(١) عائلة شايغان وتربيته وتعليمه
في ٢٤ كانون الثاني ١٩٣٥م، وُلد داريوش شايغان في تبريز،
ثم انتقلت عائلته في صباه إلى طهران، وتُوفي في طهران في ٢٢ مارس ٢٠١٨م، عن عُمرٍ ناهز
٨٣ عامًا.
وُلد لأبٍ تاجر آذربيجاني «إيراني» شيعي، وأمٍّ سنية، تنحدر من سلالة أمراء وسلاطين جورجيين،
ثقافتها روسية قفقاسية. تعرَّض أفراد عائلتها لنكبة على يد البلاشفة بعد الثورة الروسية؛
فأعدَموا
بعضهم، فيما سجنوا آخرين، وتشرَّد من تبقى منهم إلى تركيا. ترسَّبَت هذه النهاية المفجعة
لأهلها في
مشاعرها، وغطسَت في وجدانها، ولبثَت هذه الذكرى المحزنة تعذِّبها طيلة حياتها، وتعاني
بسببها
اغترابًا ذاتيًّا مريرًا. يشير شايغان إلى أن أمه ظلت على الدوام: «امرأة في منفًى باطني.»
ولم
يتغير شعورها بأنها: «سيدة جورجية بنت ملك.»
يعيش في بيت أهل شايغان، مضافًا إلى أبوَيه وأخته، خالتُه وزوجُها؛ لذلك وجد نفسه
في طفولته في
أحضان «أبوَين وأمَّين.» الفضاء اللغوي داخل البيت كان متنوعًا، يتكلم أفراد العائلة
لغاتٍ عديدة.
والدته وخالته تتحدثان الجورجية والروسية. أبوه وأمه يتكلمان التركية بلهجتَين، والدتُه
تخاطب أباه
بالتركية العثمانية، فيُجيبها بالتركية الآذربيجانية، والده يخاطبه بالفارسية.
التحق شايغان بمدرسة «سان لويس» للآباء الفرنسيين بطهران، وهي مدرسة تستوعب تلامذة
ينتمون إلى
جماعاتٍ إثنية ودينية، من الأرمن والآشوريين واليهود، الأرمن هم أصدقاؤه المقرَّبون.
تعرَّف للمرة
الأولى في هذه المدرسة على الموسيقى الغربية من معلمه البولوني. يتذكر شايغان في هذه
المرحلة معلمه
الأرمني الإنجليزي، وسائق العائلة الآشوري، وطبيبها الزرادشتي. تعلَّم الفرنسية في فترةٍ
مبكِّرة من
حياته، فكان يطالع الكتب الفرنسية مع الفارسية، وهي اللغة الأخرى المتداولة في مدرسته
بموازاة الفارسية.
١ بصمة البيئة اللغوية والدينية والإثنية المتنوعة التعددية في المنزل والمدرسة الأولى،
طبعَت حياة شايغان في حاضره ومستقبله، ووجَّهَت اهتماماته وتخصُّصه، وربما أضحت بوصلةً
تحدَّدَت في
سياقها مآلاتُه المعرفية، ومصائرُه الفكرية، ومواقفُه الثقافية، ونزعتُه الروحية. ذهب
إلى بريطانيا
عام ١٩٤٩م، وهو في الخامسةَ عشْرةَ من عمره، وواصل دراسته في «كالج بادينكهام» في لندن.
بعد أربع
سنوات حصل على الشهادة الثانوية، فغادر سنة ١٩٥٤م، بناءً على رغبة أهله إلى جنيف لدراسة
الطب. في
منتصف السنة الدراسية اكتشف أنه غير قادر على الاستمرار في دراسة الطب؛ ذلك أن رغبته
كانت في مجال
بعيد عن الطب وما ينشُده له أبواه، إنه يميل للآداب والفنون والفلسفة، لكنه لا يجرؤ على
التمرُّد
على ما يرجوه له والده، فوجد أن الالتحاق بكلية العلوم السياسية هو الحل الوسط، وإن كان
والده قد
رفضه في البداية، غير أنه استجاب لرغبة ابنه في خاتمة المطاف. وحسب قول شايغان: هنا بدأَت
الانطلاقة
الفعلية لحياته العلمية، فدرس في آنٍ واحدٍ الحقوق والفلسفة وعلم اللغة، وارتبط بعلاقةٍ
وثيقة مع
الفنانين. وحرص على الاشتراك في الفصول الدراسية للأساتذة الكبار في جامعة جنيف؛ حيث
كانت الحياة
العلمية فيها وقتئذٍ شديدة الحيوية، فحضر على الفيلسوف وعالم النفس الفرنسي «جان بياجيه»،
وغيره من
المفكرين والأكاديميين المعروفين. وأتيح له بواسطة أخته أن يتعرَّف على عالَم «الباليه»
على يد
أستاذٍ روسي شهير.
٢ في جنيف فُتحَت له آفاقٌ جديدة، حينما اكتشف «كارل غوستاف يونغ»، من خلال أحد زملائه
من
تلامذة «بياجيه»، ممن كان يحضر المؤتمرات التي يحاضر فيها «يونغ»، تحدَّث له زميله عن
شيء من أفكار
يونغ، مما حفَّزه لقراءته والاطِّلاع على آثاره، وقاده ذلك إلى التعرف على المفاهيم المتعددة
المعاني، مثل: «اللاشعور الجمعي، اللغة والنماذج المثالية الأزلية»، وأن النموذج الأزلي
يلعب نفس
دور الغرائز مع الجسد. في ذلك الوقت التحق بدروس «جان هربر» حول الأساطير الهندية، وواظب
على تلك
الدروس، فنشأَت علاقةٌ طيبة مع أستاذه. يصف شايغان أستاذه جان هربر بأنه: «كان حميميًّا،
يمكن
الاعتماد عليه، ومعلمًا بارعًا في بيان الروحانية الهندية الحية، وإن لم يكن معلمًا عارفًا
بالمعنى
الكلاسيكي للهنديات، لكنه كان يمتلك خبرة وتجربة بالتفكير الهندي، إنه تجسيدٌ واضح لذلك
… تعلَّمتُ
منه كيفية استيعاب ملحمة الهند … من هنا وجدتُ من الضروري التعرف على الهند من الداخل،
ولا يتحقق
ذلك من دون تعلُّم اللغة المقدَّسة لكتبهم، مما دعاني لحضور دروس «هنري فراي» لتعليم
اللغة
السنسكريتية لمدة سنتَين، بجدية وطموح وشغف، حتى تمكَّنتُ من قراءة النصوص المقدَّسة.»
٣
اهتم شايغان في هذه الفترة بالفلسفة الخالدة أو «الحكمة الخالدة»، وكانت آثار «رينيه
غينون»
منبع إلهامه في التعرف عليها، لكنه وجد في وقتٍ لاحق أن «غينون بالرغم من أنه يرفض الدوغماتية
والتعصبات الكلاسيكية، فإنه يسقط في التعصب للموروث. ومع أنه لا يقبل التفكير الديكارتي،
فإن المنهج
التحليلي لتفكيره ديكارتي.»
٤
قبل تخرُّجه من جامعة جنيف بعامَين تزوَّج شايغان زميلته «فريده زنديه» التي كانت
تدرس علم
الجمال معه في الجامعة. وبعد قضاء ستِّ سنواتٍ في جنيف، عاد شايغان إلى إيران، وشرع بتدريس
اللغة
السنسكريتية في جامعة طهران. أتاحت له السنسكريتية التوغل في الحقل الفسيح والغني للأديان
والفلسفات
الهندية، فعَكَف على مطالعة الكتب المقدَّسة المدوَّنة بهذه اللغة. وعمل على تأليف كتابٍ
بالفارسية
حول «الأديان والمدارس الفلسفية الهندية»، صدَر في مجلدَين سنة ١٩٦٧م.
(٢) حلقة أصحاب التأويل
التقَى شايغان للمرة الأولى بالمستشرق الفرنسي «هنري كوربن» عام ١٩٦١م، من خلال زميله
«سيد
حسين نصر»، بعد أن التحق، حسب تعبيره، بحلقة «أصحاب التأويل» في منزل ذي المجد الطباطبائي
في طهران.
وسيكون لكوربن تأثيرٌ هام في حياته العلمية والروحية لاحقًا. وحلقة «أصحاب التأويل»،
هي حلقةٌ
نقاشية، تتألف من خمسة إلى ستة أشخاص، يغوص فيها «محمد حسين الطباطبائي» مع «هنري كوربن»،
في
مناقشاتٍ عميقة. يتحدث فيها الطباطبائي بالفارسية، وكوربن بالفرنسية، حول العرفان والتجارب
الروحية
والفلسفة. ويتولى الترجمة سيد حسين نصر، وفي غيابه ينهض شايغان بالمهمة، ومع أنه واجه
صعوبات لأول
وهلة، إثر عدم خبرته الواسعة بالتراث الإسلامي العرفاني والعقلي، وافتقاره لمعجمه الاصطلاحي،
بَيْد
أنه كثَّف مطالعاته في هذا الحقل، حتى اكتشف خارطته العامة، وأمسك بخيوطه، وتعرَّف على
مقولاته،
فأضحى متمكنًا من الترجمة. ومع أن كوربن يشترك مع الطباطبائي في نزعته الروحية ودراسته
للفلسفة
الإشراقية والحكمة المتعالية، لكن مرجعياتهما ليست واحدة. إنهما ينتميان إلى عصرَين من
حيث التاريخ،
والرؤية الأنطولوجية. ولا تتطابق رؤيتهما لمفهومات: «الحداثة، دراما الفكر، دنيوية العالم،
العدمية،
احتضار الآلهة وغروبها.»
تفاعَل شايغان مع المناخات المعرفية والمعنوية للنقاشات في حلقة «أصحاب التأويل»،
وواظب على
حضورها. ومثَّلَت هذه الحلقة، منبع إلهامٍ غزير كرَّس النزعة الروحية في شخصيته، وأوقَد
في وجدانه
حماسًا جيَّاشًا لمواصلة مسيرته في اكتشاف عوالم المعنى والآفاق الروحية في الحضارات
الآسيوية
والأديان الهندية. لقد حظي بعلاقةٍ مميَّزة مع العلَّامة الطباطبائي، الشخصية الدافئة
الحميمية
الرقيقة، الغارقة في عوالم المعنى، الذي يُعتبَر أحد أبرز «آخر حكماء إيران».
وقع شايغان تحت التأثير المعنوي والفكري لكوربن، الذي وصفه بأنه: «جذاب جدًّا، كوربن
كان يعيش
بعقائدَ عميقة، كأنما يبصرها في عالمه الجوَّاني. منحَتْه حالةً نورانيةً متسامية.» ارتبط
معه
شايغان بعلاقةٍ أبدية. لم تقتصر خبرة كوربن على الفلسفة الإسلامية، بل كان متخصصًا بالفلسفة
الألمانية والعوالم الهندية بنحوٍ صار «جسرًا بين إيران السهروَردي وغرب هايدغر». شجَّعه
كوربن على
دراسة العلاقات بين الديانات والثقافات الهندية والإسلام، والاطِّلاع على الترجمات الفارسية
للنصوص
السنسكريتية الكلاسيكية، في العصر الذهبي للعلاقات الهندية الإسلامية في القرنَين العاشر
والحادي
عشر؛ ففي زمن أكبر شاه كوركاني وما تلاه، في عصر جهانكير وجهان شاه، تُرجمَت النصوص السنسكريتية
إلى
الفارسية؛ فقد نُقلَ إذ ذاك نحوُ ستينَ رسالةً إلى الفارسية. لاحظ شايغان بعد دراساته
المعمَّقة
لميراث الهند، والديانات والثقافات الهندية، بأنه لا يصحُّ القول إن الهندوس غيرُ موحِّدين؛
لأن
ثمَّة آلهةً أخرى في هذه الديانات يمكن أن تُعَد صفاتٍ وأسماءً للإله الواحد المحوري.
يُوجَد نمطٌ
من التعددية الدينية في الأديان غير الإبراهيمية لا نظير له في الأديان الإبراهيمية.
وفيها أيضًا
تسامحٌ أكبر، بسبب وجود عدة طرق تهيِّئ الجو لتعدُّد العقائد والمشارب. للهندوس حالة
تقبُّلٍ
واستيعابٍ مُدهِشة عملَت حتى على تذويب بوذا في داخلها، طبعًا ذوَّبَتْه بأن صار أحدَ
أوتار فيشنو
٥ التي جاءت للإضلال. ويؤكد شايغان على أن جوهر الأديان تلتقي فيه كافة الروافد
والتعبيرات المعنوية، فإذا جمَعْنا بين «إكهارت» و«ابن عربي» و«شانكارا» وأضرابهم، فسيسود
بينهم
تفاهم وحوارٌ بنَّاء، ولكن إذا هبطنا درجةً عن مستوى هؤلاء فسيواجهنا النزاع والمماحكات
بشتى صورها،
نزاع بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين الشيعة والسنة، وبين أتباع مختلف الديانات والمذاهب
الأخرى.
بينما لم يكن الأمر على هذا المنوال في الهند؛ ففي القرن الثامن على سبيل المثال، حينما
تم إحياء
الهندوسية مرةً أخرى على يد «شانكارا»، و«رامانوجا»، و«كوماريلا»، اعتمد أسلوبُ الهندوسيين
الجدلَ
والمناظرةَ مع البوذيِّين، فكان البوذيُّ يجلس مع تلامذته بجوارِ هندوسي فيتباحثان ويتجادلان.
ويشدد
شايغان: «على حد قراءاتي لتاريخ الهند، لم يتفجَّر العنف أبدًا في هذه البلاد. الهند
بلدٌ استيعابي.»
٦ دفع ذلك شايغان للاهتمام بكتابات «دارا شكوه»، الملك الوارث لتاج وعرش الهند، ومترجم
«الأوبانيشاد»
٧ من السنسكريتية إلى الفارسية.
٨ احتل «دارا شكوه» أهميةً مميزةً في تكوينه وتخصُّصه في الدراسات الهندية. ألَّف «دارا
شكوه» كتاب «مجمع البحرين»، وهو الكتاب الذي أدى إلى مقتله، وحاول فيه البحث عن الجسور
المشتركة بين
الديانة الهندوسية، وهي بحسب تصوُّره ديانة الموحِّدين، والدين الإسلامي. اهتم شايغان
بالمقارنات
بين الأديان في الهند وإيران والصين، من زاوية علاقتها بتطورات العصر الحديث. الذي أثار
اهتمام
شايغان كما يقول: هو أننا حينما نُلقي نظرة على الحضارات الآسيوية الكبرى، سواء الحضارة
الإسلامية
أو الحضارة الهندية أو الصينية، نجد أن قابليَّتها على الإبداع انتهت تقريبًا في القرن
السابع عشر
الميلادي، وإنه لأمرٌ غريب أن تُمنَى كل هذه الحضارات سوية وفي مقطعٍ زمني واحد بهذه
الحالة. القرن
السابع عشر الميلادي كان في المقياس الإيراني زمن صدر المتألهين، وعلى المستوى الهندي،
زمن آخر
المشاريع الهندية الضخمة، أما الصين، فقد عاشت في ذلك القرن ما سُمي بعصر الرجعة أو العودة.
والمراد
بالرجعة هنا، أنه لم يعُد ثمَّة ما يُقال ويُطرح؛ أي ينبغي العودة إلى الماضي. المثير
في الأمر أن
القرن السابع عشر، كان غربيًّا زمن بواكير الفكر الديكارتي، وكأنه زمنُ انتهاءِ مشاريعَ
ذات إطارٍ
معين، وانطلاق مشاريعَ جديدةٍ داخلَ إطارٍ آخر. منذ ذلك اتخذَت كافةُ هذه الثقافاتِ منحًى
انفعاليًّا، ومالت إلى شرح تراث السلف والمتقدمين، ثم شرح تلك الشروح، فظهرَت كميةٌ هائلة
من
الشروح، تنمُّ أكثر ما تنم عن حالة تفرُّج ومشاهدة متأثرة، سواء في الهند أو الصين أو
إيران. إنَّ
هذه الحضارات التقليدية الكبرى، التي انطلقَت ذات يوم، يبدو أنها وصلَت في زمنٍ ما إلى
نهاية مطافها.
٩
(٣) شايغان في جامعة السوربون
غادر شايغان إيران مرةً أخرى عام ١٩٦٥م، فالتحق بجامعة السوربون، وتابع هناك بتوجيه
وإشراف
هنري كوربن دراساته حول الديانة الهندوسية والتصوُّف. حاز من السوربون على درجة الماجستير،
ثم
الدكتوراه في الدراسات الهندية والفلسفة المقارنة، برسالة كتبها تحت عنوان: «العلاقة
بين الديانة
الهندوسية والتصوف حسب رواية «مجمع البحرَين» لدارا شكوه». بعد عودته إلى إيران انخرط
مرةً أخرى
بالتدريس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طهران، استجابةً لدعوة زميله سيد حسين
نصر، الذي
كان عميدًا للكلية وقتئذٍ، فأصبح أستاذًا مساعدًا للأساطير، والدراسات الهندية، والفلسفة
المقارنة،
في قسم الفلسفة أولًا، ثم في قسم اللغات العامة واللغات القديمة. دامت صلتُه بجامعة طهران
من ١٩٦٢م
حتى ١٩٨٠م، وكانت أغلب الدروس التي ألقاها هناك تدور حول اللغة والآداب السنسكريتية والعقائد
والأفكار الهندية «بما في ذلك كتب فكرية كالفلسفة الفيدائية والأوبانيشاد، والبوذية،
واليوغا،
والحكمة العرفانية … وغيرها». انسحب من الجامعة بعد انتصار الثورة الإسلامية وعاد إلى
فرنسا، ليتولى
مدةً من الزمن إدارة الشعبة الباريسية في مؤسسة الدراسات الإسماعيلية.
١٠
شايغان من المفكرين والأكاديميين القلائل، الذين درسوا التيارات الفلسفية والفكرية
الغربية،
بموازاة دراسة الأديان والثقافات الآسيوية. كذلك اهتمَّ بالميراث الفلسفي والعرفاني الإسلامي،
من
خلال تتلمذه الشفاهي على «آخر حكماء الموروث الإيرانيين»، وهم: «محمد حسين الطباطبائي،
جلال الدين
آشتياني، أبو الحسن رفيعي قزويني، مهدي إلهي قمشهاي»؛ فقد واظب على حضور حلقاتهم النقاشية
ومجالسهم
الخاصة، وارتبط بعلاقة وثيقة معهم.
١١ كما تمَّيز شايغان بتكوينٍ لغوي متنوع؛ فهو يجيد اللغات: الفرنسية والإنجليزية
والألمانية، ومُلمٌّ باللاتينية والسنسكريتية والعربية والتركية.
شايغان باحثٌ ومفكرٌ موسوعي، يطوِّر ثقافته أفقيًّا وعموديًّا باستمرار، ويعمل على
تحديث
أفكاره، بمواكبة ما هو جديد من معطياتٍ معرفية، وإبداعاتٍ أدبية وفنية، وتجاربَ روحية.
لم أطلع على
باحثٍ من جيل شايغان في إيران يمتلك جسارتَه وشجاعتَه العقلية؛ فهو لا يخجل من المراجعة
النقدية
لرؤيته ومفاهيمه، ويحرص على غربلة آرائه. يقول بصراحة: «كنت على الدوام في تغييرٍ متواصل.»
١٢ يكتب في محلٍّ آخر: «أنا على الدوام في تحوُّلٍ فكري لا يتوقف. وإن كان مواطنونا في
إيران من الصعب أن يغيِّروا فكرهم؛ لذلك ما زلنا نقرأ حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي
ومفكرينا
قبل مئات السنين. ومن العجيب أن أعظم مفكرينا هم شعراؤنا، وأحدثهم حافظ الذي عاش قبل
سبعمائة عام.
ينبغي ألَّا يُساء فهمي؛ فأنا لا أحطُّ من شأن هؤلاء العظماء.»
١٣ لجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي عالَم مختلف عن عالمنا اليوم، بيئة ذلك العالَم
مختلفة تمامًا. حينما نلاحظ القانون وحقوق الإنسان، نجد عالمًا مختلفًا تمامًا. ينبغي
أن نتسلَّح
بآلياتٍ متنوعة لمعرفة هذه العوالِم المختلفة. لا يوجد مفتاحٌ سحري واحد لكل العوالم.
عندما نريد
دراسة هذه العوالم لا بد من وضعها في مراتبَ مختلفة. لا يصح خلطها. إنها عوالم متنوعة،
التعرف عليها
بمثابة السفر من مرحلةٍ لأخرى. في بعض الأحيان هناك قطيعة بينها.
١٤
تحرَّكَت المسيرة الفكرية لشايغان عبْر ثلاث مراحل، طبعَت كل مرحلة فيها رؤية خاصة
حيال التراث
والحداثة، وآسيا والغرب، والماضي والحاضر، والتخلف والتنمية، والهوية والثقافة، والدين
والروحانية،
ودين العرفان ودين الشريعة، والأيديولوجيا والتراث، والحوزة العلمية ورجال الدين، والعقل
والأسطورة،
والانحطاط الثقافي، وغروب الآلهة وموت الأساطير، وانهيار النزعة الروحانية، والعدمية،
والشيزوفرينيا
الثقافية … إلخ.
(٤) شايغان الأول: الذاكرة الأزلية
في الفترة التي أمضاها شايغان في جنيف طالَع آثار «رينيه غينون»، وتأثَّر بتبجيله
للروحانية
الشرقية، وموقفه النقدي تجاه الغرب. في جنيف أيضًا تعرَّف على مؤلَّفات «يونغ» وأُعجِب
بآرائه في:
اللاشعور الجمعي، واللغة والنماذج المثالية الأزلية، وكيف أن النموذج الأزلي يلعب نفس
دور الغرائز
مع الجسد. وعندما كان في باريس تعرَّف على أفكار مارتن هايدغر بواسطة أستاذه هنري كوربن،
ووافق
هايدغر في اعتقاده أن العلوم والتكنولوجيا ليست مجرد مجموعة من الأدوات والتقنيات المحايدة،
وإنما
هي مظهر لنوع من ميتافيزيقا الوجود، أعطت قيمةً وقوةً فائقة ﻟ «الاكتساب» أو «الاستحصال»،
فحكمَت
بذلك على الإنسان بالسجن والقهر. كذلك طالع نيتشه، واهتم بمفاهيمه حول عدمية الغرب ومصائر
الحداثة.
١٥
مرجعيات شايغان في هذه المرحلة من مسيرته الفكرية، من المفكرين الغربيين، هم: «رينيه
غينون»،
و«غوستاف يونغ»، و«مارتن هايدغر»، و«فردريش نيتشه»، مضافًا إلى «كارل ياسبرز»، و«بل تيليش»
أما
منابع إلهامه الشرقية فهي الميراث الروحاني للهندوسية والأديان الآسيوية، مضافًا إلى
«ابن عربي»،
و«شيخ الإشراق السهروَردي»، والعرفان الشيعي.
بعد عودته إلى طهران التحق شايغان ﺑ «الغينونيين الإيرانيين»، وهم مجموعة من المثقفين،
درس
معظمهم في أوروبا والولايات المتحدة، واستعاروا رؤية غينون، وانبهروا بأفكاره، وتشبَّعوا
بها،
ورأَوها قادرةً على حل معضلات عالمنا، بصفتنا منتمين إلى ثقافةٍ تقليدية. كان الغرب يمثل
بالنسبة
إليهم القوى الشيطانية، في حين يمثل الشرق الأنوار الجوهرية. رفضوا كل القيم التي نشأَت
في الغرب
بالمعنى الجغرافي منذ العصر الوسيط، وأنكُروا كليًّا تاريخ القرون الخمسة الأخيرة. ومجَّدَت
مؤلَّفاتُ هذه المجموعة الهوية الثقافية والقيم الموروثة المقدَّسة، مقابلةً بينها وبين
علمية الغرب
وعقلانيته. ورفعوا شعار العودة إلى الذاكرة والمنابع الذاتية، باعتبارها الترياق الشافي
من وباء
الإصابة بالغرب.
١٦
في هذه المرحلة انتمى شايغان إلى «الهايدغريين الإيرانيين»، وهم جماعة من الكتاب
والمترجمين
تمحوروا حول أحمد فرديد، تضم: «داريوش آشوري، أمير حسين جهانبگلو، أبو الحسن جليلي، شاهرخ
مسكوب،
داريوش شايغان، رضا داوري، جلال آل أحمد، نجف دريابندري، إحسان نراقي، داريوش مهرجويي
…» وأُطلق على
هذه الجماعة حلقة أو محفل اﻟ «فرديدية».
١٧ تداولَت هذه الحلقة نقاشاتٍ متنوعة في تاريخ الفلسفة والفلسفة الحديثة والمعاصرة في
الغرب والشرق، وطرح فيها فرديد آراءه الخلافية، ومقولاته المركَّبة، ومفهوماته الملتبسة،
ومصطلحاته
المبهمَة، مثل: «الحكمة الإنسية، علم الأسماء التاريخي، مراحل التاريخ وتجلي الأسماء،
المواقف
والمواقيت التاريخية، الحقيقة والطريقة والشريعة في مراحل التاريخ، وباء الغرب أو الإصابة
بالغرب،
الودائع أو الأمانات والمآثر التاريخية، النفس الأمارة … وغيرها.»
١٨ يصوغ فرديد رؤيته استنادًا إلى علم الأسماء الإلهية عند ابن عربي، وفلسفة هايدغر، وعلم
اللغة المقارن والفيلولوجيا، منقِّبًا عن جذور وأنساب الألفاظ والكلمات. ويدمج أنظمة
معرفية
متباينة، ويعمل على صياغة مقولات يجترح لها تسمياتٍ خاصة. يوحِّد بين ابن عربي وهايدغر
والفيلولوجيا
وفلسفة التاريخ في مزيجٍ غيرِ متناغم، فتتوالد من هذه الخلطة مسوخاتٌ مشوَّهة، تتشابك
فيها عناصرُ
متناشزة، مفصولة عن الحبل السُّري الذي يُوصلها بالسلالات المنتسبة إليها.
١٩ يعتقد «الهايدغريون الإيرانيون»، أن وباء الغرب يكشف عن الدرجة القصوى لنسيان الوجود،
ونسيان الوجود يترجم في الفكر الإسلامي بما يُسمَّى طغيان النفس الأمَّارة بالسوء على
النفس
المطمئنة. وفي هذا السياق، فإن النقد السياسي وحقوق الإنسان ومبادئ الثورة الفرنسية لم
تنبثق من
الأنوار الطبيعية للعقل المستنير، لكنها على العكس من ذلك مجموعةٌ من الرقابات فرضَها
عقلٌ متبلد
وظلامي على النفس المطمئنة. لقد قلبوا المسألة وجحدوا كل تحرُّرٍ أحرزه الإنسان.
٢٠
في سياق تلك المرجعيات، وإثر تشبُّع عقل شايغان ووجدانه بهذه المناخات تشكَّلَت رؤيته
في هذه
المرحلة، وهو ما يشي به عنوان كتابَيه؛ «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية»، الصادر سنة
١٩٧٦م،
و«آسيا مقابل الغرب» الصادر سنة ١٩٧٧م. في الكتاب الأول وظَّف شايغان فرضية فرنسيس بيكون
حول «أصنام
الذهن»، لكن بشكلٍ معكوس؛ ذلك أن بيكون كشف عن الأثر السلبي التعطيلي لتلك الأصنام في
التفكير
العلمي، فدعا إلى اجتثاثها، بمعنى أنه عمل على «مناهضة الذاكرة»، فيما ذهب شايغان إلى
أن ما
يُسمِّيه بيكون «الأصنام الذهنية» ويشجبه، إنما هو «الأمانة» في الفكر الشرقي، التي تشتمل
على
رسالةٍ مضمَرة، تبقى مصونةً في الذاكرة القومية. لا يمكن أن يحافظ الشرق على أصالته،
ما لم يحتفظ
برموز مفاتيح تلك الأمانة، ويتواصل مع ذاكرته الأزلية. وإن دعوة بيكون إلى اجتثاثها تعني
اجتثاث
الذاكرة الإنسانية؛ أي تدمير مستودع الصور الأساطيرية، التي تُشكِّل الحكمة الخالدة الفياضة.
وإن
الانقطاع عنها يُفضي إلى الانقطاع عن الجذور، والاغتراب الذي يقذف صاحبه إلى هاوية العدمية.
٢١
ووفاءً لما يعتقده من وجود اختلافٍ جوهري بين حضارات آسيا والغرب، وضرورة احتفاظ
حضارات آسيا
بذاكرتها الأزلية، أسَّس شايغان وأدار «المركز الإيراني لحوار الثقافات» عام ١٩٧٧م في
طهران،
واستطاع أن يستقطب له بعض المثقَّفين، مثل: رضا علوي، وداريوش آشوري، ومير شمس الدين
أديب سلطاني،
ورضا داوري، وشاهرخ مسكوب. كان من أهداف المركز تعريفُ الإيرانيين بالحضارات الشرقية
والآسيوية
كالصين واليابان والهند ومصر. في سياق العمل لتحقيق هذه الأهداف استضاف المركز، عام ١٩٧٧م،
في طهران
ملتقًى فكريًّا تحت شعار: «هل تسمح الهيمنة الفكرية الغربية بقيام حوار بين الثقافات؟»
٢٢ مضافًا إلى إصدار المركز على مدى سنتَين من عمره عشرين كتابًا عن مختلف أبعاد الحضارة
الآسيوية. ومن هذه الكتب التي أثارت اهتمامًا بالغًا «آسيا مقابل الغرب»، الذي جمع فيه
شايغان بعض
دراساته بخصوص التحولات الاجتماعية-الثقافية في المجتمعات التقليدية الآسيوية.
٢٣ يتألف هذا الكتاب من قسمَين؛ القسم الأول يتناول: «العدمية وتأثيرها في القدر التاريخي
للحضارات الآسيوية»، والقسم الثاني يتناول: المرتكزات الروحانية المشتركة للحضارات الآسيوية،
والرصيد المميز الذي يحدِّد «مكانة الحضارات الآسيوية مقابل تطور الفكر الغربي».
يستهل شايغان كتابه قائلًا: هذه الرسالة تتحدث عن المسار
التنازلي الهبوطي للفكر الغربي، الذي يصطلح عليه بعض المفكرين الكبار «العدمية»، المسار
التسافلي
لذلك الفكر يعني الهبوط؛ من الأعلى إلى الأسفل، من الرؤية الكونية الشهودية إلى الرؤية
الكونية
التقنية، من الآخرة والمعاد إلى تمجيد التاريخ. هل يعني ذلك التطور والتقدم أم السقوط؟
لا ريب أن
الموقف يتحدَّد في ضوء موقفنا من تاريخ ومصير البشرية. لقد توغلنا لعدة سنين في ماهيَّة
الفكر
الغربي، الذي يُمثِّل من حيث الحيوية والتنوع والغِنى والقابلية على الجذب، ظاهرةً استثنائيةً
فريدةً على الكرة الأرضية، فقادنا ذلك إلى الاعتقاد أن مسار الفكر الغربي كان باتجاه
النسف التدريجي
لجملة معتقدات شكَّلَت الميراث الروحاني للحضارات الآسيوية.
٢٤
يعتقد شايغان في هذه المرحلة بوجود تنافرٍ أنطولوجي بين المجتمعات الشرقية «العالم
الإسلامي،
البوذية، الهندوسية» والغرب، وأن جوهر الفلسفة والعلم في الحضارات الشرقية يختلف تمامًا
عن نظيره
الغربي. الفلسفة الغربية تستند إلى نمط التفكير العقلاني، بينما تقوم الفلسفة الشرقية
على أساس
المكاشفة والإيمان.
٢٥ يتطرق شايغان لتفاوت مكانة العلوم بين الحضارات الغربية والآسيوية، قائلًا: في الحضارات
الآسيوية الكبرى كالإسلام والهندوسية والبوذية كان العلم تابعًا للدين والفلسفة على الدوام،
فلم
تبلُغ العلوم في تلك الحضارات الاستقلالَ والهيمنةَ اللذَين بلغَتْهما في الغرب وأدَّيا
إلى
تمرُّدها على الدين والفلسفة، وجعلَا من الإنسان المالك الوحيد للعالم. في الشرق لم يظهر
العلم
بمعناه الغربي الحديث على الإطلاق؛ ذلك أن العالم لم يصبح دنيويًّا أبدًا، ولم تنفصل
الطبيعة عن
الروح التي تسيطر عليها، ولم تنحسر تجليات الفيض الإلهي عن مسرح الحياة. الشرق لم يصطنع
فلسفة
للتاريخ إطلاقًا؛ فالوجود لم يتحول أبدًا في فلسفة هيغل إلى مجرد فاعلية ومسار. ظهور
العالم كان
بالنسبة لنا نحن الشرقيين ظهورًا حقيقيًّا موثوقًا على الدوام، وهو مستتر على رغم ظهوره،
وكنه وجوده
مُختبئ في ليل من العدم المظلم.
٢٦
يُفضِي انفصال الروح عن الفكر، والذاتي عن الموضوعي، والفلسفة عن الدين إلى انطلاق
مسارٍ
يُسمِّيه شايغان «الافتقار الأنطولوجي للعالم والإنسان»؛ أي تجريد الزمن من صبغته الميثية،
والطبيعة
من صبغتها السحرية، وتطبيع الإنسان، وجعل العقل مجرد وسيلة. ويمكن تبعًا لذلك تأويل هذا
الصنف
الجديد من الناس «الإنسان الصانع» وعالمه كنقطة التقاء لأربعة مساراتٍ تنازلية، تشمل
المعرفة
والعالم، كما تشمل الإنسان والتاريخ، وتتلخص في:
-
(١)
تقننة الفكر: الهبوط من الرؤية الشهودية إلى الفكر
التقني، والنفي التام لأي مصدرٍ للمعرفة تأمليٍّ شهودي، مما يُعرف في الروحانية الشرقية
بالكشف
والعلم الحضوري. وتحويل العلاقة بين الإنسان والوجود إلى نِسَبٍ كمِّية ورياضية. واختزال
الطبيعة
إلى شيئية الاشياء.
-
(٢)
علمنة العالم: النزول من الصور الجوهرية إلى المفهوم
الميكانيكي، الذي أفضى إلى سلب الطبيعة كل كيفياتها الرمزية وسماتها الساحرة.
-
(٣)
تطبيع الإنسان: الانحدار بالجوهر الروحاني إلى الدوافع
النفسية والغريزية؛ الأمر الذي يعني سلخ جميع الصفات الربَّانية الملكوتية عن الإنسان.
-
(٤)
نبذ الأساطير: الهبوط من الغائية والمعاد إلى عبادة
التاريخ والزمانية المُفرغة من أي معنًى أخروي.
٢٧
يرى شايغان تبعًا لهايدغر أن العدَمية هي الثمرة الطبيعية للتكنولوجيا الحديثة، وأن
العدَمية
لم تظهر صُدفة، وإنما هي متغلغلة في مضمون الحضارة الغربية، منذ بواكيرها. النواة الجنينية
للعدَمية
وُلدَت بولادة الفكر الغربي. والانعكاس العدَمي للتفكير التقني يؤدي بلا أدنى ريبٍ إلى
نبذ وإقصاء
جميع المعتقدات الشرقية في النتيجة.
٢٨
وأكد أن الحضارات الآسيوية إذا أرادت التفاؤل الموضوعي باستعادة حيويتها وفضائلها
السابقة،
فعليها الاحتراس من التبعات المُخرِّبة للمسارات الهابطة الأربعة في الفكر الغربي. ونظرًا
لضعف
وإعياء هذه الحضارات، لا تبدو هذه المهمة يسيرةً بالنسبة لها على الإطلاق. ويرى شايغان
أن هيمنةَ
الفكر الغربي وضعف الثقافات الآسيوية خلقَا «وهمًا مزدوجًا» لمستنيرين آسيويين تصوَّروا
أنفسهم
متقدمين فكريًّا على مجتمعاتهم لكنهم متأخرون عمَّا يُسمى «الثقافة العالمية»، النتيجة
أنهم عجزوا
عن وعي الأسس الفلسفية للفكر الغربي في وقتٍ قطَّعوا فيه وشائجهم مع الأفكار والأديان
والثقافات
المحلية. وكان يعتبر هذا «الوهم المزدوج» جزءًا من إشكاليةٍ أوسعَ تُواجِهها فلول الحضارات
الآسيوية، التي تعيش ظروف «احتضار الآلهة» أو موتها المرتقب، وأن «وباء الغرب» هو الروح
السائدة على
هذه المرحلة الانتقالية.
٢٩ يكتب شايغان حول هذا المفهوم: وباء الغرب وجهٌ آخر للجهل بالقَدَر التاريخي الغربي.
وباء الغرب هو الجهل بالغرب، إنه عدم المعرفة بالعناصر الغالبة على تفكيرٍ هو بالتالي
أقوى وأنفذ
رؤيةٍ كونيةٍ على وجه الأرض. وباء الغرب بعبارةٍ أخرى هو الجهل بالمسارات الأربعة التنازلية،
التي
تمثِّل مرتكزات الفكر الغربي. لقد قاد الجهل بذلك في إيران ومعظم البلدان الآسيوية إلى
استعارة نظام
القيَم والأيديولوجيات الغربية. وظهر وباء الغرب بصورةٍ مبتذَلة في تفسير الصلاة بالرياضة،
والوضوء
بالنظافة، والصوم بالنظام الغذائي. الجهل بالغرب ليس مختصًّا بنا، إنه ليس سوى قدَرٍ
تاريخي لآسيا.
٣٠ وخلص شايغان إلى أن «الاغتراب عن الذات الأصيلة» و«وباء الغرب» وجهان لعملة
واحدة.
ينتقد شايغان «الوهم المزدوج»، لمثقَّفين آسيويين تحدثوا في نهاية القرن التاسع عشر
ومطلع
القرن العشرين، عن إمكانية اقتباس التقنية الغربية، مع المحافظة التامة على الهوية الثقافية.
يقول:
ليس بوسعنا احتضان التكنولوجيا والبقاء في أمان من تبعاتها الاستنزافية؛ فالتكنولوجيا
بحد ذاتها
حصيلةُ تحولٍ فكري ونتيجة نهائية لمسيرة عدة آلاف من السنين. التقنية بالضرورة تعبِّر
عن غاية
ومضمون التفكير الغربي وخصائصه، وهي عبارة عن اختزال: الطبيعة إلى شيئية الأشياء، العقل
إلى أداة
ووسيلة، الإنسان إلى الغرائز، وتفريغ الزمان من أي معنًى للمعاد، وبالتالي اختزال الإنسان
في بُعدٍ واحد.
٣١
يرى شايغان أن مهمة المثقَّفين الآسيويين من أجل مقاومة وباء الغرب، يتمثل بصيانة هويتهم
الثقافية عبْر العودة إلى ذاكراتهم الأزلية، وإعادة اكتشاف الرسالة المضمَرة في تلك الذاكرة.
ويعني
بالذاكرة الموروث، الذي لا يرتبط بشخصٍ معين، بل هو ذو طابعٍ جماعي، يشكِّل الذاكرة القومية
لكل
مجتمع، وهذه الذاكرة تكوِّن أنساب وجذور ذلك المجتمع. وهي التي تمكِّنه من التواصل مع
الأحداث
الأزلية والأساطيرية؛ لذلك تُنعت بأنها «أزلية»، الذاكرة الأزلية في مفهوم شايغان مستودع
للكينونات،
متعالية على الماضي والحاضر والمستقبل. والرسالة المشتقة منها هي التي تصوغ إنسانية الإنسان.
يستهجن
شايغان وصف الشرق بأنه ساكن متحجر، يقدس الماضي؛ لأن ذلك يعني لديه وفاء الشرق للذاكرة
الأزلية.
كذلك يرفض ما يُسمِّيه فرنسيس بيكون «الأصنام الذهنية»؛ لأنها هي «الأمانة» الأبدية في
ذاكرة
المجتمعات الشرقية. ويحاول تبعًا لأحد العرفاء «محمد اللاهيجي» صياغة تأويل لمفهوم «الأمانة»
الوارد
في الآية:
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا٣٢ يتلخص في أن المقصود بالأمانة هنا هي الأمانة الجامعة الشاملة لجميع الأسماء والصفات
الإلهية، والإنسان مرآة لكافة الأسماء والصفات الإلهية. أما المقصود ﺑ «السماء» في الآية
فهو عالم
الجبروت أو عالم الأرواح. و«الأرض» فيها تشير إلى عالم الملك والشهادة. بينما «الجبال»
هي المظهر
لعالم المثال، الكائن بين عالمي الجبروت والشهادة. عرض الله هذه الأمانة على العوالم
الثلاثة فرفضَت
حملها؛ ذلك أن قابليتها الذاتية قاصرة ولا تتسع لحملها. غير أن الإنسان استجاب للعرض؛
لأنه «ظلوم
جهول»، و«ظلوم» هنا حسب ابن عربي بمعنى الظلمات وليس الظلم، باعتبار الإنسان في نهاية
قوس النزول
والظهور، فإن أحد مراتبه مظلم عدمي. أما «جهول»، فتعني الجهل بما سوى الحق، فهو عالم
بالحق جاهل
بغيره. وهذه غاية المدح وإن تبدَّت على شكل ذم في الظاهر.
٣٣
أكَّد شايغان على أن الإسلام، ولا سيما التشيع، يمثِّل الينبوع الرئيس للذاكرة الأزلية
المشتركة بين الإيرانيين. يكتب بنسق التاريخية الهيغلية: كان لإيران في العالم الإسلامي
ذات الرسالة
التي كانت لألمانيا في الغرب، فإذا كانت ألمانيا على حد تعبير هيغل قد حافظَت على توهُّج
مشعل الفكر
الذي أوقده اليونانيون، فقد سهرَت إيران على سراج الأمانة الآسيوية في الإسلام. القوميون
الجدد في
بلادنا إذ يتنكَّرون للإسلام وللحِقَب الإسلامية من التاريخ الإيراني، ويتشبَّثون بالتاريخ
القديم،
بسبب انزعاجهم من كل ما هو إسلامي، فإنهم يُصابون بنوع من «الأساطيرية»،
٣٤ ولا يتنبَّهون إلى أن استبعاد الإسلام يعني التضحية بأربعة عشر قرنًا من الحضارة والفكر
الإيرانيَّين. وإذا كان التشيع يمثل الينبوع الرئيس للذاكرة الأزلية المشتركة بين الإيرانيين،
فإن
رجال الدين أوعى وأكفأ حراسٍ لهذا الذاكرة. وخلص شايغان إلى أن: الطبقة التي تحفظ اليوم
أمانتنا
الماضية إلى حدٍّ ما، وما تزال رغم ضعفها البنيوي، تعمل على إحياء كنوز التفكير الموروث،
هي الحوزات
العلمية الإسلامية في قم ومشهد.
٣٥ وهي مواقفُ سيتخلى عنها بعد سنواتٍ قليلة، كما سنرى.
شايغان وبعض زملائه من المفكرين كان مناهضًا لقيم الحداثة وتستفزه الدعوة إليها، بعد
اشتداد
الدعوة إليها في إيران منتصف القرن العشرين إلى انتصار الثورة الإسلامية سنة ١٩٧٩م. أكثر
مفكري
إيران المعروفين نفَروا بشدةٍ تلك الأيام من الحداثة، نتيجةً لموقف نظام الشاه محمد رضا
بهلوي
المتهافت على المظاهر الشكلية للحداثة في التربية والتعليم والثقافة والآداب والفنون،
وكل شيء.
مضافًا إلى تفاعُل شايغان وانبهاره وبعض زملائه بأفكار المستشرق الفرنسي هنري كوربن وهايدغرية
كوربن
المهجَّنة بالعرفان والنزعات الغنوصية الشرقية. وضياع شايغان في متاهات «الحلقة الفرديدية»
والفكر
الغرائبي لأحمد فرديد، الذي وصَف هذا الفكر في مرحلةٍ لاحقة ﺑ «السُّمِّ». تشبَّع شايغان
في هذه
المرحلة بروحانية وغنوص الأديان الهندية والآسيوية والإيرانية، واتخذ موقفًا حاول أن
يتنكَّرَ له
وينقلبَ عليه في المرحلتَين اللاحقتَين من حياته، بعد أن استفاق وعيُه وحسم خياراته،
فتبنَّى
العقلانية النقدية.
(٥) شايغان الثاني: الأيديولوجيا وعيٌ زائف
مُنظِّر «الذاكرة الأزلية» لم يواصل غيابه في كهوف الماضي عاكفًا على «الأصنام الذهنية»،
بل
استطاع التغلب على عبء ذاكرته، وأفلَت من النُّواح الأبدي على «حضارات لم تشارك التاريخ
أعياده»،
٣٦ وأنها ما زالت في مرحلة «بين احتضار الآلهة وموتها الوشيك»،
٣٧ وأدرك أن المصير التاريخي والعالم الذي تعيش فيه هذه الحضارات التقليدية غير قادر على
إعادة إنتاج نظام الأشياء القديم؛ لأنه عالَم ذو مرايا مهشَّمة، تشوِّه الأنوار التي
تنعكس عليها،
وأن ذلك الميراث الذي كان يستطيع خلق وإعادة إنتاج نظام الأشياء ليس حيًّا. ويستعير شايغان
تعبير
هيغل في توصيف التراث: بأنه «صور بلا روح، غادرَتْها أرواحها فماتت.» هذا هو حال ثقافتنا
التقليدية.
لم يبقَ منها سوى الشعر الذي استطاع أن يحافظ على شيءٍ من حضوره لدينا.
٣٨
لا يكُفُّ شايغان عن مواكبة المكاسب الجديدة في المعرفة البشرية، يمتلك شايغان جرأةً
فائقة في
تحديث مرجعياته، وتجديد أدواته النقدية، وإيقاظ عقله، وتمحيص أفكاره، وغربلة آرائه باستمرار.
عندما
يكتشف تهافُت أفكاره، سرعان ما يُقلع عنها، ولا يتردَّد في الإعلان عن رؤيته البديلة،
المغايرة
وأحيانًا المضادة لرؤيته في مرحلةٍ سابقة، بل نجده أحيانًا يعترف في أنه وقع ضحيةَ خدعةٍ
فيما مضى.
وهذا خُلقٌ وشجاعةٌ لا نراهما إلا نادرًا في بلادنا، المسكون فيها المثقَّف بتنزيه الذات،
والتمسُّك
الأبدي بذاكرته، وهويته النقية الخلاصية الساكنة، بغَض النظر عن مضمونها، وقدرتها على
الوفاء
بمتطلَّبات عصر لا تنتمي إليه ولا ينتمي لها.
يعترف شايغان في كتابه «ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة»،
الصادر عام
١٩٨٢م؛ أي بعد مضي سنتَين على مغادرته لوطنه، بخطئه في انتمائه إلى «الغينونيين الإيرانيين
الإسلاميين»، قائلًا: «لقد انتمينا إلى هذه المجموعة، كما انتمينا إلى مجموعة الهايدغريين
الإيرانيين الإسلاميين، وانخدعنا مثلهم بحنين الماضي الجذاب. ولكن اطِّلاعنا الدءوب على
تحولات
الفكر الغربي، أبعدَنا عن هذه المجموعة، وجعلَنا ندرك يقينا أن خمسة قرون من العلمنة
لم تكن من دون
فائدة للبشرية.
٣٩ في المرحلة الأولى كنت أنوح أيضًا. نعم! لأني كنتُ أخشى أن تنهار حضارتنا. أعترف في
بعض
الأحيان لديَّ تقييماتٍ نابعة من حس الحنين.»
٤٠
يمكننا ملاحظة ومضاتٍ مبكرة للمنحى النقدي في تفكيره، في
المرحلة السابقة. كان شايغان قد نبَّه إلى «ظلمة المعرفة الجديدة»، في الفصل السابع والأخير
من
كتابه «آسيا مقابل الغرب»، الذي جاء في سياقٍ مختلف عمَّا تقدَّمه من فصول؛ أي إنه حاول
في الفصل
الختامي من الكتاب أن يرتاب من الاستسلام للموروث، ويشكك في جدوى مناهضة الغرب والتكنولوجيا،
يكتب:
«القول بأننا هكذا كنا في الماضي، وهكذا كان فكرنا الفلسفي الإشراقي، وأن الغرب مهد الشيطان،
والتكنولوجيا بلاء سماوي، كل ذلك لا يُحيي الحكمة الشرقية، ولا يُحررنا من سطوة التكنولوجيا.
إنه
اهتمام بقضايا مجهولة الكُنه، وهروب من فضاء الإدراك إلى فضاء القلب، ومن البحث إلى التعصب.
وذلك
يُفضي إلى ظلمة المعرفة الجديدة.»
٤١
نواة الموقف النقدي التي ظهرَت ملامحها في خاتمة كتابه المذكور، تبلورَت إلى منظورٍ
نقدي يتوكأ
على أدواتٍ منهاجية حديثة لدى شايغان في هذه المرحلة، حتى نادى بتعميم النقد، وإعماله
في مختلف
المجالات؛ لأنه رأى، تبعًا لكانط، أن «عصرنا بوجهٍ خاصٍّ هو عصر النقد، الذي يجب إخضاع
كل شيء له.»
٤٢ إن النقد لقاح أمراض الحضارة، وميزة الغرب أنه يستطيع أن ينتج لقاحاته، ليقي نفسه من
الأمراض، ويتغلب على أزماته، التي تنتهي به إلى الانهيار. وإن افتقار مجتمعاتنا للنقد،
يمنعها من
التغلب على الأزمات الكبرى، خلافًا للغرب والولايات المتحدة التي سرعان ما تشنُّ عاصفة
من النقد ضد
نفسها، فتُجدِّد بنيتها، وإن كان بمشقة وصعوبة في الغالب، لتتأقلم مع الأوضاع والظروف
الجديدة. ما
تفتقده مجتمعاتنا هو القدرة على دراسة أخطائها، وروح النقد، والشجاعة في الكشف عن عيوبها
وأزماتها
المزمنة، والاستقلال المؤسساتي، والفردي، الذي يمكِّنها من إجراء عملياتٍ جراحيةٍ لازمةٍ
للقضاء على
أمراضها الاجتماعية. وينقل شايغان رأي «غي سورمان» في هذا الصدد، الذي يقول فيه: «لو
أُريد مني أن
أختار من بين العناصر البانية لقوة الغرب واحدًا فقط، لاخترتُ القدرة على النقد، الباعثة
على
التنافس بين النظريات. ما دمنا نحافظ على هذه القدرة، فلن تستطيع المجتمعات الفاقدة لها
ثقافيًّا أن
تسبقنا. النقد والنقد الذاتي، وهي مفاهيمُ أوروبية، لا تترسَّخ في آسيا إلا بصعوبة. الحضارات
الآسيوية بدل أن تنقطع عن الماضي لتتمكن من الإبداع، تجتَرُّ نفسها لكي تبلغ الكمال.»
٤٣
«الهوية، الذاتية، الذاكرة القومية، الحكمة الخالدة، الودائع أو الأمانات والمآثر
التاريخية»،
كلماتٌ تُحيل إلى ما اصطلَح عليه شايغان «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية»، المضمون
المشترك بينها
هو «الموروث، أو الميراث، أو المأثور، أو التراث». الاتجاه العام الذي هيمَن على وجدان
ووعي الجيل
الماضي من مثقَّفي العالم الثالث في النصف الثاني من القرن العشرين هو العمل على تهجين
«الموروث»،
عبْر سكبه بقوالب «الأيديولوجيا»؛ أي «أدلجة الموروث»، وما زالت مجتمعاتنا أسيرة لتلك
الأدلجة.
وتحويل «الموروث» إلى نسقٍ اعتقادي اختزالي مغلَق، يمكنه أن يفسِّر ويبرِّر كل شيء، يوفِّر
للإنسان
متطلباته الاعتقادية، ويصوغ حلولًا لكافة مشاكله. ليس هناك دين أو معتقد أو حزب أو جماعة
أو ثقافة
أو آداب أو فنون لم تتخذ من الأيديولوجيا قوالب لها، حتى التصوف الذي وُلد بوصفه فضاءً
رحبًا لتكامل
الروح وتساميها، سكبه تصوف الاستعباد في قوالب أيديولوجية مغلقة، تحوَّلَت فيها أقول
شيوخ التصوف
إلى نصوصٍ مقدسة، واتخذ كثير من المتصوفة من شخصياتهم أوثانًا.
٤٤
انبثاق الوعي النقدي لدى شايغان في هذه المرحلة قاده إلى تشريح هذه الظاهرة وتفكيكها،
والحفر
في طبقاتها التحتية، والتعرُّف على بواعثها، واكتشاف البِنية العميقة لها، وأثرها التعطيلي
في عالم
الإسلام. عندما يفعل ذلك فإنه يستأنف النظر بحنينه وشغَفه في المرحلة الأولى ﻟ «الذاكرة
الأزلية»،
الذي أدى إلى سقوطه في فخ «أدلجة الموروث»، تبلوَر موقفه هذا، في بحثٍ فلسفي معمَّق،
تناول فيه
«أدلجة المأثور الديني»،
٤٥ وكشف عن دوغمائية الأيديولوجيا، وأنها وعيٌ زائف. وأوضح أن وظيفتها اليوم تشبه وظيفة
الميثولوجيات في العالم القديم؛ فهي من ناحية، تُرضي الروح الجماعية لمعتنقيها برؤيتها
لمجتمعٍ
مغلَق، وتزعم، من ناحيةٍ أخرى، أنها علمية؛ أي مطابقة للتجربة والواقع. وإذا كانت الأيديولوجيا
تتوفر على شحنةٍ انفعاليةٍ كبيرة، تقرِّب الشُّقة بينها وبين العاطفة الدينية، وعلى جهازٍ
منطقي
عقلي، يعطيها مظهرًا علميًّا وفلسفيًّا، فإنها ليست في الحقيقة علمًا ولا فلسفةً ولا
دينًا.
الأيديولوجيا تُلبِّي حاجتَي الإنسان الرئيسيتَين؛ حاجته إلى الاعتقاد، وحاجته إلى تفسير
اعتقاده
وتبريره. يُشير شايغان، تبعًا ليونغ، إلى أن اللاشعور المُفرِز للأيديولوجيا هو لا شعور
لا مقابلَ
أنطولوجيًّا له في هذا العالم، بحكم سحب الإسقاطات الرمزية التي كانت تتجسَّد سابقًا
في نظام
الدساتير الثقافية الموضوعي. والنتيجة هي حقن هذا اللاشعور من جديد بتصوراتٍ مُعلمَنة؛
مثل: الطبقة،
والجنس، والتاريخ … إلخ، وذلك تعويضًا عن حرمانه من رموزه. هذه التصورات تكتسب بفعل وضعها
الجديد
شحنةً شبه روحية، وتصبح آلهةً مزيفة. الأيديولوجيا ليست معاديةً فقط للدين، بل معادية
أيضًا
للفلسفة. عاجزة عن أي نقد وتقويض، وبقَدْر ما هي عاجزة عن أن تتجاوز نفسها بواسطة التأويل،
فهي
عاجزة عن تحطيم مقدماتها الخاصة، وعن تعرية الوعي الزائف الذي يميزها. وهي وإن كانت تظهر
وكأنها
خطابٌ عقلاني متماسك، فإن العقل الأيديولوجي ليس هو العقل الفلسفي، وإنما هو عقل أداة،
عقل بليد
ومشوَّه؛ أي ذاتي وشكلاني. على نهج «أدورنو وهوركايمر» يرى شايغان أن العقل يشتغل، عندما
ينقلب
أداة، عقلًا لا عقلانيًّا. عندما يصبح العقل مجرد أداة، ويتراجع إلى حالته الطبيعية الأولى،
دافعًا
بتلك الطبيعة أن تنتقم لنفسها، بأن تجعل العقل «ميثولوجيا»، فإن السبب في ذلك يكمن في
أن الأسطورة
نفسها قد أصبحَت عقلًا منذ البداية.
٤٦
«أدلجة المأثور الديني» كما يقول شايغان: تُخرج الدين عن مجاله وحقله الخاص، فيسعى
إلى حلِّ
مشكلات العالم كلِّها. عندئذٍ سيتحول قهرًا إلى «أيديولوجيا»، وبمجرد أن يصير أيديولوجيا،
يكون عرضة
لشتى الآفات؛ لأن الأيديولوجيات جميعها معرَّضة للآفات والأخطار، وضعيفة حيالها. وسيستدرج
ذلك الدين
طبعًا إلى ميادين الصراع بين الأيديولوجيات. ويُحذر شايغان من أن تلك الأدلجة تنجم عنها
«دنيوية
الدين»، بمعنى إهدار الطاقة الرمزية في الشعائر والطقوس والممارسات الدينية؛ وبالتالي
إنهاك الدين
وتفريغه من محتواه المعنوي. إن المفاهيم الدينية في غاية الدقة، وإذا ما خرجَت عن حدودها
الخاصة،
فقدَت قابلياتها وإمكاناتها. مثال ذلك أن نعتبر الوضوء ممارسة تهدف إلى النظافة والصحة!
قد يكون
للوضوء أثرٌ صحي، ولكنه أولًا أثر ضئيل المساحة جدًّا لدى المسلمين، وثانيًا الوضوء ممارسةٌ
دينية
صِرفة. إنه ليس فعلًا صحيًّا وإنما هو فعلٌ رمزي. وبمجرد أن نجعله صحيًّا، نكون قد أسقطنا
عنه طابعه
الرمزي الديني.
٤٧
يتحدث شايغان عن علي شريعتي كنموذجٍ مثالي، لمن كرَّس كافة جهوده وآثاره من أجل «أدلجة
المأثور
الديني»؛ فالظواهر الاجتماعية لدى شريعتي تُحيل إلى مفاهيمَ عقائدية. الوحدة الاجتماعية
والسياسية،
والشرك والصراع الاجتماعي والسياسي، يُعبِّران عن التوحيد والشرك الاعتقادي «والوحدة
الحقيقية بين
الجماعات والطبقات، هي تعبير عن التوحيد»، وهكذا «الشرك الاجتماعي إنما هو انعكاس للشرك
الإلهي»،
٤٨ استلهم شريعتي القواعد الأساسية للماركسية، وأقام عليها بناءً إسلاميًّا. كلُّ أولياته
ومبادئه ماركسية، ولا يمكن العثور لديه على رؤيةٍ إسلاميةٍ عميقة. متى وأين كان للإسلام
بناءٌ تحتي
وبناءٌ علوي؟ بل أين نجد في الإسلام مفهومًا للتاريخ بالنحو الذي تكلَّم عنه؟ إن من العسير
مزج كل
هذه المفاهيم مع بعضها في مُرَكَّبٍ متجانس.
٤٩ شريعتي يملك أجوبةً جاهزةً لكل الأسئلة. إنه يضرب لنا المثل الصارخ عن رؤيةٍ ضيقة. وكل
شيء يُفسَّر عنده بعباراتٍ ماركسية، ببنًى تحتية وفوقية، برؤيةٍ ثنائية للتاريخ، وبشلَّال
من
التماهيات المسلسلة. ويذهب شايغان إلى أن فكر شريعتي خليط من الجذرَين، اللذَين يتقيأ
أحدهما الآخر.
ويضيف أن شريعتي قال: «لئن خلط هيغل المجرَّد من كل الجهاز المفهومي لمنظومة العقل وظهورية
الروح،
مع ماركس مجرد من النظرية، من الفعل على إطلاقه
Praxis، مع إسلامٍ
مبتور من قطبيه، المبدأ
Origine والمعاد
Retour، فإننا نحصل على حَساءٍ دسم، تبدو فيه جميع العناصر
المجمَّعة، منزوعة ومجرَّدة من كل مضمونها الوجودي، نظرًا لأنها فُصلَت عن القاعدة التي
تكوِّنها
وتسوِّغ علة وجودها، إن فكرًا كهذا لا يمكنه أن يكون سوى فكرٍ بلا موضوع؛ وبالتالي فكر
بلا مكان.»
٥٠ إن شريعتي لم يستوعب المضمون الفلسفي ﻟ «ديالكتيك» هيغل، وهكذا لم يتوغل في اكتشاف
البنية المفهومية لفكر ماركس، ولم تُسعِفه رؤياه أن يتخطَّى مقولاته الاقتصادية والاجتماعية.
كان
شريعتي يستعيد معظم المقولات الماركسية، ويعطيها معانيَ جديدة، «يُقَولبُها وَفْق البِنى
التي
ينكرها؛ فالفكرة القائلة إن الرؤية التوحيدية (الإسلامية) للعالم تتحقق عبْر الإنسان
والتاريخ
والمجتمع في الأيديولوجيا الإسلامية، لتفضي إلى المجتمع المثالي، هي نوعٌ من هيغليةٍ
مشوَّهة،
مفصولة عن نظام العقل، وعن كل الجهاز المفهومي للجدل. ومثلما اختزل شريعتي «الروح المطلق»
إلى مفهوم
توحيدي غائم، فقد رد أيضًا كل الماركسية إلى المقولات الاجتماعية والاقتصادية، من دون
أي اعتبارٍ
للمعنى الفلسفي للبراكسيس. هذه الماركسية الغائمة المتفشية في فكره تتكشف في استعماله،
كيفما اتفق،
مصطلحات البنية التحتية والبنية الفوقية والحتمية التاريخية (المسماة أيضًا «علمية»)
والعلاقات
الجدلية والمشاعية البدائية … إلخ. باختصار: «كل الرطانة تُوجد هنا؛ بحيث إن شريعتي يلتهم
كل فضلات
الماركسية في الوقت الذي يدَّعي مناهضتها. إن إسلام شريعتي المؤدلج، بغَض النظر عن دوافعه
الدينية
والعاطفية، يُفصِح عن مقولات اجتماعية-اقتصادية مسطحة … إنه وهو يخفض البُعد المقدس للإسلام
إلى
مستوى التاريخ، يعلمنه وينهكه من الدفق المتواصل للصيرورة التاريخية.»
٥١ وحسب رأي شايغان، فإن «شريعتي يكتب لنا وصفاتٍ طبية، ويعطينا إياها قبل تشخيص المرض.»
٥٢
(٦) شايغان الثالث: الهوية أربعين قطعة
في المرحلة الثانية تجاوزَت مرجعيات شايغان الفلاسفة الغربيين الذين استلهم مقولاتهم
في
المرحلة الأولى؛ إذ تعاطى في المرحلة الثانية مقولات: «ميشيل فوكو، توماس كون، غاستون
باشلار،
ألتوسير، أدورنو، هوركايمر، هابرماس … إلخ»، مضافًا إلى «هايدغر» الذي طوَّر فهمه له،
فتخطَّى ظلالَ
تلويثِ قراءة فرديد لهايدغر؛ أي «هايدغر الفرديدي»، التي حوَّلَت «هايدغر إلى سم في إيران».
٥٣
أما في المرحلة الثالثة فقد تنوَّعَت إحالاته المرجعية، فاستوعبَت معظم الآثار الهامة
للفلاسفة
والمفكرين والأدباء والفنانين الغربيين المعاصرين، مثل «جيل دولوز، فليكس غاتاري»، وغيرهما.
ويمكن
اعتبار هذه المرحلة في مسيرة شايغان الفكرية تراكمًا وامتدادًا تطوريًّا للمرحلة الثانية
وليس
عبورًا لها، غير أن رؤياه النقدية فيها اتَّسعت وتجذَّرت، وأمسى قادرًا على استبصار تشوُّهات
المجتمعات الشرقية والغربية، وأقلع بشكلٍ تام عن الوعود الخلاصية التي كان يحسب أن الحضارات
الآسيوية تبشِّر بها، تبعًا لما تختزنه مواريثها من ذخائرَ معنوية وروحية. أدرك عطالتَها
التاريخية،
وعجزَها عن طرح الأسئلة، ووفرةَ الأجوبة الجاهزة لديها. وجد شايغان أن تلك الحضارات ما
زالت قابعةً
في ميراثها، منهكةً باجترار مروياتها الأبدية، بالرغم من أنه ومنذ قرونٍ جرى حل هذه المسائل
كلها،
وبات معلومًا له كيف كشَف الله ربوبيته، وبسَط نماذجه، ونشَر أسماءه، وأعلَن صفاته. لقد
دُرسَت هذه
العلوم كلها بدقةٍ مجهرية. واستنفدَت الشروحات الدقيقة مضمونَها كله. هذا العلم القديم
كالعالم لا
يجدَّد، لا يخرج أبدًا عن الصراط المرسوم، بل يتراكم فوق الأسس ذاتها، يتكدس، يتكوم،
يبلغ الجمود
التام. عندئذٍ يغدو تحجُّرًا محضًا، يجعل نفسه معدنيًّا تقريبًا، لا مثيل له في الفكر
سوى الخلود،
لا نجد فيه مفاجآتٍ صاعقة، بل نجد المقول والمنظور والمعلوم من قبلُ، الذي يُعاد اكتشافه
عند آخر كل
حقل، بعدما نكون قد تعلَّمناه بشكلٍ مناسب. وإن ما يظل محجوبًا ليس المجهول، بل المعلوم.
من هنا
الشروحات، ثم شروح الشروح، ثم شروح شروح الشروح.
٥٤ يقول شايغان: الشيء الذي أثار اهتمامي بشدة، هو أننا حينما نلقي نظرة على الحضارات
الآسيوية الكبرى، سواء الحضارة الإسلامية أو الحضارة الهندية أو الصينية، نجد أن قابليتها
على
الإبداع انتهت تقريبًا في القرن السابع عشر الميلادي، وإنه لأمرٌ غريب أن تُمنى كل هذه
الحضارات
سوية، وفي مقطعٍ زمني واحد بهذه الحالة؛ فالحضارة الكبرى تبلغ على كل حالٍ نقطة الذروة،
ثم تنحدر
نحو الحضيض، كبناءٍ ضخمٍ نضع لمساته الأخيرة، ثم نبتعد عنه لنتملَّاه وننظر إليه. منذ
ذلك اتخذَت
كافة هذه الثقافات منحًى انفعاليًّا، ومالَت إلى شرح تراث السلف والمتقدمين، ثم شرح تلك
الشروح،
فظهرَت كميةٌ هائلة من الشروح تنم أكثر ما تنم عن حالة تفرُّج ومشاهدة متأثرة، سواء في
الهند أو
الصين أو إيران.
٥٥
نقد شايغان مفهوم «الهوية، الأصيلة، النقية، الأبدية، الرتيبة، القارة، الساكنة،
البسيطة،
الأحادية البعد، المغلَقة»، فعمل على تفكيكه، ونقضه، وتقويضه، ثم صاغ مفهومًا آخر للهوية،
مشتقًّا
من عصرنا، وما تسوده من «أنطولوجيا مهشَّمة»، و«تزامُن للثقافات المتنوعة»، و«كيف أمسى
العالم في
هذا العصر شبحًا»، اصطلح عليها «الهوية أربعين قطعة»، وهي هُوية مركَّبة، منسوجة من شبكة
من
الترابطات الدقيقة، وكأنها ثوبٌ يُخاط بأربعين قطعةً من قماشٍ ذي ألف لون.
٥٦ ذلك أن التعدُّدية الثقافية واختلاط القوميات، وتمازُج الأفكار، والتهجُّن المطَّرِد،
كلها ظواهرُ تجعلنا مستعدِّين لهويةٍ مركَّبة. في هذه الثقافات تبدو الهوية عاملًا ونتيجةً
في نفس
الوقت للون من التمازج اللغوي والعرقي؛ أي إنها تعمل كالريزوم. يتحدث شايغان عن أن العلاقات
على
المستوى الثقافي تكتسب شكلًا جذموريًّا «ريزوميًّا»،
٥٧ فينبثق نموذجٌ مرقَّع أو مخرَّم، تصطَف فيه جميع الثقافات بجوار بعضها بطريقة
موزائيكية، خالقةً فيما بينها من الفراغات مساحات تلاقُح واختلاط ثقافي. وعلى المستوى
المعرفي،
تتجلى هذه الظاهرة في وجود طيفٍ من التفاسير المتنوعة. وحيث إن الحقائق العظمى التي كانت
عماد
الأنطولوجيات في السابق، قد سقطَت عن الاعتبار في الوقت الحاضر، فسيتحول وجودها المحطَّم
إلى عملية
لا متناهية من التفسير ذي المناحي المختلفة، فيغدو من صلاحية كل إنسان أن يُؤَوِّل مختلف
جوانب
الوجود بحسب قيمه الذهنية الخاصة. وعلى مستوى الهوية، يتبلور الارتباط المتقابل في ظاهرة
يمكن
تسميتها «الأربعين رقعة» تنمُّ على تنوُّع واتساع في هوياتٍ متعددة، تتسم بتجاور وتراكم
شتى أنواع
الوعي؛ بحيث تعجز أية ثقافة بمفردها عن تلبية المدَيات المتسعة للوعي البشري.
٥٨
يشرح شايغان: «الهوية الريزومية» بأنها عبارة عن جذورٍ تذهب لاستقبال جذورٍ أخرى.
ليس المهم في
مثل هذه الظروف استقلال الجذور وخلوصها المطلَق، إنما المهم أسلوب اقترابها من الجذور
الأخرى؛ أي
ارتباطها بغيرها من الجذور. الريزوم متعدد بطبيعته، وتعدديته متحررة من كل قيود الوحدة
والمركزية؛
فالنظام القائم على تعدد القطع يمثل ريزومًا يختلف عن الجذور وتفرعاتها. الريزوم هو عامل
الترابط
والتوليد، وبمقدوره صناعة شبكةٍ غير متناهية؛ فكل نقطةٍ منه بإمكانها التلاحم مع أي نقطةٍ
أخرى منه.
الريزوم حتى لو كُسر أو تمزق بوسعه استئناف حياته والنمو في جهاتٍ أخرى. ومع أنه متكون
من طبقات
وبحاجة إلى مكان، إلا أن بمقدوره الانفصال عن الأرض والسير عليها، وإيجاد شبكات ارتباط
جديدة.
باستطاعة الريزوم أن يربط بين أنظمة جد متفاوتة بل وغير متجانسة؛ فالريزوم لا يتشكل من
وحداتٍ
مختلفة، بل من تجمُّع جهاتٍ متباينة؛ أي إنه بلا بداية ولا نهاية، وهو في الطريق دومًا،
فماهيته
تتغير بلا توقف، فهو إذن يعيش استحالةً أبدية، ويختلف عن الشجرة في أنه ليس من نتاج التلاقح،
إنما
هو عدو الأنساب، ذاكرتُه قصيرة، بل يمكن القول إنه ضد الذاكرة أيضًا. الريزوم نظام يفتقد
المركزية
والتراتبية، وخلوٌ من التوجيه والقيادة. إن الريزوم أسلوب للربط بين أمورٍ متكثرة عديدة،
تتغير
ماهيته بموازاة ازدياد ترابطاته. الهوية النقية لم يعُد لها وجودٌ موضوعي، بسبب انهيار
العوالم
المؤسسة لها، ثم إنها إذا تكبلَت بقيودٍ ثقافية نقية وخالصة كما تُسمَّى، فستئول غالبًا
إلى تحجُّر
الهوية. إن كل هُوية مهما كان انتماؤها العِرقي والقومي، هي على كل حال تركيبةٌ وكيانٌ
هجين، يحمل
ترسبات كلِّ الأشكال والطبقات النفسية الناتجة عن تلاقحاتٍ سابقة، ويكتنف في داخله بقايا
تنقلاتٍ
سكانية سالفة، فيُنميها في بوتقته ويُطورها. وإنه على الرغم من محاولات التطهير العرقي،
وما يواجهه
التمازج من صدود ومقاومة، فإن العالم سائر لا محالة صوب التمازج، الظاهرة التي تشكِّل
مصير الكوكب
الأرضي، وتدل بلا جدال على شكلٍ مرقَّع ينتظره عالَم الغد. ومن أجل ألا نتوزَّع «أربعين
قطعة»، نلوذ
كطفلٍ بائس رقيق بصدرٍ دافئ يمثل انتماءً واحدًا، ولا نسمح بدخول الآخرين. كلنا قِطعٌ
مكونة من
أربعين قطعة تُخاط باستمرار، أو قل مجاميع غير منتظمة من عدة قطعٍ ملتصقة ببعضها، والتصاقها
ببعضها
أفقيًّا أسهل بكثير منه عموديًّا. الفضاءات المتنوعة التي تخلع علينا ثيابها ذات الأربعين
قطعة، أدت
إلى أن نكون رغم إرادتنا منفيين أبديين نترقب على الدوام أجراسًا تقرعها واحات السراب
في البيداء.
كلما كانت هُويتنا الأولى عرضة للتمزُّق أكثر، لُذنا بقوقعتنا أكثر، وتجنَّبنا الأسفار
والمغامرات.
يوضح شايغان المراد بالأربعين قطعة: إنه الفضاءات المتنوعة المركَّبة التي تصنع كياننا
من الناحية
التاريخية والمعرفية، وهي ليست في مستوًى واحد؛ فكل إقليم يمثل مستوًى من مستويات الوعي.
وكأننا
ونتيجة لعمليات صعبة الإدراك نجمع في دواخلنا كل أحقاب التاريخ الإنساني بشكلٍ مختلط.
ولهذه
المستويات طبعًا حياتها بالقوة، التي لا تنتقل إلى حيِّز الفعل حين الارتباط والتواشج.
ولكن بما
أننا نعيش في عالمٍ ذي مستويات ظهور متفاوتة، والأطر المعرفية التي تكتنف هذه المستويات
متنوعة
جدًّا، فإن تجلِّيها غير ممكن إلا عبْر الاختلاط.
٥٩ ينحاز شايغان لقيم الأنوار، ويعتبر منجَزات عصر الأنوار منجزاتٍ لكل الإنسانية. ويدعو
الشرق لتقبُّل مرتكزات الأنوار الرئيسة. كذلك يأمل أن يعيد الغرب لإقليم الروح الضائع
قيمته
ومكانته؛ فالأديان التاريخية ليس لديها من جديدٍ تُدلي به على صعيد النظم الاجتماعية
والسياسية
والحقوقية. كما يرفض القول بنسبية القيم الثقافية، وبأن كل الثقافات متساوية، ولا يوافق
طروحات دعاة
التعددية الثقافية الغلاة المتطرفين، التي تتجاهل التمييز ضد المرأة، ورفض الحقوق والحريات؛
لأنها
طروحاتٌ جوفاء عديمة القيمة في الغالب. لكنه يعتقد بتعدد مستويات الوعي «من أقدم وأسذج
المستويات
حتى أحدثها»؛ فهذه الإدراكات ليست في مستوًى واحد، ولا هي ذات وجودٍ متساوٍ، وهذا لا
يعني أن بعضها
أفضل من بعض. وإنما فقط أن كل واحد من هذه المستويات صحيحٌ قويم داخل أرضيةٍ خاصة، وثمَّة
بين هذه
الأرضيات شروخ وفواصل تاريخية وفصامات معرفية.
٦٠
يمتلك شايغان مهارة فائقة، في التعبير عن أفكاره، ببيان مكثف دقيق، لكنه واضح. عباراته
لا
يرهقها فائض لفظي، ولا تغرق بغموض والتباسات مبهمة. يهتم بترتيب موضوعاته في سياق منهجي
منظم. وتظهر
براعته في القدرة على توظيف المصطلحات، التي ينحتها أو يستعيرها، بنحوٍ اغتنت آثاره بمعجمٍ
اصطلاحي
مميز، ينفرد هو بعدد مما يتضمنه هذا المعجم؛ فمثلًا يعثر قارئ شايغان على مصطلحات: «شيزوفرينيا
ثقافية، احتضار الآلهة، الذاكرة الأزلية، النظرة المشوهة، المرايا المهشَّمة، طوبوغرافيا
الوجود
المتعددة الأبعاد، الجهل العالم، الجغرافيا الرؤيوية، التراتبية الأنطولوجية، الثنوية
الميتافيزيقية، الوهم المزدوج، مرحلة البين بين، أدلجة المأثور الديني، تهجين المفاهيم،
إجازات داخل
التاريخ، هوية مركَّبة، هوية أربعين قطعة، هوية ريزومية، أنطولوجيا مهشَّمة، تزامن للثقافات
المتنوعة، أمسى العالم شبحًا … إلخ».
٦١
هذا هو شايغان، بنمط تكوينه الأكاديمي المميز، واطِّلاعه الواسع على الأديان الآسيوية
والعرفان، والحداثة وما بعد الحداثة، وبإتقانه لعدة لغاتٍ شرقية وغربية، وصياغته لأفكاره
ببيانٍ
مكثف، ولغةٍ فخمة مكثفة، بالغة الثراء والحيوية، ومهارته في نحت مصطلحاتٍ موحية شديدة
الحساسية،
ورؤياه المضيئة، وتأملاته العميقة الفسيحة لماضي وحاضر مجتمعاتنا ومصائرها، ومقدرته الفذة
على
الإصغاء لإيقاع الحياة ومتطلباتها المتغيرة، ومواكبته للمكاسب الراهنة للمعرفة البشرية،
وتحرُّر
عقله من الديماغوجيات الأيديولوجية، وتوهُّج وعيه وبراعته في عبور سجون المعتقدات.
لا يمنح شايغان الباحثين المهتمين بفكره هامشًا مناسبًا لنقده؛ لأنَّه يبادر لنقد
فكره، ويهتم
بتحديث رؤيته وتجديد مفاهيمه، ولا يكف عن عبور المحطات في مسيرته الفكرية، تبعًا لمواكبته
الجادَّة
لرهانات الفكر والواقع؛ فهو يعلن أكثر من مرة، بصراحة أنه على الدوام: «في حالة سير وسلوك
ومراقبة،
أنا ما زلت في حالة السير والسلوك في الرؤى الكونية المختلفة؛ ذلك أني أعرف أن عالمنا
ما زال في طور
الصيرورة ولم يكتمل بعد.»
٦٢
لم يترك لنا شايغان مساحة لمحاكمة أفكاره؛ لأن يقظته العقلية ظلت تحرِّضه باستمرار
على عدم
التوقُّف عن الترحال والأسفار بين الثقافات والأديان، وأن شجاعته العقلية منحَته الجرأة
على مراجعة
ونقد وغربلة معتقداته ومقولاته وأفكاره في كل محطة من محطات تفكيره، التي كان يعبرها
من دون تردد
إلى محطةٍ لاحقة. يبرع شايغان في استدعاء مختلف المنهجيات والمفاهيم والآراء في كتاباته،
بنحوٍ تغدو
نصوصه بمثابة وليمة متنوعة المكوِّنات، تُحيل إلى جغرافيا عقلية وروحية شرقية وغربية
تعود إلى
أزمنةٍ مختلفة، وهو في كل ذلك يمتلك مهارةً فائقة في تركيبها وتوليفها ودمجها في سياق
تنتظم فيه دون
أن تتنافر ويطرد بعضها الآخر. وكأن كتابته ترسم لنا لوحة ذات «أربعين لونًا»، إنها كمرآةٍ
زئبقية
تتكرر الصور بالتوالي عليها، وهي لا تكفُّ عن إضافة صورٍ جديدة إليها، وتكريس ما تمتلكه
من صورٍ
سابقة.
في النصف الأول من ديسمبر ٢٠١٢م، حاولتُ الحضور كلَّ يومٍ الفترة المسائية لمعرض الكتاب
السنوي
في بيروت، فلم أعثر على أي كتاب لشايغان في دور النشر العربية، حتى كتابَيه «النفس المبتورة»،
و«ما
الثورة الدينية»، فضلًا عن كراسته التي أصدرتها دار الساقي «أوهام الهوية»، يبدو أنها
نفدَت منذ
سنوات ولم تتكرر طباعتها. مما يُؤسَف له أن دور النشر في بيروت تحتفل طيلة أيام المعرض
بإصداراتٍ
هامشية، تصطلح عليها «دواوين شعر»، و«روايات»، ليست ذات قيمة إبداعية أو فنية أو أدبية
أو معرفية
حقيقية. غالبًا ما تُنشر باسم فتياتٍ حسناوات، وتُنظَّم لها، ما سيسميه الناشرون في بيروت،
«حفلات
توقيع كتاب»، هي أشبه بحفلات الزفاف والسمر؛ إذ تزدحم أجنحة دور الكتب المنظمة لحفلات
التوقيع
بمراسلي وسائل الإعلام والمصورين وزملاء أصحاب النصوص المطبوعة. ولم أشهد حفلًا لتوقيع
أيِّ إنتاجٍ
فكري جاد.
من النادر أن يعرف داريوشَ شايغان الفيلسوف المغمور تلامذةُ الفلسفة والعلوم الإنسانية
في
البلاد العربية، وربما لا يعرفه الكثير من أساتذتهم، ممن يحرصون على مضغ نصوصٍ وكتاباتٍ
ضحلة،
تغرقهم بفائضٍ لفظي، لا يقول شيئًا ذا معنًى. بالرغم من أن شايغان كتب معظم مؤلَّفاته
بالفرنسية،
وهي لغة يتعاطاها معظم دارسي الفلسفة والعلوم الإنسانية في لبنان والمغرب والجزائر وتونس.