جلال آل أحمد: البحث عن الإنسان في الحج
(١) عائلة آل أحمد وتربيته وتعليمه
وُلد محمد حسين حسيني طالقاني، الذي اشتُهر ﺑ «جلال آل أحمد»، في ١ / ١٢ / ١٩٢٣م، في طهران، لعائلة محافظة؛ إذ كان والده رجلَ دين، ناشطًا في الحقل الاجتماعي، ويتولى إدارة مؤسسات شرعية للأحوال الشخصية، ويؤمُّ المصلين في بعض مساجد طهران، إلا أن الأب سرعان ما فقد مواقعه في هذه المؤسسات، عندما رفض الرضوخ لقرارات وزارة العدل، بالإشراف على أنشطة مؤسسات الاحوال الشخصية، وتوجيه عملها. وفضَّل الاقتصار على شيء من نشاطه الديني الاجتماعي في التبليغ والدعوة.
تعذَّر على آل أحمد أن يواصل دراسته بشكلٍ عادي، بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية إثر تدهور الحالة المعيشية لأسرته، وحذَر والده من التعليم الحديث، ورغبته في تواصل أبنائه مع التعليم الديني التقليدي. قرَّر جلال الانخراط خفيةً في دراسةٍ مسائية ليكمل تعليمه الإعدادي في مدرسة «دار الفنون» الشهيرة في طهران، على الرغم من انشغاله نهارًا بأعمال حرفية في السوق بُغية تأمين متطلبات العيش.
كان يروم الذهاب من النجف إلى لبنان للالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت، لولا أن السبل لم تكن ممهدة لسفره فقفل راجعًا إلى طهران، والتحق بالمعهد العالي لإعداد المعلمين، وتخرَّج منه سنة ١٩٤٩م، ونال درجة الماجستير في الأدب الفارسي من جامعة طهران على أطروحة تناول فيها قصص «ألف ليلة وليلة». اقترن آل أحمد عام ١٩٤٩م بالقاصَّة المعروفة سيمين دانشور، بعد أن تعرَّف عليها في رحلة بالسيارة إلى شيراز.
في سنة ١٩٤٤م انخرط في حزب توده «الحزب الشيوعي الإيراني»، وسرعان ما تقدم موقعه في السلَّم الحزبي، حتى أمسى بعد أعوامٍ محدودة عضوًا قياديًّا في توده، ومشرفًا على النشاط الإعلامي والثقافي للحزب. إلا أن عدم استقلالية حزب توده، وارتباطه العضوي بسياسات ستالين، وخضوعه لإرادة موسكو، وافتقاره للديمقراطية الداخلية أفزع آل أحمد، ودفعه للانشقاق عن الحزب سنة ١٩٤٧م بصحبة جماعة تزعَّمهم خليل ملكي. إذاعة موسكو هاجمَتْهم، ووصمَتْهم بالخونة، فسئم آل أحمد العمل السياسي، وانسحب بهدوء بعيدًا عن صخب مثل هذه التنظيمات الحزبية، وخفايا حياتها الداخلية.
في أيار ١٩٥١م أسَّس خليل ملكي ومظفر بقائي كرماني «حزب كادحي الشعب الإيراني» فالتحق بهما، لكن هذا الحزب انهار بعد مدةٍ قصيرة عام ١٩٥٢م. مرةً أخرى أسَّس خليل ملكي بالتعاون مع آل أحمد حزبًا جديدًا سمَّوه «القوة الثالثة». وهو حركة ذات نزعة «عالمثالثية» تهتم بمشكلات التخلف وقضايا التنمية والتحديث في العالم الثالث.
انقلاب ١٩٥٣م أطاح بمحمد مصدق، وقوض عملية تأميم البترول، والخلاص من هيمنة الشركات الغربية على البترول، فقاد ذلك آل أحمد ومجموعة من المستنيرين الإيرانيين لمغادرة مواقعهم السياسية، والانخراط في مشاغل أدبية وثقافية تنأى عن متاعب السياسة وشجونها. من المؤكَّد أن تلك التجارب الحياتية، والتقلبات السياسية المتنوعة ظلت ترفد حياة آل أحمد باستمرار، وتُسهِم في توجيه حياته وتحديد اختياراته الثقافية والعملية، ويتواصل تأثيرها على مواقفه الفكرية في السنوات التالية.
يمكن العثور على عناصر أخرى، بجوار تلك التجارب، كانت تمثل مناهل أساسية في تكوين وعي آل أحمد، وبناء فكره، وتأجيج عواطفه، والتحكم باتجاهاته فيما بعد. من أهم هذه المناهل الأدباء والمثقفون والمفكرون الأوائل الذين تعرَّف عليهم من خلال كتاباتهم، أو ربطَتْه بهم علاقاتٌ شخصية، وفي طليعة ذلك قراءته لآراء أحمد كسروي الذي اشتُهر بنزوعه القومي، ومؤلفاته المناهضة للتراث، ونقده للفكر الديني، وعلاقة آل أحمد بالقاصِّ الشهير صادق هدايت، ورائد الشعر الحديث بالفارسية نيما يوشج، والناشط السياسي خليل ملكي.
(٢) وباء الغرب
طبعَت وعيَ آل أحمد هواجسُ أضرابه في عالمنا، هذه الهواجس كان يفجرها على الدوام انشطار وعيهم حيال رهانات الهوية والماضي من جهة، والعصر وتحدياته من جهة أخرى، مضافًا إلى الاستفهامات الملتبسة للنهضة والتحديث، وجدل التراث والوافد، وسطوة التكنولوجيا الغربية، وتغلغلها في المجالات كافة، وإزاحتها لمكونات الاجتماع التقليدي، وقِيَمه الموروثة، واستبدالها بالتدريج بقيمٍ تحكي روح الحضارة الغربية، وتجسِّد مفاهيمَ ومقولاتٍ تخترق بِنية هذه المجتمعات، وتسود في حياتها على شكلِ ظواهرَ حضارية وثقافية واجتماعية واقتصادية.
شعر آل أحمد بعُمق تلك التحولات، ورصَد آثارها في الحاضر، وحاوَل أن يستشرفَ مآلها ونتائجها ليدرك أن مجتمعه يجتاحه إعصار، إذا لم تسخَّر كل الطاقات لمقاومته فإنه سيعصف بهوية هذا المجتمع، ويطيح بمقومات وجوده، ويمسخه، فيحيله إلى كائنٍ مشوَّه.
استعار جلال آل أحمد هذا المفهوم الفلسفي من فرديد، وصاغه صياغةً أيديولوجيةً حادَّة، وعبَّأه بأفكاره التي استقَى شيئًا منها في المرحلة الماركسية من حياته، وهي أفكارٌ تمنح آلات الإنتاج دورًا مركزيًّا في حركة التاريخ، وبناء المجتمعات وفقًا لمعاييرها الخاصَّة.
يُعرِّف آل أحمد «الإصابة بالغرب» بأنه: «مجموعة الأعراض التي تطرأ على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، وبدون أن يكون دخولها تدريجيًّا يسمح بالاستعداد لها، وانما تُداهمنا دفعةً واحدة لتقول: أنا هدية الآلة إليكم، أو قُل إنها الممهِّد للآلة.»
يُعرف آل أحمد بتوجُّسه الشديد من كل شيء يرمز للغرب وثقافته، وبالأخص معطيات التكنولوجيا الغربية؛ فهو يرى أن كل شيء في عالمنا تدنِّسه الماكنة، و«يتمكنن»، وعندما يتمكنن يجري تهشيمه ونسفه. لعلَّ مصدر هذا الفزع هو خيبة الأمل المزدوجة من الغرب بقناعه الأمريكي الذي أسقط حكومة محمد مصدق، وأطاح بإصلاحاته التي جسَّدَت بعض أحلام جلال آل أحمد والنخبة الإيرانية، وخيبة الأمل من الاتحاد السوفيتي الذي يرمز للماكنة والسلع الغربية أيضًا، وما لاحظه آل أحمد من قيم وثقافة وافدة يفرضها نمط الماكنة والسلعة الآتية من الغرب، وما تمثله الماكنة من مركزية محورية في خلق إشكالية التغريب الحضاري.
كما أن حظر الشاه رضا خان للحجاب، وإكراه رجال الدين على خلع العمامة، واختصار مكاسب الغرب في أزياء النساء، أو عمامة رجال الدين اختزن في وجدان آل أحمد وغيره من مواطنيه عداءً كامنًا للغرب، ما لبث أن انفجر في نزعات نفي وإقصاء شمولية تلفظ كل ما هو غربي.
عرض آل أحمد آراءه هذه في دراسة كتبها كتقرير إلى مجلس أهداف الثقافة الإيرانية في وزارة التربية والتعليم سنة ١٩٦٢م، تحت عنوان «غرب زدگي» أي «الإصابة بالغرب». كان المجلس يضم في عضويته عشرة أشخاص، من ضمنهم أحمد فرديد. تداول المجلس إمكانية نشر دراسة آل أحمد، غير أنه خلص إلى تعذُّر النشر بسبب نقده الصريح للنظام، وفضح دوره في تلويث الفضاء الثقافي للمجتمع بوباء الغرب.
ربما هذا التقييم ينطوي على مبالغة في بيان أهمية كتاب آل أحمد، لكن بغَض النظر عن القيمة العلمية للكتاب، فإنه عملٌ سجالي مشبوب بالإثارة والنقد الأيديولوجي للغرب، إنه خطابٌ تعبوي، هو أقرب إلى الشعارات الحماسية منه إلى البحث العلمي والدراسة الموضوعية. تكمن أهميةُ الكتاب في أثره التعبوي على تحريض الجماهير ضد كل شيء غربي، وترسيخ عدائها لكل ما هو غربي. عداء عَمِل على تثوير الشعب الإيراني، إلا أنه بدأ يضمحلُّ في السنوات الاخيرة عند النخبة الإيرانية التي راحت تنشُد صورةً بديلة للغرب، صورة تستبعد الرؤية الخطأ التي تحسب تمام مكاسب الحضارة الغربية ومعارفها، ليست سوى ماكنة، ثم تهاجم بعنف تلك الماكنة، وتكيل لها ألوان التهم، كما كانت وما زالت تفعل الاتجاهات اليسارية في العالم. للغرب الحديث أبعادٌ متنوعة، الغرب ليس ماكنة فقط. لا يصح اختزال أية حضارة في بُعدٍ واحد، الموقف العلمي يفرض على الباحث ألا يتجاهل ما أنجزه الغرب الحديث، من: علوم طبيعية، وعلوم بحتة، وتكنولوجيا، وفلسفة وعلوم إنسانية، وآداب، وفنون، وحريات وحقوق … وغير ذلك. أما الخلط العشوائي بين العلوم والمعارف والتكنولوجيا الغربية، من جهة، والوجه الاستعماري للغرب من جهة أخرى، فهو بحاجة إلى مراجعة وتحليل نقدي يحررنا من الرؤيا الإطلاقية الشمولية غير الموضوعية.
ظل خطاب آل أحمد حيال «المكننة»، وأثرها التغريبي في الشرق، ودورها في استئصال صورة الحياة التقليدية، وتدنيسها طهرانية عالمنا، محكومًا بما يمكن تسميته بعقدة «المكننة» في غير واحد من كتاباته الأخرى، كما نقرؤه في كتابه الأثير الذي نقد فيه النخبة، ووسم مواقفهم بالخيانة، وهو ما يعلنه عنوانه: «المستنيرون: خدمات وخيانات».
«عقدة المكننة» واحدة من العُقد النفسية التي تفجَّرت في ضمير آل أحمد وغيره من المفكِّرين، الذين أسرَتْهم الهوية والتراث والخصوصية والأصالة وما أنجزه الأسلافُ. أصبحَت الهوية في ضميرهم كأنها وثن، في حين أصبح كلُّ شيء يرمز للغرب في ضميرهم شيطانًا. يتبلور هذا الموقف في الغالب لدى هؤلاء المفكرين في الشرق، بوصفه رد فعل على سياسات الحكام المستبدة إزاء التراث وقيمه، وما يلبث منطق رد الفعل هذا أن يستبد هو الآخر بمواقف المفكرين ورؤيتهم ومنجَزهم، فيغدو آسرًا لمشاعرهم، محتكرًا لقواهم العقلية، مستنفدًا لقدرات تفكيرهم على إنتاج الرؤى والأفكار العقلانية العلمية. ينطبق تمامًا هذا الكلام على ما وصفناه ﺑ «العقدة» هنا، التي تمكَّنَت من جلال، حتى تسرَّبَت إلى كتابه الجميل «قشة في الميقات» أيضًا؛ إذ صار يستفزه ويثير قرفَه كلُّ شيء يشير إلى الغرب، وسلعه، أو يرمز له؛ بحيث تبدو المصابيح وأنوارها المشرقة في المشاهد المشرفة شيئًا يثير اشمئزازه، بوصف تلك المصابيح مصنوعة ومصمَّمة على طراز غربي تدنِّس الفضاء النقي الطاهر، حسب قوله.
حين يستعير هذه الفكرة، يعمل جلال على محاكاةٍ مبتذلة لهايدغر ورأيه المعروف في ميتافيزيقيا التكنولوجيا، وكيفية إنتاجها لنمطها الوجودي الخاصِّ في عصرها. يتورط آل أحمد في تفسيرٍ مبسَّط غائم، تبعًا لفرديد الذي يتداول مفاهيم هايدغر بفهمٍ ملتبس غامض، يلوِّنه فرديد بنكهةٍ عرفانيةٍ مبهمة، هي للسحر أقرب منها للفكر.
(٣) قشة في الميقات
بدأ جلال رحلته السياسية الفكرية بموسكو بعد شغفه والتحاقه بحزب توده في السنوات ١٩٤٤–١٩٤٧م. ثم أقلع منها إلى باريس، فانخرط في تيارات الأدب والثقافة الفرنسية، وشُغف بألبير كامو، وسارتر، وغيرهما، فترجم «الغريب» لألبير كامو بالتعاون مع د. أصغرخبرزاده، سنة ١٩٤٩م، و«سوء التفاهم» لألبيركامو أيضًا سنة ١٩٥٠م، كذلك ترجم «الأيدي القذرة» لسارتر سنة ١٩٥٢م.
استأنف العودة للدين والتراث، فَيَمَّم آل أحمد وجهه صوب مكة، وتبلور في وعيه نزوعٌ واضح نحو الحياة الروحية، والتراث، والماضي. كان كتابُه «الإصابة بالغرب» أولَ بيان صريح حلَّل فيه آثار التغريب في إيران، وأردَف ذلك بعد سنواتٍ بكتابٍ هجائي للمثقَّفين المنبهرين بالحضارة الغربية، والمروِّجين لقيمها في المجتمع، صدر بطبعة محدودة سنة ١٩٦٥م، بعنوان «المستنيرون … خدمات وخيانات» ثم صدر نصه الكامل بجزأَين سنة ١٩٧٧م.
من الآثار المهمة في أدب الرحلة إلى الحج باللغة الفارسية، مضافًا إلى كتاب آل أحمد، كتاب «موعد مع إبراهيم» للدكتور علي شريعتي، وهو كتاب يقع في ستمائة صفحة، ويضم ما كتبه شريعتي في سفرته الأولى إلى الحج، سنة ١٩٧٠م، وسفرته الثانية والأخيرة، سنة ١٩٧١م. القسم الأول يتضمن محاضراته في الرحلة الأولى، وهو عبارة عن أربع محاضرات متوالية ألقاها في حسينية الإرشاد في طهران بعد عودته من الحج تحت عنوان «موعد مع إبراهيم». أما الرحلة الثانية فهي تتألف من إحدى عشرة محاضرة ألقاها شريعتي في المدينة المنورة، ومكة المكرمة، والمشاعر المشرفة، وهي تتمحور حول: «المدينة المنورة كمحطة للهجرة، والحضارة كنتيجة منطقية للهجرة، ورؤية تحليلية لفلسفة مناسك الحج، ودراسة في السيرة النبوية من الولادة إلى البعثة … وغير ذلك». يطغى في هذَين الكتابَين أسلوبُ حكواتي، يغرق القارئ بفائضٍ لفظي، واستطرادٍ شفاهيٍّ مملٍّ. أسلوب شريعتي في هذَين العملَين لا يرقى إلى بعض أعماله، خاصة كتابه الأثير «الصحراء».
كذلك ألقى المهندس مهدي بازرگان محاضرة في عيد الأضحى سنة ١٩٥٩م، بعنوان «بيت الناس». تكلم فيها عن الآثار الاجتماعية للحج، ودور المناسك في توطيد أواصر الوحدة بين المسلمين، وبناء أسس الأمن والسلام. وهي أفكار استلهمها من الآيات القرآنية الكريمة، في ضوء رحلته إلى الحج قبل هذا التاريخ بثماني سنوات؛ أي في عام ١٩٥١م.
هذه نماذجُ من الكتابات الحديثة المدوَّنة بالفارسية في أدب الرحلة إلى الحج، وتظل رحلة آل أحمد متميزة، بوصفها الوحيدة التي تتكون من يوميَّات، سجَّل فيها مؤلفُها مشاهداته، وانطباعاته، وهواجسه، وتطلعاته، وآماله، وانفعالاته، وهو يتنقل بين البقاع المقدسة، ويتعاطى مع رِفاق السفر، ومع مختلف الناس القادمين من شتى المواطن إلى الحج.
اختار جلال آل أحمد الذهاب إلى الحج مع القوافل الشعبية الفقيرة، فكان حجُّه يماثل حج المتسكع، كما تفصح عنه مذكراته بالنسبة إلى نوع الطعام، والمساكن، ووسائط النقل، وطبيعة المرافقين في الرحلة. اختياره لم يكن عشوائيًّا فيما أظن؛ ذلك أنه أراد ان يعيش الصورة الحقيقية لهذه الرحلة، بعيدًا عن التشريفات التي تخلعها على منتسبيها بعض القوافل المترفة، أو بعض الوفود والبعثات الرسمية.
أخال أنَّ آل أحمد كان بإمكانه السفر مع قافلة مرفَّهة، يتبوأ فيها مكانة تمنحه امتيازاتٍ مادية ومعنوية تحافظ على مقامه. كان ينال مكافآت على كتاباته، مضافًا إلى مرتبه الشهري، لكنه آثر أن يرافق قافلة شعبية ذات امتيازات متواضعة، ليلامس عن قرب مشاعر الناس، ويتحسس حياتهم عن كثَب، مثلما تكلم عن ذلك فيما كتب في هذه الرحلة، مشيرًا إلى ضرورة اقتراب المفكر من هموم الناس، وقضاياهم، ومعايشتهم. كانت هذه عادته في السفر والتجوال بين المدن الإيرانية، يسافر مع الناس في وسائط النقل العام، ينفتح على خفايا حياتهم عن قرب، ويتفاعل مع آلامهم المتنوعة، ويتعرف على طبيعة تفكيرهم، وتطلعاتهم، وأحلامهم، ورؤيتهم للواقع، وما يضجُّ به من متاعب، ومتاعب مريرة.
هذه الرحلة منحَت آل أحمد فرصةً مهمة لإعادة اكتشاف طبيعة العلاقات السائدة بين عامة الناس، ونمط وعيهم وتفسيراتهم للظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ورؤيتهم للعالم، وطقوسهم وشعائرهم. كان يهتم بملاحقة كلِّ صغيرة وكبيرة في أحاديث المرافقين في القافلة، وحالاتهم في ساعات الراحة والسكينة، والاضطراب والتوتر.
هذه الرحلة مناسبةٌ عزيزة في حياة آل أحمد للفرار من عوالم النخبة ومشاغلها، والعيش مع عامة الناس، والالتصاق بحياتهم، تلك الحياة الزاخرة بالبساطة، والعفْوية، والبراءة، المشابهة للبداوة، والقريبة من الأشكال البدائية، وهي أشكالٌ ما فتئ آل أحمد شغوفًا بالعودة إليها، كان يمقت كل الأنماط الحديثة وما اكتسحَته.
لم تقتصر مطامح آل أحمد في رحلته على الملاحظات العابرة، والانطباعات العاجلة، إنما كان يسعى للتوغُّل في الأبعاد الخفية لما يراه من ظواهر، ويعمل على تحليلها، من أجل اكتشاف ما يختبئ خلفها، وما لا تقوله، وما يدخل في تشكيلها من ثقافات عديدة. يحاول تسجيل ملاحظاته وكأنه أنثربولوجي، وفي ضوء ذلك يمكن تصنيف هذه المذكرات بوصفها وثيقة أنثربولوجية لدارسٍ مهتم بالتعرف على ثقافات المجتمعات الإسلامية، وأنماط حياتها، عبْر معايشة القوافل الوافدة للحج من تلك المجتمعات، والاختلاط بمن يلتقيه منهم، والمبادرة بسؤاله بما يعرفه من العربية والفرنسية والإنجليزية. كان جلال يعرف الفرنسية أكثر من الإنجليزية.
تشتمل هذه الرحلة على معلوماتٍ تاريخية هامة، مؤلفها كان يدوِّن ما يشاهده، من عمارة البيت الحرام، والجغرافيا السكانية والعمرانية لمكة المكرمة والمدينة المنورة، والأسواق والمتاجر، والشوارع، وعربات النقل، والمناسك، في عرفات، ومزدلفة، ومنًى، وأشكال مخيمات الحُجاج فيها. حرَص على تقديم إحصائياتٍ رقمية لأعداد الوافدين إلى الحج ذلك العام، وجنسياتهم. وهي أرقامٌ استقاها من الصحافة الصادرة وقتئذٍ، آل أحمد كان مواظبًا على مطالعة الصحف اليومية في الديار المقدَّسة، وربما استقاها أيضًا من أسئلته المتنوعة للأشخاص الذين يلتقيهم، حين يستقل وسائط النقل، أو يتجول في الأسواق، أو أثناء أداء المناسك، وزيارة المشاهد المشرفة. ظلَّ يواظب على تسجيل ملاحظاته في دفتر يصطحبه حيثما كان؛ في محل الإقامة، وفي السيارة، وفي المناسك، وحتى في مواطن الانتظار، في المطار، وغيره.
لم يتمهل جلال في كتابة مذكراته إلى حين عودته، مثلما فعل غير واحد من الحجاج ممن كتبوا مذكراتهم بعد عودتهم إلى مواطنهم، حرص على تسجيل ما يعاينه مباشرة. كانت كتابته آنيَّة، يسترق دائمًا لحظات، فيخلو بها، ويعكف على إثراء يومياته، والإضافة اليها. في كل مرة يلفت نظرَه فيها موقفٌ يستحقُّ الذكر، مثلًا تتمدَّد كتابته في بعض الأيام، بحسب زحمة حركته، ووفرة لقاءاته، أو تتقلص، عندما يُضطر للمكوث في المسكن، ولا يلتقي الآخرين.
تُصنَّف رحلة آل أحمد إلى البيت الحرام من النصوص الأدبية الفريدة المدوَّنة باللغة الفارسية في العصر الحديث. نصه يوظِّف الموروث الحكائي، والفلكلور، والسخرية والتهكم، ويبدع في صياغة نموذجٍ مميز للسرد. يذهب بعض النقاد إلى أن أسلوب جلال طوَّر الأدب الفارسي، بوصفه يصوغ عباراته ببيان يمزج فيه بين اللهجة الدارجة واللغة الفصيحة. تتشكل نصوصه من جملٍ قصيرة، وأحيانًا لا تحتوي الجملة على فعل في تركيبها، مع ذلك تعبِّر عن معناها بوضوح. ربما كانت جزالة بيانه، وصفاء أسلوبه، وقدرته الفائقة على الكتابة بلغة السهل الممتنع، من العوامل الرئيسة لاشتهار آثاره، وشدَّة إقبال القُراء عليها، وغزارة المطبوع منها.
حاول بعض الأدباء تقليده واستعارة تقنياته في السرد، ومحاكاته فيما كتب، بنحو بات أسلوب آل أحمد أحد النماذج الشهيرة في الأدب الفارسي الحديث. تجلى هذا الأسلوب كأروع ما يتجلى في «قشة في الميقات»؛ بوصفه من النصوص الأخيرة لجلال قبل وفاته بسنوات، مضافًا إلى أنه كتبه في ظروفٍ روحية وعاطفية خاصة، عاش خلالها حالات قبض وبسط روحي، ولحظات انفعال، وتوتر عاطفي، وضراوة، ولحظات استرخاء، وهدوء، وانشراح. كل حالة ولحظة من تلك الحالات تثير في نفسه شتى الهواجس، وتستدعي في وجدانه مختلف الإيحاءات والصور. إلى ذلك يعود تميز أسلوبه وفرادته في هذه الرحلة، كانت لغته تتألق في مواضع عديدة، فترتقي إلى لغة قصيدة النثر.
ليست يوميات آل أحمد تأملات في استجلاء الأبعاد الروحية والتربوية للحج، واستيحاء فلسفة كل واحد من المناسك، كما فعل بعض الذين كتبوا عن الحج. آل أحمد أراد لمذكراته أن تتدفق بعفوية، وتجري بتلقائية، لا تتقيد بترسيمات وحدود مسبقة، بل تواكب حركة الحاجِّ، وأحداث الرحلة اليومية الشديدة الغِنى والتنوع. تتسع لرؤًى أنثربولوجية، ورصد ظواهر اقتصادية، وتحليلات سياسية، وطرائف أدبية، ونقدٍ ساخرٍ، ومعلومات تاريخية، وجغرافية … وغير ذلك.
رحلة آل أحمد توهجَت فيها ومضات، تحدثَت عن فلسفته لبعض المناسك، كشذرات رصعَت عباراته، خاصة في المواضع التي كان يكتب فيها مذكراته في أيام عاشها ببقاع المناسك؛ بعرفات، والمشعر الحرام، ومنًى، أو أثناء أداء الطواف في البيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.
على الرغم من مطالعتي لمجموعة من رحلات الحج المعروفة، وتشرُّفي بأداء الحج والعمرة ١٦ مرة، فإني وجدت نفسي مع «قشة في الميقات» أنبسط حيث ينبسط جلال، وأنقبض حيث ينقبض، وأعيش في خيالي حالاته وأحاسيسه. في السعي والطواف، كأني أواكبه في خطواته، وأتماهى مع مشاعره، أرى ما يرى، أرتشف ما يرتشف، أتحسَّس خطواته، أُنصِت إلى ابتهالاته واستغاثاته، وأذكاره. عندما كنتُ أقرأ حالاته، أتعطَّش بوجد وشوق إلى البيت الحرام، والمناسك المقدسة، أتمنَّى أن أتمثل تلك الحالات والابتهالات. أقترح على مَن يقصد البيت الحرام من الحجاج والمعتمرين مطالعة رحلة آل أحمد، لينفتح على ما تختزنه المناسك من منابع إلهام روحي وأخلاقي وتربوي. الحج مناسبة استثنائية لمن ينشُد إعادة بناء شخصيته، وتأهيلها أخلاقيًّا وروحيًّا وعاطفيًّا، لتجسيد رسالة الدين في الحياة، ووعي الاختلاف والتنوع بين أتباع الدين الواحد، واحترام الاختلافات في المعتقَد.
انتخبنا هذا النموذج من كتاب جلال، ليطَّلع القارئ على أسلوبه ورؤيته للحج، واستجلاء فلسفة تجربةٍ دينيةٍ استثنائية، تؤديها أفواجٌ غفيرة من المسلمين كل عام، باختلاف مذاهبهم، وأعراقهم، ولغاتهم، وبلدانهم، يتوحدون في أداء المناسك، وإن كان كثيرٌ منهم يفشل في التشبع بمناخاته. يحضُر المناسك بجسده من دون أن يحضر قلبه، وتعيشه روحه، وتتفاعل عواطفه.
آل أحمد لم يتوسَّع في الحديث عن الآثار الروحية والأخلاقية للحج، غير أنه بثَّ مجموعةَ أفكارٍ هامة في سياق حديثه عن أيامه في عرفات، والمَشْعر الحرام، ومنًى. كذلك اهتم بوصف حالته، ومَن صَحِبهم من الحجاج، والذين التقاهم حال أداء المناسك، واطلع على أشواقهم الروحية، وابتهالاتهم. لا يبدو آل أحمد متفائلًا، بسبب عدم استيعاب الكثير من الحجَّاج للأبعاد العميقة لهذه التجربة الروحية الثمينة. الأمية والجهل لدى أعدادٍ كثيرة من الحجاج، واستغراقهم في الإطار الشكلي للطقوس، حجبَهم عن وعي أهداف المناسك، وإدراك مقاصد الحج، واستلهام الآثار التربوية الهامَّة للمشاعر المشرَّفة.
بعد مطالعة الكتاب وجدنا آل أحمد يشير بكلمة «خسي» في عنوان كتابه إلى حالة اضمحلال، وتلاشي «الأنا» وذوبانها، حال أداء المناسك، كما صرَّحَ بذلك في مواضعَ متعددة من مذكراته. وقع اختيارنا على كلمة «قشة» العربية، وهي كلمة تتضمن المعنى الموازي لكلمة «خسي» الفارسية، مضافًا إلى أنها تتضمن المداليل التي تُفصِح عنها يوميات جلال.
لا نعلم لو كان المؤلِّف حيًّا هل يوافقنا على هذا العنوان بالعربية، لكننا نحسب أن «قشة في الميقات» عنوانٌ غير مستهلَك، يُستخدَم هذا العنوان للمرة الأولى في تسمية كتاب في أدب الرحلة إلى الحج، وربما في عناوين الكتب العربية، ولعلَّ ذلك يُرضي آل أحمد، وهو الأديب المعروف بكلماته المضيئة، وبنفوره من العناوين المكرورة المُستهلَكة.