حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحدة
(١) نداء الحياة يهتف بالروح رغم وهن الجسد
رحل الدكتور حسن حنفي يوم الخميس ٢١ / ١٠ / ٢٠٢١م عن عالمنا بعمر ٨٦ سنة (١٩٣٥–٢٠٢١م). برحيله فقد العربُ مفكرًا غزيز الإنتاج، وخَسرَت الفلسفةُ معلِّمًا أفنى حياتَه في التعليم، وباحثًا كرَّس عمرَه للبحث والكتابة. مشاعرُ فقدان الأصدقاء القريبين موجعةٌ، احتجتُ مدةً طويلةً لتبرُد مشاعري وأُعيد تحريرَ هذا النص وأنا هادئ. أحاول أن أكتبَ عنه وأنا متخفِّف من مشاعرِ فقدانِ صديقٍ عزيز، ولئلا يقع تفكيري أسيرَ عواطفي عند الحديث عن أفكاره.
كنا معًا على المنصَّة في الجلسة الافتتاحية آخر مرة التقينا بمؤتمر النهضة العربية سنة ٢٠١٨م في الأردن، كان مُقْعَدًا على كرسيٍّ، لكنَّ همَّته وعزيمته وحماسته لم تهدأ، وتوقُّد ذهنه لم ينطفئ. أحترمُ حسن حنفي وأعتزُّ بصداقته، ويُدهشني منجَزُه الواسع، وحماسُه المتدفق كشلَّالٍ هادر، وأهتمُّ بمتابعة ومطالعة كتاباته الغزيرة. تربطنا صداقةٌ تواصلَت سنواتٍ طويلة، كان مهذبًا دافئًا ودودًا معي، أُحبُّ صوتَ الإنسان الغَيور الشهم داخلَه، وإن كنتُ أختلفُ مع تعريفه للدين وقراءته الأيديولوجية لنصوصه. حسن حنفي عالمٌ ذكي جدًّا، موهوب، متعددُ اللغات، مثابرٌ صبور، يستحقُّ التبجيلَ والثناء. كتبَ وترجمَ وحقَّقَ آلافَ الصفحات، ربما لم يكتب أحدٌ من المفكرين من مواطنيه بغزارة وسَعَة ما كتبه. كتاباتُ حنفي حول التراث متنكِّرةٌ بلغةٍ لا تخلو من حماسٍ توقِده شعاراتٌ ثورية، ومتنكرةٌ بتوظيفاتٍ كما يشاء لمناهج وأدوات ومفاهيم ومصطلحات مستعارَة من الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة.
تعودُ علاقتي بفكر حسن حنفي إلى أكثر من أربعين عامًا، قرأتُ سلسلةَ مقالاته في نقد الأصولية بجريدة «الوطن» الكويتيَّة، بعد مقتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات. في نقده للأصولية للمرة الأولى أقرأ نقدًا بجرأة لم أعرفها في أدبيات الجماعات الدينية. لم تألَف هذه الجماعاتُ غربلةً وتمحيصًا في داخلها لشعاراتها ومفاهيمها وقراراتها. كلُّ ما قرأتُه في تقويمها ومراجعتِها ونقدِها لكُتَّابٍ خرجوا عليها وغادروا تفكيرها، أو كُتَّاب ينتمون للجبهة المقابلة لها. انتقل حسن حنفي في نقده للأصولية إلى آفاقٍ أوسع من ضيقِ أفقِ تفكيرِها ومفاهيمِها المبسَّطة، ونظرتِها الأُحادية لواقعٍ شديد التركيب والتعقيد، ومتعدِّد الأبعاد ومتنوِّع الوجوه، وإن كان ذلك النقدُ مراوغًا.
بادرتُ إلى قراءة ما أعثُر عليه من مقالات حنفي ومؤلَّفاته. أرسلتُ له رسالةً بريدية. لم أكن واثقًا من وصولها، فوجئتُ بعد مدةٍ طويلة برسالةٍ جوابية مرفَقة بطرد يحمل مجلة «اليسار الإسلامي» وغيرها، هذه المجلةُ أصدرَ حنفي العددَ اليتيم منها ولم يُردفه بعددٍ آخر. ضمَّت «اليسار الإسلامي» مقالاتٍ بعضُها منشور من قبلُ، منها مقالةٌ للدكتور علي شريعتي مترجَمة للعربية. كانت المجلةُ أشبه ببيانٍ تأسيسي لحزبٍ ثوري. قرأتُ مقدمتَه المُسهبة للمجلة أكثرَ من مرة، رأيتها مقالةً تحتشدُ فيها أصواتٌ متنوعةٌ للثوار في تاريخ الإسلام المبكر، تحتشدُ هذه الأصواتُ بموازاة مقولاتِ العدل والحرية في علم الكلام المعتزلي، ومفاهيمَ إنسانيةٍ منتقاةٍ من التراث. لم أقرأ من قبلُ كتاباتٍ تتجاور فيها كلُّ هذه التوليفة المركَّبة من أضداد، ومحاولة سكب الأضداد في كأسٍ واحد. بقَدْر ما أعجبتني براعةُ حسن حنفي في الصياغة اللغوية لشعارات تنادي بأحلام اليسار والحركات الثورية بمختلف تعبيراتها، وخبرتُه الواسعة بحقول التراث المتنوعة، تساءلتُ عن كيفية جمع ثوراتٍ تنطلق من مواقفَ اعتقادية متعارضة وأحيانًا متصارعة، ودمجها بمقولاتٍ كلامية تعكس كلُّ واحدة منها رؤيةَ إحدى الفِرق الكلامية المتنازعة. بدأ ينمو ويتراكَم هذا التساؤلُ وأمثالُه بمرور الزمن كلما قرأتُ جديدًا لحنفي، إلى درجةٍ اكتشفتُ فيها عقلًا يدمجُ عناصرَ غريبة وأحيانًا متنافرة تنتمي لفلسفاتٍ متنوِّعة وعقائدَ متصارعة، يدعوها لتُنادي بصوته لا صوتها، وتُعلن غاياتِه لا غاياتها، وتنشدُ أحلامَه لا أحلامها. وقفتُ على بوصلة تفكير حنفي منذ أول قراءة لكتاباتِه، وتكشَّفَ لي بوضوح كيف يجعل الشرقَ يقول ما قاله الغربُ والغربَ يقول ما قاله الشرق، والماركسيةَ تقول ما قاله الإسلامُ والإسلامَ يقول ما قالته الماركسية، والتراثَ يقول ما قاله التنويرُ والتنويرَ يقول ما قاله التراث.
تفرضُ عليك جهودُ حسن حنفي الاهتمامَ بها، سواء كنتَ تتفق أو تختلف مع أفكارِه، أو تثيرك تأويلاتُه للتراث، ومحاكاتُه للاهوت التحرير، وشغفُه باشتقاق الثورة من العقيدة. كتاباتُه وعباراتُه كأنها شعاراتُ ثوار بالغة التأثير على مشاعر مَن يقرؤها بتعجُّل، تراها لأول وهلة كأنها نسيجٌ ينهل من منابعَ متنوعة، تُحيلُ إلى الموروثِ بحقوله الواسعة، وتتكلمُ مصطلحاتِ الفلسفةِ وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة بتياراتها واتجاهاتها المتنوعة، وإن كانت قراءتُها بتريُّث ترى فيها ما لا تقوله قراءتُها المتعجِّلة. لا تفتقرُ كتاباتُه إلى إطلالةٍ على الماضي وإن كانت مشدودةً بالواقع، تقرأ إعلاناتِه المكرَّرة عن ضرورة الاهتمامِ بالواقع ومتطلَّباته واستحضارها في التفكير والتعبير. تخلو كتاباتُه من التحريض ضدَّ المذاهب، لا تشوبها لوثةٌ طائفية، لم يكن مع مذهبٍ ضدَّ مذهب، ولا مع جماعة ضدَّ جماعة، ولا مع حزب ضدَّ حزب. تُشعِرك كأنها مع الجميع، في الوقت الذي لا تراه إلا وحده، يحرص على التوفيق بين مختلف التيارات والاتجاهات والفِرق والمذاهب والأيديولوجيات، الذي يصلُ حدَّ التلفيق المكشوف بتأليفِ ما لا يأتلف.
كنتُ مدعوًّا لمؤتمر نظَّمه الأزهرُ في القاهرة ربيع سنة ٢٠١٧م، لا أتذكَّر زيارةً للقاهرة إلا وأبدؤها بمهاتفة حسن حنفي، وأقتطع وقتًا مناسبًا لزيارته في بيته مهما كانت الزيارةُ قصيرة، كما هي عادتي في كلِّ مرةٍ أصلُ مصر، وعندما يتسعُ وقتي أزوره أكثرَ من مرة. لم تتجاوز زيارتي الأخيرة أيام المؤتمر الثلاثة، ولم يتسع وقتي للقاء أصدقاء كرام في هذه الزيارة، إلا لزيارة الأخ حسن حنفي؛ إذ فرضَتها ضرورةُ الصداقة الأخلاقية. هاتفتُه فأجابني مرافقُه، وفور إخباره أعرب عن سعادته، ورغب بشوق أن أصلَ إلى بيته القريب من منطقة الفندق الذي أقيم فيه. اكتريتُ سيارةً إلى مدينة نصر حيثُ منزله، وطلبتُ من السائق أن ينتظرني ربع ساعة كي أعودَ لأعمال المؤتمر. عندما دخلتُ عليه رأيتُه مُقْعَدًا واهنَ القوى والحواسِّ، أسرع إنهاكُ الأمراض والشيخوخة إلى الفتك بجسده، استنزفَت طاقةَ عينَيه المطالعةُ والكتابةُ حتى كادَ يفقدُ بصره، رأيتُه يكتبُ الكلماتِ بقلمٍ عريض لا تستوعب الورقةُ من حروفه إلا عباراتٍ قليلة، يستعينُ بالبصيص الضعيف لعينَيه باستخدام عدسةٍ مكبِّرة جدًّا للقراءة والكتابة. حزنتُ لمَّا رأيتُ جسده بهذه الحالة. على الرغم من وهن جسده وضعف صوته لم ينطفئ حماسُه ولم تمُت أحلامُه. تألَّمتُ كثيرًا للوهن الذي نهش جسدَه، كان مُقعَدًا على كرسي، لا يقوى على القيام. المفاجئ أن الفتور الذي استولى على جسده، لم يعبث كثيرًا بعقله، ولم ينخر مشاعرَه، ولم يطفئ حماسته المتَّقدة، ولم يصيِّر جمرةَ شعاراته رمادًا. استمعتُ إلى نداء الحياة يهتفُ في روحه بحماس يهزمُ نداءَ الموت في جسده. مكثتُ ساعة ونصفًا تقريبًا، أسأله عن صحته وجديد مشروعه الذي نذر له عمرَه، وضحَّى براحتِه وصحته من أجل إكماله، كان يحدِّثني بثقة العاشق المتيَّم الذي تحقَّقَت كلُّ أحلامه، وهو يقول جذلًا: تمكَّنتُ من إنجاز آخر حلقة في مشروع «التراث والتجديد». ويضيف: لم يعد لديَّ ما أحلمُ بكتابته إلا تدوين ذكرياتي، وأتمنَّى لو أسعفني العمرُ أن أنجزَ كتابًا جديدًا عن الثورة والثوَّار في كتابات مفكِّري أمريكا اللاتينية. سألني ما إذا كانت حقيبةُ سفري تستوعبُ آخرَ أعماله، فقلتُ له: سفرتي سريعة لحضور مؤتمر، وحقيبتي المخصَّصة للكتب سأعودُ بها لبغداد فارغة؛ لم يُسعِفني الوقتُ للذهاب للهيئةِ المصرية للكتاب والمركز القومي للترجمة ودُورِ النشر الغنية بإصداراتها المتنوِّعة في القاهرة. أهداني ما صدرَ من الحلقات النهائية لمشروعه، وهي عدة مجلَّداتٍ في التفسير، تغطِّي الحلقةَ الخاتمة في مشروعه الواسع الطموح. أحبطَ تفسيرُه أَمَلِي مرةً أخرى، تفسيرُه تبهرك عناوينه، وهو الخبيرُ بصياغة العناوين بلغةٍ كأنها لافتاتٌ شِعرية، وحين تقرؤه لا تجد مضمونَه يتناغمُ والإيقاع المعلن لعناوينه، يُسهِبُ في الحديث ويراكمُ كلماتِه وعباراتِه وشعاراتِه المعروفة في كتاباته، يفسِّر الآياتِ القرآنية في ضوء رؤيته المهيمنة على كتاباته منذ البدايات المبكِّرة، لولا أن لغتَه أضحت سائلةً، تفيضُ بالألفاظ وتشحُّ بالمعاني. تألَّمتُ لحظةَ رأيتُ لغتَه تفتقرُ إلى طاقتها ووهَجها المعروف في كتاباته السابقة، وكأنَّ الوهنَ الذي أدرك جسدَه أدركها هي أيضًا.
(٢) كاهن الفلسفة
كنتُ ألتقي حسن حنفي، فنذكُر في سياق حديثنا آراءَ مفكِّرين معروفين، ويجري نقاشٌ حول مرجعيَّات رؤيتهم للعالَم، ومواقفهم المتنوعة من ثنائيات: الماضي والحاضر، والأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وتصوُّراتِهم المتعددة لدراسة أسباب التخلف والانحطاط وشروط النهضة، والإحياء والإصلاح والتجديد، وأثرِ فهم الدين وتفسير نصوصه وأنماط التديُّن في النهضة والبناء والتنمية. حين نتحدَّث عن كتاباتهم ومواقفهم كان لسانُ حسن حنفي لا يستغرق في ذِكْر غيره بسوء، وأحيانًا يحاول التهرُّب من الحديث، إذا كان الحديث يتطلب رأيًا سلبيًّا صريحًا، وربما يصمتُ وينقلُ الكلامَ إلى شأنٍ آخر، على الرغم من أن هذا الموقف لم ينعكس على كتاباته، خاصةً سيرته «ذكريات»، الذي يُعلن فيه بصراحة ضجرَه من بعض زملائه وتلامذته، وأحيانًا لا يتردَّد في اتهامهم والسخرية بمنجَزهم.
كان حسن حنفي أشدَّ توتُّرًا وانفعالًا وحنَقًا في ذكرياته، وهو يتحدثُ عن بعض تلامذته وزملائه. تسود الشكوى والضجر والألمُ مواردَ متعدِّدة من كتاب «ذكريات». عندما يُورِد موقفًا أو يتحدَّث عن زميلٍ أو تلميذٍ كأنه يستأنف سيرةَ الدكتور عبد الرحمن بدوي التي نشرها في مجلدَين، وكان فيها شديدًا على أكثر مَن عاصرهم، ولم يستثنِ إلا القليلَ من نقدِه اللاذع الذي يتمادى فيه أحيانًا إلى الاتهام بلا دليل.
تلميذُه المقصود هو الصديق الراحل د. علي مبروك، الذي ظلَّ يشكو بمرارة في رسائله الخاصة لي من مواقفه الموجعة معه حتى الأيام الأخيرة من حياته. كان مبروك يصفُ أستاذه ﺑ «كاهن الفلسفة»، وهكذا سمعتُ شكوى من غير مبروك من تلامذة حنفي. أظن علي مبروك يريد من نعت حنفي ﺑ «كاهن الفلسفة» فضحَ المفارقة المكشوفة في كتابات أستاذه الأيديولوجية، وسلوكه معه وغيره من تلامذته. مبروك يغمز أستاذَه الذي يريد أن يكون فيلسوفًا كاهنًا وكاهنًا فيلسوفًا، وربما يريد أن ينبِّهَ القُراءَ إلى أن أستاذَه يجمعُ الأضدادَ في كأسٍ واحد، وهذا ضربٌ من جمع الأشياء المتنافرة. الإنسانُ إن كان كاهنًا فلن يكون فيلسوفًا بما هو كاهن، وإن كان فيلسوفًا فلن يكون كاهنًا بما هو فيلسوف. كلُّ مجتمعٍ يتضاعفُ فيه حضورُ الكهنة ويتضخمُ تأثيرُهم يتضاءل حضورُ الفلاسفة ويضمحلُّ تأثيرُهم.
(٣) الدين قربانًا للأيديولوجيا
دعاني الدكتور حسن حنفي للحديث في ندوة الجمعية الفلسفية المصرية مساء الأحد ١٦ يناير ٢٠١١م، بحضور نخبةٍ من الأستاذات والأساتذة المعروفين أعضاء الجمعية. أدار هو الندوة، وعقَّب عليها الصديقُ المرحوم الدكتور علي مبروك. قدَّمتُ في الندوة ورقةً نقديةً لفكرِ د. حسن حنفي وفكرِ د. علي شريعتي، بعنوان: «اختزال الدين في الأيديولوجيا: نقد لاهوت التحرير عند حسن حنفي وعلي شريعتي». لم يظهر الانزعاجُ عليه على الرغم من النقدِ الصريح الذي وجَّهتُه لفكرِه. أحترمُ موقفَه وأعتزُّ بهذا الموقف الكريم في دعوتي وتقديمي للحديث في هذه الجمعية العريقة. أكبرتُ سَعةَ صدره بتقبُّلِ النقد في الندوة، وموقفَه الجدير بالاحترام والتبجيل والثناء، وإعرابَه عن استعداده لاستضافتي في الجمعية أيَّ وقتٍ أزور القاهرة. لم يُعلن استنكارَه على الرغم من التباين بين طريقة تفكيره وفهمه للدين ودعوته لعلم الكلام الجديد وتأويلِه للتراث، وبين رؤيتي لعلم الكلام الجديد واختلافها عن رؤيته، والمعيارِ الذي حدَّدتُه لتمييز المتكلم والكلام الجديد، كما شرحتُ ذلك في كتاب «مقدمة في علم الكلام الجديد». علمُ الكلام الجديد عند حسن حنفي يعني لاهوتَ التحرير، وعلمُ الكلام الجديد في نظري يعني لاهوتَ الحرية. أنطلقُ من تعريفي للدين بوصفه حياةً في أُفق المعنى، ينشدُ إيقاظَ وتكريسَ المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية في حياة الإنسان. وهو ينطلق من فهمه للدين بوصفه أيديولوجيا، وتأويله الأيديولوجي للتراث.
قدَّمني الدكتور حنفي في الندوة، وفي سياق حديثه الحماسي المستفيض أشار إلى أني أمثِّل «اليسار الإسلامي» في العراق. أظنُّه كان يريد أن يبلِّغ الحضورَ من أستاذات وأساتذة الفلسفة الكرام، اتِّساعَ الرقعة الجغرافية لليسار الإسلامي في البلاد العربية، وأن دعوتَه هذه تحولَت إلى تيارٍ واسع، كما أشار في غير مرة لهذه الأمنية. بعد فراغه من التقديم بدأتُ الحديثَ بالقول: مع احترامي وامتناني للصديق د. حسن حنفي، أودُّ أن أوضِّح: أنا لا يسار إسلامي ولا أي يسار آخر، لا يمين إسلامي ولا أي يمين آخر، أنا مسلمٌ وكفى، مؤمنٌ بالله ورسوله ووحيه وكتابه. لم يكتم حنفي امتعاضَه وشعورَه بالإحباط لهذا النَّفي الصريح أمام القاعة المكتظة بأعضاء الجمعية الفلسفية المصرية.
كان محورُ حديثي في الندوة يدور حول ترحيل الأيديولوجيا للدين من وظيفته الأصيلة، بوصفه يروي الظمأَ الأنطولوجي للمقدَّس، وكيف تُغفِل الأيديولوجيا الواقع، وتضع الفردَ والمجتمعَ في مواجهة العالَم، وتُفقر الروحَ والقلبَ والضميرَ والعقل. تحدَّثتُ عن تشديدِه المتواصلِ على ضرورة تحويل الدين إلى أيديولوجيا، وإعلانِه عن أن ذلك هو الهدفُ المحوري الذي بدأ به مشروعَه، وواصل ترسيخَه في كتاباته المتنوعة والغزيرة حتى آخر حياته. يستعملُ حنفي الأيديولوجيا كالملح الذي يُضاف في كلِّ طعام.
مَن يقرأ حسن حنفي يندهشُ من الحضورِ الطاغي لتأويله الأيديولوجي للدين، وإفراطِه في تطبيق آياتِ القرآن الكريم والنصوصِ الدينية والتراثِ بمنطقٍ أيديولوجي على الواقع بمختلف ظواهره ومتغيراته بطريقةٍ غرائبية تلتقي فيها الأضداد. بموازاة ذلك يرى القارئ إهمالًا للميتافيزيقا في كتاباته، وكأنَّ القرآنَ كتابٌ لا صلةَ له بالغيب، كأنه كتابٌ أنزله اللهُ ليتحدَّثَ عن كلِّ شيء ويستثني اللهَ وعالَمَ الغيب. يُحيلُ حنفي الميتافيزيقا إلى الفيزيقا، والغيبَ إلى الشهادة، والسماويَّ إلى الأرضي، يفسِّرُ ما هو ميتافيزيقي بالطبيعي، ويرى ما هو أنطولوجي أيديولوجيًّا، وما هو قلبيٌّ ذهنيًّا، وما هو فردي مجتمعيًّا. لا يرى في الدين تجربةً تتحقَّق فيها الذاتُ بطورٍ وجوديٍّ تتسامَى فيه، لا يحضر اللهُ والغيبُ في فهمه للدين إلا بوصفه يرمز للإنسانِ ونضالِه الطبقي في عالمه الأرضي.
حسن حنفي مولعٌ بمحاكاةِ التراث للواقع وإسقاطِ الواقع على التراث، حريصٌ على استعارةِ جلباب التراث وخلعِه كغطاء على الأيديولوجيات المختلفة. ينتخب مثلًا مقولاتِ الكلام المعتزلي في العدل والحرية والمنزلة بين المنزلتَين، وينتقي بعضَ الأحكام الفقهية من المذاهب، ويجعلها تنطق لغتَه لا لغتَها، وترتسم فيها صورةُ مفاهيمه لا صورتُها. تبدو المفاهيمُ في لغته مقطوعةَ الجذور عن تربةٍ نبتَت فيها، ومقتلَعةً من ظروف وعوامل وسياقات نشأتها وتطوُّرها في الماضي، مغروسةً في تربةٍ غريبة عليها، محاكيةً لواقعٍ متغيِّر يتنكرُ لها، لا تنتمي إليه ولا ينتمي إليها. يحاول حنفي الاتِّكاءَ عليها في معالجة المشكلات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ويسعى لحلِّ مشكلةِ التفاوت الطبقي وغيرِها في ضوئها.
كتاباتُ حسن حنفي في الوقت الذي تظن أنها تخرجك من المقولاتِ الأصولية وشعاراتِها، تصنع لك من التراث أيديولوجيا تدعوك لاعتناق مقولاتها. يخيَّل إليك أنه يُخرجك من طوبى التراث، غير أنه يرسم لك طوبى متخيَّلة، شديدةَ الإغواء فاتنةً على وفق رؤيته. يصنِّفُ التراثَ على وَفْق أيديولوجياتٍ ومذاهبَ ورؤًى تصلُ حدَّ التضادِّ أحيانًا. التراثُ لديه يختزن ما يحتاجه الواقعُ اليوم، محترِفٌ في توظيفه بلغته وأسلوبه الخاص، بنحوٍ يجعل التراثَ مصدرًا للعقلانية، مصدرًا للتجديد، مصدرًا للحداثة، مصدرًا للأنوار، مصدرًا للديموقراطية، مصدرًا للاشتراكية وغير ذلك، كأن التراثَ عُلبٌ فارغة ما عليه إلا إعادة ملئها بما يحسبه دواءً لأمراض الواقع. القراءةُ المتأنية لأعماله يتكشَّفُ في طبقاتها ما ينشده الإسلامُ السياسي وما يدعو إليه من إحياءِ التراث وأسلمةِ العلوم والمعارف الحديثة.
(٤) أدلجة الدين تُنهك وظيفته الروحية والأخلاقية
حسن حنفي مفكرٌ مدهش، لا يُخرِجُ القارئَ من متاهةٍ إلا ويدخله في متاهاتٍ عويصة، ربما يتعذر عليه الخروجُ منها كلَّ حياته. يستطيعُ أن يكتبَ عن معتقدَين متعارضَين بلغةٍ تصالحية توحِّدهما، وأحيانًا يكتبُ رأيَين متضاربَين عن معتقَدٍ واحد. كتاباتُه متنوعةٌ غزيرة، الجملُ قصيرةٌ، الإيقاعُ سريعٌ، يكتبُ بلغةٍ عاطفية متوترة، بقدرةٍ فذَّةٍ على إيقاد المشاعر قبل إيقاظ العقل، واستعمالِ الدين في إذكاء العواطف وتحريض الضمير، قبل توظيفه في مجاله الروحي والأخلاقي. على الرغم من أن حسن حنفي خبيرٌ متمرِّس في التراث، يمتلك تكوينًا ممتازًا في أصول الفقه، واطِّلاعًا واسعًا على علم الكلام، مضافًا إلى خبرته الجيدة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، إلا أن عقلَه لبث حتى وفاته يوحِّد المتنافرات في التراث ويدمجها بالواقع، لا يرى الماضي والحاضر إلا في أفق قراءته الأيديولوجية.
تحويلُ الدين والمعتقد والتراث إلى أيديولوجيا يستنزفها ويعبث بها، كلُّ فكرة ومعتقد ودين وتراث يمكن أن تصيِّرها أيديولوجيا. أدلجة الدين تُنهِك وظيفتَه الروحية والأخلاقية، تفرضُ هذه الوظيفةُ حمايةَ الدين من أن يتحولَ إلى أيديولوجيا، وإلا يمكن أن يصيرَ الدينُ أداةً لممارسة العنف ضد المختلِف في المعتقد، كما تفعل الجماعاتُ المقاتِلة باسم الله.
الأيديولوجيا مغلَقة على نفسها ترى كلَّ شيء وَفْقًا لمنظورها لا غير. القراءةُ الأيديولوجية تتلاعب بالدين والتراث وتسقِط عليهما رؤيتَها وأحلامَها الرومانسية. الأيديولوجيا تُمارس حجْبًا مزدوجًا للماضي والحاضر، ترى الماضي في الخيال كما تتمنَّى أن تراه، ترى الحاضرَ في الأماني كما ترغب أن تراها. في الأيديولوجيا يقع التفكيرُ أسيرًا للعواطف وتتحكَّم فيه المشاعرُ والانفعالاتُ أكثر مما يتحكَّم فيه العقل. التفكيرُ عندما يستمدُّ طاقتَه من الخيال فقط من دون أن يمحِّصَه العقل، يعجزُ عن رؤية الأشياء بوضوح خارجَ مملكة الخيال الغزيرة المشحونة بالمسلَّمات والأحكام والإجابات الجاهزة. الأيديولوجيا تستمدُّ قوةَ تأثيرها من الحماس والعواطف والأمنيات وليس من العقل. الحماسُ متعجِّلٌ متحيِّز متَّقد، لا يلامس الحماسُ شيئًا إلا وأوقده. العقلُ باردٌ متمهل، يتفحَّصُ الأشياءَ ويغربلُ الأفكارَ، ويدرسُ المعتقداتِ بتأمل وهدوء وروية. تستمدُّ الأيديولوجيا فاعليتَها من قوة وكثافة الشعارات وإيقاعها السريع وتكرارها المتواصل. عندما تتسيَّد الأيديولوجيا، يغرق الذهنُ بالشعارات والأحكام المسبقة والإجابات الجاهزة، ولا تعود للتفسيرِ العميق والتحليلِ العقلي الدقيق حاجةٌ، وقلَّما نعثرُ في لغة الأيديولوجيا على أدلةٍ علمية وحججٍ منطقية وبراهينَ عقلية.
كتبَ حسن حنفي عن تجربته في الانتماء للإخوان المسلمين، وتحدَّث عن تأسيس هذه الجماعة ودرس أدبياتِها وتاريخَها. قرأتُ كلَّ ما نشره حول الجماعة، رأيتُه منحازًا لا يكفُّ عن تبجيلِها وامتداحِ رجالها والاعتذارِ لمواقفهم مهما كانت، وتوجيهِ دلالات ما تتضمنه أدبياتُها إلى غير وجهتها، وتأويلِ مقاصدها بعكس ما ترنو إليه. يُسرف خيالُه في رسمِ صورٍ بديلة للأشخاص والأفكار والكتابات لهذه الجماعة، لا يرى القارئُ الذكي شيئًا من ملامح هذه الصورة في غير كلماته العاطفية.
مواقفُ حسن حنفي وكتاباتُه عن جماعة الإخوان المسلمين تكشف عن تواطؤٍ واضح ومراوغةٍ مكشوفة. يكيل لهم المديحَ بمناسبة وغير مناسبة، ويتغافل عن التبسيط في رؤيتهم للعالَم، ووهنِ تفكيرهم السياسي، وعجزهِم النظري عن فهمِ الدولة، ومناهضتِهم للدولة الحديثة ونظمِها، ولا يقف طويلًا عند أحلامهم باستئناف الخلافة والدولة السلطانية في تاريخنا. لا يُنكَر أن حسن حنفي متعدِّدُ المواهب، متنوِّعُ التكوين الأكاديمي واللغوي، ولا أظن مفكرًا موهوبًا بقامته تخفَى عليه هشاشةُ أدبيات الإخوان المسلمين وسطحيةُ أفكارهم، وأوهامُهم عن الدولة والمجتمع، وعجزُهم عن اكتشاف طبقات الواقع المركَّب الشائك العميق. لا يحتاج القارئُ إلى الاستقراءِ الواسع والغوصِ في مؤلفات حنفي كي يرى غضَّ نظره وتواطؤه المكشوف مع مواقف الإخوان السلبية من العلوم والمعارف والآداب والفنون الحديثة، وتغافلَه عن كتاباتهم التحريضية ضدَّ الأدباء والمفكرين الأحرار. يتجاهل حسن حنفي الآثارَ العاصفة لأجهزتِهم المختلفة ومؤسساتِهم العديدة على حياة المجتمع المصري، وكثافةَ تأثير ما يمتلكونه من أجهزةِ تربيةٍ وتعليم وتثقيف ودعوة وإعلام ودعاية، مثل المدارس بمختلف مراحلها، وأئمة الجماعة وخطباء الجمعة من أعضاء الجماعة، والمؤسَّسات الدعوية، وأخطبوط الشبكات المالية في مصر وخارجها.
يسكتُ حنفي عن نمط التديُّن المغلَق الذي صنعَتْه الجماعة، وجعلَتْه في صدام مع إسلام المجتمع المسالم، وأحدث انقسامًا حادًّا في المجتمع والعائلة الواحدة، ووضعَت الجماعةُ هذا النمطَ من التديُّن في مواجهة المؤسَّسات الدينية التقليدية العريقة كالأزهر، ووجَّهَت أعضاءها للانشغال بهموم الغير قبل هموم المواطن المصري؛ لأن «جنسية المسلم عقيدته» كما يُشدِّدُ سيد قطب، وليس وطنه. نشر حسن حنفي «الدين والثورة في مصر» في ثمانية أجزاء في ثمانينيات القرن الماضي، وكتب كثيرًا عن الموضوع بعد هذا الكتاب وقبله. لم أقرأ له بحثًا علميًّا ناقدًا، يستعملُ فيه مناهجَ العلوم الإنسانية الحديثة المُلِم بها، ويدرسُ في ضوئها الآثارَ السلبية لمنابرِ جماعة الإخوان وأدبياتِهم ومواقفِهم على التربية والتعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد والتنمية والهوية الوطنية المصرية، وما أحدثَتْه منابرُهم ودعايتُهم من استقطابٍ طائفيٍّ حادٍّ، تفجَّرَ في حوادثِ عنفٍ مؤسفة، إثر إثارة بعض منابرهم لإحياء أحكام أهل الذمة المنسية وأمثالها، وتصدُّع مكونات المجتمع الذي توحِّده المواطنةُ والانتماءُ لأرضه وهُويته الوطنية المشتركة.
كتاباتُ حسن حنفي تعلن أن هاجسَها تغييرُ الواقع، لكنها تعبِّر عن أحلامٍ تُغوي مراهقَ التفكير بحديثِها المكرَّر عن العدالة والحقوق، وإعلانِها عن أنها صوتُ المهمَّشين والمحرومين، وكلِّ أولئك المعذَّبين في الأرض الذين يتجرَّعون العلقم، وهي مولَعة بأحلامٍ رومانسيةٍ بعيدةٍ عن الواقع.
(٥) اليسار الإسلامي بدأ بسيد قطب
لا يقف حسن حنفي طويلًا عند ما أحدثَتْه جماعةُ الإخوان من تشَظٍّ في البنية الدينية لمصر ومجتمعاتٍ أخرى مسلمة، وتصادم تديُّنهم المصطنع بغطائه السياسي ومضمونه السلفي والتديُّن الشعبي التقليدي، والانقسام المجتمعي الذي خلقَه هذا النمطُ من التديُّن. يتغافل حنفي عن الآثار الموجعة لدعوةِ الجماعة وفكرِهم وانتشارِهم الواسع في مصر وعالم الإسلام، كأنه لا يدري أن المدارسَ ومعاهدَ التعليم والجامعات، من الروضة إلى الدراسات العليا، في السعودية ودول الخليج، وقبل ذلك في مصر وغيرها من الدول العربية، لبثَت أكثرَ من نصف قرن خططُها التربوية والتعليمية أسيرةً للإخوان المسلمين. كانوا هم مَن يضع أسسَها، ويرسم خارطتَها، ويؤلِّف مقرَّراتِها، ويحدِّد مُدخلاتِها ومُخرجاتِها. يجري ذلك في أفقِ رؤيتهم للعالَم، وتديُّنِهم السياسي الذي يظهر في السلوك ومختلف المواقف بتديُّنٍ سلفيٍّ مغلَقٍ متشدِّد، تشبَّع فيه مَن أقام منهم في هذه البلاد، بعد تفاعلِهم مع المذهب الحنبلي، وانبهارِهم بأفكار ابن تيمية، وتقليدِهم لمقولاته الاعتقادية، وعملِهم بفتاواه الفقهية.
تنامى عاجلًا حضورُ الإخوان في التربية والتعليم في هذه البلاد، بعد هجرة المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات، أيامَ اضطهادِهم زمنَ الرئيس جمال عبد الناصر، بأعداد ليست قليلة، منذ خمسينيات القرن الماضي فصاعدًا إلى السعودية ودول الخليج، وسقوط العملية التربوية والتعلمية في هذه البلاد بأيديهم. في ذلك الوقت كانت هذه البلادُ تفتقر للمعلمين والمدرسين من مواطنيها، فاضطُرَّت لتسليم كلِّ شيء في المدارس بمختلف مراحلها لهم، وتمَّت صياغةُ كلِّ شيء ليجسِّد أمانيهم ويعبِّر عن غاياتهم ويعكس تفكيرَهم. نتج عن ذلك تفشِّي التيار السلفي بشكلٍ سريع في مجتمعاتِ عالَم الإسلام، منطلِقًا من البلاد التي تحكَّم فيها الإخوانُ بالتربية والتعليم، ومستثمرًا شيئًا من فائض الثروة الذي تراكَم بالتدريج بعد حرب اكتوبر ١٩٧٣م، وارتفاع أسعار البترول.
لا يكترث حنفي بالكشف عن تناسل الجماعات المسلحة من أدبيات الإخوان، وبخاصة كتاب «معالم في الطريق»، ومسئولية أفكار سيد قطب عن ذلك. يعتذر حنفي لكتاب سيد قطب هذا بأنه كتبه في ظروف سجنٍ واضطهاد تعرَّض له. لا يصحُّ تبريرُ إشاعة كراهية المختلِف في المعتقَد والتحريض ضده المشبَعة بها كلماتُ سيد قطب في كتاباته المتأخرة. يجعل حسن حنفي ظروفَ سجن سيد قطب مبررًا يعذره من تحمُّل مسئولية توريط أعدادٍ من الشباب بالتشدُّد والعنف ممن أُغرموا بكتاباته. التماسُ الأعذار لا يبرِّر التحريضَ على العنف واستباحةَ الدماء، وإلا لأصبح كلُّ توحشِ هتلر وأمثاله مبرَّرًا، وفي ضوء دفاع حسن حنفي عن كتابات سيد قطب يمكنه تبرير توحُّش داعش وانتهاكاتهم لكرامة المواطنين في العراق واسترقاقهم وسبي نسائهم.
(٦) كتابات سيد قطب تُتقِن صناعة الغضب
السجينُ الذي يتعرَّض للتعذيب والتنكيل، وتحدث لديه عاهاتٌ وجروحٌ وأمراضٌ نفسية عميقة بسبب ذلك، ينبغي أن نحمي المجتمعَ من أفكاره الملوَّثة بعُقدٍ نفسيةٍ حادة، لا أن نُعلي من مكانته، ونبالغ في تبجيل شخصيته، ونُشيد بهذه الأفكار ونبشِّر بها. مثل هذه الحالات المرضية تحتاج إلى مصحةٍ نفسانيةٍ تعالج المصابَ وتحدُّ من سلوكه العدواني. ليس من حقِّ أحدٍ أن يتوِّجَ صاحبَها إمامًا على الناس في حياته، ويحتفيَ بأفكاره بعد موته. أفكارُ سيد قطب اختطفَت خيرة شباب الإسلام الغَيَارَى، وأغرقَتْهم بأوهامٍ متخيَّلة، وغيَّبَتهم عن الواقع، وورَّطَتهم بمواقفَ طائشة، وغذَّت أذهانهم بتعاليم تتنكَّر لها طبيعتُهم البشرية، ولا تطيقها عواطفُهم ومشاعرُهم إلا بتدجينٍ وترويضٍ متواصل، وغرسَت كراهيةً عميقة بداخلهم لأهلهم وجيلهم ومجتمعهم ولكلِّ مختلف المعتقَد عنهم، وحبسَتْهم طوعيًّا في أقفاصٍ نفسيةٍ موحشة، يعتزلون فيها أهلَهم وجيلَهم ومجتمعَهم.
لا يكفُّ حسن حنفي من الإعلاءِ من كتابات سيد قطب والثناءِ عليه، بلغةٍ لا تليق بمفكرٍ ذكيٍّ واسعِ الاطِّلاع من أمثاله. يضع حسن حنفي تبرئةَ سيد قطب غايةً، يحاول أن يتهرَّب من ذكر المواقف الصادمة في كتاباته، وعندما يمرُّ على «معالم في الطريق» يصف هذا الكتابَ بأنه وليدُ الظروف النفسية العنيفة للسجن، ويجعل الاضطهادَ الذي تعرَّض له في السجن ذريعةً لهذا النوع من الكتابة الموتورة اللاذعة. لا يقف حنفي طويلًا عند اشتقاقِ الجماعات الدينية المسلحة لرؤيتها الاعتقادية، وتقسيمِها العالَم لفسطاطَين، وانغلاقِها ورفضِها للمختلِف في المعتقَد، وإعلانِها الحربَ عليه بفعل آراء سيد قطب وغيره.
فكرُ سيد قطب تحريضيٌّ ذو تأثيرٍ موجِع مزدوج؛ فهو من جهة يُغَذِّي المسلمَ بالنقمةِ والنفورِ الشديد والضجَرِ من أهله ومجتمعه ووطنه بوصفه جاهليًّا، ومن جهةٍ أخرى يُشْعِر المسلمَ بالخطيئةِ وعقدةِ الذنب المزمنة والسخطِ الإلهي إن لم يغيِّر الأهلَ والمجتمعَ على وَفْق معتقده ولو بالقوة، وإلا فمن الضروري أن يعتزلهم إن تعذَّر عليه تغييرُهم.
(٧) كتابٌ تموتُ في كلماتِه الأسئلة
كنتُ معذَّبًا محرومًا، فاختطفَني «معالم في الطريق». سيد قطب أديبٌ ساحر، يُتقن مهارةَ كتابة الأناشيد الحماسية التعبوية للمراهقين البؤساء أمثالي. أناشيدُ تُذكي العواطفَ، تُوقِدُ المشاعرَ، تُعطِّلُ العقلَ، يتوقف عندها التفكيرُ النقدي، وتموت في كلماتها كلُّ الأسئلة. فجأةً سقطتُ في فتنة كتاباتِه، كتاباتُه بارعةٌ في إيقاد أحلام المراهِقين الرومانسية، وتغذيةِ أوهامهم باستئناف تجربةٍ متخيَّلةٍ خارجَ الزمان والمكان ﻟ: «جيلٍ قرآني فريد» كما يسميه، جيلٍ مزعوم، غيرِ موجود إلا في متخيَّل سيد قطب وأمثالِه.
تجربتي الشخصية بمطالعة معالم في الطريق وكتاباته في مرحلته الإخوانية تجربةٌ مريرة، كنتُ وجيلٌ كاملٌ ضحيتها، ممن سمَّمَت أرواحَهم لغتُه الشاعرية المثيرة للعواطف، الذكية في إيقاد مشاعر الشباب المعذَّبين، ووضعِهم في مواجهة مجتمعهم والعالم كله، وتغذيتهم بغريزة الموت وكراهية المجتمع. تحوَّلَت كتابات سيد قطب إلى مقدَّسة إثرَ مقتله المفجِع، حسب تتبُّعي رأيتُ كل الجماعات الدينية عند السنة والشيعة وقعَت في غواية مفاهيمه، وتأثرَت بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بكتاباته.
كانت تغذِّيني وجيلي من شباب الجماعات الدينية كتاباتُه برغبة الموت وكراهية الحياة، استبدَّت فكرةُ الموت بسيد قطب وكراهية الحياة، تشبَّعَت فيها كتاباته، وظهر أثرُها الكئيب في مشاعر قُرائه الشباب الصغار وأنا منهم، ممن صارت غايةُ الدين في ضميرهم الموتَ، شُغفوا بالموت إلى الحدِّ الذي كرهوا فيه الحياة، واشمأزُّوا من أهلهم، والمجتمع الذي يعيشون فيه، وكلِّ شيءٍ يُحيط بهم.
يفتقر سيد قطب كغيره من منظري وكُتاب الجماعات الدينية إلى تكوينٍ معمَّق في التراث؛ فهو يكاد يجهل التراث العقلاني بشكلٍ تام، لم ينعكس في آثاره شيء من النظر العقلاني في المنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه، ولم يعرف طرائق الاستدلال الفقهي ومحاجَجات الفقهاء وطرائق تفكيرهم المتشعبة في الاستدلال والنقد والنقاش. كان يكيل الاتهام للتراث العقلاني وهو يجهله، ويتمادى في إصدار أحكامٍ جزمية واتهاماتٍ مجانية بلغةٍ صارمة. يمكن التماس العذر لفقر تكوينه في التراث، بسبب اهتمامه بالصحافة والنقد الأدبي في شبابه، ولم يصل للإخوان إلا في العَقْد الخامس من عمره، امتصَّ التنظير لهم ما تبقَّى من عمره وجهده، والنضال معهم والسجن أكثر من مرة حتى إعدامه. وإن كنا لا يمكننا الاعتذار لتسميمه عقولَ شباب الإسلام وزجِّهم في ولائم انتحار وذبح مجنون.
كان سيد قطب ينتقل في كل محطة يغادرها إلى رؤيةٍ أضيق للعالَم، ظل ينتقل من السعة إلى الضيق، حتى انتهى إلى نفقٍ مظلم صارت فيه رؤيته للعالَم كابوسًا مخيفًا. مفاهيم سيد قطب في محطته الختامية يدعو فيها لمقاطعة المجتمع، ولمن لم يستطع فعليه ﺑ «العزلة الشعورية» عن المجتمع، بوصفه مجتمعًا جاهليًّا. كان هذا التفكير سببًا لنشأة عدة جماعاتٍ متطرفة. من أشهرها الجماعة الذين اختطفوا وزير الأوقاف محمد حسين الذهبي، وقتلوه رميًا بالرصاص سنة ١٩٧٧م. كانت هذه الجماعة تُسمِّي نفسها «جماعة المسلمين»؛ كأنهم هم المسلمون وحدهم لا غير، وأسماهم الأعلام ومَن ناوأهم: «جماعة التكفير والهجرة.» انتشرَت هذه الجماعة في سبعينيات القرن الماضي بين تلامذة الجامعات المصرية، وهي جماعة اعتزلَت المجتمع وكفرته، لم تتوقف أدبياتهم عند تكفير الحاكم بل تمادت إلى تكفير المحكوم، وتكفير رجال الدين بسبب سكوتهم عن الحاكم، ورأَوا أن الموقف المطلوب مضافًا إلى العزلة الشعورية يتمثل في الهجرة من المجتمع، واعتزال مساجده ومناسباته وحياته. تحوَّلَت هذه المفاهيم إلى أحد أخطر الروافد السَّامَّة لتغذية التطرف والموت العبثي.
تحتاج كتاباتُ سيد قطب في محطته الإخوانية إلى تحليلٍ سيكولوجي عميق، يكشف عن أثرِ رؤيته للعالَم، وبنيةِ شخصيته، وعُقدِه النفسية، في توليدِ فكرة الموت وكراهية الحياة ورسوخِها في عقله الباطن، واستبدادِها بتفكيره وفهمِه للدين، وتفسيرِه للقرآن الكريم، والنصوص الدينية، وحكمِه الصارم بجاهلية كلِّ شيء في عصرنا. تفشَّت عدوى هذا الفكرة لأدبياتٍ حركيةٍ سنية وشيعية لاحقة، واستنسخَت بعضَ كتاباتِه بلا مراجعةٍ نقدية.
تشبَّعَت مخيِّلتي بتلك الكتابات التي تُفقِر العقلَ، وتستنزف المشاعر، فورَّطَتني في أكثر من مأزقٍ في حياتي الاجتماعية، تجاوزتُ أخلاقياتِ الأدب والتهذيب الاجتماعي؛ إذ كنتُ أجد نفسي وصيًّا على عقولِ الناس وسلوكِهم. مارستُ ذلك مدةً وجيزةً جدًّا في سبعينيات القرن الماضي، غير أني سرعان ما شعرتُ بالاشمئزازِ والقرفِ من نفسي. كنتُ كأني شرطي وظيفتُه مراقبةُ كلامِ الناس وسلوكِهم، والتلصصُ على ضمائرهم، يومَ كانت معتقداتي تفرضُ قراراتي، تحتكرُ عقلي، تأسرُ تفكيري، تتحكمُ بتقييمي للناس، وتوجِّهُ بوصلةَ علاقاتي كيف تشاء. كلُّ شيء لا أستطيع رؤيتَه إلا من منظورِ ما تفرضه عليَّ هذه المعتقدات المغلقة. معتقداتي تسبقُ العلمَ، كلُّ ما لا يتوافق معها لا يُعدُّ علمًا، تسبقُ الأدبَ، كلُّ ما لا يتوافق معها لا يُعدُّ أدبًا، تسبقُ الفنَ، كلُّ ما لا يتوافقُ معها لا يُعدُّ فنًا، تسبقُ الدولةَ والسياسةَ والحكمَ والسلطة، كلُّ ما لا يتوافق معها لا ينتمي للدولة والحكم الرشيد والسلطة العادلة والسياسة الشرعية. مفاهيمُ متخيَّلةٌ كنتُ أُمنِّي نفسي بها، لم أُدرِك أنها مفاهيمُ لم تجد مثالَها الأرضي يومًا ما، مفاهيمُ اخترعَتْها أذهانٌ مغتربةٌ عن حاضرها، لا تجد ذاتَها إلا في التراث. هكذا استبدَّت معتقَداتي بعقلي، كلُّ عملية تفكيرٍ كانت تخضَع لها، عبثَت معتقَداتي المغلَقةُ بضميري الأخلاقي، لم يؤنِّبني ضميري عندما كنتُ أتصرَّف وكأني أمتلك تفويضًا بمحاسبةِ الناس على تصرُّفاتهم، أطلبُ منهم ممارسةَ هذا الفعل وتَرْكَ ذلك الفعل، أتدخلُ في حياتهم الخاصة، أُصرُّ على تطابقِ سلوكهم الشخصي لما أراه، سلوكُهم ينبغي أن يكون مرآةً لسلوكي، سلوكي صوابٌ سلوكُهم خطأ، سلوكي حقٌّ سلوكُهم باطلٌ، سلوكي معروفٌ سلوكُهم منكرٌ. لم أتنبَّه إلى أن قوانينَ الحقوق والحريات الحديثة تحظرُ التدخلَ في حياةِ الناس الخاصة. لا تمنح تفويضًا لأحدٍ بالوصايةِ على أفعال الغير وسلوكهم، ما لم يكن مفوَّضًا من الناسِ مباشرة. كنتُ أشعر بازدواجيةٍ مريرةٍ وتناشزٍ حادٍّ بين شغفي الكامنِ بالحرية، وتدخُّلي السافرِ في شئون الناس الخاصة، والتحرُّشِ بحرياتهم الشخصية.
في زيارة سنة ١٩٧١م، وأنا مراهق في مقتبل العمر، لدار أحد الأقارب، سبقَني إلى دارِه معلمون كانوا يُدرِّسون في مدرسة القرية، سمعتُ صوتَ موسيقى هادئة، لا أعرفُ من أين تصدر، كنا نجلسُ في ظلام، لم تصل الكهرباءُ إلى محيطِ هذه القرية ذلك الوقت، تلصَّصتُ فرأيتُ جهازَ تسجيلٍ صغيرًا يدسُّه أحدُ الضيوف بجيبِ سترته، انزعجتُ من سلوكه، خاطبتُه بانفعالٍ وغضب: لماذا لا تحترم أهلَ الدار، لماذا تُهين الحاضرين؟ أجابني مندهشًا، ما الذي فعلتُ لكم ولأهل الدار، كي تُوبِّخني بهذه الحدة؟ قلتُ له: إنك تجاوزتَ حدودَ الأدب عندما فرضتَ علينا الاستماعَ للموسيقى وهي محرَّمة. أجابني: أنت تعتقد أنها محرَّمة، أنا لا أرى ما تراه، أنت ضيفٌ كما أنا ضيف، أهلُ الدار لم يُظهِر أحدٌ منهم استنكارَه، لا تفرض رؤيتَك وذوقَك ورغباتِك على غيرك، الله خلقَ الناسَ أحرارًا، أنت لم يخلقك وصيًّا علينا. بدلًا من أن أتصرَّف باحترامٍ وتهذيب، سرعان ما غادرتُ المجلسَ غاضبًا بلا توديع. ما زال ضميري يؤنِّبُني كلَّما تذكَّرتُ هذه الحادثة، وعشرات المواقف المماثلة في تعاملي المتشدد مع الناس تلك السنوات. بعد أن درستُ الفقهَ الاستدلالي، وأمضيتُ في دراستِه وتدريسِه سنواتٍ طويلةً من عمري، لم أجد دليلًا معتبرًا من الأدلة المعروفة في الاستنباط الفقهي يحرِّم الموسيقى، وكيف تكون محرَّمة وهي تُستعمل أحيانًا للعلاج.
(٨) لا يبدأ التجديدُ بالتراث لينتهي بالتراث
يستعملُ حسن حنفي التراثَ بما هو أوعيةٌ يملؤها كما يشاء، بوصف التراث معتقداتٍ وقيمًا وأحكامًا راسخةً في وجدان المجتمع، ويختزنها لاشعورُه الجمعي. تقرأ في كتاباته ما يدلِّل على أنه تراثي وإن كان يحاول أن يظهر ضدَّ منطق التراث ورؤيته للعالَم، تراه يتحدث بكلامٍ حداثي وإن كان التأملُ الدقيقُ بكتاباته يكشف بجلاءٍ أن حداثتَه ضدَّ منطق الحداثة ورؤيتها للعالَم. طريقةُ تأويله للتراث غريبةٌ على التراث، يحاول باستمرارٍ إخراجَ التراث من إطارِه التاريخي، والفضاءِ الذي تكوَّن، فيه وسياقاتِه، والرؤيةِ الكامنة فيه للعالَم.
يمتلكُ حنفي مهارةَ التوظيف البراغماتي للتراث، بنحوٍ يتخذ منه مرايا تنعكس عليها قناعاتُه، التراثُ في مراياه يتجلى يساريًّا اشتراكيًّا، ويساريًّا إسلاميًّا، وديمقراطيًّا ليبراليًّا. كلَّ مرة يحاول تحميلَه ما لا يتحمَّله، وتقويلَه ما لا يقوله، ويركِّبُ عليه ما يتنكَّر له. مُتمرِّسٌ في التقاطِ مقولاتِ المتكلمين وبخاصة المعتزلة، وبعضِ فتاوى الفقهاء، وآراءِ الفلاسفة، وشذراتِ المتصوفة، ويُقوِّلها ما يراه ضروريًّا لنهضة الأمة وتقدُّمها اليوم، وكأن تلك المقولاتِ والآراء عُلبٌ تقبل كلَّ أيديولوجيا وقناعة، وإن كانت مفارِقةً لها لا تشبهها بشيء. مقولاتُ المتكلمين ومعتقداتُهم وآراؤهم ليست أوعيةً مُفرغةً من المضمون. التراثُ نمطُ وجودٍ ينتمي للماضي، التراثُ رؤًى للعالَم، التراثُ مناهجُ فهمٍ متنوعة، التراثُ أدواتُ نظرٍ مختلفة، التراثُ طرائقُ فهمٍ فلسفية وكلامية وأصولية وفقهية وقرآنية وحديثية وصوفية، يعبِّر كلٌّ منها عن منطقِه الخاص للفهم ورؤيتِه للعالَم.
يُشدِّد حنفي على أن التراثَ هو الشفاء لو عملنا على إعادةِ بنائه واستئنافِه مجدَّدًا. التراث كما يرى يمكنه أن يتحدث لنا بلغةٍ تتكفل دواءَ كلِّ أمراض واقعنا وما نعجز عن معالجته اليوم. إعادةُ البناء التي يعمل عليها، تمثِّل أحيانًا تلفيقًا مبسَّطًا للتراث مع لغةِ الفلسفة الغربية، ومصطلحاتِ العلوم الإنسانية الحديثة، واللاهوتِ الجديد، والأيديولوجياتِ الجديدة، والنظمِ السياسية المعروفة اليوم.
يلتقي حسن حنفي وإسلامية المعرفة في التشديد على الهوية المحلية للمعرفة، والتوكيد على ضرورة إنتاج علوم ومعارف تعبِّر عن ذاكرتنا الحضارية وهويتنا وتراثنا. ليست هناك معرفةٌ مكتفيةٌ بذاتها، أمنيةُ حنفي ليست واقعية، إنها أمنيةٌ تعكس الحنين للماضي، وانغلاق الهوية على نفسها، والتنكُّر للتطور التكاملي في العلوم. دائمًا يتغلب المشترك العالمي على بصمة الهوية في التطور التكاملي للعلوم والمعارف، وتتكشف المشتركات كلما نضج العقل وتقدَّمَت المعرفة واتسعَت رأسيًّا وأفقيًّا.
إسلاميةُ المعرفة تصرُّ على ثنائيةٍ ضدِّية بين العلوم والمعارف الحديثة والهوية الدينية للمسلمين، وتُشدِّد على ضرورةِ استدعاءِ التراث، وإعادةِ بناء علومٍ ذاتِ هويةٍ دينية مشتقَّة من الهوية الدينية. حسن حنفي أيضًا يُشدِّد على ثنائيةٍ ضدِّية في تصنيفه للعلوم والمعارف والآداب والفنون، فيصنِّفها إلى: الأصيل والدخيل، والوافد والموروث، ونظائرهما. هذه الثنائيةُ هي الأساسُ المشتقُّ منه إسلاميةُ المعرفة، وهي الباعث للجهود والأموال المهدورة لما يقارب نصفَ قرن، التي بدَّدَ فيها المعهدُ العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن وأشباهُه في الدول العربية والإسلامية أموالًا طائلة وطاقاتٍ كثيرة بمحاولاتٍ عبثية، لم تُنتِج حتى اليوم علومًا تجد لها طريقًا إلى الواقع. الأساسُ الذي تبتني عليه مثلُ ثنائيات هوية العلوم والمعارف؛ إما أن يكون جغرافيًّا أو إثنيًّا أو ثقافيًّا أو دينيًّا، في حين تجهل أو تتجاهل تلك الثنائياتُ أن معيارَ قيمة أية معرفةٍ يتمثل في عقلانيتِها، وتعبيرِها عن الحقيقة، ومقدرتِها على الإسهام في إسعادِ الإنسان، وحمايةِ كرامته وحرياته وحقوقه بوصفه إنسانًا.
قراءةُ تاريخ العلم والمعرفة بعقلٍ أيديولوجي قراءةٌ ليست علمية، تاريخُ نشأة العلم والمعرفة وتطورُها يكذِّب الادعاءَ بأن التراثَ يتكفل حلَّ مشكلات الواقع وتلبيةَ احتياجاته، ولو كانت هذه القضيةُ عمليةً لاستطعنا امتلاكَ العلوم والمعارف الحديثة منذ زمنٍ بعيد. العلومُ الصِّرف والطبيعية والتطبيقية مُشترَكٌ بشريٌّ كوني، ليست هناك رياضيات وفيزياء وكيمياء وطب وهندسة مسيحية، وأخرى إسلامية، وثالثة بوذية، ورابعة هندوسية.
لا تخلو الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع من بصمةٍ نسبية تطبعها البيئةُ والثقافةُ المحلية، غير أن تأثيرَها يظلُّ محدودًا، لا يُلغي البعدَ الكوني المشترَك فيها الذي يتمحور على الكشف عمَّا هو كلِّي مشترَك بين الناس، ويتناغم وطبيعةَ الإنسان ومتطلَّباته الأساسية الواحدة التي لا تتخلَّف ولا تختلف باختلاف البشر، ولا تتنوَّع بتنوُّع ظروفِ عيشهم وأديانِهم وثقافاتِهم. المنطقُ الأرسطي مثلًا، على الرغم من أنه وُلد في أثينا اليونانية، غير أنه كان وما زال يفرض حضورَه ومرجعيتَه في التفكير على العقل في الإسلام، وما زالت قواعدُ التفكير المرسومة منذ المعلِّم الأول، والقوانينُ الكلية للفهم في منطقه متغلغلةً في علوم ومعارف الدين. خضع التفكيرُ الديني في الإسلام منذ عصر الترجمة لمنطق المعلِّم الأول، وتوالدَ في إطارِ أشكالِ قياساته، وطرائقِ استدلالاته، وصورِ مقدِّماته ونتائجه، مختلفُ علوم الدين، وكلُّ العلوم والمعارف لدينا. ومنذ ذلك العصر كانت الفلسفةُ اليونانية أيضًا ينبوعًا استقَت منه كلُّ مدارس التفكير الفلسفي في الإسلام.
منذ القرنِ التاسعَ عشرَ ونحن نحاول أن نُحييَ التراثَ ونشتقَّ ما يتطلبه الواقعُ من علوم ومعارف منه. بعد نحو مائتَي عام، لا نحن أنتجنا العلمَ والمعرفةَ الخاصَّين بنا، وتحرَّرنا من علوم ومعارف الغرب الممقوتة عند أكثر أنصار تحيُّز المعرفة وأسلمتها، ولا استطعنا أن نبرهن عمليًّا على صحة هذه الدعوة المكرَّرة، فنبني مناهجَنا النابعة من ديننا وتراثنا وتفكيرنا الخاص. الغريب أن أكثرَ المشتغلين بالتراث ما زالوا حتى اليوم يردِّدون هذا الكلامَ المُبهم، الذي لم نصل فيه إلا إلى مزيدٍ من التخبط والضياع.
لا يبدأ التجديدُ بالتراث لينتهيَ بالتراث، كما يريد أكثرُ من يكتبون ويتحدثون عن التجديد، ولا يبدأ بالواقع ويرتدُّ للتراث ليشتقَّ منه حلولًا لمشكلات الواقع، كما يصوِّر لنا ذلك حسن حنفي وأمثاله، وكأن التراثَ يستجيب لكلِّ ما يتطلبه الواقع؛ من دون اكتراثٍ بأن أكثرَ ما في التراث يتنكَّر له الواقعُ، كما برهَن على ذلك إهدارُ قرنَين من الزمن لم تُنجِز فيها هذه الدعواتُ أيةَ خطوةٍ عمليةٍ جادةٍ تنعكس آثارُها على الواقع. التجديدُ هو إعادةُ التفكير بشكلٍ لا يكرِّر التراثَ ويرسِّخ حضورَه، ويجتهد في بناء مناهج وأدوات نظر حديثة لفهم الدين وإعادة قراءة نصوصه وتفحُّص التراث وغربلته. التجديدُ يتحقَّق عندما يتغيَّر المجتمعُ كي يخرج من الماضي إلى الحاضر، ومن التمنِّيات والأحلام والأوهام إلى الواقع، ويتصالح مع الزمان والفضاء العالمي الذي يعيش فيه.
ظلَّ حنفي مغرمًا بإعادة بناء كلِّ حقول التراث بمعادلةٍ يغترب فيها التراثُ عن الواقع ويغترب فيها الواقعُ عن التراث. كان يحاول أن يركِّب الواقعَ على التراث والتراثَ على الواقع بشكلٍ غريب، وظل شغوفًا كلَّ حياته بمعادلةٍ طوباوية متهافتة، تعكس وفاءَه للهوية أكثر مما تكشف عن منطقٍ علمي. لا تنتج هذه المعادلةُ ما يرسِّخ أسسَ السلام المجتمعي والعيش المشترك، ولا تبني دولةً حديثة. دولةُ المواطنة الدستورية الحديثة لا يبنيها إلا عقلٌ يتخلَّص من سطوة التراث، كي يستطيعَ أن يرى الواقعَ قبل أن يرى التراث، ويستفتي متغيرات الحياة قبل أن يستفتيَ التراث، ويتحدث لغةَ العصر وعلومَه ومعارفَه قبل أن يستعيرَ لغةَ التراث. لا دولة مواطنة دستورية من دون تجديد مناهجِ ومقرراتِ وأساليبِ التربية والتعليم، وتجديدِ فهم الدين، وإعادةِ تعريفِ مهمته في حياة الفرد والجماعة، وتجديدِ مناهج تفسير القرآن الكريم والنصوص الدينية، وإعادةِ بناء علم الكلام وتحريره من مقولات الفرقة الناجية وأشباهها.
كي يحقِّق الدينُ وظيفتَه في حياتنا اليوم لا بدَّ أن نفهمه بوصفه نظامًا لإنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة. في ضوءِ هذا الفهم للدينِ ووظيفتِه ينبغي أن يبتني المنهجُ الذي نعتمده في تفسير القرآن والنصوص الدينية. كلُّ ما هو خارج ذلك يستمدُّه الإنسانُ مما يقوله العقلُ وإبداعاتُه في العلوم والمعارف، ومما أنجزه تراكمُ خبرات البشر عبْر عشرات الآلاف من السنين.
(٩) الإحياء يبدأ بالتراث لينتهي بالتراث
تسارعَت كتابةُ حسن حنفي في الربع الأخير من حياته، وتضخَّم مشروعُه وتكدَّسَت مجلداتُه، بنحوٍ يشعر معه القارئُ الذي واكب كتاباتِه بشغف حنفي بالكمِّ، وتعلُّقِه ببلوغ خاتمة مشروعه الموسوعي. كان وهو يكتب متعجِّلًا كمن يقرأ روايةً بوليسية يترقَّب خاتمتَها بلهفة. وعد أن يغطِّي مشروعُه كلَّ حقول التراث الواسعة، وبالفعل وفى بوعده أفقيًّا. لم يتورَّط في مثل هذا العمل الموسوعي مفكرٌ آخرُ غيرُه، لا من جيله، ولا أجيال أساتذته، ولا تلامذته. لا يمكن إنكارُ مواهبه الفذَّة، ولا تكوينه الأكاديمي الرصين، ولا خبرته الممتازة في معرفة الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، ولا خبرته الأفقية والعمودية بالتراث، إلا أنه أراد أن يكونَ متكلِّمًا كأئمة الفرق، وفقيهًا كأئمة المذاهب، وأصوليًّا كالإمام الشافعي وأمثاله، ومفسِّرًا كأعلام التفسير المعروفين، وعالِمًا بالرجال والحديث كأعلام المحدِّثين وعلماء الرجال والطبقات، وقبل كلِّ ذلك أراد أن يكون فيلسوفًا كالفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا. أظن أن ذلك يتعذَّر على إنسان اليوم، مهما كانت عبقريتُه وتكوينُه العلمي ومواهبُه ومعارفُه وصبرُه ومثابرتُه. ضيَّع حسن حنفي مواهبَه وطاقاتِه وصبرَه الطويل في متاهات التراث وكهوفه، ولبث في تلك المتاهات ولم يخرج منها بعد أن دفن فيها عقلَه وتكوينَه الأكاديمي الرصين وإمكاناتِه المعرفية. عاش فكرُ حسن حنفي مغترِبًا وسيلبث مغترِبًا، صوتُه لم يكن مألوفًا للكل، حاول أن يكونَ إسلاميًّا فتنكَّر له الإسلاميون، مثلما حاول أن يكونَ علمانيًّا فتنكَّر له العلمانيون.
البيان النظري للمشروع الذي أصدره كخارطة طريق عنوانه: «التراث والتجديد»، لكن مشروعه إحيائي لا تجديدي. الإحياء يبدأ بالتراث لينتهي بالتراث، الإحياء إعادة صياغةٍ لفظية تستبدل كلماتٍ بكلمات، وأحيانًا تنحت مصطلحاتٍ بديلة لتملأَها بالمعاني التراثية ذاتها. الإحياء غير التجديد، التجديد يدرس البنيةَ العميقة لعلوم الدين، ويعمل على اكتشاف مناهجها ومنطقها الخاص ورؤيتها للعالم، ويستوعبها استيعابًا نقديًّا، ويتجاوزها ليجتهد في إنتاج علوم ومعارف الدين بمعطيات ومناهج وأدوات العلوم والمعارف الحديثة. دراسة التراث ضرورةٌ تفرضها الكيفيةُ التي نريد أن نتحرَّر بها من وصايته. تبدأ دراسةُ التراث بالكشف عن البنيةِ الأشعرية وغيرِها من مقولات المتكلمين المؤسِّسة لرؤية المسلم للعالم في الماضي والحاضر، هذه الرؤيةُ الكلامية التي يستقي منها التفسيرُ والفقه والأخلاق وتصوُّف الاستعباد.
كتب حسن حنفي مقدماتِه النظرية بلغةٍ أكثر تماسكًا وبمنهجٍ أكثر تنظيمًا ورصانة، غير أنه أخفق في تطبيقاته. ظهر مبكرًا أدقُّ نصوصه وأوضحُها وأكثرُها تماسكًا نظريًّا، في تقديمه المُطوَّل لترجمة «رسالة في اللاهوت والسياسة» لاسبينوزا. كان متمكنًا في ترجماته القليلة، لو لبث في هذا الميدان وراكَم تجربتَه فيه لربما أنجز للمكتبة العربية ترجمةَ أثمنِ النصوص الفلسفية وأغناها قبل أن تشيع الترجمةُ وتتسع أخيرًا. كان متمكنًا أيضًا في بناء الإطار النظري الصادر بعنوان: «التراث والتجديد» الذي كتبه بوصفه المانيفستو لمشروعه، وهكذا صاغ مقدماتِه النظرية لحقول مشروعه. غير أن محاولاتِه في إعادة بناء علوم الدين بالاغتراف من التراث عجزَت عن الوفاء بوعودها، وأخفقَت في تمثُّل رؤيتِه النظرية وحضورِها. ضاعت في مشروعه المباني، ولم نرَ من الإطار النظري الذي يرسمه في مقدِّماته إلا عنواناتِ الكتب والفصول والمباحث، انشغل بالشعارات من دون أن نقرأ في كتاباته إعادةَ بناءٍ أو تجديدًا ينعكس على البِنية التحتية لعلوم الدين. إعادة بناء حقول التراث في أعماله تركز أكثرها على محتويات المدونات التراثية، وتقدِّم مستخلصاتٍ عاجلة للعنوانات الأساسية والفرعية في مدونات التراث المرجعية، وأحيانًا باستبدال العنوانات بجملٍ مباشرة كأنها شعاراتٌ جماهيرية. انشغل أخيرًا في تلخيصٍ متعجَّل لهذه المدونات، تلخيصاته تفتقر لتحليلِ وتفكيكِ النسيج المعرفي الداخلي لمكوِّنات التراث. أخفق في التفكيك مثلما أخفق في إعادة البناء والتركيب. لبث يتغنَّى بأحلامه، ظلَّ مُولَعًا بصياغة شعارات كأنها لافتاتٌ تعبوية، وأسرف في تكرارٍ مملٍّ لشعاراته ذاتها، ظل ملازمًا لها ولم يغادرها إلى محطة أرحب أفقًا حتى نهاية حياته. مَن يقرأ كتاباتِه بتدبُّر يراها تبدأ من التراث وتنتهي بما يتمناه على التراث.
لم يتوقف حسن حنفي عند حدود إعادة بناء التراث، بل أوقعَ الفكرَ العربي في عدة التباساتٍ ضبابية عندما حاول أن يدرسَ الغربَ وحضارته ومعارفه، واحدةٌ من هذه الالتباسات الادعاءُ بتأسيس: «علم الاستغراب» الذي يدرسُ فيه الشرقُ الغربَ كما درسَ الغربُ الشرقَ في «الاستشراق»، ذاع صيتُ عنوان «علم الاستغراب» وأضحى موضةً ثقافية، بعد أن نسخ عنوانَه بعضُ الذين يكتبون بلا تكوينٍ علمي رصين، ومن دون تدبرٍ عميق وتفكيرٍ صبور، فعملوا ضجة إصدارات، تكدَّسَت فيها ألفاظٌ فوق ألفاظ بلا مضمونٍ معرفي دقيق، وكلماتٌ يمكن أن تقول كلَّ شيء من دون أن تقول الشيءَ الذي يبحث عنه القراء.
لافتة «علم الاستغراب» أغوت المسكونين بالتفسير التآمُرِيِّ لنشأة العلوم والمعارف الحديثة، ممن يعتقدون أن حضورَها في مدارسنا وجامعاتنا وثقافتنا أحدُ أدوات شباك الإمبريالية للهيمنة على العالم، وهذا الكلام تلتقي فيه كتاباتٌ يسارية وقومية وأصولية. أشغلنا «علم الاستغراب» بشعاراتٍ فضفاضة وأحلامٍ غريبة، ترسم خارطةً ذهبية لمستقبل الوعي والتنمية العلمية في بلادنا، خارطةً افتراضية تضع مسارَ الحضارة الإسلامية في ثلاث مراحل، كلُّ مرحلة سبعة قرون. السبعة الأولى: مرحلة النهوض والازدهار تبدأ بالقرن الأول للهجرة لتنتهي في السابع، الثانية: مرحلة الانحطاط تبدأ بالقرن الثامن وتنتهي في الرابع عشر الهجري، الثالثة: مرحلة النهضة الحضارية الجديدة تبدأ بالقرن الخامس عشر الهجري وتظلُّ تتواصل وتتكرَّس سبعة قرون. يتراكم فيها — كما يتنبأ حسن حنفي — تقدُّمٌ على تقدم، وابتكاراتٌ مبهرة في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والآداب، وبناءُ الدولة المثالية، والتنميةُ الشاملة. إنها المرحلةُ التي يُولِّد فيها الإنسانُ المسلم علومَه الخاصة، ويستغني عن علوم الآخر ومعارفه. القارئ الذكي يجد هذه السباعيةَ محاكيةً في قالبها للمادية التاريخية شكليًّا، وإن كانت عاجزةً عن البناء النظري للماديةِ التاريخية واشتقاقِها من الرؤية الفلسفية العميقة للمادية الديالكتيكية، بغَضِّ النظر عن رفضنا للرؤية الفلسفية المادية.
شغلَنا حسن حنفي بترويج مصطلح الاستغراب، الذي يدعونا لضرورة الاستغناء عن تفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها على وفق معطيات العلوم والمعارف الحديثة. لافتة الاستغراب ترفض علومَ الفهم والتفسير، ومعطياتِ العلوم المتنوعة في تفسير السلوك الفردي والمجتمعي، وتشدِّد على العودةِ إلى التراث والانطلاقِ منه لبناء علومنا المحلية في ضوء هويتنا وذاكرتنا وحضارتنا. استغناء المفكر اليوم عن الثقافة العالمية ومشترَكات الوعي البشري غير ممكن. عجز حنفي نفسه عن الاستغناء عن المعرفة الغربية، استيعابُه للمعرفة الحديثة واسع، وتوظيفُه للغتها ومصطلحاتها وأدواتها كبير، كلُّ مَن قرأ أعمالَه يرى ذلك بوضوح.
الواقع يكذِّب فرضيةَ الشروع بالنهضة الجديدة لعالمنا مطلع القرن الخامس عشر الهجري، على وَفْق مرحلة القرون السبعة الثالثة. الإنسان اليوم يختنق بالواقع المُزري للحقوق والحريات في دولنا الهشة، وهكذا تندثر بالتدريج القيمُ الأخلاقية والإنسانية المشترَكة في مجتمعاتنا، وتتفجر هوياتٌ طائفية مخيفة تمزِّق مجتمعاتنا. بلادنا العربية ودولنا في القرن العشرين الميلادي أصلب منها اليوم، وهكذا كان حال مجتمعاتنا ذلك الزمان. نتمنَّى أن تحدُثَ المعجزةُ وتتحقَّقَ بُشْرى حنفي.
(١٠) نسيان الله في تفسير حسن حنفي
في مجلدٍ كبير للتفسير، أصدَره حسن حنفي في السنوات الأخيرة من حياته، يتجاوز ١٥٠٠ صفحة، يمثِّل إحدَى الحلقات الأخيرة لمشروعه، يتحدث عن: الإنسانِ، والواقعِ، والتغييرِ الاجتماعي، والنضال، وحقوقِ الإنسان، والمجتمعِ ومؤسساته، والدولةِ ومؤسساتها، والسلطةِ والحكومة، وكلِّ شيء يتصل بالإنسان و«عالَم الشهادة»، غير أنه ينسى «عالَم الغيب» الذي يفرض هيمنتَه بوضوحٍ في القرآن، بشكلٍ يتنبَّه إليه كلُّ مَن يستمعُ إلى صوتِ الله ونداءِ الغيب من آياته، فإذا أورد حنفي آياتِ الغيب في سياقِ تفسيره أو أعمالِه الأخرى، فإنه يعمد إلى تأويلها بلغةٍ لا نقرأ فيها للغيب أثرًا. لا نترقَّب من حنفي أن يغرقَ في تفسير باطني للغيب، أو يرسمَ جغرافيا متخيَّلة له، ولا نريد منه أن يحشدَ في تفسيره لوحاتٍ وصورًا ذهنية لعوالم الربوبية، كما أسرفَت في ذلك الاتجاهاتُ الباطنية والتفسيرُ الإشاري لأكثر المتصوفة والفرق المغالية، لكن لا يمكن قبولُ هذا النوع من إهدار الغيبِ في القرآن والتنكُّر لحضوره المدهش. يحضُر في اللغة القرآنية اللهُ بتجلياته وأسمائه وصفاته، مثلما يحضُر فيها الإنسانُ بوصفه خليفةً لله، لكن اختلَّت المعادلةُ القرآنية على وَفْق المنطق الأيديولوجي للتفسير عند حسن حنفي، فحَجبَ فيها الإنسانُ حضورَ الله، وأخفى عالَمُ الشهادة عالَمَ الغيب.
تأثَّر حسن حنفي بالكاهن الكولومبي كاميلو توريس الذي وُلد سنة ١٩٢٩م، وقُتل مناضلًا وهو يقود عملًا مسلحًا سنة ١٩٦٦م. لاهوتُ التحرير هو أيديولوجيا توريس الثورية، وهو رؤيةٌ تختلط فيها المسيحيةُ والماركسية بمركبٍ تتنافر داخلَه رؤيتان متضادَّتان أنطولوجيًّا. وهكذا كان القرآنُ عند حسن حنفي مانيفستو للثورة، وكأنه نسخةٌ بديلةٌ ﻟ «البيان الشيوعي» لماركس وإنجلز.
تجتمع في شخصية حسن حنفي الموهبةُ الفذَّة، والذهنيةُ المراوِغة، والإرادةُ العنيدة. تجسَّدَت صورةُ الله في ضميرِه بشخصيةِ المناضل في الأرض دون سواه. كان مُنْحَازًا لكلِّ ثورةٍ وانتفاضةٍ ورفض، بغَضِّ النظر عن هُويةِ هذا الرفضِ الاعتقادية والأيديولوجية وأهدافِه ووسائلِ تنفيذه وموطنِه. حنفي لم يُعرَف عنه أنه اشترك يومًا من حياته الطويلة في أية ثورةٍ أو حركةِ مقاوَمة في وطنه أو أوطانٍ أخرى، لم نرَ أو نسمع حسن حنفي حمل السلاح وانخرط في المقاومة الفلسطينية، أو الثورة الجزائرية، أو ثورة ظفار، أو غيرها من حركاتِ مقاوَمةٍ مسلَّحة عاصَرها في البلاد العربية وغيرها. كان بارعًا بصياغةِ شعارات الثورة وتحريضِ الشباب على الموت، وهو قابعٌ ببيته وجامعته بعيدًا عن الميدان، وظلَّ يحتمي بمراوغاته اللفظية من السلطة؛ فلم يكن يومًا من ضحايا السجون والتعذيب، كما هو مصيرُ المعارضين الأحرار أمسِ واليوم، على الرغم من أنه عاصَر أنظمة عبد الناصر والسادات ومبارك ومرسي والسيسي في مصر. حسن حنفي وأمثاله يعلِّمون المتدين كيف يموت ولا يعلِّمونه كيف يعيش. في كلِّ كتاباته عن الدين يُتقِن حنفي فنَّ تحريض الناس على التديُّن بدين الحرب، وقلَّما تراه يعلِّمهم كيف يتديَّنون بدين السلام. يحرِّضهم على اتخاذ الأيديولوجيا دينًا، ولا يهتم بالتديُّن الأخلاقي الذي يرسِّخ أسس العيش المشترك في إطار التنوع والاختلاف.
كنتُ ضيفًا في منزله بالقاهرة أيام ثورة يناير ٢٠١١م، رأيتُه متحمِّسًا جدًّا للثورة قبل انتصارها. أخبرني الصديقُ المرحوم علي مبروك أنه كان يمكُث كلَّ ليلةٍ مع الثوار حتى الصباح في ميدان التحرير، ولم أسمع بحضور حسن حنفي هناك. بعد الانتصارِ واستيلاءِ الإخوان المسلمين على الحكم، لم أقرأ له شيئًا حول إخفاقات حكومتهم، ولم أقرأ له مراجعةً نقديةً لتجربتهم في السلطة، حتى بعد خلاص مصر من سلطتهم. كنتُ أتابع ما ينشره أسبوعيًّا في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، وما تنشره له بعضُ الصحف المصرية.
لا يرى حسن حنفي في الدين تجربةً تتحقَّق فيها الذاتُ بطورٍ وجودي تتسامى فيه، ولا يحضر اللهُ والغيبُ في فهمه للدين إلا بوصفه يرمز للإنسانِ ونضالِه في عالمِه الأرضي. تنبَّهتُ مبكرًا إلى إنهاكِ كتابات حسن حنفي وأمثالِه للدينِ بتفريغه من مضمونه الميتافيزيقي، وتجاهلِه للأبعاد الغيبية في التوحيد، وانشغالِه بالإنسان بمعزلٍ عن الله. منطقُ فهم الدين والمقدَّس غيرُ منطق فهم العلوم الطبيعية، كما أن منطقَ فهم الأدب والفن مختلفٌ عن منطق فهم العلوم الطبيعية. الاختلافُ في الهوية الوجودية يعني الاختلافَ في منطق الفهم وكيفية اكتشاف الأبعاد والتجليات والتمثلات. لغةُ الغيب مُشبَعةٌ بأنطولوجيا ميتافيزيقية، لغةُ الغيب القرآنية رمزيةٌ بوصفها مرآةً لصوت الوحي. تجاهلُ الغيب في القرآن يعني تجاهلَ حضور الله وأسمائه وصفاتِه وأفعاله المتسيِّدة في القرآن.
القرآنُ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، عند العودةِ إليه والنظرِ فيه بتدبُّرٍ نلحظ أن حضورَ الله يتفوَّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، وهذا الحضورُ لله لا نراه ماثلًا بهذه الكثافة في أيِّ كتابٍ مقدَّسٍ آخر غير القرآن في الأديان. ورد ذكرُ اسمِ «الله» ٢٦٩٩ مرَّة في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوِّعةِ في القرآن لتجاوَز هذا العددَ بكثير؛ فمثلًا تكرَّر ذكرُ كلمة «رب» ١٢٤ مرَّة. لم يشأ حسن حنفي أن يتدبَّر الحضورَ المكثَّفَ لله في القرآن، وما يُحيل إليه هذا الحضورُ من دلالاتٍ روحية لا تنضب، تنفيها قراءتُه اللاغيبية لآيات الغيب.
نفهمُ من هذه الكثافةِ لحضور الله في القرآن أن هدفَ القرآن يتلخصُ في أن يكونَ اللهُ هو المعبود فقط، لا معبودَ سواه، وإن كان ذلك المعبودُ نبيًّا أو صحابيًّا أو وليًّا أو شيخًا أو حاكمًا، أو أيَّ إنسانٍ مهما كان، ومهما كانت مواهبُه وصفاتُه ومكانتُه الدينية والاجتماعية والعلمية. القرآنُ يريدُ تحريرَ الإنسان من كلِّ أشكال العبوديات؛ ولذلك أصرَّ على محوِ الوثنية بكلِّ أنماطها، وعملَ على خلاصِ المسلم من كلِّ ألوانها، سواء كانت وثنيةَ أحجارٍ أو أشياء أو أفكار أو بشر. اهتمَّ القرآنُ بالقضاء على وثنية البشر خاصة؛ لذلك تحدَّثَ عن أمثلةٍ لأفرادٍ ومجتمعاتٍ كانوا ضحيةَ توثين البشر، وذكرَ المتاهاتِ المظلمة التي غرقَت فيها حياتُهم، وإنما اهتمَّ القرآنُ بها لأنها أشدُّ أنماطِ الوثنية التباسًا، وأكثرُها أقنعةً وحُجُبًا، وأخطرُها على الوعي والروح والضمير. وثنيةُ الحجر منحطةٌ مفضوحة، وقد كانت متفشيةً في الحياة الدينية للعرب عصرَ البعثة النبوية الشريفة؛ فنزلَ القرآنُ لأجلِ تحرير الإنسان منها ومن غيرها، لكنَّ المؤسفَ أن توثينَ البشر ظهر بالتدريج بعد البعثة في الحياة الدينية عند كثيرٍ من المسلمين، فصارَ في عصورٍ لاحقة جيلٌ بكلِّ أفراده كجيل الصحابة مقدَّسًا، لا تجوزُ دراسةُ حياته وتجربته وممارساته ومواقفه بمناهج علم التاريخ، ولا يصحُّ الكشفُ عن أخطائهم وخطاياهم وموبقاتهم مهما كانت، على الرغم من أن الصحابةَ تَقاتَلوا في أكثر من معركةٍ شرسة قُتِلَ فيها عددٌ ليس قليلًا منهم، وقضى ثلاثةٌ من الخلفاء الراشدين الأربعة بالسيف.
تتبدَّل أقنعةُ الأوثان وتختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأديان والمجتمعات والأفراد غير أن جوهرَها يظلُّ واحدًا. لا تختصُّ الأوثانُ بما هو مصنوعٌ من الحجر أو الخشب أو الحديد أو الأشياء المادية؛ الوثنُ كلُّ ما يُعبَد، الوثنُ كلُّ ما يلبث معه الإنسانُ فقيرًا في وجوده، ويكون وجودُه مغترِبًا عن الله؛ لذلك تصير أحيانًا ديانةٌ أو مذهبٌ أو عقيدةٌ أو فكرةٌ أو أيديولوجيا وثنًا، أو قد تتحوَّل كلمةٌ أو شعارٌ أو كتابٌ إلى وثنٍ، أو يصبح زعيمٌ سياسي أو عسكريٌّ أو روحيٌّ وثنًا، وربما تمسي سلطةٌ أو حزبٌ أو جماعةٌ أو طائفةٌ أو قوميَّةٌ أو قبيلةٌ أو عائلةٌ وثنًا، أو يغدو طقسٌ أو عبادةٌ أو شعيرةٌ وثنًا.
أكثرُ المفكرين العرب الذين اتخذوا القرآنَ محورًا لمشاريعهم الفكرية أهدَروا الميتافيزيقا القرآنيةَ ولم يكترثوا بالغيب، حتى لو تناولوا آياتِ الغيب فإنهم يحاولون أن يلتمسوا لها تأويلًا ينزعُ عنها محتواها الميتافيزيقي. أحيانًا يعمدون إلى توظيف مناهجِ استكشاف الطبيعة في التعرُّف على ما وراء الطبيعة. القرآنُ يتحدَّث عن الغيب وما وراء الطبيعة أكثر مما يتحدَّث عن الطبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطبيعة في القرآن، أو تأويلُ آيات الغيب تأويلًا بمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء. الآياتُ التي تتحدثُ عن الظواهر الطبيعة يمكنُ فهمها في ضوء قوانين الطبيعة، ولا يمكنُ أن تُفهمَ لغةُ آياتٍ تتحدثُ عن الغيب وما وراء الطبيعة كما تُفهمُ لغةُ آياتٍ تتحدثُ عن الطبيعة. لدى المفسِّر نوعان من اللغة؛ الأولى تتحدثُ عن قوانين وظواهر وكائنات وأشياء الطبيعة، الثانية تتحدثُ عن الغيب وما وراء الطبيعة، لكلٍّ منهما مفتاحٌ للفهم والتفسير، ما يمكنُ توظيفه في تفسير الأولى لا يمكن توظيفه في تفسير الثانية.