الفصل العاشر

الاحتفال

وأخذ أهل قرطبة يتأهبون لاستقبال رسل ملك القسطنطينية في البناء المعروف بالقصر الزاهر، أحد أبنية القصر الكبير؛ لأن هذا القصر كان مؤلفًا من عدة قصور كما تقدم، وهو يقع في الطرف الغربي من قرطبة، يطل على الوادي الكبير، وهو نهرها الذي يجري من الشرق الشمالي إلى الغرب الجنوبي، والقصر يشغل مساحة كبيرة تتخللها البساتين والحدائق، والأحواض، والبرك، والبحيرات، والقصور ونحوها، ويحيط بها جميعًا سور له بضعة أبواب: منها بابان في الجنوب يطلان على النهر، هما باب الجنان والسطح، وواحد في الشمال اسمه باب قورية، وآخر في الشرق هو باب الجامع، والأخير في الغرب ويقال له باب الوادي، والاثنان الأولان يشرفان على النهر، وبينه وبينهما رصيف عريض يفصل قرطبة عن النهر، يخرج إليه الوجهاء وأهل الدولة للتنزه بقرب الوادي الكبير (النهر).

وفوق النهر جسر فخم (كوبري) يصل بين قرطبة وأرباضها الجنوبية طوله ثمانمائة ذراع، وعرضه عشرون ذراعًا، وارتفاعه ستون ذراعًا، وعدد قناطره ثماني عشرة قنطرة، وفوقه أبراج عددها تسعة عشر برجًا، وهو يعد من مفاخر قرطبة، ولا يزال حتى الآن من آثارها الفخمة.

وكان منزل سعيد في الأرباض الجنوبية، ولا بد له في ذهابه إلى القصر من العبور على ذلك الجسر، فلما كان اليوم المحدد، لبس ملابس فاخرة، كي يسترعي انتباه أهل قرطبة، وبها شبه من ملابس العلماء والأطباء مع فخامة وإتقان، ولا سيما العمامة الكبيرة، مع أن أهل الأندلس قلَّما كانت لهم عناية بالعمائم، وغرس في عمامته قلم الكتابة وتمنطق فوق القفطان بمنطقة من جلد غرس فيها دواة من الفضة، واكتحل بالإثمد اكتحالًا كثيفًا، وركب بغلته وساقها يطلب باب الجنان من أبواب القصر، وسار خادمه في ركابه، وكان ركوب البغال في الأندلس من دلائل الجاه والثروة، فقطع سعيد مسافة وهو يطلب الجسر، فعرف قربه من في ذلك الوادي خمسة آلاف رحًى١ تطحن الحنطة وغيرها، وجميعها تدور بقوة اندفاع الماء.

وبعد قليل أشرف سعيد على الجسر، فرأى الأقدام قد تزاحمت فيه؛ لكثرة الوافدين على القصر، أو على الرصيف لمشاهدة الاحتفال بأولئك الرسل، ورأى ما على الجسر من الأبراج في الجانبين، وبين البرج والآخر ثمانون ذراعًا، وعليها الأعلام منصوبة تخفق مع الريح، فقطع الجسر بين الجماهير، والشمس لم تتكبد السماء بعد، فوصل إلى الرصيف وقد تجمهر فيه الناس رجالًا ونساءً وأطفالًا، بين راكبٍ وماشٍ، وواقفٍ على طول الرصيف وخاصة بقرب الجسر؛ لأن الرسل سيمرون عليهم أثناء انتقالهم إلى منزل ولي العهد في الربض بعدوة قرطبة إلى القصر الكبير، وقد تفرق الجند في الطرقات لمنع الزحام وخاصة على الجسر.

فظل سعيد سائقًا بغلته في محاذاة الرصيف إلى الجامع، فلم يجد الفقيه ابن عبد البر هناك، ولكنه وجد خادمًا صقلبيًّا واقفًا في انتظاره، فلما رأي سعيدًا قال له: «إن مولانا الفقيه سبقك إلى السطح المشرف فوق الباب خلف هذا الجامع، ويرجوك أن تذهب إلى هناك لتشرف من ذلك السطح على النهر والجسر، والرصيف والقصر جميعًا.»

فساق سعيد بغلته إلى ذلك الباب، وعليه سطح مشرف لا مثيل له في العالم،٢ فتحوَّل وترك البغلة للخادم وصعد إلى السطح من سلم بجانب الباب، فرأي الفقيه جالسًا في انتظاره، فوقف له ورحب به، وقال: «أظنني أتعبتك بالمجيء إلى هنا، ولكنني أعلم أنك تُسَرُّ بهذا المنظر الجميل.»

فوقف سعيد إلى جانبه وتلفَّت إلى ما يُشرف عليه، فإذا هو يرى النهر وفيه الزوارق من جهة الجنوب، وفوق الجسر، وعليه الأعلام تخفق فوق الأبراج، وقد تزاحم الناس واحتكت مناكبهم، وبينهم العربي، والصقلبي، والبربري، والمستعرب (وهو في اصطلاحهم الإسباني الذي يتكلم اللغة العربية) من الرجال، والنساء، والأطفال، يتخللهم الباعة بالأطباق على رءوسهم، وفيهم من يحمل طعامًا أو فاكهة أو ياميشًا، والسقاة يحملون جرار الماء على ظهورهم، ينادون: «يا عطشان، سبيل.» وبين هذه الجموع من الناس رجال الجند، تتشابه ملابسهم، وفيهم الصقالبة البيض والرحَّالة العبيد، وقد رُتِّبوا صفوفًا حسب رتبهم وأجناسهم، فوقف صف من العبيد يلبسون الجواشن والأقبية البيضاء، وعلى رءوسهم الخوذات الصقلبية، وفي أيديهم التراس الملونة على طول الجسر إلى باب الجنان من أبواب القصر، يتخللهم فرسان منهم.

١  المقريزي، الجزء الثاني.
٢  المقريزي، الجزء الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤