الفصل العشرون

عبد الله وعابدة

وخشي سعيد أن يقول الفقيه ابن عبد البر شيئًا يُغضب الأمير عبد الله؛ لأنه كان لحدَّة ذهنه يكاد يستطلع ما يدور في ذهن من يخاطبه، فأراد أن يغير الحديث فقال: «ما لنا ولهذا الآن؟ هل يأذن الأمير عبد الله بانصرافي؟»

فأظهر الأمير عبد الله الدهشة، وقال: «تنصرف؟! إلى أين؟ أين هي الفتاة التي ذكرتها؟ هل هي جاريتك؟»

قال سعيد: «هي جارية لي، ولكنها جارية أدب وشعر ومنادمة، وليست لشيء غير ذلك، فإنها تثقفت وحفظت الشعر وأتقنت الخط والغناء والعزف على العود. هل يأمر مولانا بإحضارها في هذه الساعة؟»

فصفق الأمير عبد الله فأتى ساهر الحاجب، فأمره أن يحضر الفتاة، فخرج وعاد بها، فدخلت وانصرف الحاجب، وكانت عابدة قد هيأت نفسها لملاقاة ابن الخليفة عبد الرحمن الناصر كما أوصاها سعيد، فلبست ثوبًا جميلًا، وأصلحت شعرها، ونظفت أسنانها، وبدت رائعة الجمال فضلًا عما كان يبدو عليها من الهيبة والذكاء.

فلما وقع نظر الأمير عبد الله عليها شعر بميل إليها، واستلطفها وأشار إليها أن تجلس. فجلست متأدبة، وقد أطرقت حياءً، فابتدرها الأمير عبد الله قائلًا: «ما اسمك يا حسناء؟»

قالت عابدة: «اسمي عابدة يا سيدي.»

فأعجبته رخامة صوتها، فقال: «قد أنبأنا سعيد أنك تحفظين الشعر وأخبار العرب، فأي شعر تحفظين؟»

قالت عابدة: «أحفظ ما شئت يا سيدي، من شعر الجاهليين، أو الإسلاميين، أو المحدثين. كما تشاء.»

قال الأمير عبد الله: «هل اطلعت على جمهرة أشعار العرب لأبي زيد؟»

قالت عابدة: «نعم، وحفظت نوادره، وديوان الحماسة للبحتري، وطبقات الشعراء لابن قتيبة، وقرأت أكثر دواوين المحدثين، وكثيرًا من كتب الأدب، وآخرها كتاب «العقد الفريد» هذا. إنه كتاب جميل.»

figure
فصفق الأمير عبد الله فأتي ساهر الحاجب، فأمره أن يُحضر الفتاة، فخرج وعاد بها، فدخلت، وانصرف الحاجب، وكانت قد هيأت نفسها لملاقاته.

قال الأمير عبد الله: «لقد زدته جمالًا بخطك الأنيق.» قال ذلك وتناول كتاب «الأمالي» بيده، ولم يكد يفتحه حتى قالت: «أليس هذا كتاب «الأمالي» للقالي؟»

فاستغرب الأمير عبد الله معرفتها إياه، وهو يحسب أن الكتاب لم يره أحد سواه بعد أخيه الحكم، فقال لها: «وهل قرأتِه؟»

قالت عابدة: «تصفحته على عجل فحفظت منه شيئًا علق بذهني، أتلو عليك منه إذا شئت ما يتعلق بأخبار أجدادكم بني أمية في الشام.»

فأبرقت أساريره إعجابًا وسرورًا، وقال لها: «اقرئي علينا ما يخطر لك.»

قالت عابدة: «هل أقص عليك حديث عبد الملك بن مروان لما خرج لقتال مصعب بن الزبير؟ إن عبد الملك كان رجلًا شديدًا استخلص الخلافة لنفسه، وكان طلابها كثيرين. حاربهم واستقل بها. يعجبني من حماسته وعلو همته خروجه لمحاربة مصعب من الشام إلى العراق، وقد أرادت أم يزيد ابنه (امرأته) منعه عن المسير فقالت: «يا أمير المؤمنين لو أقمت وبعثت إليه لكان الرأي.» فقال لها: «ما إلى ذلك سبيل.» فلم تزل تمشي معه وتكلمه حتى اقترب من الباب، فلما يئست منه رجعت، فبكت وبكى الخدم معها، فلما علا الصوت رجع إليها عبد الملك فقال: «وأنت أيضًا ممن يبكي؟ قاتل الله كثيرًا كأنه يرى يومنا هذا حيث يقول:

إذا ما أرادَ الغزو لم تثنِ همَّه
حَصانٌ عليها نظمُ دُرٍّ يزينها
نهته فلما لم ترَ النَّهيَ عاقه
بكت فبكى مما شجاها قطينها»

ثم عزم عليها بالسكوت وخرج. إن عبد الملك أيها الأمير رجل طالبُ مَعالٍ؛ ألم تره لم ينفكَّ عن الخلافة حتى نالها، فقال فيه كثير:

أحاطت يداه بالخلافة بعدما
أراد رجال آخرون اغتيالها»

وكان الأمير عبد الله في أثناء كلامها ينظر إلى ما يبدو على وجهها من ملامح الإعجاب بعلو همة عبد اللك، وتقع كلماتها في أذنيه وقوع النغم الشجيِّ على قلب الصبِّ المتيَّم، وأحس بشيء استفزه للحماس، فقال: «لقد أحسنت يا عابدة، وهل تحفظين شعرًا لغير بني أمية؟»

قالت عابدة: «ويعجبني من الشعر يا مولاي ما يستحثُّ المروءة، ويهيج الأريحية، كقول زهير بن أبي سلمى في معلقته:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يُهَدَّم ومن لا يَظلِم الناسَ يُظلَمِ
ومن يجعل المعروفَ من دونِ عرضه
يَفِرْهُ ومن لا يتَّقِ الشتمَ يُشتمِ
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمدُه ذمًّا عليه ويندمِ
ومن لا يزل يستحمل الناسَ نفسه
ولا يُعفها يومًا من الدهر يُسأمِ
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ»

فلما بلغت إلى هنا صاح الفقيه ابن عبد البر: «لله درُّ هذا الجاهلي ما أبلغه! إن كلامه يحرك الهمم.» أراد بذلك استنهاض همة الأمير عبد الله. أما عبد الله فأخذه الطرب من حسن إلقاء عابدة وتجاهل أمر الحماس، وكان كتاب «الأمالي» في يده، فقلبه حتى أتى على أبيات أشار بأصبعه عليها وقال: «إن أحسن مما ذكرت قول علي بن عباس هذا:

وحديثها السحر الحلال لو انَّه
لم يجنِ قتلَ المسلم المتحرِّزِ
إن طال لم يُمْلَلْ وإنْ هي أوجزت
ودَّ المحدَّث أنها لم توجزِ
شرَكُ العقول ونهزةٌ ما مثلها
للمطمئنِّ وعقلةُ المستوفزِ»

فالتفت سعيد إلى عابدة وقال: «قلِّلي يا عابدة من الحماس.»

فقال الأمير عبد الله: «أظنك تخشى عليَّ الخروج يا سعيد! والله لا مطمع لي في شيء من ذلك، والفقيه يعلم رأيي.»

فقال سعيد: «إذا لم يكن هناك باعث، فالخروج مظنة سوء.»

فقالت عابدة: «ويعجبني قول عمرو بن كلثوم من معلقته:

إذا ما المُلكُ سامَ الناسَ خسفًا
أبَيْنَا أن نُقِرَّ الخسفَ فينا
ألا لا يَجهلنْ أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا»

فطرب الفقيه ابن عبد البر لهذا المعنى واستخفَّه السرور حتى ضحك، وهو ينظر إلى الأمير عبد الله، فقال عبد الله وهو يقلد إنشاد عابدة: «فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا.»

قال ذلك وقد ظهر الجد في عينيه، فرأى سعيد الوقوف عند هذا الحد فقال: «هل يأمر مولاي الأمير عبد الله أن تغنِّي عابدة له شيئًا؟»

فقال الأمير عبد الله: «وهل تُحسن عابدةُ الغناءَ؟ وعلى من تعلمت؟»

قالت عابدة: «تعلمت على مغنِّي بغداد خلائف الموصلي وحفظت أغانيه.»

قال الأمير عبد الله: «أسمعينا ما تعرفينه.»

قالت عابدة: «هل أغني غناء إبراهيم بن المهدي الذي شغله الغناء عن طلب الخلافة فقضى عمره كأنه من العامة؟ إنه كان طروبًا وله غناء حسن.»

فقال الفقيه: «غنِّي يا عابدة. إنه غناء ابن خليفة يسمعه ابن خليفة، ولكن شتَّان بينهما.» فأخذت عابدة تغني:

هل تطمسون من السماء نجومها
بأكفِّكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالةً من ربكم
جبريل بلَّغها النبيَّ فقالها

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤