(١) عائلة نصر وتربيته وتعليمه
ولد «سيد حسين نصر» في طهران في السابع من نيسان «أبريل» ١٩٣٣م، لعائلةٍ تنحدرُ من
سلالة أطباء
ورجال دين معروفين. كان والدُه ولي الله نصر طبيبًا معروفًا، وأديبًا، ونائبًا في البرلمان،
ووزيرًا
للثقافة، ومن أبرز الذين صاغوا نظام التعليم الجديد في إيران. ينتهي نسبه إلى النبي محمد
ﷺ، لذلك
يقدِّم حسين نصر كلمة «سيد» قبل اسمه حيثما ورد. هذه الكلمة لقب تبجيل يؤشِّر للانتماء
إلى هذا
النسَب الشريف، المتداول في المجال الشيعي، وتُقابلها كلمة «شريف» عند غيرهم. كان جدُّه
الأعلى
لأبيه «ملا ماجد» من المجتهدين المشهورين في الحوزة العلمية في النجف في القرن الثامن
عشر
الميلادي/الثاني عشر الهجري، قد دعاه نادر شاه للعودة إلى إيران، فقضى في طريق عودته،
وتوطَّنَت
عائلته كاشان. يعود لقب «نصر» إلى جده سيد أحمد، الذي هاجر من كاشان إلى طهران، وأصبح
طبيبًا شهيرًا
في العصر القاجاري، فخلع عليه الشاه لقب «نصر الأطباء». أما والدتُه فهي حفيدة فضل الله
النوري،
الذي أُعدم سنة ١٩٠٦م أيام الثورة الدستورية، والمعروف ﺑ «شهيد المشروطة». وهي ابنة عم
نور الدين
كيانوري، الأمين العام لحزب توده الإيراني «الحزب الشيوعي».
في العام ١٩٤٥م غادر نصر إيران إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعمر اثنَي عشر عامًا
ونصف.
وهناك أكمل دراسته الثانوية، وانخرط بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا
MIT في خريف ١٩٥٠م، وحصل في العام ١٩٥٤م على درجة الليسانس في
الفيزياء، ثم التحق بجامعة هارفرد، ونال منها الماجستير في الجيولوجيا والجيوفيزياء.
وفي العام
١٩٥٨م حصل على الدكتوراه في الفلسفة وتاريخ العلوم، عن رسالته الموسومة: «مفاهيم الطبيعة
في الفكر
الإسلامي في القرن الرابع الهجري: دراسة حول مفاهيم الطبيعة والمناهج المستخدمة في دراستها
من قِبل
إخوان الصفا والبيروني وابن سينا».
١ فضلًا عن أن حسين نصر أصاب تأهيلًا أكاديميًّا متميزًا، فقد ظفر أيضًا بتكوينٍ لغويٍّ
متنوع، فهو بموازاة إجادته الفارسية والعربية والفرنسية والإنجليزية، تعلَّم بعضًا من
الألمانية،
وشيئًا محدودًا من الإيطالية واليونانية واللاتينية.
٢
تعرَّف نصر على مجموعة من المفكرين الكبار، وأفاد منهم أثناء دراسته في الولايات
المتحدة، مثل
هاملتون جب (١٨٩٥–١٩٧١م) وآتين جيلسون
٣ (١٨٤٤–١٩٧٨م)، وجورج سارتون (١٨٨٤–١٩٥٦م)، وهاري ولفسن
٤ (١٨٨٧–١٩٧٤م).
عاد نصر سنة ١٩٥٨م، إلى طهران، وهو بعمر ٢٥ عامًا، فعمل أستاذًا مساعدًا لتاريخ العلوم
والفلسفة بكلية الآداب في جامعة طهران، وأمينًا لمكتبة الكلية لمدة عشر سنوات. استطاع
أن يحصل على
درجة الأستاذية بعمر٣٠ عامًا. اهتم نصر بعد عودته مباشرة إلى إيران بدراسة الفلسفة الإسلامية
والعرفان، وحرص على تلقِّي هذه المعارف ودراستها تبعًا للأسلوب التقليدي الخاص بالطبقة
الممتازة من
الأساتذة المكرسين فيها. باشر في العام ١٩٥٨م بحضور دروس محمد كاظم عصار (١٨٨٥–١٩٧٤م)
في «شرح
منظومة الملا هادي السبزواري»، المنظومة هذه متن في الحكمة المتعالية، مدوَّن في القرن
الثالث عشر
الهجري. كذلك درس مقدمة «أشعة اللمعات» لعبد الرحمن الجامي، وهو متن في العرفان النظري،
مدوَّن في
القرن التاسع. منذ تلك السنة تعرَّف على محمد حسين الطباطبائي (١٩٠٢–١٩٨١م)، وارتبط بعلاقة
قريبة
معه مدة عشرين عامًا. درس عليه أيام كان يأتي من قم إلى طهران، في عُطل الحوزة العلمية،
الحكمة
المتعالية والعرفان والفلسفة المقارنة. وكان يواظب بمعية داريوش شايغان وآخرين على حضور
الحلقة
النقاشية بين الطباطبائي والمستشرق الفرنسي هنري كوربن، التي تواصلَت في أشهر الصيف الثلاثة
سنواتٍ
عدَّة في طهران. كما حضر في طهران، وأحيانًا في قزوين، على أبو الحسن رفيعي قزويني، لمدة
خمس سنوات،
دراسة «الأسفار الأربعة» لملا صدرا الشيرازي. ودرس كتاب «الإنسان الكامل» لعبد الكريم
الجيلي، عند
مهدي إلهي قمشيئي، وقسمًا من «شرح الإشارات» لنصير الدين الطوسي، لدى جواد مصلح.
٥
في السنوات الأربع، ١٩٦٨–١٩٧٢م، أضحى نصر عميدًا لكلية الآداب، وكان لمدة معاونًا
لرئيس جامعة
طهران. وفي ١٩٧٢–١٩٧٥م، صار رئيسًا لجامعة آريامهر الصناعية (جامعة شريف الصناعية اليوم).
وأسس
بمعية مجموعة من أساتذة الفلسفة «الجمعية الملكية للفلسفة في إيران»، وكان أول رئيس لها
للسنوات
١٩٧٥–١٩٧٨م، برعاية زوجة الشاه محمد رضا بهلوي، ملكة إيران «فرح ديبا».
أخيرًا أمسى حسين نصر رئيسًا للمكتب الخاص للملكة فرح أيام الثورة الإسلامية ١٩٧٨-١٩٧٩م.
يشير
هو إلى أنه في تلك المدة كانت مسئولية إدارة مكتب الملكة بالغة الأهمية، باعتبار أن «هذا
المنصب
يتطلب تفويضًا من الشاه، ذلك أنه في سُلَّم التشريفات، يحتلُّ رئيس مكتب الملكة المكانة
الرابعة في
البلاد، بعد رئيس الوزراء، ووزير البلاط، ورئيس المكتب الخاص للشاه. إن رئاسة المكتب
الخاص لفرح، في
تلك الأيام خاصة، ذات أهمية خاصة؛ لأن الشاه كان مريضًا. في ذلك الوقت لم نكن على علم
بإصابته
بالسرطان؛ لذلك كانت معظم المسئوليات بعُهدة الملكة.»
٦ يبرِّر نصر إدارته لمكتب الملكة في تلك الأيام، لحظة الثورة الإسلامية بأن «البلاد كانت
تمُرُّ بظروفٍ خاصة، وتصدَّيتُ لهذه الوظيفة بشروطٍ خاصة … كنتُ أشعر أنا الشخص الوحيد
المؤهَّل
للقيام بوساطة بين الشاه وآية الله الخميني، من أجل تشكيل حكومة سلطنةٍ إسلامية، يكون
للعلماء فيها
دور في بيان رأيهم، مع الاحتفاظ بالنظام الملكي للبلاد.»
٧
في ٦ كانون الثاني (يناير) من العام ١٩٧٩م، غادر نصر طهران إلى لندن، بمعية زوجته
وابنته، في
رحلة عمل، وبعد مضي مدةٍ وجيزة، يقول: إن الملكة «هاتفَته، فقالت: الشاه يعتزم الذهاب
إلى مصر في
العطلة، وأنت يجب أن تمكث في لندن، ريثما ينجلي الأمر، ومنذ ذلك الوقت لم أعُد إلى إيران.»
٨
تعذَّرت عليه العودة إلى بلاده، بعد انتصار الثورة الإسلامية بمدةٍ قليلة، ومنذ ذلك
الحين حتى
اليوم، وهو يعيش في الولايات المتحدة، بعيدًا عن وطنه، الذي تركه بعمر ٤٥ عامًا. يعمل
هناك أستاذًا
جامعيًّا وباحثًا علميًّا، ويهتم بحضور المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية في مختلف
أنحاء
العالم. يمتلك حسين نصر شبكةً واسعةً من العلاقات بالجامعات ومراكز البحث العلمي والمؤسسات،
والمرجعيات الدينية، والشخصيات الدينية والعلمية والأكاديمية والفكرية في العالم. وهو
أحد أبرز
العلماء المسلمين والأكثر حضورًا والأشد تأثيرًا في بعض النُّخب في الغرب المتعطشة للهوية
والروحانية والموروث الشرقي.
عبْر كتاباته استعاد نصر حضوره في بلده إيران بالتدريج بعد مضي عقد على الثورة. وتسارعَت
وتيرة
إصدار آثاره وترجمتها من الإنجليزية إلى اللغة الفارسية في السنوات الأخيرة، وتنامى أخيرًا
اهتمام
بعض الباحثين والدارسين والإعلاميين، من التيار المناهض لتجديد الفكر الديني، بل من بعض
النخب
الإصلاحية أيضًا، المسكونة بالنزعة الروحية، فتضافرَت جهود الفريقَين على نشر وترويج
أفكاره
ومقولاته، في الدوريات والصحف والندوات. ونُوقشَت عدة رسائل دراسات عليا في الجامعات
الإيرانية،
تدرس وتنقد رؤاه ومفاهيمه حيال الدين والموروث الشرقي والحداثة والغرب والآخر.
الفضاء الميتافيزيقي والروحي الإيراني
البيئة الثقافية الإيرانية مشبعة بمناخاتٍ ميتافيزيقية وروحية، تتغذى باستمرار من
التشيع
والموروث الإيراني والأدب الفارسي، الذي يفيض بمعاني العرفان ونكهة العشق الصوفي. في
هذه المناخات
نشأ نصر وسط عائلة يهتم فيها الأبوان في الليالي بقراءة النصوص الكلاسيكية للنظم والنثر
الفارسي،
خاصة شعراء الفارسية المشهورين، مثل: حافظ الشيرازي، وسعدي الشيرازي، وجلال الدين الرومي،
وأبي
القاسم الفردوسي. يتذكر نصر أنه بدأ بعمر ثلاث أو أربع سنوات يصغي لهؤلاء الشعراء الأربعة،
ثم استمع
إلى نظامي كنجوي. كان والده يحرص على أن يقرأ ولده الصغير ذلك الشعر بحضور ضيوفه من العرفاء
والأدباء والمثقفين، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره. وكان يصطحبه في لقائه الأسبوعي لقراءة
وتحليل
وشرح الشعر الصوفي، مع محمد كاظم عصار، وهو من أبرز أساتذة الفلسفة والعرفان، وعبد الله
حائري
الملقَّب ﺑ «رَحمَت علي شاه»، رئيس جماعة إحدى الفرق الصوفية، وهادي حائري، وبديع الزمان
فروزانفر،
وكلاهما من المتخصصين البارعين في تفسير مثنوي جلال الدين الرومي … وغيرهم. يتحدث نصر
عن توجُّه
آبائه وأجداده للتصوف وتأثيره في نمط ثقافة وتربية العائلة، بعيدًا عن التعصب، وأثر ذلك
في نشأته
وانجذابه لميراثه الغني بالمضامين الروحية.
٩
الشخصية الإيرانية ذات نزعةٍ معنوية بطبيعتها، بمعنى أنها شخصيةٌ باطنية، عميقة،
مركَّبة،
طقوسية، مسكونة بالأسرار، تغرق بالتأمل، وتعشق التجارب الروحية، وتدمن الارتياض، وتتسم
بالصبر
والجلد، والمثابرة. ربما تعيش في المجال العام وحياتها العملية نمطًا مدنيًّا حديثًا؛
أي بعيدًا عن
المدونة الكلامية والفقهية، لكنها في المجال الشخصي الخاص مولَعة بالأدعية والأذكار،
والزيارات، ولا
تكفُّ عن تكريس شعائر عاشوراء، وتراجيديا مآتم كربلاء.
١٠
(٢) الحكمة الخالدة
بعد ذهاب نصر للدراسة في الولايات المتحدة، اختار دراسة الفيزياء ليتعرف على الطبيعة
الفيزياوية للواقع، غير أنه حينما استمع لمحاضرات الرياضي والفيلسوف الإنجليزي برتراند
راسل
(١٨٧٢–١٩٧٠م) صدمه «اكتشاف أن الكثير من أكبر الفلاسفة الغربيين لم يكونوا يؤمنون بدور
العلوم عامة،
والفيزياء خاصة، في الكشف عن الطبيعة الفيزياوية للواقع.»
١١
في تلك الظروف تعرَّف من خلال مؤلفات أستاذه الإيطالي جورجو دسانتيانا
١٢ (١٩٠٢–؟) على ملابسات العلاقة المعقَّدة بين الفلسفة والعلم والدين في الغرب. كما قرأ
مؤلَّفات أ. ك. كوماراسوامي
١٣ (١٨٧٧–١٩٤٧م) ورينيه غينون
١٤ (١٨٨٦–١٩٥١م) وفريدهوف شووان
١٥ (١٩٠٧–١٩٩٨م) وتيتوس بوركهارت
١٦ (١٩٠٨–١٩٨٤م).
كان «أ. ك. كوماراسوامي» خبيرًا مميزًا في الفكر الهندي، ومهتمًّا بدراسة الرموز والفنون
الهندوسية والبوذية. وُلد في سيلان، لأبٍ من التاميل وأمٍّ إنجليزية، وبعد وفاة والده
هاجر بمعية
والدته إلى بريطانيا. اهتم في مرحلة حياته الأولى (١٩٠٠–١٩١٧م) بالحياة الاجتماعية والسياسية
للهند.
وفي المرحلة الثانية (١٩١٧–١٩٣٢م) أضحى مؤرخًا للفنون الهندية، ثم أمسى فيلسوفًا ﻟ «الحكمة
الخالدة»
في المرحلة الأخيرة من حياته (١٩٣٢–١٩٤٧م).
أما رينيه غينون فقد وُلد في فرنسا، وانخرط في بداية حياته في جماعة تهتم ﺑ: الثيوصوفية،
والهرمسية، والروحانيات، والكيمياء، والخيمياء، والليمياء، والهيمياء، والسيمياء، والريمياء،
١٧ والرمزيات، وعلم الحروف. بعد ذلك درس التصوف الإسلامي، واعتنق الإسلام سنة ١٩١٢م،
وتسمَّى باسم «عبد الواحد يحيى». أمضى مدةً من حياته مدرسًا للفلسفة في فرنسا، وفي الجزائر
نهاية
سنة ١٩١٧م، والأشهر الأولى من سنة ١٩١٩م. هاجر إلى مصر في سنة ١٩٣٠م، وأقام في منزل بقرب
الأزهر،
وتزوج من المصرية فاطمة بنت إبراهيم في سنة ١٩٣٤م. في سنة ١٩٣٧م انتقل إلى فيلا صغيرة
في الدقي، حيث
«لا يسمع ضجة أو يزعجه أحد» حسب تعبيره، وتكريمًا لزوجته المصرية سُمِّيت الفيلا باسمها
«فيلا
فاطمة». مكث في القاهرة حتى وفاته، وعاش حياةً بسيطة. كتب عدة مؤلَّفات تتناول المعتقَدات
الهندية،
والميتافيزيقا الشرقية، والأزمة الروحية في العالم الحديث. وتحوَّلَت مقولاته إلى منطلقات
للمنحى
الروحي لجماعة «الحكمة الخالدة»؛ إذ استقَوا منها رؤاهم ومفهوماتهم.
أما فريدهوف شووان فقد وُلد في سويسرا، لأبٍ ألماني وأمٍّ فرنسية، هاجر بمعية والدته
إلى فرنسا
بعمر ثلاثة عشر عامًا من حياته، وفي عام ١٩٣٢م، اعتنق الإسلام. تمحورَت آثاره وجهوده
حول دراسة
الأديان المقارنة في سياق: «الحكمة الخالدة»، وأهم مؤلَّفاته: «الوحدة المتعالية للأديان».
ووُلد تيتوس بوركهارت في سويسرا، وأمضى شبابه في شمال أفريقيا، تشبَّع بمناخات التصوف،
واهتم
منذ بواكير حياته بمطالعة آثار المتصوفة. اقتفَى في كتاباته نهج شووان، كما سار على خُطى
كوماراسوامي، بدراسة الرموز والفنون الهندوسية والبوذية.
عرَّف هؤلاء حسين نصر على الميتافيزيقا الشرقية، والهندوسية، والحياة الروحية وأديان
الشرق
الأقصى. يكتب هو عن مجموع هذه التأثيرات: «التعرُّف على الهند، وعلى الشرق الأقصى في
حدودٍ أقل، إلى
جانب إشكالات المفكِّرين التقليديِّين الغربيِّين على الحياة المعاصرة، ساعدَت أكثر من
أي شيءٍ آخر
على مسح غبار الفكر الغربي الحديث ونماذجه عن ذهني وروحي.»
١٨ في المرحلة الثالثة من دراسته الجامعية في أمريكا طالَع نصر آثار غينون، وكوماراسوامي،
ثم فريدهوف شووان. بعد مطالعتهم قاده أفق رؤيتهم الكونية كما يقول إلى: «الإحساس باليقين
الكامل».
١٩
يُسمَّى أتباع هذه الرؤية الكونية ﺑ Traditionalist، ومعناها
بالعربية يقارب «التقليدية»، وبالفارسية «سنت گرايي». «سنت» بالفارسية بمعنى «التراث»
وأحيانًا
بمعنى الناموس الاجتماعي أو الكوني. تسمية «سنت گرايي» لا تعني ذلك، حسب دعاتها؛ لذلك
آثرنا أن نشير
إليهم بمضمون دعوتهم وهو ما يطلقون عليه: «الحكمة الخالدة»، وهذا المفهوم لا يرادف مفهوم
السلفية،
أو التراثية، أو الإرثية، أو التقليدية. وإن التقت هذه الجماعة مع هؤلاء أحيانًا في تبجيل
كلِّ شيء
يمتُّ للموروث بصلة وقبوله.
لا يريد نصر وجماعة «الحكمة الخالدة» من تلك التسمية الأعراف والتقاليد والرسوم والعادات،
ولا
الأسلوب والمنهج والمسلك والتقليد، بل المراد منها، كما يكتب حسين نصر:
Traditionalist بمعنى الحقائق أو الأصول ذات المنشأ الإلهي، التي
تنتقل عن طريق الشخصيات المختلفة المعروفة بالرسل، الأنبياء، كلمة الله، أو عوامل أخرى
للبشر.
الحقيقة ظاهرة بلا قناع، تنكشف لمجموعةٍ كونية واحدة. تتغلغل هذه الأصول في مختلف المجالات
الاجتماعية والقانونية والفنية والرمزية وكذلك في العلوم.»
٢٠ هذه الحقائق لا تصطبغ بألوان الزمان والمكان والأحوال المختلفة. لا هي قديمة ولا جديدة،
لا هي شرقية ولا غربية؛ لأنها بلا وطن، العالم كله وطنها، لا تُعد غريبةً أو أجنبيةً
أينما كانت، بل
هي معروفةٌ محترَمة في كل مكان. هؤلاء الجماعة مؤمنون ملتزمون — نظريًّا وعمليًّا — بهذه
المجموعة
من الحقائق المتعالية على الزمان والمكان.»
٢١
(٣) الأركان الأساسية لدعوة جماعة الحكمة الخالدة
يمكن تلخيص الأركان الأساسية لهذه الجماعة بما يلي:
(١)
الحكمة الخالدة: هذا المصطلح متداول في تراثنا، فقد
ألَّف أحمد بن يعقوب، أبو علي الملقب ﺑ «مسكويه» (٩٣٢–١٠٣٠م) كتاب «جاويدان خرد» الحكمة
الخالدة.
وهي تعني لدى شيخ الإشراق السهروَردي (١١٥٥–١١٩١م) «الحكمة اللدُنِّيَّة» أو «الحكمة
الإلهية»،
بمعنى أنها حكمة مستودَعة عند الله، هو يُفيضها. إن هذه الحكمة أزليةٌ مستودعةٌ في تعاليم
الأنبياء،
والفلاسفة والحكماء، استقَوها منهم، كما يرى حسين نصر.
٢٢ ويعرِّفها بقوله: «الحكمة الخالدة هي المعرفة الأبدية، التي تتصف بأنها شمولية ترتبط
بالأصول الكونية. إنها موجودة بين مختلف الأمم والقوميات، في كافة الأماكن والعصور. العقل
الشهودي
يمكنه الحصول عليها. هي موجودة في قلب الأديان والسنن كافة، ويمكن إدراكها من خلال تلك
السنن
والمناهج والمناسك والرسوم والصور المتخيلة، وغيرها من وسائل. الرسالة السماوية أو الذات
الإلهية،
هي الخالقة لكل سنَّة. هذه الذات هي التي جعلَتها مقدَّسة.»
٢٣
يقارب الحكمة الخالدة في المصطلح اللاتيني «
Philosophia
Perennis»، وهو يعادل الاصطلاح الإنجليزي «
Perennial
Philosophy». أما بالفارسية فهي «جاويدان خرد». أطلق هذه التسمية الحكيم الألماني
ليبنتس. ويرى هوكسلي أن ما أراده ليبنتس ودعاة
Traditionalist الذين
استعملوا هذا المصطلح هو مجموعة تتألف من: «ميتافيزيقا تصدق حقيقة إلهية ضرورية لتحقُّق
عالم
الجمادات والنباتات والحيوانات، وعلم نفسٍ يجد في نفس الإنسان شيئًا يشبه الحقيقة الإلهية،
أو هو
عين الحقيقة الإلهية، وآفاق ترى غايةَ البشر القصوى العلمَ بمبدأ لكل الموجودات يسكُن
داخل
الموجودات وخارجها.»
٢٤
تميز جماعة الحكمة الخالدة بين العقل الجزئي، والعقل
الكلي؛ الأول عقل استدلالي، والثاني هو ذات العقل الأول. ويعدُّون أنفسهم من أتباع الثاني؛
أي
الشهود أو البصيرة، وليس من أتباع العقل الاستدلالي. يعتقدون أن على الإنسان أن يبدأ
باستخدام عقله
الاستدلالي الجزئي، لكن لمجرد أن يتجاوزَه ويتخطَّاه وصولًا إلى شهود الحق عقليًّا؛ أي
العلم بالحق
مباشرةً وبلا وسائط. الاستدلال والعلم الحصولي وسيلة تساعدنا على بلوغ الشهود العقلي،
الذي يُعَدُّ
أقرب السبل لبلوغ الغاية. من هذه الزاوية، يحظى العقل الاستدلالي بقيمةٍ عالية. إذا عدَدناه
أفضل
الآليات للوصول إلى الغاية؛ أي لو نسبنا له شأن الشهود العقلي، أو إذا أنكرنا وجودَ الغاية،
وقرَّرنا أن العقل الاستدلالي مجرد أداة يُراد منها التقدم إلى الأمام، انقلب هذا العقل
ونتاجاته
إلى عدوٍّ لَدودٍ لنا، وجرَّ علينا العمى المعنوي، والشر الأخلاقي، والكوارث الاجتماعية.
إنَّ
الشهود، أو البصيرة العقلية، تمثِّل في نظرهم المبدأ وكذلك المقصد بالنسبة للعقل الاستدلالي،
إنها
نقطة انطلاقه والغاية المرجوَّة منه. بدون البصيرة العقلية لن تتوافر المواد الخام الكافية
التي
يُراد للعقل الاستدلالي أن يستخدمَها ويضاربَ بينها ويعالجها وصولًا إلى معلوماتٍ جديدة.
من جانبٍ
آخر، ينبغي أن تتحول المعلومات الجديدة التي يُتحفنا بها العقلُ الاستدلاليُّ إلى مشهودات
وبصائر،
وإلا لم تكن مفيدة، ولم تكفل لنا الوصول للغاية القصوى التي يرسمونها للإنسان. الاغتباط
بالمعلومات
وعدم السعي لتبديلها إلى بصائر، ليس سوى خسرانٍ مبين. هذه البصيرة أو الشهود العقلي،
هي نوعٌ من
الإدراك أو العلم المباشر غير الاستدلالي ولا الاستنتاجي.
٢٥
(٢)
العلم المقدس:
تتكرر مصطلحات: القدسي، الأمر القدسي، المقدس، العلم المقدس، الفن المقدس، العمارة المقدسة،
اللغة
المقدسة، الهندسة المقدسة … في آثار نصر وعناوين كتاباته،
٢٦ بنحو تضمَّنَت عناوين بعض مؤلفاته أو فصول منها كلمة «قدسي» أو «مقدس».
٢٧
«المقدس» في اللغة اللاتينية Sacra، والفرنسية
Sacre، والألمانية Heilige. وقد
ألَّف فيلسوف الدين «رودلف أوتو» كتابًا تحت عنوان: «الأمر القدسي». يشير نصر إلى أنه
يستخدم مصطلح
«المقدس» فيما يليق بالحضرة الإلهية، وبالمعنى الوارد في القرآن «القدُّوس»، وكذلك في
وصف الأمور
المرتبطة بالإله، والتي مصدرها هو، وإن كانت عرَضية بحدِّ ذاتها. ويؤكد أن الأسلوب الذي
يستعمل به
الكلمة، هو معناها الميتافيزيقي، الذي يُراد منه تارة ذات الباري، التي لا يطرأ عليها
تغير، وهي
الواقعية الإلهية الصِّرفة، ويُراد منه تارةً أخرى التجليات القدسية المعبِّرة عن تلك
الواقعية
الصِّرف، والمتجلية، في آنٍ، في بعض الأمور الدنيوية، التي تمثِّل ظواهرَ مشهودةً لتلك
الحقيقة
الواقعية. ويؤشر نصر إلى علاقةٍ وثيقة عميقة بين Traditionalist
و«الأمر المقدس». ويُشدِّد على أن السنن دائمًا تكون مقدسة؛ لا تُوجد سُنة أوجدها الإنسان.
(٤)
Traditionalist
تُستعمل بمعنى المقدس
إن المعنى الذي يشير إليه مصطلح
Traditionalist في استعمالات
نصر، وفي استعمالات غينون، وكوماراسوامي، وشووان وغيرهم هو المقدس.
٢٨ ومرادهم من «العلم المقدس»، أو «العلم القدسي»، أو «العلم الديني»، هو العلم بالأمر
اللامتناهي، أو العلم بالحق، أو العلم بموجود هو أصل الحقائق النسبية لسائر الموجودات.
لا يتوكأ هذا
العلم إبستيميًّا على المشاهدة والاختبار والتجربة، بل على الشهود؛ أي على ضرب من البصيرة
المباشرة
اللاوسائطية غير التحليلية. إنه شهودٌ مكتفٍ بذاته، لا حاجة به للشرح والتفسير والبيان
والتبيين.
الذين يتوفرون عليه بدرجاته الكاملة قلائلُ جدًّا بطبيعة الحال.
٢٩
يبرر نصر تبنِّيه ﻟ «العلم المقدس»، بأنه محاولة لإحياء إدراكنا الروحي للطبيعة،
و«المقدس» أحد
المصطلحات الرئيسة التي لا بُدَّ من استعمالها. لو أن شخصًا غربيًّا كان يُكنُّ للشجرة
احترامًا
وتقديرًا، ويقدسها على نحو ما يفعل الرجل من سكان أمريكا الأصليين، لكان من الصعب عليه
أن يقطع
شجرةً في غاب؛ لأن هذه القدسية تُوجد في نفسه هيبةً على ما يقرر ذلك أوتو. ولو كان المسيحي
ينظر إلى
الشجرة نظرته إلى الصليب، لاختلف منهج تعاطيه مع الطبيعة. يقول نصر: لكي ننهج نهجًا صحيحًا
في تغيير
سلوكنا مع الطبيعة، لا بُدَّ من أن نُعيد لها مفهوم الأمر المقدس. انظروا إلى البحوث
التي يقدِّمها
علماء مؤمنون بالله، وبحياة الإنسان؛ فإنها تتمحور جميعًا على مبدأ الحياة المقدسة، وضرورة
احترامها. بالطبع، لا قيمة علميةً لهذا المنهج في التفكير، وليس هو سوى حالةٍ إحساسية
عاطفية.
يشدِّد نصر على أن الأمر القدسي ليس ناجمًا دائمًا في رأينا عن مشاعر وأحاسيس، بل هو
جزء من
الواقعية؛ فإن التعبير عن الواقع، في معناه الميتافيزيقي، يُعَدُّ تعبيرًا عن أمرٍ قدسي.
ولأجل ذلك،
ألَّفتُ كتاب «ضرورة العلم القدسي». تبدو فكرة العلم القدسي متهافتة في أذهان من يتساءلون
عن كيفية
التوفر على علمٍ ذي طابعٍ مقدس، ولكن هذا هو بالضبط ما يحتاج إليه الغرب اليوم. لقد بات
من الضروري
اليوم أن يجري تأكيد وجود العلم القدسي؛ إذ العلم لا يقتصر على الدراسة اللادينية للطبيعة،
بوسع
الإنسان أن ينظر للطبيعة بدقة، وبعقلية منطقية، ويعتبرها في الوقت ذاته، ومن زاوية أخرى
أمرًا قدسيًّا.
٣٠
يذهب نصر إلى أن الأمر «القدسي»، وإحياء
Traditionalist ليس
مجالهما الدين وما وراء الطبيعة فقط، بل تمتد لتستوعب العلوم أيضًا، مثل: الفيزياء، الجيولوجيا،
الفن، الكيمياء، الطب، الفلسفة، وعلم النفس … إلخ. ويرى أنه يمكننا أن نقتطف ثمراتٍ واقعية،
عبْر
إحياء «الحكمة الخالدة» هذه العلوم وإعادتها إلى أصولها. ويشير إلى أن تعميم الأمر القدسي
لمختلف
حقول الفكر والحياة المعاصرة، ومن خلال «الحكمة الخالدة» يمكن تجديد بناء الحقيقة. وفي
ضوء هذه
الحقيقة يحتل الإنسان مكانته في مركز الوجود.
٣١
العلم المقدس، والمعرفة المقدسة، والأمر القدسي في مفهوم حسين نصر لا تعني «إسلامية
المعرفة»
بالمعنى المرادف؛ ذلك أن إسلامية المعرفة تعني محاولة لإعادة صياغة العلوم والمعارف الحديثة
في ضوء
القرآن والسنة النبوية والفقه والتراث، وهي محاولةٌ نصوصية تعتمد أدوات ومناهج متعارفة
في علوم
القرآن والتفسير وعلوم الحديث وأصول الفقه ومقاصد الشريعة … وغيرها من قواعد وأصول ومفاهيم
مستعارة
من التراث. «إسلامية المعرفة» لا ترقى إلى رؤيةٍ فلسفيةٍ إبستيمولوجية أو أنطولوجيةٍ
عميقة. بينما
يعبِّر «العلم المقدس» عن رؤيةٍ فلسفية أنطولوجية ميتافيزيقية للمعارف والعلوم والتراث.
ويصرُّ نصر
بأنه لا يتعاطى مصطلح «إسلامية المعرفة» أو يستعمله.
٣٢ يحذِّر حسين نصر من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، ويدعو إلى الاهتمام
بالعلم المقدس، والمزاوجة بين المعرفة والأمر القدسي.
٣٣
دعوتُه هذه إلى ما يسميه ﺑ «العلم المقدس» و«المزاوجة بين المعرفة والأمر القدسي»،
يكتنفها
إبهام والتباس وغموض، ولا تخلو من تبخيس وهجاء ونفي للمنجَز الغربي في العلوم والمعارف
الحديثة.
يتمدَّد في هذه الدعوة مدلولُ المقدس، فيستوعب ما لا يُستوعب من النصوص المقدسة للأديان،
مضافًا إلى
ميراثها بمختلف تجلياته المعنوية والروحية والفنية، وتمثُّلات الموروث المتنوعة في الشرق.
وهذا
الموقف يستقي مرجعياته من آثار المتصوِّفة والعرفاء، وشيء من نقد التيارات المناهضة للعقل
والعقلانية في الغرب.
محاولة نصر وجماعة «الحكمة الخالدة» لتحرير المعرفة من الرؤية الوضعية، بمقدار توظيفها
للأطر
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تفسير تأثير العوامل المادية في المعرفة، فإنها
تتورط في تلوين
المعرفة والعلوم المتغيرة بصبغة «مقدسة»، فتتحول المقولات الموروثة النسبية لديها إلى
مقولاتٍ
مطلقة، يُخلع عليها رداء «المقدس».
إن التعاطي النقدي لحسين نصر وجماعة «الحكمة الخالدة» مع المعرفة والعلم الحديثَيْن،
الذي
طالما أضحى موقفًا هجائيًّا، يتوارى خلفه موقفٌ تبجيلي يغيب فيه النقد بإزاء التراث وبعض
مفاهيمه
الميتة والمميتة؛ فلا نعثر على دراساتٍ نقدية جادَّة لمقولات التكفير في التراث الكلامي
لدى جماعة
«الحكمة الخالدة»، بينما تتراكم كتاباتُهم في نقد الغرب الحديث، وهجاء حضارته وقيمه وعلومه،
بلا
تمييز بين وجوه الغرب المتنوعة؛ «الحضاري، والمعرفي، والتقني، والثقافي، والفني، والتاريخي،
والسياسي، والاستعماري».
تظل المعطيات الحديثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، والعلوم البحتة،
أهم
معطيات العصر، وكل ما أنجزه الغرب من مكاسب إنما هو ثمرة لامتلاكه العلم الحديث، ومثابرته
المتواصلة
على تنميته وتطويره، ومراجعته ونقده وتصويب أخطائه على الدوام، من دون ادعاءٍ زائف. مَن
يرى المعرفة
والعلوم أمرًا «مقدسًا» ويعدُّها عابرة للمشروطية الزمانية والمكانية والتاريخية، أو
يعتقد بأن ما
أنجزه الآباء «حكمة خالدة» يتنكر لبداهات الواقع وصيرورة التاريخ. يقبع في أنفاق الماضي
مَن يستهلك
علوم ومعارف التراث، بعنوان كونها تعبِّر عن أمرٍ «قدسي» و«مقدس» وغيرهما من تسمياتٍ
مبهمة، ويمكث
على هامش حركة التاريخ كل حياته، مستهلكًا لما ينجزه سواه.
٣٤
(٣) الوحدة المتعالية للأديان: في العام ١٩٤٨م، صدر الأصل
الفرنسي لكتاب شووان «الوحدة المتعالية للأديان». وفي عام ١٩٧٥م صدرَت ترجمته الإنجليزية،
باسم
نظرية «الوحدة المتعالية للأديان». يفكِّك هذا الكتاب أمرَين داخل إطار كلِّ ديانة:
-
الأوَّل: الشريعة الظاهرية لعامة المؤمنين والمتدينين بذلك الدين، وهي ما يمكن أن يُطلق عليه أيضًا
«الدين الظاهري».٣٥
-
والثاني: الطريقة الباطنية٣٦ للعارفين بذلك الدين، وتُسمى أيضًا «الدين الباطني».٣٧
الشريعة الظاهرية مجموعة من التصورات والمفاهيم والاستنباطات والأحكام والتعاليم وأسلوب
الحياة
والممارسات العبادية، وهي جميعًا خاضعة لتأثيرات الأوضاع والأحوال الثقافية في المجتمع
الذي يعيش
فيه المؤمنون والمتدينون. بينما الطريقة الباطنية عبارة عن تجربة؛ أي علم مباشر، يتوفر
للعارف
بالحقائق النهائية أو حقائق الحقائق.
لو قارنَّا بين الشرائع الظاهرية في الأديان المختلفة، لألفيناها غير متطابقة ولا
متشابهة بحال
من الأحوال، بل إن تعارضاتها وتناقضاتها الكثيرة من أوضح البديهيات للراصد. ولكن من جانبٍ
آخر، لو
أخذنا الطريقة الباطنية للأديان بنظر الاعتبار، ألفينا أنفسنا حيال شيءٍ واحد؛ أي إن
كنه الدين
الباطني لا يختلف بين كل الأديان والمذاهب على الكرة الأرضية بأَسْرها.
يشرح مصطفى ملكيان مضمون «الوحدة المتعالية للأديان» بمثال يشبِّه فيه الحقيقة بجبل،
وأتباع
الأديان والمذاهب المختلفة بمتسلقي جبال؛ فهم طالما مكثوا على سطح الأرض كانوا متباعدين
عن بعضهم،
وربما بمسافاتٍ كبيرةٍ جدًّا، لكنهم إذا قصَدوا صعود الجبل والوصول إلى القمة، وتحرَّكوا
باتجاه
الجبل؛ فلا مراء في أنهم كلَّما ارتفعوا عن سطح الأرض أكثر واقتربوا إلى القمة، تقلَّصَت
المسافات
الفاصلة بينهم؛ وإذا ما وصلوا إلى القمة فسيجدون أنفسهم بجوار بعضهم. عامة المؤمنين والمتدينين
بالأديان المختلفة يقفون على ارتفاعاتٍ شتى من سطح الأرض، ولأن طريقهم إلى القمة لا يزال
طويلًا؛
لذلك تفصل بينهم مسافاتٌ تطول أو تقصر. عرفاء الأديان يتربَّعون على القمة؛ أي إنهم يعيشون
مقام
العلم المباشر الشهودي بمبدأ المبادئ أو حقيقة الحقائق؛ ولهذا فهم بجوار بعضهم. بكلمةٍ
أخرى، تقترب
الأديان من بعضها في الله، وتتباعد عن بعضها فيما دون الله. وحدة الأديان تتحقق على مستوى
الأمر
المتعالي؛ أي الله؛ ولهذا تُنعت هذه النظرية بأنها «الوحدة المتعالية للأديان».
٣٨
يعتقد نصر، تبعًا لشووان وغينون وكوماراسوامي، بتعدديةٍ دينية بالمعنى الميتافيزيقي؛
أي إن
هناك مبدأ إلهيًّا واحدًا يتجلى بمظاهرَ متنوعة، في لغاتٍ متعددة، في أشكالٍ كثيرة، في
لاهوتٍ مختلف
… إلخ. الحقيقة الإلهية المطلَقة هي القاسم المشترك بينها جميعًا. تشترك الأديان في معظم
تعاليمها
الأخلاقية، ومواقفها حيال الخير والشر، والهدف الأقصى للحياة البشرية فيها. يذكر حسين
نصر محيي
الدين بن عربي، بوصفه «من أعظم مفسِّري ميتافيزيقا التنوع الديني، وبالأخص كتابه فصوص
الحكم»، وكذلك
جلال الدين الرومي، الذي يرى أن الاختلافات تعود إلى عالم الصورة، بينما ليس هناك اختلاف
في عالم
المعنى. تشتمل بعضُ آثار مولانا الرومي على «أعظم وأجمل شروح لما يُسمِّيه شووان «الوحدة
المتعالية
للأديان»، وهي العقيدة التي تقول بأن كل الأديان الأصلية جاءت من الله، وأن اختلافاتها
هي اختلافاتُ
وجهاتِ نظر، وشكليات، وأن كلًّا منها ينظر إلى الحقيقة الإلهية الواحدة التي تستند جميعًا
عليها.»
٣٩
يقدِّم نصر تبعًا لجماعة «الحكمة الخالدة» تفسيرًا لمراتب وجود الدين لا تقتصر على
عالمنا فقط،
كما يعتقد المتكلمون والفلاسفة؛ فهو يرى أن الدين لا يختص بإيمان وعمل المجتمع البشري،
كما لا
يتحدَّد الدين بإيمان الرجال والنساء. بل الدين ذو واقعية ناشئة من المبدأ الإلهي. العين
الثابتة
للدين في العلم «العقل» الإلهي، نظير العالم نفسه المتعدد في المراتب الواقعية والمعنى.
ذات الدين
بمثابة وجودٍ «مثالي» بالمعنى الأفلاطوني للكلمة، في قالبٍ واقعي عابر للتاريخ في العلم
الإلهي. مما
يعني أن كافة الأديان ليست سوى مظاهر وتجليات لذات المطلَق. وهذه الذات متعالية على أي
نحوٍ من
أنحاء النسبية،
٤٠ وأنَّ تنوَّع التمثُّلات والمظاهر القدسية في الأديان المختلفة لا يُلغي البعد والطابع
القدسي فيها، بقَدْر ما يؤكِّد ثراء الأمر القدسي وغناه؛ المصدر لهذه التمثُّلات والمظاهر،
ويثبت
قدرة الإبداع اللامتناهي لدى المبدأ الإلهي لجميع الصور والمظاهر القدسية. جميع الأديان
سبل تؤدي
إلى غايةٍ واحدة، إنها مصابيحُ نور واحد. وإن لم يكن الأمر كذلك، يكون الله قد أغلق أبواب
النجاة في
وجه الأكثرية الساحقة من البشر ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا. لكن شريطة أن يكون هذا الدين،
أوَّلًا:
نابعًا من وحيٍ معتبَر. وثانيًا: يتصل بينبوعه الأول عبْر أواصر لا انفصام لها، بمعنى
أنه ليس من
البدع، ولا من الانشقاقات الجانبية. إذا كان الدين متوفرًا على هاتين الصفتَين جاز أن
يسمَّى «دينًا حقًّا»،
٤١ وإذا افتقد حتى لصفةٍ واحدةٍ منهما، كنَّا حيال ما يسمِّيه رينيه غينون «شبه الدين»،
أو
«الدين الكاذب»، أو بتعبيرٍ أفضل «تظاهر بالدين». الفِرق والتيارات التي تزعم تقديم أشياء
لا يحق
إلا للأديان أن تقدمها، حالَّة بزعمها هذا محلَّ الدين جزئيًّا أو كليًّا، والحال أنها
تفتقر
للصفتَين المذكورتَين أو لإحداهما، إنما هي تظاهر بالدين وليست أديانًا حقَّة.
٤٢
(٤)
مناهضة الحداثة: جماعة «الحكمة الخالدة» تتبنَّى موقفًا
رافضًا للحداثة الغربية ومعطياتها. مثلًا يرى حسين نصر في العصر الحاضر: «جاهلية جديدة،
يجب أن
تُحطَّم فيها أصنام المدارس الباطلة».
٤٣ ظهرت لدى أتباع هذه الجماعة مراجعاتٌ نقدية موسَّعة، تتلخص في: أن الحداثة تتوكأ على
المشاهدة والاختبار والتجريب، المسلك الوحيد لبلوغ المعرفة الحقيقية من الناحية الإبستيمية
لديها هو
المشاهدة والاختبار والتجارب الحسية الظاهرية. كما أنها لا تعير أهمية إلا للعقل الأداتي
الجزئي
الاستدلالي، الذي لا شأن له سوى الاستدلال طبق قواعد المنطق الصوري. الأهلية الوحيدة
لهذا العقل هي
أن يصبَّ القضايا المتأتية عن المشاهدة والاختبار والتجربة الحسية الظاهرية في قوالب
الاستدلالات
المنطقية المنتجة، يقدِّم نتائج جديدة. مضافًا إلى النزعة المادية؛ أي عدم الإيمان أنطولوجيًّا
بعوالم عدا عالم المادة. تتخذ الحداثة فيما يتصل بوجود الله، موقف الإنكار أو اللاأدرية
على الأقل.
مركزية الإنسان، بمعنى أن خدمة الإنسان تمثِّل الهدف الأول والوحيد للحداثة، أو قل إنها
تبوِّئ
الإنسان موقعًا يتجاوز فيه مكانته الحقيقية، ويحتل مكانة الله. نتيجة الحداثة تفشَّت
النزعة
الفردية؛ أي أن كل همها يتجسد في صيانة حقوق الفرد وضمان استقلاله وتحقيق تقدمه. كما
حرصَت على
المساواة، وهي الاعتقاد بأن جميع الناس متساوون، وينبغي التعامل معهم بشكلٍ واحد، من
حيث الحريات
والحقوق والاحترام والقبول والفرص … إلخ، بعيدًا عن ملاحظة العنصر والجنس والدين والقدرات
البدنية
والذهنية والروحية والمعنوية. أطلقَت الحداثة العِنان للتحرر الفكري، بمعنى معارضة كافة
أنماط
التعبد لأي شيء أو شخص؛ فما من أحد فوق النقاش والمساءلة، الكل مطالَبون بالدليل والبرهان.
وشدَّدَت
على النزعة العاطفية الشديدة، واعتبار المشاعر والعواطف مصدر كل الأفعال الأخلاقية، والحكم
الوحيد
على الحسن والقبح والصحة والخطأ في مضمار الأخلاق. وأكَّدَت على النزعة التقدمية، والإيمان
بالرقي
والتطور المطَّرد للمجتمع والإنسانية. واتخذَت موقفًا سلبيًّا من التقاليد؛ فهي غير منسجمة
عمومًا
مع التقاليد والتراث.
٤٤
لا يكفُّ حسين نصر عن التنديد بالحداثة الغربية وهجاء مكاسبها. والإلحاح على أن الشرق
هو رمز
النور والعقل والروحانية، والغرب مثال الانحطاط والمادية، وأن الإنسان الحديث صنع لنفسه
عالمًا
خاصًّا بيده، هو عالم نسيان الله، والتمرد على الواقعية الإلهية، وتفريغ المعرفة من مضمونها
المقدس،
وتغييب الله مقابل التشديد على مركزية الإنسان، مما أفضى إلى الأزمة الأخلاقية، وطغيان
النزعة
الفردية، وانهيار هوية العائلة، والتضحية بمسئولية الإنسان حيال الله، لصالح حقوق الإنسان،
وتدمير
الطبيعة، والتهام العمارة بنمطها الحداثوي للطبيعة، بنحوٍ أمسى الناس يعيشون في بيئةٍ
عمرانيةٍ
منقطعة عن عالم الطبيعة، ضمن كونٍ مادي مغلق. وخلص نصر إلى أن خيرَ العالم الجديد عرَضي،
وشره ذاتي.
أما خير عالم «الحكمة الخالدة» الماضي فهو ذاتي، وشرُّه عرَضي.
٤٥
يصنِّف نصر الإسلام المعاصر إلى:
-
(١)
أصولي.
-
(٢)
الحداثة.
-
(٣)
«الحكمة الخالدة».
يتبنَّى هو الصنف الأخير، فيما يرفض ما سواه. لا يقبل بقراءة الاتجاه الأصولي للإسلام،
بوصفها
قراءة تختزل الدين بالأيديولوجيا، وتُهدر الميراث الروحاني والعرفاني والفني والرمزي،
وتتمحور حول
إحياء الفهم الظاهري القشري المبسَّط للإسلام، الذي يضحي بالمقدس وينحو منحًى دنيويًّا.
خلافًا
لاتجاه «الحكمة الخالدة» الذي يهتمُّ بإحياء الحكمة الخالدة والأمر القدسي والعلم المقدس.
كذلك يرفض
نصر إسلام الحداثة والتجديد، الذي يرى فيه محاولة لإضعاف الدين بل تقويضه، في مجالات
الأخلاق
والاقتصاد والسياسة، والفلسفة والعلم. يقول نصر: إنه لا يهتم كثيرًا بالمستنيرين أشباه
المجددين
المسلمين؛ لأنه لم يعثر في فكرهم على أصالة. ولأنهم منبهرون بالفكر الغربي الذي يجتثُّ
الدين،
مضافًا إلى أن اطِّلاعَهم وفهمَهم للثقافة الغربية ليس عميقًا.
٤٦
يعود النزاع بين نصر والمجددين إلى خمسين عامًا تقريبًا؛ فقد ادعى نصر أنه استقال
من حسينية
«الإرشاد» في طهران، بحدود سنة ١٩٧٠م، احتجاجًا على محاضرة ألقاها علي شريعتي وشبَّه
فيها الإمام
الحسين بجيفارا، لكن مثقفًا إيرانيًّا معروفًا، من أصدقاء شريعتي، هو ناصر ميناچي، أحد
أبرز مسئولي
حسينية «الإرشاد» وقتئذٍ، ينفي حكاية نصر، ويُنكر حضوره محاضرة شريعتي. ويشدد ميناچي
على أن حسين
نصر لا علاقة له بهذه الحسينية، ولم يلتقِ شريعتي فيها أبدًا.
٤٧ كان نصر يزدري شريعتي، فيقول عنه: «ماركسي إسلامي غوغائي، يحاول التغلغل في صفوف التيار
الديني». بدوره وصف شريعتي حسين نصر، بأنه: «مثقَّف رجعي يسكن برجًا عاجيًّا». في تلك
الأيام كان
شريعتي معارضًا لنظام الشاه ومضطهَدًا، بينما كان نصر على صلةٍ طيبةٍ بالنظام.
٤٨
(٥) حياةٌ شخصية وفقًا للنمط الغربي الحديث
تصاعدَت وتيرةُ السِّجال بين نصر ودعاة الحداثة في إيران في السنوات الأخيرة، ويمكن
رصد شيء من
ذلك في المواقف النقدية المتنوعة لأفكار نصر ودعوته للتمسك ﺑ «الحكمة الخالدة»، ورفض
كافة أشكال التجديد.
٤٩ فقد تهكَّم عبد الكريم سروش في ورقة قدَّمها سنة ٢٠٠٦م، في مؤتمر «الدين والحداثة» في
طهران، على دعوة نصر، قائلًا: «نعم، من الواضح إلى حدٍّ كبير لصاحب القلم، أن تجربة الإسلام
في
العصر الحديث لا تختلف كثيرًا عن التجربة اليهودية والمسيحية. خلافًا لمحاولات جماعة
«الحكمة
الخالدة»، ممن يريدون عودةً غير ناضجة وغير ممكنة إلى الماضي، ويخلعون على هذه العودة
مجموعةَ ألفاظ
صاخبة. ورأس أولئك في يومٍ ما، كان يعمل في مكتب فرح بهلوي،
٥٠ بواسطة تلسكوب الإشراق عن الأمر القدسي، في سماء الحكمة الخالدة. في هذه الفترة
وبوتيرةٍ أشد، وعبْر تلامذته ومعجَبيه السابقين، عاد للبحث عن الشهرة.»
٥١
بسخرية لاذعة ينتقد مثقَّفٌ إيراني معروف، هو جواد طباطبائي، مواقفَ حسين نصر المناهضة
للحداثة
الغربية ومعطياتها، قائلًا: «أنا لا أعرف لماذا لا يعود الدكتور نصر، الذي يرفض الغرب
بتمامه؟ لماذا
لا يعود من أمريكا إلى إيران، ليدرِّس في الحوزة العلمية في ياسوج؟
٥٢ بالتأكيد هنا أفضل له من جامعة جورج واشنطن؛ فبوسعه هنا أن يرفض الغرب، ويدرِّس نفي
الغرب. هذا استفهامٌ حقيقي؟! لماذا عندما يريد إجراء عمليةٍ جراحية يذهب إلى أحسن مستشفًى
في
واشنطن؟! … لماذا يُدرِّس الدكتور نصر في تلك الجامعة، وقد أمضى عمره في الجامعات هذه،
وهو يربِّي
ولده الآن تربيةً أمريكية؟! إن كان يعتقد ﺑ «الحكمة الخالدة» ينبغي أن يأتي إلى هنا،
ويذهب إلى سيد عطار
٥٣ في تبريز ليعالج نفسه؟!»
٥٤
صدرَت باللغة الفارسية مؤلفاتٌ وبحوثٌ ومقالاتٌ عديدة، في النقد الفلسفي والإبستيمولوجي
والمنطقي والديني والتاريخي والأنثربولوجي والاجتماعي والسياسي، لآراء حسين نصر ومقولات
جماعة
«الحكمة الخالدة»، تكشف عن مرتكزات رؤيتهم القابعة في الماضي، والمعادية للتجديد والحداثة.
رغم خبرة
نصر الممتازة بالحداثة الغربية ومناهجها وأدواتها النقدية، ومعرفته بجرأتها في تفكيك
وغربلة
مقولاتها ومواقفها ونقدها وتصويبها. حتى إن المراجعات النقدية الجادة التي كتبها هو وهذه
الجماعة
للمفاهيم المفتاحية للحداثة والتنوير، كالعقل والتقدم والعلم والتكنولوجيا والحرية الفردية،
تأثَّرَت بالنزعة النقدية للحداثة، لكن المعروف عن نصر عدم اكتراثه بمراجعة ونقد مفاهيمه
وأفكاره،
ووثوقيته وصرامته ووفائه لآرائه، وإصراره عليها، وتكرارها منذ كتاباته الأولى إلى اليوم؛
فلم أعثر
في آثاره بمختلف سنوات تدوينها، على مراجعة، أو تقويم، أو نقد، أو اعتراف بخطأ، أو تصويب
رأي غير
صحيح كان يتبناه. كأن مفاهيمه وُلدَت ناجزةً مكتفيةً بذاتها. حسين نصر وجماعة «الحكمة
الخالدة» لم
ينتقلوا من النظر إلى العمل، ومن الدعوة إلى البناء. لا نقرأ أي منجَز تطبيقي لهم ينعكس
فيه: الأمر
القدسي، والعلم المقدس، و«الحكمة الخالدة»، على العلوم الطبيعية والإنسانية والآداب والفنون،
ولا
على اللاهوت، ولا علوم الدين، ولا الفلسفة. ولا نرى حضورًا لهذه المصطلحات المبهَمة في
أية معرفة أو
علم أو أدب أو فن قدموه بديلًا لما أنجزَتْه البشرية في ذلك. أعمال حسين نصر غامضة مبهمة
ملتبسة،
تلتقي في بعض تعبيراتها مع «إسلامية المعرفة»، وإن كانت أعماله أعمق من تبسيط وسطحية
جماعة «إسلامية
المعرفة» ببساطتها المضجِرة، بوصف أعمال نصر تستمد من تكوينه الفلسفي والعرفاني ومعرفته
بالأديان
والميتافيزيقا والروحانية الشرقية.
يحرص نصر على التواصل مع تلامذته ومريديه وقُرَّائه باستمرار، حضورُه لافتٌ متدفقٌ
دائم، خاصة
في العقود الثلاثة الأخيرة في إيران؛ إذ توالى صدورُ مؤلَّفاته وتكرَّرَت طباعتُها. كان
حضوره في
الصحف والدوريات الفارسية مكثَّفًا، من خلال نشر مقابلاته ومقالاته وترويج الكتابات عنه.
ولفَرْطِ
استمرار دعوته لآرائه، وكثافة إنتاجه الفكري، تحسبه داعية أيديولوجيًّا يبشِّر برسالةٍ
إنقاذيةٍ
خلاصيةٍ للشرق وللعالَم بأَسْره.
لا يكُفُّ حسين نصر وجماعة «الحكمة الخالدة» عن تبجيل الماضي، والثناء على التاريخ،
وتنزيه
مسيرة الأديان في المجتمعات البشرية، من دون أيِّ إشارة لما يضجُّ به التاريخ من حروبٍ
دينية، تواصل
بعضها لعشرات، أو مئات السنين، كالحروب الصليبية التي استمرت لقرنَين، وحروب الطوائف
والفِرق
الدينية المسيحية والإسلامية في مختلف العصور. كما لا يتحدث عن اضطهاد محاكم التفتيش
الدينية في
العصور الوسطى لأعدادٍ كبيرة من العلماء والأحرار وقمعهم وتعذيبهم وإعدامهم. ولا يذكُر
نصر صلب
الحلَّاج، وإعدام شيخ الإشراق السهروَردي، وشمس الدين محمد بن مكي العاملي «الشهيد الأول»،
وزين
الدين بن علي «الشهيد الثاني» … وغيرهم. ويتجاهل فتاوى تكفير محيي الدين بن عربي، وجلال
الدين
الرومي، وعمر الخيام … وغيرهم.
يتنكَّرون، نصر وجماعة «الحكمة الخالدة»، للأطر الاجتماعية للمعرفة، ويتعاطَون مع
معارف ووقائع
وأفكار الماضي، بوصفها متعاليةً على الواقع، عابرةً للزمان والمكان، وكل مشروطيات الثقافة
واللغة
والبيئة المحلية. يختزلون العوامل المتنوعة في حركة التاريخ بمفهومهم الميتافيزيقي «الحكمة
الخالدة»
فقط. من دون بحث أثر العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية، والثقافية، والسياسية،
والجغرافية، والإثنية المتغيرة … إلخ، كأنهم يتنكَّرون للتغير الاجتماعي، وتطور المجتمعات
وتحولاتها
وانحطاطها، ونشأة الحضارات وانهيارها.
كما أسلفتُ، انتقل حسين نصر بعمر اثنَي عشر عامًا ونصف إلى الولايات المتحدة، وأكمل
دراساته في
أرقى مدارسها وجامعاتها، وعندما عاد إلى إيران تنقَّل بين مسئولياتٍ قيادية في الجامعة،
و«الجمعية
الفلسفية الملكية الإيرانية»، وإدارة مكتب الملكة «فرح ديبا»، ولبث متقلدًا هذه المسئوليات
القيادية
حتى آخر يوم غادر فيه بلاده. عاش بجسده حياةً على النمط الحديث، سواء في الغرب أو إيران،
وما زال
حتى اليوم يواصل هذا النمط من العيش المريح في الولايات المتحدة، غير أنه يدعونا نحن
القابعين في
أكواخنا، وجهلنا، وأمراضنا، وفقرنا، وبؤسنا، وصراعاتنا الطائفية، وحروبنا، وبعض أفكارنا
المميتة،
إلى التمسك بنمط العيش طبقًا لحياتنا التقليدية، ونعتمد ما أنجزه السلف في التراث من
علومٍ طبيعية
ومعارفَ مختلفة، يريدنا أن نهجر مكاسب الفلسفة والعلوم والمعارف والتكنولوجيا الحديثة،
ويطلب منا
عندما نمرض العودة إلى الطب القديم، وعندما نحتاج أي شيء نعود إلى «العلم المقدس» المكنون
في
التراث، ويرى الخلاص في «الحكمة الخالدة» التي لا نعرف عنها إلا كلماته الزئبقية هو ودعاتها،
ولا
نرى لها أي مصداقٍ واقعي. نصر وعائلته يتمتع بكل مكاسب العلوم والتكنولوجيا الحديثة،
لكن يريد منا
أن نسجن حياتنا في التراث، ونعمل بكل شيء فيه، بما فيها عناصره الميتة والمميتة، المهم
أن نحمي
«الحكمة الخالدة»، و«العلم المقدس» و«الأمر القدسي» من الضياع، ونحتمي بها من طغيان المادة.
الغريب
أن تفكير حسين نصر يتنكر للواقع ويتعالى عليه، لا يشعر بنكد حياة مجتمعاتنا ومرارات عيشها.
رؤيته
الكونية تعكس نمط حياته وعيشه الرغيد، وثقافته النخبوية، ونرجسية بعض أبناء الطبقة الأرستقراطية
المتعالية. لو لم يكن حسين نصر ابنًا لوزير، ومن عائلةٍ أرستقراطيةٍ مترفة، ولم يتلقَّ
هذا التعليم
المتميز في مدارسَ وجامعاتٍ أمريكية متقدمة منذ بداية حياته، وكان مثل الأعداد الغفيرة
في
مجتمعاتنا، ممن وُلدوا وماتوا في عوائلَ تفتقر للاحتياجات الأساسية، وتعيش كل مراحل حياتها
في
أكواخٍ بائسة، أظن لو كانت أقدار نصر كالأقدار الشقية لهؤلاء البؤساء، ما كان يتنكَّر
للبؤس الذي
عاشه الإنسان أمس ويعيشه اليوم، ولم يكن يفكر بهذا الطريقة الغريبة المفارقة للواقع،
المتعالية على
التاريخ والزمان والمكان، المتجاهلة للحياة المنهكة لكثير من البشر.