أحمد فرديد: فيلسوف ضد الفلسفة
(١) عائلة أحمد فرديد وتربيته وتعليمه
صنَّفنا في كتابةٍ سابقة اتجاهات الفكر الديني في إيران، تبعًا لمرجعياتها الغربية، كما يلي:
-
(١)
هايدغريون، نسبة إلى مارتن هايدغر.
-
(٢)
غينونيون، نسبة إلى رينيه غينون.
-
(٣)
ماركسيون، نسبة إلى كارل ماركس.
-
(٤)
بوبريون، نسبة إلى كارل بوبر.
إن كان هذا التصنيف بوصلة ترشدنا إلى التعرف على شيء من وجهة اتجاهات الفكر الديني في إيران، فإنه يتكتم على شيءٍ آخر من وجوه الحقيقة؛ ذلك أن هناك جماعةً من المفكرين لا يصح أن ندرجهم في هذا التصنيف، كما في الحوزة العلمية، أو جماعة المفكرين خارج الحوزة اليوم، الذين ينفتحون على مرجعياتٍ حرة متنوعة، تستقي من مختلف فلاسفة التنوير والحداثة وما بعدها، فلا تسجن عقلها في قفصٍ محدَّد، ولا تقتصر على مرجعية فيلسوف أو مدرسة أو اتجاهٍ فكري خاص. حتى مَن كان يصنف على تلك المرجعيات بداية مسيرته الفكرية استطاع في مراحلَ لاحقة أن يخرج منها وينقدها ويفككها. هذا هو واقع أكثر المفكرين اليوم في إيران، ممن شقوا طريقهم الخاص واستقلُّوا، وخرجوا من جلباب المعلمين الذين وقعوا في أَسْرهم السنوات المبكرة من حياتهم.
من زاويةٍ أخرى هذا التصنيف ليس دقيقًا؛ لأنه استُخدم لإدانة بعض المفكرين المعروفين، ممن وضعَهم خصومُهم تحت رؤية ماركس أو بوبر، بغية تبخيس منجَزهم المعرفي، واتهامهم بالانسلاخ عن هويتهم الإيرانية الإسلامية الشرقية.
أحمد فرديد متفلسف، لساني فيلولوجي، استند إلى هايدغر كمرجعية، وقرأه في ضوء عرفان محيي الدين بن عربي بتأويلٍ غريبٍ ينفرد به، وترجمات هنري كوربن الفرنسية، وخلع على مفاهيمه ومقولاته ما يحلو من توصيفات وتسميات وتأويلات. في عام ١٩١٠م، أو ١٩١٢م، وُلد السيد أحمد مهيني يزدي، في يزد وسط إيران، لعائلة تعمل في الزراعة، ميسورة الحال اقتصاديًّا. أصاب تعليمًا تقليديًّا، فدرَس مقدمات معارف المعقول والمنقول، واللغة العربية. وبتوجيه من أبيه بدأ بتعلُّم اللغة الفرنسية بعمر اثنَي عشر عامًا، وعند بلوغه سبعة عشر عامًا استطاع المطالعة بالعربية والفرنسية. كان يميل لتعلُّم الرياضيات في هذه الحقبة من حياته.
في عام ١٩٣٩م، غيَّر لقبه من «مهيني يزدي» إلى «فرديد»، وفرديد تعني «الرؤية المتسامية، أو النظرة الواسعة الأفق»، فظهر اسمه «أحمد فرديد» في هيئة تحرير «سخن»، وهي المجلة التي سينشر فيها مقالاته الثلاث في السنوات ١٩٤٤–١٩٤٦م.
عام ١٩٤٧م، سافر فرديد إلى باريس في بعثة لإكمال دراسته في جامعة السوربون، وبعد أن مكث في فرنسا وألمانيا ثماني سنوات، عاد إلى طهران سنة ١٩٥٥م. وبرغم دراسته العليا في السوربون، فإنه لم يكتب أطروحة دكتوراه؛ لذلك لم يرتقِ إلى درجة الأستاذية، حتى عام ١٩٦٨م، حين أصبح فضل الله رضا رئيسًا لجامعة طهران، وسيد حسين نصر عميدًا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة، فعادَلوا شهادته بالدكتوراه، ومنحوه درجة أستاذ، بعد أن كان مدرسًا لتاريخ الفلسفة والفلسفة الوجودية واللغات القديمة في الجامعة، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
إغواء السلطة
امتدَّت مطامح فرديد للحياة السياسية؛ فعندما عطَّل الشاه محمد رضا بهلوي كافة الأحزاب، وأعلن عن تأسيس «حزب رستاخيز» سنة ١٩٧٦م، اقترب فرديد من حزب السلطة، وحاول حزب رستاخيز أن يُشرِكه في بعض حلقات البحث والمناظرة، وعرَّفَت به «نشرة العلاقات العامة لحزب رستاخيز»، كما ظهرَت منتخباتٌ من آرائه ووجهات نظره في هذه النشرة. وأجرى معه علي رضا ميبدي حوارًا مطولًا، نُشر في أكثر من عدد في جريدة الحزب، سنة ١٩٧٦م. واشترك فرديد في عدة حلقاتٍ نقاشيةٍ تلفزيونيةٍ في تلك الأيام.
في سنة ١٩٧٨م، أعلن فرديد تأييده للثورة الإسلامية بعد انتصارها، ونظَّم سلسلة محاضرات في سنوات ١٩٧٩–١٩٨٢م، لدعمها وتأييدها. لم يقتصر دعمه للثورة على الخطابات والمحاضرات، بل رشَّح نفسه لانتخابات مجلس خبراء صياغة الدستور سنة ١٩٧٩م، لكنه أخفق في تحشيد العدد المطلوب من الأصوات للفوز بمقعد في المجلس. واشترك أيضًا في مؤتمرٍ تمهيدي لتدوين الدستور في جامعة طهران.
ورغم أن فرديد تقاعد عن العمل في الجامعة منذ سنة ١٩٧٢م، فإنه واصل نشاطه ومحاضراته في الجامعة، حتى عُطلَت محاضراته الأسبوعية المنظَّمة في الجامعة سنة ١٩٨٢م. ولم يتوقف بل واصل مشاركته في بعض التجمُّعات، كذلك نظَّم حلقة لنخبة من المثقفين في منزله. وفي عام ١٩٩٢م، عطَّل حلقته المنزلية، وأوقف محاضراته، وامتنع عن استقبال الآخرين في بيته، متفرغًا للخلوة بنفسه، إلى وفاته في ٢٥ مرداد ١٣٧٣ش/١٩٩٤م.
(٢) الحلقة الفرديدية
الفيلسوف الشفاهي
لبث فرديد ضنينًا بالنشر حتى آخر يوم في حياته، لم تُعرف له سوى ثلاث مقالات نشرها في مجلة «سخن» في بداية حياته، ولم يعرف القُراء له أثرًا سوى ذلك فيما بعدُ، مع أنه ظلَّ على الدوام حريصًا على التبشير بأفكاره والدعوة إليها بإصرار وحماس وعناد، عبْر التدريس والمحاضرات والحلقات النقاشية والندوات، بل كان أحد أبرز عناوين الضجة الفكرية في نصف القرن الأخير في إيران.
الهوية قارَّة ساكنة
يمكن تصنيف المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين، تبعًا لمشاغلهم الفكرية، إلى نوعَين:
- الأول: جماعة تفكيرهم «الهوية» والعودة إلى الذات الإيرانية، و«الروحانية الشرقية»، هؤلاء تتداخل مواقفهم حدَّ الاختلاط أحيانًا، وتتميز حدَّ التنابذ أحيانًا أخرى.
- الثاني: جماعة تفكيرهم «الدين» وإحياء الفكر الديني أو إصلاحه أو تجديده، وإعادة قراءة النصوص الدينية في ضوء رهانات الواقع ومعطيات الفلسفة والمعارف الحديثة. هؤلاء أيضًا تتداخل مواقفهم حدَّ الاختلاط أحيانًا، وتتميز حدَّ التنابذ أحيانًا أخرى.
أحمد فرديد أبرز ممثِّل للنمط الأول من التفكير. هاجسه المزمن الهوية، الهوية في رأيه متصلبة قارَّة ساكنة. الشرق والغرب مفهومان فلسفيان أنطولوجيان، حقيقة كلٍّ منهما جوهرانية أبدية، لا تتبدل، ولا تتغير. عُرف فرديد على نطاقٍ واسع لدى النخبة الإيرانية، بعد أن نشر الناقدُ والقاصُّ جلال آل أحمد كتابه الشهير بالفارسية «غرب زدگي»، بمعنى «الإصابة بالغرب، أو وباء الغرب». وكان آل أحمد استعار هذا المصطلح من أحمد فرديد، الذي يعود إليه السبق في نحته وصياغته للمرة الأولى بالفارسية، عندما كانا معًا أعضاء في «مجلس أهداف الثقافة الإيرانية»، سنة ١٩٦١-١٩٦٢م. أصدرَت وزارة الثقافة تقارير أعضاء المجلس سنة ١٩٦٢م، إلا أنها أهملَت تقرير جلال آل أحمد، فنشره هو في السنة نفسها.
(٣) قراءة لهايدغر في أفق عرفان ابن عربي
-
(١)
الحكمة الإنسية الإسلامية.
-
(٢)
تفكير مارتن هايدغر.
-
(٣)
مبادئ علم الاسم.»١٥
الحكمة الإنسية عند فرديد ضربٌ من تهجين عرفان ابن عربي بفلسفة هايدغر. وخلط مفاهيمَ متباينة، تنتمي إلى نظامَين معرفيَّين متباينَين، ونمطَين وجوديَّين مختلفَين؛ الأول ينتمي إلى العالم القديم، فيما ينتمي الثاني إلى العالم الجديد. يقتبس فرديد الأسماء الإلهية من «الفص الآدمي» في كتاب «فصوص الحكم» لابن عربي، الذي هو أثرى وأعمقُ نصٍّ في العرفان، مثلما يقتبس «الدازاين» من هايدغر، وطبقًا لتفسيره الخاص لهايدغر، يزعم أن «الدازاين» يتطابق مع مفهوم «الإنسان الكامل» عند ابن عربي، وهو تأويلٌ غريب جدًّا ﻟ «الدازاين» يرفضه هذا المصطلح الهايدغري الخاص؛ لذلك لم يقله أحدٌ من دارسي آثار هايدغر ومترجميه في الغرب والشرق.
بصمة ترجمة كوربن لهايدغر في فكر فرديد
(٤) فلسفة التاريخ عند فرديد
«التاريخ واللغة» بُعدان مركزيان لمفهوم الإنسان عند فرديد. كل موجود مظهر لاسم، والإنسان هو المظهر التام للأسماء الإلهية، والإنسان التاريخي مظهر للأسماء. يوظِّف فرديد كل ما يمتلك من أفكار وآراء ليصوغ تحقيبًا للتاريخ، تتحدد مسيرته في مراحل، وكأنها تحاكي تحقيب «المادية التاريخية» في الماركسية.
يقدم فرديد تفسيرًا لديناميكية صيرورة التاريخ، يستعير فيه مفاهيمَ مفتاحيةً لأرسطو، وتبعًا لتحليله فإن كل مرحلة تاريخية تتضمن «مادة وصورة». الصورة التاريخية لأيِّ مرحلة هي كلٌّ واحد، يشمل العلاقات والشئون: الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. أما «مادة» كل مرحلة فهي عبارة عن الصورة النوعية للمرحلة السابقة، مع غلبة الصورة الجديدة، بعد غياب الصورة الماضية. في كل مرحلة هناك غلبةٌ لاسمٍ إلهي خاص، وبعبارةٍ أخرى حكومة لصورةٍ نوعيةٍ خاصة.
حاول فرديد أن يقدم تأويلًا لمفهوم ابن عربي للأسماء الإلهية، ينتزعها من مجالها الأنطولوجي الميتافيزيقي، وعوالمها المجردة، ويُقحمها في مجال التاريخ البشري. والذين خبروا عرفان ابن عربي لا يجدون أية مناسبة لقبول مثل هذا التأويل، بل يرون ذلك نموذجًا للخلط بين مفاهيمَ متضادة. وقع الفكر الديني في إيران أسيرًا للنزعة الغنوصية الباطنية لهنري كوربن وفكره الميتافيزيقي، الذي ينسى العقل، ولا يحاول أن يوظف شيئًا من مكاسب فلسفة الأنوار والعقلانية النقدية. تتمحور أعمالُ كوربن حول عوالم الميتافيزيقا، وحتى لو تحدث عن الإنسان فهو يتحدث عن إنسان عالم الغيب وليس إنسان عالم الشهادة الذي يعيش في الأرض، كوربن كان مُولَعًا بشيخ الإشراق السهروَردي، وبغنوص وباطنية التشيع الإسماعيلي، وانعكس ذلك في تأويلات كوربن وفهمه لهايدغر والعرفان الإسلامي. لم يكن فكر فرديد وحلقته الفكرية الأسبوعية إلا ولادةً جديدةً لفكر كوربن، بلغةٍ ومصطلحاتٍ إضافية أشد التباسًا وغموضًا وتهافتًا.
(٥) غواية اللغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن
تميز أحمد فرديد بموهبةٍ وذكاءٍ نادر، وتكوينٍ وخبرةٍ ممتازة في اللسانيات والفيلولوجيا، وبراعةٍ في ابتكارِ ونحتِ المصطلحات، والتقاطِ ألفاظٍ من مجالٍ تداولي وزجِّها في مجالٍ مغاير. هذا ما منح خطابَه وأحاديثَه حساسيةً لغوية فائقة، وجاذبيةً فريدة وقع في شراكها كثيرٌ ممن أصغَوا إليها. تحرَّرَت مصطلحاتُه من الألفاظ والكلمات المستنزَفة بالاستعمال المكرَّر المبتذَل حدَّ الإنهاك. غواية لغته بهرَت أبرزَ مثقفي عصره، وأغوتهم بالإنصاتِ لصوته المميز والتلقي منه، والإدمانِ على حضور ندوته الأسبوعية «الحلقة الفرديدية».
غوايةُ اللغة الناتجة عن توترها وإبهامها وضبابيتها، عمَّقَت سطوتَه في الحياة الفكرية الإيرانية، وأثارت الكثيرَ من النقاشات والجدل حول أفكاره؛ فضلًا عن موقفِه الجذري الرافض للغرب، وهجائِه للفلاسفة والمفكرين، في زمنٍ كانت النخبةُ المفتونة بالثقافة الغربية متهمة، واتهاماتُه العنيفة للمثقفين الإيرانيين. لا يرى فرديد الغرب، منذ العصر اليوناني حتى اليوم، مفهومًا جغرافيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا، بل مفهومُه للغرب أنطولوجي ميتافيزيقي، تبعًا لهايدغر.
يختبئ بعضُ المفكرين وراء الألفاظ، فيشتقون مصطلحاتٍ بالعودة إلى جذورها اللغوية، أو يزاوجون ويركِّبون مصطلحاتٍ أخرى باستعارتها من معجمٍ تراثي، ويُسقطونها على مفهومٍ مستعار من الفلسفة والعلوم الإنسانية الغربية الحديثة بطريقةٍ متنكرة. ذلك ما فعله فرديد، حين أسقط المعجمَ الاصطلاحي لمحيي الدين بن عربي على فلسفة هايدغر، فأنتج مخلوقاتٍ لغويةً هجينة تثير الدهشة، لا تعبِّر عن هايدغر، مثلما لا تتجلى فيها رؤيا ابن عربي واستبصاراتُه المضيئة الرحبة.
غواية اللغة الفرديدية وإبهامها قريبان من غواية لغة المفكر المغربي طه عبد الرحمن وإبهامها، الذي يعمد إلى نحتِ مصطلحاتٍ بديلة لما هو شائع ومتعارَف عليه بالعربية. تلك المصطلحات صاغها في ضوء خبرته وتكوينه المتميز بفلسفة اللغة والمنطق الحديث، يحاول في سياق هذه المصطلحات إعادةَ إنتاج التراث، وتلوينَه بآرائه ومواقفه التراثية. كما اصطادت غوايةُ لغة فرديد أبرزَ المثقفين الإيرانيين، اصطادت غوايةُ لغة طه أكثرَ شباب الحركة الإسلامية العرب وفي وطنه قبل ذلك، من ذوي التكوين الأكاديمي الحديث، الذين سئموا من تبسيطِ أدبيات هذه الحركة، وسطحيتِها المضجِرة وشعاراتِها المُمِلة. شبابٌ قادهم الحنين إلى الهوية والبحث عن الجذور، للانبهار بكتابات طه. معظم هؤلاء لم يكتشفوا أبعادَ التراث المتنوعة، ويجهلون منزلقاتِه ومسالكَه ودروبَه، التي لا يفضي بعضُها إلا إلى المزيد من المتاهات، لمن لا يعرف مسالكَه جيدًا.
التكوين الأكاديمي والبيئة الثقافية والمناهل الموروثة لطه عبد الرحمن لا تتطابق بتمامها مع سياقاتِ تكوين أحمد فرديد وبيئتِه وثقافتِه. فرديد تمحور تفكيرُه حول هايدغر ومدرسةِ ابن عربي وتلامذتِه وشراحِه، والتصوفِ الفلسفي والعرفان النظري، وطه عبد الرحمن استند في اشتقاقاته إلى القاموسِ اللغوي، والمقولاتِ الاعتقادية للأشعري، والتصوفِ الطرقي، ومعجمِ التراث الأخلاقي. لكنهما يعمدان معًا إلى تلوينِ التراث وإلباسِه رداءً اصطلاحيًّا جديدًا، يشبه ارتداءَ عجوزٍ طاعنة في السنِّ لثيابِ عروس، وطلاءِ وجهها بمساحيقَ تجميليةٍ صاخبة.
لا يصدق على كتابات طه أنها فلسفة، وهكذا لا يصدق على أقوال فرديد مفهومُ الفلسفة. الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي المستقل، لغةُ ومصطلحاتُ الفلسفة تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والميثولوجيا واللامعقول. العقلُ مرجعيتُه العقل لا مرجعيةَ له خارجه، العقلُ مرجعيةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أفعالِ الذهن وإبداعِه مهما كان. العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ وحدودِ ما هو خارجه مما ينتجه المتخيَّلُ وغيرُه. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، يكون هو مرجعيةَ تمحيصِ تفكيره، ومرجعيةَ تمحيصِ ما سواه مما ينتجه الذهن، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقل تدخل الروح والقلب والعاطفة في متاهاتٍ أبدية. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوِّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارج حدوده. الفيلسوف يحاول أن يفسِّر حقيقةَ الظواهر والأشياء وماهيتَها، يفسِّر حقيقةَ العلم وماهيتَه، الفيزياء والكيمياء ومختلفُ العلوم تنشغل باكتشافِ قوانين الطبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها وماهيتها.
أحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظةٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمةٍ من عقله. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية. ذلك ما يجعل بعضَ الفلاسفة يبدءون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة. الفيلسوف ينشغل بفعلِ التفلسف، يفكِّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة والأجوبة الوجودية، يبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وينتهي بنتائج فلسفية ومنطقية. تفلسفُ الفيلسوف يعني أنه يقدِّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر ويبحث عن حقيقتها. لا يُنكَر أن طه عبد الرحمن مثقفٌ موسوعيٌّ خبيرٌ بالتراث والحداثة، يمتلك موهبةً فذَّة وذكاءً فريدًا، وتكوينًا بالفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة جادًّا، وخبرةً واسعة بالتراث، غير أن كتاباتِه الفلسفية والمنطقية تبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وتنتهي بنتائجَ لاهوتية.
لا يمكن إنكارُ ذكاء طه عبد الرحمن، ولا علم طه وموهبته الفذة. الذكاء والعبقرية والموهبة الاستثنائية لا تكفي وحدها لمن يفكِّر ويكتب ويتحدث في الدين. المفكر الديني يحتاج القلبَ بموازاة العقل، يحتاج النظرَ للإنسان المختلِف في معتقَده بنور الله، وأن تحضر رحمةُ الله بكتابات هذا المفكر وكلماته، ويرى الإنسانَ بوصفه إنسانًا بمرآة الرحمة، بغَضِّ النظر عن دينِ الإنسان وهويتِه الاعتقادية والقومية والثقافية والجغرافية. الرحمة صوت الله، وعنوانُ رحمانية كلِّ دين وإنسانيتِه وأخلاقيته. الدين لا يحتاج عباقرةً فقط، الدين يحتاج رحماءَ قبل أن يكونوا عباقرة.
(٦) الإصابة بالغرب
ينحت فرديد مصطلح «غربزدگي» بمعنى «الإصابة بالغرب»، ويرى أن الغرب بمثابة وباء أصاب اليونان القديمة، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومنها تفشَّى فتسمَّم به العالم. «الإصابة بالغرب»، عنده عبارةٌ عن حقيقة «الإصابة باليونان»، «زدن» بالفارسية تعني: «الضرب»، و«زد» هو الفعل «ضرب»، الذي تتنوع استعمالاته في اللغة الفارسية، ولا سيما العامية منها. «زدگي» تعني «تلقِّي الضربة»، أو «الإصابة»، فيقال «طاعون زدگي»، بمعنى «الإصابة بالطاعون»، و«زلزله زدگي»، بمعنى «الإصابة بالزلزال»، ويُلحِق فرديد «زدگي» بعدة كلمات، مثل: «طاغوت زدگي»، بمعنى «الإصابة بالطاغوت»، و«يونان زدگي»، بمعنى «الإصابة باليونان» … وهكذا. «الإصابة بالغرب/غربزدگي» من المفاهيم المحورية المفتاحية في فكر فرديد، ودراسة مراحل التاريخ لديه، والتعرف على موقفه من الفلاسفة والمفكرين والمعتقدات والتيارات الفكرية، والحوادث الهامة في التاريخ البشري.
(٧) فكر خارج الأنظمة المعرفية
لا يهتم فرديد بالاستدلال والبرهان على دعاواه الغريبة، وتوصيفاته الصارمة، وأحكامه القاسية على مختلف الفلاسفة والمفكرين الغربيين والمسلمين في إيران وغيرها، ولا يكترث بمواقف الآخرين وآرائهم. ومع أننا لا نعثر على صدًى لفكره لدى عامة الناس في إيران، غير أن شخصيته الفكرية ظلَّت ما يقارب النصف قرن تثير مختلف الجدالات والسجالات والمنازعات في المشهد الفكري الإيراني، وربما لا نجد مثقفًا إيرانيًّا فاعلًا ومنتجًا في تلك الحقبة لم ينخرط في حلقته «الفرديدية»، أو يتتلمذ عليه، أو يتطوع لحضور دروسه ومحاضراته في الجامعة، أو يتخذ موقفًا مؤيدًا أو معارضًا له. بل يتفق حتى أولئك المثقفون المشاكسون النرجسيون الناقدون بشدة لسواهم على تميز صوت فرديد، وغرابة مفهوماته وغوايتها ومفارقتها لما هو مُتداوَل ومعروف، وتأثيرها البالغ في الحياة الفكرية الإيرانية المعاصرة.
في مراجعةٍ واسعة لما كتبه عنه المثقفون من جيله وغيرهم، والشهادات والانطباعات والملاحظات التي صدرَت عنهم، رأيتُهم يتفقون على غموضه والتباس فكره وتعبيره، وحتى شخصيته وسلوكه. ويعتقد معظمهم بالآثار السلبية لفكره في إيران، لكنهم لا يتنكرون لشخصيته الساحرة، وقدراته الذهنية المُدهِشة في استقطاب النُّخَب الفكرية، وزجِّها في مشاغله ومدارات تفكيره.
هكذا يبدو فرديد مفكرًا خارج الأنساق والأنظمة المعرفية، فريدًا في رؤاه، مختلفًا في مفاهيمه، ليس متسقًا في صياغة آرائه، مخلوقاته اللغوية مصطلحاته التي يبتكرها بعناية، غير واضح في تنظيم أفكاره، لا منطقيًّا في وعيه، لا فلسفيًّا في تفكيره الفلسفي. فرديد يفكر بالفلسفة خارج العقل، الفلسفة صوت العقل الذي لا يختلط بصوت ينقضه. فرديد مرآة لنمط من الفكر نعثر على نماذجَ أخرى له في إيران، تُحاكيه في تركيبها وضبابيتها وإبهامها، وفي تكوينها اللغوي، ودمجها بين العرفان والفلسفة، والفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية والمدارس الفكرية في الغرب.