العراقي.

لم يدخل علي الوردي في معركة مع الله، ولم يتنكَّر لحاجة الإنسان للدين، لكنه دخل في معركةٍ مع الصور التي يرسمها «وعَّاظ السلاطين» لله، وتنكَّر لمفاهيم دينية متحجِّرة، ورفض فلكلورًا مبتذلًا يتلبس بأقنعةِ الدين، وفضح تمثلاتٍ مجتمعية للدين تُهدر مضمونَه الروحاني والأخلاقي والجمالي، وكشف أنماطَ تدينٍ تنتهي إلى تدجين الكائن البشري على الخضوع والانقياد بلا تعقل. تجعل الإنسان يعيش صراعًا بين متطلبات طبيعته البشرية، وما تفرضه عليه عملية التدجين، فتُصاب شخصيتُه بازدواجية، وفي بعض الحالات تُصاب بشيزوفرينيا مرَضية.

الحديثُ عن «المثقَّف العضوي» و«المثقَّف النقدي» غيرُ حاضر في أعمال الوردي، غير أنه أشار إلى مضمونهما بوضوح في كتاباته، في سياق تمييزِه بين وظيفة الباحث ووظيفة الداعية، وكشفِه عن الاختلاف والبَوْن الشاسع بينهما؛ فهو يقول مثلًا: «ينبغي أن نميِّزَ بينَ وظيفةِ الداعيةِ ووظيفةِ الباحثِ في الحياة؛ فالداعيةُ هو الذي يتمسكُ بعقيدةٍ من العقائد — دينية أو سياسية — ويدعو الناسَ إليها؛ ولذا فهو مضطرٌّ أن ينظرَ في أحداثِ التاريخِ نظرةً تقييمية، حسبَ معيارِ العقيدةِ التي يدعو إليها. أما الباحث فالمفروض فيه أن يدرسَ أحداثَ التاريخ، دون أن تكونَ لهُ أي فكرةٍ مسبقةٍ تحددُ موقفه منها، وإذا كانت لديهِ مثل هذه الفكرة تحوَّل من كونهِ باحثًا إلى كونه داعيةً.»٥ ويسخرُ الوردي من أولئك المثقَّفين المتحذلقين الذين يمارسون مهمة الوعَّاظ بقوله: «الوعَّاظ المتفرنجون لا يقلون عن المعمَّمين في ولَعهم بالنصائح الفارغة؛ فلا يكاد أحدٌ يذهبُ إلى بلادِ الغرب إلا ويرجعُ وقد انتفخَت أوداجهُ غرورًا وتحذلقًا، ويأخذ عند ذلك في تمجيد سجايا الغربيين وسُمو أخلاقهم، ثم ينظرُ إلى مَن حوله من البؤساءِ فيرمقهم بنظرة احتقارٍ ويقول: ما لكم لا تتخلَّقون بأخلاقهم؟ يفتخر المعمَّمون بأخلاقِ السلفِ الصالح، ويفتخر المتفرنجون بأخلاقِ الغربيين. وهم جميعًا يريدون أن يضعوا أمام الناسِ غايةً لا تُنال إلا على سبيلِ الإلهاءِ والترويع.»٦

المثقَّفُ مهمته تفسيرُ العالَم لا تغييره. المثقَّف العقلاني الحر ليس نبيًّا أو مبشِّرًا أو داعيةً أو فدائيًّا، صورةُ المثقَّف ليست واقعيةً في أكثر الشعارات الرومانسية المنفعلة لليسار الأممي والقومي والديني. المثقَّفُ أعزل، لا يمتلك منبرًا، ولا جريدة، ولا نفوذًا بوصفه شيخًا لعشيرة أو أميرًا لجماعة أو زعيمًا. المثقَّفُ في مجتمعاتنا لا تحميه أحزابٌ سياسية، ولا مؤسَّساتٌ، ولا سلطاتٌ سياسية أو روحية أو مجتمعية. للمثقَّف الحقُّ كأيِّ إنسانٍ أن يعيشَ حرًّا كما يعيشُ كلُّ الناس، ويختار الطريقةَ التي يكتبُ فيها.

(٦) المثقَّف النقدي غير المثقَّف الأيديولوجي

علي شريعتي مثقَّف أيديولوجي، أما علي الوردي فمثقَّف نقدي. يبدو للوهلة الأولى أن شريعتي والوردي متشابهان في المنهجِ والتفكيرِ والرؤية للعالَم والمواقف، لكن ما يسود أعمالَ الوردي عقلانيةٌ نقدية لا تخلو من انطباعاتٍ ذاتية، ما يسود أعمالَ شريعتي التبشيرُ بأيديولوجيا الثورة، وتوظيفُ تراث الإسلام والنصوص الدينية في التحريض على النضال والتضحية، عبْر استلهام مواقف الشخصيات الثورية في الماضي والحاضر، في سياق انطباعاتٍ ذاتية. وإن كانت أعمالُ علي شريعتي لا تفتقر للنقد العقلاني، والتفسير والتحليل العلمي. عندما نقرأ آثارَ كلٍّ منهما، ونتعرَّف على مواقفه، نرى الاختلافَ بينهما واضحًا. لم يكن علي الوردي داعية، بل كان باحثًا يُحاول أن يتحرَّى الحقيقةَ في آثاره، ويسعى لأن يكتشفَ شخصيةَ الفرد والمجتمع العراقي، في ضوء ما تُوصله إليه مناهجُ البحث الاجتماعي، وفهمُه وانطباعاتُه الخاصة.

لم ينخرط الوردي في جماعةٍ سياسية، ولم يكن في يومٍ ما منظرًا أيديولوجيًّا أو مبشرًا، أو خطيبًا حماسيًّا، ونادرًا ما كان يحاضر في الجامعات والمنتديات والحسينيات، أو يشارك في ندوات ومؤتمرات، أو مقابلات ومقالات في الصحف والمجلات داخل العراق وخارجه. السبب في ذلك لم يكن مزاج الوردي وطبيعة شخصيته فقط، بل موقفُ النظام السابق في العراق من تفكيره العقلاني الحر، ونقدُه الشجاع الذي لا يطيقة كلُّ نظام شمولي.

لم تتضمن أعمال الوردي تحريضًا على التضحية بالنفس من أجل العقيدة، بالمعنى النضالي المتداول في أدبياتِ اليسار الأممي، واليسار القومي، وأدبياتِ الجماعات الأصولية، إلا أن بعض الفقرات في كتاباته تطغى فيها حماسةٌ لا تختلف أحيانًا عن حماسة المبشِّرين، ورؤيةٌ لا تغور عميقًا في إدراك الواقع المعقَّد، وفهمٌ سريع لعملية التغيير الاجتماعي المركَّب. ربما يقع الوردي في تفاؤلٍ وأملٍ مُفرِط بالمستقبل، كما حدث في رهانِه على ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨م، واعتقادِه بأنها غيَّرَت المجتمع ونقلَت العراقَ إلى الالتحاق بمسار التقدُّم. بعد سنواتٍ قليلة كشف المستقبل عن أن هذه الثورةَ كانت بدايةً مريرة لمسارٍ نكوصي انحطاطي أنهك الدولة، وساق الشعب لمجازر حروبٍ عبثية. منذ انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣م، للحرس القومي، ارتُهن حاضرُ العراق ومستقبلُه بيد جماعة من الضباط، حتى سقط بيدِ صدام حسين وأوهامِه الإمبراطورية، وحمقه وتوحُّشِه الذي قاده لأن يُهدر أرواحَ العراقيين في حروبٍ طائشة، ويعمل على تهديم كلِّ ما تم بناؤه من مرتكزات الدولة. لم يتخلص علي الوردي من أثر الأيديولوجيا إلا في مرحلةٍ لاحقة من حياته؛ فقد تأثر في بداياته بما يُسمَّى ﺑ «الاشتراكية الإسلامية»، ثم «الاشتراكية الفابية»، قبل أن يصبح «ليبراليًّا براغماتيًّا»، كما يحدِّثنا تلميذُه إبراهيم الحيدري.٧

لم يكن علي الوردي داعيةً لأيَّة ثورة بالمعنى النضالي المتداول، بخلاف علي شريعتي الذي كان أحدَ أبرز دعاة الثورة الدينية في القرن العشرين في عالَم الإسلام، إلى الحدِّ الذي كانت فيه محاضراتُه وخطبُه وآثارُه المكتوبة أحدَ منابع إلهام الثورة الإسلامية في إيران خارج الحوزة، وذلك ما دعا أتباعَه لخلع لقب «منظِّر أيديولوجيا الثورة» عليه. كلُّ من يحاول التعرُّفَ على هذه الثورة وما واكبها من مخاضراتٍ يرى بوضوحٍ أثرَ علي شريعتي في التمهيد لها، ودورَ خطاباته وكتاباته في تعبئةِ الشعب، وحضورِ الجماهير الاحتجاجي الواسع ضدَّ نظام الشاه. كانت جهودُ شريعتي شديدةَ الفاعلية والتأثير بوصفه مُنظِّرًا أيديولوجيًّا، وأستاذًا جامعيًّا، وداعيةً، وخطيبًا حماسيًّا، تكتظ «حسينيةُ إرشاد» والشوارعُ المحيطة بها لحظة يعتلي المنبر. علي الوردي لم يتَّخذ من الحسينيات منبرًا، ولم يخطب فيها مثلما كان يفعلُ شريعتي. لم يكن الدينُ حاضرًا في أعمال الوردي بكثافة حضوره في أعمال شريعتي، ولم يتخذ من الدين الركيزةَ الأساس في كتاباته، يتحدث الوردي عن الدين بوصفه ظاهرةً مجتمعيةً تتأثر بكلِّ أحوال المجتمع وظروفه.

يُشدِّد شريعتي على التضحية بالنفس من أجل العقيدة، ويُقدِّم تفسيرًا للشهادة بوصفها هدفًا لا وسيلةً، بقوله: «الشهادة في قاموسنا درجة؛ فهي ليست وسيلةً إنما هي هدف، إنها أصالة وتكامل وسمو، إنها مسئوليةٌ كبرى وصعودٌ من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية، إنها منهج. في جميع العصور إذا ما هُدِّدَت عقيدة بالانهيار فإن أنصارها يدافعون عنها بالجهاد، ويضمنون استمرارهم واستمرارها بقوة الدفاع والنضال، وإذا ما عجزوا عن النضال، ولم يمتلكوا وسائل الدفاع، وضعفَت لديهم الإمكانات، فإنهم سيحافظون على إيمانهم وعزَّتهم ومستقبل تاريخهم بالشهادة. الشهادة دعوة لكل الأجيال في كل العصور: إذا استطعَت فانتزع الحياة، وإلا فقدَّمها.»٨

الدينُ وتمثُّلاتُه أمس واليوم في حياة المجتمعات، والمجتمع الإيراني بالذات، هو المحورُ الذي تلتقي فيه محاضراتُ شريعتي وكتاباتُه، كلُّ شيء في أعماله ينتهي بالدين أو يبدأ منه، الدينُ والشأنُ الديني هو البصمة الموشَّاة فيها آثارُه. هذه ميزةٌ لا ينفرد فيها علي شريعتي، بل نراها ماثلةً في محاضرات وكتابات أكثر المفكرين والشعراء والأدباء وحتى الفنانين الإيرانيين، أكثرُ الشعر الفارسي يتعطَّر بنكهة العشق الإلهي، الموسيقى الإيرانية سحرُها في ألحانها العرفانية، الفكرُ الإيراني أحد منابع إلهامه الشعرُ الفارسي، منه يستقي مادتَه ولغتَه وأمثلتَه وأحيانًا محاججاته، كثيرًا ما ترتسمُ صورُ هذا الشعر بأحاديث الروح، وتكتبه لغةُ القلب، ويحضُر فيه صوتُ هُويةٍ قومية ليست مكشوفةً عند حافظ الشيرازي وأمثاله، وميثولوجيا قومية اصطفائية مكشوفة في «شاهنامة» الفردوسي وأمثاله.

كان علي شريعتي مثقَّفًا رسوليًّا، كرَّس جهودَه لترحيل الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا، وحاول أن يعمل على تحويل الدينِ من ثقافةٍ إلى أيديولوجيا. أدرك شريعتي أن تفسيرَه الثوري للدين يتطلَّب قراءةً أيديولوجية، الدين كما يرى هو يفتقر إلى مثلِ هذه القراءة، فعكف على إنجازها في أعماله، كما يقول: «سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهمُّ حدثٍ وأسمى إنجازٍ استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمةٍ واحدة، هو تحويل الإسلام من ثقافةٍ إلى أيديولوجيا.»٩ حرص شريعتي في كل كتاباته ومحاضراته على بناءِ فهمٍ ثوري للدين، وقراءةٍ نضاليةٍ لنصوصه؛ لذلك طبعَت الأيديولوجيا بصمتَها في آثاره.

لا أعني بالأيديولوجيا حيثما وردَت «علم الأفكار»؛ أي دراسة الأفكار دراسةً علمية، وهو المعنى الذي وضعَ له المصطلحَ بعد الثورة الفرنسية أنطوان دستيت دو تراسي. أعني بالأيديولوجيا: الفهم غير العلمي للواقع، الذي تفرضه معتقداتٌ مغلَقة. وهذا الفهم متداول في كتاباتٍ كثيرة. الأيديولوجي كالواعظ لا يتيح لك أن تتساءل وتتأمل ما يقول، يقدِّم لك قناعاتٍ جاهزةً وأقوالًا خارج سقف النقد والمناقشة. يُغالي شريعتي بوظيفة الأيديولوجيا، لترتقي لديه إلى مرتبة تصير فيها وصفةً تعالج تشوُّهات وأمراض المجتمع، وتمنحه مجموعةَ أحلامه صفقةً واحدة، فهو لا يني يُشدِّد على أخلاقيةِ الأيديولوجيا، وابتكارِها لقيمٍ جديدة، وأثرِها السحري في المحو والإثبات، وصياغةِ مجتمعٍ مثالي.

الأيديولوجيا لا تصف الواقع ولا تفسره، الأيديولوجيا انتقائية تلتقط بعض الصور وتعالجها بطريقتها الخاصة في المخيال، وتُوظِّفها في الاعتراض والتحريض والاحتجاج وتأجيج الغضب العام. المخيال هو الحبل السُّري الذي تتغذَّى منه كل الأيديولوجيات. لم يتنبه شريعتي إلى أن تفشِّي الأيديولوجيات اليسارية والقومية والأصولية في مجتمعاتنا، أنتج عقلًا مغلقًا مُتحَجِّرًا، يفسِّر كلَّ شيءٍ بشيءٍ واحد، ويبثُّ وعودًا وأحلامًا رومانسيةً خلاصية، منقطعةَ الصلة بالواقع، يُنتِج ذلك العقلُ مفاهيمَ وشعارات، بمرور الأيام تصبح معتقداتٍ راسخة مسيَّجة بأسوارٍ مُقفَلة، وكأنها سجونٌ يُولَد ويترعرع في داخلها أتباعٌ لا يطيقون العيشَ خارجَ أسوارها، تُمسي الأيديولوجيا مادَّةً لأذهانهم ومشاعرهم، ويُمسون هم مادَّةً لها.

الأيديولوجيا نسقٌ مغلَقٌ، يغذِّي الوعيَ بمعتقداتٍ ومفاهيمَ ومقولاتٍ جزميةٍ نهائية، تعلن الحربَ على أيَّة فكرةٍ لا تُشبِهها، تنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحد، وموقفٍ واحد. يتبنَّى الأيديولوجي نموذجًا تفسيريًّا مسطَّحًا أُحاديًّا، يمنحه شعورًا مزوَّرًا بأنه قادرٌ على الفهم الدقيق والتحليل العميق لكلِّ شيء، وأن أفكارَه مبتكرةٌ فريدة، ويُوحي له ذلك التفسيرُ بنزعةٍ رسوليةٍ خلاصية، وشخصيةٍ نبويَّةٍ إنقاذية. ويلبث غارقًا لا يستفيق من عبوديته للأيديولوجيا، حتى كأن سعادته في عبوديته هذه.

نقدُ استعمال شريعتي الدين كأيديولوجيا، لا يعني التنكرَ لكفاح شريعتي وتضحيته، الذي يفرض عليَّ وعلى كلِّ مَن يقرأ أعمالَه، ويكتشف سيرتَه ومواقفَه، احترامَه وتبجيلَه وتخليدَه، والاحتفاءَ بشجاعته وشهامته وصدقه. عندما قرأتُ سيرة شريعتي الفارسية لحظة صدورها بجزأَين قبل سنوات، كتبَتها رفيقةُ دربه بوران شريعت رضوي زوجتُه، كنتُ أتمثل مواقفَ هذا المثقَّف الشهم الغيور على الإنسان، تألمتُ جدًّا لما تعرَّض له من اضطهاد ومطاردة وتشريد، ما اضطَره للهجرة متخفيًا للمنفى سنة ١٩٧٧م، ووفاته المفجعة بعد وصوله لندن بمدة قليلة، وهو بعمر ٤٤ عامًا.

على الرغم من أن عقلَ علي شريعتي وقع أسيرًا للأيديولوجيا، غير أن قلبَه لبث قلبَ عاشق، كأن شخصيته تلتقي فيها الأضداد. ظل شريعتي منحازًا للضحايا كلَّ حياته، يشدو آلامَ المحرومين، يصرخ بمظلومية المعذبين، يبكي جراحَ أرواحهم النازفة، لم يُرهبه السجنُ الانفرادي في زنزانةٍ كئيبة. أودُّ الاشارة إلى أن أفكار هذا المقال وُلدَت بعد أن قرأتُ آثار علي شريعتي الصادرة بالفارسية، قبل أكثر من ٣٠ عامًا.

(٧) الوردي ناقدًا لأفكاره

شهد العراقُ بعد منتصف القرن الماضي صراعًا أيديولوجيًّا منفعلًا بين حركاتٍ يساريةٍ أممية، وحركاتٍ قوميةٍ ودينية، انعكس هذا الصراعُ على النخبة وتسرَّب إلى فضاء الجامعات بشكلٍ واسع، وتنوَّعَت المواقفُ الأيديولوجية والسياسية للأساتذة والتلامذة بتنوع هذه الحركات، كلٌّ منهم كان ينحاز لأحدِ الجماعات برأيه ومواقفه أحيانًا، وإن لم يكن منتظمًا في صفوف هذه الجماعة عمليًّا، لم تلتزم الحيادَ الأيديولوجي والسياسي إلا أقليةٌ قليلة ذلك الوقت.

لبث علي الوردي غريبًا، يرفضه المجتمعُ؛ لأنه أصرَّ على نبذ أكثر القيم العشائرية المكبِّلة للمجتمع. ورفضَته المؤسسةُ الدينية؛ لأنه لم يشأ التصالحَ مع المفاهيم الدينية المغلَقة المناهضة للتطور وبناء الدولة الحديثة. ويرفضه اليسارُ الأممي، والقومي؛ لأنه يكشف زيفَ أكثر شعاراتهما الرومانسية اللاواقعية، ولا يقبل أدبياتهما الأُحادية، ويفضح طمسَهما للذات الفردية في الحزب والجماعة التنظيمية. لا يتردَّد الوردي في الحديث عن التهافت بين «قوقعتهما»١٠ وانكفائِهما على كتلتهما الحزبية، ودعوتِهما المثالية الحالمة بالأممية العالمية، أو الوحدة على أساس الهُوية القومية العربية. ورفض المجتمعُ الورديَّ، بوصفه أصَرَّ على نبذ القيَم العشائرية المكبِّلة للمجتمع. ورفضَته المؤسسةُ الدينية؛ لأنه لم يشأ التصالحَ مع المفاهيم الدينية التقليدية المُناهِضة لقيَم المدينة والدولة الحديثة.١١

لم يصمت علي الوردي، على الرغم من أنه لم يتموضع في أيَّةِ جبهة، اختار موقفًا وضع فيه نفسَه في مواجهة الكل، استطاع أن يتخطَّى كلَّ هذه الأيديولوجيات. كان ناقدًا لكلِّ الجماعاتِ السياسيةِ في العراق، ناقدًا للماركسية، ناقدًا للجماعات القومية، ناقدًا للتشدُّد الديني، ناقدًا لوعَّاظ السلاطين، بل ناقدًا لأفكاره. هذا الموقف النقدي جعل الوردي غريبًا، لا تتحمَّس أيَّةُ جماعةٍ أو مؤسَّسةٍ حكومية لترويج أفكاره، وتعرَّضَت أعمالُه لموجةِ سخطٍ قاسية، تمثَّلَت بكتاباتِ أدباء ورجال دين وسياسة، وشائعاتٍ وأباطيل ظلت تلاحقه بين الناس، وكان لتلك الموجةِ أثرٌ بالغٌ في ترويج كتاباتِه المدوَّنةِ بلغةٍ ميسَّرة يفهمها القُراءُ بمختلف مستوياتهم.

في كلِّ محطات حياته كان علي الوردي منحازًا للعقلانية النقدية، ومدافعًا عن حريات الإنسان وحقوقه، لم يقتنع بالشعارات الأممية لليسار التي وقع في فتنتها أكثرُ الشباب، ولم يتورَّط بالتفكير الأيديولوجي السياسي المغلَق للجماعات القومية أو الدينية، ولم يتبنَّ موقفًا ثوريًّا بالمعنى النضالي الذي يدعو إليه اليسارُ الراديكالي والأصولي، كان ديمقراطيًّا يدعو لثورةٍ عقليةٍ علمية. تصف لاهاي عبد الحسين أستاذَها الوردي بقولها: «الوردي عالِمُ اجتماعٍ تحرُّري ديمقراطي تنويري مدني، أثرى المكتبةَ والوعي الجمعي العراقي بتحليلاتٍ ملهمة، ووجهاتِ نظرٍ غيرِ مألوفةٍ، للتأملِ في واقعِ المجتمعِ والظواهرِ الطارئةِ فيه.»١٢

لم يلجأ علي الوردي للتمويه، واللعبِ على الكلمات، وقولِ نصف الحقيقة، أو التخفي خلفَ مجازاتِ الكلمات، وكناياتِ العبارات. كان يخاطب الناسَ بلغتهم المحكية، لم يوظِّف ألفاظًا غيرَ متداوَلة في علاقاتهم ومعاملاتهم، أو يلجأ لمفرداتٍ غيرِ مُستعمَلة في محادثاتهم اليومية، مثلما يفعل بعضُ الكُتَّاب الذين ينسجون نصوصَهم من كلماتٍ غريبة، وربما ميتة يلتقطونها من معاجم اللغة، فتفتقد الكلماتُ قدرتَها على إيقاظ المعنى لدى المتلقي؛ لأنها تفتقرُ للتدفُّق العفْوي والتبادر الذي يُحضر المعنى سريعًا في ذهن المتلقي.

نادرًا ما نقرأ لباحثٍ يمتلك شجاعةَ الوردي وجرأتَه في نقد نفسه، وأندَرُ من ذلك أن نقرأ اعترافاتٍ يعلن قائلُها فيها عن أخطائه العلمية وتعجُّله وتناقضاته في إصدار أحكامه كعلي الوردي. بعد أن أشار الوردي إلى كتبه ومحاضرات السابقة لدراسة طبيعة المجتمع العراقي أعلن بصراحة: «قصدي من ذكر هذه البحوث السابقة هو لفتُ نظر القارئ إلى أن الآراء التي وردَت فيها ليست نهائية. فُقد البعض منها، وأبقيتُ البعض الآخر على حاله، وهذا أمرٌ لا أعتذر عنه. البحث العلمي من شأنه التغيير والتطوير؛ إذ هو يسير في ذلك تبعًا للمعلومات التي يعثر عليها الباحث مرةً بعد مرة؛ ولهذا أرجو من القارئ ألَّا يستغربَ حين يجدني في هذا الكتاب أقول برأيٍ مخالفٍ لما جاء في بحوثي السابقة. الواقع، أني من خلال دراستي الطويلة للمجتمع العراقي، قد ناقضتُ نفسي كثيرًا. وربما أخذتُ اليوم برأي، وتركتُه غدًا، ثم رجعتُ إليه بعد غدٍ. وقد لاحظ الطلاب ذلك مني؛ حيث وجدوني أغيِّر منهج الدراسة عامًا بعد عام. ولستُ أستبعدُ بعد صدور هذا الكتاب، أن أغيِّر كثيرًا من الآراء التي وردَت فيه. وربما شهد القارئ في كتبي القادمة آراءً مناقضةً لها.»١٣ لم يقفز علي الوردي في أعماله على حقائق الواقع، ولم يتجاهل الزمانَ والمكانَ والسلطة واللغة والثقافة والمحيط وكلَّ ما يصنع التاريخ، إنه منهجٌ يتبصَّر تاريخيةَ المعتقَد ويكتشف سياقاتِ تشكُّله، ويزيل الغبارَ عن صوره المتنوعة عبْر محطاته.

(٨) مركزية الشعر في الثقافة العراقية عند الوردي

علي الوردي يتقن مهارةً إنشائية ينفرَّد بها؛ فهو يكتب في السوسيولوجيا والأنثربولوجيا والسيكولوجيا، ويصف ويُحلِّل وينقد مختلفَ الظواهر في المجتمع العراقي بأسلوبٍ مباشر، يفهمه كلُّ الناس، بما يسوقه من أمثال وحكايات وفلكلور، بلغةٍ لا تخلو من تهكُّمٍ وسخريةٍ لاذعةٍ أحيانًا، كأنه يتحدث في مقهًى قديم يُدمِن روَّادُه الإصغاءَ له بوصفه قصَّاصًا. يختتم الوردي مقدمتَه لكتابه «أسطورة الأدب الرفيع» متهكمًا بقوله: «وصف أحد الأدباء كتبي السابقة كجُبة الدرويش ليس فيها سوى الرُّقَع. وأظن أنه سيصفُ كتابي هذا بمثل ذلك. ولستُ أرى في ذلك بأسًا؛ فخير لي أن أكون رقَّاعًا أخدم الناس بالملابس المهلهَلة، من أن أكون خياطًا ممتازًا أصنع الملابس المزركَشة، التي لا تُلائم الأجساد، ولا ينتفع بها أحد.»١٤

لم أقرأ لعالمِ اجتماعٍ كتابةً باللغة المتداوَلة في تخاطب الناس ومحادثاتهم اليومية في مختلف القضايا كعلي الوردي، لا يكفُّ في كتاباته عن الإثارة والتحرُّش بتابوات الدين والعشيرة والسلطة ومؤسَّساتها المتنوعة. تظهر براعةُ الوردي في انتخاب عناوين كتبه، كأنها لافتاتٌ تحريضية، مثل: «وعَّاظ السلاطين»، «أسطورة الأدب الرفيع»، و«مهزلة العقل البشري».

لبث علي الوردي غريبًا، يرفضه المجتمعُ، ولم تتسع الثقافةُ العراقيةُ لفكره، كلُّ شيءٍ في هذه الثقافة متمركزٌ حول الشعر. لا نحتاج إلى المزيد من الشعر والكتابة الغزيرة عنه، أغلبُ ما يُكتب ويُنشر عن الشعر تكديسُ كلام على كلام، وليس شعرًا بالمعنى الذي تتكشَّف فيه رؤيا مبدِعة، ومعرفةٌ مكتنزة، وبصيرةٌ ملهمة. نادرًا ما نقرأ اليوم شعرًا يلوح لنا فيه أنه يختصر معرفةً في جملة، وجمالًا في لوحة، وكلماتٍ في كلمة.

أخيرًا بدأت الثقافةُ العراقيةُ تنفتحُ على الرواية بجدِّية وغزارة، وهو تحوُّل في الاتجاه الصحيح. الروايةُ تتسع لكل الأجناس الكتابية، وتتغذَّى من مختلف المعارف البشرية، الروايةُ الخالدة هي ما يكشف للقارئ أعماقَ الإنسان، ويفضح تناقضاتِه الداخلية. الروايةُ تُفتضح فيها تابواتُ المجتمع، وما تُخفيه الأعرافُ والتقاليد والثقافة المحلية، وتفسِّر فاعليةَ الهويات وأثرَها في الثقافة والسياسة والعلاقات الاجتماعية، وأثرَ المخيال في الثقافةِ الجمعية وأنماطِ التدين وتمثُّلاتِ الدين المتنوعة في حياة الفرد والجماعة. وتنقب في أرشيف اللاوعي الجمعي، والمستور الذي يتكتَّم عليه ظاهرُ العلاقات في العائلة والمجتمع والدولة، والأهداف المضمَرة للسلطات السياسية والدينية والحزبية والعشائرية.

تجلَّت غربةُ علي الوردي الأقسى بحضوره في هذا اللون من الثقافة العراقية، ثقافةٌ يتمركز كلُّ شيء فيها حول الشعر، ثقافةٌ متيَّمةٌ بالشعر إلى الحد الذي قلَّما تحتفي فيه بمعرفةٍ أو فكرٍ أو ثقافةٍ لم يمسَسْها الشعر، ولا يندرج في اهتماماتها أيُّ صاحب مُنجَز فكري إن لم يكن أديبًا وشاعرًا، وغالبًا ما لا تصنِّفه على الثقافة، وربما تبخل عليه حتى بعنوان «مثقَّف»، ولا يدخل في اهتمامها وندواتها ومنتدياتها ومهرجاناتها من لم يكن شاعرًا، أو عاشقًا أو صديقًا أو متذوقًا للشعر والأدب.

انشغلَت الثقافةُ العراقيةُ ببعضِ شعراء القصيدة العمودية إلى الحد الذي صارَ فيه كلُّ من يطمح أن يكتسبَ عنوانَ مثقَّف عليه أن يحفظَ بعضَ قصائدهم المحاكية لشعر العصر العباسي، ويكتبَ عنهم. لم يحضُر السيابُ كحضور هؤلاء الشعراء، وكأن السيابَ عُوقب لأنه تجرَّأ على التمرُّد على ميكانيكية القصيدة العمودية فكسر تصلُّبها، ولأنه انتقل بالشعر العربي إلى أفقِ العصر، وذوقِه الفني، ولغتِه الرمزية، وكثافةِ معانيه، واتساعِ رؤيته.

لم يكن علي الوردي شاعرًا، ولم يُعرف عنه ارتيادُ منتديات الشعراء، ولم يكتب مديحًا لشعر أو شاعر، حتى تعاطي الشواهد الشعرية شحيحٌ جدًّا في كتاباته، كان على الضدِّ من توثين الشعر والأدب وتسيُّده في الثقافة العراقية. بأسلوبٍ تهكُّمي في: «أسطورة الأدب الرفيع» يكتب الوردي تصديرًا لكتابه هذا بقوله: «أُهدي كتابي هذا إلى أولئك الأدباء الذين يخاطبون بأدبهم أهل العصور الذهبية الماضية، عسى أن يُحفِّزهم الكتاب على أن يهتمُّوا قليلًا بأهل هذا العصر الذي يعيشون فيه، ويخاطبوهم بما يفهمون؛ فلقد ذهب عهد الذهب، واستعاض عنه الناس بالحديد!»١٥ لا يكفُّ الوردي عن نقدِ الشعر القديم والدعوةِ لتجاوزه، بوصفه مرآةَ العصر الذي أنتجه بكلِّ ما يَحفِل به. بلغَت الجرأةُ به أن يزدري «طريقة الاستجداء لكسب العيش»، وطريقة تكسُّب أكثر الشعراء، ويعلن بصراحة: «إنهم شحَّاذون، ويدَّعون بأنهم ينطقون بالحق الذي لا مراء فيه، والويل لمن يجرُؤ على مصارحتهم بالحقيقة المرة، أو تكذيبهم فيما يقولون.»١٦

بلغ تمركُزُ الثقافة العراقية حول الشعر، والاستنادُ إليه كمرجعية في تصنيف كلِّ ما يتصل بالإبداع والتأليف والكتابة، أن حدَث قبل عامَين أن خصَّصَت إحدى الصحف الثقافية ببغداد مِلفًّا استوعب كلَّ الصفحات لعددَين، بعنوان: «لماذا نكتب؟»، استَكتبَت فيه الصحيفةُ عشراتِ الشعراء والأدباء من العراقيين وغيرهم، ولم تستكتب فيه أيَّ صاحبِ منجزٍ فكري لامع، أو كاتبٍ معروف. سألتُ صديقي المحرِّر: لماذا لم تطلبوا من غير الشعراء والأدباء الإسهامَ في محور صحيفتكم حول الكتابة، فأجاب: نحن نريد بالكتابة في السؤال «الكتابة الإبداعية» خاصة. قلتُ له: بناءً على ما تقول، ينبغي أن نُسقِط مُنجَزًا رائدًا لفقيه ومفكر مثل محمد باقر الصدر، أو لعالم اجتماع مثل علي الوردي، ومن بقامته أمثال فالح عبد الجبار؛ لأننا نبخل عليهم بتوصيف كاتبٍ مبدع! وأخيرًا لم يقتنع المحرِّر بما قلتُه، مثلما لم أقتنع بما قاله.

لم ينشغل الوردي بنقاشاتِ وردودِ التُّهم المُثارة ضدَّه، وثرثراتِ الوعَّاظ الذين أغاظهم كتابُه «وعَّاظ السلاطين» وكتاباتُه الأخرى، ولم يكترث بهذر بعض الأدباء والشعراء الذين امتعضوا من كتاباتِه المثيرة عن الشعر، وسخريتِه ﺑ «الأدب الرفيع». في حالاتٍ استثنائية كان يُصغي لبعض الباحثين الجادِّين، كما فعل مع عبد الرزاق محيي الدين، الذي كتب نقدًا لآراء الوردي في الأدب، فأجابه بسلسلة مقالاتٍ نشرها في كتابه: «أسطورة الأدب الرفيع». يشير الوردي إلى قصة تأليفه كتابه «أسطورة الأدب الرفيع» فيقول: «بدأت القصة منذ بضعة أشهر؛ حيث كنتُ قد نشَرتُ في جريدة الحرية بعضَ المقالات، نعَيتُ فيها على الأدباء تمسُّكَهم بالتقاليد الأدبية القديمة، وقلة اهتمامهم بما يحدث في هذا العصر من انقلابٍ اجتماعي وفكري عظيم. فهبَّ الأدباء من جرَّاء ذلك هبةً واحدة، وأخذوا ينتقدونني ويتهجَّمون، ويصولون ويجولون، فلم أجد بُدًّا من الرد عليهم بمناقشة الآراء التي جاءوا بها … ولسوف أقتصر في هذا الكتاب على إعادة نشر مقالات الدكتور محيي الدين وحدها، تلك التي نشرتُها في جريدة البلاد، وكان لها صدًى بين القُراء لا يُستهان به. ومقالات الدكتور هذه، والحق يُقال، من خير ما كُتب في الموضوع. فهي تمثل وجهةَ نظرٍ جديرةً بالدرس والعناية. وأحسبُها لا تخلو من أصالة.»١٧

(٩) سلطة الفصاحة والنحو عند الوردي

اللغةُ اختراعٌ بشري، لم تنزل أيةُ لغة من السماء، لا العربية ولا غيرها. ليست هناك لغة أشرف اللغات ولا لغة أحقر اللغات. الواقعُ اللغوي اليوم يكشفُ أن اللغةَ الأكثر انتشارًا واستعمالًا في العلم والمعرفة والإنترنت والتكنولوجيا والاقتصاد والمعاملات المتنوعة في حياة الناس هي اللغة الإنجليزية، بوصفها الأسهل في النطق، وفي التعبير عن الأشياء والمفاهيم بشكلٍ مباشر، بلا فائضٍ لفظي.

اللغةُ كائنٌ تنطبق عليه القوانينُ التي يخضع لها كلُّ كائنٍ حي، الحيُّ الذي لا ينمو ويتطور يتحَّجر ويموت. اللغةُ كائنٌ اجتماعيٌّ طبيعتُه التغيُّر والتحوُّل. اللغةُ الحيَّة ذاتُ ديناميكيةٍ داخلية، تُولَد فيها كلماتٌ جديدة وتندثر أخرى، تبعًا للتطور الحضاري للمجتمع الناطق بها؛ لذلك تواصل كلماتُها باستمرار الولادةَ والنموَّ والشيخوخةَ والمرضَ والموت، وتبعًا لذلك تتجدَّد أساليبُها البيانية، وطرائقُ التحدث بها. ليس هناك لغة مقدَّسة ولغة مدنَّسة، اللغة الحيَّة هي القادرة على مواكبة الحياة واستيعاب مستجدَّاتها. تصلُّب اللغة وسكونها ليسا ميزة، تطوُّر اللغة وتجدُّدها دليل على حيويتها وتناغمها مع إيقاع الحياة وثقافة الإنسان.

لم يكن علي الوردي مسكونًا ﺑ «الفصاحة»، كما اشتُهرَت عند اللغويين منذ عصر التدوين، ولم يكترث بالنحو وقواعده كثيرًا في كتاباته، بل كان يسخرُ من تشديد أهل اللغة على ذلك. لم يعبأ الوردي بكلِّ ذلك الاهتمام المبالَغ فيه بالفصاحة والنحو، بل كان يهمُّه إيصال أفكاره بأية وسيلة، مهما كانت طريقةُ إبلاغه عنها؛ لذلك ظلَّ يُحذِّر النقادَ المتحذلقين من تسقُّط الأخطاء النحوية في كتاباته، وينفر ممن يلاحقون الإعرابَ في أعماله، ويتهكَّمون على ما يحسبونه عثراتٍ إعرابيةً في كتاباته. بلا تردُّد أو حذر أو خجل يعترف علي الوردي بكثرةِ الأخطاء النحوية في كتاباته، ويعلن بأنه لا يعتذر عن ذلك؛ إذ يقول في سياق بيان موقفه من النحو: «أودُّ أن أنتهزَ هذه المناسبة لأُشير إلى أمرٍ ربما لاحظه القارئ في جميع كتبي، هو كثرة الأخطاء النحوية فيها. وهذا أمرٌ أعترفُ به ولا أعتذر عنه. لا أكتمُ القارئ أني أعتبر النحو بلاءً ابتُليَت به الأمةُ العربية. وأنا على يقينٍ أن الأمةَ العربية، في مسيرتها الحضارية نحو المستقبل، سوف يأتي عليها يومٌ تجد نفسها مُضطرَّة إلى إلغاء النحو كلِّه من مناهج مدارسها، أو إلغاء الجزء الأكبر منه على الأقل … مشكلة النحو العربي أنه ذو قواعدَ كثيرة ومعقَّدة، دون أن تكون له أية فائدةٍ عملية، ولم نحصل من النحو إلا على أفرادٍ من الناس دأبهم البحث عن الأخطاء النحوية في خُطب الناس وكتاباتهم لينتقدوا أصحابها بها، ويشنُّوا عليهم الهجمات الشعواء.»١٨

الدعوة إلى «إلغاء النحو كلِّه» غير واقعية. اللغة تُنطق وتُكتب بقواعد، لا يمكن إهمال تلك القواعد كليًّا في التحدث والكتابة. قواعدُ النطق في اللغات الحية سهلةُ التلقي منذ الطفولة من البيئة اللغوية، وسهلةُ التعلم والإتقان. قواعدُ اللغة العربية كثيرةٌ دقيقة تفصيلية متشعِّبة، تتنوَّع فيها اجتهاداتُ البصريين والكوفيين الأوائل ومَن تأخَّر عنهم وتتعارض أحيانًا. قواعدُها صعبةُ الإتقان للمتخصِّص؛ إذ يلبث الإنسانُ سنواتٍ عديدةً في دراستها ثم تدريسها ولا يتقنها أحيانًا، فكيف بغير المتخصِّص الذي لا يخصِّص سنواتٍ لتعلُّمها، وهم أكثرُ الناطقين من أبنائها. هذه مشكلةٌ مزمنة يعيشها الناطقون بالعربية، تدعونا لتيسير قواعد النطق بها.

«سلطة الفصحى والنحو» أحد العوامل المعيقة للتجديد. استبدَّت مقولةُ «الفصاحة» و«الإعراب» بالعربية، وتحوَّلَت «الفصاحةُ» و«الإعراب» بمرور الزمن إلى سلطةٍ صارمة، أعاقت الديناميكيةَ الذاتية لتجديد اللغة لنفسها، ومنعَت اللغويين من تيسير قواعد النطق بها، بالشكل الذي يتمكَّن معه المتحدِّث من مراعاتها بسهولة، ويتبادر إليه إعرابُها بعفوية يرثها من بيئته اللغوية، بلا تَعَلُّم وإتْقَان وتخصُّص.

تشبُّعُ العربية بالمقدَّس بمرور الزمن أكسَبَها هالةَ وسطوةَ المقدَّس، بوصفها لغةَ القرآن الكريم والنصوص والتراث الديني. واستحواذ معاهد التعليم الديني على تعليمها واستملاكها بالتدريج، أفضى ذلك إلى أن يتولى حمايتَها رجالُ الدين، ففَرضوا سلطتَهم وسطوتَهم، إلى درجةٍ صارت أيَّةُ دعوة لإعادة النظر في قواعدها وأساليبها وتحديثها كأنها عدوانٌ على مقدَّس. يقول علي الطنطاوي: «أصبح النحوُ علمًا عقيمًا، يدرُسه الرجل ويشتغل به سنينَ طويلةً ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لأعرف جماعةً من الشيوخ، قرءوا النحو بضعة عشر عامًا، ووقَفوا على مذاهبه وأقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوَّلوا فيه وعلَّلوا، وأثبتوا فيه ودلَّلوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كلَّ مذهب، ثم لا يفهم أحدهم كلمةً من كلام العرب، ولا يقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. ولم يقتصر هذا العجزُ على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه جلَّة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول.»١٩

حضرتُ مناقشةَ دكتوراه قبل سنوات في تخصُّص اللغة العربية، كان المناقشون خمسةَ أساتذة يحملون لقبَ أستاذ دكتور باللغة العربية، جلستُ نصفَ ساعةٍ ضجرتُ لكثرة الأخطاء النحوية في نُطق بعضهم. عندما خرجتُ رأيتُ أحدَ المؤلِّفين المعروفين غادر القاعةَ قبلي، كان متذمرًا جدًّا، لفرْط انزعاجه من أحد المناقشين الذي ماتت حروفُ الجرِّ في حديثه وتعطَّلَت وظيفتُها على لسانه.

لا يعود ذلك العجز فقط إلى: تقصيرِ المعلمين في تعليمِ اللغة ونحوها، أو إهمالِ وعدمِ جدِّية المتعلمين، أو ضعفِ وإخفاقِ المقرَّرات الدراسية، بل يعود أيضًا إلى مشاكلَ بنيويةٍ عميقةٍ في تكوين وتدوين النحو، ومعاجم اللغة، وتسلُّطِ الفصحى والنحو، وشحَّةِ المراجعات النقدية للتراث المعجمي والنحوي للعربية، وعدمِ الانفتاح على المكاسب العلمية الحديثة في اللغة، ورؤية الآفاق المضيئة للألسنيات ومناهجها وأدواتها ومعطياتها الفائقة الأهمية، المتفاعلة بعمق مع الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ومختلف العلوم اليوم.

أعترف بعجزي عن إتقان النحو، مع أني درستُه عدَّةَ سنوات، مضافًا إلى دراستي للنحو في مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، درستُ في الحوزة هذه الكتب: قطر الندى وبل الصدى، وشرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، وشيئًا من شرح ابن الناظم لألفية ابن مالك، تتلمذتُ فيه على يد اللغوي المعروف رءوف جمال الدين، مؤلِّف «الخزانة اللغوية الموسَّعة والدليل اللغوي للكتب الأربعة».٢٠ سرق من عمري تَعَلُّمُ الصَّرف والنحو والإعراب والبلاغة عدة سنوات، تَعَلَّمتُه على يد شيوخٍ متمرِّسين في تدريسه، ثم دَرَّستُه لمجموعة من التلامذة في مرحلةٍ مبكرة من حياتي، لكني أخفَقتُ في إتقانِه بدقَّة، والتخلصِ نهائيًّا من أية أخطاءٍ نحوية في الحديث والكتابة، وما زلت حتى اليوم أعود لمحرِّرٍ كي يدقِّقَ ما لا أتنبه إليه من أخطاء. طالما تورَّطتُ في جدال، غالبًا ما يكون عقيمًا؛ لأن مَن يحرِّر نصوصي يرفضُ بشدة استعمالي لكلماتٍ غيرِ واردة في معاجم العربية التراثية. أناقش دون جدوى، كأن اللغةَ وُلدَت على لسان العربي الأول مكتملةً مكتفية بذاتها، أو مصابةً بعقم أبدي، يرى هؤلاء توليدَ كلمة أو استعمالٍ جديد لكلمةٍ قديمة اعتداءً على العربية.

كَبَّلَت «الفصاحةُ والإعرابُ» العربيةَ وعطَّلَتها عن تجديد أساليبها البيانية قرونًا طويلة، إلى أن فرضَ العصرُ الحديث على المتحدِّثين والكُتَّاب التناغمَ مع إيقاعِ التطور الحضاري، والانفتاحَ على التراكمِ المعرفي الواسع في مختلف العلوم البشرية، والإفادةَ من المكاسبِ المهمة في علوم اللغة واللسانيات، وما تتطلبه كلُّ لغةٍ تريد لنفسها مواكبةَ الحياة، وتلبيةَ احتياجات الناطق بها للحضورِ في زمانه وعصره، من الاغتناءِ بنتائج هذه العلوم ومكاسبها وأدواتها ومناهجها.

تمرَّدَت اللهجاتُ العربية على «الفصاحة» و«الإعراب»، وابتعدت بالتدريج عن العربية الفصيحة، ولم تأسِرْها قواعدُ النحو، بعد أن اتخذَت لنفسِها مساراتٍ تستجيب لاختلاف المجتمعات، وتنوُّعِ ثقافاتها، وظروفِ معاشها المتعدِّدة، فصار كلُّ بلدٍ يتحدَّث لهجَته الخاصة، وما فرضته متطلباتُ التواصل داخل عالَمه الخاص والعالَم من حوله.

اللهجةُ احتلت موقعَ اللغة الأم، قواعدُ اللهجة وأساليبُها البيانية ونظامُها التركيبي والصَّرفي والصوتي والدلالي لا تتطابق كليًّا وأنظمة العربية الفصحى. وتيرةُ تطوُّر اللهجة متسارعةٌ، حتى إن مدينةً مثل بغداد تتبدَّل لهجتُها في قرنٍ واحدٍ بشكل كبير، لهجتُها في النصف الأول من القرن العشرين تختلفُ عن لهجتها في نهاية نصفه الثاني. اللهجةُ محكومةٌ بتحوُّلات الأجيال، والتغيير الاجتماعي، ومختلف الأحوال السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. كأن اللهجةَ تُولَدُ بولادة كل جيل ولادةً جديدة. العربية الفصحى تظلُّ هي القاسم الحضاري المشترَك الذي يجب أن يحميَه كلُّ الناطقين بهذه اللغة. ممانعة حرس الفصحى ورفضهم لتحديثها تُفقِدها وظيفتَها الحضارية العظمي بالتدريج. كلما امتدَّ الزمنُ بها ولبثَت عصيةً على أية محاولة لتيسير نحوها، وأساليب التحدُّث بها وكتابتها، يبتعدُ أكثرُ الناطقين بالعربية عنها، ويشتدُّ عجزهم عن التحدُّث والكتابة بها.

يقول توشيهيكو إيزوتسو: «كلُّ واحدة من كلماتنا تمثِّل منظورًا خاصًّا نرى فيه العالَم. وما يُسمَّى مفهومًا ليس سوى بلورة لمثل هذا المنظور الذَّاتي.» وخصَّص محمد عابد الجابري الفصلَ الرابع من كتابه «تكوين العقل العربي» لدراسة رؤية الأعرابي للعالَم، وكيف كان: «الأعرابي صانع العالم العربي»، يقول الجابري: «لقد جُمعَت اللغة العربية من البدو العرب الذين كانوا يعيشون زمنًا ممتدًّا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانًا بل فضاءً فارغًا هادئًا، كلُّ شيء فيه صورةٌ حسية، بصرية أو سمعية. هذا العالَم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم وقبل اليوم، وسيظل هو ما دامت اللغةُ خاضعة لمقاييس عصر التدوين … أن يظل الذهن العربي مشدودًا، إلى اليوم، إلى ذلك العالم الحسي اللاتاريخي الذي شيَّده عصر التدوين، اعتمادًا على أدنى درجات الحضارة التاريخية عَبْر التاريخ، حضارة البدو الرُّحَّل التي اتُّخذَت كأصل، ففرضَت على العقل العربي طريقةً معيَّنة في الحكم على الأشياء، قوامها: الحكم على الجديد بما يراه القديم.»٢١

لبثَت مجامعُ اللغة العربية تُضيِّعُ جهودَها في محاولاتٍ عقيمة، عندما انشغلَت عشرات السنين بالعملِ على بعث ألفاظٍ متخشِّبة مندثرة، بذريعة فصاحتها؛ باستعمال البدوي لها قبل عصرِ التدوين، على الرغم من أن تلك الألفاظَ «الفصيحة» عكسَت رؤيةَ البدوي الضيقةَ للعالَم، وكانت مرآةً لمفاهيمِه المحدودة، وأمِّيَّتِه الثقافية، وأن العملَ على إحيائها وتوظيفها مجدَّدًا كان مصيرُه الفشل؛ لأنه ينتهي إلى إرغامِ تفكير الناطق بالعربية على الارتهان لرؤية البدوي للعالَم، وتبنِّي قيَمه، والاحتفاءِ بمفاهيمه المحنَّطة. وهي رؤيةٌ وقيم ومفاهيم يراد لها أن تأسرَ مصيرَ العربي اليوم، وتتنكَّر لها اللهجاتُ العربيةُ المتداوَلة في الحياة اليومية على تعدُّدها وتباعُدها المتواصل بين مشرق الناطقين بها ومغربهم. كأن مجامعَ اللغة العربية تريد أن تشطبَ على كلِّ التطور الحضاري ومكاسبِ العصور الحديثة بالارتهانِ لرؤية العالَم القديم والانخراطِ في مشاغله.

في مرحلةٍ لاحقة من نشأة النحو تشكَّلَت قواعدُ اللغة العربية في قوالب المنطق الأرسطي، مثلما وقع غيرُها من علوم اللغة في هذه القوالب، وتحوَّل هذا المنطقُ إلى بنيةٍ للتفكير في علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، وغيرها من علوم الدين. كلُّ هذه العلوم أضحت يتحكَّم بها المنطقُ الأرسطي، تفكِّر في إطار قواعده، وتستدلُّ بأساليب محاجَجاته، وتُبرهن بطرائق استدلاله، وتتحدَّث في سياق معجَمه ومصطلَحاته. انتهت علومُ الدين واللغة إلى أن تقع في مداراتٍ مسدودة يبدأ التفكيرُ فيها من حيث انتهى وينتهي من حيث بدأ، باتت مكبَّلةً تعجزُ عن الإفلاتِ من هذه الحدود الصارمة، والبحثِ عن أفقٍ بديل لمنطق التفكير وآفاقه. رسَّخ هذا المنطقُ بنيةً للتفكير متجذِّرةً يصعب جدًّا التحررُ منها، وكأننا نرى طفلًا ظل يتغذى بالغذاء نفسِه الذي تلقَّاه في مرحلة الرضاعة، لم يغادره في فتوَّته ومراهقته وشبابه حتى شيخوخته، على الرغم من أن متطلباتِ الغذاء لكلِّ مرحلة من العمر تحتاج إلى عناصرَ أساسية لبناء الجسد ونُموِّه وتطوُّره.

أدعو لتيسير قواعد العربية، ولا أدعو للاستغناء الكلي عنها، تيسيرها بالشكل الذي يجعل تلقِّي أبناء اللغة لها من أمهاتهم وآبائهم وعوائلهم وبيئاتهم عَفْويًّا تلقائيًّا، كما يتلقَّون كلمات ومعجم النطق بها. وتحديث معجمها ليتسع لاستيعاب ما يستجدُّ من مصطلحات وتسميات مكاسب العلوم والمعارف والتكنولوجيا. هذا ليس رأيي فقط، هذا رأيٌ اشتهر عن جماعةٍ من علماء اللغة والنحو المعاصرين، ممن كانوا يفكِّرون بذلك، وكتبوا فيه. هناك مجموعةُ علماء عملوا على تيسير النطق بالعربية، غير أن دعوتَهم أُجهضَت مبكرًا، لسطوة الفصاحة والنحو وتسلُّطهما الشديد، مثلما أُجهضَت دعوات الإصلاح في بلادنا. أصحابُ هذا الموقف هم جماعةُ الميسِّرين الذين دعَوا لتيسير النطق باللغة وقواعدها، من أبرز علماء اللغة والنحو؛ فمثلًا خصَّص عضوُ مجمع اللغة العربية إبراهيم أنيس فصلًا بعنوان: «قصة الإعراب» في كتابه: «من أسرار اللغة»، كشَف فيه كيفيةَ نشأةِ الإعراب، وكيف صار نظامًا صارمًا للسان العربي، واتخذ قيمةً عُلْيا استأثر بها النحاةُ فصنعَت لهم مكانةً استثنائية، ترسَّخَت من خلالها سلطتُهم المعرفية على العربية. يروي أنيس هذه القصةَ بقوله: «ما أروعَها قصة! لقد استمدَّت خيوطها من ظواهرَ لغويةٍ متناثرةٍ بين قبائل الجزيرة العربية، ثم حيكَت. تم نسجها حياكةً محكمة في أواخر القرن الأول الهجري، أو أوائل الثاني على يد قومٍ من صُنَّاع الكلام، نشَئوا وعاشوا معظم حياتهم في البيئة العراقية، ثم لم يكد ينتهي القرنُ الثاني الهجري حتى أصبح الإعرابُ حصنًا منيعًا، امتنع حتى على الكُتَّاب والخطباء والشعراء من فصحاء العربية، وشقَّ اقتحامه إلا على قومٍ سُمُّوا فيما بعدُ بالنحاة … ومع أن الإعراب ليس في حقيقته إلا ناحيةً متواضعة من نواحي اللغة، فقد ملَك على الناس شعورهم، وعدُّوه مظهر ثقافتهم ومهارتهم الكلامية، يتنافسون في إتْقَانه، ويُخضِعون أقوال الأدباء لميزانه؛ فليس الفصيح في نظرهم إلا من راعى قواعده، وأخذ نفسه باتباع أصوله ونظامه … وصارت قواعدُه في آخر الأمر معقَّدةً شديدةَ التعقيد، وقد تَفْنَى الأعمار دون الإحاطة بها، أو السيطرة عليها سيطرةً تامة. وصرنا الآن ننفر منها لما اشتملَت عليه من تعسُّف وتكلُّف، بغَّضَ إلى الكثيرين دراسة اللغة العربية في العصر الحديث.»٢٢

البعضُ يعتاش على سلطة الفصاحة والنحو، والدعوةُ للتجديد تُناهِضها دائمًا شبكاتُ مصالح متجذِّرة متشعِّبة معقَّدة، وطالما خرجَت من فضاءِ النقاش العلمي إلى ضجيجِ الجدل البزنطي.

(١٠) نقاش حول سلطة الفصاحة والنحو

بعد نشر: «سلطة الفصاحة والنحو عند الوردي» في جريدة الصباح ببغداد، الصادرة في ١٢ تشرين ثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠م، تداولَتْها لاحقًا عدَّةُ صحف ومجاميعُ في وسائل التواصل. اختلفَت المواقفُ حيالها؛ ففيما أثنى عليها وتحمَّس لها بعضُ الخبراء والقُرَّاء، امتعض منها آخرون، وزعموا أنها تتنكَّر لضرورة وجود قواعد للغة العربية، واتَّهم غيرُهم كاتَبها بكلماتٍ غير مهذبة. أشكر كلَّ قُراء المقالة، سواء مَن كان معها أو ضدَّها، وأتمنَّى على بعض القُرَّاء ألا يلجأ للهجاء والكلمات المنفعلة؛ النقدُ العلمي يهتمُّ بتمحيص الآراء قبل أن يتهم كاتبَها.

لم أنكر ضرورةَ وجودِ قواعدَ للعربية، واحدةٌ من الضرورات المعروفة أن كلَّ لغة تُنطق وتُكتَب بقواعد لا سيما العربية، ولا يصح إهمالُ تلك القواعد كليًّا في التحدُّث والكتابة. المقالة السابقة ترى أن قواعدَ النطق في اللغات الحية سهلةُ التلقي منذ الطفولة، يستقيها الإنسانُ من بيئته اللغوية، ويتيسر له تعلُّمُها وإتقانُها. قواعدُ العربية كثيرةٌ دقيقةٌ تفصيليةٌ متشعِّبة، متعارضةٌ أحيانًا، تتنوَّع فيها اجتهاداتُ البصريين والكوفيين الأوائل، ومن تأخَّر عنهم. هذه القواعد صعبةُ الإتقان لمن يتخصَّص بها؛ إذ يلبث التلميذُ سنواتٍ عديدة في دراستها، غير أنه ربما لا يتقنها، فكيف بغير المتخصِّص الذي لا يتسع عمرُه لإنفاق سنوات في تعلُّمها، وهم أكثرُ الناطقين بالعربية من أبنائها.

اللغةُ بدلًا من أن تكون أداةً مرِنةً طيِّعة في التواصل الاجتماعي، تحوَّلَت إلى قيدٍ يقيِّد العقل، يُنهك التفكير، يُرهق النطق، وتتعسَّر به الكتابة. في العربية نحن نتحدَّث بلغةٍ هي اللهجة السائدة في مجتمعنا، ومع الناطقين باللهجات العربية الأخرى نتحدَّث بلغة ثانية، ونفكر بلغة ثالثة، ونكتب بلغة رابعة. وربما نرى مَن يتقن عدةَ لغات لا تكون أحيانًا مصدرَ ثراء وخصوبة لديه، بل تشتبك هذه اللغاتُ في بعض الحالات مع مجموعة العربيات؛ لهجة ينطق بها، لهجة ينطق بها مع عربي في شمال أفريقيا ومصر، لغة يكتب بها، لغة يُفكر بها.

أعرفُ الفارسية، وترجمتُ عدَّةَ كتب منها إلى العربية، لم أجد فجوةً واسعة بين الشفاهي والمكتوب، المسافةُ فيها ليست شاسعةً بين لغة الكتابة ولغة المحادثة كما العربية، حتى إن مجموعةَ مؤلَّفات علي شريعتي مثلًا أغلبُها محاضراتٌ شفاهية، كُتبَت على الورق، ونُشرَت بتحريرٍ بسيط، هذا ما رأيتُه في بعض مصوَّرات تحريرها. وهكذا الكتابات المنشورة لبعض المؤلِّفين المعروفين اليوم بالفارسية.

تلك مشكلةٌ يواجهها الناطقون بالعربية تدعونا لتيسيرِ قواعد النطق بها، وإثراءِ معجمها، وتضييقِ الفجوة بين الشفاهي والمكتوب. أدعو لتيسير القواعد، وليس الاستغناء عنها كلِّها، أعني تيسيرَها بالشكل الذي يجعل تلقِّي أبنائها لقواعدها من عوائلهم وبيئاتهم عَفْويًّا، كما يتلقَّون كلمات ومعجم النطق بها. لا أدعو لاعتماد اللهجات المحلية بديلًا عن الفصحى في الكتابة. أدعو لتحديث أنظمة العربية التركيبية والصَّرفية والصوتية والدلالية، وتحديث معجمها ليتسع لاستيعاب ما يستجدُّ من مصطلحات مكاسب العلوم والمعارف والتكنولوجيا. وهذا ما نراه في قواعد ومعجَم اللغات الحية، مثل: الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، وغيرها.

هذا ليس رأيي فقط، هذا رأيٌ اشتهر عن جماعة من علماء اللغة والنحو المتقدمين والمتأخرين؛ فمثلًا ينصح الجاحظ (ت٢٥٥ﻫ) المعلِّم بقوله: «وأما النحو، فلا تُشغِل قلبَه٢٣ منه إلا بِقَدْر ما يؤدِّيه إلى السلامة من فاحش اللَّحْن، ومن مقدار جهل العوامِّ في كتابٍ إن كتبه، وشِعْرٍ إن أنشدَه، وشيءٍ إن وصَفَه، وما زاد على ذلك فهو مشغلةٌ عمَّا هو أَولى به، ومذهلٌ عمَّا هو أراد عليه منه، ومن روايات المثل والمشاهدة، والخبر الصادق، والتعبير البارع.»٢٤ ويكشفُ الجاحظ عن الدوافع غير المعلنة لبعض النحاة الأوائل؛ إذ يقول: «قلتُ لأبي الحسن الأخفش: أنتَ أعلم الناس بالنَّحو، فلِمَ لا تجعل كتبك مفهومة كلها، وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها، وما بالك تقدِّم بعضَ العويص وتؤخِّر بعضَ المفهوم؟! قال: أنا رجلٌ لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي مِن كُتب الدين، ولو وضعتُها هذا الوضع الذي تدعوني إليه، قلَّت حاجاتُهم إليَّ فيها، وإنَّما كانت غايتي المَنَالة؛ فأنا أضع بعضها هذا الوضع المفهوم، لتدعُوَهُم حلاوة ما فهموا إلى التماسِ فهمِ ما لم يفهموا، وإنَّما قد كسبتُ في هذا التدبير؛ إذ كنتُ إلى التكسُّب ذهبتُ.»٢٥
وكان ابنُ مضاء القرطبي (ت٥٩٢ﻫ) ألَّف كتابًا بعنوان: «الرد على النحاة» دعا فيه إلى إلغاء نظرية العامل في النحو، بدافعِ تيسيرِ تعليمه. كما يصرِّح بذلك في مقدمة كتابه بقوله: «قَصْدي في هذا الكتاب أن أحذفَ من النحو ما يستغني النحويُّ عنه، وأنبِّه على ما أجمعوا على الخطأ فيه؛ فمن ذلك ادِّعاؤهم أن النصب والخفض والجزم لا يكون إلا بعاملٍ لفظي، وأن الرفع منها يكون بعاملٍ لفظي وبعاملٍ معنوي، وعبَّروا عن ذلك بعباراتٍ تُوهِم في قولنا «ضرب زيدٌ عمرًا» أن الرفع الذي في زيد والنصب الذي في عمرو إنما أحدثه ضرَب.»٢٦ وروى السيوطي: «أن الكسائي قد مات وهو لا يعرف حدَّ نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية. وأن الخليل لم يكن يُحسِن النداء. وأن سيبويه لم يكن يدري حد التعجب. وأن رجلًا قال لابن خالويه: أريد أن أتعلَّم من العربية ما أُقيم به لساني، فأجابه ابن خالويه على البديهة: أنا منذ خمسين سنةً أتعلَّم النحو، وما تعلَّمْتُ ما أُقيمُ به لساني!»٢٧
وأشار علي الطنطاوي إلى أن ما: «زاد النحوَ تعقيدًا وإبهامًا وبُعدًا عن الغاية التي وُضِع من أجلها، ما صنَعه الرماني من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر مَن بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو معاصر له: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء. فخرج النحو بذلك عن الجادَّة، ولم يعُد واسطةً لفهمِ كلام العرب واتباعِ سبيلهم في القول، بل غدا علمًا مستقلًّا معقَّدًا مضطربًا لا تكاد تثبُت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد، ووجدوا فيه تجارة وكسبًا، حتى إن السيرافي لمَّا ألَّف كتابه الإقناع (الذي أتمَّه ولدُه يوسف) وعرض فيه النحو على أوضحِ شكل وأجملِ ترتيب، فأصبح مفهومًا سهلًا، لا يحتاج إلى مفسِّر، ولا يقصُر عن إدراكه أحد، حتى قالوا فيه: وضع أبو سعيدٍ النحو على المزابل بكتابه الإقناع. ولما ألَّفه قاومه النُّحَاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يُعرف له ذِكر، ولم نعرف أنه بقي منه بقية! وزاد النحو فسادًا على هذا الفساد هذا الخلاف بين المذهبَين (أو المدرستين على التعبير الجديد) المذهب الكوفي، والمذهب البصري، وما جرَّه هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قَصْدَ الغلبة وابتغاءَ الظفَر، كما وقع في المناظرة المشهورة بين الكسائي وسيبويه.»٢٨
ودعا جماعةٌ من علماءِ اللغة والنحو في العصر الحديث إلى تيسير النحو وتحديث اللغة، منهم: الأب أنستاس ماري الكرملي، ت ١٩٤٧م، الذي ألَّف في هذا الموضوع: «أغلاط اللغويين الأقدمين»، صدر ببغداد سنة ١٩٣٢م، وكتاب: «نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها»، صدر في القاهرة سنة ١٩٣٨م. ويشرح أمين الخولي «صعوباتنا اللغوية اليوم» فيقول: «إن أهم ما يعسِّر النحو على المعلِّمين والمتعلِّمين ثلاثة أشياء؛ الأول: فلسفةٌ حملَت القدماء على أن يفترضوا ويعلِّلوا، ويُسرفوا في الافتراض والتعليل. والثاني: إسرافٌ في القواعد، نشأ عنه إسراف في الاصطلاحات. والثالث: إمعان في التعمق العلمي، باعد بين النحو وبين الأدب … إننا نعيش بلغةٍ غيرِ معربة ولا واسعة، حين نتعلم لغةً معربة، وافرة الحظ من الإعراب، واسعة الآفاق مع ذلك، فكأننا بهذا نتعلم لغةً أجنبية وصعبة؛ إذ أننا نعيش ونتعامل ونتفنن، بل يفكر مثقَّفونا بهذه العامية، ثم ها هي العامية تتابع زحفها الجريء على مجال تلك الفصحى … إن هذه الفصحى الواسعة المعربة، مع ثقل إعرابها علينا، لا يسهل ضبطه بقاعدة، بل يسوده الاستثناء، فتتعدَّد قواعده وتتضارب … إن هذه الفصحى، فيما وراء إعرابها المضطرب، وسَعَتها، وانتشار قواعدها، باختلاف الكلمات، تعود فلا تستقر على حكم وقاعدة في الكلمة الواحدة، أو التعبير الواحد، فيجوز فيه النصب والجر، أو يجوز فيه الرفع والنصب والجر جميعًا، وهكذا يتمادى الاضطراب، ويزداد التزعزع في الكلمات المختلفة، ثم في الكلمة، أو التعبير الواحد بنفسه، وهذا هو اضطراب القواعد.»٢٩

هناك مجموعة علماء لغة ونحو آخرون كتبوا نقدًا لقواعد النحو والإعراب، ودعوا إلى تيسيره، مثل: إبراهيم مصطفى الذي ألَّف «إحياء النحو»، صدر سنة ١٩٣٧م، ويلتقي في كتابه هذا مع ابن مضاء القرطبي، بالدعوة إلى إلغاء نظرية العامل في النحو، فيقول: «وتخليص النحو من هذه النظرية وسلطانها هو عندي خيرٌ كثير وغاية تُقصد، ومطلبٌ يُسعى إليه، ورشادٌ يسير بالنحو في طريقه الصحيحة، بعدما انحرف عنها آمادًا، وكاد يصدُّ الناس عن معرفة العربية وذوق ما فيها من قوة على الأداء ومزيَّة في التصوير.»

وألف شاكر الجودي كتاب: «تشذيب منهج النحو»، سنة ١٩٤٩م، وأحمد عبد الستار الجواري: «نحو التيسير»، سنة ١٩٦٢م، ومهدي المخزومي: «في النحو العربي: نقد وتوجيه»، سنة ١٩٦٤م. كما صدرَت لعلماء لغة ونحو غيرهم عدةُ مؤلَّفاتٍ مماثلةٍ تدعو للتيسير، غير أن دعوتهم أُجهضت مبكرًا، لسطوة الفصاحة والنحو وتسلُّطهما الشديد. أحترم جهودَ الميسِّرين للغة والنحو، وأقدِّر عقلانيتَهم النقدية. ليست كلُّ رؤيةٍ جديدةٍ صحيحة، ولا كلُّ رؤيةٍ قديمةٍ خاطئة، المهم أن تكون الرؤيةُ علمية، متحرِّرةً من وصاية الماضي على الحاضر ومن وصاية الحاضر على الماضي. لا تتأسَّس هذه الرؤيةُ إلا على فهمٍ وتمحيصٍ للتراث، واستيعابٍ نقدي للمعارف الحديثة، ونقدٍ موضوعي للواقع.

(١١) القيم الكونية نسبيَّة في تطبيقاتها لا في ذاتها

كان لمطالعاتي المتواصلةِ للكتاباتِ العقلانية النقدية أثرٌ ملموسٌ في إيقاظِ ذهني، وتحرِّرِه من الأوهام المتضخمة. لن أنسى أثرَ أعمال علي الوردي وغيرِه من ذوي التفكير النقدي الحرِّ في إيقاظِ ذهني، واستردادِ عقلي الذي استلبَتْه أوهامٌ بضعةَ سنوات، لبثَ فيها تأسره مفاهيمُ لا صلةَ لها بحياتي ومعاشي، ولا علاقةَ لها بمشكلاتِ الناس وآلامِهم. كنتُ عاجزًا عن استبصار العوامل المختلفة المعقَّدة المكوِّنة للواقع، أحسبُ الواقعَ المركَّب بسيطًا، أفهمُ ظواهرَ اجتماعيةً معقَّدة تنتجها سلسلةُ عوامل عميقة ظاهرة ومضمرة فهمًا ساذجًا، لا أعرف شيئًا عن التفسير العلمي للظواهر السائدة في المجتمع. كنتُ أعتقد أن الناسَ يتغيَّرون بالمواعظ فقط، أتقنتُ صناعةَ الكلام، من دون أن أعرف شيئًا من أسرارِ الطبيعة البشرية الدفينة. لم أكن أعرفُ أن إصلاحَ ظروفِ عيش الناس، وإعادةَ بناء وعيهم وثقافتهم، هو الذي يتكفل بتغييرهم.

حذَّر علي الوردي ممن يريد أن يغيِّر الناسَ بالكلام، من دون أن يعرف الطبيعةَ البشرية، ويدرُس الظواهرَ الاجتماعية دراسةً علمية، تتعرَّف على أسبابها ومكوِّناتها وآثارها، ويبحث في كيفية الخلاص منها. البشرُ لا يتغيَّرون بالكلام، وأن ما هو عميقٌ في الطبيعة البشرية لا يمكن استئصالُه؛ ذلك ما دعا الوردي للشكوى ممن يعمل بذلك بقوله: «ابتلينا في هذا البلد بطائفة من المفكرين الأفلاطونيين، الذين لا يجيدون إلا إعلان الويل والثبور على الإنسان لانحرافه عما يتخيلون من مُثل عليا، دون أن يقفوا لحظة ليتبيَّنوا المقدار الذي يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل … إن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة، ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جبل عليه ذلك الشيء من صفات أصيلة … لقد جرى مفكرونا اليوم على أسلوب أسلافهم القدماء، لا فرق في ذلك بين من تثقَّف منهم بثقافةٍ حديثة أو قديمة، كلهم تقريبًا يحاولون أن يغيِّروا طبيعة الإنسان بالكلام. وكثيرًا ما نراهم بمواعظهم يطالبون الناس أن يغيِّروا من نفوسهم أشياء لا يُمكِن تغييرها؛ فهم بذلك يطلبون المستحيل. وقد أدَّى هذا بالناس إلى أن يعتادوا سماعَ المواعظ، من غير أن يُعيروا لها أذنًا صاغية.»٣٠
الوردي يعلن انحيازَه للتطور؛ لذلك يتكرَّر في كلِّ كتاباته التشديدُ على أن كلَّ شيء في العالم يتغيَّر ويتطوَّر، الإنسانُ كائنٌ تفرض عليه بيئتُه ومحيطُه وظروفُه المعيشية نوعَ ثقافته وقيمَه وشكلَ تدينه، بناءً على أن كلَّ عصر يمتلك معاييرَه الخاصة للمعرفة والقيم والجمال والزمن وغيرها. يقول هيغل: «العصور المختلفة محكومة بمعاييرها الخاصة.»٣١
حدث تحولٌ في رؤيةِ الوردي للعالَم ومنظورِه للقيم وفهمِه للحياة ووعيه للواقع عندما انخرط في الدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ما قاده للقول بنسبيةِ الأخلاق، واختلافِها باختلافِ الثقافات والمجتمعات والعصور، كما يصرِّح بقوله: «الأخلاق نسبية كما لا يخفى. فما يعدو في نظرهم بريئًا قد يعتبر عندنا فسقًا وفجورًا. وربما تنقلب الأحوال عندنا في المستقبل، فيصبح مقياسنا في شئون الأخلاق مخالفًا لمقياسنا الحاضر. ولستُ أنكر أني قد ذُهِلْتُ حينما رأيتُ في جامعات الغرب ذلك الاختلاط العجيب بين الجنسين لأول مرة، واعتبرته من قبيل الإباحية والفسق، حيث كنت آنذاك لا أزال تحت تأثير التفكير الوعظي الذي نشأتُ فيه في بيئتي الشرقية المتزمِّتة.»٣٢ أبدى الوردي دهشتَه من الاختلاط لأحد أساتذته، فأجابه الأستاذ بقوله: «إننا إذا منعنا طُلابنا وطالباتنا عن الاختلاط المكشوف لجَئُوا إلى الاختلاط المستور بعيدًا عنا، في جوٍّ ملؤه الريبة والإغراء. إننا إذ نعترف بما في الطبيعة البشرية من قوًى، ونُهيِّئ لها ما ينفِّس عنها في جوٍّ من البراءة والطمأنينة، نكون بذلك قد وقَينا الإنسان من مزالق الشطَط ومُغريات الخفاء.»٣٣

الأخلاق ليست كلها نسبية كما يرى الوردي، ما هو حسَن بالذات وما هو قبيح بالذات يحكم بهما العقلُ العملي «الأخلاقي»، «الحُسن والقُبح» الذاتيان، مثل حُسن الصدق والعدل والأمانة، وقُبح الكذب والظلم والخيانة، حُكم الحُسن أبدي لما هو حسَن بالذات وهكذا القُبح أبدي لما هو قبيح بالذات، لكن معرفة حدوده في الواقع وتطبيقاته، وما يصدق عليه في الحياة، ينكشف بالتدريج. اكتشافُ مصاديق ما هو حسَن بالذات وما هو قبيح بالذات نسبيٌّ، بمعنى أن الإنسانَ لا يدرك كلَّ المصاديق، إلا بعد نضجِ عقله، وتطورِ وعيه، وتراكمِ خبراته عبر التاريخ. الحقيقة الأخلاقية تتكشف بالتدريج للإنسان بمختلف أبعادها وحدودها ومصاديقها، في ضوء اكتشافه لذاته، والعالَم من حوله، وتطوُّر علومه ومعارفه المتنوعة، وتراكُم خبراته وتجاربه وتنوُّعها. كلما اكتشف الإنسان ذاته والعالَم من حوله، تكشَّفَت له حدود الأخلاق، وما هو نسبيٌّ متغيِّر وأبديٌّ ثابتٌ فيها.

الحُسن والقُبح غيرُ الذاتيين، وأعني بهما كلَّ مالم يحكم العقلُ العملي بأنه حسنٌ وقبيحٌ بالذات. ما كان حُسنهما وقُبحهما لسببٍ ما خارجَ ذات الفعل، سببٌ يتحقَّقُ في مجتمعٍ وثقافةٍ وزمانٍ ما، في مثل هذه الحالة الحُسن والقُبح نسبيَّان، يزولان بزوال سببهما. ذلك ما نراه في مختلف العادات والتقاليد والأعراف والثقافات المحلية المتنوعة بتنوع المجتمعات، والمتغيِّرة بتغيُّر ظروف الإنسان وأحواله. الحُسن والقُبح الذاتيان النسبيُّ فيهما هو التعرُّف على المصاديق. معرفةُ المصاديق تتأثر بدرجةِ التطورِ الحضاري وتكاملِ الوعي البشري بذات الإنسان والعالم، كما تتأثر بمختلف أنماط عيش الناس، والظروفِ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في حياتهم. يدرك الإنسانُ حُسنَ العدلِ بذاته في كل زمان ومكان.

العدلُ قيمةٌ أخلاقية وحقوقية تطور اكتشافُ مصاديقه بتطور وعي الإنسان بالكرامة والحرية والمساواة، لم يولد هذا الوعي مكتملًا مع أول إنسان عاش في الأرض. تفشَّت العبوديةُ ولم يصدر تشريعٌ بتحريم الرقِ، مع كل ما يتضمنه الرقُّ من هتك لكرامة الإنسان، إلا قبل أقل من قرنَين. الكرامةُ والحرية والمساواة مفاهيمُ تطوَّر اكتشافُ مصاديقها وتحقُّقُها بالتدريج تبعًا لتطور الوعي البشري فيها، إلى أن وصلَت إلى ما هي عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

الكرامةُ والحريةُ والمساواةُ كغيرها من القيم الإنسانية الكونية، لم يولد الوعيُ بمصاديقها دفعةً واحدة، بل تطلَّبَ وصولُ البشرية إلى وعيها بمعانيها المعروفة، والتعرُّف على حدودها وتطبيقاتها عبورَ عدة محطات موجعة، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا مُضمَّخًا بالدماء. تطلَّبَ ذلك طي مراحل وعرة تطوَّرت فيها عبْر آلاف السنين، كي يتحقَّق الوعي بحدودها وتتحقَّق بشكلٍ واسع في المجتمعات البشرية. كتاباتُ المفكرين والكُتَّاب، وجهودُ المصلحين، وتضحياتُ الأحرار في العالَم؛ كان أثرُها ملموسًا في تكامُل الوعي بهذه القيم وتحقُّقها بالتدريج في الحياة.

لم يُنظر لاسترقاق البشر على أنه ظلمٌ وانتهاك للكرمة البشرية إلى القرن التاسع عشر. أضحى اليوم يُنظر إليه بوصفه ظلمًا قبيحًا، وانتهاكًا سافرًا للكرامة البشرية. كان فلاسفةٌ مثل أفلاطون وأرسطو وغيرُهما من الفلاسفة لا يقبلون أن يكون كلُّ الناس بمرتبة واحدة في استحقاق الحقوق، رفضوا أن يكون الكلُّ في المرتبة ذاتها في نيل الحق بالكرامة والحرية والمساواة. يرى أرسطو أن العبيدَ طبيعتُهم البشرية العبودية، والأحرارُ طبيعتُهم البشرية الحرية، اليوناني والأوروبي حرٌّ لأن لديه روح، والآسيوي عبدٌ لأنه لا روح له. جعل أفلاطون في «الجمهورية» البشر طبقاتٍ ليست متكافئةً في المكانة والحقوق والوظيفة، إلى الحدِّ الذي وصف فيه كارل بوبر أفلاطونَ، في كتابه: «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، بأنه المنظِّر للتوتاليتارية والمُلهِم للشمولية. في العصر الحديث يرى ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦م) الزنوج وكل إنسانٍ غيرِ أبيض أدنى بطبيعته البشرية من الإنسان الأبيض. هذا الرأي لهيوم، على الرغم من كل ما أنجزَتْه آثار هذا الفيلسوف العقلانية. هذه نماذج فقط من مواقف فلاسفةٍ معروفين، وشرعنَتهم للاستعباد وعدم المساواة، وعدم رفضها أخلاقيًّا. وليست غريبةً هذه المواقف على معاصريهم أو مَن سبقوهم أو ظهروا في عصورٍ تالية، قبل القرنِ التاسعَ عشر.

(١٢) شجاعة الوردي بالاعتراف بأخطائه

كان الوردي الأكثرَ جرأة من كلِّ الذين قرأتُ لهم من الكُتَّاب العراقيين، والعرب أيضًا، بإعلانه عن أن كتاباتِه تتضمَّن أخطاء، وأنها لم تبلُغ كمالها في أية لحظة؛ لأنها في حالة تطورٍ متواصل، وأنه يغيِّرها بناءً على تبدُّل المعطيات المتاحة في البحث العلمي، ونضجِ تكوينه المعرفي، وتراكمِ خبراته في تفسير الواقع، وتوظيفِ منهجه وأدواته في دراسته وتحليله، وتفكيكِ العوامل المنتجة للظاهرة الاجتماعية، والسعي للكشف عن جذورها ومختلف منابع تغذيتها.

أعرف أن الإعلان عن هذا الموقف يمثل استثناءً في مجتمعنا، الناسُ يمتدحونك دائمًا عندما يجدون أفكارَك ومعتقداتِك هي ذاتها لن تتغيَّر أبدًا، وينفرون منك عندما يجدون أفكارَك ومعتقداتِك تغيَّرَت. يتنكَّرون لأي تحوُّل في رؤيتك؛ في ضوء نضج عقلك، وتطور وعيك، وتراكم معلوماتك وخبراتك، واكتشافاتك لذاتك والعالَم من حولك. لا ينظر الناسُ إلى نُبل أخلاقك وتهذيبها، ولا يكترثون بإنسانيتك، وما يسود سلوكَك من قيَمٍ فاضلة. ليس المهم أن تتكرَّس أخلاقك وتتجلَّى بصدق، المهم عندهم أن يلبث تفكيرُك كما هو، مهما تعلَّمتَ وقرأتَ وعشتَ في بيئات مختلفة، وتنقَّلَت حياتُك في مجتمعاتٍ متنوعة، لا تتطابق فيها المعتقداتُ والأفكارُ والبشرُ والأشياء.

في أول زيارةٍ للوطن شهر «حزيران» ٢٠٠٣م، بعد غياب نحو ربع قرن في المنفى، التقيتُ بعد عودتي بأصدقاء، من الذين مكثوا مرابطين في العراق، كانوا يسألون كثيرًا في الدين أسئلةً متنوعة، فوجئوا بجوابي عن شيء من أسئلتهم، قائلين بأنها لا تتطابق مع ما كنتُ أقوله لهم سنوات السبعينيات من القرن الماضي. قلتُ لهم: هذا علامةُ سلامةٍ عقلية، العقلُ الذي يواصل إثارةَ الأسئلة العميقة، ومراجعةَ القناعات الراسخة، ومُساءلةَ ما يقرأ ويتعلم، هو عقلٌ يقظ. الإنسانُ الطبيعي يختلف عن الصخرة، الصخرةُ قارَّةٌ ساكنة تلبث كما هي لا تتغيَّر، الإنسانُ كائنٌ حقيقته التحوُّل والصيرورة والتجدُّد. كلُّ كائنٍ حيٍّ ينمو ويتجدَّد، من لا يتجدَّد يموت. التكامل علامةُ الحيوية، وهو تعبيرٌ وجودي عن إصغاء الإنسان لإيقاع التحولات والمتغيِّرات المتدفِّقة كالشلال في الواقع، كلُّ مكاسب العقل الحديث، والتطور العلمي والتكنولوجي، تحقَّق بفعل التفكير العقلاني النقدي، الذي يتسلَّح بمساءلةِ الوثوقيات وغربلَتها وتمحيصِها.

الباحثون من الجيل الجديد مدعوُّون إلى تعلُّمِ أخلاقيات الاعتراف بالخطأ في البحث العلمي من الوردي، والإفادةِ من مقدرته الفذَّة في كشف ثغرات أفكاره، وإعلانِه عن تحوُّلات آرائه في سياق ما تفرضُه عليه المعطياتُ الجديدةُ من نتائج. يُعلن الوردي عن شعوره بالندم على روحِ الحماسِ والإثارةِ التي يراها القارئ في شيءٍ مما كتبه في كتابه الشهير «وعَّاظ السلاطين»، الذي كان أحد عناوين الضجة في وقته. بعد مضي نحو ٣٠ عامًا على صدور هذا الكتاب يعلن الوردي ندمَه على تأليفه، فيقول: «إنَ كتابَ وعَّاظِ السلاطين صدرَ عامُ ١٩٥٤م، وإني الآن أشعرُ بالندمِ على تأليفهِ، ومن الممكنِ القول: إنهُ حصلَ على أهميةٍ أكبرَ مما يستحقُّ، إن هذا الكتاب هو من جملةِ المؤلفاتِ التي صدرَت في العهدِ الملكي، وهو إذن يختلفُ في أسلوبهِ ومنهجِه عن الكتبِ التي صدرَت بعد ١٤ تموز ١٩٥٨م؛ حيثُ تغلب عليه روحُ الحماسِ والإثارة، وقد كان الواجبُ عليَّ أن ابتعدَ عن ذلك جهدَ إمكاني؛ لأن النهجَ العلمي يُوجِبُ على صاحبِه أن يكون موضوعيًّا يذكرُ المحاسنَ والمساوئ بلا مبالغة أو مغالاة.»٣٤

(١٣) المتغيِّر والثابت في فكر الوردي

على الرغم من تصريحات علي الوردي الجسورة في أكثر من مناسبة، وتشديده على: «أن ما كتبتُه بالأمس لا يصلح اليوم، كما أن ما أكتبه اليوم قد لا يصلح غدًا.» لكن لا نقرأ تغييرًا لافتًا في رؤية الوردي للعالَم، ولا في منهجه في البحث العلمي، ولا في أدواته، ولا في معظم المعطيات المستخدمة لديه؛ فعندما نراجع أعماله الصادرة في خمسينيات القرن الماضي لا نرى فيها اختلافًا نوعيًّا عن أعماله المتأخرة. كلُّ خبيرٍ يعرف أن آفاق البحث في علم الاجتماع اتسعَت في القرن العشرين ونضجَت بشكلٍ واسع، أضحت أعمق وأثرى وأدق، لكنها لم تنعكس على أعمال الوردي اللاحقة. أظنه لم يطَّلع عليها بشكلٍ تفصيلي ولم تسمح له ظروفه في العراق بمواكبة المعطَيات الجديدة في هذا العلم، بعد مناقشته للدكتوراه في علم الاجتماع بجامعة تكساس في الولايات المتحدة سنة ١٩٥٠م. بمراجعة أعمال الوردي لا نعثر على تغييرٍ لافتٍ لأسس تفكيره ومنهجه، وأدواته التفسيرية، ومقولاته المعروفة. حتى لغة الوردي ومعجمه في الكتابة قلَّما يتغيَّر، لا يجد القارئ تحديثًا لافتًا في لغته وأسلوب تعبيره وكلماته ومصطلحاته المستعملة في الكتابة، ولم تكشف لنا كتاباته اللاحقة عن لائحة أخطاءٍ واضحة أشارت إليها أكثر من مرةٍ كتاباته، ووصفَتْها بأنها ليست قليلة.

رأيتُ مفكرين غير الوردي كانت المرحلةُ اللاحقة في فكرهم تتجاوز رؤيتهم السابقة، وأحيانًا تقطع معها كليًّا. مثل: عبد الجواد ياسين، مؤلف: «مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة»٣٥ الذي استنسخ في كتابه هذا رؤية محمد قطب في «جاهلية القرن العشرين»، بعد مدةٍ قليلة غادر المؤلف هذا النوع من التفكير، وكرَّس مؤلَّفاته اللاحقة لتفكيك مقولة الجاهلية المعاصرة وأمثالها من مقولات سيد قطب وشقيقه الأصغر محمد قطب. داريوش شايغان تحرَّك وعيه في ثلاث محطات حسب كتاباته. مصطفى ملكيان أعلن أنه انتقل عبْر خمس محطات في رحلته الفكرية، صارت اللاحقة منها تتجاوز السابقة. وهكذا غيرهم من المفكرين في الغرب والشرق.

وجدتُ منهج الوردي يتمرَّد أحيانًا على صاحبه؛ إذ يتحوَّل من التفسير والتحليل الذي يتمسك بتاريخية المعتقَد والأفكار والمفاهيم إلى منطقٍ معياري يستعير مجموعةَ أحكامٍ قيِّمة تتعالى على التاريخ، وهو ما وقع فيه علي شريعتي بتمييزِه الحاسم بين «تشيُّع علوي» و«تشيُّع صفوي»، ودعوتِه لاستئناف اللحظة العلوية وتحيينها اليوم كما كانت عليه في عصرها. تهمل مثل هذه الدعوة الواقع المتغيِّر، والبيئة، والثقافة، واختلاف معطيات تشكُّل الواقع باختلاف العصور. عمليةُ استئناف واقعٍ مضى كما هو عمليةٌ لا تاريخية؛ ذلك أنها تسلَخ اللحظةَ التدشينية عن تموضُعها في زمانها ومكانها، وسياقاتها المتنوعة، والواقع الذي تشكَّلَت فيه، وصيرورتها التاريخية. إن استدعاءَ ما كان كما كان ضربٌ من الحلم، كأننا نحلم بأن يلبث ماضينا على الدوام يُكرِّر حاضرنا ومستقبلنا.

كلُّ عصر هو ضربٌ من ظهور الوجود، وحضورٌ لكينونة الكائن البشري بنمط وجودٍ مختلف، وفقًا لهايدغر. الانتقال من عصرٍ إلى آخر إنما هو انكشافٌ جديد للوجود، وحضورٌ آخر لكينونة الإنسان في العالَم، لا يمكن تكرارُ الظهور واستئنافُ الحضورِ ذاتِه من عصرٍ سابق إلى لاحق. في ضوء هذا الفهم لا يُمكِننا أيضًا أن نقرأ النصوصَ المؤسِّسة في الأديان قراءةً تزامنية، تستأنف معناها لحظةَ نزولها كما هو. تلقِّي المعنى محكوم بذات المتلقي والأفق التاريخي، والزمان والواقع ومعطياته.

(١٤) شخصية الفرد والمجتمع العراقي في فكر الوردي

أكثرُ أعمال الوردي تستقي نماذجَها من شخصيةِ الفرد والمجتمع العراقي، تدرسُ الظواهرَ المتفشيةَ في السلوك، لا تُغفِل تسليطَ الضوء على المواقفِ الشاذَّة، لا تُهمِل الممارساتِ المستهجنةَ والمنبوذة، تحاول تفسيرها. تهتمُّ أعماله أيضًا برصد ما تُعلِن عنه وتُضمِره تقاليدُ البيوتات البغدادية، وبروتوكولات الطبقة الأرستقراطية، فيتكشَّف في كتاباتِه ما تنطوي عليه هذه التقاليدُ والبروتوكولات من ازدواجيةٍ ونفاقٍ سلوكي.

لا يترفَّع الوردي عن الجلوسِ في المقاهي الشعبية، ومعاشرةِ الفُقراء الذين يمارسون أعمالًا خِدْمية في الأسواق. يتعرَّف على ثقافتِهم، يهتمُّ بعاداتِهم وأعرافِهم التي تفرضُها مهنُهم وطريقةُ عيشهم، يتفحَّص أنماطَ علاقاتهم الاجتماعية، والتقاليدَ والقيمَ المتحكِّمة في حياتهم. يترفَّع الإقطاعيون والوجهاءُ والتجارُ ورجالُ الدولة وأساتذةُ الجامعة والموظَّفون الكبار عن الجلوسِ في المقاهي الشعبية ذلك الوقت، وارتيادِ تجمُّعات ذوي المهن الخدمية. الوردي لا يكترثُ بذلك، يجلسُ حيث يجلس العامة، يحضُر مقاهيَهم، يرتادُ مجالسَهم، لا يُشعِرهم بتفوُّقه عليهم، ولا يستنكفُ من اتخاذهم أصدقاء. أسلوبُه التهكُّمي وشخصيتُه المباشرةُ غيرُ المفتعَلة، سرعان ما ينجذب إليهما ويحبُّهما مَن يُعاشره من الناس. يشعُر المهمَّشون لحظةَ يجلسون معه بالانشدادِ إليه، والرغبةِ في البَوْح بتفاصيل يومياتهم، والحديثِ عن تجاربهم الحياتية المتنوعة أمامه. كانت حكاياتُهم وأمثالُهم وطرائفُهم منجمًا زوَّده بالمزيدِ من المعلومات والطرائف والمكائد والأمثال الضرورية لفهم شخصية الفرد والمجتمع العراقي. علي الوردي سوسيولوجيٌّ يقِظٌ، دقيقُ الملاحظة، لا يُهمِل ما يصفه غيرُه بالهامشيِّ والعابرِ والحقيرِ والمُنْحَطِّ والخَسِيس والأحْمَق والضَّئيل. يحرصُ على التقاطِ دلالاتِ الظاهرة مهما كانت تافهة، يكشف عمَّا لا تبوح به مضمَراتُها، وما لا تقوله كلماتُها.

مسقطُ رأسه مدينةُ الكاظمية الدينية ببغداد، وهي تقع بموازاة مسكنه في الأعظمية. تضمُّ الكاظميةُ مرقدَ الإمامَين موسى بنِ جعفر وحفيدِه محمد الجواد، تضم الأعظميةُ مرقدَ الإمام أبي حنيفة النعمان بنِ ثابت الملقَّب بالأعظم. المدنُ الدينية بطبيعتها منجمٌ بالغُ الثراء للمعاني والدلالات والرموز، وهي موضوعٌ شديد الأهمية للباحث في علوم الإنسان والمجتمع. هذه المدن تحتفي على مدار السنة بطقوسِ الزيارة وشعائرها، ومجالسِ العزاء، واحتفالاتِ المواليد، وتستقبل كلَّ يومٍ زائرين من مختلف المجتمعات والثقافات في العالَم. تبحث الأشياءُ في هذه المدن عن بصمةٍ دينية، نرى تلك البصمةَ ترتسم في هُويةِ المدينة وأنماطِ العمارة والأزياء والأسواق، ومختلفِ وسائل العيش المادية، تؤشِّر إليها المعاني الرمزية، وتبُوح بها القيمُ الثقافية.

تنوَّعَت خبرةُ الوردي الميدانية في دراسة المجتمع، وتعمَّق فهمُه للشخصية العراقية، وهو يعيشُ في فضاءِ تنوعٍ مذهبي، بين الكاظمية الشيعية والأعظمية السنية. ظلَّت مدينةُ الكاظمية مُلهِمةً لعلي الوردي في كلِّ أعماله، انعكسَت في كتاباته أمثالٌ وحكاياتٌ وقصصٌ وطرائفُ ونوادرُ مستقاةٌ من حياة الناس فيها، واهتمامِه بمناسباتها الدينية والاجتماعية، وارتيادِه لمقاهيها وأسواقها ومنتدياتها، وزياراتِه للمرقد المقدَّس للكاظمَين.

يعيب عليه نقَّادُه هذا النوعَ من البحث الاجتماعي الذي يخلو من الاستبياناتِ الميدانية والإحصاءاتِ وجداولِ الاستطلاعات المباشرة؛ إذ كان يتخذ من حكايات الناس في المقاهي مادةً له، ويستند إلى أحاديث العامة وأمثالهم في تفسيره للظواهر، حتى وصَفَه البعضُ ﺑ «مثقَّف المقاهي»، وغير ذلك. لم يكن ذلك نقصًا في كتاباته، بل كانت ميزةً اتصفَت بها. هذه الأماكن ومرتادوها منجمٌ للباحث المحترف، مثلما تميَّزَت رواياتُ نجيب محفوظ بذلك.

على الرغم من أن الوردي يفسِّر كلَّ شيء في حياة الإنسان بما يفرضه عليه نمطُ الثقافة، والمحيط المجتمعي، والظروف المتنوعة، التي يعيشها منذ ولادته إلى آخر يوم في حياته. الإنسان كما يراه الوردي كائنٌ تصنع حياتَه ومآلاتِه الظروفُ المحيطة به، والاختلافُ بين الأشخاص والمجتمعات يعود إلى الاختلاف في ثقافاتهم وبيئاتهم وأحوالهم، وعمليةُ التغييرِ الاجتماعي والتحولاتِ التي تحدُث في تاريخ أي مجتمع تنشأ عن التحوُّل في تلك العوامل، إلا أن الوردي في تفسيره لشخصيةِ الفرد والمجتمع العراقي والظواهرِ الملازمة لها، والعناصرِ المولِّدةِ لهذه الشخصية، نجده ينطلق من مسلَّماتٍ كلية يلخِّصُها في: «صراع البداوة والحضارة، ازدواج الشخصية، التناشُز الاجتماعي.» ينظر إلى هذه المسلَّمات بوصفها ثوابتَ مزمنةً تكرِّر سطوتَها على الدوام، تُعيد إنتاجَ شخصيةَ الفرد والمجتمع ذاتَها منذ العصر العثماني حتى اليوم. وهذا ضربٌ من الفهم يتورَّط في النظر للإنسان وكأنه ساكن والتغيير الاجتماعي متوقف. كأن الظروف والمعطَيات المعاشية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية أبدية. إن عدم تحوُّل الظروف والثقافة والمعطَيات المتنوِّعة في الحياة، وتعطُّل صيرورة المجتمع الدائمة، هو فهمٌ لا يتطابق مع ما يشدِّد عليه ويستند إليه الوردي، الذي يرى عدمَ استمرار الظروف والمعطَيات والوقائع في كلِّ عصر؛ إذ يقول: «المجتمع ذو طبيعةٍ حركية، والحركة أصيلةٌ فيه، فهو في صيرورة دائمة.» إن كان كلُّ شيء في المجتمع يتطور، وكلُّ شيء في المجتمع يتغيَّر، لا يُمكِننا جعل معادلات: «صراع البداوة والحضارة، ازدواج الشخصية، التناشز الاجتماعي» مزمنة، خارج اختلاف الأحوال والوقائع والمعطَيات المتنوِّعة للعلوم والتكنولوجيات الجديدة، والعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية المرئية والمُستترة. مفاهيم الدولة والمدينة والمحلة والطائفة والعشيرة والبداوة شهدَت تحوُّلاتٍ متنوعة، وفقًا لتنوُّع المجتمعات والدول والحضارات، وأُعيد تشكلها وتنوَّعَت مصاديقُها في مختلف العصور.

(١٥) يفهم الوردي المجتمع في أفق رؤية ابن خلدون

القارئ الذي يُواكبُ المسارَ التاريخي لكتابات الوردي يراه يكرِّر مسلَّماته الكلية: «صراع البداوة والحضارة، ازدواج الشخصية، التناشز الاجتماعي»، ونماذج وأمثلة لتطبيقاتها على الفرد والمجتمع العراقي. هذه المسلَّماتُ أنتجَتها ظروفٌ وعواملُ متغيِّرة، وتشكَّلَت كمعطياتٍ لواقعٍ تاريخي فرضَها، عندما يتبدَّل ذلك الواقع يفترض أن تتبدَّل المسلَّمات المعبِّرة عنه. ويغضُّ الوردي النظرَ عن عواملَ أخرى فاعلةٍ ومؤثِّرة في تكوين شخصية الفرد والمجتمع العراقي.

منذ أول محاضرة ألقاها في «قاعة الملكة عالية» سنة ١٩٥١م، وصدرَت في كرَّاسٍ ببغداد في السنة ذاتها بعنوان: «شخصية الفرد العراقي»، أعاد الوردي هذه المسلَّماتِ الكلية الراسخة، واعتمدَها بوصفها أدواتٍ تفسيريةً لما يحدُث في حياة الفرد والمجتمع، في كتابه: «دراسة في طبيعة المجتمع العراق»،٣٦ الذي صدَر بعد ٢٠ عامًا من ذلك التاريخ. ولم أقرأ تحوُّلًا لافتًا في فكرِه في حواراتٍ متأخرةٍ معه؛ حوارٍ في مجلةِ الأقلام سنة ١٩٨٣م، وحوارٍ متأخرٍ معه أجراه جليل العطية في مجلةِ العربي الكويتية سنة ١٩٨٨م، وحوارٍ أعدَّه وقدَّم له سعد البزاز في عمان، انتخب المحرر الإجابات نصوصًا مستقاةً من أعمال الوردي، ونُشِر بعنوان: «في الطبيعة البشرية: محاولة في فهم ما جرى»، سنة ١٩٩٦م.
أكثرُ كتابات الوردي عن المجتمع العراقي تدور في أفقِ رؤية ابن خلدون للمجتمع، وتفسيرِه للصراع بين البداوة والحضارة، وآراء ابن خلدون في بناء العمران وخرابه، ونشوءِ الدولة على العصبية وانهيارها بعد انفراط تلك العصبية. يقول الوردي: «وخلاصةُ رأيي في ابنْ خلدونْ، هوَ أنَ نظريتهُ التي مضى عليها نحوِ ستمائةِ سنةٍ ما زالت أفضلَ نظريةٍ لفهمِ المجتمعِ العربي.»٣٧
رؤيةُ ابن خلدون وتفسيرُه للتاريخ لم تتحرَّر كليًّا من الأنساق الاعتقادية العميقة الكامنة في البنية اللاشعورية لفكره. لا ينتمي تفسير ابن خلدون للحداثة بمضمونها الفلسفي ورؤيتها للعالَم، وإن كان يُصِر غيرُ واحدٍ من الباحثين على حداثة رؤية ابن خلدون. كشفَت عنه الباحثةُ التونسية الذكية ناجية الوريمي في كتابها: «حفريات في الخطاب الخلدوني»؛ عن خضوع عقل ابن خلدون لسلطة النص، وأوضحَت أن عقلَه فقهيٌّ لا فلسفي؛ إذ إن «خطاب ابن خلدون العمراني والتاريخي ينتظم في النسق المعرفي النصي، وصدور أهم إضافاته العمرانية عن عقلٍ فقهي، ارتقَى معه إلى درجة صياغة التصورات العامة الشاملة.»٣٨ ترى الباحثة أن عمل ابن خلدون في مجال التاريخ هو المرحلة الثالثة المكمِّلة لتسيُّد سلطة النص، أنجز الشافعي (ت٢٠٤ﻫ) المرحلة الأولى في القرن الثاني الهجري بتأسيسه لعلم أصول الفقه،٣٩ وفي القرن الرابع الهجري أكمل أبو الحسن الأشعري (ت٣٢٤ﻫ) المرحلةَ الثانيةَ في علم الكلام، عندما أخضع العقل لسلطة النص، وفي القرن الهجري الثامن أكمل المرحلة الثالثة ابن خلدون (ت٨٠٨ﻫ) بإخضاع التاريخ وعلم العمران إلى النص.

الوردي يمتلك تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في علم الاجتماع، ولديه خبرةٌ واسعةٌ بثقافةِ المجتمعِ العراقيِّ وتقاليدِه وأعرافِه وفلكلورِه، وتاريخِه في القرنَين الأخيرَين، غير أنه كان يفتقر لتكوينٍ مماثلٍ في المنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والفقه، وغيرها من علوم الدين، كانت أحكامُه تتموضع في تمثُّلات الدين المجتمعية والفردية، وقلَّما تُلامِس البنيةَ التحتية والأنساقَ الاعتقادية العميقة الغاطسة، بوصفها المنابعَ الأساسية التي تبتني عليها وتتغذَّى منها تلك التمثُّلات. كان لفهمِ الدين في سياق معتقدات علم الكلام التقليدي، وما صنعَتْه الأنساقُ الراسخة لمقولات الأشعري الاعتقادية، ومقولات متكلمي الفِرق الإسلامية، وخاصةً عقيدةَ الجبر، ونفي السببية كما نصَّت عقيدةُ الكسب الأشعرية، أثرٌ شديد في إعاقةِ الاجتهاد وتجديدِ فهم الدين، وانحطاطِ مجتمعات عالَم الإسلام.

الوردي لم يبحث في الأنساق الاعتقادية العميقة الكامنة في البِنى اللاشعورية للوعي الجمعي، وأثرِها الكبير في رؤية هذه الشخصية للعالَم، وفهمِها للمعاش والمعاد. يمكن التماسُ العذر للوردي هنا لأن الكشفَ عن تلك البِنى والأنساق الاعتقادية يتطلب خبرةً واسعةً في علم الكلام التقليدي، ومعرفةً علميةً بالتراث ومسالكه المتنوِّعة، وذلك حقلٌ لم يكن متمرسًا فيه الوردي وبعضُ المتخصِّصين في علوم الإنسان والمجتمع.

انشغلَت أعمال الوردي بالتفسير والتفكيك والنقد، ولم تنتقل إلى التركيبِ والبناء، ورسمِ خارطةِ طريقٍ واضحةٍ للخلاص. لم يهتمَّ بالأثر العميق لطريقةِ فهم الدين وتفسيرِ نصوصه في تكوين الشخصية، وتأثيرِه في تشكيل البِنى اللاشعورية للوعي وأثرِها في توجيه سلوك الإنسان ومواقفه. طريقةُ فهم الأفراد والمجتمعات للدينِ وتفسيرِ نصوصه من أهم العوامل الفاعلة في تحوُّلات الاقتصاد والثقافة والسياسة في المجتمعات الإسلامية عامة والمجتمع العراقي خاصة. كان الوردي ناقدًا جسورًا لتأثيرِ فهمِ الدين في التحجُّر، غير أن الدينَ لم يحضُر بوضوح في كتاباته بوصفه حافزًا فاعلًا في العمل والإنتاج، وعنصرًا في بناء التمدُّن وبناء الحضارات، كما نراه في تجربة نبي الاسلام ، وحضارة الإسلام. الدينُ يمكن أن يكون عاملًا أساسيًّا في البناء، كما يمكن أن يكون عاملًا أساسيًّا في الهدم، ويعود الاختلافُ في ذلك إلى الاختلاف في طريقةِ فهم الناس للدين، ونمطِ قراءتهم لنصوصه، وكيفيةِ تمثُّلهم له في حياتهم.٤٠ القُرَّاء في مجتمعنا ينجذبون للكاتب الذي يُصدِر الأحكام، ويقعون في أَسْر الكتابة الساخرة. الوردي كاتبٌ ساخر يُتقِن التندُّر، أحيانًا يتحوَّل عقلُه إلى عقلٍ وثوقي، يُصدِر أحكامًا نهائيَّة، كما في آرائه بالشخصية العراقية، وكأن العراقي استثناءٌ من البشر. مهمَّة عالم الاجتماع ليست إطلاق الأحكام والتعميم. التعميمُ غير دقيق في علوم الإنسان والمجتمع. هذه واحدةٌ من الثغرات العلمية في بعض كتابات الوردي، وإن كانت لديه أقل بكثير من غيره. إصدارُ الأحكام مهمة القاضي وليس الباحث، وظيفةُ الباحث تفسير العالم تفسيرًا علميًّا صحيحًا. تغيير العالم وظيفة الأنبياء والدعاة والمبشرين، وأصحاب الأيديولوجيات السياسية، وليست وظيفة الكُتَّاب.

(١٦) العراقي ليس استثناء

عند حديثه عن طبيعة الإنسان العراقي لا يهتمُّ الوردي كثيرًا بما تشترك فيه الطبيعةُ البشرية للإنسان العراقي مع أيِّ إنسان. البشرُ لا يتطابقون في كل شيء، الإنسانُ بطبيعته ليس روبوتًا، وليس كائنًا يتحكم فيه العقلُ فقط، دورُ العقل في قراراتِ الإنسان وصناعةِ مواقفه وسلوكه أقلُّ من دور المصالح والمشاعر والانفعالات والغرائز، وما هو مترسِّب في اللاوعي الفردي والجمعي. الوردي كأيِّ عالم اجتماع تنبَّه لذلك ونبَّه إليه في مواردَ متنوعة، لكنه لا يذهب إلى أعماق البشر، ولا ينشغل بالكشف عن شيءٍ من كينونتهم الوجودية العميقة، والتي هي أبعدُ من ظروف الإنسان المعيشية والثقافة الموروثة في بيئته. مرةً أخرى يُمكِننا التماسُ العذر للوردي؛ لأن الرؤيةَ التي تتخطى ثقافةَ الإنسان وأحوالَه الاجتماعية وظروفَه المعيشية، تتطلب تكوينًا فلسفيًّا يتوغل في أنطولوجيا الإنسان وكينونتِه الوجودية.

لا تخلو آثارُ الوردي من أحكامٍ سلبية يخصُّ بها العراقي، وربما قدحٍ وهجاءٍ وتندُّر بظواهر تطغى على سلوكِه وعلاقاتِه الاجتماعية وثقافتِه وطريقةِ تفكيره، وكأن الأفرادَ والمجتمعات الأخرى تخلو من تلك الظواهر. العراقي لا ينفرد بشخصيته وتاريخه وتحولاته عن غيره من البشر. تاريخُ العراقي ليس مستقلًّا عن تاريخِ البشرية، وطبيعةُ العراقي ليست استثناء من الطبيعة البشرية. العراقي ليس أفضل إنسان ولا أسوأ إنسان، العراقي ككل الناس محكومٌ بما يتحكم بحياة ومآلات البشر من عوامل طبيعية ومجتمعية ترسم مصائرَه مع أمثاله من الناس. تطورُ العلوم والمعارف والتكنولوجيا يؤثر على حياة الكل بدرجات ليست متطابقة. ينفرد العراقي بعوامل وأحوال ووقائع تخصُّه دون سواه، مثلما ينفرد غيرُه في مجتمعاتٍ أخرى بظروفٍ محلية خاصة. توصيفاتُ وأحكامُ الوردي الصارمة بالازدواجية والتناشز والفصام لا يختصُّ بها العراقي، يمكن تطبيقُها على أفرادٍ ومجتمعاتٍ محكومة بسياقاتٍ دينية وثقافية واجتماعية مماثلة لما يعيشه الفردُ والمجتمع العراقي. لو عاش إيُّ إنسانٍ ظروفَ العراقي وتجرَّع مرارات واقعه المفروض عليه يصير سلوكُه مشابهًا لسلوك العراقي. قلَّما رأيتُ مَن يعطي مجانًا في مجتمعاتٍ عرفتُها، رأيتُ بعضَ العراقيين يبادرون فيُفيضون محبتَهم ودعمَهم العاطفي وحتى أموالهم مجانًا.

عشتُ في عدة بلدان وعاشرتُ مجتمعاتٍ متنوعة، تلمَّستُ الازدواجية والتناشز والفصام والمراوغة والتمويه والخداع في سلوك الإنسان، وكان العيش في بعض المجتمعات ضنكًا تجرَّعَت مراراته، رأيتُ شخصيةَ الإنسان في بعضها أشد غموضًا وتركيبًا ووعورةً من الشخصية العراقية. هذه ليست حالاتٍ شاذة أو مختصة بفرد أو مجتمع. كلُّ إنسانٍ يحمل تناقضاتٍ في داخله، وفقًا للبنية السيكولوجية لشخصيته، ونمط تربيته، وعُقَده النفسية، ودرجة وعيه، وكيفية رؤيته لذاته وللعالَم. الطبيعة الإنسانية في غاية التركيب والتعقيد والعمق، يقول علي الوردي: «إن طبيعةَ البشر هي من أصعب المواضيع النفسية والاجتماعية، إن لم تكن أصعبها جميعًا، فهي موضوعٌ متشعبٌ ومعقَّد إلى أبعد الحدود، والواقعُ أني كلما توغلتُ في دراسته شعرتُ بأني لا أزال في أول الطريق، وكلما بحثتُ في جانبٍ منه ظهرَت لي جوانبُ أخرى تحتاج إلى بحث. ظهرَت في موضوع الطبيعة البشرية نظرياتٌ متعددة، ونُشرَت فيه دراسات لا تُحصى، وأعترف أني أشعر بالعجز تجاه تلك النظريات والدراسات؛ فهي في غاية الصعوبة، بل من المستحيل استيعابها كلِّها. أضِف إلى ذلك أنها قد تتعارض وتتناقض؛ ولهذا يقف الباحثُ حائرًا لا يعرف ماذا يأخذ منها وماذا يترك.»٤١

لا فرق بين العراقي وغيره في مجتمعاتٍ أخرى عشتُ فيها، الإنسان هو الإنسان، الفرد في تلك المجتمعات ربما يستطيع أن يتحكَّم بتناقضاته ويُخفي الكثير منها خلف أقنعةٍ يتقن حياكتها. العراقي نتيجةً لمعطَيات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وظروف حياته المحلية القاسية، غالبًا لا يستطيع إخفاء غضبه وتناقضات سلوكه، وأقل قدرةً في التحكُّم بانفعالاته وردود أفعاله الفجائية. لم تتشكَّل هويةٌ عراقيةٌ واضحة المعالم، ينغرسُ فيها انتماء العراقي لأرضه حتى اليوم؛ لذلك قد يبادرُ فيهجو نفسَه ووطنه ومواطنه ومجتمعه، وقلَّما رأيتُ من يهجو وطنه في تلك المجتمعات، حتى وإن كان أحيانًا يهجو نفسه ومحيطه.

لم تتشكَّل دولةٌ في العراق تُعبِّر عن شخصيته وتاريخه الوطني، وتعكس هويتَه المشتقة من تاريخه الحضاري والديني والثقافي والاجتماعي والسياسي. التاريخ السياسي للعراق لا ينتمي إلى أرضه، أكثر من عشرة قرون قبل الإسلام، وأكثر من ثمانية قرون بعد احتلال هولاكو لبغداد بلا هويةٍ عراقية، مكثَت هذه الأرضُ فريسةً للمحتلين الأتراك وغيرِهم. تشكُّلُ الهوية الوطنية يقترنُ بولادةِ المدينة وحضورِ الدولة، ما قبل المدينة والدولة تتبعثر قبائلُ وعشائرُ وطوائفُ وجماعاتٌ، متناحرةٌ متصارعة في الغالب. المدينة هي المرحلة التي يتجاوز فيها المجتمعُ القبيلةَ وكلَّ تشكيلات ما قبل المدينة والدولة، ويبحث عن هويةٍ جامعةٍ يتوحد فيها على أساس قيمٍ مدينية تُوحِّدها أرضٌ وثقافةٌ مشترَكة. تتأسَّس الدولةُ على تقاليد وقيم وقوانين المدينة المجتمعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وهذه القيمُ والقوانين لا تحضُر إلا بوصفها مُشتركًا يلتقي فيه كلُّ من ينتمي إلى هذه المدينة والدولة، ويعيش على أرضِها الواحدة. الانتماءُ للأرض، بالمعنى السياسي للأرض، هو النصابُ في المدينة والدولة، هذا النوعُ من الانتماء هشٌّ في القبيلة، بوصفها في حالة ترحُّلٍ على الدوام، من أرضٍ إلى أخرى وراءَ الماء والكلأ.

عندما تتعرض أرضُ بلدٍ إلى سلسلة احتلالاتٍ موجِعة، وينتهكُ حكَّامٌ مستبدُّون كرامةَ الإنسان، تتقوَّض وشيجةُ الانتماء للأرض، ويحاول الإنسانُ أن يجدَ له ملاذًا يأويه في إطار العشيرة والطائفة والقومية. باستثناء المثقَّف، عمومُ الناس في العراق ينتمون أولًا إلى الطائفة ثم إلى العشيرة. يستفزُّ الشيعيَّ نقدُ التشيُّعِ والعشيرة، يستفزُّ السنيَّ نقدُ التسنُّنِ والعشيرة، ويستفزُّ الكرديَّ نقدُ الكرد وهُويَّته القومية. جَمْعٌ في هذه البلاد لا يستفزُّه هجاءُ العراقِ والهويةِ الوطنية المشترَكة. الهويةُ الوطنية هُلاميَّة، لم تتشكَّل وتنضج وتأخذ نصابَها حتى اليوم. اليساريون والأصوليون في القرن العشرين أغرقوها بأوهام الأممية، القوميون العرب لبثوا مولَعين برومانسياتِ الوحدة العربية وشعاراتِها.

الدولةُ بنتُ المدينة، لا يمكن أن تتشكَّل دولةٌ في الريف، ولا في البادية. أقدمُ نماذج الدول في الأرض دولةُ المدينة السومرية، وتوالدَت دولةٌ في عدة مدن في العراق القديم على التوالي، حتى ظهرَت الدولةُ المركزية في الإمبراطورية الأكدية، وهي الإمبراطوريةُ الأولى على رأي مؤرخي الحضارات العراقية، وتتابع ظهورُ حضارات بلاد النهرَين؛ الحضارة البابلية الأولى (١٨٩٤–١٥٣١ق.م.)، والحضارة البابلية الثانية (٦٢٦–٥٣٩ق.م.)، ثم الآشورية المبكرة (٢٦٠٠–٢٠٢٥ق.م.)، والإمبراطورية الآشورية الوسطى (١٣٩٢–٩٣٤ق.م.)، والإمبراطورية الآشورية الحديثة (٩١١–٦٠٩ق.م.) قبل الإسلام حدثَ انقطاعٌ للعراق عن سلسلةِ حضاراته العريقة، وجرى طمسُ الميراث الغني لحضاراتٍ انبثقَت وتشكَّلَت ونضجَت، وابتكرَت إبداعاتٍ ثمينةً للبشرية، وتوطَّنَت هذه الأرضَ نحو ٣٠٠٠ سنة، إلى أن أسقَط الأخمينيون الإمبراطوريةَ البابلية الحديثة سنة ٥٣٩ قبل الميلاد. عاش العراقيُّ خارج تاريخ حضاراته وثقافاته منذ ذلك التاريخ إلى الفتحِ الإسلامي سنة ٦٣٣ ميلادية، وتأسيسِ الكوفة والبصرة، وبغداد لاحقًا.

لم تتشكَّل دولةٌ عراقيةٌ منذ نهاية العصر العباسي؛ إذ بعد سقوط بغداد على يد هولاكو تعرَّض العراقُ إلى سلسلة احتلالاتٍ بغيضة، العثمانيون حكَموا العراقَ عدة قرون، وأغرقوه بالظلام والتخلف. الاحتلالُ يعمل على طمسِ الذاكرة الوطنية، ويجفِّف منابعَ بنائِها وتكريسها. كان الولاء كُرهًا عصرَ الاحتلال العثماني المرير للبابِ العالي، وولاتِه على العراق. لا يمكن أن تتشكَّلَ هُويةٌ عراقية ما لم تتشكَّل ذاكرةُ دولةٍ ووطنٍ ومواطنٍ عراقي. اللاشعورُ السياسي العراقي مُرهَقٌ باحتلالاتٍ متوالية، منذ سقوط بغداد على يد هولاكو سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م وجيشه المتوحِّش، إلى سقوط بغداد على يد جورج بوش سنة ٢٠٠٣م.

عندما تتشكلُ هويةٌ في سياقٍ إمبراطوري تتغذَّى بنرجسية الإمبراطورية، وتُولَدُ وهي تشعرُ بأنها ممتلئةٌ ثرية، فخورةٌ تعتزُّ بذاتها، مركزيةٌ تتوهمُ القوةَ والتفوقَ على غيرها. وعندما تتشكلُ هويةٌ في سياقِ احتلالاتٍ واستعبادٍ أجنبي تُولَدُ وهي تشعر بأنها أشلاءٌ محطَّمةٌ معاقة، هامشيةٌ تحتقرُ ذاتَها وتنظرُ لها بازدراء، ولغيرها بهيبةٍ وإجلالٍ ورهبة، وتظلُّ تدورُ في آفاق وأحلام غيرها.

الشعورُ بالدونية، والنظرُ للأجانب بانبهارٍ وتسويقُهم، وضعفُ الاحتفاء بالمُنجَزِ العراقي والرموزِ الوطنية، من نتائج الاحتلالات المتوالية. صار العراقيُّ يحتفي بالغريب أكثر من شريكه في الوطن، ويعودُ ذلك إلى تبعيةِ العراقي لشيخِ القبيلة وزعيمِ الطائفة والقومية، وإخضاعِه كُرهًا للسلطان والحاكم الأجنبي. لم يخضع بلدٌ للعراق منذ العصر العباسي، عاش العراقيُّ تبعيةً مزمِنة قرونًا عديدة. تبعية قسرية استلبَت ذاتَه، وانتهكَت كرامتَه، واهتزَّت بسببها ثقتُه بنفسِه وتاريخِه ووطنِه. التركي مثلًا ينتمي إلى إمبراطورية تحكَّمَت في مساحةٍ شاسعة من غرب آسيا ومصر وشمال أفريقيا وأوروبا الشرقية في القرون الأخيرة. ما زال يشعر بعضُ الأتراك حتى اليوم بنرجسية الإمبراطورية، ويرى مواطني البلاد المحتلَّة لهم سابقًا رعايا عثمانيين. سنة ٢٠١٨م كنتُ في زيارةٍ لإسطنبول، اشتريتُ بعضَ الأشياء من محلٍّ في السوق المحاذي لجامع السلطان أحمد، يبيعُ فيه شابٌّ يُجيد العربية، سألني عن بلدي، قلتُ له: أنا عراقي، تحدَّث هو عن السياسة قليلًا، وعرَّفَ نفسَه بأنه طالبُ دكتوراه علوم سياسية، وتغنَّى بأمجاد السلاطين العثمانيين، وختم كلامَه: «إن العراقَ وبلادَ الشام والخليج ليست دولًا، هذه كلُّها ولاياتٌ عثمانية، وستعودُ إلينا.»

(١٧) تبجيل السفسطائيين في فكر الوردي

ينحاز الوردي لمنطق الاستقراء الحديث، بل يعود للعصر اليوناني فيبجل السفسطائيين، ويرفض بشدة المنطقَ الأرسطي، مُوجِّهًا نقدًا لاذعًا لهذا المنطق، الذي ينتقل فيه التفكيرُ من الكليات إلى الجزئيات، وتتضمَّن المقدماتُ النتيجة، خلافًا للمنطق الاستقرائي الذي ينتقل فيه التفكيرُ من الجزئيات إلى الكليات، ولا تكون النتيجةُ معروفةً مسبقًا؛ لأنها ليست متضمَّنةً في المقدِّمات. المنطقُ الأرسطي يُعبِّر عن قوالبَ ساكنة، لا ترى حركةَ الواقع، ولا تتسع لتطوراته، ولا تُواكب متغيِّراتِه، ولا علاقةَ لهذا المنطق بالطريقة التي يفكِّر بها الناس، يقول الوردي: «المفاهيم المنطقية لا تُقنِع إلا أصحابها، أما الناس فلهم مفاهيمُ أخرى. ومن يريد أن يطبِّق أقيسةَ المنطق في أمور المجتمع باء بالفشل الذريع.»٤٢
في مقابل رفضه للمنطق الأرسطي يُشيد الوردي بالسفسطائيين، الذين ساد تفكيرُهم في أثينا قبل ظهور سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويرى «أن السفسطة كانت فلسفةً ذات أهميةٍ اجتماعية لا يُستهان بها. ومن سوء حظها وحظ البشرية أنها غُلبَت أو قُتلَت في مهدها، فأصبحَت محتقَرةً، والمغلوب دائمًا محتقَر؛ ولذا أخذ المفكرون ينسبون لها كلَّ نقيصة ويُجرِّدونها من المحاسن.»٤٣ الوردي يهتم بنزعة الشك لدى السفسطائيين، ويرى أن طريقتَهم في التفكير تُزلزل اليقينيات، وتُزعزع القناعات؛ لأنها لا ترى مقياسًا للحقيقة غير الإنسان. يُعقِّب الوردي على رأيهم: «إن الإنسان هو مقياس الحقيقة»، بقوله: «ولستُ أرى مبدأً إصلاحيًّا أروعَ من هذا المبدأ السفسطائي العظيم.»٤٤

على الرغم من أن المعرفةَ تبدأ بالشك، وهو منبع توالُد الأسئلة، إلا أن تفكيرَ السفسطائيين لم يتوقف عند إثارةِ الشكوك وطرحِ الأسئلة، بل انتهى إلى حالةِ ارتيابٍ بكلِّ شيء، كلُّ نتيجة تنتهي إليها المقدمات يُشككون فيها، ولا يصلون إلى أية نتيجة، كأن الذهن لا يتقبل إلا الشك. قادهم هذا التفكير إلى نسبيةٍ عدميَّة، لم تعُد فيها أيةُ حقيقيةٍ ثابتة من منظورهم. قضيةُ نفي أية حقيقة تنطوي على مفارقةٍ داخليةٍ تنقضها، إن كانت هذه القضيةُ حقيقة، فقد أقرَّ مَن يقول بها بقبول حقيقةٍ لا شكَّ فيها، وإن كانت هذه القضيةُ ليست حقيقةً لم يعُد هناك أيُّ شيءٍ حقيقي، حتى هذه القضية، فتنقض هذه القضيةُ مدعاها.

لا أريد أن أتحدث عن الشكِّ وأثرِه المهم في تطور العقل الفلسفي، وخلقِه آفاقًا رحبةً للعقل النقدي عبْر التاريخ، وكيف أنه كان ضروريًّا لتقويض بداهاتٍ ليست بديهية، ومقولاتٍ مسلَّمٍ بها بلا برهان، وأقوالٍ شائعة يكرِّرها الناسُ بوصفها يقينياتٍ لم تصمد أمامَ أيِّ تفكيرٍ نقدي. كلُّ فيلسوف، وإن كان تفكيرُه ينطلق من الشك، لكنه يرتكز على حقائق ينطلق منها. كان نيتشه يبجِّل السفسطائيين في كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، غير أنه في كلِّ أعماله ينطلق من حقائق مسلَّمةٍ يرتكز عليها تفكيرُه.

على الرغم من ثنائه على السفسطائيين، لكن الوردي لم يكن سفسطائيًّا في كتاباته. طريقةُ تفكيره والنتائجُ التي ينتهي إليها ليست متطابقةً أو قريبةً من طريقةِ تفكيرِ السفسطائيين وحُججِهم ونتائجِهم الارتيابية العدمية. الوردي وإن كان لا يثقُ بالتفكير الوثوقي، ويُحذِّر من التعميم، وإطلاقِ الأحكام الجَزْمية النهائية واليقينيات، إلا أن كتاباتِه لا تخلو من تعميماتٍ وأحكامٍ جزميةٍ نهائيةٍ لا تقبل الشك على شخصية الفرد والمجتمع العراقي. يرى هذه الشخصيةَ تعيشُ في ثوابتَ أبديةٍ مقيمةٍ في صراعٍ لا يتغيَّر بين البداوة والحضارة.

لا أتفق مع منهجِ الوردي وتطبيقاتِ هذا المنهج على مختلف الظواهر في المجتمع العراقي، إلا أن محاولتَه النقدية الشجاعة في مجتمعٍ تقليدي مغلَق تستحقُّ التبجيل. كانت وما زالت تجذبني شجاعةُ علي الوردي ونقدُه الصريح وسخريتُه اللاذعة. السببُ الأساسي لشيوعِ كتابات الوردي هو تفسيرُه المباشر للظواهر الاجتماعية المتنوعة، وأسلوبُه القصصي الحكواتي، وحذرُه من الفهم الوعظي المبسَّط.

الوردي يقول في العلن قبل ٨٠ عامًا ما نقوله نحن اليوم في السر. عقلانيتُه النقدية كانت مفاجِئةً في مجتمعٍ تهيمن على حياته قيمٌ دينية وعشائرية تقليدية لا تطيق التفكيرَ الحر، وأعرافٌ وعاداتٌ متشدِّدة. لا نقرأ في أعماله الصادرة ذلك الوقت ما يشي بتردُّد أو خوف من نقدٍ صريح لتلك القيم والتقاليد. يعلن الوردي ما لا يُمكِننا إعلانُه اليوم، يكتب ما لا يمكننا كتابتُه، بعد أن ضاق فضاءُ الحريات في مجتمعنا، وكبَّله مجدَّدًا انبعاثُ قيمٍ دينية مغلَقة وعشائرية متشدِّدة.

(١٨) في المخيال تُولَد الأديانُ ولادةً ثانية

المخيلةُ منجمُ الإبداعِ البشري، كلُّ شيءٍ يضيقُ فيه الواقعُ يتمكنُ الإنسانُ من تخيُّله. لا ينفرد الإنسانُ بالعقل وحده، بل ينفرد بملكة الخيال أيضًا. بواسطة التخيُّل أصبح الإنسانُ كائنًا يتطلع للمستقبل، ويرسم خارطةً لتطوير أحواله والتقدُّم للأمام. لولا الخيال للبِث الإنسانُ يكرِّر كلَّ شيء، في طريقة عيشه وطعامه ولباسه وتأمين احتياجاته المتنوِّعة كما يفعل الحيوان، ولم يتمكَّن من إنتاج العلوم والمعارف والتكنولوجيا والثقافة والآداب والفنون والحضارات. يؤكد غاستون باشلار على «أهمية المخيال والأحلام الشاعرية للعقل العلمي».٤٥

الواقع لا يُطاق، لولا الخيال لمات الإنسانُ مفجوعًا. عالم الخيال أوسع وأثرى من الواقع. يتسع الخيالُ لما يضيق به الواقع. الواقع مفروضٌ على الإنسان، الخيال يمكن أن يتصرَّف فيه الإنسانُ بالخلق والإبداع كيف يشاء. السعادةُ المفقودة في الواقع يمكن أن يتذوق الإنسانُ شيئًا منها في المتخيَّل، مباهجُ الحياة المفقودة في الواقع يمكن أن يتذوق الإنسانُ شيئًا منها في المتخيَّل.

تنشط المخيِّلةُ وتتضخم صورُها لحظةَ تخوض في عالَم المجردات، وتتدفق وتنبعث فاعليتُها لحظةَ تغوص في الوقائع التاريخية القديمة، وتحاول أن تتمثَّل أحداثَ قصصٍ تنتمي إلى ماضٍ اندثرَت معالمُه الأثرية، واختفَى مكانُه وزمانُه عن الأنظار. كلَّما ابتعد الدينُ عن لحظة التأسيس لم يعُد الواقعُ كافيًا لإشباع مخيِّلة الأتباع؛ لأنهم يرون الواقعَ ضحلًا واضحًا، لا لغز فيه، ولا يبوحُ بسِر. الإنسانُ الديني مولَعٌ بالمفارق للمادة، ينجذب لما ينطوي عليه من حَيرة وغموض وإبهام وسحر. وينتهي ذلك إلى تضخُّمِ المجرَّد في المخيال، وقوةِ حضوره في الحياة.

باستثناء أفلاطون الذي تحدَّثَ عن الخيال، كان الاتجاهُ العقلي السائد في الفلسفة اليونانية ينظر للخيال بوصفه: «الجانب الخادع في النفس الذي يقود إلى الخطأ والزلل»،٤٦ كأنه يرادف اللاعقلاني والتوهُّم. منذ ذلك الوقت ظل الخيال منسيًّا، وكان يحذِّر منه الفلاسفةُ بوصفه ضدَّ التفكير العقلي. عزَّزَت فلسفةُ ديكارت مركزيةَ العقل وكرَّسَت تغييبَ التخيُّل، وتضييقَ آفاق المعرفة وحصرَها في حدود العقل خاصة. إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) أعاد للتخيُّل نصابَه، وأخرجَه من مدلوله الميتافيزيقي عند أفلاطون، واستوعَبه في المعرفة، وتنبَّه إلى فاعليته الخصبة في توليد المعرفة وإثرائها. لم يعُد التخيُّل ضدًّا ولا حتى رديفًا للعقل، بل اتسع به فضاءُ العقل. مع كانط اتسعَت مملكةُ العقل لاستيعابِ مَلَكة الخيال، واكتشافِ مصدرٍ غزير لإنتاج المعرفة، لم تمنحه الفلسفةُ اهتمامًا يتناسب وأهميته قبل ذلك. بعد كانط اهتم الفلاسفةُ الألمان بالمتخيَّل، وذلك ما نقرؤه في أعمال: شيلنغ، وشوبنهاور، وهيغل، ونيتشه، وهنري برجسون، وإدموند هوسرل، وهايدغر، وغادامير، ومعهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت، وسارتر، وغيرهم، إلى بول ريكور وأعمالِه المتعدِّدة حول المخيال والسرد. في مدرسة التحليل النفسي فتح سيغموند فرويد آفاقًا جديدة لجذور دراسة المخيال في اللاوعي، وجاء كارل غوستاف يونغ واكتشف منابعَ المتخيَّل في اللاوعي الجمعي، ودرس الصورةَ والرمزَ والأسطورةَ والأنموذجَ الأصلي. وأضحت دراسةُ المتخيَّل وفاعلياته الأساسية في إنتاج المعرفة حقلًا أساسيًّا في الفلسفة وعلم نفس المجتمع وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والألسنيات وعلم اللغة والميثولوجيا. وتطوَّرَت دراساتُ علم اجتماع المخيال، وظهرَت أبحاثٌ ثمينة حول دراسة أثره في تشكُّل الأديان والفِرق والمذاهب والجماعات وتوالُدها.

في المخيال يُولَد الشعرُ والإبداع الأدبي والفني، والعلوم والمعارف والتكنولوجيا. وتُولَد الأديانُ في المخيال ولادةً ثانية بموازاة ولادتها الأولى على يد المؤسِّسين، الولادة الثانية تتشكَّل فيها الأديانُ على شاكلة المخيال. المكان والزمان مقدَّسان في المخيال الديني، وهما غير المكان المادي والزمان الفيزيائي، الخاضعان لكلِّ مشروطياتِ التاريخ الأرضية وعواملِ إنتاجه وتشكُّلِه وصيرورته. المتخيَّل موطنُ صناعة المعنى الديني، تتسع آفاقُ هذا المعنى، ويتمدَّد ويتضخَّم بنحوٍ يتجاوز آفاقَ وحدودَ ولادة الدين الأولى، وبالتدريج تطغى الصورةُ اللاحقة للدين الذي تشكَّل في المتخيَّل وتتقلص صورتُه الأولى. يتغذَّى المتخيَّلُ من شبكةِ الصور الراقدة في اللاوعي الجمعي، المترسِّبة مما تنتجه سردياتُ الجماعة، وتأويل الجماعة لكلِّ شيء يتصل بنشأتها وتحولاتها ومختلف وقائع تاريخها. يتوالد المتخيَّلُ ويتغذَّى وينمو ويتجذَّر، ويتشعَّب كنسيجٍ متشابِكٍ يتراكمُ ويتكثَّف على الدوام.

كما يكون الخيال منبعًا للإلهام والطموح والأحلام والفنون والآداب، ويخفض من القلق الوجودي والملل والسأم والضجر، يكون الخيال منبعًا للخرافات، وللخوف والقلق، وتقديسِ غير المقدَّس، وكلِّ ما يعطِّل العقلَ ويعبثُ بالحياة. لا يضع المتخيَّلَ في حدوده إلا يقظةُ العقل ومرجعيتُه في النفي والإثبات. مَن يمتلك المنابعَ المغذِّية للمتخيَّل الجمعي يتحكَّم بنظام إنتاج المعني في حياة الجماعة، ويتحكَّم بتوجيه حاضرها ومستقبلها.

تجاهلُ دراسة أثر المتخيَّل في فهم الدين وتفسير وظيفته أحدُ أبرز الثغرات عند مفكري الإسلام في العصر الحديث. اكتشافُ جغرافيا المخيال وفاعلياتِه ضروريٌّ للكشف عن نشأةِ وتطوُّر الأديان، وأثرِ مخيِّلة الجماعة في إنتاج المعنى الديني، وكيفيةِ ولادة وتضخُّم مخيلتها في سياق: رغباتها، وأمنياتها، وأشواقها، وأحلامها، وأوهامها، ومسعاها للتعويض عن كلِّ ما تعجز عن إنجازه في عالمها الأرضي، بنحوٍ يُمسي ذلك المتخيَّلُ شديدَ التأثير في حياة الفرد والجماعة، وربما يطغى تأثيرُه، فيُسيطر عليها ويأسِر حاضرَها ومصائرَها.

تجاهلُ دراسة المخيال يجهضُ المساعي الجدية للتجديد، لا ينجز التجديدُ شيئًا من وعوده من دون ذلك. بالإمكان إعادةُ إنتاجِ المتخيَّلِ الديني، وإن كانت شروطُ إنتاجه تتطلب جهودًا تخرج عن قدرة الفرد. المتخيَّل الديني متجذرٌ في اللاشعور الجمعي، مَن يفكِّر بتديُّنٍ عقلاني يظلُ عاجزًا عن إعادة إنتاجه في ضوء رؤيته، لافتقاره إلى الوسائل اللازمة لإنتاجه وتشكُّله. المؤسساتُ الدينية والمجتمعية والسياسية هي مَن تمتلك تلك الوسائل، ولا يمتلكها إنسانٌ واحد خارج إطارها. المخيال ينمو ويزدهر في مناخات التديُّن الشعبي، وهو تديُّن يتوارى فيه العقل. روافد تشكُّل المتخيَّل لا تخضع للعقل ولا تستفتي حججَه، ولا تحتاج أدواتِ استدلالاته بالضرورة. تهربُ من العقل، وتعملُ على تحصينِ نفسها بوسائلها الخاصة لئلا يفكِّكها ويقوِّضها، وهي محصَّنةٌ منه على الدوام؛ إذ تحتضنُها مشاعرُ يختفي العقلُ فيها وراءَ العواطف والانفعالات والهواجس والمخاوف.

كلُّ مجتمعٍ يصنع مُتخيَّله على شاكلة معتقداته وسردياته ورؤيته للعالَم وتأويله لتاريخه، ليعود المتخيَّلُ فيُعيد بناءَ رؤية ذلك المجتمع للعالَم في سياق رغباته وطموحاته وأحلامه. أنتج المتخيَّلُ الجمعي للمجتمعات عبْر التاريخ قصصَ الهلاك الشامل، تعبيرًا عن رغباتٍ ورُهابٍ بشري مكبوت، وما يشي بفَناء عالَمٍ أكلَته الشرورُ والحروبُ والطغيانُ والقبح، وشغفٌ لا يكُفُّ عن أشواق العودة إلى بدايات الخلق الصافية النقية؛ حيث صارت صورةُ ذلك العالم على وَفْق المتخيَّل، كلُّها خيرٌ وعدلٌ وجمالٌ وسلام. كما يشرح ذلك عالمُ الأساطير ميرسيا إلياد.

خيال الجماعة يتشكَّل ويتغذَّى بأدواتِه وروافدِه المُلهِمة، وأكثرها خارج العقل، وهي بارعةٌ بشحذِ المشاعر وتأجيجِ العواطف وإثارةِ الغرائز. ليس هناك وسيلةٌ لترسيخ المعتقَدات أيسر وأسرع وأشد تأثيرًا من إثراءِ المتخيَّل وتنميتِه والضخِّ فيه باستمرار، وتلك وسيلةُ الأديان والمَعتقَدات والأيديولوجيات، وإن كانت تختلف باختلاف منظورات الأديان وثقافات المجتمعات، ووسائلها وقدرتها على التعبئة والتحشيد.

يرسمُ المخيالُ صورةً للتاريخ في ضوء أفق أحلام وتمنِّيات الجماعات، لا كما عاشه الناسُ وحدثَت الوقائع. تُنتِج الواقعةُ التاريخية متخيَّلًا بموازاتها، هذا المتخيَّل يعبِّر عن تمثُّلاتٍ للواقعة يرسمُها أفقُ انتظار الجماعة وضميرُها ورؤيتُها للعالم ولاوعيُها الجمعي. يسرد المتخيَّلُ روايتَه للتاريخ، ويرسم صورتَه المُفارِقة للواقع والعابرةَ لسياقات الزمان والمكان التاريخي، ويُعاد في هذه الصورة رسمُ ملامح المعتقَدات والوقائع والشخصيات والجماعات في فضاء المخيال. يُفضي ذلك أخيرًا إلى ضياعِ صورة الواقعة كما حدثَت، وإهدارِ معنى التاريخ. هنا يأتي دورُ المؤرِّخ الخبير في علم التاريخ ليحفر عبْر مدونات التاريخ عن وثائقِ الواقعة وأرشيفِها وآثارِها، فيرسم ملامحَ صورةِ الواقعة كما حدثَت، وليس كما رسمَت صورتَها مخيِّلةُ الجماعة.

الهوياتُ المغلَقة للجماعات تتلاعب بالذاكرة التاريخية، فتعمل على إعادةِ خلقِ ذاكرةٍ موازية في ضوء اصطفائها لذاتها؛ لذلك تعمد لحذف كلِّ خسارات الماضي وإخفاقاته، ولا تتوقف عند ذلك، بل تسعى لتشويهِ ماضي الجماعات الموازية لها، والتكتُّمِ على مكاسبِها ومنجَزاتِها عبْر التاريخ. في الهوية المغلَقة يعيد مخيال الجماعة كتابةَ تاريخها، في أفقٍ يتحوَّل فيه الماضي إلى سرديةٍ رومانسية فاتنة، ويصبح العجزُ عن بناءِ الحاضر استعادةً استيهاميةً مهووسة بالأمجاد العتيقة، ويجري ضخُّ الذاكرة الجمعية بتاريخٍ يضمحلُّ فيه حضورُ وقائع التاريخ الدنيوي، وتخلع على شخصياته ورموزه وأحداثه وكلِّ ما يَحفِل به هالة أسطورية عابرة للزمان والمكان ووقائع التاريخ الأرضي.

التمثُّلاتُ البشرية للأديان لا تقتصر على التعاطي مع تلك الشخصيات في إطارٍ بشري تاريخي، بل تحاول أن تتخطَّى ذلك لتُخرِجَها من عالَمِها الأرضي وخصائصِها البشرية، كما يفعل بعضُ مريدي المتصوفة وغيرهم، الذين يُغالون بشيوخهم فيُخرجونهم من الزمان التاريخي الأرضي إلى زمانٍ مقدَّس لا تاريخي. وهي ظاهرةٌ موجودة في الأديان والمعتقدات المختلفة؛ كلٌّ على شاكلته. خطورةُ أيِّ شخصيةٍ دينية تكمُن في عبورها من الواقعي إلى الميثولوجي، بل انقلابِها من كونِها حقيقةً إلى خيالٍ محض، لا حضورَ له في الواقع. وقتئذٍ يصير الرمز مُنوِّمًا بعد أن كان مُلهِمًا، مُخدِّرًا بعد أن كان مُوقِظًا. وتنقلب الأديانُ وتهرب إلى عالمٍ غيرِ عالَمِها تخسر فيه رسالتَها. في الديانة غطاءٌ ميثولوجي، حين يستهلك الغطاءُ المضمونَ، تخسر الأديانُ مقاصدَها الروحية والأخلاقية والجمالية وتتبدَّد أهدافُها الإنسانية.

ألحقنا هذه الفقرة بهذا الفصل، لتنبيه الباحثين في علوم الدين في وطننا العراق إلى ضرورةِ الاهتمام بدراسةِ المتخيَّل الديني، وأثرِه وفاعلياتِه الواسعة في تشكُّلِ السرديات الدينية وقراءةِ النصوص، وولادةِ الأديان ولادةً ثانية، وكيفيةِ نشأة الفِرق والجماعات، والكشفِ عن أن كثيرًا من النزاعات والحروب الدينية تعود للاستحواذِ على مصادر إنتاج المتخيَّل الديني؛ فمَن يمتلك تلك المصادر يمتلك حاضرَ أتباع الدين ومصائرهم.

سبقَت الجامعاتُ التونسية والجزائرية والمغربية وغيرها الجامعاتِ العراقية بدراسة المخيال.٤٧ أظنُّ أحدَ أسباب غياب دراسات المخيال في جامعاتنا يعود إلى مرجعيةِ أعمال الوردي وتسيُّدِها في الثقافة العراقية، ورسوخِ حضورها في الدراسات الإنسانية الأكاديمية، بعد وفاته؛ فلم يتخذ علمُ اجتماع المخيال موقعَه المناسب في حديثِ علي الوردي عن الدين وتعبيراتِه المتنوعة في حياة الفرد والمجتمع، على الرغم من الأهميةِ الفائقة لأثرِ المخيال في إنتاجِ المعنى الديني، وتغذيتِه لتمثُّلات الدين الفردية والمجتمعية، وترسيخِ أرضيتها في فضائه الذي يتضخم باضطراد. يمكن الاعتذارُ لغياب الأدوات التفسيرية لعلم اجتماع المخيال في كتابات الوردي المبكرة منتصف القرن الماضي، وإن كان ينبغي أن يواكب الوردي معطياتِ علم اجتماع المخيال المتنوعة لاحقًا بالإنجليزية وهو يتقن هذه اللغة.

بعض المفكرين تموت أفكارُه بموته، وبعضُهم يتأخر اكتشافُ قيمة أفكاره بعد سنوات وربما بعد قرون. أحيانًا ينبعث المفكرُ فيتسيَّد الحياةَ الفكرية بعد موته، فتعمل أفكارُه على تعطيل التفكير النقدي وعقم الإبداع في ذلك العلم سنواتٍ طويلة. تسيَّدَت أعمالُ الوردي المشهدَ الثقافي وحتى الأكاديمي في العراق، وحجبَت إسهامًا رصينًا من جيلِه والأجيالِ اللاحقة له في علم الاجتماع. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أشرنا إلى بعضِها في حديثنا السابق، منها لغةُ الوردي الميسَّرة، خارج القوالب الأكاديمية الصارمة، الوردي في كتاباته كأنه حكواتي يتحدَّث في المقاهي الشعبية. مضافًا إلى عدم ظهور جيلٍ جديدٍ من علماء الاجتماع يمتلك شجاعةَ عبور الوردي، ويُحدث اخترقًا في الجدار الأكاديمي المتصلِّب والمنغلِق، ويُعلن الخروج من جبة الوردي بمنطقٍ علمي، ويوظِّف المعطَيات الجديدة في علم الاجتماع والعلوم الإنسانية في الدرس الأكاديمي.

١  الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص١٧، ط٣، ٢٠٢٣م، دار الرافدين ببيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد.
٢  صدرَت الترجمة العربية لهذا الكتاب بعنوان: دراسة في سوسيولوجيا الإسلام، بترجمة: رافد الأسدي، وتقديم: حسين الهنداوي، ومراجعة: ماجد شبر، ٢٠١٣م، دار الوراق، لندن.
٣  تبدلَت ١٣ وزارة على حكومة العراق للفترة من ١٩٥٠–١٩٥٨م.
٤  راجع الدراسة المهمة للدكتور فؤاد زكريا، كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي، الكويت، شركة كاظمة للنشر، ط١، ١٩٨٣م.
٥  الوردي، علي، لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، ج٤، ص٤٧٧.
٦  الوردي، علي، وعَّاظ السلاطين، ص٢٧٠.
٧  الحيدري، إبراهيم، علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية، ص٣٩–٤٢، ٢٠٠٦م، دار الجمل، كولونيا، ألمانيا.
٨  شريعتي، علي، سلسلة الآثار الكاملة ٢٦: الشهادة، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، بيروت، دار الأمير، ٢٠٠٧م، الطبعة الثانية، ص١١٥.
٩  شريعتي، علي، سلسلة الآثار الكاملة، ج١، ص٢٠٩.
١٠  يستعمل الوردي في كتاباته مصطلح القوقعة، وهي كما يقول اللغويون: «دِرْع خارجيٌّ صلبٌ يكسو بعض الكائنات الحية مثل الرخويَّات والسلاحف. قوقعة السلَحفاة: الصندوق العَظْمي المُغطِّي جسمها» (أحمد مختار عمر (ت٢٠٠٣م)، «معجم اللغة العربية المعاصرة»، ٤ج، القاهرة، عالم الكتاب، ١٤٢٩ﻫ/٢٠٠٨م، ج٣، ص١٨٧٢).
١١  «صدر للرد عليه أكثر من خمسة كتب ومئات المقالات في الصحف والمجلات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وامتدَّ الهجومُ عليه إلى المساجد والمجالس والأندية الثقافية وحتى المقاهي والبيوت، بسبب ما طرحه من آراءٍ وأفكارٍ نقدية صريحة وجريئة لم يألفها القُراء، حول وعَّاظ السلاطين والخطباء والكُتاب والشعراء» (الحيدري، إبراهيم، «وعَّاظ السلاطين: نقد الدين أم نقد وعَّاظه؟»، صحيفة إيلاف الإلكترونية، الصادرة بتاريخ ١ أغسطس ٢٠٠٦م).
١٢  لاهاي، عبد الحسين، الماركسية الأكاديمية لدى فالح عبد الجبار، مقالة منشورة على موقع الحزب الشيوعي العراقي، ١٤ آذار ٢٠١٨م.
١٣  الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص٥.
١٤  الوردي، علي، أسطورة الأدب الرفيع، دار كوفان، ط٢، ص١٣.
١٥  الوردي، علي، أسطورة الأدب الرفيع، ص٥.
١٦  الوردي، علي، أسطورة الأدب الرفيع، ص٩–١١.
١٧  الوردي، علي، أسطورة الأدب الرفيع، ص٧، ط٢، ١٩٩٤م، دار كوفان، لندن.
١٨  الوردي، علي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، بيروت، دار الراشد، ط٢، ٢٠٠٥م، ج٤، ص٥-٦.
١٩  الطنطاوي، علي، فكر ومباحث، ص١٣، ١٩٨٨م، مكتبة المنارة، مكة المكرمة.
٢٠  طُبع المجلد الأول منها سنة ١٣٩٩ش، بمطبعة الآداب في النجف. وسمعتُ منه أنها تقع في ٢٤ مجلدًا كبيرًا، ولا أعرف مصير ما لم يُطبَع منها.
٢١  الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي، ص٧٨، ط١٣، ٢٠١٧م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
٢٢  أنيس، إبراهيم، من أسرار العربية، ص١٩٨-١٩٩، ط٤، ١٩٧٢م، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
٢٣  يقصد قلب الصبي.
٢٤  الجاحظ، الرسائل، ١: ١٧١.
٢٥  الجاحظ، الحيوان، ص٦٢-٦٣.
٢٦  ابن مضاء القرطبي، كتاب الرد على النحاة، نشره وحققه: د. شوقي ضيف، ص٨٥-٨٦، ١٩٤٧م، دار الفكر العربي، القاهرة.
٢٧  السيوطي، جلال الدين، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ١٩٦٤م، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
٢٨  الطنطاوي، علي، فكر ومباحث، ص١٧، ١٩٨٨م، مكتبة المنارة، مكة المكرمة.
٢٩  الخولي، أمين، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، ص٤١–٤٣، ١٩٦١م، دار المعرفة، القاهرة.
٣٠  الوردي، علي، وعَّاظ السلاطين، ص٥-٦.
٣١  جيلسبي، مايكل ألين، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة: فيصل بن أحمد الفرهود، ص١٩، ٢٠١٩م، جداول، بيروت.
٣٢  الوردي، علي، وعَّاظ السلاطين، لندن، دار كوفان، ص٩، ط٢، ١٩٩٥م، الهامش رقم (١).
٣٣  المصدر السابق، ص٩.
٣٤  حوار مع الدكتور علي الوردي، أجراه: حسين الحسيني، الأقلام، العدد: ٨، أغسطس (آب) ١٩٨٣م.
٣٥  صدر هذا الكتاب قبل أكثر من ٤٠ عامًا، عن: الزهراء للإعلام العربي في القاهرة. ثم نقض عبد الجواد ياسين أفكاره في هذا الكتاب بجرأة في مؤلفاته اللاحقة.
٣٦  الوردي، علي، شخصية الفرد العراقي: بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث، ص٢٨، ١٩٥١م، بغداد.
٣٧  حوار مع الدكتور علي الوردي، أجراه: حسين الحسيني، الأقلام، العدد: ٨، تاريخ الإصدار: ١ أغسطس ١٩٨٣م.
٣٨  الوريمي، ناجية، حفريات في الخطاب الخلدوني، ص٢٢-٢٣.
٣٩  راجع كتابها: «في الائتلاف والاختلاف: ثنائية السائد والمهمش في الفكر الإسلامي القديم»، ٢٠٠٤م، دار المدى، بيروت.
٤٠  الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص١٧–٢٠، ٢٠٢٣م، دار الرافدين ببيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد.
٤١  وجهًا لوجه: د. علي الوردي، ود. جليل العطية، العربي «الكويت»، ع٣٦٠، نوفمبر ١٩٨٨م.
٤٢  الوردي، علي، مهزلة العقل البشري، ص٢١١، ط٢، ١٩٩٤م، دار كوفان، لندن.
٤٣  الوردي، علي، المرجع السابق، ص١٥٦.
٤٤  الوردي، علي، المرجع السابق، ص١٥٧.
٤٥  يمنى طريف الخولي، مشكلة العلوم الإنسانية تقنينها وإمكانية حلها، ص١٦، ٢٠١٤م، مؤسسة هنداوي للثقافة والعلوم، القاهرة.
٤٦  هلال، محمد غنيمي، الرومانتيكية، ص١٥، ١٩٥٥م، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة.
٤٧  الريادة في دراسة المتخيل في وطننا العراق تعود إلى المنجَز الثمين للصديق د. عبد الله إبراهيم في «موسوعة السرد»، الصادرة بتسعة أجزاء، ومؤلَّفاته وأبحاثه الغزيرة، وهكذا مؤلَّفات وترجمات الصديق الأستاذ سعيد الغانمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥