الفصل الخامس

أحمد فرديد: فيلسوف ضد الفلسفة

(١) عائلة أحمد فرديد وتربيته وتعليمه

صنَّفنا في كتابةٍ سابقة اتجاهات الفكر الديني في إيران، تبعًا لمرجعياتها الغربية، كما يلي:

  • (١)

    هايدغريون، نسبة إلى مارتن هايدغر.

  • (٢)

    غينونيون، نسبة إلى رينيه غينون.

  • (٣)

    ماركسيون، نسبة إلى كارل ماركس.

  • (٤)

    بوبريون، نسبة إلى كارل بوبر.

إن كان هذا التصنيف بوصلة ترشدنا إلى التعرف على شيء من وجهة اتجاهات الفكر الديني في إيران، فإنه يتكتم على شيءٍ آخر من وجوه الحقيقة؛ ذلك أن هناك جماعةً من المفكرين لا يصح أن ندرجهم في هذا التصنيف، كما في الحوزة العلمية، أو جماعة المفكرين خارج الحوزة اليوم، الذين ينفتحون على مرجعياتٍ حرة متنوعة، تستقي من مختلف فلاسفة التنوير والحداثة وما بعدها، فلا تسجن عقلها في قفصٍ محدَّد، ولا تقتصر على مرجعية فيلسوف أو مدرسة أو اتجاهٍ فكري خاص. حتى مَن كان يصنف على تلك المرجعيات بداية مسيرته الفكرية استطاع في مراحلَ لاحقة أن يخرج منها وينقدها ويفككها. هذا هو واقع أكثر المفكرين اليوم في إيران، ممن شقوا طريقهم الخاص واستقلُّوا، وخرجوا من جلباب المعلمين الذين وقعوا في أَسْرهم السنوات المبكرة من حياتهم.

من زاويةٍ أخرى هذا التصنيف ليس دقيقًا؛ لأنه استُخدم لإدانة بعض المفكرين المعروفين، ممن وضعَهم خصومُهم تحت رؤية ماركس أو بوبر، بغية تبخيس منجَزهم المعرفي، واتهامهم بالانسلاخ عن هويتهم الإيرانية الإسلامية الشرقية.

أحمد فرديد متفلسف، لساني فيلولوجي، استند إلى هايدغر كمرجعية، وقرأه في ضوء عرفان محيي الدين بن عربي بتأويلٍ غريبٍ ينفرد به، وترجمات هنري كوربن الفرنسية، وخلع على مفاهيمه ومقولاته ما يحلو من توصيفات وتسميات وتأويلات. في عام ١٩١٠م، أو ١٩١٢م، وُلد السيد أحمد مهيني يزدي، في يزد وسط إيران، لعائلة تعمل في الزراعة، ميسورة الحال اقتصاديًّا. أصاب تعليمًا تقليديًّا، فدرَس مقدمات معارف المعقول والمنقول، واللغة العربية. وبتوجيه من أبيه بدأ بتعلُّم اللغة الفرنسية بعمر اثنَي عشر عامًا، وعند بلوغه سبعة عشر عامًا استطاع المطالعة بالعربية والفرنسية. كان يميل لتعلُّم الرياضيات في هذه الحقبة من حياته.

من أجل مواصلة دراستِه هاجر إلى طهران في السنة السادسةَ عشرةَ من عمره، وكانت هذه أول سفرة في حياته، نقلَته إلى عالمٍ واسع وفضاءٍ رحب، حسبما يصفها بقوله: «أدركتُ عندما رأيتُ طهران أن الأرض كروية، لا تنتهي حدودها بيزد.»١ انخرط في المرحلة الثالثة في ثانوية سلطاني؛ إذ اختبره مدير المدرسة فاكتشف أن تعليمه يسمح له أن يدرس في هذه المرحلة. ثم انتقل إلى مدرسة «دار الفنون» ولبث فيها حتى حصل على الدبلوم، بعد أن أنهى فيها المرحلة السادسة. والتحق ﺑ «المعهد العالي» في طهران، ليعمل بعد تخرُّجه منه بالتدريس في المعهد نفسه وثانويات طهران. وأتاح له قانونٌ جامعي خاص أن يحصل على ليسانس من قسم الفلسفة في جامعة طهران بسنةٍ واحدة فقط. كما اهتم بتعلم اللغة الألمانية. وكان يحاضر في كلية المعقول والمنقول «كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية»، وكلية الآداب.
ورغم أنه لم يُشِر إلى تلمذته في الفلسفة والعرفان وغيرهما من المعارف الإسلامية على أحد من أساتذة الحوزة، فإن مريديه يشيرون إلى حضوره في طهران دروس آية الله تنكابني، وسيد كاظم عصار، وشريعت سنگجلي.٢

في عام ١٩٣٩م، غيَّر لقبه من «مهيني يزدي» إلى «فرديد»، وفرديد تعني «الرؤية المتسامية، أو النظرة الواسعة الأفق»، فظهر اسمه «أحمد فرديد» في هيئة تحرير «سخن»، وهي المجلة التي سينشر فيها مقالاته الثلاث في السنوات ١٩٤٤–١٩٤٦م.

طالَع فرديد غوستاف لوبون مبكرًا وأُعجب به، عبْر ترجمة علي دشتي لبعض آثاره بالفارسية، ووقع تحت تأثير فكر برغسون. انخرط في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين في محفل المثقفين الشباب الذين تمحوروا حول القاصِّ الشهير صادق هدايت، الذي ارتبط به بعلاقةٍ مميزة. يكتب فرديد عن ذكرياته في تلك الفترة: «أنا وصادق هدايت تتناغم قلوبنا وأحاديثنا، لم أجد أحدًا مثله فيما بعدُ أجلس بجواره وأتحدث إليه، وأتعاطى معه الأفكار. علاقتي مع صادق هدايت تختلف عن الآخرين، كنتُ أذهب إلى مقهى فردوسي من أجل أن أراه، وأحيانًا أجلس ساعاتٍ طويلة في حلقته بالمقهى، بغية أن أتصيَّد ساعة للانفراد به، وغالبًا ما كنا نمكُث معًا … طالما تناول حوارنا القضايا الفلسفية. كنا نطالع كتبًا مشتركة، وندوِّن ملاحظاتنا على حواشيها، كي نناقش مضمونها …»٣ تواصلَت صداقتهما، وكان آخر لقاء جمعهما قبل انتحار صادق هدايت بشهر سنة ١٩٥١م، وظلَّت ذكراه حية في وجدانه إلى أيامه الأخيرة، بالرغم من تحوُّل موقف فرديد ورأيه بالإبداع الأدبي لهدايت في فترةٍ لاحقة.

عام ١٩٤٧م، سافر فرديد إلى باريس في بعثة لإكمال دراسته في جامعة السوربون، وبعد أن مكث في فرنسا وألمانيا ثماني سنوات، عاد إلى طهران سنة ١٩٥٥م. وبرغم دراسته العليا في السوربون، فإنه لم يكتب أطروحة دكتوراه؛ لذلك لم يرتقِ إلى درجة الأستاذية، حتى عام ١٩٦٨م، حين أصبح فضل الله رضا رئيسًا لجامعة طهران، وسيد حسين نصر عميدًا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة، فعادَلوا شهادته بالدكتوراه، ومنحوه درجة أستاذ، بعد أن كان مدرسًا لتاريخ الفلسفة والفلسفة الوجودية واللغات القديمة في الجامعة، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

إغواء السلطة

امتدَّت مطامح فرديد للحياة السياسية؛ فعندما عطَّل الشاه محمد رضا بهلوي كافة الأحزاب، وأعلن عن تأسيس «حزب رستاخيز» سنة ١٩٧٦م، اقترب فرديد من حزب السلطة، وحاول حزب رستاخيز أن يُشرِكه في بعض حلقات البحث والمناظرة، وعرَّفَت به «نشرة العلاقات العامة لحزب رستاخيز»، كما ظهرَت منتخباتٌ من آرائه ووجهات نظره في هذه النشرة. وأجرى معه علي رضا ميبدي حوارًا مطولًا، نُشر في أكثر من عدد في جريدة الحزب، سنة ١٩٧٦م. واشترك فرديد في عدة حلقاتٍ نقاشيةٍ تلفزيونيةٍ في تلك الأيام.

في سنة ١٩٧٨م، أعلن فرديد تأييده للثورة الإسلامية بعد انتصارها، ونظَّم سلسلة محاضرات في سنوات ١٩٧٩–١٩٨٢م، لدعمها وتأييدها. لم يقتصر دعمه للثورة على الخطابات والمحاضرات، بل رشَّح نفسه لانتخابات مجلس خبراء صياغة الدستور سنة ١٩٧٩م، لكنه أخفق في تحشيد العدد المطلوب من الأصوات للفوز بمقعد في المجلس. واشترك أيضًا في مؤتمرٍ تمهيدي لتدوين الدستور في جامعة طهران.

ورغم أن فرديد تقاعد عن العمل في الجامعة منذ سنة ١٩٧٢م، فإنه واصل نشاطه ومحاضراته في الجامعة، حتى عُطلَت محاضراته الأسبوعية المنظَّمة في الجامعة سنة ١٩٨٢م. ولم يتوقف بل واصل مشاركته في بعض التجمُّعات، كذلك نظَّم حلقة لنخبة من المثقفين في منزله. وفي عام ١٩٩٢م، عطَّل حلقته المنزلية، وأوقف محاضراته، وامتنع عن استقبال الآخرين في بيته، متفرغًا للخلوة بنفسه، إلى وفاته في ٢٥ مرداد ١٣٧٣ش/١٩٩٤م.

(٢) الحلقة الفرديدية

تألَّفَت جماعةٌ من الكُتَّاب والمترجمين والمثقَّفين حول فرديد في فترةٍ مبكرة، تضم: داريوش آشوري، أمير حسين جهانبگلو، أبو الحسن جليلي، شاهرخ مسكوب، داريوش شايغان، رضا داوري، جلال آل أحمد، نجف دريابندري، إحسان نراقي، داريوش مهرجويي، وغيرهم. أُطلق على هذه الجماعة حلقة أو محفل اﻟ «فرديدية»،٤ تداولَت هذه الحلقة نقاشاتٍ متنوعةً في تاريخ الفلسفة، والفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب والشرق، وطرح فيها فرديد آراءه الخلافية، ومقولاته المركَّبة، ومفهوماته الغريبة الملتبِسة، ومصطلحاته المبهَمة، مثل: «الحكمة الإنسية، حوالة الوجود، علم الأسماء التاريخي، الأسماء المستورة والاسم الغالب، مراحل التاريخ وتجلِّي الأسماء، تجلِّي أسماء الله في التاريخ، النسخ – الفسخ – المسخ، المواقف والمواقيت التاريخية، الحقيقة والطريقة والشريعة في مراحل التاريخ، الودائع أو الأمانات والمآثر التاريخية، وباء الغرب أو الإصابة بالغرب، النفس الأمارة، النسناس … وغيرها.»٥ معظم أعضاء الحلقة الفرديدية انفضُّوا في مرحلةٍ لاحقةٍ من حول فرديد، ولا نعرف من هؤلاء سوى رضا داوري الذي لبث حتى اليوم غارقًا في مدارات فكر فرديد. كما تبنَّى فيما بعدُ بعضُهم آراءً ناقدةً بشدة لفكر فرديد، ومواقفَ مناهضةً له، بنحو اعتبروا تأثيره بمثابة السُّمِّ للحياة الفكرية في إيران.

الفيلسوف الشفاهي

لبث فرديد ضنينًا بالنشر حتى آخر يوم في حياته، لم تُعرف له سوى ثلاث مقالات نشرها في مجلة «سخن» في بداية حياته، ولم يعرف القُراء له أثرًا سوى ذلك فيما بعدُ، مع أنه ظلَّ على الدوام حريصًا على التبشير بأفكاره والدعوة إليها بإصرار وحماس وعناد، عبْر التدريس والمحاضرات والحلقات النقاشية والندوات، بل كان أحد أبرز عناوين الضجة الفكرية في نصف القرن الأخير في إيران.

بسبب عدم نشره أيَّ مؤلَّف وصفه بعض الدارسين ﺑ «الفيلسوف الشفاهي»،٦ فيما نعتَه أحدُ أعضاء حلقة اﻟ «فرديدية»، بعد أكثر من ثلاثين عامًا، بأنه «فيلسوف ضد الفلسفة»،٧ إثر أفكاره الغريبة، ومقولاته المختلطة التركيبية، وعبَّر عنه أيضًا بأنه «فيلسوف خبيث»،٨ واعتبره أحد الباحثين «فيلسوفًا سلبيًّا»،٩ وأشار أكاديمي وأديب من تلامذته المعروفين إلى «إفراطه في تكرار أفكاره وترديد عباراته وأمثلته نفسها، وأن تأثيره السلبي في المجتمع الإيراني أبعد مدًى من أثره الإيجابي.»١٠

الهوية قارَّة ساكنة

يمكن تصنيف المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين، تبعًا لمشاغلهم الفكرية، إلى نوعَين:

  • الأول: جماعة تفكيرهم «الهوية» والعودة إلى الذات الإيرانية، و«الروحانية الشرقية»، هؤلاء تتداخل مواقفهم حدَّ الاختلاط أحيانًا، وتتميز حدَّ التنابذ أحيانًا أخرى.
  • الثاني: جماعة تفكيرهم «الدين» وإحياء الفكر الديني أو إصلاحه أو تجديده، وإعادة قراءة النصوص الدينية في ضوء رهانات الواقع ومعطيات الفلسفة والمعارف الحديثة. هؤلاء أيضًا تتداخل مواقفهم حدَّ الاختلاط أحيانًا، وتتميز حدَّ التنابذ أحيانًا أخرى.

أحمد فرديد أبرز ممثِّل للنمط الأول من التفكير. هاجسه المزمن الهوية، الهوية في رأيه متصلبة قارَّة ساكنة. الشرق والغرب مفهومان فلسفيان أنطولوجيان، حقيقة كلٍّ منهما جوهرانية أبدية، لا تتبدل، ولا تتغير. عُرف فرديد على نطاقٍ واسع لدى النخبة الإيرانية، بعد أن نشر الناقدُ والقاصُّ جلال آل أحمد كتابه الشهير بالفارسية «غرب زدگي»، بمعنى «الإصابة بالغرب، أو وباء الغرب». وكان آل أحمد استعار هذا المصطلح من أحمد فرديد، الذي يعود إليه السبق في نحته وصياغته للمرة الأولى بالفارسية، عندما كانا معًا أعضاء في «مجلس أهداف الثقافة الإيرانية»، سنة ١٩٦١-١٩٦٢م. أصدرَت وزارة الثقافة تقارير أعضاء المجلس سنة ١٩٦٢م، إلا أنها أهملَت تقرير جلال آل أحمد، فنشره هو في السنة نفسها.

مفهوم فرديد ﻟ «وباء الغرب، أو الإصابة بالغرب» فلسفي أنطولوجي عرفاني تركيبي غامض، طبَّقه على الغرب منذ العصر اليوناني إلى اليوم، غير أن تطبيق آل أحمد للمفهوم كان مرتبكًا، يتوكأ على علم الاجتماع والاقتصاد الماركسي، في ضوء فهم اليسار الإيراني السطحي المبتذَل للماركسية.١١ وهو ما نبَّه إليه فرديد أكثر من مرة، وشدَّد على أن «هذه الأباطيل التي كتبها آل أحمد لا علاقة لها بأقوالي.»١٢
لم يقتصر تأثير فرديد على تفكير جلال آل أحمد، بل كان حسب تعبير داريوش شايغان: «شخصية عجيبة، امتد تأثيرها على جيلٍ كامل من المثقفين الإيرانيين. كان مفكرًا هايدغريًّا، متيَّمًا بهايدغر، بنحوٍ أضحى هايدغر صنمًا يعبده. وبوصفه مطلعًا على العرفان النظري، كان لغزًا، يحير العقول والأذهان؛ فمثلًا يعبِّر عن «غياب الوجود» الهايدغري ﺑ «حوالة الوجود»، وهو يشتقُّ ذلك من خلال كشف الأسماء الإلهية في العرفان الإسلامي.»١٣

(٣) قراءة لهايدغر في أفق عرفان ابن عربي

يصوغ فرديد رؤيته استنادًا إلى علم الأسماء الإلهية عند ابن عربي، وفلسفة هايدغر، واللسانيات وعلم اللغة المقارن والفيلولوجيا، منقِّبًا عن جذور الألفاظ والكلمات وأنسابها. ويدمج أنظمةً معرفية متباينة، ويخلط بينها في سياق بناء مقولاته. يوحِّد ابن عربي وهايدغر والفيلولوجيا وفلسفة التاريخ في مزيجٍ غير متجانس، تختلط فيه عناصرُ مختلفة، ويعمل على صياغة مقولاتٍ يجترح لها تسمياتٍ خاصة. يتحدث داريوش شايغان عن أسلوب فرديد: «تعلمتُ منه ألا أخلط المباحث … لا أحاول أن أخلط بعملية سحرية فلسفية: الميتافيزيقا، والعرفان، واللسانيات؛ فإن مثل هذه العملية تفضي إلى اختلالات وصدامات بين مكوناتٍ غير متجانسة، وكأننا نطبخ مجموعة موادَّ غذائية لا تنتج طعامًا سائغًا … تعلمتُ منه أن أفكر بهدوء، بعيدًا عن حساسيات وانفعالات الهوية.»١٤ يكتب أحد تلامذته: «تفكير الأستاذ يتمحور في ثلاثة مبادئ:
  • (١)

    الحكمة الإنسية الإسلامية.

  • (٢)

    تفكير مارتن هايدغر.

  • (٣)
    مبادئ علم الاسم.»١٥
الحكمة الإنسية «في نظر الحكماء الإنسيين هي الحكمة الحقيقية، التي هي وجهٌ من حكمة الحق، والإنسان حينما يكون متَّصفًا بهذه الحكمة فإنه مظهر لاسم الحكيم.»١٦ أما المعرفة عندهم فهي حضورية لا حصولية، وحسب فرديد: «يرى الحكماء الإنسيون أن العلم بحقيقة الوجود إنما يتحقق عن طريق الحضور.»١٧ و«حينما نقول عن شخص إنه يفتقد الفكر والذكر، فذلك يعني أن تفكيره حصولي.»١٨

الحكمة الإنسية عند فرديد ضربٌ من تهجين عرفان ابن عربي بفلسفة هايدغر. وخلط مفاهيمَ متباينة، تنتمي إلى نظامَين معرفيَّين متباينَين، ونمطَين وجوديَّين مختلفَين؛ الأول ينتمي إلى العالم القديم، فيما ينتمي الثاني إلى العالم الجديد. يقتبس فرديد الأسماء الإلهية من «الفص الآدمي» في كتاب «فصوص الحكم» لابن عربي، الذي هو أثرى وأعمقُ نصٍّ في العرفان، مثلما يقتبس «الدازاين» من هايدغر، وطبقًا لتفسيره الخاص لهايدغر، يزعم أن «الدازاين» يتطابق مع مفهوم «الإنسان الكامل» عند ابن عربي، وهو تأويلٌ غريب جدًّا ﻟ «الدازاين» يرفضه هذا المصطلح الهايدغري الخاص؛ لذلك لم يقله أحدٌ من دارسي آثار هايدغر ومترجميه في الغرب والشرق.

بصمة ترجمة كوربن لهايدغر في فكر فرديد

قرأ فرديد الترجمات الفرنسية لهايدغر، التي أنجزها تلميذ هايدغر «هنري كوربن»، وهي ترجماتٌ تتجلى فيها بصمة فهم كوربن، وتكوينه، وأفق انتظاره، وتخصُّصه بالفلسفة والعرفان والميراث الروحي الإيراني، واستغراقه في فهمه بتفسيرٍ غنوصي يجرد النصوص من معانيها الظاهرة المباشرة. تأثير كوربن وتفسيراته الغارقة في باطنيتها وتجاهلها للعقل أشد أثرًا في الفكر الديني الإيراني تلك الأيام، من فهم فرديد وتشويش مقولاته ومصطلحاته واضطرابها. يُشبِّه كوربن منهج هايدغر بالأداة المفتاحية، التي اعتمدها في حلِّ مغالق الميتافيزيقا الإيرانية-الإسلامية.١٩ ويمكن ملاحظة أثر تطبيق هرمنيوطيقا هايدغر ومنهجه في آثار كوربن ومقدماته على بعض كتب التراث الفلسفي والعرفاني، كما في مقدمته على رسالة «المشاعر» لملَّا صدرا الشيرازي.
تواصَل فرديد مع كوربن في وقتٍ مبكر من حياته، وترجَم له من الفرنسية إلى الفارسية سنة ١٣٢٥ﻫ/١٩٤٦م الفصلَين الأول والثاني من رسالة تتناول «الحكمة الإشراقية والفلسفة الإيرانية القديمة.» تشكَّل تفكير فرديد في أفق رؤية هايدغر، التي استقاها عبْر ترجمات هنري كوربن وآثاره، وتحدَّد فهمه لهايدغر تبعًا لكوربن، فأنجز فرديد تفسيرًا لهايدغر في فضاء الحكمة والعرفان الإيراني-الإسلامي، كما حاول أن يوظف هرمنيوطيقا هايدغر ومنهجه في صياغة ما يُسميه «الحكمة الإنسية»،٢٠ يصرح فرديد في مناسباتٍ متعددة على «وحدة خطابه مع هايدغر»، واستناده إلى منهجه و«منطقه الهرمنيوطيقي» في تفكيره.٢١
بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية حرص فرديد على ابتكار تفسير ثوري إسلامي لهايدغر، يطابق أفكاره مع الجمهورية الإسلامية، كما أفصح عن ذلك بقوله: «فسَّرتُ هايدغر بالإسلام. إنه المفكر الوحيد الذي ينسجم مع الجمهورية الإسلامية.»٢٢ «يتحد قولي مع هايدغر، حيال ظهور النهضة، لا تناقض مع تفكير هايدغر، وتلك هي الثورة الإسلامية. تفكير هايدغر قريبٌ جدًّا للثورة الإسلامية.»٢٣
لفَرْط تبجيل فرديد لهايدغر منحَه مرتبةً ملكوتيةً لا ينالها سوى العرفاء، وهي «قرب الفرائض»؛ فقال: «إن هايدغر في مرتبة الوعي الذاتي وصل من قرب النوافل إلى قرب الفرائض.» وقرب الفرائض مرتبة يشهد فيها العرفاء «الخلق مرآة للحق. الحق فيها ظاهر، والخلق غائبٌ مختفٍ.» وهي أسمى من مرتبة «قرب النوافل»، التي نرى فيها «الخلق في الحق. الحق مرآة، والخلق صورةٌ منعكسة فيها.» ويعتقد فرديد أنه هناك «هايدغر سابق، وآخر لاحق. هايدغر قرب النوافل، وهايدغر قرب الفرائض إلى الحق.»٢٤ غير أن موقف فرديد تغيَّر من كوربن أخيرًا، فعبَّر عنه بأنه «لا يعلم شيئًا من ألفباء الحكمة … وأنه يهوديٌّ ماسوني، عَمِل على تخريب التشيُّع بتوجيه يهودي ماسوني.»٢٥

(٤) فلسفة التاريخ عند فرديد

«التاريخ واللغة» بُعدان مركزيان لمفهوم الإنسان عند فرديد. كل موجود مظهر لاسم، والإنسان هو المظهر التام للأسماء الإلهية، والإنسان التاريخي مظهر للأسماء. يوظِّف فرديد كل ما يمتلك من أفكار وآراء ليصوغ تحقيبًا للتاريخ، تتحدد مسيرته في مراحل، وكأنها تحاكي تحقيب «المادية التاريخية» في الماركسية.

في تفسير فرديد للتاريخ نجد هايدغر وابن عربي والعرفان ظاهرًا، فيما يكون ماركس مستترًا. فرديد يختبئ خلف مصطلحات العرفان، ويعبِّر عن ذلك ﺑ «علم الأسماء التاريخي»، ويريد بهذا العلم: «معرفة الأسماء، وتجلي أسماء الله في التاريخ، وغلبة الأسماء على فكر وقلب الإنسان»،٢٦ أي إن مسيرة التاريخ تطوي مراحل، يتجلى في كل مرحلة اسمٌ من أسماء الله.

يقدم فرديد تفسيرًا لديناميكية صيرورة التاريخ، يستعير فيه مفاهيمَ مفتاحيةً لأرسطو، وتبعًا لتحليله فإن كل مرحلة تاريخية تتضمن «مادة وصورة». الصورة التاريخية لأيِّ مرحلة هي كلٌّ واحد، يشمل العلاقات والشئون: الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. أما «مادة» كل مرحلة فهي عبارة عن الصورة النوعية للمرحلة السابقة، مع غلبة الصورة الجديدة، بعد غياب الصورة الماضية. في كل مرحلة هناك غلبةٌ لاسمٍ إلهي خاص، وبعبارةٍ أخرى حكومة لصورةٍ نوعيةٍ خاصة.

تمُرُّ كل مرحلة بمراحلَ فرعيةٍ ثلاث، هي: «التأسيس، البسط، الانحطاط». وحسب مصطلحات فرديد: «النسخ، الفسخ، المسخ».٢٧ في كل مرحلة هناك أسماءٌ مستورة، واسمٌ غالب، وهي تعبير عن «المادة والصورة» في رأيه، كما يصرح بذلك قائلًا: «الأسماء المستورة تُسمى المادة، والاسم الغالب على الكلِّ أعبِّر عنه صورة.»٢٨ من هنا تكون «الصورة النوعية لأيَّة مرحلةٍ تاريخية، هي نسبة الإنسان إلى الحق، ومن هناك إلى الخلق.»٢٩

حاول فرديد أن يقدم تأويلًا لمفهوم ابن عربي للأسماء الإلهية، ينتزعها من مجالها الأنطولوجي الميتافيزيقي، وعوالمها المجردة، ويُقحمها في مجال التاريخ البشري. والذين خبروا عرفان ابن عربي لا يجدون أية مناسبة لقبول مثل هذا التأويل، بل يرون ذلك نموذجًا للخلط بين مفاهيمَ متضادة. وقع الفكر الديني في إيران أسيرًا للنزعة الغنوصية الباطنية لهنري كوربن وفكره الميتافيزيقي، الذي ينسى العقل، ولا يحاول أن يوظف شيئًا من مكاسب فلسفة الأنوار والعقلانية النقدية. تتمحور أعمالُ كوربن حول عوالم الميتافيزيقا، وحتى لو تحدث عن الإنسان فهو يتحدث عن إنسان عالم الغيب وليس إنسان عالم الشهادة الذي يعيش في الأرض، كوربن كان مُولَعًا بشيخ الإشراق السهروَردي، وبغنوص وباطنية التشيع الإسماعيلي، وانعكس ذلك في تأويلات كوربن وفهمه لهايدغر والعرفان الإسلامي. لم يكن فكر فرديد وحلقته الفكرية الأسبوعية إلا ولادةً جديدةً لفكر كوربن، بلغةٍ ومصطلحاتٍ إضافية أشد التباسًا وغموضًا وتهافتًا.

(٥) غواية اللغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن

تميز أحمد فرديد بموهبةٍ وذكاءٍ نادر، وتكوينٍ وخبرةٍ ممتازة في اللسانيات والفيلولوجيا، وبراعةٍ في ابتكارِ ونحتِ المصطلحات، والتقاطِ ألفاظٍ من مجالٍ تداولي وزجِّها في مجالٍ مغاير. هذا ما منح خطابَه وأحاديثَه حساسيةً لغوية فائقة، وجاذبيةً فريدة وقع في شراكها كثيرٌ ممن أصغَوا إليها. تحرَّرَت مصطلحاتُه من الألفاظ والكلمات المستنزَفة بالاستعمال المكرَّر المبتذَل حدَّ الإنهاك. غواية لغته بهرَت أبرزَ مثقفي عصره، وأغوتهم بالإنصاتِ لصوته المميز والتلقي منه، والإدمانِ على حضور ندوته الأسبوعية «الحلقة الفرديدية».

غوايةُ اللغة الناتجة عن توترها وإبهامها وضبابيتها، عمَّقَت سطوتَه في الحياة الفكرية الإيرانية، وأثارت الكثيرَ من النقاشات والجدل حول أفكاره؛ فضلًا عن موقفِه الجذري الرافض للغرب، وهجائِه للفلاسفة والمفكرين، في زمنٍ كانت النخبةُ المفتونة بالثقافة الغربية متهمة، واتهاماتُه العنيفة للمثقفين الإيرانيين. لا يرى فرديد الغرب، منذ العصر اليوناني حتى اليوم، مفهومًا جغرافيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا، بل مفهومُه للغرب أنطولوجي ميتافيزيقي، تبعًا لهايدغر.

يختبئ بعضُ المفكرين وراء الألفاظ، فيشتقون مصطلحاتٍ بالعودة إلى جذورها اللغوية، أو يزاوجون ويركِّبون مصطلحاتٍ أخرى باستعارتها من معجمٍ تراثي، ويُسقطونها على مفهومٍ مستعار من الفلسفة والعلوم الإنسانية الغربية الحديثة بطريقةٍ متنكرة. ذلك ما فعله فرديد، حين أسقط المعجمَ الاصطلاحي لمحيي الدين بن عربي على فلسفة هايدغر، فأنتج مخلوقاتٍ لغويةً هجينة تثير الدهشة، لا تعبِّر عن هايدغر، مثلما لا تتجلى فيها رؤيا ابن عربي واستبصاراتُه المضيئة الرحبة.

غواية اللغة الفرديدية وإبهامها قريبان من غواية لغة المفكر المغربي طه عبد الرحمن وإبهامها، الذي يعمد إلى نحتِ مصطلحاتٍ بديلة لما هو شائع ومتعارَف عليه بالعربية. تلك المصطلحات صاغها في ضوء خبرته وتكوينه المتميز بفلسفة اللغة والمنطق الحديث، يحاول في سياق هذه المصطلحات إعادةَ إنتاج التراث، وتلوينَه بآرائه ومواقفه التراثية. كما اصطادت غوايةُ لغة فرديد أبرزَ المثقفين الإيرانيين، اصطادت غوايةُ لغة طه أكثرَ شباب الحركة الإسلامية العرب وفي وطنه قبل ذلك، من ذوي التكوين الأكاديمي الحديث، الذين سئموا من تبسيطِ أدبيات هذه الحركة، وسطحيتِها المضجِرة وشعاراتِها المُمِلة. شبابٌ قادهم الحنين إلى الهوية والبحث عن الجذور، للانبهار بكتابات طه. معظم هؤلاء لم يكتشفوا أبعادَ التراث المتنوعة، ويجهلون منزلقاتِه ومسالكَه ودروبَه، التي لا يفضي بعضُها إلا إلى المزيد من المتاهات، لمن لا يعرف مسالكَه جيدًا.

التكوين الأكاديمي والبيئة الثقافية والمناهل الموروثة لطه عبد الرحمن لا تتطابق بتمامها مع سياقاتِ تكوين أحمد فرديد وبيئتِه وثقافتِه. فرديد تمحور تفكيرُه حول هايدغر ومدرسةِ ابن عربي وتلامذتِه وشراحِه، والتصوفِ الفلسفي والعرفان النظري، وطه عبد الرحمن استند في اشتقاقاته إلى القاموسِ اللغوي، والمقولاتِ الاعتقادية للأشعري، والتصوفِ الطرقي، ومعجمِ التراث الأخلاقي. لكنهما يعمدان معًا إلى تلوينِ التراث وإلباسِه رداءً اصطلاحيًّا جديدًا، يشبه ارتداءَ عجوزٍ طاعنة في السنِّ لثيابِ عروس، وطلاءِ وجهها بمساحيقَ تجميليةٍ صاخبة.

لا يصدق على كتابات طه أنها فلسفة، وهكذا لا يصدق على أقوال فرديد مفهومُ الفلسفة. الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي المستقل، لغةُ ومصطلحاتُ الفلسفة تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والميثولوجيا واللامعقول. العقلُ مرجعيتُه العقل لا مرجعيةَ له خارجه، العقلُ مرجعيةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أفعالِ الذهن وإبداعِه مهما كان. العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ وحدودِ ما هو خارجه مما ينتجه المتخيَّلُ وغيرُه. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، يكون هو مرجعيةَ تمحيصِ تفكيره، ومرجعيةَ تمحيصِ ما سواه مما ينتجه الذهن، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقل تدخل الروح والقلب والعاطفة في متاهاتٍ أبدية. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوِّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارج حدوده. الفيلسوف يحاول أن يفسِّر حقيقةَ الظواهر والأشياء وماهيتَها، يفسِّر حقيقةَ العلم وماهيتَه، الفيزياء والكيمياء ومختلفُ العلوم تنشغل باكتشافِ قوانين الطبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها وماهيتها.

أحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظةٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمةٍ من عقله. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية. ذلك ما يجعل بعضَ الفلاسفة يبدءون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة. الفيلسوف ينشغل بفعلِ التفلسف، يفكِّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة والأجوبة الوجودية، يبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وينتهي بنتائج فلسفية ومنطقية. تفلسفُ الفيلسوف يعني أنه يقدِّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر ويبحث عن حقيقتها. لا يُنكَر أن طه عبد الرحمن مثقفٌ موسوعيٌّ خبيرٌ بالتراث والحداثة، يمتلك موهبةً فذَّة وذكاءً فريدًا، وتكوينًا بالفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة جادًّا، وخبرةً واسعة بالتراث، غير أن كتاباتِه الفلسفية والمنطقية تبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وتنتهي بنتائجَ لاهوتية.

برَع طه في إعادةِ إنتاج شيءٍ من مقولات الغزالي والفخر الرازي وابن تيمية الاعتقادية بأسلوبٍ مراوغٍ لغويًّا. طه تراثي برداءِ منحوتاتٍ لغويةٍ جديدة، التراثيةُ بنيةٌ ذهنية ونفسية وعاطفية، كأنها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد، سواء كان قوميًّا أو ماركسيًّا أو دينيًّا. طه عبد الرحمن مقلِّدٌ للأشعريةِ في علم الكلام، وللمالكيةِ في الفقه، وللطريقةِ القادرية البودشيشية٣٠ في التصوف. يتعاطى مع مقولاتِ الأشعري وأتباعه وإجاباتِهم للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى على أنها مسلَّماتٌ نهائية لا تقبل النقاش. طه متكلم يختبئ بجلباب «فيلسوف»، وفي ضوء ذلك يمكن تصنيفُه، كما يُصنَّف فرديد، ﺑ «فيلسوف ضد الفلسفة»، يتحدث طه بلغةِ الحداثة الفلسفية والمنطقية واللغوية، إلا أنه ضد الحداثة، يبرع بتوليد مصطلحاتٍ غائمة لتقويضِ كلِّ شيء ينتمي للحداثة. ذلك ما يدعوني أن أصنف كتاباتِه الفلسفية بوصفها محاولةً متنكرة ﻟ «أسلمة الفلسفة».

لا يمكن إنكارُ ذكاء طه عبد الرحمن، ولا علم طه وموهبته الفذة. الذكاء والعبقرية والموهبة الاستثنائية لا تكفي وحدها لمن يفكِّر ويكتب ويتحدث في الدين. المفكر الديني يحتاج القلبَ بموازاة العقل، يحتاج النظرَ للإنسان المختلِف في معتقَده بنور الله، وأن تحضر رحمةُ الله بكتابات هذا المفكر وكلماته، ويرى الإنسانَ بوصفه إنسانًا بمرآة الرحمة، بغَضِّ النظر عن دينِ الإنسان وهويتِه الاعتقادية والقومية والثقافية والجغرافية. الرحمة صوت الله، وعنوانُ رحمانية كلِّ دين وإنسانيتِه وأخلاقيته. الدين لا يحتاج عباقرةً فقط، الدين يحتاج رحماءَ قبل أن يكونوا عباقرة.

(٦) الإصابة بالغرب

ينحت فرديد مصطلح «غربزدگي» بمعنى «الإصابة بالغرب»، ويرى أن الغرب بمثابة وباء أصاب اليونان القديمة، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومنها تفشَّى فتسمَّم به العالم. «الإصابة بالغرب»، عنده عبارةٌ عن حقيقة «الإصابة باليونان»، «زدن» بالفارسية تعني: «الضرب»، و«زد» هو الفعل «ضرب»، الذي تتنوع استعمالاته في اللغة الفارسية، ولا سيما العامية منها. «زدگي» تعني «تلقِّي الضربة»، أو «الإصابة»، فيقال «طاعون زدگي»، بمعنى «الإصابة بالطاعون»، و«زلزله زدگي»، بمعنى «الإصابة بالزلزال»، ويُلحِق فرديد «زدگي» بعدة كلمات، مثل: «طاغوت زدگي»، بمعنى «الإصابة بالطاغوت»، و«يونان زدگي»، بمعنى «الإصابة باليونان» … وهكذا. «الإصابة بالغرب/غربزدگي» من المفاهيم المحورية المفتاحية في فكر فرديد، ودراسة مراحل التاريخ لديه، والتعرف على موقفه من الفلاسفة والمفكرين والمعتقدات والتيارات الفكرية، والحوادث الهامة في التاريخ البشري.

لا يتردَّد فرديد في نعت الغرب، منذ الحضارة اليونانية حتى اليوم، بالوباء المتفشي في العالم زمانيًّا وجغرافيًّا. فيُعمِّم هذا الوباء، حسب تسميته «الإصابة بالغرب»، على تاريخ الإسلام الذي يرى أنه «مشحون بآراء وعقائد الإصابة بالغرب»، ويحلو له أن يصنف «الإصابة بالغرب» إلى: «مضاعفة وغير مضاعفة، بسيطة ومركَّبة، إيجابية وسلبية»،٣١ يتخذ فرديد من «الإصابة بالغرب» معيارًا يصدر من خلاله أحكامه القدحية حيال الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء وغيرهم. يعُد «ابن سينا زنديقًا … وفلسفة ملَّا صدرا بلا تقوى، في فلسفة ملَّا صدرا التقوى القرآنية منسيَّة.»٣٢ كذلك يرى أن: «شيخ الإشراق السهروردي، والحلاج، مصابان بالغرب، وهكذا الغزالي.»٣٣ ويعتبر فرديد «سقراط مسيلمة الكذاب … فقد ظهرَت الإصابة بالغرب رسميًّا بأفلاطون وسقراط. الإصابة بالغرب لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو غير مضاعفة، لكنها تبدَّلَت إلى مضاعفة في القرن التاسع عشر.»٣٤
لا يقتصر على ذلك في هجاء القدماء، بل يستخدم كلماتٍ شديدةَ القساوة مع معاصريه؛ ففي سياق حديثه عن مهدي بازرگان، يقول: «إله ماركس إله طاغوت، وإله بازرگان طاغوت، لكنه أسوأ من ماركس؛ ذلك أن الأخير ينفي وجود إله، وبازرگان يقول بوجود إله، لكن أي إله؟ … إله بازرگان برجوازي ليبرالي …»٣٥
ولا يوقِّر فرديد فلاسفة الغرب في العصر الحديث، ما خلا هايدغر؛ فمثلا يرى: «كانط مصداقًا لمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى … كانط لم يصل إلى حق اليقين (يعني مقام الحقيقة)، بل لم يصل إلى مقام علم اليقين (العلم بماهيات الأشياء) أيضًا.» يذهب إلى أن «توصيف كارل بوبر بالأحمق قليل، بل هو أبله، جاهل … إن منحى بوبر أعظم ما تعرض له بلدنا من مكر الليل والنهار.»٣٦ وهنا يُغمز فرديد من عبد الكريم سروش ومؤيديه، ممن يعدُّهم من أتباع كارل بوبر ومروِّجي كتاباته في إيران. ولفرْط التنافر بين فرديد وتلامذته، وسروش ومريديه، تُعرف الجماعة الأولى ﺑ «الهايدغريين»، والجماعة الثانية ﺑ «البوبريين»، ومثلما يستعمل فرديد تعبيراتٍ قاسية في هجائهم، ينعتُه سروش بكلماتٍ حادة، مثل: «عجوز مريض، يعبد التاريخ ويهرب من البرهان، يمجد السفسطائيين الهاربين من العلم، عاشق الفاشستية وولاية هتلر …»٣٧
تسري رؤية فرديد للغرب على مكاسب العلوم الإنسانية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان … وغير ذلك؛ فهو يرى أن «العلوم الإنسانية بنحوٍ عامٍّ طاغوتية … العلوم الإنسانية إنما هي أساسًا أباطيل النفس الأمَّارة.»٣٨ أما «الديمقراطية فتعني سلطة الدهماء، وهي ليست سوى انحطاط … في الديمقراطية يدعي أيُّ شخص أنه هو الإله؛ وبالتالي يصل الناس إلى موقع يغدو فيه الجميع دكتاتورًا.»٣٩ الديمقراطية كما يعتقد فرديد ليست مقابلة للدكتاتورية، بل الديمقراطية هي دكتاتورية الكل، والدكتاتورية هي دكتاتورية الفرد.
أما «اللائحة العالمية لحقوق الإنسان فإنها مُفرغة من الإنسانية، ومضمونها ليس سوى الإنسان الممسوخ، بمعنى النسناس. قردٌ خاضع ذلك الذي دوَّن لائحة حقوق الإنسان العالمية. وهي تعبِّر عن دنيا منحَطة، منسوخة، وهي دنيا آخر الزمان.»٤٠
يشمل مفهوم «الإصابة بالغرب» الفرديدي معطيات الغرب المعرفية والثقافية والسياسية … وغيرها، مضافًا إلى كل ما هو تعبير أو امتداد لما هو غربي، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في عالمنا. «إصابتنا بالغرب أتت ذيلًا لإصابة الغرب بالغرب؛ فبعد أن بلغ العالمُ الغربيُّ نهايته، جاءت ثورة المشروطة ذيلًا للتاريخ الغربي. هذا الذيل لتاريخ الغرب يتصدر تاريخنا. صدر تاريخنا ذيل تاريخ الغرب.»٤١

(٧) فكر خارج الأنظمة المعرفية

لا يهتم فرديد بالاستدلال والبرهان على دعاواه الغريبة، وتوصيفاته الصارمة، وأحكامه القاسية على مختلف الفلاسفة والمفكرين الغربيين والمسلمين في إيران وغيرها، ولا يكترث بمواقف الآخرين وآرائهم. ومع أننا لا نعثر على صدًى لفكره لدى عامة الناس في إيران، غير أن شخصيته الفكرية ظلَّت ما يقارب النصف قرن تثير مختلف الجدالات والسجالات والمنازعات في المشهد الفكري الإيراني، وربما لا نجد مثقفًا إيرانيًّا فاعلًا ومنتجًا في تلك الحقبة لم ينخرط في حلقته «الفرديدية»، أو يتتلمذ عليه، أو يتطوع لحضور دروسه ومحاضراته في الجامعة، أو يتخذ موقفًا مؤيدًا أو معارضًا له. بل يتفق حتى أولئك المثقفون المشاكسون النرجسيون الناقدون بشدة لسواهم على تميز صوت فرديد، وغرابة مفهوماته وغوايتها ومفارقتها لما هو مُتداوَل ومعروف، وتأثيرها البالغ في الحياة الفكرية الإيرانية المعاصرة.

في مراجعةٍ واسعة لما كتبه عنه المثقفون من جيله وغيرهم، والشهادات والانطباعات والملاحظات التي صدرَت عنهم، رأيتُهم يتفقون على غموضه والتباس فكره وتعبيره، وحتى شخصيته وسلوكه. ويعتقد معظمهم بالآثار السلبية لفكره في إيران، لكنهم لا يتنكرون لشخصيته الساحرة، وقدراته الذهنية المُدهِشة في استقطاب النُّخَب الفكرية، وزجِّها في مشاغله ومدارات تفكيره.

هكذا يبدو فرديد مفكرًا خارج الأنساق والأنظمة المعرفية، فريدًا في رؤاه، مختلفًا في مفاهيمه، ليس متسقًا في صياغة آرائه، مخلوقاته اللغوية مصطلحاته التي يبتكرها بعناية، غير واضح في تنظيم أفكاره، لا منطقيًّا في وعيه، لا فلسفيًّا في تفكيره الفلسفي. فرديد يفكر بالفلسفة خارج العقل، الفلسفة صوت العقل الذي لا يختلط بصوت ينقضه. فرديد مرآة لنمط من الفكر نعثر على نماذجَ أخرى له في إيران، تُحاكيه في تركيبها وضبابيتها وإبهامها، وفي تكوينها اللغوي، ودمجها بين العرفان والفلسفة، والفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية والمدارس الفكرية في الغرب.

١  زندكي سيد أحمد فرديد از زبان خودش، سالنامه فرهنكي هنري موقف، س٢، ع٢ ١٣٨٣ش = ٢٠٠٤م.
٢  داوري، رضا، فيلسوف إنتظار، مشرق، ١:٥، ١٣٧٤ش = ١٩٩٥م.
٣  فرديد، أحمد، انديشه هاي صادق هدايت، في: كتاب صادق هدايت، ص٣٩٤، و٣٩٥.
٤  هاشمي، محمد منصور، هويت أنديشان وميراث فكري أحمد فرديد، طهران، انتشارات كوير، ١٣٨٦ش = ٢٠٠٧م، ص٢٣؛ بروجردي، مهرزا؛ روشنفكران إيراني وغرب، طهران، نشر فرزان روز، ١٣٧٧ش = ١٩٩٨م، ص١٠٥.
٥  راجع كتاب: فرديد، أحمد، ديدار فرهي وفتوحات آخر الزمان، به كوششك: محمد مددبور، طهران، ١٣٨١ش = ٢٠٠٢م.
٦  إبراهيمي ديناني، غلامحسين، آينه هاي فيلسوف، كفتكوهاي عبدالله نصري با غلامحسين إبراهيمي ديناني، طهران، سروش، ١٣٨٠ش = ٢٠٠١م، ص٦٤.
٧  آشوري، داريوش، اسطوره ي فلسفه در ميان ما: بازديدي از أحمد فرديد ونظريه ي غر ؤدكي، طهران، صراط، ١٣٨٤ش = ٢٠٠٥م، ص١٧.
٨  المصدر السابق، ص٣٥٧.
٩  خسرو بناه، عبدالحسين، هندسه معرفتي سيد أحمد فرديد، همايش شناخت آراء وأنديشه هاي سيد أحمد فرديد، دانشكده علوم إنساني، دانشكاه علامه طباطبايي، ٢٩ مهر ماه ١٣٨٧ش = ٢٠٠٩م.
١٠  بورجوادي، نصر الله، «من با تحقيق خود سلوك مي كنم»، كتاب ماه أدبيات وفلسفه، ع٥٩، شهريور ١٣٨١ش = ٢٠٠٢م.
١١  آشوري، داريوش، مصدر سابق، ص٣٠٦.
١٢  المصدر السابق، ص٣٠٦.
١٣  شايغان، داريوش، زير آسمانهاي جهان، كفتكوي داريوش شايغان با رامين جهانبكلو، طهران، فرزان، ١٣٧٦ش = ١٩٩٧م، ص٧٧.
١٤  المصدر السابق، ص٧٨.
١٥  معارف، سيد عباس، نكاهي دو باره به مبادي حكمت انسي، طهران، رايزن، ١٣٨٠ش = ٢٠٠١م، ص٧.
١٦  معارف، سيد عباس، مصدر سابق، ص٢٦.
١٧  المصدر السابق، ص٦٨.
١٨  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٢٩.
١٩  بستاني، أحمد، هايدكر، كربن، فرديد، مهرنامه، ع٣، ١٣٨٩ش = ٢٠٠٠م.
٢٠  المصدر السابق.
٢١  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٢٥٥، و٣٠٩.
٢٢  المصدر السابق، ص١١.
٢٣  ديباج، سيد موسى، آراء وعقايد سيد أحمد فرديد، طهران، ١٣٨٣ش = ٢٠٠٤م، ص٤٥٧.
٢٤  المصدر السابق، ص٤٥٣–٤٦١، مصاحبه علي رضا ميبدي با أحمد فرديد، روزناه رستاخيز، ٢٠ مهر ماه، و١١ آبانماه ١٣٥٥ش = ١٩٧٦م.
٢٥  بستاني، أحمد، مصدر سابق.
٢٦  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص١٨.
٢٧  هاشمي، محمد منصور، مصدر سابق، ص٩٨-٩٩؛ معارف، سيد عباس، مصدر سابق، ص٤١٤، و٤١٧.
٢٨  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٢٢.
٢٩  معارف، سيد عباس، مصدر سابق، ص٤١٩.
٣٠  الطريقة القادرية البودشيشية طريقةٌ صوفية مغربية، يوجد مقرها في قرية مداغ بإقليم بركان شرق المغرب في منطقة قبائل بني يزناسن. تنتسب إلى عبد القادر الجيلاني الذي ظهر في القرن الخامس الهجري. أما لقب البودشيشية، فقد اكتسبه بواسطة علي بن محمد الذي حمل لقب «سيدي علي بودشيش» لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة طعام الدشيشة بزاويته (ويكيبديا).
٣١  ديباج، سيد موسى، مصدر سابق، ص٢٧٤–٢٨٤.
٣٢  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٣٦٧.
٣٣  ديباج، سيد موسى، مصدر سابق، ص٢٧٧.
٣٤  ديباج، سيد موسى، مصدر سابق، ص٢٧٤.
٣٥  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٨٩، و١٤٢.
٣٦  المصدر السابق. ص٣٣٣-٣٣٤.
٣٧  سروش، عبد الكريم، سياست – نامه، طهران، صراط، ١٣٧٨ش = ١٩٩٩م، ص١٩٥–٢٠٠؛ قصه ارباب معرفت، طهران، صرط، ١٣٧٩ش = ٢٠٠٠م، ص٤٣٧.
٣٨  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٦٠، ١٣٦، ٢١٨، ٤٠٦.
٣٩  ديباج، سيد موسى، مصدر سابق، ص١٨٤؛ فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص١٢٥.
٤٠  فرديد، أحمد، مصدر سابق، ص٥٣، و٧٧، و٧٨.
٤١  المصدر السابق، ص٣٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥