جودت سعيد: لن تموت الحرب ما دام الإنسانُ إنسانًا
(١) داعية اللاعنف
زرتُ جودت سعيد في دمشق قبل ربع قرن تقريبًا، فوجئتُ بفلَّاحٍ تلقائي مباشر في تعامله مع كلِّ الناس مهما تكن مقاماتُهم، يخلو كلُّ شيء في حياته من البروتوكولات المتعارفة عند الزعماء السياسيين والوجهاء. كان كلُّ شيء في شخصيته عفْويًّا يشبه أبي الفلَّاح، إلا قُبعتَه وملابسَه التي لا تشبه لباسَ الفلَّاحين في جنوب العراق. أول مرة ألتقي برجل دينٍ يتعامل بوصفه فلَّاحًا، قبل أن يظهر للناس بأيَّة صفة أو عنوان آخر، حتى بناء منزله يشبه بيتَ فلَّاح نقلَه بكلِّ ما فيه من قريته إلى المدينة. كان يُمضي بعضَ الوقت في المدينة حين ينتهي موسمُ الزراعة. يعيشُ في بيتٍ يقع في منطقةٍ شعبية فقيرة بدمشق، أزقتُها ضيقةٌ تربض على منحدر جبل قاسيون، لا تصل السيارةُ إليها إلا بعد أن تمُرَّ بمنعرجاتٍ ضيقة، يتطلب الوصول إلى بيته المشيَ في أزقةٍ متشعِّبة. المفاجأة السارَّة كانت اكتشافَ ضريح محيي الدين بن عربي، وأنا في طريقي لزيارة جودت، من دون دراية بموضعه الدقيق بدمشق من قبلُ. اقترنَت زيارةُ محيي الدين بن عربي وجودت، فكانتا من أبهج ما أحظى به كلَّ مرة حين أكونُ في الشام.
وُلد جودت سعيد في قرية بئر عجم التابعة للقنيطرة بسوريا عام ١٩٣١م، وتُوفي في إسطنبول يوم السبت ٢٩ / ١ / ٢٠٢٢م. تخرَّج في الأزهر بالقاهرة؛ إذ أرسله والدُه بعمر ١٥ سنة، ليكمل دراستَه الثانوية والجامعية فيه. كان يقضي أغلبَ أيامه بمزرعته في بئر عجم، منشغلًا بالزراعة وتربية النحل. أمضى جودت سعيد حياتَه يعيش على فلاحة الأرض، الفلاحةُ مهنةٌ تتيح للإنسان معانقةَ الطبيعة، والإصغاءَ لصوت الحياة الذي تنشُده النباتاتُ والحيواناتُ والحشراتُ وكلُّ الكائنات. كلَّ يوم يسقي المزرعةَ بالماء، الماء ليس منبعًا لحياة النبات خاصة، بل ﻟ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ، في مهنة الفِلاحة تنبعث حياةُ الإنسان وتتجدَّد حيويتُه كلَّ يوم. الفلَّاحُ صديقُ الأرض، صديقُ الأرض قلبُه كحجرٍ كريمٍ مُشعٍّ تكتنزه الأرض، شخصيةُ صديق الأرض مضيئةٌ كالشمس، عذبةٌ كالماء. مُولَعٌ بإنتاج ما يقوِّم الحياة، الحياةُ شغفُه، متيمٌ بالإنصات لصوت الطبيعة. عاشقٌ للبناء، وذلك ما يجعلُ الفلَّاحَ أقلَّ البشر عنفًا وأحرصَهم على العيش بسلام. تقول عائلةُ جودت إنه كان يبتهج بالماء والنبات والطبيعة أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، وأظن أن نزوعَ جودت للاعنف عزَّزه الحضورُ اليومي في المزرعة، والمثابرةُ على الإصغاء لصوت الطبيعة. المعروفُ عنه أنه كان يؤمن بالأساليب الحديثة في الزراعة وتربية النحل، يُقال في إحدى السنوات الباردة أهلك النحلَ الصقيعُ في خلاياه في مزارع بئر عجم، ولم يُهلِك الصقيعُ نحلَ جودت؛ لأنه يحمي الخلايا من تساقط الثلج. ظن الناسُ أن اللهَ يختصُّه بعنايةٍ غيبية، لكن علموا لاحقًا أنه كان يتبع أساليبَ علمية تحمي النحلَ من صقيع الشتاء.
يقولُ أبناءُ جودت سعيد إنه كان لا يفارق القرآنَ الكريم، من عاداته كتابةُ آيات القرآن على الورق، ويعلِّل ذلك بقوله: كلُّ نصٍّ نفهمُه أكثر حين نُعيد كتابتَه بأيدينا. عندما يسأله أحدٌ ماذا تنصحنا أن نقرأ؟ يُجيب: اقرءوا القرآنَ وافهموه جيدًا. اقرءوا القرآن مرةً من حيث هو عمل الإنسان، ومرةً أخرى من حيث هو عمل الله. هناك فعلٌ إلهي يتحدَّث عنه القرآن، وفعلٌ بشري يتحدَّث عنه القرآن. يجتمع بعائلته مساءً كلَّ يومٍ بعد الصلاة، وينشغل معهم بإعراب آيات القرآن. الإعرابُ كما يرى جودت أداةٌ للفهم وتدبُّر وتأمُّل المعاني. خطبُه وأحاديثُه ومواقفُه وكتاباتُه يوظِّف فيها آياتِ القرآن، ويدلِّل دائمًا على ما ينشُده بآياته. وهكذا كان ينتقي عنواناتِ مؤلَّفاته من القرآن، كما يقول: «أختار عناوينَ لكتبي أجزاءً من آياتٍ قرآنية»، مثل: حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، اقرأ وربك الأكرم، لا إكراه في الدين.
رحل جودت إلى الملكوت الأعلى، لكنَّ الواقعَ الذي فرضَته الجماعاتُ الدينية المتشدِّدة على المسلمين أضيقُ من أن يتسعَ لاستيعابِ دعوة اللاعنف التي كرَّس لها جهودَه. على امتداد عمره الذي تَخطَّى ٩٠ سنة كان ينادي بنبذ العنف، ويؤكد على أن العنفَ لا يُنتج إلا العنفَ المضاد. يشاهد جودت سعيد أغلبيةً تتطلع لدعوتِه وغيرِه للسلام في السرِّ وتتمنَّى أن تسود، غير أن هذه الأغلبية تظلُّ صامتةً لخوفها من إعلان موقفها، بعد أن أفزعَتْها وأسكتَتْها شعاراتُ الجماعات العنيفة الصاخبة، ودعواتُ مناهضةِ غير المسلم وإعلانِ القطيعة معه، انطلاقًا من مقولات علم الكلام القديم، وما انبثق في سياقها من أحكامٍ وفتاوى مماثلة في المدونة الفقهية.
كان جودت سعيد رائيًا رَاعَهُ ظلامُ نهاياتِ النفق الذي تسوق المسلمين إليه الجماعاتُ الدينية المتشدِّدة قبل أن يراه غيرُه. للأسف لم تكترث بدعوته تلك الجماعاتُ العنيفة، التي تتحمَّس وتزهو بصوت مَن يجيدون ترتيلَ آياتِ القرآن على ضجيج الدماء. كأن هناك تواطُؤًا غيرَ معلنٍ بين السلطة وأهل الثروة وهذه الجماعات على تجاهل دعوات السلام في كتابات جودت سعيد وأمثاله.
بالغ جودتُ سعيد في دعوته للاعنف، إلى الحد الذي ابتكر معادلةً تجعل إيمانَ المرء يتلوثُ بالوثنية بمقدار حنينه للعنف؛ إذ يقول: «ينقص من عقله بقَدْر ما يمارس من عنف، ويتلوث إيمانه بالوثنية والشرك بقَدْر ما يبقى في قلبه من حنين للعنف.» كلُّ إنسانٍ أخلاقي يطمحُ أن يسودَ اللاعنفُ الحياة، إلا أن هذه الأمنية الجميلة لن تتحقَّق ما لم تتبدَّل طبيعةُ الإنسان.
(٢) لن تموت الحرب ما دام الإنسانُ إنسانًا
تطوَّر موقفُ جودت سعيد فرأى اللاعنفَ أساسًا ينبغي اعتمادُه في مختلف المواقف، واتخاذُه مبدأً شاملًا في الحياة، وكرَّس جهودَه في الكتابة والخطابة من أجل توضيح ما يرمي إليه. يلخِّص جودت سعيد دعوتَه للاعنف في بعض كتاباته الأخيرة بكلمتَين؛ هما: «موت الحرب»، وهذا شعارٌ رومانسي متخيَّل نتمناه جميعًا، وما زالت البشريةُ وستظل تحلم فيه حتى آخر إنسان يعيش على الأرض. لا يدلِّل عيشُ الإنسان وصراعاتُه وحروبُه منذ أول عائلة في الأرض على واقعية شعار: «موت الحرب»، بدأ القتلُ بابن آدم الأول وسيبقى القتلُ إلى أن يموت أو يُقتل ابنُ آدم الأخير.
عندما نتأمل النفس الإنسانية نرى بواعث العنف كامنة فيها، من هذه البواعث الحاجة للتملُّكِ في حياة الإنسان، وهي ضروريةٌ لاستمرار الحياة، ومواصلة العمل والمثابرة والانجاز. التملُّك يشعر معه الإنسان بنوع من الأمان والثقة والسلطة. هذه الحاجة إذا لم تخضع لقوانين عادلة لا تقف عند حد نهائي، بل تنقلبُ الحاجةُ للتملُّكِ إلى مشكلةٍ لحظةَ تتضخم ليصبح موضوعُها امتلاك البشر بدلًا من امتلاك الأشياء، ومصادرة حرياتهم وحقوقهم، والتسلط عليهم والتحكم بمصائرهم. الشغف بالسلطة المطلَقة ناتج عن حاجة الإنسان للخلود؛ لذلك عندما يستحوذُ شخصٌ على مثل هذه السلطة يستعبد مَن يتسلط عليه، ويمارس كلَّ أشكال العنف ضده حين يشاء، وذلك يجعله يعيش حالة زهو واحساس هائل بمتعة، وشعور زائف بالخلود، لا يجد ذلك في غير السلطة.
وإن كان شعارُ «موت الحرب» ليس واقعيًّا، غير أنه يكشف عن تشبُّع روح جودت سعيد بالسلام في باطنه وظاهره، ويعبِّر عن أمانيه الأخلاقية المتفائلة، أكثر مما يتكشف فيه الواقعُ المركَّب المتشابك، وما يباغت الإنسانَ فيه من عنف ينبعث من شتى العوامل، وما يهدِّد الأمنَ البشري من حروب مريرة، كانت وما زالت وستظل تواكب تاريخَ الإنسان. العنف بما هو ظاهرةٌ مجتمعية بدأَت بظهور الإنسان في الأرض. ما دام هناك إنسانٌ هناك تنافسٌ ونزاعٌ وصراعٌ على الاستئثار بالسلطة والثروة واحتكار المعرفة وغير ذلك، ذلك هو وقودُ العنف والحرب. لا تخمد الحربُ إلا بتسوياتٍ واقعية تحسم النزاعاتِ سلميًّا في كثير من الحالات.
يقول هيراقليطس: «الحرب أو الصراع هو أب الأشياء جميعًا»، «موتُ الحرب» أمنيةٌ مستحيلة التحقُّق ما دام الإنسانُ إنسانًا. الحربُ ليست طارئةً في التاريخ، قوةُ العنف واستمرارُ الحروب قاد فلاسفةَ التاريخ للقول بأنها عاملٌ أساسي في نشأة الحضارات وازدهارها وانهيارها. الحضاراتُ الكبرى وُلدَت في مخاضات حروبٍ كبرى، لولا حروبُ أوروبا الاستعمارية وإخضاعُ مساحاتٍ شاسعة من الأرض لهيمنتها، ونهبُ ثروات أهلها في أفريقيا وآسيا والأمريكتين، لم تحدث الثورةُ الصناعية، ولا التقدُّم الذي وصلَت إليه أوروبا في العصر الحديث. لولا حروبُ الفتوحات ما ساد الإسلامُ العالَمَ القديم من الأندلس إلى حدود الصين.
في كتابات جودت لم يتميز بوضوح: العنفُ الذي تعتقده الجماعات الدينية المقاتلة بأنه مكونٌ أساسي لماهية الدين، عن العنفِ بدوافعَ غير دينية الناتجِ عن بواعث الغَيرة والتعصُّب العميقة في الإنسان، والصراعاتِ على السلطة والثروة وشبكات المصالح المختلفة. عقائدُ القتل مشتقةٌ في الأديان من طريقةِ تعريفها للدين، وفهمِها لوظيفته في الحياة، وكيفيةِ تفسيرها لنصوصه، ونظامِ إنتاجها للمتخيَّل، وطريقة تعريفها لنفسها في فضاء المتخيَّل. قبضةُ المتخيَّل شديدةُ الوطأة، يفرضُ المتخيَّلُ حضورَ الماضي بشدَّة، وإذا طغى الماضي يحجبُ الحاضرَ والمستقبل. النزاعاتُ والكراهيات والعنف والحروب تعيشُ على كراهيات وإكراهات المتخيَّل.
الثغرةُ المنهجية في هذه الكتابات وأمثالها أنها لم تنشغل ببناءِ رؤيةٍ منهجية شاملة لكيفيةِ تفسير آيات الجهاد والقتال والحرب في القرآن الكريم، وبيانِ موقف المسلم اليوم منها. لم تتأسَّس هذه القناعاتُ على رؤيةٍ نظرية، ومنهجٍ واضح للتعامل مع آيات القرآن والسُّنة التي تتحدث عن الجهاد وحمل السيف، ولم تنشغل ببيان كيفية التعامل مع الأحاديث المتنوعة في هذه الأبواب من مصنَّفات الحديث؛ لذلك تظلُّ المواقفُ في كتابات جودت سعيد وغيره انتقائية، تفتقر لبناء رؤيةٍ شاملة يمكن اعتمادُها أداةً محورية لتفسيرِ مثل تلك الآيات في القرآن وفهمِ تلك الأحاديث في السُّنة.
(٣) كتابة رغبوية تفتقر لرؤية نظرية
تفتقر كتاباتُ جودت سعيد لتفكيرٍ متأملٍ صبور. تفكير يستخلصُ رؤيةً نظرية من النصوص الدينية، ويتكشَّفُ فيه النسيجُ المرُكب للواقع. مؤلفاتُه أقرب لخطب الجمعة الوعظية منها للغة الكتابة. لم يطوِّر لغتَه الشفاهية ويغادر بيانَه، لا يُراجع قناعتَه ورأيَه في تعميم دعوة اللاعنف لمختلف المواقف وإعلانه أخيرًا «موت الحرب»، مكثَ جودتُ أكثر من نصف قرن يقدِّم كتاباتٍ وأحاديثَ يكرِّر فيها كلامَه عن اللاعنف، كلَّما مرَّ زمنٌ كانت تتجذَّر هذه المقولةُ لديه. الدعوة للاعنف دعوةٌ إنسانيةٌ أخلاقية، غير أن الدعوةَ شيءٌ ووجود مجتمع بلا عنف شيءٌ آخر. الاعتقاد بوجود مجتمع يسودُه السلامُ وتموت فيه الحربُ ويتخلص الإنسانُ فيه من كلِّ أشكال العنف ليس واقعيًّا. «موتُ الحرب» ووجود مجتمع اللاعنف على الأرض صورةٌ خياليةٌ تنتجها انطباعاتٌ وتمنياتٌ متعجلة، وتدلِّل على طوباويتها الرؤيةُ التدقيقية المنسوجة على مَهل، الخبيرة بطبيعة الإنسان والواقع الذي يعيش فيه. كلماتُ جودت سعيد لا صدى لها في واقعٍ عالمي ما زال محكومًا بتغليب منطق السلاح على منطق السلام، ولغة العنف على لغة اللاعنف. كتاباتُه تغُضُّ النظرَ عن الإرهاب المختبئ في مقولات التكفير وفتاوى الارتداد في التراث، وعن واقعٍ تعيشه مجتمعاتُنا يتفشَّى فيه العنفُ الجسدي واللغوي والرمزي.
لا يعكس كلامُ جودت سعيد تاريخَ الأديان في مختلف محطاتها. لا ديانةَ في الأرض تخلو مراحلُ تاريخها من العنف، كما تمناه جودتُ سعيد، وأتمناه أنا ويتمناه كلُّ المولَعين بصناعة السلام في العالَم. لا يكفي الحكمُ على أية ديانة بما ورد في كتبها المقدَّسة ونصوصها فقط، بل لا بدَّ من اختبار قوة حضور قيَمِها الروحية والأخلاقية في الواقع، وتحقُّق تلك القيم في سلوك ومواقف مَن يعتنقها أفرادًا ومجتمعاتٍ، وقدرتها على توظيف الأخلاق الإنسانية في تعاملها مع المختلِف في الدين والمعتقَد داخل مجتمعاتها. لا يصحُّ الحكمُ على الدين بمعزلٍ عن أخلاقيةِ الإنسان الذي يعتنقه، ونوعِ ما يُنتِجه الدينُ من علاقاتٍ محكومة بقيمٍ إنسانية في الحرب والسلام. الدين يمكن استثمارُه في السلام والعيش المشترَك، كما يمكن استغلالُه أسوأ استغلال في العنف وسفك دماء الأبرياء، كما نراه في سلوك الجماعات العنيفة في الأديان.
اقتبس جودت سعيد بعضَ أفكاره في سلسلة «سنن النفس والمجتمع» من مالك بن نبي، وعرضها بلغته الخاصة العاجزة عن تركيب المفاهيم في منظومةٍ متسقةٍ منطقيًّا. أفكارُ جودت لم تنتظم نظريًّا خلافًا لأفكار بن نبي المصاغة في ضوء رؤيةٍ نظرية. لغة جودت عجزَت عن الارتقاء للغةِ بن نبي وسبكِه النظري للأفكار، وتميزِه بموهبة صياغة المفاهيم وتركيبها بما يشبه المعادلات الرياضية. تكوينُ مالك بن نبي وطريقةُ تفكيره أعمق بكثر من جودت، يرى القارئُ معادلاتِ المهندس الكهربائي الخبير بالرياضيات بوضوح في «مشكلات الحضارة»، وإن وقع فكرُ بن نبي أسيرًا لآماله وطموحاته الواسعة بسعة مواجع أهله وآلام وطنه؛ لذلك تستمع في كتاباته أصداءَ لوعة استعمار الجزائر وكفاح شعبها في حرب التحرير.