محمد عمارة: من الماركسية إلى السلفية١
(١) التحولات الفكرية والسياسية لمحمد عمارة
لأننا محكومون بالتراثِ وقيمِه وأحكامِه، ترسَّخَت لدينا تقاليدُ الاحتفاءِ المبالَغ به بالأموات، والإفراطِ في الثناء على آثارهم، والإعلاءِ من قيمة منجَزهم، وتجاهلِ ما أنتجَته هذه الآثارُ من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة، في حياتهم وبعد وفاتهم. كتبتُ هذه المقالةَ بعد أن قرأتُ عشراتِ المقالات الرثائية للدكتور محمد عمارة، الغارقة بالتبجيل والثناء. بعضها كتبها باحثون أحترم تكوينهم المعرفي وخبرتهم الجادة بالتراث، وأعرف كتاباتِهم النقدية، لكنَّ رهبةَ الموت والخوف من بطشه المفاجئ تربكنا لحظةَ موت الكبار، فنُضطَر لحذف كل ما يُزعجنا في صورتهم. الكبار في مخيالنا لا يموتون، فننسى كلَّ شيء كتبوه وفعلوه، وننشغل بتسطير مناقبَ أكثرها مفتعَلة لهم. ارتكبتُ أنا ذلك قبل سنوات، عندما كتبتُ مقالة كلها مناقب، لأحد أصدقائي، بعد أن أربكَني الموتُ، فأنساني كلَّ أخطائه لحظة وفاته.
لم يتَنبَّه بعضُ مَن كتبوا عن محمد عمارة لتحولاته، ورحلتِه الفكرية الطويلة من الماركسية إلى السلفية، ومحطاتِه الاعتقادية المتعددة، وكيف أضحت آثارُه المتأخرة تنقض كتاباتِه المبكرة. نقرأ كتاباتٍ تصنِّفه على أنه مفكرٌ تنويري، وعقلاني، ومجدِّد، وأحدُ روَّاد النهضة، وغيرُ ذلك من توصيفات، لا ينطبق أيُّ توصيف منها عليه في محطته الاعتقادية الأخيرة.
تقلَّب محمد عمارة في عدة محطاتٍ اعتقادية، كان يتنقل منذ أربعينيات القرن الماضي من أيديولوجيا إلى أيديولوجيا، يتقلب مع تقلبات الموجات السياسية؛ ففي الأربعينيات انخرط في حزب «مصر الفتاة.» ظل محمد عمارة مفكرًا ملتزمًا، عاش كلَّ حياته وفيًّا للأيديولوجيا السائدة، يتحمَّس في كل مرحلة من حياته الفكرية لما يتبنَّاه من معتقدات، حتى لو كانت على الضدِّ من معتقداته السابقة، ويكرِّس كتاباته للدعوة إليها والتثقيف عليها. كان بارعًا في إعلان آرائه وتسويقها والدفاع عنها؛ ففي كل محطةٍ اعتقادية ينتقل إليها يعلن تمسُّكه بها بقوة، ويدعو إليها ويبشِّر بها. البراغماتية الاعتقادية لعمارة تحكَّمَت كبوصلة لهجرته بين المعتقدات. في خمسينيات القرن الماضي انتقل إلى الماركسية التي مكث فيها عَقْدًا من الزمن، وقادته إلى السجن أواخر الخمسينيات أيام جمال عبد الناصر، ومكث فيه لسنوات ١٩٥٩–١٩٦٤م. وتحوَّل بعد ذلك إلى الاعتزال، فكتب رسالته الماجستير سنة ١٩٧٠م عن «المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية» في ضوء الدراسة والتحقيق لمجموعة «رسائل العدل والتوحيد»، وأطروحته للدكتوراه ١٩٧٥م حول: «نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة»، وتحول إلى وسطي محافظ في عقيدته الدينية في الثمانينيات بعد صعود موجة «الصحوة الإسلامية»، وانتقل أخيرًا إلى السلفية التي مكث فيها حتى وفاته، بعد اجتياح الموجة السلفية لوطنه مصر ومعظم بلدان عالَم الإسلام. في خريف عمره كان يتشدَّد وينغلق كلما تقدَّم به العمر. ضاقت رؤيتُه وانغلقَت فصار يتبنَّى كل شيء في التراث، مهما كان متشددًا، على ما كان عليه، وتعاطى معه بوصفه منجمًا يزوِّدنا بكل شيء تتطلبه حياتُنا في الدنيا والآخرة، وفي الحاضر والمستقبل. والتنكُّر لكل علم ومعرفة تنتمي إلى العصر، بذريعةِ أصالةِ كل ما ينتمي للماضي، واتهامِ كل معرفة تنتمي للحاضر.
يفرض محمد عمارة عليك أن تحترم عصاميتَه وعدم انخراطه بالعمل الوظيفي. زهد بالوظيفة، وتخلَّى عن التدريس بالجامعة طوعيًّا. أراد أن يتفرَّغَ لمهمته الفكرية، كما حدَّثَني عن ذلك سنة ١٩٩٨م، قائلًا: «آثرتُ منذ البدايات ألا أهتمَّ بالوظائف، وكنتُ أعتبرها لونًا من الرِّق، فتحرَّرتُ منها، وعكفتُ على مشروع الفكر والعمل التأليفي، ولم أذهب إلى التدريس، لا في جامعاتنا، ولا في جامعات النفط والخليج والإغراءات المالية. عشتُ للمشروع الفكري.»
عندما كان يحلُم بالثورة، على طريقة اليسار في مجتمعاتنا، انتقل إلى «اليسار الإسلامي»، وحقَّق ونشر سلسلةً مختارةً من أعمال روَّاد عصر النهضة العربية، في سلسلة مجلدات في سبعينيات القرن الماضي؛ إذ نشر آثار: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي مبارك. وكتب مقالات عن شخصياتٍ إسلامية متعددة، ونشر ذلك في كتابٍ كبير هو «مسلمون ثوار».
وإن كان محمد عمارة عاش أكثر مراحل حياته الفكرية في سجن الأيديولوجيا، لكنَّ انتقالَه من سعة العقل المعتزلي ورحابته إلى انغلاق العقل السلفي واختناقه، يدعونا للتساؤل، ليس عن تكوينه المعرفي ومنطق تفكيره الذي كان يفرض عليه أن يهربَ للماضي كلَّما تقدَّم به العُمر، بل عن شيوعِ هذه الظاهرة في الفكر العربي المعاصر، والبنيةِ العميقة لمنطق تفكير عدة مفكرين لم يجدوا ملاذًا لهم، بعد تقدُّم أعمارهم، إلا بالهجرة الكلية إلى الماضي، بعد حياةٍ فكرية في المراحل الأولى تسودها العقلانيةُ النقدية، وأحيانًا الدعوةُ للقطيعة مع التراث لدى بعضهم.
إن الرحلة الفكرية لمحمد عمارة لم تكن الاستثناءَ من مفكري جيله الذين تنقَّل غيرُ واحدٍ منهم في عدة محطات؛ إذ بدأ بعضُهم عقلانيًّا نقديًّا، متحرِّرًا وربما متمرِّدًا، يفكر في فضاءٍ رحب، بلا أطرٍ أيديولوجية، وبلا مرجعياتٍ اعتقادية، وبلا قيودٍ صارمة، وبلا حدودٍ مغلَقة، وبلا سقفٍ نهائي تتعطل عنده كلُّ الأسئلة، وتموت فيه كلُّ الأجوبة، لكن عقل هؤلاء بدأ يتعطل بالتدريج مع كهولتهم وتقدُّم أعمارهم، إلى أن غادر العقلُ تساؤلاتِه ومواقفَه النقدية وبصيرتَه النافذة، وجرأتَه في اقتراح الأجوبة، وكأن بعضَهم تابَ من إثمٍ عقلي ارتكبه، فدخل نفقًا، أو آوى إلى كهف في المرحلة الأخيرة من حياته، يعتكف به، ليحتمي به من قلق الموت الوشيك الذي بات يهدِّد شيخوختَه، ويلوذ بالماضي من وهَن جسده، وضعف قدراته، وعجزه وغربته ووحدته.
(٢) من تراث النهضة الحديثة إلى تراث القرون الأولى
تحوُّلات المفكر على نوعَين:
- النوع الأول: أن ينتقلَ المفكرُ من الأفق الضيق إلى الأفق الرحب، كما لو انتقل من السلفية المغلَقة إلى عقلانية الاعتزال الرحبة. هذا النوع من التحول هو الاستنارة.
- النوع الثاني: أن ينتقلَ المفكرُ من السعة إلى الضيق، من رحابة وعقلانية المعتزلة إلى ضيق وتشدِّد وانغلاق السلفية. هذا خطير، كلمة المفكِّر ذات تأثيرٍ مجتمعي، أحيانًا قد تتسبَّب أفكارُه بقتل المفكِّرين الأحرار. محمد عمارة من النوع الثاني؛ إذ انتهى في آخر حياته إلى السلفية، وكان فكرُه في هذه المرحلة أحدَ أدوات تربيةِ وتثقيفِ الجماعة السلفية المتشدِّدة.
صار محمد عمارة يفكر بمنطقٍ مغلق يبدأ بالتراث وينتهي بالتراث، لا يرى رأيًا خارج هذا التراث، ولا يفكر تفكيرًا خارج مداراته، ولا يصغي لسؤال خارج أسئلته، ولا يبحث عن جواب خارج أجوبته المكررَّة، ولا يرى مسارًا خارج مسالكه، ولا يقبل معرفةً في الدين خارج معارفه، ولا يقبل علمًا في الدنيا ما لم يكن ممهورًا ببصمته.
الاحتماءُ بالتراث والدعوةُ للعودة لماضي الأمة وعلوم ومعارف الآباء هو المشترَكُ بين محمد عمارة وهؤلاء المفكرين التوابين من إثم التفكير العقلاني كما يتوهمون، ومشترَكٌ آخر ينصبُّ على التحذير من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، بذريعة أن تراثَنا يختزن كلَّ ما تتطلبه حياتُنا، وكلَّ حلول مشكلاتنا، وأن المعرفةَ والعلومَ الحديثة ما دامت وُلدَت في بيئة غربية، فهي غريبةٌ عن معتقداتنا وثقافتنا وبيئتنا ومشكلات عالمنا. وهي ذريعةٌ يردِّدها كلُّ هؤلاء، بأساليب متنوعة وعبارات مختلفة، وصياغات ملتوية أحيانًا، تتوحد في أنها تدعونا لأن نرفض كلَّ معرفة أنتجها العقلُ البشري خارج عالَمنا، بنحوٍ أمسى تكرارُها المبتذَل في كتابات القوميين والإسلاميين يصيبك بالغثيان، كلهم ما زالوا يردِّدونها منذُ القرنِ التاسعَ عشرَ إلى اليوم. هذه الذريعة يكذِّبها الواقع؛ فلا نحن اكتشفنا فلسفتَنا وعلومَنا ومعارفَنا التي تستجيب لواقعنا، وتُولَد في سياقات ديانتا وثقافتنا وهويتنا وخصوصيتنا وراهن مجتمعاتنا، ولا نحن تحرِّرنا من عقدة الارتياب من العلم والمعرفة الحديثة.
في المعرفة والعلم الحديث ما هو كوني عابر لمعتقد وثقافة الإنسان الذي اكتشفه. إنه يعبِّر عن جوابٍ لأسئلة الحياة واحتياجات الإنسان، بغَضِّ النظر عن الزمان والمكان الذي يعيش فيه. الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة أعادت تشكيلَ العقل الذي قدَّم للبشرية كلَّ هذه الاكتشافات الباهرة، ووضع الإنسانَ في مسارٍ جديد، مكَّنه من أن يكون أشدَّ حذاقةً في إجابة أسئلة الطبيعة الصعبة وتحدياتها المنهكة، وأذكى في إجابة أسئلة حياته الحائرة.
محمد عمارة من أغزرِ الكتَّاب الإسلاميين إنتاجًا، وأكثرِهم مثابرة، وأغناهم تنوعًا، بلغت آثارُه نحوَ ٢٥٠ عنوانًا في مختلف الموضوعات. في كلِّ مراحل حياته الفكرية ومحطات اعتقاده سجَّل حضورًا لافتًا في الصحافة والدوريات ودور النشر.
ترك محمد عمارة بصمتَه الفكرية في كل مؤسسة أو مركز أبحاث أو مجلة انخرط فيها، في المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومشروعه لإسلامية المعرفة الذي كان أحدَ مستشاريه، تغلَّبَت على مشروع إسلامية المعرفة نزعةٌ تراثيةٌ مغلَقة، تراجعَت معها آفاقُ التفكير الاجتهادي النقدي الذي كان يَعِدُ به المعهد عند تأسيسه. كان محمد عمارة ضدَّ طباعة كتاب «المنهجية المعرفية القرآنية»، الذي كتبه صديقنا محمد أبو القاسم حاج حمد، تلبيةً لطلب رئيس المعهد وقتئذٍ الصديق طه جابر العلواني، ولبث الكتاب سنواتٍ طويلةً غير مطبوع. بعث لي الصديق محمد همام بنسخته المصوَّرة عبْر البريد، من المغرب «أغادير»، وعند استلامي الكتاب طالعتُه مباشرة، فتحمَّستُ لنشره، واستأذنتُ طه العلواني، فأجاز لي طباعته وتوزيعه. كان المؤلِّف شديدَ الحرص على طباعته، فأصدَره مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، خلافًا لإرادة إدارة المعهد التي حجبَت مخطوطته سنواتٍ طويلةً عن القُراء. ألَّفَ حاج حمد كتابه سنة ١٩٩١م، ولبث في المخطوطة حتى سنة ٢٠١٣م، عندما بادر مركزنا بنشره.
سألتُ محيي الدين عطية عن سبب تأخر صدور أعداد المجلة في الثمانينيات من القرن الماضي، فأخبرني بافتقاد المسلم المعاصر فجأةً لعددٍ كبيرٍ من الاشتراكات لمكتبات الجامعات السعودية. المسئول المباشر في الوزارة عن الاشتراكات أوقفَها كلها؛ لأنه يرى الأفكار التي تنشرها المجلة منحرفةً ضالة. وأضاف عطية أن أحد الأصدقاء نقل له عن محمد قطب (المتوفَّى ٢٠١٤م)، الأخ الأصغر لسيد قطب، قوله: «إن مجلة المسلم المعاصر تأسَّسَت لمواجهة فكري وفكر أخي سيد قطب.»
بعد أن أضحى محمد عمارة أحدَ أعمدة هذه المجلة، تقلَّص فضاءُ التفكير الحر فيها، وانحسرَت مساحةُ الاجتهاد والنقاش والأسئلة الكبرى على صفحاتها. لفت نظري هذا التحولُ في نهج هذه المجلة التي كانت غريبةً بين ركام المجلات الإسلامية المعروفة، فسألتُ صديقًا من محرِّري المسلم المعاصر، قبل عشرين عامًا، عن سرِّ هذا التحول المثير الذي افتقدَت معه المجلةُ رسالتَها المعلَنة، وانكفأت على نفسها، وانطفأ ألقُها، وغاب عنها بعضُ كتَّابها الجسورين، والذي حدث بعد مرور سنوات على صدورها، فأجابني: إن دخول محمد عمارة الفاعل والمؤثِّر على تحرير المجلة، عمل على توجيه بوصلتها باتجاهٍ على الضدِّ من وعود هذه المجلة عند صدورها؛ فهو لا يستسيغ ما كانت تنشره من اجتهادات ونقاشات وأسئلة في سنواتها الأولى.
(٣) السلفية محطة أخيرة لرحلة محمد عمارة
عملَ محمد عمارة في محطته الاعتقادية الأخيرة على نشر التشدُّد بين من يُصغي إليه من الشباب الإسلاميين، وهم ليسوا أقليةً قليلة. بعد وفاته لم نقرأ من يُنبِّه هؤلاء الشباب إلى أن الرجلَ في محطته الاعتقادية لم يكن مجدِّدًا، ولا عقلانيًّا، ولا تنويريًّا، بل كان سلفيًّا مغلقًا، فوجدتُ من الضروري تنبيه مَن كان له ضميرٌ يقظ وعقلٌ سليمٌ على ذلك.
المنهجُ الذي كُتِبَت فيه رثائياتُ محمد عمارة هو المنهج ذاتُه الذي كُتِبَت فيه مآثرُ ومناقبُ رجال السلف. منهجٌ يتساوى فيه الكلُّ، بغَضِّ النظر عن كلِّ ما فعلوه في حياتهم، يتساوى فيه: القاتل والمقتول، العادل والظالمُ، المجرمُ والبريء، والصالحُ والفاسدُ، بنحو نقرأ في كتابٍ واحد فصلًا يسوق مآثرَ ومناقبَ المقتول بجوار فصلٍ يسوق مآثرَ ومناقبَ القاتل، وفصلًا يسوق مآثرَ ومناقبَ العادل بجوار فصلٍ يسوق مآثرَ ومناقبَ الجائر.
أتذكَّر أول من نبَّهَني إلى ضرورة المراجعة النقدية لفكر سيد قطب هو حسن الترابي، عندما كنتُ تلميذًا في المرحلة الأخيرة من الثانوية، بعد أن قرأتُ مقابلةً معه في مجلة المجتمع الكويتية في سبعينيات القرن الماضي؛ إذ أشار بجملةٍ في سياق حديثه إلى وهَن بعض مقولات سيد قطب وأخطائه، ومنذ ذلك الوقتُ بدأت مراجعةَ كتابات سيد قطب. كان حسن الترابي مفكرًا عقلانيًّا شجاعًا، لكن فكرَه كان ضحيةَ براغماتيتِه السياسية المكشوفة، وتلوُّثِ سيرته بمراوغات السياسة ومكائدها.
إيقاظُ الشباب وتحريرُ عقولهم ضرورةٌ يفرضها علينا الكمُّ الهائل من المفاهيم المتشدِّدة والشعارات المتطرِّفة التي يتلقونها كلَّ يوم عبْر وسائل الإعلام، وما يُنشر من كتاباتِ أمثال محمد عمارة في محطته الاعتقادية الأخيرة، والتي تُسهِم بتنويمِهم، وتضييعِ أعمارهم في صراعاتٍ عبثية ضدَّ مجتمعاتِهم، وضد العقلانيةِ والعلومِ والمعارف الحديثة، وقيمِ الحريات وحقوق الإنسان.
هذا النص موجَّهٌ للجيل الجديد، الذي لا يعرف عن سيرة محمد عمارة ومحطاته الاعتقادية شيئًا. يستمع بعضُ النابهين من الجيل الجديد إلى تجارب الآباء، وذلك يفرض على الآباء أن يكونوا أكثرَ صدقًا وشجاعةً في نقل تجاربهم المريرة إلى أبنائهم. أعمال محمد عمارة مكتبةٌ كاملة، متوفرةٌ في كلِّ المكتبات، كتابتي عنه بهذا الأسلوب ضرورةٌ أخلاقية، لإيقاظ الشباب الذين تُغويهم لغتُه، ومجادلاتُه الواضحة، المُصاغة بأساليب المغالَطات، وإن كانت تبدو لغير الخبير منطقية.
محمد عمارة باحثٌ متمرِّس في التراث، يمتلك خبرةً أفقيةً واسعةً في مختلف حقوله. يكتب بأسلوبٍ ذكي، يموهه بقناعٍ إصلاحي. كان في محطته الاعتقادية الأخيرة مهووسًا بالتحريض على التشدُّد والعنف، مثلما يدعو السلفيون، كان يكتب بلغةٍ مراوغة.
الدينُ جاء ليحميَ الإنسانَ من الكراهية والتشدُّد والعنف، والفكرُ السلفي في كلِّ الأديان والمذاهب عنيفٌ ببنيته الاعتقادية العميقة؛ لذلك هو على الضدِّ من رسالة الدين في الحياة التي تنشد العدلَ والسلامَ والمحبةَ والرحمةَ والجمال. أكثرُ الكتابات السلفية وسلوكُ السلفيين يفرضان على القلب النفورَ من الله وخلقه المختلفين في المعتقَد، خلافًا لبعض شذراتِ المتصوِّفة وسلوكِهم، وكتاباتِ التصوف «الفلسفي» وليس الطرقي، تفرض على القلب الوقوعَ في حبِّ الله وخلقه وإن كانوا مختلفين في المعتقَد.