الفصل التاسع عشر

سعيد وعبد الله

وبينما هما في ذلك، إذ جاء الحاجب يقول: «إن سعيدًا الوراق بالباب يا سيدي.»

فالتفت الأمير عبد الله إلى الفقيه ابن عبد البر كأنه يستفسر منه عن سبب مجيئه، فقال الفقيه: «أظنه قد جاء بالكتاب الذي أخبرت مولانا عنه.»

فقطع الأمير عبد الله كلام الفقيه قائلًا: «كتاب «العقد الفريد»! مرحبًا بكل قادم علينا بمثل هذه التحف.»

فخرج الحاجب، ثم عاد ورفع الستارة عن الباب حتى دخل سعيد، وقد أبرقت عيناه وتجلَّت الهيبة على محيَّاه، فحيَّا ووقف، فدعاه الأمير عبد الله إلى الجلوس، فجلس على وسادة وهو لا يحمل شيئًا.

فقال الأمير عبد الله: «أنت سعيد الوراق؟ أظنني رأيتك قبل الآن! مرحبًا بك. أين كتاب «العقد الفريد»؟»

قال سعيد: «هو في الخارج يا سيدي. هل أدخل به عليك؟»

قال الأمير عبد الله: «كيف لا؟!»

فنهض سعيد الوراق وعاد والكتاب في يده ملفوفًا بملاءة من الحرير، فوضعه على وسادة بين يدي الأمير عبد الله، فأخذ يقلِّبه ويتأمل نظافة خطه وحسن تبويبه وضبط كتابته وسعيد صامت.

ثم قال الأمير عبد الله: «إنه خط جميل.»

فقال الفقيه: «ألم أقل لمولاي الأمير إنه خط فتاة؟»

فالتفت الأمير عبد الله إلى سعيد كأنه يستشهد به. فقال: «نعم يا سيدي، وقد رآها الفقيه بنفسه وسمع كلامها.»

فقطع الفقيه كلام سعيد الوراق وقال: «ألم أقل لك أن تأتي بها معك الليلة ليراها مولانا الأمير؟ أين هي؟»

قال سعيد: «قد أتيت بها، وهي في دار الجواري.»

قال الأمير عبد الله: «سنستقدمها بعد قليل. هل جاءتك كتب جديدة غير هذا؟»

قال سعيد: «سمعت عن كتاب لا يزال صاحبه يعمل في تأليفه، وهو أحسن كتب الأدب على الإجمال لأنه يغني عنها جميعًا.»

فتطاول الأمير عبد الله عند ذلك وقال: «أظنك تعني كتاب الأمالي للقالي؟»

وتناوله من جانبه، وقدَّمه إليه ليراه.

فأخذه سعيد وفتح أول صفحة منه، فوجد عليها علامة الحكم فقال: «هذا لمولاي ولي العهد. وقد علمت أن الإمام أبا إسماعيل القالي ألَّفه، وفي الحق أن مولانا الحكم يبذل الأموال في اقتناء الكتب ويرغِّب أهلها في التأليف.»

فأحس الأمير عبد الله بغيرة من هذا الإطراء وقال: «هل هذا هو الكتاب الذي أشرت إليه الآن؟»

قال سعيد: «كلا يا سيدي.»

قال الأمير عبد الله: «وأي كتاب تعني إذن؟»

فتظاهر سعيد بالتردد، وقال: «كتاب آخر أهمُّ من هذا، وربما زاد على خمسة أضعافه.»

قال الأمير عبد الله: «وما اسمه؟ أو ما اسم مؤلفه؟»

فنظر سعيد إلى الفقيه ابن عبد البر، كأنه يوسِّطه في أن يعفيه الأمير عبد الله من ذكر اسم الكتاب، ولم يكن الفقيه يعلم بشيء من ذلك، فظهرت الدهشة على وجهه، فسئم الأمير عبد الله الانتظار، فقال: «ما بالك يا صاحب؟ لعلك ندمت على ما صرحت به؟!»

فأظهر سعيد التلطف والاستعطاف، وقال: «نعم، ندمت، وكان ينبغي لي أن أحفظ ما اؤتمنت عليه سرًّا، ولكن سبقني لساني.»

فازداد الأمير رغبة في معرفة ذلك السر، وقد ظهر التغير في عينيه، فسبقه الفقيه إلى الكلام قائلًا: «تحفظ ذلك السر عن مولانا الأمير عبد الله؟! وممن تخشى إفشاءه؟!»

قال سعيد الوراق: «أخشى ممن لا يفضله في الحكم غير أمير المؤمنين!»

ففهم الأمير عبد الله أنه يعني أخاه ولي العهد، فقال: «إذا كان الأمر يتعلق بأخينا الحكم، فماذا عليك إذا قلته من باب العلم بالشيء؟»

قال سعيد: «هل يسمح لي مولاي الأمير أن أقول كلمة؟»

قال الأمير عبد الله: «تفضل، قل.»

قال سعيد: «إن الكتاب من كتب الأدب، ويليق بالأمير عبد الله أكثر مما يليق بأخيه ولي العهد؛ لعلمي بميل كل منهما إلى أي نوع من الكتب.»

فاستبشر الفقيه أنه سيذكر ميله إلى كتب الفلسفة، فلما رآه سكت أتم كلامه فقال من تلقاء نفسه: «أظنك تعني أن الحكم يميل إلى اقتناء كتب الفلسفة؟»

فعضَّ سعيد على شفته السفلى، وأظهر أنه استاء من تصريح الفقيه، وتصدى للدفاع عن الحكم فقال: «من قال ذلك؟! ربما اقتنى ولي العهد بعض كتب الفلسفة، لكنه أكثر رغبة في كتب الأدب، والشعر، واللغة. أليس هو الذي حمل القالي على جمع هذا الكتاب وهو من كتب اللغة، وهذه مكتبته وفيها ألوف من هذه الكتب. دعنا من هذا الآن.»

فقال الأمير عبد الله: «لم أعد أستطيع الصبر على كتمان اسم ذلك الكتاب واسم مؤلفه بعد ما تقدم. قل من هو؟» قال ذلك بلهجة الآمر.

فأظهر سعيد أنه يقول ذلك إذعانًا لأمره، وقال: «إن الكتاب يا سيدي في الغناء واسمه الأغاني.»

فقطع الأمير عبد الله كلامه قائلًا: «الأغاني، للموصلي؟»

قال سعيد: «كلا يا سيدي. إن مؤلفه أبو الفرج الأصفهاني، الأديب المشهور، وهو من بني أمية. إن الكتاب لم يخرج بعدُ للناس، ولكنني سمعت عنه شيئًا كثيرًا واطلعت على صفحات منه في بغداد، ولكن لا فائدة لنا من الحديث عنه؛ فقد علمت أن مولانا ولي العهد بعث بمن يشتري الكتاب من مؤلفه، وأوصاه أن يبذل له ما شاء من الدنانير.»

فالتفت الفقيه إلى سعيد وقال: «فإذا أراد مولانا الأمير عبد الله اقتناءه فمن الذي يمنعه؟!»

قال سعيد: «لا أدري، ولكني أعلم أن ولي العهد بعث بمن يشتريه، ثم إني عرفت ذلك سرًّا، وإنما أفضيت به هنا مصادفة وإذعانًا لأمر الأمير.»

فتنحنح الأمير عبد الله ليُخفي ما اضطرم في نفسه من الغيرة على تقدُّم أخيه عليه حتى في الأمور الأدبية، كاقتناء الكتب ونحوها، وأخذ يقلِّب صفحات كتاب «العقد الفريد» بين يديه. فابتدره سعيد، وهو يتظاهر بأن الكتاب يثير دهشته قائلًا: «هل رأيت أجمل من هذا الخط يا سيدي؟» واستأذنه في تناول الكتاب ففتح الفصل الأول منه، وهو يبحث فيما يصحب السلطان فوضع يده على فقرة من ذلك الفصل وقال: «أظن أن مولاي فطن لهذه القاعدة من الخط، إنها خط أبي علي بن مقلة الكاتب المشهور في بغداد، وقد توفي من بضع سنين (٣٢٨ﻫ).»

فصاح الأمير عبد الله: «ابن مقلة؟ هذا خطه؟ بيده؟» قال سعيد: «كلا يا مولاي، ولكن الجارية التي نسخته من مولَّدات بغداد، وقد تعلمت الخط عن ابن مقلة نفسه.»

فجعل الأمير عبد الله يتفرس في الخط، وسعيد يوجه نظره إلى فقرة أخرى من ذلك الفصل، وفيها حكاية مجيء عمر بن الخطاب إلى الشام، وأخذ يُظهر أنه يقرأ هذه القطعة إعجابًا بخطها، فقرأ منها: «إن عمر بن الخطاب لما أتى إلى الشام، قدِم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر حتى أُخبر فرجع إليه، فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جانبه راجلًا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «أتعبت الرجل!» فأقبل عليه عمر فقال: «يا معاوية، أنت صاحب الموكب آنفًا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين.» قال: «ولمَ ذاك؟» قال: «لأننا في بلد لا نمتنع فيه من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يُرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه وإن نهيتني عنه انتهيت.» فقال: «لئن كان الذي تقول حقًّا، فإنه رأي أريب، وإن كان باطلًا فإنها خدعة أديب.»١

ثم قرأ بعده ببضعة عشر سطرًا، حكاية مجيء أبي موسى الأشعري على عمر بن الخطاب، وفيها من المبالغة بالزهد والرغبة عن الملذات ما فيها، فقرأ منها قول عمر: «يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ثم أمر أبا موسى أن يقرَّني وأن تستبدل بأصحابي.»

وكان سعيد يقرأ ذلك ويوقع النبرات في أماكنها، بحيث يتضح المعنى المراد، وكان الأمير عبد الله يسمع ويعتبر؛ لقرب عهده بكلام الفقيه عن بذخ أبيه. ولاحظ الفقيه ذلك فقال: «لله درُّ عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين؛ فقد كان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس الغليظ، وفي قدميه نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعية، وإذا خاطب أدنى الرعية أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدُّون هذا من الدين الذي بُعث به النبي ،٢ أين هم وأين الخلفاء بعدهم!»

فقال سعيد: «لقد صدق الفقيه، وإن الجديرين بالخلافة قليلون، وقد تغيَّر الناس وتغيرت أحوالهم بعد الخلفاء الراشدين، فانغمسوا في الأبهة والترف، ولم يفعل ذلك أحد منهم إلا دل على قرب ضياع دولته؛ كما أصاب العباسيين في بغداد في أواخر دولتهم، وأخشى أن يتفشَّى ذلك في هذه الدولة، والحق يقال لا أرى بين أبناء أمير المؤمنين أقرب في أخلاقه وتديُّنه من الخلفاء الراشدين غير مولانا الأمير عبد الله؛ فهو التقي الزاهد. لا أقول ذلك للفتنة — وقانا الله منها — فإن الأمر قد استتب الآن لمولانا الحكم، ولكنني أقول ما يخطر لي.»

فنظر الفقيه إلى الأمير عبد الله من طرف خفي، وأشار بعينيه كأنه يستشهد بما قاله سعيد على صحة قوله.

١  العقد الفريد، الجزء الأول.
٢  الفخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤